الكتاب: جامع المسائل لابن تيمية - عزير شمس المؤلف: تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) تحقيق: محمد عزير شمس إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع الطبعة: الأولى، 1422 هـ   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- جامع المسائل لابن تيمية - عزير شمس ابن تيمية الكتاب: جامع المسائل لابن تيمية - عزير شمس المؤلف: تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) تحقيق: محمد عزير شمس إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع الطبعة: الأولى، 1422 هـ   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[جامع المسائل لابن تيمية - عزير شمس]ـ المؤلف: تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) تحقيق: محمد عزير شمس إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع الطبعة: الأولى، 1422 هـ [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذه مجموعة من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وفتاواه ومسائله التي لم تنشر من قبل، استخرجتها من مجاميع مخطوطة في مكتبات عديدة، بعد العكوف عليها طويلاً ومراجعة الرسائل الموجودة فيها والتمييز بين ما طبع منها وما لم يطبع. وقد كان يُظَن إلى عهد قريب أن أكثر آثار شيخ الإسلام الموجودة في المكتبات طبعت ونشرت ضمن مجاميع ومؤلفات مستقلة، وإذا بي أقف على عددٍ من كتبه الكبيرة ورسائله الصغيرة لم يُنشَر حتى الآن، وخاصةً تلك التي وصلت إلينا بخطه المعروف الذي يصعب قراءته حتى على المتخصصين في قراءة الخطوط القديمة. فأحببتُ أن أسهم في نشر ما وقفتُ عليه منها. وهذه المجموعة الأولى من سلسلةٍ تضم رسائل وفتاوى وقواعد مختلفة سميتُها "جامع المسائل". وقد سبق أن نُشِر عدد كبير من مؤلفات شيخ الإسلام ورسائله في كتب مستقلة وضمن مجاميع، وفي الآونة الأخيرة زاد الاهتمام بنشر مؤلفاته، وتسابق الناشرون والمحققون إلى طبعها أكثر من مرة، واستلّ كثير منهم بعض الكتب والرسائل من "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) ، ونشروها بدون الرجوع إلى المخطوطات القديمة التي وصلت إلينا بخط المؤلف أو أحد تلاميذه. وذلك لعدم وجود فهرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وافٍ بجميع مؤلفات شيخ الإسلام، ونسخها الخطية وأماكن وجودها، وطبعاتها المختلفة التي ظهرت حتى الآن، وما صدر حولها من دراسات، على نحو مؤلفات الغزالي وابن سينا وابن رشد وغيرهم. وقد صنع بعض الباحثين قوائم لمؤلفات شيخ الإسلام في مقدمات كتبه المنشورة أو في دراسات مفردة، ولكنها ليست وافيةً بالمقصود، وفيها من الأوهام والخلط والتكرار ما يحتاج بيانه إلى دراسة مستقلة. وقلَّما انتبه أصحابها إلى أنَ ما ذُكر في المصادر القديمة بعنوان ..... توجد نسخه الخطية في مكتبات العالم بعنوان/عناوين ..... ونُشِر بعنوان/عناوين ..... في رسالة مفردة أو ضمن مجاميعِ. وأذكر هنا مثالا واحدا، فالرسالة "البعلبكية" (التي ذكرها ابن رُشيِّق وابن عبد الهادي) توجد منها عدة نسخ خطية أقدمُها بعنوان "رسالة في العقائد" (قُرِئَتْ على المؤلف سنة 718، وعليها إجازته بخطه) . وهناك نسخ أخرى بعناوين مختلفة. وقد طبعت ضمن "مجموعة الرسائل" (ط. القاهرة 1328) بعنوان "الرسالة البعلبكية"، وفي "مجموعة الرسائل المنيرية" (2/50-83) بعنوان "قاعدة نافعة في صفة الكلام"، وفي "مجموعة الرسائل والمسائل" (3/89-112) بلا عنوان، وفي "مجموع الفتاوى" طبعة الرياض (12/117-161) كذلك غُفْلاً من العنوان. فالذي يتصدّى لذكر المؤلفات يذكر هذه الرسالة بعناوين مختلفة، ويظنها كتبًا مستقلةً، ثم لا يعرف أنها المنشورة ضمن "مجموع الفتاوى". هذا ما دَفَعني منذ مدة إلى البحث والتنقيب عن مؤلفات شيخ الإسلام في مجاميع غير معروفة، وفي مكتباتٍ لم تنشر فهارسها حتى الآن أو نُشِرتْ حديثاً. ولدفي النية أن أتجه إلى حَصْر جميع المخطوطات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 والمطبوعات وما نُشِر حولها من دراسات، في كتاب يضمّ بين دفَّتَيه - إن شاء الله - عناوينَ جميع مؤلفات شيخ الإسلام، وما وَصَل إلينا منها مخطوطًا ومطبوعًا، وما تُرجم منها إلى لغات أخرى، وما عُمِل حولها من شروح أو اختصارات أَو دراسات. أدعو الله أن يعينني على إكمال هذا المشروع، وأن يوفقني لنشر مالم ينشر من تراث الشيخ وإكمال ما نشر ناقصًا ومشوَّهًا، ويجعل هذا العمل نافعًا للعلماء والباحثين وعامة المسلمين. • هذه المجموعة تحوي هذه المجموعة خمسًا وعشرين رسالة وفتوى ومسألةً، يوجد أكثرها ضمن مجاميع خطية في مكتبة جامعة برنستون، وقد آلت إليها من مكتبة الشطّي (1) بدمشق التي كانت فيها نوادر المخطوطات ونفائس كتب الفقه والحديث، وخاصةَ للمؤلفين الحنابلة. كانت محتويات هذه المكتبة مفقودة منذ أكثر من قرن، حتى أصدرت جامعة برنستون عام 1397/1977 م فهرسًا للمخطوطات العربية المحفوظة في قسم يهودا من مجموعة جاريت بمكتبة الجامعة، من إعداد رودلف ماخ، فظهر للباحثين أنها انتقلت إلى برنستون، ولا زالت محفوظةً هناك. وسيلاحظ القارىء أن ست رسائل من هذه المجموعة (بأرقام 18-23) تتناول موضوع الطلاق السني والبدعي وجمع الطلاق الثلاث   (1) هو الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن الشطّي، إمام الحنابلة في الجامع الأموي، توفي سنة 1295. كان قد اجتمع عنده من الكتب النفيسة مالم يجتمع عند غيره، فأوقف البعض منها، وبيع غالبها في تركته. انظر "روض البشر" لمحمد جميل الشطي (ص146) و"حلية البشر" للبيطار (2/848-850) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وحكمه، وعندما يعرف أن ما نُشِر لشيخ الإسلام في هذا الباب شيءٌ قليلٌ (1) ، يُدرك أهمية هذه المجموعة الجديدة من الرسائل والفتاوى، التي كانت عمدةً لتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية (2) وغيره ممن تكلم في هذا الموضوع. وتفيدنا هذه الرسائل في توضيح اختيارات شيخ الإسلام (3) في موضوع الطلاق، التي خالف فيها مذاهب الأئمة الأربعة والمشهور من أقوالهم، وقد نُسِب الشيخُ فيها إلى مخالفة الإجماع، لندور القائل بها وخفائه على كثير من الناس، ولحكاية الإجماع على خلافها، وجرى له بسبب الإفتاء بها مِحَنٌ وقلاقل في حياته. ومن اختياراته المشهورة في هذا الباب: قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق، وإن الطلاق الثلاث جملةً لا يقع إلا واحدة، وإن الطلاق المحرَّم لا يقع، وله في ذلك مصنّفات ومؤلفات كثيرة ذكر المترجمون له عناوين بعضها، وهي:   (1) ضمن "مجموعة الفتاوى الكبرى" (3/2-79) و"مجموع الفتاوى" (المجلد الثالث والثلاثين) . (2) في "إغاثة اللهفان" (1/283-338) و"إعلام الموقعين" (3/41-62،287- 288) و"زاد المعاد" (5/220-248) و"الطرق الحكمية" (ص 16-17) . (3) انظر لهذه الاختيارات: "العقود الدرية" 322- 325 (وعنه بدون ذكر المصدر في "مجموعة الفتاوى الكبرى" 3/79-80) ؛ و"رسالة في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية" لبرهان الدين إبراهيم بن محمد ابن قيم الجوزية" و"اختيارات شيخ الاسلام" لابن عبد الهادي (مخطوطة) ؛ و"اختيارات ابن تيمية" لصلاح الدين العلائي (مخطوطة) ؛ و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/404-405) ، و"شذرات الذهب" لابن العماد 6/84- 85 "وعنه في "جلاء العينين" 284- 285) ، و"مجموع المنقور" 1/49-50؛ ونظم اختيارات شيخ الإسلام لسليمان بن سحمان، ضمن "ملتقى الأنهار من منتقى الأشعار" ص134-148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 1- "تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان" (قاعدة كبيرة نحو أربعين كراسة) . 2- "الفرق المبين بين الطلاق واليمين" (قاعدة بقدر النصف من ذلك) . 3- "قاعدة في أن جميع أيمان المسلمين مكفرة" (مجلد لطيف) . 4- "قاعدة في تقرير أن الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة". 5- قاعدة سماها "التفصيل بين التكفير والتحليل". 6- الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق (ثلاث مجلدات) . 7- "لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف". 8- "الاجتماع والافتراق في الحلف بالطلاق". 9- "قاعدة في أن المطلقة بثلاثة لا تحل إلاّ بنكاح زوج ثان". 10- "بيان الحلال والحرام في الطلاق" (= "البغدادية") . 11- "جواب من حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة ثم طلَّق ثلاثًا في الحيض". 12- "الطلاق البدعي لا يقع". 13- "مسائل الفرق بين الطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك". 14- "الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثًا". وغير ذلك من القواعد والأجوبة التي لا تنحصر ولا تنضبط. وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بيَّض أصحاب الشيخ كثيرًا منها، وكثيرٌ منها لم يُبَيَّض، ومجموع ذلك نحو العشرين مجلَّدّا (1) . وقد ضاع - مع الأسف - أكثر هذه الكتب والرسائل، ولم يصل إلينا منها إلاّ شيء قليل كما سبقت الإشارة إليه، ومنها هذه الرسائل التي تُنشر هنا لأول مرة. وإلى جانب هذه الرسائل الخاصة بالطلاق هناك رسائل أخرى مهمة في هذه المجموعة، منها رسالتان (برقمي 7،8) في التفسير، ورسالتان (برقمي 9،10) في شرح الحديث، وفتوى في العشق (برقم 12) ، وقاعدة في أفعال الحج (برقم 15) ، وفصل في معنى الحيّ القيوم (برقم 1) ، وفتوى في الغوث والأقطاب والأبدال (برقم 3) ، وقاعدة في الصبر (2) (برقم 14) ، وقاعدة في إثبات علو الله على خلقه (برقم 2) وغيرها. ولم يرد ذكر أكثر هذه الرسائل في مصادر ترجمة الشيخ، ولا غرابة في ذلك، فلم يدَّع أحد من المترجمين له أنه استقصى جميع مؤلفاته ورسائله. وقد ذكَر ابن عبد الهادي (3) أن "له من الكلام على مسائل العلو والاستواء والصفات الخبرية وما يتعلق بذلك من الرد على الجهمية والقدرية والجبرية وغيرهم من أهل الأهواء والبدع ما يشتمل على مجلدات كثيرة. وله من الكلام على فروع الفقه والأجوبة المتعلقة بذلك شيء كثير يشقّ إحصاؤه ويعسر ضبطه". وقال بعدما ذكر عددًا كبيرًا من مؤلفاته (4) : "وله من الأجوبة   (1) "العقود الدرية": 38. وفي "الوافي بالوفيات" (7/29) أنها تُقدَّر بخمسة عشر مجلدًا. (2) هي رسالة صغيرة، ويبدو أنها غير "قاعدة في الصبر والشكر" التي ذكرها ابن رشيق في رسالته (ص 236) ، ووصفها بأنها نحو ستين ورقة. (3) "العقود الدرية": 51. (4) المصدر نفسه: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 والقواعد شيء كثير غير ما تقدم ذكره، يشق ضبطه وإحصاؤه، ويعسر حصره واستقصاؤه". ونقل عن الشيخ أبي عبد الله [ابن رشيق] : "لو أراد الشيخ تقي الدين - رحمه الله - أو غيرُه حَصْرَها لما قدروا". وقال ابن رجب (1) : "وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى فلا يمكن الإحاطة بها لكثرتها وانتشارها". وعلى هذا فيجب التأكد من صحة نسبة أي كتاب أو رسالة أو فتوى إلى شيخ الإسلام بالوجوه الآتية: (أ) أن تكون هذه الرسالة بخط الشيخ نفسه، وحينئذٍ نثبتها له سواء ذكرها المترجمون له أو لم يذكروها، ومن أمثلة القسم الثاني: "الرد على نهاية العقول للرازي" الذي وصل إلينا بخطه، ولم أجد أحدًا ذكره قديمًا وحديثاً. (ب) أن تكون الرسالة منقولةً من أصل الشيخ ومنسوخة بخط تلاميذه وغيرهم، مثل ابن المحبّ وابن رشيّق وآخرين. وأكثر رسائل هذه المجموعة من جامعة برنستون ينطبق عليها هذا الوصف، فلا يُشَك في صحة نسبتها إلى المؤلف. (جـ) أن تكون الرسالة بخطّ متأخر، وبعد دراستها يظهر أنها له، كأن يشير فيها إلى كتبه الأخرى، أو يكون موضوعها مما كتب فيه الشيخ كثيرًا، وتكون الآراء الموجودة فيها متطابقةً مع ما في كتبه المعروفة، وأسلوبه فيها هو أسلوبه المعروف في سائر كتبه.   (1) "ذيل طبقات الحنابلة": (2/404) . وانظر نصوصًا أخرى للمترجمين له في "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية": 220، 418، 419، 446، 486، 519،558،614. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 (د) أن يقتبس منها المؤلفون، أو يدرجوها بتمامها وينسبوها إلى الشيخ. ومن الأمثلة المعروفة لها تلك الرسائل والنصوص التي وصلت إلينا ضمن "الكواكب الدراري" لابن عروة الحنبلي، و"العقود الدرية" لابن عبد الهادي، ومؤلفات ابن القيم وابن مفلح وغيرهما. ولم أدخل في هذه المجموعة شيئا إلاّ بعد التأكد من صحة نسبته إلى الشيخ، وفيما يلي وصف النسخ الخطية لكل رسالة حسب ورودها في الكتاب. • وصف النسخ الخطية ذكرتُ فيما سبق أن أكثر رسائل هذه المجموعة من مكتبة جامعة برنستون، وقد أضفت إليها خمس رسائل عثرتُ عليها في مكتبات مختلفة. ووجدتُ لثلاث منها نسخًا أخرى، فاستفدت منها في التصحيح والمقابلة. وراعيتُ عند ترتيبها الموضوعات التي تتناولها، فقدَّمتُ ما يتعلق منها بالعقيدة ثم التفسير ثم الحديث ثم الفقه. وفيما يلي وصف الأصول المعتمدة لكل رسالة: (1) "فصل في معنى اسمه الحي القيوم": توجد نسخة فريدة منه في مكتبة المسجد الأقصى بالقدس، ضمن مجموعة برقم [2] (الورقة 1-12) ، جاء في آخرها: "كان الفراغ من المسألة العظيمة الجليلة القدر يوم السبت سابع وعشرين من شوال سنة 765، محمد ابن أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام ابن نصر، عفا الله عنهم ولطف بهم وبسائر المسلمين". ويبدو لي أن هذه الخاتمة كانت في الأصل المنسوخ عنه، فنقلها ناسخ هذه النسخة الحديثة الخط، التي كتبت بخط الرقعة في أوائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 القرن الرابع عشر تقديرًا. وناسخ الأصل من آل قدامة المعروفين بالعلم والفضل من الحنابلة، له ترجمة قصيرة في "الدرر الكامنة" (3/345) و"إنباء الغمر" (1/127) ، وفي الثاني أنه توفي سنة 776. وفي رأس الصفحة الأولى من النسخة: "فائدة في اسم القيوم سبحانه وتعالى لا إله إلاّ هو، تأليف شيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه. وهي من خطّه الجديد الدمشقي". وهذا يفيد أن الرسالة من مؤلفات الفترة الأخيرة من حياته التي استقر فيها بدمشق وتفرغ للتأليف والكتابة. وقد قدَّم ناسخ الأصل للرسالة بنقول من كتاب "مدارج السالكين" لابن القيم، منها قوله نقلاً عن شيخ الإسلام: "من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: يا حي يا قيوم لا إله إلاّ أنت برحمتك أستغيث، حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه". ثم قال الناسخ: "سمعتُ الشيخ الإمام العالم فريد عصره ووحيد دهره لسان العرب وحجة الأدب وترجمان القرآن وشيخ الإسلام الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن بن عبد الله بن شيخ الإسلام أبي عمر محمد - فسح الله في مدته ومتَّعنا به - يقول: لو اجتمع القاضي أبو يعلى وابن عقيل في شهبر لم يعملوا مثلها، وعملها الشيخ رضي الله عنه على البديه". وشرف الدين أحمد هذا مترجم في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/453) و"الدرر الكامنة" (1/120) . وهو من تلاميذ شيخ الإسلام، قرأ عليه مصنفاتٍ في علوم شتى، وأجازه الشيخ بالإفتاء. وكانت وفاته في رجب سنة 771. ولشيخ الإسلام رسالة أخرى في هذا الموضوع نشرت بعنوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 "فصل في اسمه تعالى القيوم" (1) ، وفيها مباحث أخرى تتعلق بهذا الاسم ينبغي مراجعتها. (2) "قاعدة جليلة في إثبات علو الله تعالى على خلقه": توجد نسختها ضمن مجموع في مكتبة تشسشر بيتي برقم [3537] (الورقة 86 أ-ب) ، وهذا المجموع بخط نسخي جميل، ويحتوي على رسائل ومسائل عديدة لشيخ الإسلام، وفي آخرها: "نجزت المسائل بحمد الله تعالى وحسن توفيقه على يد أضعف خلقه الراجي عفو ربّه علي بن حسن بن محمد الحرَّاني في ثاني عشر من ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة، غفر له ولوالديه ولمالكها ولمن قرأ فيها وجميع المسلمين". وقد اطلع الشيخ محبّ الدين الخطيب على هذه النسخة في بداية نشأته العلمية سنة 1318 لما كان في الخامسة عشرة من عمره، فنقل منها مسائل، ولا زالت نسخته محفوظة في مكتبة المسجد الأقصى برقم [1] (ق 14-29) بعنوان "مجموعة مسائل دينية متعددة". ويستنبط منه أن الأصل كان في دمشق في أوائل القرن الرابع عشر، ثم انتقل إلى إيرلندا، واستقر في مكتبتها. (3) "فتوى فيمن يدعي أنَّ ثمَّ غوثًا وأقطابًا وأبدالاً": هذه الفتوى غير الفتوى التي وصلت إلينا بخطه، والتي سندرجها في المجموعة الثانية من "جامع المسائل"، وفي كل منهما فوائد ومباحث لا توجد في الأخرى.   (1) ضمن "تفسير آيات أشكلت" (1/421-443) ، وليست منه، وقد كانت ملحقة به في بعض النسخ مثل غيرها من الرسائل، فظنَّ المحقق جميعها من الكتاب المذكور، ونشرها معه!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 توجد نسخته الخطية في مكتبة جامعة برنستون برقم [5542] (الورقة 1ب-7ب) ، وهي مكتوبة بخط نسخي جميل، وليس عليها تاريخ النسخ، وهي من القرن العاشر تقديرًا. وقد ورد في صفحة عنوانها: "سؤال رفع لشيخ الإسلام والحبر الهمام والعلامة الإمام، فريد العصر والأوان، وحيد الدهر والزمان، علاّمة المسلمين فهّامة المحققين الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله بمنه". وفي الركن الأيسر منها من فوق: "من كتب الفقير الغريب أحمد نجيب 1288". وتحته: "ما زالت تسوقه أقدار اللطيف إلى دخوله سلك مِلكِ العبد الضعيف صاحب هذا الرقيم، ابن أبي بكر الصالحي إبراهيم ثم الحنبلي". ثم ختم الشخص المذكور. ولم أجد ترجمة الرجلين فيما بين يديّ من المصادر. (4) "فصل في أولياء الله وأولياء الشيطان": يوجد أصله بدون عنوان مع المجموعة السابقة (الورقة 8أ-10ب) وبخطها، وفي آخره: "تمت الرسالة بحمد الله وعونه لشيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين ..... ". (5) "مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال": توجد منها نسختان، الأولى في مكتبة جامعة برنستون برقم [520] (الورقة 44 ب-45ب) . وهي نسخة ناقصة، تنقصها ثلاث أوراق من أثنائها. وهي بخط نسخي جيد، وقد كتبت في حياة شيخ الإسلام كما يظهر من عبارة الناسخ التي في آخرها: "فرغ من تعليقها والمسألة التي قبلَها (1) أقل عَبيد الله: أيوب بن أيوب بن صخر بن أيوب بن صخر بن أبي الحسن بن بقا بن مساور العامري الحمصي، رحمه الله ورحمَ والديه ومن استغفر له   (1) هي الآتية برقم 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ولهم، ورحم جميع المسلمين المؤمنين، في نهار الجمعة يوم عاشوراء من شهر المحرم من شهور سنة خمس وعشرين وسبعمائة". وعلى صفحة العنوان منها: "فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله تعالى عنه وعنّا به (1) ، آمين". وتحته إلى اليسار: "قد ساقه القدر لأحقر البشر عبد السلام بن المرحوم الشيخ عبد الرحمن الشطي الحنبلي، عُفِي عنه". والنسخة الثانية تامة وهي في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [2758] (الورقة 92أ-97أ) ضمن مجموعة كان الفراغ من نسخها في رجب سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، والنسخة بخط نسخي لا بأس به. وفي آخر الرسالة من هذه النسخة: "بلغت المقابلة على الأصل"، ولكنها لم تُفِد كثيرًا، ففيها أخطاء فادحة وخاصةً في أسماء الأعلام. (6) "مسألة في رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربَّه": ضمن مجموعة في مكتبة جامعة برنستون برقم [276] (الورقة 156ب- 158ب) ، وهي بخط نسخي متأخر لعله من القرن الحادي عشر. (7) "قاعدة شريفة في تفسير قوله تعالى (أَغيرَ اللهِ أَتخذُ وَليا ... ) ": هي من مجموعة نفيسة تحوي عدة رسائل لشيخ الإسلام، في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 70ب-81ب) . وكلّها بخط واحد، وناسخها محمد بن أبي شامة الحنبلي كما في الورقة 52ب، وقد فرغ من نسخ بعضها في شعبان سنة 814 كما في الورقة 29ب. وقد أفاد الناسخ في صفحة العنوان أن الشيخ كتب هذه القاعدة   (1) هذا توسل غير مشروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 بقلعة دمشق في آخر عمره. (8) "فصل في سورة حم السجدة": هو من المجموعة السابقة في برنستون برقم [1377] (الورقة 43ب-45ب) . وقد سبق وصفها. (9) "فصل في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "أتدري ماحق الله على العباد؟ ": توجد منه نسختان، الأولى في جامعة برنستون برقم [520] (الورقة 42ب-44ب) ، والثانية في دار الكتب الظاهرية برقم [2758] (الورقة 88أ-92أ) . وقد سبق وصفهما برقم (5) . (10) "فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سيد الاستغفار أن يقول العبد ... ": ضمن مجموعة في جامعة برنستون برقم [4095] (الورقة 8أ-10ب) ، بخط محمد بن إسحاق التميمي داري نسبًا الحنفي مذهبًا. ولم يذكر تاريخ النسخ، ولعله من القرن التاسع تقديرًا. وعنوانه على صفحة الغلاف: "شرح حديث سيد الاستغفار". وقد ذكر ابن عبد الهادي في "العقود الدرية" (ص 40) وابن رشيِّق في "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص237 من "الجامع لسيرة شيخ الإسلام") أن للشيخ "قاعدة في الاستغفار وشرحه وأسراره"، ولعلها غير الفصل الذي ننشره هنا. وقد كتب في أسفل صفحة العنوان: "دخل في ملك الفقير إليه تعالى الحاج علي بن الحاج عثمان اللبدي الحنبلي، عفا عنه مولاه، آمين"، وتحته ختمه وسنة 1269. (11) "قاعدة في الصبر": توجد منها نسختان، إحداهما في مكتبة جامعة برنستون برقم [4095] (ق1أ-8أ) ، وقد سبق وصفها برقم (10) . والثانية في مكتبة جامعة ليدن برقم [2990] (في خمس صفحات) ، كتبت سنة 808. وكانت أولاً في مكتبة السيد أمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المدني بالمدينة المنورة، ثم باعَها ضمن ما باع من النفائس، فانتقلت إلى دار بريل المشهورة، وتوجد حاليًّا بمكتبة جامعة ليدن، ولها فهرس من إعداد لاندبرج. (12) "فتوى في العشق": توجد نسختها في مكتبة مولانا آزاد بجامعة علي كره (الهند) برقم [16/17 عربية-فقه حنبلي] (4 ورقات) ، وقد انتقلت إليها من مكتبة الشيخ حبيب الرحمن الشرواني التي كانت في قريته حبيب كنج واشتهرت ببعض المخطوطات النادرة. والنسخة بخط نسخي جيد، وليس عليها تاريخ النسخ، ولعلها من القرن العاشر. وقد كتب على صفحة العنوان: "سؤال رُفِع لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، في رجل عاشق في صورة. نفع الله به آمين". (13) "مسألة في الفتوة وآدابها وشرائطها": توجد نسختها الخطية ضمن مجموعة في مكتبة تشستر بيتي برقم [3537] (الورقة 87أ- 89أ] . وقد سبق وصفها فيما مضى برقم (2) . (14) "مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة": هي ضمن مجموعة في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 37أ-ب) . وقد سبق وصفها برقم (7) . (15) "قاعدة في أفعال الحج": نسختها في مكتبة جامعة ليدن برقم [2989] (في 7 ورقات) . جاء في آخرها: "تمت بحمد الله تعالى وعونه في ليلةٍ يُسفِر صباحُها عن سادس جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وثمان مئة، والحمد لله رب العالمين ... ". وكتب على صفحة العنوان بخط متأخر: "هذه الرسالة بخط العلامة بيدكين التركماني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الحنفي تلميذ ابن تيمية الحراني"، ثم شطب عليها. (16) "فتوى في البيع بفائدةِ إلى أجل": توجد نسختها الخطية في مكتبة جامعة برنستون برقم [3890] (الورقة 45ب-47ب) ، وهي ضمن مجموعة مهمة من رسائل الشيخ وفتاواه نقلها أحمد بن عبد الله بن المحب من خط الشيخ في 21 من رجب سنة 747. وقد قوبلت على الأصل المنقول منه، فلم يبق فيها تحريف أو سقط. (17) "مسائل في الإجارة ونقص بعض المنفعة والجوائح": هي في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 46ب-52ب) . وقد سبق وصف هذه المجموعة برقم (7) . (18-23) ست رسائل في الطلاق، وكلها في مكتبة جامعة برنستون بالأرقام التالية: 1- [1384] (الورقة 31ب-42أ) . 2- [1384] (الورقة 29ب-30ب) . 3- [3890] (الورقة 1ب-10ب) . 4- [1384] (الورقة 14أ-23ب) . 5- [3890] (الورقة 11أ-31أ) . 6- [2992] (الورقة 98ب-102ب) . وقد سبق وصف المجموعة ذات الرقم [3890] ، وذكرنا أنها بخط أحمد بن عبد الله بن المحب، أما المجموعة ذات الرقم [1384] فهي أيضًا بخط أحمد بن عبد الله بن المحب، ومنقولة من مسوَّدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 المؤلف ومقابلة عليها، وليس عليها تاريخ النسخ، ولكنّا نعرف أن الناسخ توفي سنة 749، فتُعتَبر هذه المجموعة قديمة وموثقة. ومما يوسف له أن بعض الرسائل منها وصلت إلينا ناقصة من الأول أو من الآخر، ولعل بعضها فصول من كتبه المستقلة التي أشرنا إليها فيما مضى. ففي المجموعة ذات الرقم [3890] نجد الكلام غير متصل بعد الورقة 10ب، حيث تبدأ رسالة أخرى في الموضوع، ولكنها ناقصة الأول، ولا نعرف مقدار الضائع منها. وفي المجموعة ذات الرقم [1384] نجد الكلام يبدأ من الورقة 14أبدراسة الأحاديث الواردة في الباب دون تمهيد سابق، وينتهي في الورقة 23ب دون أن تكمل الرسالة. أما الرسالة السادسة ضمن مجموع [2992] فهي نسخة متأخرة كتبت في 15 من جمادى الآخرة سنة 1187، وليس عليها اسم الناسخ، وخطها رديء، والنسخة مقابلة ومصححة كما كُتِب في آخرها، ومع ذلك ففيها أخطاء عديدة. (24- 25) "فصل في الإيلاء" و"فصل في الظهار": كلاهما في مكتبة جامعة برنستون برقم [1384] ، الأول من الورقة 24ب إلى 28ب، والثاني من الورقة 1ب إلى 13ب، وهو ناقص الآخر. وقد جاء في صفحة العنوان: "فصل في الظهار من كلام شيخ الإسلام إمام الأئمة الأعلام تقي الدين أوحد العلماء العاملين أبي العباس بن تيمية رحمة الله عليه، مما صنفه بقلعة دمشق في محبسه الأخير". وكذا في صفحة عنوان الرسالة الأولى: "فيه فصل في الإيلاء ..... كتبه أخيرًا بقلعة دمشق". وفي آخرها: "بلغ مقابلةً بالأصلِ خَطِّ المؤلف، ومنه نُقِل، والحمد لله رب العالمين". وقد وصفنا هذه المجموعة قريبًا، فلا نطيل الكلام عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 • منهج التحقيق قمت بنسخ هذه الرسائل من الأصول الخطية، ثم قابلتها عليها وعلى غيرها من النسخ إن وجدت، وأثبتُّ ما يصحّ عندي في النصّ مع الإشارة إلى القراءة المرجوحة إن كان لها وجه، ولم أثقل الهوامش بذكر الأخطاء والتحريفات. وقد عُنِيت بضبط المشكل من الكلمات والأعلام والأماكن دون شرحها والتعريف بها، ومن أراد ذلك فليراجع المعاجم اللغوية والجغرافية وكتب التاريخ والتراجم والرجال. أما النصوص المقتبسة فقمت بتوثيقها وتخريجها من المصادر المهمة، وحاولت الربط بين كلام المؤلف هنا وفي مواضع أخرى من كتبه ورسائله. وفي الختام أحمد الله على أنه وفقني لإخراج هذه الرسائل، وأسأله أن يعينني على جمع بقية الكتب والمسائل المنثورة، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. محمد عزير شمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 نماذج من النسخ الخطية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فصل في معنى "الحيّ القيوم" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من هداه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيراً، وعلى آله وصحبه وسلم. فصل في معنى اسمه "الحي القيوم" قال الله سبحانه وتعالى: (الله لا إله إلا هو الحى القيوم) (1) . وقال تعالى: (الم (1) الله لا إله إلا هو الحى القيوم) (2) . وقال تعالى: (*وعنت الوجوه للحى القيوم) (3) . وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهُ "الحيّ القيَّام" (4) . والقيَّام فَيْعَال، والقيّوم فَيعول، وفيعال من جنس فَعَّال، وفيعول من جنس فعول، لأن الحرف المضعف يعاقب الحرف المعتلّ، كقولهم تَقَضَّى البازِيْ وتقضَّضَ.   (1) سورة البقرة: 255. (2) سورة آل عمران: 1-2. (3) سورة طه: 111. (4) كما في "صحيح" البخاري (في أول تفسير سورة نوح) و"المحرر الوجيز" (2/274) و"زاد المسير" (1/302) والقرطبي (3/272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والقَيُّوم والقَيَّامِ من قام يقوم، فهو معتلٌّ، فإن عينَه واو، فلهذا قيل فيه: فَيْعال وفيْعُول، ولو لم يكن في ألفاظه حرفٌ معتلّ لا ياءٌ ولا واوٌ لقيل: فَعَّال، كما قيل "حمَّاد" و"ستّار"، وفُعُّول كما قيل "سُبُّوح" و"قُدُّوس"، والغالب فعُّول بالفتح، وهو القياس في شرح "قُدُّوس"، ولكن جاءت دلالة اللفظ على غير القياس بالضم سبوح وقدوس وذو الروح. وقد تبينِ أن قراءة الجمهور "القَيُّوم" أتمُّ معنًى من قراءة "القيَّام"، فإن فَعُّول وفيْعُول أبلغُ من فَعَّال وفَيْعال، لأن الواو أقوى من الألف، والضم أقوى من الفتح، وهذا عينه مضمومة، والمعتلّ منه واو، فهو أبلغُ مما عينُه مفتوحة والمعتلُّ منه ألف. ودائمًا في لغة العرب الضمُّ والواوُ أقوى من الياء والكسرة، والياءُ والكسرةُ أقوى من الألف والفتحة، وهكذا هو في النطق، وكذلك في سائر الحركات، فإن المتحرك إلى أسفلَ كحركةِ الماء أثقلُ من المتحرك إلى فوق كالريح والهواء، والمتحركُ على الوسط هو الفلك أقوى منهما. ولهذا كان الرفعُ لما هو عمدةٌ في الكلام، وهو: الفاعلُ، والمفعولُ القائمُ مقامَه، والمبتدأ، والخبر. وكان النصبُ لما هو فضلة في الكلام، كالمفاعيل وغيرها: المفعول المطلق والمفعول به وله ومعه، والحال والتمييز. وكان الجرُّ لما هو متوسِّطٌ بين العمدة والفضلة، وهو المضاف إليه، فإنه تضاف إليه العمدة تارةً والفضلةُ تارةً، فتقول: قام غلامُ زيدٍ، وأكرمتُ غلامَ زيدٍ. ولما كانت "كان" وأخواتُها أفعالاً تُستَعملُ تارةً تامَّةً مكتفيةً بالفاعل، وتارةً ناقصةً فتحتاج إلى منصوب، كان الرفعُ فيها مقدمًا، فإنه العمدةُ، ولابُدَّ منه في النوعين التامّة والناقصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وأما "إنّ" وأخواتها فإنها تختصّ بالجمل الاسمية، لكن أشبهت الأفعال، فصار لها منصوبٌ ومرفوعٌ كالأفعال، ونقصتْ درجتُها عن درجة الأفعال، فقدّمَ منصوبُها لذلك، ولأنه أخفّ، ولأن الخبر يكون غيرَ اسمٍ، مثل الجار والمجرور به، فلا يظهر فيه النصب، بل قد يقدَّم على الاسم. وأما باب "ظننت" وأخواتها فإنها أفعالٌ، تُستعمل تارةً مع الاقتصار على الفاعل، وتارةً يُذكرَ معها المفعولاتُ، ولكن تعلق على العمل إذا تصدر ماله صدر الكلام، فلا يعمل ما قبله فيما بعده، مثل لام الابتداء وحروف الاستفهام، وما الناقصة، كقوله تعالى: (لنعلم أَىُ الحِزبَينِ أحصى لِمَا لبَثُوا أَمَدًا (12)) (1) ، وقوله تعالى: (ولقد علموا لَمَنِ أشْتراهُ مَا لَه في الآخرة مِن خَلاقٍ) (2) . وتارةَ تُلغَى عن العمل إذا قدم المفعولات أو وسط الفعل بينهما، كقولك: "زيد منطلق ظننتُ"، والإلغاءُ هاهنا أحسن، وقولك "زيدٌ ظننتُ منطلق". وكان الفرق بين باب "ظننتُ" وباب "كسوت" أن المفعولين هاهنا المبتدأ والخبر، بخلاف باب كسا، فإن الثاني غير الأول، ولهذا يجوز في باب كسا الاقتصار على أحد المفعولين، بخلاف باب ظننتُ، فإنه لا يجوز ذلك فيه، كما لا يجوز الاقتصار على المبتدأ دون الخبر. وقد تبين أن المبتدأ وخبره مع نواسخه قد استوعبت الأقسام الممكنة، فإنهما إما مرفوعان، كما إذا تجرَّدا عن العوامل اللفظية؛ وإمّا منصوبان، وهو باب ظننتُ، إذ الأول مرفوع، وهو باب "كان"؛   (1) سورة الكهف: 12. (2) سورة البقرة: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أو الأول منصوب وهو باب "إن". وتبين أن الرفع لما هو عمدة، والنصب لما هو فضلة. وكذلك الضم والفتح والكسر التي هي حركاتٌ لنفس الكلمة، وتسمى مناسبة إذا كانت في الآخر لم .... (1) عامل للإعراب، كقولك: خَرْج وخُرْج، وكَرْه وكُرْه، والغَسْل والغُسْل ونحو ذلك، فالخَرْج والكَرْه والغَسْل مصدر الفعل الثلاثي المتعدي، وهو قياس، تقول: ضرَبه ضَرْبًا، وأكله أَكْلاً ونحو ذلك، وأما الخُرْج والكُرْه فهو نفس الشيء المكروه والمخروج، والعَين أقوى من الفعل، والغُسْل بالضم اسم الاغتسال، واغتسال الإنسان لنفسه أكمل من غَسْلِه لغيره، تقول في هذا: غُسْل الجمعة وغُسْل الجنابة، لأن المراد الاغتسال؛ وتقول في ذلك: غَسْل الميت وغَسْل الثوب، لأن المصدر غَسْل الإنسان لغيره. هذا هو اللغة المشهورة سماعًا وقياسًا، وما نُقِل غير ذلك فإما خطأ وإما شاذ. فتبيَّن أن "القَيُّوم" أبلغُ من "القيَّام"، ذلك يفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل يُفيد إقامتَه لغيره وقيامَه عليه؟ فيه قولان. وهو يفيد دوامَ قيامه وكمالَ قيامِه، لما فيه من المبالغة لقيوم وقيام. ولهذا قال غير واحدٍ من السلف: القيوم الذي لا يزول، كما قال ابن أبي حاتم (2) : حدثنا علي بن الحسين نا عيسى الصائغ ببغداد نا سعد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الحسن رضي الله عنه: القيوم الذي لا زوال له.   (1) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة. (2) "تفسيره" (2/487) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وقد ظنّ طائفة من النفاة - كبشر المريسي وغيره - أن مرادَهم بذلك أن لا تقوم به الأفعال الاختيارية ولا يتحرك ونحو ذلك، ورَدَّ عليهم عثمان بن سعيد الدارمي وغيره، وبيَّنوا خطأه فيما فهمه من ذلك عمن نقل ذلك عنه من السلف، وهو إنما نقله عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا الإسناد وحدَه مما لا يعتمِد عليه أهل الحديث، فذكروا ضعفَه (1) ، ثمَّ ذكروا عدمَ دلالتِه على ما طلَبَه. ولكن قد رُوِيَ هذا بغير هذا الإسناد، فبينوا خطأ من فهم ذلك المعنى، وأن المراد بقولهم "لا يزول": أنه دائمٌ باقٍ لا يَنْقُص عن كمالِه فضلاً عن أن يَفْنَى أو يَعْدَم، كقوله تعالى: (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال (44) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (46)) (2) . وفيه قراءتان (3) : أكثر القراء يقرءون "لِتزوْلَ"، فيدلُّ على النفي، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وقرأ بعضُهم "لَتزوْلُ" بالرفع على الإثبات، أي: إن كان مكرُهم تزول، هذا تقدير البصريين. َ والكوفيُّونَ يقدرون: ما كان مكرهم ألاَّ تزول. وكلا القراءتين لهما معنى صحيح، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع (4) . وقوله تعالى "تزول منه الجبال" مثل قوله تعالى: (إِنَّ الله يُمْسِك   (1) انظر "الإتقان" للسيوطي (4/239) ، و"تدريب الراوي" (1/181) . (2) سورة إبراهيم: 44-46. (3) انظر: "زاد المسير" (4/374) والقرطبي (9/381) . (4) انظر: "مجموع الفتاوى": (17/381-382) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 اَلسَّموات والأرض أن تزولا ولئِن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) (1) ومنه قول لبيد (2) : ألاَ كلُّ شيء مَا خَلا الله باطلُ وقد قال له عثمان (3) بن مظعون رضي الله عنه وهو ينشد: "صدقتَ". ثم قال: وكلُّ نعيمٍ لا مَحَالةَ زَائلُ فقالَ له: "كَذبتَ، إن نعيم الجنة لا يزول" (4) . وليس المراد بقوله (ما لكم من زوال (44)) وبقبم له تعالى (لِتَزُولَ مِنهُ الِجْبَالُ (46) و (يمسِك اَلسَّمَواتِ والأرضَ أَن تَزُولا) هو الحركة، فإنهم كانوا يتحركون، والكواكب متحركة، بل الأفلاك التي فيها الكواكب متحركة. و"زال" يُستعمل لازمًا ويُستعمل ناقصةً من أخواتِ "كان"، فيقال في اللازم: زال يزول زوالاً، كما في قوله تعالى (أَن تَزُولا) و (مَالَكم مِّن زَوَال (44)) و (وإن كاَن مَكرُهُم لِتَزُولَ مِنْهُ اَلجِبَالُ (46)) . ومنه: زالت الشمسُ تزولُ زوالاً. وليس المراد بزوالها حركتها، فإنها لا تزال متحركةً في رأي العين منذ تطلع إلى أن تغرب. ولا يقال إنها زالت إلاّ إذا انحطَّت عن غاية الارتفاع، فإذا ارتفعت على رءوس الناس كان غايةُ ارتفاعها، وهو قَبْلَ الزوال، ثُمَّ إذا   (1) سورة فاطر: 41. (2) ديوانه: 256. (3) في الأصل "لعثمان"، وهو خطأ، فقد كان المنشد لبيدًا، وعلَّق عليه عثمان. (4) الخبر في "سيرة" ابن إسحاق (ص158-159) ، و"سيرة" ابن هشام (1/370) و"البداية والنهاية" (4/227-228) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 انحطت بعد هذا وانحطت ومالت قِيل: زالتْ، ويقال لها قبل الزوال: قد قام قائمُ الظهِيرة، فيُعَبر عن هذا بلفظ القيام، وعن آخرها يُلفَظ في الانحطاط بلفظ الزوال، كما يُعبَّر عنه بلفظ الاستواء، فيقال: استوتِ الشمسُ، وعند الزوال بالميل فيقالُ مالت الشمسُ؛ فكأن لفظ الزوال يَدُكُ على النقص بعد الكمال، والانخفاض بعد الارتفاع. والذين أقسموا من قبل "ما لهم من زوال" لم يريدوا أنهم لا يموتون، فإن هذا لا يقوله أحد من العقلاء، ولكن ظنوا دوامَ ماهم فيه من الملك والمال، وأن ذلك لا يزول عنهم. وهذا باطل. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سُبقَتْ ناقتُه العَضْباءُ وكانت لا تُسْبَق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسَبقها، فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ حقًا على الله أن لا يُرفعَ شيءٌ من الدنيا إلاّ وَضَعَه" (1) . فكلَّما ارتفع شيء من الدنيا فإن الله تعالى يضعه، وذلك من زوالِه. والزائل الذي لم يكتسب به ما يدوم نفعه يُسمَّى باطلاً، فالموتُ حق والحياة باطلٌ، فإن الباطل ضدُّ الحق، والحقُّ يقال على الموجود، فيكون الباطلُ هو المعدوم. ويقال أيضًا على ما ينفع ويُنفَى نفعُه، فيكون الباطلُ اسمًا لما لا ينفع، أو لما لا يدومُ نفعُه. ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل لهوٍ يَلْهُو به الرجلُ باطلٌ منه إلاّ رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته، فإنهن الحقّ". رواه أبو داود وغيره (2) .   (1) أخرجه البخاري (2872) عن أنس. (2) أخرجه أحمد (4/144،148) والدارمي (2410) والترمذي (1637) وابن ماجه (2811) من طريق عبد الله بن زيد الأزرق عن عقبة بن عامر. أما أبو داود (2513) فأخرجه من طريق خالد بن زيد الجهني عن عقبة بلفظ مختلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن هذا الرجل لا يُحِبُّ الباطل" (1) ، وهو مالا يَنفعُ النفع الباقي، وهو النافع في الآخرة، فكلُّ مالا ينفع في الآخرة فهو باطل، وإن كان لذةً حاضرةً، فإنها تزول وتُعَدُّ بلا نفعٍ يَبقى، فهي باطل بهذا الاعتبار. وقال الله تعالى: (ذلك بأن الله هو وأن ما يدعون مِن دُونِهِ هُوَ الباطِلُ) (2) ، فهذا باطل من الجهتين: من جهة أن استحقاق الإلهية معدوم، فهو لا ينفع ولا يضر؛ ومن جهة أن عبادته لا تنفع وإن كانت موجودة (3) في الحياة الدنيا، فيومَ القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضًا. ومن هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصدق كلمة قالها شاعر لبيد: ألا كلّ شيء ماخلا الله باطل (4) قال الله تعالى: (وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً) (5) ، وقال تعالى: (مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء (24)) إلى قوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيَاةِ الدُّنيا وفي الأخرةِ) (6) . والثابت ضدّ الزائل، فالباطل الزائل الذي لا ينفع في الآخرة هو الذي شرع فيه الزهد، فالزهد مشروع في كل مالا ينفع في الآخرة، والورع مشروع في كلِّ ما قد يَضُرّ في   (1) أخرجه أحمد (3/435) والبخاري في "الأدب المفرد" (342) عن الأسود بن سريع. (2) سورة لقمان: 30. (3) في الأصل: "كان مودة"!. (4) أخرجه البخاري (6489) ومسلم (2256) عن أبي هريرة. (5) سورة الفرقان: 23. (6) سورة إبراهيم: 24-27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الآخرة. فالورع عن المحرمات واجبٌ، لأنها سبب الضرر، والورع عن الشبهات حسن، لأنه قد يكون في ذلك محرَّم، وقد يدعو الوقوع فيها إلى الوقوع في الحرام، كما في الصحيحين (1) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حِمىً، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحتْ صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". فقد بيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ من ترك الشبهات التي لا يعلم كثير من الناس أحلال هي أم حرام، استبرأ لعرضه ودينه، وإن وقع فيها وقعَ في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع، ويقرب أن يواقعه. وبيَّن أنّ حِمَى الله تعالى محارمُه التي حرَّمها، وفي هذا ما دلَّ على أن الشبهات لا تخفى على جميع الناس، بل كسبهم من غير الحَلال منها من الحرام. ومن تبين له ذلك فأخذ الحلال وترك الحرام لم يكن ممن وقع في الشبهات، وإنما الذي يقع فيها من لم يتبين له أحلالٌ هي أم حرام. وفيه ما دلَّ على أن شريعتَه في ترك الشبهات يتضمن سدَّ الذريعة، فإنها داعية إلى الحرام، وما كان ذريعة يترك، إلاّ إذا كان مصلحة فِعلُه راجح. مثال ذلك أن يشتبه عليه الحلال بالحرام، فلا يقطع بواحدٍ   (1) البخاري (52) ومسلم (1599) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 منهما، فهذا يُرَغَّبُ في الترك، لأنه شبهة، إلا أن يكون إذا تركَ ذلك تضمن تَرْكَ واجب محقق أو فِعْلَ محرَّم محقق، فلا يكون حينئذ مرغبًا في ترك الشبهة، بل يكون مأمورًا بفعلها، لأنه إذا فعلَها لم يعلم أنه يأثم، وإذا تركها وتضمن ذلك تَرْكَ واجبٍ أو فعلَ محرَّمٍ كان إثمًا. والورع المشروع هو ما قاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحسن رضي الله عنه: "دع ما يَريبك إلى مالا يريبك" (1) ، وهنا إذا تركه لم يدعه إلى مالا يريبه، بل إلى ماهو يريبه قطعًا، وذلك يظن أنه قد يريبه. ومثل هذه المسألة المشهورة عن الإمام أحمد رضي الله عنه، وقد ذكرها أبو طالب وأبو حامد وغيرهما في كتاب الورع للمروذي (2) وغيره، أنه سُئِل عمَّن مات أبوه وعليه دَين، وله مالٌ فيه شبهة، وهو يتورع عن قبض ذلك المال، أيَدَع ذمةَ أبيه مرتهنةً فبيَّن ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه أن قضاءَ دَيْنِ الميت من المال الذي خلفه واجب، وأن الوارث عليه أن يفعل ذلك، أو يُمكِّن الغرماء من قبضه، وإن لم يمكن قضاؤه إلاّ بفعل الوارث تعين عليه ذلك، فإنه واجبٌ على الكفاية، وهو متعين عليه إذ لم يقم من غيره. وأما قبضه الشبهة فليس محرمًا، بل ورعٌ مستحب، فكيف يفعل مستحبًّا بترك واجب؟. وهكذا مَن عليه دُيُون وله مالٌ يقضي به الديون، وفيه شبهة، فقضاء الديون واجب، والورع بقضاء الديون واجب، وليس تركُ الشبهة واجبًا. ولو قُدِّر أن في ملك الشبهة ظلم قليل، فهو أخفُ من   (1) أخرجه أحمد (1/200) والدارمي (2535) والترمذي (2518) والنسائي (8/327) من طريق أبي الحوراء السعدي عن الحسن. (2) ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ظلم أرباب الديون بمنع حقوقهم. مثل أن يكون له ألف درهم فيها مئةٌ لغيره مثلاً، وعليه ألف درهم، فإذا لم يوفِ الغرماءَ حقوقَهم ظَلَمَهم بألف درهم، وذاك أعظم إثمًا من ظلم مئة، هذا إذا قُدَّر أنه لا يعرف قدر ما في مالِه من الظلم، وإلاّ فإذا عرف قَدْرَ ذلك فإنه يُخرِج مقدارَ الحرام، فيعطيه لمستحقّه إن عرفه، وإلا تعرف به وصرفه في مصالح المسَلمين عنه إذا لم يعرفه، كما نُقِل عن السلف من الصحابة والتابعين، وهو مذهب أكثر الفقهاء، كمالك وأبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، أعني صرفَه إذا جهل صاحبه إلى مصرف مالِ الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو صرفه في كل ما أمر الله تعالى به ورسولُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وليس هذا كاللُّقَطة التي له أن يتملكها، فإن اللقطة عرَّفها حولاً وأخذها بفعله، فإذا لم يجد صاحبها صارت بمنزلة ما يملكه من المباحات بفعله ما دام صاحبها مجهولاً، وله أن يتصدَّق بها عنه، فإن عرف صاحب المال في الموضعين فالأمر إليه، إن شاء أجاز ما فعله من تصرفه لنفسه أو صدقة بها عنه، وإن شاء ردَّ ذلك وطلبَ بدلَ مالِه، كما قال الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك في المال، وفي امرأة المفقود أيضًا، قالوا: يُخيَّر الزوجُ القادمُ بين المرأة وبين مهرها، وهو مبني على هذا، فإنه لمّا انقطع خبرُه جاز التصرفُ في بُضْعِ امرأته، كما جاز التصرف في المال الملتقط الذي جهل صاحبه، وفي غيرِه، ثم ظهر خبرُه، صارَ حينئذٍ مخيَّرًا، وكان ذلك التصرف الأول الذي كان مع عدم العلم به جائزًا باطنًا وظاهرًا، كمالِ اللقطة، فإنه بعد حلول التعريف يملك الملتقَط باطنًا وظاهرًا، وكذلك يملكه من تصدق عليه، فإذا جاء المالك وطلبه عادَ إليه ملكًا جديدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وأمّا الشبهة إذا اجتنبها أوقعتْه فيما يتردد بين الكراهة والتحريم قطعًا، فهذا مما يتنازع الفقهاء فيه، مثل إذا شكَّ من الطلاق الثلاث فمن الفقهاء من يستحب له اجتنابها، بل يستحبون له إيقاع الطلاق يقينًا لتُباحَ لغيره بلا شك، مثل أن يقول: إن لم يكن وقع بكِ فقد أوقعتُه بكِ. ومنهم من يَستحبُّ له إمساكَها، ويرى ذلك خيرًا (1) من مفارقتها ومن إيقاع الطلاق عليها، فإنه إذا ملكها لم يأثم، فإن الأصلَ عدمُ الطلاق، وإمساكُها جائزٌ لا إثم فيه، وأما الطلاق فهو مكروه أو محرَّم، فمن قَطَع بتحريمه فإنه يقطع بأنه ليس له أن يطلقها لأجل الشك، ومن قال مكروه فقد يتردد اجتهاده لكون كراهة الطلاق أشدّ أم كراهة إمساكها مع الشك. وأما من تردَّد هل الطلاق محرَّم أو مكروه فإمساكها أولى عنده، لأنه هناك متردد بين حلال وحرام، وهنا متردد بين حرام ومكروه. وأما من قال: الطلاق مباح لا كراهة فيه، فإيقاعُه عنده أولى من إمساكِها مع الشك. وقد بسطنا هذه المسائل في غير هذا الموضع. والصواب أن الطلاق في الأصل محظور، وإنما أُبيح للحاجة. والمقصود هنا أن مالا يُستعانُ به على النفع الدائم فهو نفع يتعقبه، ومنه يُسمَّى العبث واللعب باطلاً، وإن كان العابث اللاعب فيه منفعتُه زائلة، لما فيه من اللذة الحاضرة، لكن هو باطل إذا لم يُستعَن به على الحق الذي يَدُوم نفعُه. ولهذا قال تعالى: (وَمَا خلقنا اَلسمَاء واَلأَرضَ وَمَا بَينهمَا باطِلاً ذلِكَ ظَن الَذِينَ كَفَروا) (2) ، وقال تعالى: (وَمَا خلقنَا السَّمَاوَات وَالأَرضَ وَمَا بينَهُمَا لاعبين (38)) (3) ، وقال تعالى: أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خلقنَاكمْ   (1) في الأصل: "خير". (2) سورة ص: 27. (3) سورة الدخان: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 عَبَثاً وَأنَكم إلينا لا ترجعون) (1) . فإن الدنيا وإن كان فيها نوع لذة ومنفعة حاضرة فتلك زائلة منقطعة، فهي باطلة، والفعل لمثل ذلك من باب العبث واللعب، والله تبارك وتعالى منزَّه عن ذلك، إنما خلق هذا الذي ينقص ويزول لما يبقى ويدوم، والذي يبقى ويدوم هو الحق، والذي يزول وينقص قد فَسَد وهلكَ. ولهذا قيل في قوله تعالى (كل شيءٍ هالك إلا وجهه) (2) : كلُّ عملٍ باطل إلاّ ما أريد به وجهُه. وفي الدعاء المأثور: "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطلٌ إلاّ وجهك الكريم". وقد قال تعالى: (كل مَن عليها فَان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27)) (3) . فهو سبحانه وتعالى الباقي الدائم، وما كان به وله فهو الباقي الدائم، وما لم يكن له فهو باطل فاسدٌ هالكٌ، لا يبقى ولا يدوم. قالوا لمالك بن أنس رحمه الله تعالى: إن فلانًا عَملَ موطَّأ مثلَ موطَّأِك، فقال: وطَّأوا ووطَّأنا، وما كان لله عزَّ وجلَّ فهوَ يبقى (4) . ولما استقر في الفطر أن كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ، صار كلٌّ من اَلناس يُسمِّي مالا يبقى نفعُه بالنسبة إلى ما يبقى عبثًا وباطِلاً ولعبًا وباطلاً، فالصبيان إذا لعبوا سمَّى الرجالُ العقلاءُ فعلَهم لعبًا وباطلاً وعبثًا، وإن كان للصبيان فيه لذة ومنفعة حاضرة، لكنها لا تدوم وتبقى، بل إذا فَرَغوا من اللعب احتاجوا إلى أمورٍ لا   (1) سورة المؤمنين: 115. (2) سورة القصص: 88. (3) سورة الرحمن: 26-27. (4) انظر "ترتيب المدارك" (1/95) ط. بيروت، و"تزيين الممالك" (ص44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 تحصل باللعب. فكان من اشتغل بما يحصِّل له قوتًا وكسبًا ونحو ذلك من المقاصد عندهم صاحب جدَّ وحَقَّ، ليس بصاحب لعب وباطلٍ، فإن هذا يبقى ويدومُ وينفع أعَظم من ذاك؛ ومن كان عَنده أن الجاه والرئاسة والسلطان والملك أنفع وأبقى من المال، كان عنده من اشتغل بتحصيل المال وأعرضَ عن ذلك صاحبُ لعب وباطلٍ بالنسبة إلى مطلوبه ومقصودِه، فإن المال لا ينتفع به صاحبُه إلاّ إذا أخرجَه وأنفَقَه، فمنفعتُه في إذهابه، بخلاف الجاه، فإنه كلَّما قوي وحَصَل كان الانتفاع به أكثر، وصَاحبُه يُمكِنه أن يُحصل به من المال مالا يُمكِنُ صاحبَ المال أن يُحصِّل به من الجاه، فلهذا كان هذا أعقلَ وأكيسَ وأبعدَ عن اللعبِ والباطلِ من ذاك. ثم إن صاحب الحق الذي قد عَلِمَ أن الدنيا لا تدوم، فلا يدوم للإنسان فيها لا جاهٌ ولا مالٌ، بل هذا وهذا يقول يوم القيامة: (مَا أَغْنى عَنّىِ مَالِيه (28) هلك عنىِ سلطانيه (29)) (1) . وقد روى الترمذي وغيرُه (2) عن كعب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ذِئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ بأفْسَدَ لها من حِرْصِ المرءِ على المال والشرف لدينه". [قال] الترمذي: حديث حسن صحيح. بيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن حِرصَ المرءِ على المالِ والشرفِ والرئاسة يُفسِد الدينَ مثلَ أو أبلغَ من إفسادِ الذئبينِ الجائعينِ إذا أُرسِلا في زريبة غنم. وهذا الحرص صفة تقوم بالنفس، والدين هو الذي يبقى ويدوم نفعُه بعد الموتِ، فلو قُدِّر أن الإنسان طلبَ من   (1) سورة الحاقة: 28-29. (2) أخرجه الترمذي (2376) وأحمد (3/456،460) والدارمي (2733) . وللحافظ ابن رجب شرح عليه مطبوع. وانظر كلام المؤلف عليه في "مجموع الفتاوى" (11/107-108،20/142-144،28/391-392) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 المالِ والشرف مالا ينفعه بعد الموت، لكان صاحبَ باطلِ ولعب وعبث، فكيف إذا طلب ماهو صار له بعد الموت يُفسِد ما ينفعُه، كإفسادِ الذئبينِ الجائعين لزريبة الغنم. ولهذا إنما جعل ذلك الحرص على المال والشرف، والحرص يُوجِب الشُحَّ، فإن الشُحَّ أصله شدةُ الحرص. وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إياكم الشُّحَّ، فإن الشُّحَّ أهلكَ من قبلكم، أمرَهم بالبخل فبَخِلُوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعةِ فقطعوا". ورئيَ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يَطوف وهو يقول: "رَب قِنِيْ شُحَّ نفسي، رب قِنِي شُحَّ نفسي"، فقيل له: ما أكثرَ ما تدعو بذلك! فقال: إذا وُقِيتُ الشحَّ وُقِيتُ البخلَ والظلمَ والقطيعةَ (2) . وذكر رجلٌ لابن مسعود رضي الله عنه أنه يكره إخراجَ المال، أفشحيحٌ هو؟ فقال ابن مسعود رضي الله عنه: ذلك البخيل، وبئس الشيء البخل، ولكن الشُّحَّ أن تُحِبَّ أخذَ مالِ أخيك (3) . ولهذا الشحُّ كان أعظمَ من البخل، فإن البخيل يَبخَلُ بما عنده، والشُّحُّ هو شدَّة الحرص، فهو عمل على الحسد حتى يكره أن يُعطِيَ الله تعالى غيرَه من فضلِه، وعمل على الظلم والقطيعة حتى يأخذ مالَ غيرِه بغير حق. ولهذا قال الله تعالى: (ولا يجدون في صدورهم حاجة   (1) لم أجده في الصحيحين، وقد أخرجه أحمد (2/159، 191، 193، 195) والدارمي (2519) وأبو داود (1698) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (2) أخرجه الطبري (28/29) وغيره، انظر "الدر المنثور" (8/108) . (3) أخرجه الطبري (28/29) وغيره، انظر "الدر المنثور" (8/107) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)) (1) . فمدح الأنصار بأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون، أي لا يجدون في أنفسهم طلبًا لما أنعمه الله عليهم، بل نفوسهم غنية، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس الغِنَى عن كثرة العَرَضِ، وإنما الغِنَى غِنَى النفس" (2) . والحاسد والحريصُ أنفُسُهم فقيرة محتاجة لا غِنًى فيها، فالحاسد شر من البخيل، والمحسن إلى الناس أفضل من المستغني الذي لا يُحسِنُ. ولهذا جاء في الحديث (3) : "الصدقة تُطفِىءُ الخطيئةَ كما يُطفِىءُ الماءُ النارَ، والحسدُ يأكُلُ الحسناتِ كما تأكُلُ النارُ الحطبَ". والحسدُ يكون على المال والجاهِ جميعًا، كما قد يكون على الدين والعلم، قال الله تعالى: "أَم يحسدون الناس على ما أتاهم الله مِن فَضله فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكاً عظيماً (54)) (4) ، وقال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كُفارًا حَسَدًا من عِندِ أَنفُسِهِم من بعَدِ مَا تبين لَهُمُ الحق فاعفوا واصفحوا حتى يَأتىِ الله بأمره) (5) . وإذا أحب أن يحصل له من الخير الذي حَبَاه الله تعالى مثلما حصل لغيره من غير زوال تلك النعمة عنه، فهذا غبطة، ويُسمَّى حسدًا لكنه حسن. كما في الصحيحين (6) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه   (1) سورة الحشر: 9. (2) أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) عن أبي هريرة. (3) أخرجه ابن ماجه (4210) عن أنى. وفي الباب عن معاذ بن جبل وجابر وغيرهما. (4) سورة النساء: 54. (5) سورة البقرة: 109. (6) البخاري (7141) ومسلم (816) عن ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قال: "لا حَسَدَ إلاً في اثنين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق". فإن هذا وهذا مما يحبها الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسيجازى صاحبهما في الآخرة، فإذا أحب الرجل أن يكون له مثلُ ما لغيره من ذلك فهذا حسن، وهو من المنافسة التي رُغِّبَ فيها بقوله تعالى وتبارك: (وفىِ ذلك فليتنافس المتنافسون (26)) (1) . وأما إذا تمنى زوالَ النعمة عنه فهذا مذموم مَعِيْبٌ، وإن أحب أن يكون له مثلُها من المال والرئاسة من غير زوال لذلك عنه فهذا من جنس حبّ المال والرئاسة ابتداءّ، فهو باطلٌ وعبثٌ ولعبٌ، إلاّ ما يُنتفع به في الآخرة، والحرصُ عليه يُفسِد الدينَ كما تقدم. وقال شداد بن أوس رضي الله عنه (2) : يا بقايا العرب! إن أخوفَ ما أخافُ عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حبُّ الرئاسة. وقال سفيان الثوري رحمه الله: رأيناهم يزهدون في الطعام والشراب واللباس، فإذا نُوزعَ أحدُهم الرئاسةَ نَاطَحَ نِطاحَ الكِباش. فطُلاَّب الرئاسة عند الذين يريدون ما أحبَّه الله ورسولُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى بالذمّ والنقص والعيب، من طلّاب المال عند طُلاَّب الرئاسة، حيث أرادوا مالا يدوم نفسُه ولا يبقى، بل يزول ويفنى، فطلبوا الباطلَ الذي يفنى، وتركوا الحق الذي يبقى. وقد قال بعضهم: لو كانت الدنيا ذهبًا يفنى، فكيف والدنيا خَزَفٌ يَفنى، والآخرة ذهبٌ يَبقَى! ولهذا قال السحرة لما آمنوا وتبيَّن لهم الحق، وقال لهم فرعون   (1) سورة المطففين: 26. (2) أخرجه أحمد (4/123،125) عن شداد بن أوس مرفوعًا بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى (71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما أنت قَاضٍ إنما تقضى هذه الحياة الدنيا (72) إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خيرٌ وأبقى (73)) (1) . والمقصود هنا ذكر معنى الزوال، وقد تقدم أن لفظ "زال" يستعمل لازمًا تامًا، ويُستعمل ناقصًا من أخوات كان، وهو كثير، كقوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) (2) ، وقوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ مختلفين (118) إلا من رحم) (3) ، وقوله تعالى: (وَلَا تزَال تطلع عَلى خائنة منهم إلا قلَيلًا منْهُم) (4) . ويقال: "لم يزل كذلك"، كقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وكَاَنَ اَللهُ عَزيزًا حكِيماً (158)) ، (سميعا بَصِيرًا (58)) فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (وَكاَنَ اللهُ غَفُورًا رحِيمًا (96)) تَسمَّى بذلك، وذلك قوله، أي: لم يزل كذلك. رواه البخاري في صحيحه (5) عنه. وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لم يزل الله عز وجل عالمًا متكلمًا غفورًا. وقال رضي الله عنه أيضًا: لم يزل متكلمًا إذا شاءَ. ذكره في رواية عبد الله فيما كتبه في "الردّ على الجهمية والزنادقة فيما شكّت فيه من متشابه القرآن وتأؤَّلَتْه على غير تأويله" (6) .   (1) سورة طه: 71-73. (2) سورة التوبة: 110. (3) سورة هود: 118. (4) سورة المائدة: 13. (5) 8/556 (مع الفتح) . (6) انظر ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وهذا يقال فيه: ما زَال، ولم يَزَل؛ والأوَّلُ يقال فيه: زال يَزُول، ذاك بالواو، وهذا بالألف، لأن معنى الواو أكمل، وذاك فعل تام يُراد به لم يَزُلِ المذكور، وهنا يُراد به: لم يَزَلْ أو لا يَزَال على هذه الصفة وهذه الحالِ. فالمراد هناك دوامُ نفسِه وبقاؤها، والمراد هنا دوامُ صفتِه المذكورة وبقاؤها. ودوامُ نفسِه وبقاؤها من غير زوالٍ ونقصٍ يَستلزِمُ دوامَ صفاتِ الكمال وبقاءَها. وأما إذا قيل: لم يَزَلْ كذلك، فقد يكون المذكور صفةَ نقصٍ، كقوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ مختلفين (118)) (1) ، وقد يكون صفةَ كمالٍ، وإذا كان صفةَ كمالٍ فهو داخلٌ في الأول. فلهذا كان اسمه "القيوم" يتضمن أنه لا يزول، فلا ينقص بعد كمالِه، ويتضمن أنه لم يزل ولا يزال دائمًا باقيًا أزليًّا أبديًا موصوفًا بصفاتِ الكمال، من غيرِ حدوثِ نقصٍ أو تغيرٍ بفسادٍ واستحالةٍ ونحو ذلك مما يعتري ما يزول من الموجودات، فإنه سبحانه وتعالى "القيوم". ولهذا كان من تمام كونه قيومًا لا يزولُ أنه لا تأخذه سِنَة ولا نوم، فإن السنة والنوم فيهما زوال ينافي القيومية، لما فيهما من النقص بزوال كمالِ الحياة والعلم والقدرة، فإن النائم يحصل له من نقص العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك ما يظهر نقصه بالنسبة إلى الشيطان. ولهذا كان النوم أخا الموت، وسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أهل الجنة: أينامون؟ فقال: "لا، النوم أخو الموت" (2) .   (1) سورة هود: 118. (2) أخرجه ابن عدي في الكامل (6/366) وأبو نعيم في "الحلية" (7/90) والطبراني كما في "مجمع الزوائد" (10/415) من حديث جابر، وله طرق مختلفة تكلم عليها الألباني في "الصحيحة" (1087) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 والنوم جُعِلَ للناس في الدنيا سُباتًا، كما قال تعالى (1) . جعل الليل لباسًا والنوم سباتًا، ليسكن الإنسان فيه ويستريح بدنُه من الحركات التي لو دامت عليه لأهلكته (2) ، ولهذا يغتذي الإنسان بالنوم لاحتياجه إليه، ويقوم من نومه كأنه خُلِقَ جديدًا. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استيقظ من نومه يقول: "الحمد لله الذي أحيانَا بعدما أماتنا وإليه النشور" (3) . والرب تبارك وتعالى منزَّهٌ عن كلّ نقصٍ، قال تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)) (4) ، وقال تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلى العظيم (255)) (5) قالوا: لا يكرثه ولا يثقل عليه. وإذا كان القيوم الذي لا يزول فقد دخل في ذلك أنه لا يأفل، كما قال الخليل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا أحب الأفلين (76)) (6) ، فإنه من المعلوم أن أفولَ الشمس والقمر والكواكب أبلغُ في النقص من زواله إذا كان الآفل غابَ واحتجبَ، ولم يبقَ له في عابدِه فِعلٌ ولا نفعٌ، ولا يمكن عابدَه أن يُوجهَ وجهَه إليه، بخلاف زوال الشمس، فإنه فيه نقصٌ لها وانخفاض وانحطاط عن حالِ كمالِ ارتفاعِها. والزوالُ بدءُ حصولِ الأفْياءِ المُزِيلة لشعاعها، فإن الظل يكون ممدودًا قبل طلوعها، كما   (1) في سورة النبأ: 9 (وجعلنا نومكم سباتاً (9)) . (2) في الهامش: "لأفسدته". (3) أخرجه البخاري (7395،6325) عن أبي ذر، ومسلم (2711) عن البراء بن عازب. (4) سورة ق: 38. (5) سورة البقرة: 255. (6) سورة الأنعام: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 قال تعالى: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً (45) ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً (46)) (1) . فإذا طلعتْ انبسطَ شعاعُها على وجهِ الأرض، ونسخ الظلّ الذي يقع عليه، فنسخ الظلال الشرقية كلها، ولا يزال ينسخ الغربيَّةَ شيئًا بعد شيء حتى تستويَ الشمسُ، فيكون قد نسخ الظلال الشرقية والغربية جميعًا، وهذا غايةُ نسخِ الشمسِ الظلالَ. فإذا زالت انحطت وانخفضت، ففَاءتِ الأفْيَاءُ. والفيءُ اسمٌ للظلّ الذي بعد الزوال، والظل يعمُّ ما قبله وما بعده، لأنه يفيء الفيءُ ويعود، فيعودُ الفيء إلى ناحية المشرق، بعد أن كان قد نسخ عنها، ولا يزال الفيء يَمتدُّ ويَطُولُ كلما انخفضت الشمس إلى أن تغرب، فيعود الظل ممدودًا بأفولها، كما يكون ممدودًا قبل طلوعها، فكان أفولُها غايةَ بطلانِ أثرِها في ذلك الزوال، مبدأ ذلك بالأفول، كما نقصها الذي ابتدأ من الزوال، وكأنه كمالُ زوالِها. ولهذا فُسر دلوكُها بهذا وبهذا في قوله عز وجل: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل) (2) ، فطائفة من السلف قالوا: دلوكها غروبُها، والتحقيق أن الزوال أول دُلوكها، والغروب كمالُ دُلوكها، فمن حين الزوال إلى الغروب دالكة، كما هي زائلة بارحة، ولهذا سُميت "بَرَاح"، ويقال: دلكتْ بَرَاحِ. ولهذا قال تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل) ، فالدلوك يتناول الظهر والعصر، وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء، وصلاة العشي (3) فيها مشترك عند الحاجة. وكذلك صلاة العشاء، فإن ذلك كلُّه دلوك، وهذا كله   (1) سورة الفرقان: 45-46. (2) سورة الإسراء: 78. وانظر: "زاد المسير" (5/72) والقرطبي (10/303) . (3) في الهامش: "صلاة الظهر والعصر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 غسق، ولا يجوز تفويت صلاة غسق الليل إلى الفجر لدلوك الغسق الليل، كما لا يجوز تفويت صلاة الفجر إلى غسق الليل (1) . قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وُترَ أهله وماله" (2) . وقال أيضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فاتته صلاة العصر فقد حبط عملُه" (3) . وهي الصلاة الوسطى، كما دلَّ على ذلك الأحاديث الصحيحة (4) ، وهي بين صلاتَيْ ليلٍ وصلاتَيْ نهارٍ. فالحيّ القيوم سبحانه وتعالى الذي لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل قد زال قطعًا، واسم "القيوم" تضمن أنه لا يزول، ولا ينقصُ شيءٌ من صفاتِ كمالِه، ولا يفنَى ولا يُعدَم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفاتِ الكمال. وهذا يتضمن كونه قديمًا، فالقيوم يتضمن معنى القديم، وزيادات صفات الكمال دوامُها الذي لا يدلُّ عليه لفظ القديم. ويتضمن أيضًا كونَه موجودًا بنفسه، وهو معنى كونه واجبَ الوجود، فإن الموجودَ بغيره كان معدومًا ثم وُجِدَ، وكل مفعولٍ فهو مُحدَثٌ، وتقديرُ قديمٍ أزلي مفعولٍ كما يقوله بعض المتفلسفة باطلٌ في صريح العقل، وهو خلاف ما عليه جماهير العقلاء المتقدمين والمتأخرين. فالقيوم الذي لم يزل ولا يزال لا يكون إلاّ موجودًا بنفسه،   (1) في الأصل: "صلاة غسق الليل إلى الفجر"، وهو تكرار لما سبق. (2) أخرجه البخاري (525) ومسلم (626) عن ابن عمر، بلفظ "الذي تفوته ... ". (3) أخرجه البخاري (594) من حديث بريدة، بلفظ "من ترك صلاة ... ". (4) منها حديث علي عند البخاري (2931) ومسلم (627) ؛ وحديث ابن مسعود عند مسلم (628) ؛ وحديث عائشة عند مسلم (629) ؛ وحديث البراء بن عازب عند مسلم (630) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 والموجود بنفسه لا يكون إلاَّ قديمًا واجبَ الوجود، فإن وجودَه [لو] . لم يكن واجبًا لكان ممكنًا، يمكن وجودُه ويُمكِن عدمُه، وما أمكنَ وجودُه وعدمُه لم يكن إلاّ مُحدَثًا كائنًا بعدَ أن لم يكن. فليس هو القيوم الذي لا يزول، بل لم يزل ولا يزال. ومن الناس من يُطلِق هنا أنه لم يزل ولا يزال ولا يكون بغيره (1) ، وهذا إن كان لغةً فكونه موجودًا بنفسه من معاني كونه قيومًا، أو، إذا ما وُجد بغيره ليس هو قيومًا، لحاجته إلى من يُوجده ويُقِيْمه، بل ليس له من الَقيومية بنفسه، إذ هو دائمًا محتاجٌ فقيرٌ إلى القيوم، وما كان موجودًا بنفسه يمتنع أن يكون معدومًا تارةً وموجودًا أخرى، [وما] كان ممكنًا مُحدَثًا لم يكن وجودُه بنفسه، فإن ما وجودُه بنفسه وجودُه ملازم له لا يكون معدومًا قط، بل من تُصُورَتْ نفسُه تُصُورَ أنه موجودٌ، والمعدومُ يتصَورُ نفسُه معدومةً وموجودةً أخرى، فليس الوجودُ ملازمًا لها. فقد تبينَ أن الوجود الواجب القديم وما يستلزم ذلك من صفاتِ الكمال ودَوامِ ذلك وبقائِه، كل ذلك يدخل في اسمه "القيوم"، واقترانه بالحيّ يستلزم سائر صفات الكمال، ف جميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم"، ويَدُلُّ أيضًا على بقائها ودوامِها وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً. ولهذا كان قوله سبحانه وتعالى (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أعظمَ آيةٍ في كتاب الله عز وجل، كما ثبت ذلك في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرا.   (1) في الأصل: "لا يك خبره"، وهو تحريف. (2) مسلم (810) عن أبي بن كعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 قاعدة جليلة في إثبات علوّ الله تعالى على جميع خلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه: قاعدة جليلة بمقتضى النقل الصريح في إثبات علوّ الله تعالى الواجب له على جميع خلقه فوقَ عرشِه، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة والإجماع والعقل الصريح الصحيح والفطرة الإنسانية الصحيحة الباقية على أصلها. وهي أن يقال: كان الله ولا شيء معه، ثمّ خلق العالم، فلا يخلو: إما أن يكون خَلَقَه في نفسه واتصل به، وهذا محالٌ، لتعالي الله عز وجل عن مماسّةِ الأقذار والنجاسات والشياطين والاتصال بها. وإمّا أن يكون خَلَقَه خارجًا عنه ثم دخل فيه، وهذا محالٌ أيضًا، لتعالي الله عز وجل عن الحلول في المخلوقات. وهاتان الصورتان مما لا نزاعَ فيها بين المسلمين. وإما أن يكون خَلَقَه خارجًا عن نفسِه ولم يحل فيه، فهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره، ولا يقبل الله منا ما يخالفه، بل حرَّم علينا ما يناقضه. وهذه الحجة هي من بعض حجج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، التي احتجَّ بها على الجهمية في زمن المحنة. ولهذا قال عبد الله بن المبارك فيما صحَّ عنه أنه قيل له: بماذا نعرف ربَّنا؟ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه (1) . وعلى ذلك انقضى إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدقٍ، وما خالفهم في ذلك من يُحتجّ بقوله. ومن ادَّعى أن العقلَ يعارضُ السمعَ ويخالفه فدعواه باطلة، لأن العقل الصريح لا يتصور أن يخالف النقل الصحيح. وإنما المخالفون للكتاب والسنة والإجماع، والمدّعون حصول القواطع العقلية إنما معهم شُبَه المعقولات لا حقائقها، ومن أراد تجربة ذلك وتحقيقه فعليه بالبراهين القاهرة والدلائل القاطعة التي هي مقررة مسطورة في غير هذا الموضع (2) . والله أعلم. ***   (1) أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص50) و"الرد على بشر المريسي" (ص24،103) وعبد الله بن أحمد في "السنة" (ص7،25، 35،72) من طرقٍ عنه. (2) انظر المجلد الخامس من "مجموع الفتاوى" الذي يحتوي على رسائل ومسائل للمؤلف في هذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فتوى فيمن يدعي أن ثَمَّ غوثًا وأقطاباً وأبدالاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 سُئِل شيخ الإسلام مفتي الأنام حَبْر الأمَّة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بِن عبد السلام ابن تيميَّةَ رضي الله عنه وأرضاه، فيمن يَدَّعيْ أنَّ ثمَّ غوْثًا وأقطابًا وأبدالاً وأولياءَ، وأنَّ بهم يُستَسقَى الغيثُ وتَنزِل الرحمةُ ويُكشَف العذاب، وإذا غَضِبَ الله على أحدٍ من أهل الأرضِ وأراد أن يُنزِلَ غَضَبَه، نَظَرَ إلى قلوبِ هؤلاءِ، فإن وجدَهم راضينَ بذلك أَنزلَ عذابَه، وإلاّ رَفَعَه، وكذلك الرحمةُ والنصْر والرزق، وأنّ الغوث بمكَّةَ مُقيم. ومن يَدَّعي أن هؤلاء المولَّهِيْنَ والبهاليل الذين لا يُصَلُّون، ولا يَتَوَقَّوْنَ نجاسةً ولا غيرَها. فأجابَ رضي الله عنه قائلاً: الحمد لله رب العالمين. الذي دلَّ عليه الكتابُ والسنَّةُ، وعليه سلفُ الأمَّة وخَلَفُها الصالحونَ المتبعون للسَّلَف -: أنّ لله تعالى أولياءَ، كما لَهُ أعداء، وأولياء الله هم المنعوتون في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفىِ الأخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) (1) . وفي صحيح البخاري (2) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: مَن عَادَى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحَبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمع به، وبَصَرَه   (1) سورة يونس: 62-64. (2) برقم (6502) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الذي يُبصِر به، ويَدَه التي يَبطِش بها، ورِجْلَه التي يَمشي بها، فبِي يَسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. لَئِن سألني لأعطِيَّنه، ولئن استعاذ بي لأعِيذَنِّه. وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِي عن قبض عبدي المؤمن، يَكرهُ الموتَ وأَكرَهُ مساءتَه، ولابدَّ له منه". فبيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكَر أولياءَ الله أنه ما يَقرُب العبادُ إليه بمثلِ أداء الفرائض، ثمّ ذكر أنه لا يزال العبدُ يتقرب إليه بالنوافل بعد الفرائض، حتى يحبّه، فيصير العبد يَسمع بالله، ويبصر بالله، ويبطش بالله، ويمشي بالله، فيصير سمعُه وبصره ومشيُه وبطشُه بيده لرضا الله ومحبته، فإنّه لِمَا في قلبه من محبة الله وموالاتِه وعبادته وطاعتِه، يصير قلبُه منيبًا إلى الله، ويصيرُ ممن هداه الله واجتباه، فيَجْتبِي قلبَه إليه، ويَقذِفُ من نورِه في قلبِه، كما قال تعالى: (أَوَمَن كاَنَ مَيتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشى به في الناس) (1) ، وقال تعالى: (يآ أيُّهَا اَلَّذِينَ آمنوا اَتَّقُوْا الله وَءَامِنُواْ بِرَسُوِلهِ يؤتِكم كِفلَين مِن رَّحمَتِهِ ويجعل لكم نُورا تَمشُونَ بِهِ) (2) ، وقال تعالى: (* الله نُورُ اَلسَّمَاواتِ وَالأرض مَثَلُ نُورِه) (3) قال محمد بن كعب: مثل نُوْرِه في قلب المؤمن. وقال تعالى: (مَا كنتَ تَدرِى مَا الكتاب وَلَا الإيمَانُ وَلَكن جَعَلناه نورًا نَّهدِى بِهِ مَن نشاءُ مِنَ عِبَادِنَا) (4) . فإذا جعل الله في قلبِه من نورِه صار بذلك النور يسمع ويبصر ويبطش ويمشي. و أولياء الله نوعان: مقرَّبون سابقون، ومقتصدون أبرار أصحاب   (1) سورة الأنعام: 122. (2) سورة الحديد: 28. (3) سورة النور: 35. (4) سورة الشورى: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يمين، كما ذكر الله هذين الصنفين في سورة الواقعة في أولها وفي آخرها، فذكر تعالى أن الناس ثلاثة أصناف وقتَ القيامة الكبرى ووقتَ الموت، فقال تعالى: (وكنُتُم أَزوَاجًا ثَلاثَةً (7) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة (9) والسابقون السابقون (10)) (1) . وكذلك قال في آخر السورة: (فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89) وأما إن كان من أصحاب اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين (91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94)) (2) . وكذلك ذكر الأصناف الثلاثة في سورة هل أتى على الإنسان، وفي سورة المطففين. وقد ذكر في سورة فاطر تقسيمَ أمّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ثلاثة أصناف في قوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُم ظَاِلٌم لنفسِهِ وَمنهُم مقتَصِد وَمِنهُم سَابق بِاَلخَيراتِ) (3) ، فالظالم لنفسه: هو المفرِّط بترك المأمور أو فعلِ المحظور، والمقتصد (4) : المؤدِّي للفرائض، المجتنب للمحارم، والسابق بالخيرات: المؤدِّي للواجب والمستحبّ، والتارك للمحرَّم والمكروه. وأولياءُ الله المتقون لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها، فخواصُّ أولياء الله المتبعون لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون كراماتُهم إمّا لحجةٍ في الدين، أو لحاجةٍ للمسلمين، كما كانت معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك، فهم يتقرَّبون إلى الله بما يُكرِمُهم به من الخوارق، ويعبدون الله بها، ويزدادون بها قربًا إلى الله، لا يطلبون بها عُلوًّا في الأرض ولا فسادًا.   (1) سورة الواقعة: 7-10. (2) الآيات 88-94. (3) سورة فاطر: 32. (4) في الأصل: "المقتصدون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وقد كان كثير من السلفِ يُسمِّي من يُسمِّي من هؤلاء الأبدال، وقد قيل في معنى الأبدال (1) : إنهم الذين بَدَّلوا السيّئاتِ بالحسنات، كما قال تعالى: (إلَّا مَن تَابَ وَءَامَن وَعَمِلَ عمَلاً صاَلِحًا فَأُوْلَئك يبُدِّل الله سَيئاتِهِم حَسَنَات) (2) . ولا ريبَ أنّ الصالحين من عباد الله لهم سببٌ في الرزق والنَّصر، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقَّاص: "يا سعدُ، وهل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (3) . فهذا ونحوه حق جاء به الكتابُ والسنّة، ولا وُصولَ للخلقِ إلى رضوان الله وكرامته إلاّ بالإيمان برسُلِه وطاعتهم، فهم الوسائط والسُّفَراء بين الله وبين خلقِه، والأنبياء صلوات الله عليهم وسلاَمُه أفضلُ الخلق، فمن ظَنَّ أنه يصل إلى رضوانِ الله وكرامتِه بدون اتباع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو لأحدٍ من الخلق طريقٌ إلى رضوان الله وكرامته غير اتباع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو كافر مُلحِد. ومن ادَّعَى أنّ أحدًا من أولياء الله الذَين بلغتْهم رسالةُ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصِل إلى رضوانِ الله وكرامتِه بغير كتاب الله وسنَّةِ رسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو ملحدٌ ضالٌّ مُفتر، يُستتاب فإن تاب وإلاّ قُتِل كافرًا. بل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولُ الله إلى جميع الخلق الثّقلينِ إنسِهم وجِنِّهم، وهو رسولُ الله إلى جميع الإنس: أسودِهم وأحمرِهم، وعَرَبِهم وعجمِهم. فأولياء الله المتقون هم العالمون العاملون بما بعثَ الله به محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يكون لله وليٌّ إلاَّ من يَتّبع محمدًا، ومن لم يَتَّبع محمدًا فهو   (1) انظر لمعنى الأبدال: "فتوى في الغوث" للمؤلف. (2) سورة الفرقان: 70. (3) أخرجه البخاري (2896) والنسائي (6/45) عن مصعب بن سعد، ورواه أحمد (1/173) من طريق مكحول عن سعد نحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 عدوُّ الله، لا ولي له، وإن كان مع ذلك له أحوال شيطانية، يَحصُل له بها مكاشفة وتصرُّف يُعِين بذلك أعداء محمد ويَخْفِرُهم، فهم من أعداء الله الملاعين، لا من أوليائه المتقين. وهو من جنس السَّحَرةِ والكُهَّان الذين كانت الشياطين تُخْبرهم ببعض المغيبات، وتُساعِدهم على بعض مطالبهم، وهؤلاء من أعَداء الله المجرمين، لا من أوليائه المتقين، بل هم كُفار يجبُ قتلُهم، بل يُقتَلون بلا استتابةٍ عند كثير من علماء المسلمين. وأما أن يكون في العالم أحدٌ من البشر لا يُنزِلُ الله رزقًا أو نصرًا أو هُدًى إلاّ بواسطته، فهذا من أقوال المفترين الملحدين، وهو من جنس قول النصارى، إمّا في المسيح، وإمّا في الباب. بل الناسُ يَدعُون الله، فيُجيبُ دعاءهم، ويسمع كلامهم. والمشركون كانوا يَدعُون الله إذا اضَطُرُّوا، فيُجيب دعاءهم، فكيف بالمؤمنين! وليس أحدٌ من الخلق يكون هو الذي يَرفع دعاءَ العبادِ كُلِّهم إلى الله سبحانَه وتعالى، ولا لعباد الله الصالحين وأوليائه المتقين عدد مُعين، لا أربعة ولا سبعة ولا اثنا عشر ولا أربعون ولا ثلاث مئة وثلاثة عشر، بل يكثرون تَارةً ويَقِلُّون أخرى. وقد كان حين بعث اللهُ محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول الأمر كانوا من أقل الناس، ثم إنه بعد هذا انتشر الإيمان. وقد أغرق الله أهلَ الأرض في زمن نوحٍ عليه السلام إلاّ من آمن معه، وما آمن معه إلاّ قليل. وفي الحديث الصحيح (1) أن الخليل عليه السلام قال لسارةَ لما طَلَبَها الكافر، وكان يأخذ امرأةَ الرجل إذا أعجبتْه، فقال الخليل لها: إذا سألكَ   (1) البخاري (2217، 3358) عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فقولي إنّكِ أُختي، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرُكِ. وقول القائل: إن الله إذا غضِبَ على أحدٍ من أهل الأرض وأراد أن يُنزِل به العذابَ، نظرَ إلى قلوب هؤلاءِ المذكورين، فإن وجدَهم راضين بإنزالِ العذاب على الذي قد استحقّهُ أَنزَلَه، وإن لم يجدهم راضين بذلك رَفَعَه- كذِبٌ مفترى، بل قد أنزلَ الله العذابَ على قوم لوط مع مجادلةِ إبراهيم الخليل عنهم. قال تعالى: (فَلَمَا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74) إن إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود (76)) (1) . وقال تعالى لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمَّا استغفر للمنافقين: (سَوَآء عَلَيهِم أَسْتَغفَرتَ لَهُم أَمْ لَم تستَغفِر لَهُم لَن يَغفِرَ الله لَهُم) (2) . ومحمد وإبراهيم أفضلا الخلق، هذا خليل الله، وهذا خليل الله. والخليل إبراهيم استغفرَ لأبيه. ثمَّ لما مات أبو طالب قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لأستغفرنَّ لك مالم أُنْهَ عنك" (3) ، فانزل الله تعالى: (مَا كاَن لِلنَّبىِّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولىِ قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)) (4) . فقال بعض المسلمين: إنَّ إبراهيم قد استغفر لأبيه، فأنزل الله تعالى: (وَمَا كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) (5) .   (1) سورة هود: 74-75. (2) سورة المنافقين: 6. (3) أخرجه البخاري (4675 ومواضع أخرى) ومسلم (24) عن سعيد بن المسيب عن أبيه. (4) سورة التوبة: 113. (5) سورة التوبة: 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وقد ثبت (1) أنه يوم القيامة يُراجِعُ الناس الشفاعة، فيأتون إلى آدم ليشفع لهم، فيَرُدُّهم إلى نوح، ويَرُدُّهم نوح إلى إبراهيم، ويردُّهم إبراهيم إلى موسى، ويردُّهم موسى إلى عيسى، ويردُّهم عيسى إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى سائرِ النبيين واَلِ كل وسائرِ الصالحين، فإذا أتوا محمدًا أفضلَ الشفعاءِ وأعظمَ الخلقِ جاهًا عند الله قال: "فآتِي ربي، فإذا رأيتُه خَرَرْتُ له ساجدًا، وأَحمدُ ربي بمحامدَ يَفتحها عليَّ لا أُحسِنُها الآن، فيقال: أيْ محمد، ارفَعْ رأسَك، وقُلْ تُسْمَع، وسَلْ تُعْطَه، واشْفَعْ تُشَفَّعْ". فلا يَشفع حتى يأذَن الله له في الشفاعة، كما قال تعالى: (مَن ذَا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (2) ، وقال تعالى: (وَلَا تنَفعُ اَلشَفاعَةُ عنده إلا لمن أذن له) (3) . فإذا كان أفضلُ الخلق لا يَشفع في أحدٍ إلاّ بإذنِ الله عزَّ وجلَّ، فكيف يُقال: إنّ الله لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ إذا رضي هؤلاءِ أن يُعذِّبَهم؟ ومعلوم أنّ العبدَ عليه أن يتبعَ رِضا اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فيفعلَ ما أَمَر، ويَرضى بما قَدَّر. وأمّا الربّ عزّ وجلّ إذا أرادَ أن يُهلِك أعداءَه هَل يُشاوِرُ أحدًا، أو يتوقفُ فِعلُه على رِضا أحدٍ من عباده؟ بل هؤلاء العباد إن كانوا راضينَ بما أمرهم أن يَرضَوْا به، وإلاّ وَجَبتِ التوبةُ عليهم. إلاّ ترى أن الله تعالى لمَّا أَغْرق أهلَ الأرضِ، وأغرقَ فيهم ابنَ نوح الذي قال له نوح: (يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من   (1) في حديث الشفاعة الطويل، الذي أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة. (2) سورة البقرة: 255. (3) سورة سبأ: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 رَّحم) (1) . وبعد هذا دعا نوح ربَّه فقال: (رب إن ابنى من أهلى وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45)) (2) ، قال الله: (يَا نُوحُ إنه ليس مِن أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم) (3) . فإذا كان الله لمَّا استحقَّ ابنُ نوح الهلاكَ أهلكَه، وسألَ نوحٌ فيه فعاتبَ الله نوحًا على سُؤالِه، وهو أولُ رسولٍ بعثَه الله إلى أهلِ الأرض، فكيف يقال: إنه لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ برِضا طائفةٍ من عبادِه؟ فهل يكون أحدٌ أفضلَ من أولي العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ومحمد؟ وقد (اختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رَبِّ لَو شِئتَ أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هى إلا فتنتك) أي محنتك واختبارك (تُضِلُّ بِهَا مَن تشًاَءُ وَتَهْدِى مَن تشاء أَنتَ ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنةً ... ) (4) الآية. وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قُل فَمَن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً) (5) . فهذا حالُ الرسل مع الله يَرُدّ على من يَغْلُو فيهم، فكيف يُقال: إنّ له عبادًا لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ برضاهم؟ بل يقال: هؤلاء العبادُ لو أرادَ أن يُهلِكَهم فمن يَملِك دَفْعَ بأسِ الله عنهم؟ وهؤلاء العبادُ عليهم   (1) سورة هود: 42-43. (2) الآية: 45. (3) الآية: 46. (4) سورة الأعراف: 155-156. (5) سورة المائدة: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 أن يتوبوا إلى الله ويَستغفروه، ففي صحيح البخاري (1) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "واللهِ إني لأستغفر الله وأتوبُ إليه في اليومِ أكثر من سبعين مرةً". وفي صحيح مسلم (2) عن الأغرّ المزني عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "يا أيها الناس، تُوبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مئة مرة". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3) : "إنّه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة". وثبت عنه في الصحيحين (4) أنه كان يقول: "اللهم اغْفِرْ لي هَزْلي وجدِّي، وخَطَئي وعَمْدِي، وكلُّ ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ ومَا أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إله إلاّ أنتَ". وهذا وأمثاله في دعاءِ الأنبياء وتضرُّعِهم واستغفارِهم وتوبتهم كثير في الكتاب والسنة، وهم يسألون الله رحمتَه لهم ولغيرِهم، ويستعيذون بالله من عذابه أن يَنزِلَ بهم أو بمن يطلبون دفعَه عنهم، فكيفَ يكون تعذيبُ ربّ العالمين لمن شاء تعذيبَه لا يكون إلاّ برِضا بعضِ الناس؟. لكن قد ثبتَ في الصحيحين (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مُرَّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال: "وَجَبَتْ"، ومُرَّ عليه بجنازةٍ، فأثنوا عليها   (1) برقم (6307) . (2) برقم (2702/42) . (3) في الحديث السابق عند مسلم (2702/41) عن الأعز المزني. (4) البخاري (6399) ومسلم (2719) عن أبي موسى الأشعري. (5) البخاري (2642) ومسلم (949) عن أنس بن مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 شرًّا، فقال: "وَجَبَتْ"، قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبتْ لها الجنّةُ، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًّا فقلتُ: وجبتْ لها النارُ، أنتم شُهداءُ الله في الأرض". وفي المسند (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُوشِكُ أن تَعلَموا أهلَ الجنَّةِ من أهلِ النار"، قيل: بِمَ يا رسولَ الله؟ قال: "بالثناءِ الحسنِ والثناءِ السيىء". ف أولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض، بما جعله الله من النور في قلوبهم، فمن أَثنوا عليه خيرًا كان من أهلِ الخير، ومَن أثنَوا عليه شرًّا كان من أهلِ الشرِّ. وأيضًا فقد يَدْعُون الله لمن يُحِبّونه، فينفعُه الله بدعائهم، ويَدعُون على غيره، فيتضرَّرُ بدعائهم. والملائكةُ يُؤيِّد الله بهم عبادَه المؤمنين، كما قال تعالى: (ثُمَّ أَنزَلَ الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها) (2) ، وقال: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا) (3) . وقال: (فأرسَلنَا عَلَيهِم رِيحًا وَجُنُودًا لَم تروها) (4) . وقال .... (5) . وأما حزبُ الشيطان فيُعاوِنُهم الشياطينُ شياطينُ الإنس والجنّ، كما قال تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم   (1) 3/416 و6/466 عن أبي زهير الثقفي. وأخرجه أيضًا ابن ماجه (4221) . (2) سورة التوبة: 26. (3) سورة الأنفال: 12. (4) سورة الأحزاب: 9. (5) بياض في الأصل. ولعل المؤلف يشير إلى قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا) [التوبة: 40] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 مِن الناس وإنىِ جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنىِ بَرِئ منكم) (1) . .... (2) . فصل ولفظ الغوث والقطب في حقّ البشر لم يَنْطِق به كتابٌ ولا سنة، ولا تكلَّم به أحدٌ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في هذاْ المعنى، بل غِياثُ المستغيثين على الإطلاق هو الله تعالى، كما قال: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) (3) . ولم يجعل الله أحدًا من الخلق غوثًا يُغِيث الخلقَ في كُلِّ ما يستغيثونه فيه، لا مَلَك ولا نبي ولا غيرهما. بل في الصحيحين (4) أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا أُلْفِيَنَّ أحدَكم يأتي يومَ القيامةِ على رَقَبتِه بعيرٌ له رُغَاءٌ، فيقول: يا رسولَ الله أَغِثْني أَغِثْني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا. يا عباس عمِّ قد أَبلغتك". وهذا كقوله (5) : "يا فاطمةُ بنت محمد، لا أُغنِي عنكِ من الله شيئًا؛ يا عبّاسُ عمَّ رسول الله، لا أُغنِي عنكَ من الله شيئًا؛ يا صفيّهُ عمّةَ رسولِ الله، لا أُغنِي عنكِ من الله شيئًا، سلوني ما شِئتم". وهذا من تأويل قوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين (214)) (6) .   (1) سورة الأنفال: 48. (2) بياض في الأصل. (3) سورة الأنفال: 9. (4) البخاري (3073) ومسلم (1831) عن أبي هريرة. (5) أخرجه مسلم (205) وأحمد (6/187) والترمذي (3184) والنسائي (6/250) عن عائشة. (6) سورة الشعراء: 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقد يكون بعض الناس سببَا لشَر يَندفع في بعض الأمور، فيقال: فلانٌ يَستغيثُ بفلانِ، كما قال تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) (1) . هذا كلفظ النصر والرزق والهُدى، فاللهُ هو الهادي النصير الرازق، وليس هذا النعتُ على الإطلاق لأحدِ إلاّ لله وحدَه، لا لملَكٍ مقرَّب ولا نبي مُرسَل. لكن من الخلق من يكون سببًا في رزقِ أو هُدَى أو نَصْرِ يَحصُل لغيرِه، وهو في ذلك سبب، لا يَستقِل بالحكم، بل لابُدَّ معَه من أسباب أُخَر، ولابُدَّ من مَوَانِعَ يَدفعُها اللهُ، وإلاّ لم يَحصُل المطلوب. وأما أَن يكون بشرٌ أو مَلَكٌ يُغِيث الخلقَ في كلِّ ما يستغيثونَ فيه بالله، فمن ادَّعَى هذا فهو أكفرُ من النصارى من بعض الوجوه، فإنّ أولئك قالوا: إنّ الله هو الذي يُغِيث، لكن زَعَموا أنِّه اتَّحدَ أو حَلَّ في المسيح، وهذا جَعلَ بعضَ المخلوقاتِ يَفعل ما يَفعله الخالق. ومن زعم أنَّ ثَمَّ غَوثًا يكون على يديه ما يُنزِله الله من هُدَى ونَصْرِ ورزقِ، فقد افْتَرى على الله، ليس ما ينزله الله في ذلك على عبادِه لشخص واحد. ومن ضلال بعضِ هؤلاء أنهم يجعلون الغوثَ مقيمًا بمكةَ دائمًا. فيقال لهم: مَن هذا الغوثُ الذي كانَ غِياثَ الخلقِ على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخُلَفائِه الراشدين، ولم يكن أحدٌ منهم مقيمًا بمكّةَ؟ ومن كان بمكَّةَ مَن هو أفضلُ من الرسولِ وخلفائِه؟ وهؤلاء من جنس قولِ الإفرنج في "الباب"، فإنهم يَدَّعون فيه نحوًا من ذلك. وأما لفظ "القطب"، فما دارَ عليه أمرٌ من الأمور قيل: إنه قُطْبُه، كقطب الرَّحَا وقطب الفلك. فمن كانت له مرتبة من إمارةٍ أو علمٍ أو   (1) سورة القصص: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 دينٍ فهو قُطبُ تلك الأمور التي دارت عليه، فالمَلِك قطبُ المُلْك، والوالي قُطب الوِلاية، ونحو ذلك. وقطبُ الدين الذي يُؤخذ عنه ولا يزاحِمه أحدٌ هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن الصالحين مَن يُجرِي الله على يَدَيهِ من الخير ما يكون قطبَ أمته. وأما أن يكون للوجودِ قطبٌ يدورُ عليه أمرُه، به يَنزِلُ المطَرُ مطلقًا، وبه يَحصُل الهُدى مطلقًا، وبه يَحصُل النّصرُ مطلقًا، فهذا لا يكون لمخلوقٍ البتةَ، ولكن قد يكون من المخلوقين من يَحصُل به ما يَحصُل من نَصْر ورزقٍ وهُدًى، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائِكم، بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم؟ " (1) . ومن كان تاركًا للصلاة مع قدرته على الصلاة فإنّه يُستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتِل، وليس في هؤلاء من هو وليٌّ لله، بل فيهم من معه شياطين تُوحِي إليه بأشياء، وتُعاوِنه بأشياء، فيُخبرون ببعض الأمور الغائبة كما كانت الكُهَّان تُخبِر، ويتصرّفون في بعض الأمور بشياطينهم من جنس تصرُّف السَّحَرة، فتارةً يقتلون الرجل، وتارةً يُمرِضونَه، إلى أمور أخرى من جنس الحوادث، فيظنّ من لا يَعرِف حقيقةَ أمرِهم أنهم أولياء الله وأن هذه كرامات، وقد يكون في هؤلاء من هو كافر بالله. ومن هؤلاء من يُصلّي، ويكون له ذنوب كبائر يكون بها فاسقًا، وله شياطينُ تُعِينه. وطائفة ثالثة خيرٌ من هؤلاء، وهؤلاء فيهم خير ودين، وفيهم قلّةُ معرفةٍ بأمر الله ونهيه، يَقترِن بهم جنٌّ من جنسهم، فتارةً يطيرون بهم في الهواء، فيذهبون بهم إلى مكةَ، ويَقِفون بعرفات من غير أن يَحجُّوا الحج الذي أمر الله به ورسولُه، فلا يُحرِمون، ولا   (1) سبق ذكر الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 يُلَبُّون، ولا يجتنبون محظوراتِ الإحرام، ولا يُقيمون بمزدلفةَ، ولا يطوفون بالبيت، بل يُحمَلون في الهواء فيقفون بعرفات، ثمَّ يُحمَلون فيُصبِحون في بلدهم. وهذا من تلاعُبِ الشياطين بهم. ومن ظنّ هذا من كراماتِ أولياء الله فهو جاهل، فإنّ هذا عملٌ محرَّم، ليس مما أمر الله به ورسولُه، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يذهبَ إلى عرفات، فيَقِف مع الناس بثيابِه، من غيرِ أن يَحُجَّ الحج الذي أمرَ الله به ورسولُه. بل قد رُوي أن عمر بن الخطاب رأى بعرفات ناسًا عليهم الثياب، فأراد أن يعاقبهم عقوبةً بليغةً. والقلم لم يُرفَعْ إلاّ عن المجنون، وليس كلُّ مَن رُفِعَ عنه القلم يكونُ وليًّا لله، بل من المجانين من يكون يهوديًا ونصرانيا ومشركًا، فلا يكون وليًّا لله وإن رُفِع عنه القلم، بخلافِ من كان مؤمنًا بالله وبرسوله وله صلاحٌ ودينٌ، فأصابَه خَلْطٌ أفسدَ مزاجَه، فهذا إذا غابَ عقلُه رُفِع عنه القلم، وإذا صَحَا (1) تكلَّم بكلامِ أهلِ الإيمان، و [له] قلب يحبّ الله ورسوله ويحبّ ما أحبَّه الله ورسوله. وأما من اقترنتْ به الشياطينُ، وغيَّبتْ عقلَه في بعضِ الأحوال، فهذا قد يتكلم الشياطينُ على لسانِه بالإثم والعُدوان، ويُبَغِّض إليه ما يحبُّه الله من الطهارة والصلاة والقرآن، ويُحبِّبُ إليه ما يُبغِضُه الله من الكفر والفسوق والعصيان. ومن علاماتِ هؤلاء أنه لا يَحصُلُ لهم الخوارقُ عند أفعالِ الخير التي يحبُّها الله ورسوله، كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء وقيامِ الليل، بل إنما يَحصُل إذا أشركوا بالله، فاستغاثوا ببعض المخلوقين، أو عاشروا النسوانَ والمُرْدَانَ معاشرةً قبيحةً، أو   (1) في الأصل: "صفا" تحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 حَضَروا سماعَ المُكَاءِ والتصدية، وإذا اجتمعت المحرَّماتُ كانت أحوالُهم أقوى. فهذا مما يُبيّن أنهم من حزبِ الشياطين وأوليائه، لا من حزب الرحمن وأوليائه، قال تعالى: (وَمَن يَعشُ عَن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال ياليت بينى وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39)) (1) . وأما الذين يسمونهم (2) الناس رجالَ الغيب، كالذين يظهرون بالأماكن التي ليس فيها جمعة ولا جماعة ولا آثار الرسالة، بل يظهرون في الأماكن التي ينفرد بها بعضُ الناس عن الجمعة والجماعة، إمّا جبلٌ من الجبال، كجبل لبنان وجبل الفتح وجبل الأحبس وغير ذلك من الجبال، وإمّا مَغَارةٌ من المغارات، كمغارة الدم، وإمّا غيرها، وإمّا غير ذلك من المواضع التي لم يأمر الله ورسولُه بقصدِها للعبادة، وإنما يَقصِدها الجهّال. فهؤلاء هم من الجنّ والشياطين، وقد سمّاهم الله رجالاً، كما قال: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً (6)) (3) . والكلام على هؤلاء وتفصيل أحوالهم وما عرفناه من هذه الأمور يَطولُ (4) ، وهذا مقدار ما وَسِعتْه هذه الورقة. تمت هذه الورقات [من] الجواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.   (1) سورة الزخرف: 36-39. (2) كذا في الأصل. (3) سورة الجن: 6. (4) انظر "فتوى في الغوث" للمؤلف، ففيها تفصيل ما أجمله هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فصل في أولياء الله وأولياء الشيطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيم (128)) (1) . وقال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) (2) . وقال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحى ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)) (3) . وقال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63)) (4) . فمن كان مؤمنًا تقيا كان لله وليًّا، من أيّ صنفٍ كان. وفي الصحيحين (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنّ أوليائي المتقون   (1) سورة التوبة: 128. (2) سورة آل عمران: 164. (3) سورة الأعراف: 158. (4) سورة يونس: 62-63. (5) لم أجده في الصحيحين، وقد أخرجه أحمد (5/235) عن معاذ بن جبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 حيثُ كانوا ومن كانوا". وفي صحيح البخاري (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: من عَادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بمثلِ أداء ما افترضتُ عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبَصَرَه الذي يُبصِر به، ويَدَه التي يَبطِش بها، ورِجْلَه التي يمشي بها، فبِيْ يسمع، وبي يُبصِر، وبي يَبطِش، وبي يمشي. ولئن سألني لأعطِينَّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنَّه. وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِي عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يَكرهُ الموتَ وأَكرَهُ مساءتَه، ولابُدَّ له منه". فقد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أولياء الله نوعان: المقرَّبون السابقون، والأبرار أصحاب اليمين، هم الذين تقرَّبوا إليه بالنوافل بعد الفرائض. والآخرون هم المؤدون للفرائض المجتنبون للمحارم، كما قال تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) (2) . فالظالم لنفسه: هو صاحبُ الذنوب والخطايا؛ والمقتصد: هو الذي يفعل ما فرضه الله عليه ويترك ما حرَّمه الله عليه؛ والسابق بالخيرات: هو الذي لا يزال يتقرَّبُ إلى الله بما يَقدِرُ عليه من النوافل بعدَ الفرائض. وهؤلاء هم المتبعون لخاتم المرسلين وإمام المتقين وأفضل خلق الله أجمعين محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليمًا، الذي بعثَه الله إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا، فهَدى به من الضلالة، وأرشدَ به من الغواية، وفتح به   (1) برقم (6502) عن أبي هريرة. (2) سورة فاطر: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أعينًا عُمْيًا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا، حينَ فرَّق الله به [بين] الحق والباطل، وبين المعروف والمنكر، وبين الخير والشرّ، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين أولياء الله وأعداءِ الله. فالحلال ما حلَّله، والحرام ما حرَّمه، والدينُ ما شرعه، والطريق إلى الله هو طاعةُ أمرِه، فلا طريقَ إلى الله إلاّ متابعة رسول الله. قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (1) . وقال تعالى: (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)) (2) . وقد بعثَ الله محمدًا بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحجّ البيت" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورُسُلِه والبعثِ بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيرِه وشره". وقال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (4) . فقد بين شرائعَ الإسلام وحقائقَ الإيمان، فكل من دعا إلى شريعة أو حقيقةٍ تخالف ما بعثَه الله به فهو ضالٌّ من إخوان الشياطين، خارجٌ   (1) سورة آل عمران: 31. (2) سورة الشورى: 52-53. (3) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) عن ابن عمر. (4) أخرجه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب. ورواه البخاري (50) ومسلم (9) عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 عن طريقِ اللهِ ودينِ المرسلين، ليس من أولياء الله المتقين ولا حزب الله المفلحين ولا عبادِه الصالحين. وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في خطبته: "إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وقال العرباض بن سارية: وعظنا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظةً بليغةً ذَرَفَتْ منها الأعين، ووجلتْ منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنَّ هذه موعظة مودعِّ، فماذا تَعْهَد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يَعش منكم بعدي فسَيَرى اختلافًا كبيرًا، فعليكم بسنتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كل بدعة ضلالة" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح. ف من سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله المتقين وحزبِه المفلحين وعبادِه الصالحين، مثل الذين يُظهِرون الإشارات الشيطانية، كإشارة الدم والسكر والنيل واللادن وماء الورد والزعفران، وملابسة النيران، فحين يلبسهم الشيطان قد يزيد أحدهم، ويتكلم الشيطان على لسانه كما يتكلم الجنُّ على لسان المصروع، وإذا أفاق من سُكْرِه لم يعرف ما تكلَّم به الشيطان على لسانه، كما لا يَعرِف المصروع إذا أفاق ما تكلم به الشيطان على لسانه، ومثل أكل الحيّات والعقارب والزنابير، وأكل آذان الكلاب والحمير، وغير ذلك   (1) مسلم (867) عن جابر. (2) أخرجه أحمد (4/126) والدارمي (96) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (44،43) عن العرباض بن سارية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 من الخبائث التي يأكلونها، والمنكرات التي يفعلونها، مثل الرقص على الغناء والمزامير، ورفع الأصوات بالخُوار كما يخور الثور، وقد قال تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)) (1) . وهؤلاء الضُّلاَّل الغُواة حزبُ الشيطان لا يقصدون في مشيهم، ولا يغضّون من أصواتهم، بل يرفعون الأصوات المنكرات، ويرقصون كرقص الدِّباب ونحوها من الحيوانات، ويُعرِضون عن كتاب الله وسنة رسوله، فلا يرغبون في سماع كلامِ الله وكلامِ رسوله وكلامِ الصحابة كما يرغبون في سماع مزامير الشيطان، بل سماع مزامير الشيطان أحبُّ إليهم من سماع كلام الملك الرحمن. وقد كان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ، والباقي (2) يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى! ذَكِّرْنا ربَّنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون. ومرَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فقال: "مررتُ بك البارحةَ وأنتَ تقرأ، فجعلتُ أستمع لقراءتك"، فقال: يا رسول الله! لو علمتُ أنك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا (3) . وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعالمين والعارفين، كما بين الله ذلك في كتابه، قال تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا   (1) سورة لقمان: 19. (2) كذا في الأصل. (3) أخرجه البخاري (5048) ومسلم (793) ، وليس عندهما زيادة قول أبي موسى في آخر الحديث. وقد رواه أبو يعلى بهذه الزيادة كما في "مجمع الزوائد" (7/171) ، قال الهيثمي: فيه خالد بن نافع الأشعري، وهو ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 إذَا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًا (58)) (1) . وقال تعالى: (* وَإذَا سَمِعُوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) (2) . وقال تعالى: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سُجَّدًا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً (109)) (3) . وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (4) . وقال: (إنَّمَا المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) (5) . وأما اتخاذ التصفيق والغناء والمزامير قربةً وطاعةً وطريقًا إلى الله، فهذا من جنس دين المشركين الذين قال الله فيهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) (6) . والمكاء: هو التصويتُ بالفم، كالصفير والغناء، والتصدية: التصفيق باليد. فذمَّ الله هؤلاء المشركين الذين يجعلون هذا قائمًا مقامَ الصلاة. وأهل البدع والضلالة أتباعُ الشيطان يُحِبُّون السماع بالدّف والكفّ أكثرَ مما يحبون سماعَ القرآن، ويرون ذلك طريقًا لهم يقدّمونه على   (1) سورة مريم: 58. (2) سورة المائدة: 83. (3) سورة الإسراء: 107-109. (4) سورة الزمر: 23. (5) سورة الأنفال: 2. (6) سورة الأنفال: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 استماع القرآن، [و] يختارون سماعَ أبيات الشيطان على سماع آيات الرحمن. وقد قال عبد الله بن مسعود (1) : الغناء يُنبت النفاقَ في القلب كما يُنبِت الماءُ البقلَ، والذكرُ ينبِتُ الإيمان في القلبَ كما ينبِت الماءُ البقلَ. ولهذا كان هؤلاء المبتدعون الضالُّون أتباعُ الشيطان لا تأتيهم الإشارات الشيطانية إلاّ عند الباع التي لم يشرعْها الله ولم يأذنْ بها، مثل اجتماعهم على سماع أبيات الشيطان ومزاميره، لاسيما إذا كان هناك جيران من الصبيان وأخواتهم من النسوان، فهنالك يكونُ أظهرَ لحالِ الشيطان. سَمِعوا القُرانَ فاطرقوا لا خِيفةً لكنه إطراقُ سَاهٍ لاهِ أما الغناءُ فكالحمير تناهقوا واللهِ مارَقَصُوا من أجلِ اللهِ دف ومزمارٌ ونغمةُ شاهدٍ فمتَى رأيتَ عبادةً بملاهِي يا أمةً ما ضَرَّ دينَ محمدٍ وجَنَى عليه ومن له إلاّ هِيْ وأيضًا فهم يشركون بالرحمن، فيستغيثون بالمخلوق الميت والغائب، يرجونَه ويخافونَه ويدعونه، وهو لا يَسمع كلامهم ولا يرى مكانهم، ولكن الشياطين قد تخاطبهم وقد تتمثل في صورته، فيظنونه أنَ ذلك هو المسيح المستغاث به، وإنما هو شيطان تمثل لهؤلاء المشركين، كما تتمثل الشياطين للنصارى في صورة من يستغيثون به مثل جرجس وغيره، مثل ما تَدخل الشياطينُ في الأصنام، وتكلِّم عابديها أحيانًا، مثل ما كان يجري للمشركين من العرب، ومثل ما يجري للمشركين من الترك والهند وغيرهم. فإذا حضر أولياء الله المتقون وحزبُه   (1) أخرجه البيهقي (10/223) موقوفًا. ثم أخرجه هو وأبو داود (4927) عنه مرفوعًا، وفي إسناده شيخ لم يسم. وانظر "تلخيص الحبير" (4/199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المفلحون وجندُه الغالبون، فذكروا الرحمن وقرأوا آية الكرسي ونحوها من آيات القرآن نزلت الملائكةُ، فطَردتِ الشياطين، وبطلت أحوالهم. كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه إلا غشيتهم الرحمة، وتنزلتْ عليهم السكينةُ، وحَفتْهم الملائكةُ، وذكرهم الله فيمن عنده" (1) . و"من قرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه لم يزل عليه من اللهِ حافظ، لا يقربه شيطان حتى يُصبِح" (2) . كما صدَّقَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أخبرَ بذلك. وهؤلاء المبتدعون الضالّون يجب على كل قادرٍ أن ينهاهم عن هذه البدع المُضِلَّة، ويَذُمَّ من يفعلها، فإن لم ينتهِ وإلاّ عاقبَه بما يستحقه شرعًا، وأقل ذلك أن يهجرهم، فلا يقربهم ولا يعاشرهم حتى يتوبوا، ويتبعوا الكتاب والسنة والطريق التي بعثَ الله بها رسوله، ولا يُعطَون من الزكاة حتى يتوبوا، فإن الزكاة جعلها الله رزقًا لمن يعبده ويُطيعه ويُطيع رسولَه من عبادِه المؤمنين، فلا يُعَانُ بها أهلُ البدع الضالين الذين يُضِلُّون الناسَ عن سبيل الله، ويدعونهم إلى خلاف كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيد المرسلين محمدٍ وآلِه وصحبه أجمعين، كلما ذكرك الذاكرون وغَفَلَ عن ذكرك الغافلون، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. والله الموفق للصواب. (تمت الرسالة بحمد الله وعونه لشيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مُنقَلَبه ومثواه) .   (1) أخرجه مسلم (2699) عن أبي هريرة. (2) رواه البخار (5010،3275،2311) تعليقًا بصيغة الجزم عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال، هل هم قسمان: أولياءُ لله تعالى أحوالهم ربانية؛ وأولياء للشيطان أحوالهم شيطانية؟ وإذا كان كذلك فما الفرق بين هؤلاء وهؤلاء؟ فإن جماعةً من الناس انحرفوا، حتى أنكروا كراماتِ الأولياء، وآخرين اعتقدوا كلَّ خارقٍ دليل (1) على الولاية الرحمانية. أجاب الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية - أيده الله ووفَّقه لما يرتضيه بمنه وكرمِه -: الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة من أعظم المسائل التي يحتاج إليها جميع الناس، فإنه من لم يُفرِّق بين الخوارق التي تكون آياتٍ وبراهينَ ومعجزاتٍ للأنبياء، وتكون مما يُكرِم الله به الأولياءَ؛ وبين الخوارق التي تكون للسحَرة والكُهَّانِ وغيرِهم من حزب الشيطان، وإلاّ (2) اشتبه عليه الأنبياء وأتباعُهم أولياءُ الله المتقون بالمنتسبين الكذابين وشبههم الكذابين الضالين. ولهذا اضطربَ في هذا الأصل كثير من أهل النظر والكلام في أصول الدين والعلوم الإلهية، ومن أهل العبادة والزهد والفقراء والصوفية. وأما اشتباه ذلك على عموم الناس ومن شَدَا طرفًا من العلم أو كان له حظ من العبادة، فأعظم من أن يوصف.   (1) كذا بالرفع في النسختين. (2) هنا سقط كبير في نسخة جامعة برنستون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 والله سبحانه بعث رسولَه وأنزل كتابَه لبيان الفرق بين هذا وهذا، وختمهم بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل رسول بعثه بأفضل كتاب إلى أفضل أمة بأفضل شريعةٍ، فرَّق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغيّ والرشاد، وأولياءِ الرحمن وأولياءِ الشيطان، وجُندِ الله المفلحين وحزب إبليس اللعين. وقد بُسِط الكلام عليه [في] غير هذا الموضع، مثل "بيان الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لأجل سؤال من سأل عن ذلك من أهل الملك والعلم والدين. فمن أنكر كرامات أولياء الله المتقين فهو من أهل البدع الضالين، كمن أنكر ذلك من المعتزلة وغيرهم، ولهذا كان أفضل متأخريهم أبو الحسين البصري مقرًّا بكرامات أولياء الله المتقين، وإن كان بعض أهل الإثبات -كأبي إسحاق الإسفرايني- وافقَ المعتزلةَ على إنكار الكرامات. فإنكارُ كرامات أولياء الله المتقين قولٌ مبتدَعٌ في الإسلام، مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع السلف الماضين وأئمة الدين، بل من أنكر خوارقَ أهلِ السحر وأتباع الشياطين فهو من أهل البدع الضالين، كما أنكر طائفة من الفلاسفةَ والأطباء وجودَ الجنّ، وأنكر كثير من المعتزلة أن يدخلوا في الإنسان ويصرعوه ويتكلموا على لسانه. فكلا القولين من الأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة وأقوال الأئمة، بل من المخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وإن كان إنكار الجن كفر ظاهر (1) ، فكثيرٌ ما في الكتاب والسنة من ذكرهم، بخلافِ دخولهم في الإنسان فإنه أخفَى، ولهذا كان إنكار الثاني بدعة وإنكارُ الأول إلحادًا ظاهرًا.   (1) كذا في الأصل بالرفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 والمقصود [أن] من أنكر خوارق العادات مطلقًا للأنبياء وغيرهم فهذا كافر باتفاق أهل الملل، وكذلك إن جعلَ ذلك من قُوى النفس، كما يقوله ابن سينا وأمثالُه من المتفلسفة، فهؤلاء ملحدون باتفاق أهل الملل، وقد بُسِط الكلام على هؤلاء في مجلد كبير يُسمَّى "الصفدية" وغيرها. ومن قال إن العادات لا تخرق إلاّ للأنبياء، وأنكر الكرامات والسحر الخارق للعادة، فهو من أهل البدع الخارجين عن الجماعة كأكثر المعتزلة. وكذلك من قال: إنها لا تخرق إلاّ للأنبياء والأولياء، وجعل يستدلُّ بمجردِ خرقِ العادةِ على أن من خُرِقَتْ له العادةُ كان وليا لله، وإن كان مخالفًا للكتاب والسنة. فهؤلاء ضالون، وهم شرٌّ من المعتزلة، وهم من جنس أتباع الدجَّال وأتباعِ مُسَيلمة الكذاب والأسود العَنْسي وغيرِهم من الكذابين. ولهذا اتفق أولياء الله على أن الرجلَ لو طارَ في الهواءِ أو مَشَى على الماء لم يُعتَبر حتَّى يُنظَر متابعتُه لأمرِ الله ونهيِه. فإن هؤلاء يستلزم أقوالهم أن يجعلوا كثيرًا من المشركين وأهل الكتاب - اليهود والنصارى - من أولياء الله المتقين، فإن لهؤلاء خوارق كثيرة، فمن أنكر وجودَها كان كمن أنكر خوارقَ الأولياء وأنكر السحرَ والكهانةَ، ومن أقرَّ بوجودِها وجعلَها دليلاً على أنّ صاحبَها وليّ لله فهو جَعَلَ خوارقَ السحرةِ والكهّانِ دليلاً على أنهم أنبياء وأولياء الرحمن، وكلا القولين يوجب الخروجَ عن دينِ الإسلام، والخروجَ من النور إلى الظلام. بل يجب أن يُفرَّقَ بين هؤلاء وهؤلاء بما بينه الله من الآيات والبراهين، وبما بُعِثَ به سيّدُ المرسلين، فيُعلَم أن أولياءَ الله هم المذكورون في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) (1) . فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وهم نوعان: الأبرار وأصحاب اليمين؛ والسابقون المقربون. فالأولون هم المقرَّبُون إلى الله بفعل ما فرضه وتَرْكِ ما حذَّره؛ والآخرون هم الذين يتقربون إليه بعد الواجبات بالنوافل المستحبات، كما روى البخاري في صحيحه (2) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: من عَادَى لي وليًّا فقد بارزَني بالمحاربة، وما تقرَّبَ إليَّ عبد بمثل أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحِبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمَعُ به، وبَصَرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمشيْ عليها، فبِيْ يَسمعُ، وبي يُبْصِر، وبي يَبْطِش، وبي يَمشِي. ولئن سألني لأعْطِيَنَّه، ولئن استعاذَ بي لأعِيْذَنِّه. وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِيْ عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يَكره الموتَ وأَكرهُ مَسَاءتَه، ولابُدَّ له منه". فقد بيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث نوعَ أولياء الله المتقربين بالفرائض، ونوعَ أهل النوافل بالمحبة. ومالم يكن من الواجبات ولا من المستحبات، ولم يأمر اللهُ به ورسولُه لا أمرَ إيجاب ولا استحباب، ولا فَضَّلَه اللهُ ورسولُه بالترغيبِ فيه، فليس من الأعمال الصالحة، وليس من العبادات التي يتقَرَّبُ بها إلى الله، وإن كان كثير من عُبادِ المشركين وأهلِ الكتاب والمبتدعين يتقربون بما يظنونه عباداتٍ،   (1) سورة يونس: 62-64. (2) برقم (6502) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وليس مما أوجب الله ورسولُه ولا أحبه الله ورسولُه، فهؤلاء ضالُون مُخطِئونَ طريقَ الله. وهم في الضلال درجات: فمنهم كافر، ومنهم فاسقٌ، ومنهم مُذنِب، ومنهم مؤمن مخطىء أخطأ في اجتهادِه. والخوارق التي تَحصُل بمثل هذه الأعمال التي ليست واجبةً ولا مستحبةً، بل هي من الأحوال الشيطانية، لا مما يُكرِم الله به أولياءَه. كالخوارقِ التي تَحصُل بالشركِ والكواكب وعباداتِها، وعبادةِ المسيح والعُزَير وغيرِهما من الأنبياء، وعبادةِ الشيوخ الأحياء والأموات، وعبادةِ الأصنام، فإن هؤلاء قد تُجعَل لهم أرواح تخاطب ببعض الأمور الغائبة، ولكن لابدَّ أن يكذبوا مِع ذلك، كما قال تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222)) (1) . وقد تَقتُل بعضَ الأشخاص أو تُمرِضُه، وقد تأتيه بما تسترِقُه من الناس، إمّا دراهمَ وإما طعامٍ وإما شرابٍ أو لباسٍ أو غير ذلك. وهذا كثير جدّا. فمن كذَّبَ بمثل هذه الخوارق فهو جاهل بالموجودات، ومن ظَنَّ أنَ هذه كرامات أولياء الله المتقين فهو كافر بدينِ رب الأرض والسماوات، بل هذه من جنس أحوال الكهنة والسحرة، مثل مكاشفة عبد الله بن صيادٍ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان قد ظنَّه بعضُ الصحابة الدجالَ، ولم يكن هو الدجال، وتوقف فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تبين له أنه ليس هو الدجال، لكن كان له حال شيطاني، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد خَبأتُ لك خبيئةً" (2) ، فقال: الدُّخْ الدُّخْ، وكان قد خَبَأَ له سورةَ الدخان،   (1) سورة الشعراء: 221-222. (2) أخرجه مسلم (2924) وأحمد (1/457،380) عن ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اخْسَأْ، فلن تَعْدُوَ قَدْرَك، فإنما أنتَ من إخوان الكُهَّان". وقال له (1) : "ما تَرى؟ " قال: أرى عرشًا على الماء، وقال: يأتيني صادقٌ وكاذبٌ. وذلك العرشُ هو عرشُ إبليس. وقد ثبتَ في صحيح مسلمٍ (2) عن جابرٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الشيطان يَنصِبُ عرشَه على البحر، ويَبعَثُ سراياه". وأما كراماتُ أولياء الله تعالى فيها الإيمان والتقوى، سببُها ما أمر الله به من الأعمال الواجبات والمستحبات، وأكابرُ أولياءِ الله يقتدون بنبيّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يستعملون الخوارق إلاّ لحاجةِ المسلمين، أو لحجَّةٍ في الدين، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما تَجرِي الخوارقُ على يديه لحجَّةِ للدين أو لحاجة المسلمين، كتكثير الطعام والشراب عند الحاجة. و الأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية، ولهذا تَبطُل أحوالُهم إذا قُرِئتْ عليهم آية الكرسي، فإنها تَطرُد الشيطانَ، وإذا أرادوا (3) دعوا شيوخهم وتوجَّهوا إلى ناحيتهم جاءتهم الشياطين، وقد تتكلم على ألسنتهم حالَ الوجدِ الشيطاني بكلامٍ لا يَفهمُه صاحبُه إذا أفاق، كما يتكلم الجنّي على لسانِ المصروع، وقد يطير أحدُهم في الهواءِ. فهذا ونحوه من الأحوال الشيطانية. وأما كرامات أولياء الله كمثل ما جرى للعلاء بن الحضرمي لما غزا البحرين، فمشى هو والعسكرُ الذي معه بخيولهم على البحر، فما   (1) أخرجه مسلم (2925) والترمذي (2247) عن أبي سعيد الخدري. (2) برقم (2813) . (3) في نسخة برنستون: "ردوا"، وفي هامشها: "صوابه: استعانوا". والمثبت من نسخة الظاهرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ابتلّت لبود سروجهم. وكذلك أبو مسلم الخولاني ومن معه، ومثل صلاة أبي مسلم ركعتين لمّا ألقاه الأسود العَنْسي في النار، فصارت عليه بَرْدًا وسلامًا. وقد بسطنا هذا في "بيان الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (1) ، وهذا قدر ما احتملتْه الورقةُ. والله أعلم. ***   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (11/276-282) ، ففيه ذكر كثير من كرامات الصحابة والتابعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 مسألة في رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 مسألة سئل الشيخ الإمام العالم الأوحد شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني رضي الله عنه، في رؤيةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربَّه عز وجلَّ، هل كانت بعينِ رأسِه أم بقلبِه؟ الجواب الحمد لله. أما رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربَّه بعينِ رأسِه في الدنيا فهذا لم يثبتْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من الأئمة المشهورين، لا أحمد بن حنبل ولا غيره. ولكن الذي ثبتَ عن الصحابة - كأبي ذرّ وابن عباس وغيرهما - والأئمة كأحمد بن حنبل وغيره أنه يقال: رآه بفؤادِه، كما ثبتَ في صحيح مسلم (1) عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربَّه بفؤادِه مرَّتين. وقد ثبتَ عن عائشةَ أنها قالت: من زعمَ أنَّ محمدًا رأى ربَّه فقد أعظمَ على الله الفِريَةَ (2) . ولم تروِ عائشةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيئًا، ولا روى أبو بكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيئًا. وأما الحديث الذي يذكره بعضُ الجهّال أنه قال لعائشةَ: "لم أرَهُ"، وقال لأبي بكر: "بل رأيتُه"، وأنه أجاب كل واحدٍ على قدرِ عقلِه - فهذا كذبٌ، ولم يَروِ هذا الحديثَ أحدٌ من علماء المسلمين، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعروفة.   (1) برقم (176) . (2) أخرجه البخاري (3234 ومواضع أخرى) ومسلم (177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ثمَّ من العلماء مَن جَمعَ بين قولِ عائشةَ وقولِ ابن عباس، وقال: إنّ عائشة أنكرتْ رؤيةَ العين، وابن عباس ذكر رؤيةَ الفؤاد، ولا منافاةَ بينهما. ومنهم من جعلهما قولين مختلفين. وأكثر أهل السنة يُرَجِّحون قولَ ابن عباس، لما فيه من الإثبات، ولِمَا رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "رأيتُ ربّي" (1) . وليس في شيء من الحديث الثابت أنه قال: رأيتُ ربّي بعيني، بل قد روى بعضهم هذه الأحاديث التي فيها رؤية العين، كأبي بكر الخلاّل، ونَصَرَ هذا القولَ طائفةٌ، منم القاضي أبو يعلى. وذكر عن أحمد في الرؤية ثلاث روايات (2) : رواية أنه رآه بعين رأسِه، ورواية بعين قلبه، ورواية أنه يقول: رآه، ولا يقول: بعين رأسه، ولا بعين قلبه. ونصَرَ هذا طائفةٌ من أهل الكلام من أتباع ابن كُلاَّب، لكن رؤية العين عند هؤلاء إنما هي زوالُ مانع في العَين، [و] ليست الرؤية المعروفة عند سلفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها، وهؤلاءِ إنما وافقوا ابنَ كُلاَّب في مسألة الكلام فقط، وأما مسألة الرؤية المناسبة فخالفوه فيها، وخالفوه أيضًا فيما يُثبتُه من الصفاتِ الخبرية: الرؤية والعلوّ وغيرهما، وإن كانوا ينتسبون إَلى مذهبه لموافقتِهم له في أكثر أقوالِه، وأكثرُ هؤلاء يجعلون تكليمَ الله لموسَى إفهامَه الكلامَ القائمَ بالذات، ويجعلونَ رؤيتَه إنما هي خلق الإرادة في العين فقط. فسلكَ طريقَ هؤلاء الجهمية الاتحادية وغيرهم، وصار منهم من يَزعُم أنّ الله يكلِّمه كما كلَّم موسى بنَ عمران، ومن يزعم أنه يَرى الله في الدنيا بعينه من الحلولية والاتحادية، حتى يقولون: إنهم يَرون الله في كل   (1) أخرجه أحمد (1/290،285) من حديث ابن عباس، والدارمي (2155) من حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (6/509) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 صورة في الدنيا والآخرة. واتفق هؤلاء غُلاةُ المعطِّلةِ وغُلاةُ المجسِّمة على أنه يُرى في الدنيا بالعينين، وحتى يزعموا (1) أنهم يُؤَاكِلونه ويُشارِبونَه ويجالسونه في الدنيا، وأمثال هذه التُّرَّهات. وقد اتفق سلف الأمَّةِ وأئمتُها وجميعُ علماءِ المسلمين على أن غيرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يَرَى الله في الدنيا (2) ، وثبتَ في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "واعلموا أنّ أحدًا منكم لن يَرَى ربَّه حتَّى يموتَ". ولذلك اتفقَ الصحابةُ وسلفُ الأُمَّةِ وأئمتُها على أنّ الله يُرَى في الآخرة بالأبصار عِيَانًا كما يُرَى الشمسُ والقمرُ، كما تواترتْ بذلك الأحاديثُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فمن قال: إنه لا يُرَى في الآخرة فهو جهميٌّ ضال، ومن قال: إنّ غيرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَاه في الدنيا بالفؤادِ فهو أيضًا مبتدع ضالّ كاذب، والحلولية والاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات. ومن قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه بعينه في الدنيا فهو أيضا غالطٌ، قائلٌ قولاً لم يَقُلْه أحد من الصحابة ولا الأئمة. والمنقولُ في رؤية العين في الدنيا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّه كَذِبٌ موضوع باتفاقِ أهل العلم. وكذلك عن أحمد، فإنّه لم يَقُلْ قَطُّ: إنه رآه بعينه، وإنما قال مرّةً: رآه، ومرّةً قال: بفؤاده، وأنكر على من أنكر مطلقَ الرؤية، وذكرَ أنه يتبع ما نُقِل في ذلك من الآثار، وروى بإسنادِه عن أبي ذرّ أنه رآه بفؤادِه.   (1) كذا في الأصل بحذف النون. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (5/490) . (3) مسلم (بعد رقم 2931) عن عمر بن ثابت عن بعض الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وقد ثبت في صحيح مسلم (1) أن أبا ذر أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: "نورٌ، أَنى أراه! ". وفي لفظٍ: "رأيتُ نورًا". فأبو ذرّ هو السائل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد أجابه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الجواب. وقد روى بإسناده عن أبي ذر أنه رآه بفؤاده، واتبع أحمد ذلك. وقد رُوِي أحاديث فيها ذكر الرؤية، وأنه رآه في صورة كذا، وأنه وضع يده بين كَتِفَيْه حتى وجدَ بَرْدَ أناملِه، وقال له: فِيْمَ يَختصمُ الملأ الأعلى؟ قال: في الكفارات والدرجات، وقال في آخره: "اللهمَّ إنّي أسألك فعلَ الخيراتِ، وتركَ المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تَغفِرَ لي وتَرحَمَني، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضْني إليكَ غيرَ مَفْتُون". رواه الترمذي وغيره (2) ، وذكر تصحيحه. وهذا الحديث ونحوُه كلُّها رؤيا مَنامٍ، وكانت بالمدينة بعد المعراج، وأما أحاديثُ المعراج المعروفة فليس في شيء منها ذِكرُ رؤيتِه البتَّةَ أصلاً. فالواجب اتباعُ الآثار الثابتة في ذلك وما كان عليه السلفُ والأئمّةُ، وهو إثباتُ مطلقِ الرؤية، أو رؤية مقيَّدة بالفؤاد. أما رؤيتُه بالعين ليلةَ المعراج أو غيرها، فقد تدبَّرنا عامَّةَ ما صنَّفَهُ المسلمون في هذه المسألة وما نقلوا فيها قريبًا من مئةِ مُصنَّفٍ، فلم نجد أحدًا روى بإسنادٍ ثابت - لا عن صاحبٍ ولا إمامٍ - أنّه رآه بعينِ رأسِه. والله أعلم. ***   (1) برقم (178) . (2) أخرجه الترمذي (3235) وأحمد (5/243) عن معاذ بن جبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 قاعدة شريفة في تفسير قوله (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم) (كتبها بقلعة دمشق في آخر عمره) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 بسم الله الرحمن الرحيم (من كلام شيخنا الجديد الذيَ كتبه بقلعة دمشق في آخر عمره) الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. فصل في قوله تعالى (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قُل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14)) (1) . القراءة المتواترة التي بها يقرأ جماهير المسلمين قديمًا وحديثًا - وهي قراءة العشرة وغيرهم -: "وهو يُطعِم ولا يُطعَم". ورُوِي عن طائفة أنهم قرأوا: "وهو يُطعِم ولا يَطْعَم" بفتح الياء. قال أبو الفرج (2) : وقرأ عكرمة والأعمش: "ولا يَطْعَم" بفتح الياء. قال الزجاج (3) : وهذا الاختيار عند البُصَراء بالعربية، ومعناه: وهو يَرزق ويُطعِم ولا يأكل.   (1) سورة الأنعام: 14. (2) أي ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/11) . وانظر تفسير القرطبي (6/397) وابن كثير (2/130) . (3) في "معاني القرآن" (2/233) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قلتُ: الصواب المقطوع به أن القراءة المشهورة المتواترة أرجحُ من هذه، فإنّ تلك القراءة لو كانت أرجحَ من هذه لكانت الأمة قد نَقَلتْ بالتواتر القراءةَ المرجوحةَ. والقراءة التي هي أحبُّ القراءتين إلى الله ليست معلومةً للأمة، ولا مشهودًا بها على الله، ولا منقولةً نقلاً متواترًا، فتكون الأمة قد حفظت المرجوح، ولم تحفظ الأحبَّ إلى الله الأفضلَ عند الله، وهذا عيب في الأمة ونقص فيها. ثمّ هو خلاف قوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)) (1) ، فإنه على قولِ هؤلاء يكون الذكر الأفضل الذي نزله ما حفظه حفظًا يُعلَم به أنه منزَّل، كما يعلم الذكر المفضول عندهم. وأيضًا فللناس في هذه القراءة وأمثالها مما لم يتواتر قولان (2) : منهم من يقول: هذه تشهد بأنها كذب، قالوا: وكل مالم يُقطَع بأنه قرآن فإنه يُقطَع بأنه ليس بقرآن. قالوا: ولا يجوز أن يكون قرآنٌ منقولاً بالظنّ وأخبارِ الآحاد، فإنّا إن جوّزنا ذلك جاز أن يكون ثَمَّ قرآن كثير غيرُ هذا لم يتواتر. قالوا: وهذا مما تُحِيلُه العادة، فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل القرآن، فكما لا يجوز اتفاقُهم على نقل كذبٍ، لا يجوز اتفاقهم على كتمان صدقٍ. فعلى قولِ هؤلاء يُقطَع بأن هذه وأمثالَها كذب فيَمتنعُ أن يكون أفضل من القرآن الصدق.   (1) سورة الحجر: 9. (2) انظر في حكم القراءات الشاذة: " التمهيد" لابن عبد البر (8/293) ، و"فتاوى ابن الصلاح" (1/231-233) ، و"المرشد الوجيز" ص183 وما بعدها، و"منجد المقرئين" ص82 وما بعدها، و"مجموع الفتاوى" (13/389 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 والقول الثاني: قول من يُجَوِّز أن تكون هذه قرانًا وإن لم يُنقَل بالتواتر. وكذلك يقول هؤلاء في كثير من الحروف التي يُقرَأُ بها في السبعة والعشرة، لا يُشتَرط فيها التواتر. وقد يقولون: إنّ التواتر منتفٍ فيها أو ممتنع فيها. ويقولون: المتواتر الذي لا ريب فيها ما تضمنه مصحف عثمان من الحروف، وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغُ للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلفَّظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته. وما كان تلفظه به على وجهين كلاهما صحيح المعنى، مثل قوله: (وما الله بغافل عما تعملون (85)) (1) ويعملون (2) ، وقوله: (إلا أَن يَخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُوَد الله) (3) إلاّ أن يُخافَا أن لا يقيما حدود الله (4) ، فهذه يُكتفَى فيها بالنقل الثابت وإن لم يكن متواترًا، كما يُكتفَى بمثل ذلك في إثبات الأحكام والحلال والحرام، وهو أهمُّ من ضبط الياء والتاء، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بغافلٍ عما يعمل المخاطَبون بالقرآن، ولا عمّا يعمل غيرهم، وكلا المعنيين حقّ قد دلَّ عليه القرآن في مواضع، فلا يضرّ أن لا يتواتر دلالةُ هذا اللفظ عليه. بخلاف الحلال والحرام الذي لا يُعلَم إلاّ بالخبر الذي ليس بمتواتر. والعادة والشرع أوجب أن يُنقَل القرآن نقلاً متواترًا، كما نُقِلتْ جُمَلُ الشريعة نقلاً متواترًا، مثل إيجاب الصلوات الخمس، وأن صلاة   (1) سورة البقرة: 85. (2) هي قراءة نافع وابن كثير ويعقوب وخلف. (3) سورة البقرة: 229. (4) هي قراءة أبي جعفر وحمزة ويعقوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الحضر أربعٌ إلاّ المغرب والفجر، وأنه يُخافَت في صلاة النهار ويُجهَر في صلاة الليل، ويُجهَر في صلاة الفجر وإن قيل: إنها من صلاة النهار، وأنها ركعتان حضرًا وسفرًا، والمغرب ثلاث حضرًا وسفرًا، ونحو ذلك. ثمّ كثير من الأحكام التي يعملها الخاصَّة دون العامة، تُعلَم بالأخبار التي يعلمها الخاصة، كذلك بعض الحروف التي يضبطها الخاصة من القرّاء قد تكون من هذا الباب. وعلى هذا الوجه فيمتنع أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ بتلك القراءة أكثر، ويُعلِّمها لأمته أكثر، وجماهير الأمة لم تنقُلْها ولم تَعْرِفها، فنقلُ جمهور الأمة لها خلفًا عن سلف تُوجب أنها كانت أكثر وأشهر من قراءة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن كان قرأ بالأخرى، وإن كان لم يقرأ بالأخرى لم تعدل بهذه. فنحن نشهد شهادةً قاطعةً أنه قرأ بهذه، وأنّ تلك إمّا أنه لم يَقرأ بها أو قرأ بها قليلاً، والغالب عليه قراءته بهذه، لأنه يمتنع عادةً وشرعًا أن تكون قراءتُه بتلك أكثر، وجمهور الأمة لم تنقل عنه ما هو أغلبُ عليه، ونقل عنه ما كان قليلاً منه. فهذا من جهة نقل إعراب القرآن ولفظه. فصل وأما من جهة معناه ومفهومه فيقال: نفس القراءة المتواترة أرجح وأظهر وأتم، وذلك من وجوه: أحدها: أن معنى هذه موافق لمعنى قوله في الآية الأخرى (وَمَا خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو القوة المتين (58)) (1) . فقوله: (وما أريد أن يطعمون (57))   (1) سورة الذاريات: 56-58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 نفيٌ لإرادته منهم أن يطعموه، فهو نفيٌ لإطعامهم، وهذا موافق لقوله (وَهُوَ يُطعِمُ وَلَا يُطعَمُ) على البناء للمفعول. ولو أريد نظير تلك القراءة لقال: "فإني لا أطعَم" ونحو ذلك. ولا ريب أنه سبحانه منزَّهٌ عن الأكل والشرب، بل الملائكة لا تأكل ولا تشرب، فكيف بالسبوح القدوس ربّ الملائكة والروح؟ وهذا المعنى قد دلّ عليه في مواضع: منها: اسمه "الصمد"، فإن من معناه الذي لا يأكل ولا يشرب، كما قد بيّن هذا في تفسير هذه السورة (1) . ومنها: قوله (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقه كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75)) (2) . وهو سبحانه ذكر هذا بعد قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)) (3) .   (1) ضمن "مجموع الفتاوى" (17/223-225) . (2) سورة المائدة: 75. (3) الآيات 72-75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فهذا كلام في سياق نفي الإلهية عن المسيح وغيره، وتكفير من قال: إنه الله، أو إنّ الله ثالث ثلاثة، ومن اتخذه وأمة إلهين من دون الله، فبيَّن غايته وغاية أمّه، فقال (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقه) ، وهو ردّ على اليهود والنصارى. ثم قال: (كانا يأكلان الطعام) ، وهو يقتضي أن أكل الطعام منافٍ للإلهية، فمن يأكل الطعام لا يصلح أن يكون إلهًا. ولولا منافاته للإلهية لم يذكر دليلاً على نفيها، فإن الدليل يستلزم المدلول عليه، فعُلِم أن أكل الطعام يستلزم نفي الإلهية. وقد ذكروا في ذلك وجهين (1) ، أشهرهما أن من يأكل ويشرب يعيش بالغذاء، ومن يقيمة اكل والشرب كان مفتقرًا إلى غيره، فلا يصلح أن يكون إلهًا. وهذا هو الذي ذكره أكثر المفسرين. وقال طائفة منهم ابن قتيبة (2) : إنّه نبَّه على عاقبته، وهو الحدث، إذ لابد لأكل الطعام من الحدث. قال: وقوله (اَنظُر كيف نبين لهم الآيات) من ألطف ما يكون من الكناية. وهذا الوجه صحيح في حق المسيح وأمثاله من البشر في الدنيا، فإن أكلهم الطعامَ يستلزم الحدثَ، وخروجُ الحدث من أبين الأشياء دلالةً على انتفائه إلهية من يبول ويغوط، وذلك أعظم من كونه يلد. والدليل يجب طردُه ولا يجب عكسُه، فلا يلزم أن يكون كل من   (1) انظر تفسير ابن عطية (5/162) و"زاد المسير" (2/404) والقرطبي (6/250) . (2) في "تفسير غريب القرآن" ص145. وردّ عليه ابن عطية فقال: هذا قول بشيع، ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر، وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يتغوط أو من لا يأكل ويشرب إلهًا. كما أنه [لو] استدلّ على انتفاء الإلهية بأنه لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، كان دليلاً صحيحًا، ولم يلزم أن يكون كل من يتكلم ويسمع ويبصر إلهًا، بل انتفاءُ صفاتِ الكمالِ يناقض الإلهية، وإن كان ثبوت جنسها لا يستلزم إلهية. كما أنه إذا قيل: إن الإله يجب أن يكون موجودًا قائمًا بنفسه حيا عليمًا قديرًا، فانتفاءُ هذه الأمور يَستلزِم انتفاء الإلهية، ولا يستلزم أن يكون كل موجودٍ حيّ عليم قديرٍ إلهًا. وأما إن أريد بهذا الوجه الذي ذكره ابن قتيبة وغيره من لزوم الحدث طردُ الدليل، فيحتاجون أن يُفسِّروا الحدثَ بجنس الخارج من الآكل الشارب، فإن أهل الجنة يأكلون ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوطون، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة (1) ، لهم رشح كرشح المسك، وهذا من جنس العَرَق الذي يخرج من المَشَام. وهو أيضًا ينافي الصمدية، فإنّ الصمد هو الذي لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء، فخروج الخارج ولو كان كرشح المسك ينافي الصمدية التي هي من لوازم البارىء، فيكون لزوم الحدث للأكل دالاًّ على نفي إلهيته منْ هذه الجهة أيضًا. والصمدية هي المنافية للأكل والشرب وسائر ما يدخل ويخرج، كما قد بُسِطَ في تفسير السورة (2) . الوجه الثاني: أن هذه الآية لم تُسَقْ لبيان تنزُّهه عن الأكل، فإن   (1) منها ما أخرجه مسلم (2835) عن جابر مرفوعًا: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون". قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جُشَاءٌ ورَشح كرَشحِ المسك". وانظر أحاديث أخرى في هذا الباب في "حادي الأرواح" ص128. (2) ضمن "مجموع الفتاوى" (17/223-225، 238-239) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ذلك مبيَّنٌ فيما يناسب ذلك من السور التي فيها تنزيهه عن النقائص، ومن الآيات الدالة على أن هذه النقائص مستلزمة لكون صاحبها مخلوقًا لا إلهًا ونحو ذلك. وإنما سِيْقَتْ لبيان حاجة الخلق إليه وإحسانه إليهم، وبيان غناه عنهم وامتناع إحسانهم إليه، فإنه يُطعِمهم وهم لا يطعمونه، وهذا الوصفُ دالٌّ على هذا المقصود. كما إذا قيل: يُعلِّمهم ولا يُعلِّمونه، ويُعطِيهم ولا يُعطُونه. وهو من معاني الصمد، أن كل ما سواه محتاج إليه، وهو مستغنٍ عن كل ما سواه، ثمَّ كونُه في نفسه لا يأكل ولا يشرب مدح له وتنزيهٌ من جهة أخرى، فإن نفسَ كونه يُطعِم ولا يُطعَم وصفٌ اختصَّ به. فالحيوانُ إنسُهم وجنُّهم وبهائمهُم يأكلون، فإذا قُدِّر أنهم أَطعَموا فهم يُطعَمون، والملائكة وإن كانوا لا يأكلون ولا يشربون فهم لا يُطعِمون الخلقَ، فليس من يُطعِم ولا يُطعَم إلاّ الله. وإذا قدر قادرٌ يُطعِمُ غيرَه ويُحسِنُ إليه ويَرزقه، وأولئك لا يُطعِمونه ولا يرزقونه ولا يُحسِنون إليه، كان هو المُنعِم عليهم، واستحقَّ أن يشكروه، وإن كان هو يأكل ويشرب من ملكه، لكن ليس هو محتاجًا إليهم، ولا هم يُحسِنون إليه. فتبيَّن أن هذا الوصفَ وصفُ مدع يختصُّ به، ويُبيِّن ربوبيته وافتقارَ الخلق إليه وإحسانَه إليهم، وإذا قيل: وهو يُطعِم ولا يُطعَم، كان دلالتُه على هذا المعنى بطريقِ اللزوم، فإنه إذا كان لا يطعم في نفسه امتنعَ أن يُطعِمه أحد. الوجه الثالث: أن مجرد كون الشيء يُطعِمُ غيرَه ولا يُطعِمُه يُوجب المدحَ، فهذه صفة كمال حيث كانت، وأما كون الشيء في نفسه لا يطعم ولا يأكل ولا يشرب، فهذا إنما يكون مدحًا في حق الكامل المستغني عن الطعام والشراب لكماله، وأما من لا يطعم ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 يشرب لنقصه، كالجامدات وكالحيوان المريض، فهذا ليس ممدوحًا بذلك، فلو قدر مريض موسر يُطعِم الناس، وهو في نفسه لا يطعم لمرضه، لم يُمدَح بأنه يُطعِم ولا يَطعَم، والناس إذا لم يُطعِموه لكونه لا يَطعم لمرضه ونقصه لم يكن ممدوحًا بأنهم لا يُطعِمونه، بخلاف ما إذا لم يَطعم لغناه، فإنه يُمدَح بأنه يُطعِم ولا يَطعَم، وإن كان هو في نفسه يأكل ويشرب من ماله، مع أن المريض لابدّ أن يَطعَم، وأما ما لا يَطعَم بمالٍ لنقصه كالجامدات، فالأرض يخرج منها صنوف الثمرات، وهي لا تأكل لنقصها، فقد يقال: إنها تُطعِم ولا تَطعَم أي لا تأكل لنقصها، لكن هي محتاجة إلى السقي والشرب، وهذا حاجةٌ منها إلى ما يقيها ويغذيها. ولهذا قال تعالى: (وهو يطعم ولا يطعم) ، فوصفه بالإثبات المطلق والنفي العام، وصفه بأنه يُطعِم، وهذا مطلق يصلح أن يدخل فيه كل إطعام، كما إذا قيل: يخلق ويرزق ويُعطي ويمنع، كما في الحديث الصحيح الإلهي (1) : "يا عبادي! كلكم ضالٌّ إلاّ من هديتُه، فاستهدوني أَهدِكم، يا عبادي! كلكم جائع إلاّ من أطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلاّ من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم". وقال: (وَمَا بِكُم من نِعمَةٍ فَمِنَ اَلله) (2) ، وقال: (هَل مِن خالِقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض) (3) ، وقال الخليل: (الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80)) (4) .   (1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (490) ومسلم (2577) من حديث أبي ذر. (2) سورة النحل: 53. (3) سورة فاطر: 3. (4) سورة الشعراء: 78-80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وفي الحديث المأثور أنه يقال على الطعام (1) : "الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ منّي ولا قوة"، وأنه من قال ذلك غُفِر له. وفي الحديث الآخر (2) : "الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، من علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، ومن كل خبر آوانا" (3) . وقد قال تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف (4)) (4) . وبالجملة فضرورة الخلق إلى الرزق دائمًا أمرٌ باهرٌ علمًا وذوقًا ووجدًا، فكونه "يُطعِم" من أطعم بيان نعمه وكرمه وإحسانه، وقوله "ولا يُطعَم" نفي عام، فإن الفعل نكرةٌ في سياق النفي، فلا يطعمه أحدٌ بوجهٍ من الوجوه، فلا يكون أحدٌ محسنًا إليه، ولا مكافئًا له على هذه النعمة. كما رواه البخاري (5) عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول إذا رُفِعَتْ مائدتُه: "الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غيرَ مَكْفِيّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مستغنًى عنه ربَّنا". وأما إذا قيل: يُطعِم وهو لا يأكل، لم يكن المنفي عنه من جنس المثبت له، بل ذكر تنزيهه عن الأكل، فلا يبين المقصود من أنه   (1) أخرجه أحمد (3/439) والدارمي (2693) وأبو داود (4023) والترمذي (3458) وابن ماجه (3285) من حديث معاذ بن أنس. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1989) . (2) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (301) وابن السنّي (485) والحاكم في المستدرك (1/546) من حديث أبي هريرة. وفي إسناده زهير بن محمد، وهو ضعيف. وقد سقط ذكره في مطبوعة كتاب النسائي. (3) في مصادر التخريج: "وكل بلاء حسن أبلانا". (4) سورة قريش: 3-4. (5) برقم (5458) . وانظر شرحه في "فتح الباري" (9/580-581) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 يُحسِن إليهم الإحسان الذي يضطرون إليه، مع أن أحدًا من الخلق لا يُحسِن إليه، فإن دلالة القراءة المشهورة على نفي إحسان الخلق إليه مع إحسانه إليهم أبينُ من دلالة كونه لا يأكل، فإن تلك تدلُّ على المدح مطلقًا مع قطع النظر عن كونه هو يأكل أو لا يأكل، حتى لو قُدِّر على سبيل الفرض أنه يأكل لم يكن محتاجًا إليهم، ولا كانوا هم الذين يُطعِمونه، كما قال: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليبجون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)) (1) . وقد نبهنا على هذا وأنه إذا كان مخلوق يُحسِنُ إلى غيره ويُطعِمه، وهو لا يَحتاج إليه في أمرٍ لا إطعامٍ ولا غيرِه، كان محسنًا إليه إحسانًا محضًا، وإن كان محتاجًا إلى غير هذا الشخص، فكيف بمن هو سبحانه لا يَحتاج إلى أحدٍ بوجهٍ من الوجوه؟ ثم إنه من كمالِ إحسانه إلى عبادِه بين أنّ من لم يُطعِم أولياءَه ولم يعدهم، فهو كمن لم يُطعِمه ولم يَعُده، كما في الحديث الصحيح (2) : "يقول الله تعالى: عبدي! مرضتُ فلم تَعُدني، فيقول: ربِّ! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلانًا مَرِضَ، فلو عُدتَه لوجدتَني عنده. عَبْدي! جُعْتُ فلم تُطعِمني، فيقول: رب! كيف أُطْعِمك وأنتَ رب العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلانًا جاعَ، فلو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي". فقال: "لوجدتَ ذلك عندي"، ولم يقل: "لوجدتني قد أكلتُه". وقال: "لوجدتني عنده"، ولم يقل: "لوجدتَني إياه".   (1) سورة الذاريات: 56-57. (2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (517) ومسلم (2569) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الوجه الرابع: أن يقال: قوله (وَهُوَ يُطْعِمُ) يتناول إطعامَ الأجساد ما تأكل وتشرب، وإطعامَ القلوب والأرواح ما تغتذي به وتتقوَّتُ به من العلم والإيمان والمعرفة والذكر، وأنواع ذلك مما هو قوتٌ للقلوب، فإنه هو الذي يُقِيتُ القلوبَ بهذه الأغذية، وهو في نفسه عالمٌ لم يُعلِّمْه أحدٌ، هادٍ لم يَهدِه أحد، متصف بجميع صفات الكمال، قيوم لا يزول، ولا يُعطيه غيرُه شيئا من ذلك. فإذا قال: "وهو يُطعِم ولا يُطْعَم" تناولَ القسمين، وإذا قيل: "لا يَطْعَم" لم يكن المراد إلا الأكل والشرب، لم يكن المراد ذكره وعلمه وهدايته. وحينئذٍ فيكون قوله "وهو يُطْعِم" لا يتناول إلاّ مأكولَ الجسد ومشروبَه، ومعلومٌ أنّ ذاك أشرف القسمين، فالقراءة التي تتناول القسمين أكمل من القراءة التي لا تتناول إلاّ أحدَهما. بيان ذلك ما في الصحاح (1) من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهاهم عن الوِصال قالوا: إنك تُواصِل، قال: "إني لست كأحدكم، إني أَبِيتُ - ورُوي: أَظَلُّ - عند ربي يُطعِمني ويَسقيني". وأظهر القولين عند العلماء (2) أن مرادَه ما يُطعِمه ويَسقِيه في باطنه، من غير أن يكون أكلاً وشربًا في الفم لوجهين. أحدهما: أنه لو كان يُطعِمه ويَسقِيه من فمِه لم يكن مُواصِلاً، فإن المواصل هو من لا يأكل ولا يشرب، ولو قُدِّرَ أنه أُتِيَ بطعامٍ من الجنة فأكلَه، لكان آكلاً لا مُواصِلًا.   (1) البخاري (1964) ومسلم (1105) من حديث عائشة. وفي الباب عن ابن عمر وأنس وغيرهما، انظر باب الوصال من كتاب الصوم عند البخاري، وباب النهي عن الوصال من كتاب الصيام عند مسلم. (2) انظر "فتح الباري" (4/208،207) ، ففيه الاحتجاج لكل قول ومناقشته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الثاني: أنه رُوِي "إني أَظَلُّ عند ربي"، وهذا يتناول النهار، والأكل في النهار حرامٌ مُفطِرٌ ولو كان من طعام الجنة. فتبين أنه سمَّى ما يرزقه ويُقِيت قلبَه ويُغذيه إطعامًا وإسقاءً. وقد وَصفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالطعم والذوق والوجد والحلاوة ما في القلوب من الإيمان، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1) عن العباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ذاقَ طعمَ الإيمان مَن رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا". فهذا ذائق طَعْمَ الإيمان، وهو ذوق بباطن قلبه، يَظهر أثرُه إلى سائر بدنِه، ليس هو ذوقًا لشيء يَدخلُ من الفم، وإن كان ذوقًا لشيء يدخل من الأذن. ولهذا يقال: البهائمُ تَسْمَنُ من أقواتِها، والآدمي يَسمن من أذنه. وفي الصحيحين (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ثلاث من كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومن كان يُحبُّ المرءَ لا يُحبُّه إلاّ لله، ومن كان يكره أن يَرجع في الكفر بعدَ إذ أنقذَه الله منه، كما يكره أن يُلقَى في النار". فأخبر أن من كانت فيه هذه الثلاث وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، والحلاوة ضدُّ المرارة، وكلاهما من أنواع الطعوم. فبيَّن أنّ الإنسان يجد بقلبه حلاوة الإيمان ويذوق طَعْمَ الإيمان، والله سبحانه هو الذي يُذِيقه طَعْمَ الإيمان، وهو الذي يجعلُه واجدًا لهذه الحلاوة. فالمؤمنون يذوقون هذا الطعم، ويجدون هذا الوجد، وفي ذلك من اللذة والسرور والبهجة ما هو أعظم من لذة أكل البدن وشربه.   (1) برقم (34) . ورواه أيضًا أحمد (1/207) والترمذي (2758) . (2) البخاري (21،16 ومواضع أخرى) ومسلم (43) من حديث أنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 والرب تعالى له الكمال الذي لا يَقدِرُ العبادُ قَدْرَه في أنواع علمِه وحكمته ومحبته وفرحه وبهجته، وغير ذلك مما أخبرت به النصوص النبوية، ودلَّتْ عليه الدلائل الإلهية، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهو في كل ذلك غنيٌّ عن كلِّ ما سواه، فهو الذي يجعل في قلوب العباد من أنواع الأغذية والأقوات والمسارّ والفرح والبهجة مالا يجعله غيره، وهو إذا فرح بتوبة التائب فهو الذي جَعَله تائبًا حتى فَرِحَ بتوبته، لم يحتج في ذلك إلى أحدٍ سواه. والتعبيرِ بلفظ القوت والطعام والشراب ونحو ذلك عما يُقِيتُ القلوبَ ويُغذِّيها كثيرٌ جدًّا، كما قال بعضهم: أَطعمَهم طعامَ المعرفة، وسقاهم شرابَ المحبّة. وقال آخر: لها أحاديثُ من ذِكراكَ يَشغَلُها عن الشَرابِ ويُغْنِيها عن الزادِ وكثيرًا ما تُوصَف القلوبُ بالعطش والجوع، وتُوصفَ بالريّ والشّبَع. وفي الصحيحين (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رأيتُ كأنّي أُتِيتُ بقَدَحٍ، فشربتُ حتى إني لأرى الرِّيَّ يَخرجُ من أظفاري، ثمَّ ناولتُ فَضْلِي عمرَ"، قالوا: فما أوَّلتَه يا رسولَ الله؟ قال: "العلم". فجعل العلم بمنزلة الشراب الذي يُشرَب. وفي الصحيحين (2) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنَّ مَثلَ ما بَعثنَي الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماءَ فانبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء، فشربَ الناس وسَقَوا وزرعوا، وكانت منها   (1) البخاري (82 ومواضع أخرى) ومسلم (2391) من حديث عبد الله بن عمر. (2) البخاري (79) ومسلم (2282) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 طائفة إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبت كلأً، فذلك مثلُ من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهَدى والعلم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به". فقد بيَّن أن مثلَ ما بعثه الله به من الهدى والعلم مثل الغيث الذي تشربه الأرض، فتُخرِج فنون الثمرات، وتمسكه أرض لتنتفع به الناس، وأرضٌ ثالثة لا تنتفع بشربه ولا تمسكه لغيرها. فتبين أن القلوب تشرب ما يُنزله الله من الإيمان والقرآن، وذلك شراب لها، كما أن المطر شراب للأرض، والأرض تَعطَش وتَروَى، كذلك القلب يعطش إلى ما ينزله الله ويَروى به. وهو سبحانه الذي يطعمه هذا الشراب، وهو سبحانه لا يطعمه أحد شيئًا، بل هو الذي يُعلِّم ولا يتعلم من غيرِه شيئًا. وفي مناجاة داود: إني ظَمِئْتُ إلى ذكرك كما تَظمأُ الإبلُ إلى الماء، أو نحو هذا، لبعد الإبل عن الماء وشدة عطشها إليه. وفي مراسلة يحيى بن معاذ لأبي يزيد (1) لما ذكر أن من الناس من شرب براري قال أبو يزيد: لكن آخر قد سقوه بحور السماوات والأرض، وقد أدلعَ لسانَه من العطش، يقول: هل من مزيد، أو ما يشبه هذا. وقد قال القائل: شربتُ الحبَّ كأسًا بعد كأسٍ فما فَنِيَ الشرابُ وما رَوِيْتُ ويقال: فلان ريّان من العلم، ويقال: هذا الكلام يَشفِي العليل ويُروِي الغليل، وهذا الكلام لا يَشفِي العليل ولا يُروِي الغليل. وفي حديث مكحول المرسل (2) : "من أخلصَ لله أربعين يومًا تفجرت   (1) انظر: "حلية الأولياء" (10/40) . (2) أخرجه هنّاد في "الزهد" (678) والمروزي في "زيادات الزهد" ص359 وابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه". وقال ابن مسعود لأصحابه (1) : "كونوا ينابيع العلم مصابيحَ الحكمة أحلاسَ البيوت سُرُجَ الليل جُددَ القلوب أخلاقَ الثياب، تُعْرَفون في السماء وتخفون على أهل الأرض". وقد شبّه حياة القلوب بعد موتها بحياةِ الأرض بعد موتها، وذلك بما ينزله عليها، فيسقيها وتَحيا به، وشبّه ما أنزله على القلوب بالماء الذي ينزله على الأرض، وجعل القلوب كالأودية: واديًا كبيرًا يَسعُ ماءً كثيرًا، وواديًا صغيرًا يَسَعُ ماءً قليلاً، كما قال: (أَنزَلَ من السماء ماءً فَسَالَت أودية بِقَدَرِهَا) (2) . وبيَّن أنه يحتمل السيل زبدًا رابيًا، وأن هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال (17)) (3) . فالأرض تشربُ ما ينفع وتحفظه، كذلك القلوب تشرب ما ينفع وتحفظه، كما ضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله ومثل ما بعثه الله به من الهدى والعلم كغيثٍ أصاب أرضًا، فبعض الأرض قبلت الماء فشربته، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وبعض الأرض حفظته لمن يَسقِي ويزرع، وبعض الأرض قِيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً. ثم قال: "فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك   = أبي شيبة في "المصنّف" (13/231) وأبو نعيم في "الحلية" (5/189) عن مكحول مرسلاً. وأخرجه أبو نعيم بسند آخر عن مكحول عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا، ولا يصح. انظر كلام الألباني عليه في "الضعيفة" (38) . (1) أخرجه الدارمي (262) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/507) . وإسناده ضعيف. وروي نحوه عن علي بن أبي طالب، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/77) . (2) سورة الرعد: 17. (3) من الآية المذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به" (1) . فجعل قبول القلوب بشربها وإمساكها، والأول أعلى، وهو حال من علم وعمل، والثاني حال من حفظ العلم لمن انتفع به. ولهذا قال: "فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا". فالماء أثر في الأولى واختلط بها، حتى أخرجت الكلأ والعشب الكثير، وكالثانية لم تشربه لكن أمسكته لغيرها حتى شربه ذلك الغير. وهذه حال من يحفظ العلم ويؤديه إلى من ينتفع به، كما في حديث الحسن - وبعضهم يجعله من مراسيله (2) - قال: "العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده". وبعض الناس قال: إن. الأول مثل الفقهاء، والثاني مثل المحدثين. والتحقيق أن الذين سماهم فقهاء إذا كان مقصودهم إنما هو فهم الحديث وحفظ معناه وبيان ما يدل عليه، بخلاف المحدث الذي يحفظ حروفه فقط، فالنوعان مثل الممسك الحافظ المؤدي لغيره حتى ينتفع به، لكن الأول فهم من مقصود الرسول مالم يفهمه الثاني.   (1) سبق هذا الحديث قريبًا. (2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/235) والمروزي في "زوائد الزهد" ص407 وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/661) عن الحسن مرسلاً. ورواه مكي بن إبراهيم عن هشام بن حسان عن الحسن من قوله، كما أخرجه الدارمي. ورواه يحيى بن يمان عن هشام عن الحسن عن جابر مرفوعًا به، أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/346) وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/73) ، ويحيى بن يمان ضعيف. انظر تعليق الألباني على "المشكاة" (270) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه وحفظه وأداه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنما القسم الأول من شرب قلبُه معناه فأثر في قلبه كما أثّر الماء في الأرض الذي شربته، فحصل له به من ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكل عليه والإخلاص له، وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولابد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر الكلأ والعشب. قال الحسن البصري (1) : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل. وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". وهذا مبسوط في مواضع، مثل "كتاب الإيمان وشرح أحاديثه وآياته" (3) وغير ذلك (4) . والسلف كانوا يجعلون الفقيه اسمًا لهذا، والمتكلم بالعلم بدون هذا يسمونه خطيبًا، كما قال ابن مسعود (5) : إنكم في زمنٍ كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ خطباؤه، كثيرٍ معطوه قليلٍ سائلوه؛ وسيأتي عليكم زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليل فقهاؤُه، كثيرٌ سائلوه، قليلٌ مُعطوه".   (1) أخرجه الخطيب في "اقتضاء العلم العمل" (56) . (2) البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير. (3) ضمن "مجموع الفتاوى" (7/187 وما بعدها) . (4) انظر "مجموع الفتاوى" (9/307-319، 14/119-122) . (5) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (789) وعبد الرزاق في "المصنف" (3787) والطبراني في "الكبير" (9496،8567) من طرق عن ابن مسعود موقوفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وفي حديث زياد بن لبيد الأنصاري (1) لما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا أوانُ يُرفع العلم"، فقال له زياد: كيف يُرفع العلمُ وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنَّه ولنُقرِئنَّه أبناءَنا ونساءَنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كنتُ لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أوَ ليست التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا يُغني عنهم؟ ". وقد قال الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)) (2) . وقال تعالى: (ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يَفْقَهُونَ (7)) (3) . وقال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يَفقَهُونَ بِهَا) الآية (4) . وفي الحديث (5) : "خصلتان لا تكونان في منافق: حسنُ سَمْتٍ   (1) أخرجه أحمد (4/160، 218، 219) وابن ماجه (4048) وأبو خيثمة في "العلم" (52) . وهو حديث صحيح. وأخرجه أحمد (6/26) والبخاري في "خلق أفعال العباد" ص42 من حديث عوف بن مالك. وأخرجه الدارمي (294) والترمذي (2653) من حديث أبي الدرداء. وفي حديثهما ذكر زياد بن لبيد وسؤاله. (2) سورة النساء: 78. (3) سورة المنافقين: 7. (4) سورة الأعراف: 179. (5) أخرجه الترمذي (2684) من حديث أبي هريرة. وقال: هذا حديث غريب. وصححه الألباني في "الصحيحة" (278) بمجموع طرقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ولا فقهٌ في الدين". فإن حسن السمت صلاح الظاهر الذي يكون عن صلاح القلب، والفقه في الدين يتضمن معرفة الدين ومحبته، وذلك ينافي النفاق. وقال الكفار لشعيب: (يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول) (1) مع أن شعيبًا خطيب الأنبياء. وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الناس معادنُ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". وهذا إنما يكون بفهم القلب للحق، وأتباعه له. وفي الصحيحين (3) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأتْرُجَّةِ طَعْمها طيّبٌ وريحُها طيّبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريحَ لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريحَ لها". فهذا قارىء القرآن يسمعه الناس وينتفعون به وهو منافق، وقد يكون مع ذلك عالمًا بتفسيره وإعرابه وأسباب نزوله، إذ لا فرق بين حفظه لحروفه وحفظه لمعانيه، لكن فهم المعنى أقرب إلى أن ينتفع الرجل به، فيؤمن به ويحبه ويعمل به، ولكن قد يكون في القلب موانع من اتباع الأهواء والحسد والحرص والاستكبار، التي تَصُدُّ القلب عن اتباع الحق، قال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ   (1) سورة هود: 91. (2) أخرجه البخاري (3493، 3496، 3588) ومسلم (2638) من حديث أبي هريرة. (3) البخاري (5020 ومواضع أخرى) ومسلم (797) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)) (1) . فهؤلاء لا خير فيهم يقبلون الحق به إذا فهموا القرآن، فهو سبحانه لا يُفهِمهم إياه، ولو علم فيهم خيرًا لأفهمهم إياه، ولمّا لم يكن فيهم خير فلو أفهمهم إياه لتولّوا وهم معرضون، فيحصل لهم نوع من الفهم الذي يعرفون به الحق، لكن ليس في قلوبهم قصدٌ للخير والحق وطلبٌ له، فلا يعملون بعلمهم ولا يتبعون الحق. وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبُيِّن أن مثلَ هذا العلم والفهم الذي لا يقترن به العمل بموجبه لا يكون تامًّا، ولو كان تامًّا لاستلزم العمل، فإن التصوِر التام للمحبوب يستلزم حبَّه قطعًا، والتصوّر التام للمخوف يوجب خوفه قطعًا، فحيث حصل نوع من التصور ولم تحصل المحبة والخوف لم يكن التصور تامًّا. قال بعض السلف (2) : من عرف الله أحبَّه. ولهذا قال السلف: كل من عصى الله فهو جاهل. وقال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً (3) . وقيل للشعبي: أيها العالم! فقال: إنما العالم من يخشى الله (4) . وهذا مبسوط في مواضع.   (1) سورة الأنفال: 22-23. (2) روي عن عتبة الغلام (كما في "الحلية" (6/236 و10/81) ، وعن الحسن البصري (كما في "الزهد" لأحمد ص279) ، وعن بديل (في "الزهد" لابن المبارك ص209 و"الحلية" 3/108) . (3) أخرجه أحمد في "الزهد" ص158 وابن المبارك في "الزهد" ص 15 عن ابن مسعود. وأخرجه الدارمي (389) وأبو نعيم في الحلية (2/95) عن مسروق. (4) انظر: "جامع بيان العلم" لابن عبد البر (1/538) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ولهذا قال تعالى: (هُدًى للمتقينَ (2)) (1) ، وقال: (ليُنذِرَ مَن كاَنَ حَيًا) (2) ، وقال: (سَيَذكرُ مَن يخشَى (10)) (3) ، إلى أمثال ذلك. ولهذا يجعل الرسول نفس الفقه موجبًا للسعادة، كما يجعل عدمَه موجبًا للشقاء، ففي الصحيحين (4) أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". فجعل مسمى الفقه موجبًا لكونهم خيارًا، وذلك يقتضي أن العمل داخل في مسمى الفقه لازم له. وفي الصحيحين (5) أنه قال: "من يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين"، فمن لم يفقّهه في الدين لم يُرِد به خيرًا، فلا يكون من أهل السعادة إلاّ من فقّهه في الدين. والدين يتناول كلَّ ما جاء به الرسول، كما في الصحيحين (6) لمّا جاء جبريل في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم". فجعل هذا كلَّه دينًا. والمقصود هنا كان الكلام في أن الله يُطعِم القلوب ويسقيها، وقد قال الله تعالى في حق عُبَّاد العجل: (وأشربوا في قلوبهم العجل) (7) ، أي أُشرِبوا حُبَّه. فإذا كان المخلوق الذي لا تجوز به محبته قد يحبه   (1) سورة البقرة: 2. (2) سورة يس: 70. (3) سورة الأعلى: 10. (4) سبق الحديث وتخريجه قريبًا. (5) البخاري (71 ومواضع أخرى) ومسلم (1037) عن معاوية. (6) البخاري (4777،50) ومسلم (9) عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب. (7) سورة البقرة: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 القلب حبًّا يجعل ذلك شرابًا للقلب، فحب الربّ تعالى أن يكون شرابًا يشربه قلوب المؤمنين أولى وأحرى. قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله) (1) . ووَصْفُ الشعراءِ وغيرهم أن القلوب تشربُ المحبة، وضَرْبُهم المثلَ في ذلك بالشراب الطاهر، وأن شرب المحبة أعلى الشرابين كثير جدًّا. وهو سبحانه الذي يُطعِم عباده المؤمنين، ويسقيهم شراب معرفته ومحبته والإيمان به، وهو غني عن جميع خلقه في معرفته ومحبته وإيمانه - إذ كان من أسمائه "المؤمن" -، وفي توحيده وشهادته وسائر شئونه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا. وأهل الشرك الذين يعبدون غير الله ومن ضاهاهم من أهل البدع، الذين اتخذوا من دون الله أوثانا يحبونهم كحبّ الله، لهم شراب من محبتهم وذوق ووجد، لكن ذلك من عبادة الشيطان لا من عبادة الرحمن، فلهذا وقعت باطلاً. فإن البدن كما يتغذى بالطيب والخبيث، كذلك القلوب تتغذى بالكلم الطيب والعمل الصالح، وتتغذى بالكلم الخبيث والعمل الفاسد، ولها صحة ومرض، وإذا مرضت اشتهتْ ما يضرها وكرهتْ ما ينفعها. وقد ضرب الله مثل الإيمان الذي هو كلمة طيِبة بشجرة طيبة، ومثل الشرك الذي هو كلمة خبيثة بشجرة خبيثة، فهذا أصله كلمة طيبة في قلبه وهي كلمة التوحيد، وهذا أصله كلمة خبيثة في قلبه وهي كلمة الشرك؛ فهذا يتغذى بهذه الكلمة الطيبة، وهذا يتغذى بهذه   (1) سورة البقرة: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الكلمة الخبيثة، كما تتغذى الأبدان بالطيب والخبيث. قال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) (1) ، وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) (2) . فالتوحيد والإيمان كلمة طيبة، مثلها مثل الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ والشرك والكفر كلمة خبيثة اجتُثَّتْ من فوق الأرض مالها من قرار (3) ، ليس لها أصلٌ راسخ ولا فرع باسق. ولهذا كان أهل الشرك والضلال لهم مواجيد وأذواق وأعمال بحسب ذلك، لكنها باطلة لا تنفع، إذ هم في جهل بسيط يعملون بهواهم بلا اعتقادٍ ونظرٍ، أو في جهلٍ مركب يحسبون أنهم على هدى وهم على ضلال، والمؤمنون يعملون بعلم وهدًى من الله. ولهذا قال تعالى: (الله نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ والأرض مثل نوره كمشكاة) الآية إلى قوله (نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)) (4) . ثم قال: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه) إلى آخر الآية (5) . ثم ضرب للكفار مثلين للجهل المركب والبسيط فقال: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا) الآية (6) . فهذا مثل الجهل المركب، وهو الاعتقادات   (1) سورة المؤمنون: 51. (2) سورة البقرة: 172. (3) إشارة إلى الآيات 24-26 من سورة إبراهيم. (4) سورة النور: 35. (5) الآية 36 من السورة. (6) الآية 39 منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الفاسدة. ثم قال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) (1) . وهذا مثل الجهل البسيط. وأهل الضلال يذكرون المحبة وشراب الحبّ ونحو ذلك، وكثيرًا ما يمثلون ذلك بشراب الخمر دون غيرها من الأشربة، ويذكرون أوعية الخمر كالدَّنّ والكأس ونحو ذلك، ومواضعها كالحان أو دَير الرهبان. والخمر توجب الغيّ، ولمّا عُرِض على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةَ المعراج اللبن والخمر أخذ اللبن، فقيل له: "أصبتَ الفطرةَ، لو أخذتَ الخمر لغَوَتْ أمتك" (2) . وكلما كان القوم أعظم عنتًا وضلالاً مثلوا بما هو أقبح من شرب الخمر، فإن شربها وإن كان قبيحًا فهو في الحاناتِ مواضعِ الفحش أقبح، وفي مواضع الكفر كديور الرهبان أقبح وأقبح. ويذكرون السُّكْر من شراب المحبة، كالسُّكْر الذي يعتري من شرب الخمر، كقول بعضهم (3) : شَرِبنا على ذِكرِ الحبيبِ مُدَامةً سَكِرْنا بها من قبلِ أن يُخلَقَ الكَرْمُ وهذا الحب والشرب من عبادة الشيطان، لا من عبادة الرحمن. والتشبيهُ بالخمر يبين أن ذلك من عبادة الشيطان الذي قال الله فيه: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن   (1) الآية 40 منها. (2) أخرجه البخاري (3394،3437،4709،5576،5603) ومسلم (168) من حديث أبي هريرة. (3) هو ابن الفارض، انظر ديوانه (ص140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)) (1) . وذلك من وجهين: أحدهما: أن شرب الخمر محرَّم، فحبُّ الله ورسوله وشرب القلوب لهذا الحبّ لا يكون كشرب الخمر، وإنما يكون كشرب الخمر شرب الحب الذي لا يحبه الله ورسوله، كحب المشركين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحبّ الله. الثاني: أن شرب الخمر يُوجب السُّكر وزوال العقل، فهو والسكر بالحب واتباع الأهواء حالُ الكفر، كقوم لوط الذين قال الله فيهم: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72)) (2) . وقد قيل (3) : سُكرانِ سُكْرُ هوى وسكرُ مُدامة ومتى إفاقةُ مَن به سُكرَانِ ومحبة المؤمنين لله ورسوله لا تستلزم زوال العقل، بل هم أكمل الناس عقلاً، وإنما يُوجب متابعة الرسول، كما قال: (قلْ إِن كُنتُم تُحِبونَ الله فَاَتَّبِعُوني يُحبِبكمُ الله) (4) . فالمحبون لله إذا اتبعوا الرسول أحبهم الله. واتباعُ الرسول فِعلُ ما أمر به وتركُ ما نهى عنه، وهو لم يأمر بما يزيل العقل قَط، لا باطنًا ولا ظاهرًا، فلم يأمر بأكل شيء مما يغيّر العقل سواء كان معه سكر كالخمر، أو لم يكن كالبَنْج، بل نهى عن ذلك. وكذلك ما في القلوب من حبّ الله ورسوله وحقائق الإيمان التي يحبها الله ورسوله، ليس فيما أمر الله به ورسوله منها ما يوجب زوال العقل ولا الموت ولا الغشي والصعق. ولهذا لم يكن الصحابة   (1) سورة المائدة: 91. (2) سورة الحجر: 72. (3) البيت بلا نسبة في "تاج العروس" (سكر) . (4) سورة آل عمران: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أفضل القرون يعتريهم شيء من هذا، ولكن بعض من بعدهم ضعفت قلوبهم عن بعض ما يرد عليها من خوف أو غيره. فصار فيهم من يموت إذا سمع الآية، وفيهم من يُغشَى عليه. وهؤلاء معذورون مع الصدق والاجتهاد في اتباع الرسول، ويشكر الله لهم ما معهم من الإيمان والخوف الذي ..... (1) ، وهو ما يحضّ على فعل الواجب وترك المحرّم، وأما الزيادة التي أوجب لهم الموت فحسبهم أن يكونوا فيها معذورين لا مأجورين، كالحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، فإذا اجتهد فأخطأ فله أجر. ومن ظنَّ أن الميت من هؤلاء بسماع آية أفضل من شهداء بدر وأحدٍ ونحوهما، وجعل هؤلاء قتلى القرآن وشهداء الرحمن، وأولئك ماتوا بسيوف الكفار، فقد غلط غلطًا عظيمًا، فإن أولئك فعلوا ما أمروا به وقُتِلوا شهداء، فهم من أفضل ما خلق الله، وهؤلاء فعلوا مالم يؤمروا به، إمّا تعدّيًا للحدّ، وإمّا تفريطًا في الحقّ، فماتوا بهذا السبب موتًا ليس في سبيل الله ولا جهاد أعدائه، ولكن لضعف قلوبهم عما ورد عليها. والله تعالى ما أنزل القرآن ليقتل به أولياءه، ولا ليُشْقِيهم به، بل ليهديهم وليَشْفِيَهم ويُنَوِّرهم، فهؤلاء ضلُّوا الطريق، ولهذا أنكرَ حالَهم من أدركهم من الصحابة، مثل ابن عمر وابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم، كما هو مبسوط في موضع آخر. إذ المقصود هنا أنّ الرب تعالى هو الذي يُقيت عباده، ويغذيهم لأرواحهم وأجسادهم، وهو مستغنٍ عن عبادِه من كل وجهٍ، فهو   (1) كلمة غير مقروءة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 بنفسه عالم قادر، وكلُّ ما يعلمه العباد فهو من تعليمه وهدايته، وما يقدرون عليه فهو من إقدارِه. وهو سبحانه وتعالى كما قال: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيء من علمِه إلا بما شاء) (1) ، وهو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. وإذا كان ما للعباد من علم وقدرة فمنه امتنع أن يحصل له منهم علم أو قدرة، فإن ذلك يستلزم الدور القبلي، إذا كان المعلم المقدر لغيره يمتنع أن يكون علمه وقدرته منه. وأيضًا فمن جعل غيرَه عالمًا قادرًا كان أولى أن يكون عالمًا قادرًا، قال تعالى: (قُلْ مَن يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر فسيقولون الله فَقُل أفلا تتقون (31) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32)) إلى قوله: (قُل هَل مِن شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِىَ إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتبع أَمن لا يَهِدِّى إلاّ أَن يُهدَى فما لَكم كيَف تَحكمون (35)) (2) . فقوله: (أَفَمَن يَهْدِىَ إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتبع أَمن لا يَهِدِّى إلاّ أَن يُهدَى) فيه قراءتان مشهورتان (3) : الإدغام "يهدِّي"، وأصله يهتدي، فسكنت الياء، وأدغمت في الدال بعد أن قُلِبتْ دالاً، وأُلقِيتْ حركتها على الهاء. فأكثر القراء يفتحون الهاء، ومنهم من يسكنها، ومنهم من يختلس. والقراءة الأخرى بالتخفيف "يَهْدِي"، ثم قيل: إنه فعل متعدي، أي يهدي غيره، وقيل: بل فعل لازم، أي يهتدي، وحكوا "هَدَى" بمعنى اهتدى، وأنه يستعمل لازمًا ومتعديًا. وهذا أصح، والمعنى: أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع أم من لا يهتدي   (1) سورة البقرة: 255. (2) سورة يونس: 31-35. (3) انظر: "زاد المسير" (4/30) . وفي تفسير القرطبي (8/341-342) ست قراءات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 بنفسه إلاّ أن يهديه غيره، وهذا يتناول كل مخلوق، فكل مخلوق لا يهتدي إلاّ أن يهديه الله. ففي الآية النهي عن اتباع كل مخلوق، وأنه لا يتبعُ إلاّ الله وحده، الذي يهدي إلى الحق. فكل هُدًى في العالَم وعلمٍ فهو من هذا وتعليمه، ويمتنع أن يكون غيره هاديًا له ومعلمًا. وقوله: (أَمن لا يَهدِىَ إلاّ أن يُهدَى) يتضمن نفي اهتدائه بنفسه مطلقًا، وأنه لا يهتدي بحالٍ إلاّ أن يهديه غيره. وهذا حال جميع المخلوقات. وقد بين أن هذا أحق بالاتباع من هذا، لأنه يهدي الحق وهذا لا يهدي، وذلك نهي عن عبادة ما سواه، وعن استهدائه وعن طاعته، لأن كل معبودٍ فهو متبوع، يتبعه عابده، فإذا لم يتبعه لم يكن عابدًا له. ولهذا يُجْزَون يومَ القيامة بنظير أعمالهم، فإن الجزاء من جنس العمل، كما في الأحاديث الصحيحة: "ينادي منادٍ ليتبعْ كلُّ قومٍ ما كانوا يعبدون، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمر القمرَ"، وذكر إتيان الحق في صورة غير الصورة التي يعرفون، يمتحنهم هل يتبعون غير ربّهم، وإنهم يستعيذون بالله منه، ويقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيتجلى لهم، ويخرُّون له سُجَّدًا إلا المنافقين، فإن ظهورهم تصير مثل قرون البقر، ثم ينطلق ويتبعونه. والحديث في ذلك طويل، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد (1) . وفي مسلم [من] حديث جابر (2) ،   (1) البخاري (7437، 7439 ومواضع أخرى) ومسلم (182،183) . (2) موقوفًا برقم (191) . وأخرجه أحمد (3/345، 383) من حديث جابر مرفوعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وهو أيضًا معروف من حديث أبي موسى (1) ، ومن حديث ابن مسعود وهو أطولها. آخره، والله أعلم، الحمد لله وحده. ***   (1) أخرجه أحمد (4/407،408) وعبد بن حميد وغيرهما. انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/291-292) . (2) روي عنه موقوفًا ومرفوعًا. وقد تكلم عليه المؤلف في "مجموع الفتاوى" (6/401-406) وقال: "إسناد حديث ابن مسعود أجود من جميع أسانيد هذا الباب". يقصد رؤية المؤمنين ربهم في الجنة في مثل يوم الجمعة من أيام الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فصل في سورة حم السجدة [فصلت] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فصل سورة حم السجدة مشتملة على تقرير أمر القرآن بما تضمنه أصول الإيمان، التي هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورُسُلِه واليوم الآخر، بذلك فُتِحتْ وبذلك خُتِمتْ. كما أنّ سورة الشورى أيضًا بدأتْ بالوحي، وختمتْ بالوحي المتضمن للقرآن والإيمان. قال تعالى: (حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قُرْءَانًا عَرَبيًّا لقوم يَعْلَمُونَ (3)) (1) في ذكر القرآن ومستمعيه، إلى قوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه) (2) يتضمن الإخلاص والتوحيد والنبوة. وجماع الأمر الاستقامة إليه والاستغفار، كما في قوله: (فأعلم أنه لا إله إلا الله وَاَسْتَغفر لِذَنبِك) (3) ، وكما قال: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) (4) . وذم المشركين الذين لا يؤتون الزكاة، فإن الشرك ضد الاستقامة إليه، التي هي الإخلاص، كما فسَّر أبو بكر الصديق قوله: (إِنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (5) قال: استقاموا إليه، فلم يلتفتوا يمينًا ولا شمالاً. فإن المستقيم ضدّ الزائغ، فالمستقيم إليه ضدّ الزائغ عنه، والزائغُ عنه المشرك به. وعدمُ إيتاء الزكاةِ - وهو ما تزكو به   (1) سورة فصلت: 1-3. (2) الآية: 6. (3) سورة محمد: 19. (4) سورة هود: 3. (5) سورة فصلت: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 النفوسُ من الذنوب فتصير زكيَّةً - ضِدُّ الاستغفار الذي يمحو الذنوب، فتزكو النفوس. ففي ذلك جمعٌ بين الإخلاص والعمل الصالح، وهو الإيمان والعمل الصالح وإسلام الوجه لله مع الإحسان. وكل واحد من التوبة والصدقة يمحو الذنوب، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصدقةُ تُطفِىء الخطيئةَ كما يُطفِىء الماءُ النارَ" (1) . ولهذا قال سبحانه: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) (2) ، وقال في التوبة: (إنَ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (3) ، وفي الصدقة: (خُذ مِن أموالهم صدقة تطهرهم تزكيهم بِهَا) (4) . ثمَّ ذكر تقرير الربوبية بخلق السماوات والأرض وما فيهما، وبدء العالم. ثم ذكر أخبار الأشقياء والسعداء في الدنيا والآخرة، فذكر الوعيد في الدنيا بقصّ الأمم المتقدمة، وفي الآخرة بذكرِ ما يكون في القيامة، فقال: (فَإِنْ أَعرَضوْا فَقُل أَنذَرتُكمُ صاعِقَة) إلى قوله: (وَيومَ يُحشَرُ) (6) ، فيشبه والله أعلم أي "وأنذرتكم يومَ يُحشَر"، وقد يقال: "واذكرْ يوم يحشر"، إلى قوله: (إِنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (7) ، فإنه ذكر حشر حالهم في الدنيا والآخرة، كما ذكر سوء مُنقلَبِ أولئك في الدنيا والآخرة.   (1) أخرجه أحمد (5/231) والترمذي (2616) وابن ماجه (3973) من حديث معاذ بن جبل. وهو حديث صحيح. (2) سورة التوبة: 104. (3) سورة البقرة: 222. (4) سورة التوبة: 103. (5) سورة فصلت: 13. (6) الآية: 19. (7) الآية: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ثمَّ ذكر الدين المأمور به، وهو الخلق العظيم، وهو دين الإسلام، ليجمع بين إسلام الوجه لله وبين العمل الصالح بين القصد والعمل، ملة إبراهيم ودين محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليمًا. ثم قرَّر البعث بالدليل. ثمَّ عاد إلى مخاطبةِ الكافرين بالذكر وتقرير أمره، فقال: (إِنَّ الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا) (1) إلى قوله: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41)) (2) إلى قوله- وهو كان المقصود بالكلام هنا -: (قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به مَن أَضَل مِمَّن هُوَ في شِقَاق بَعِيد (52)) (3) ، فإن الضمير عائد إلى الكتاب، وهو القرآن. ثم قال: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53)) (4) ، فالضمير في قوله (أنه الحق) هو الضمير في قوله (إن كان من عند الله ثم كفرتم بِه) ، وذلك هو القرآن، أي حتى يتبين لهم أن الكتاب هو الحق لا ما خالفه. ثم قال: (أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53)) (5) أي أولم يكفِ بشهادته عليه أنه منزل من عند الله، من الآيات المرتبة في الآفاق وفي الأنفس، كما قال: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً (166)) (6) . وشهادة الله تعالى   (1) الآية: 40. (2) الآية: 41. (3) الآية: 52. (4) الآية: 53. (5) الآية السابقة. (6) سورة النساء: 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 يعلم بما به يعلم أن هذا كلامه، وأن المبلغ صادق، مثل كونهم لا يقدرون على الإتيان بمثله ولا بمثل عشر سورٍ منه ولا سورة واحدة، وما امتاز به من الوصف الذي باين به كلام المخلوقين مما هو معلوم بالعقل والفطرة. كما أصاب عتبة بن ربيعة ونحوه من أكابر عقلاء قريش لمّا سمعوا منه (حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2)) (1) ، وكما قال فيه عاقلُهم وفيلسوفُهم ورئيسُهم الوليد بن مغيرة (2) ، وغير ذلك. فالكفاية هنا تُشبِه الكفاية في قوله: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله) إلى قوله: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) (3) . فنزولُ الكتاب يتلَى عليهم آية كافية، وهو شهادة الله بما أخبر فيه، وبأن الرسول رسولُه، ((أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53)) . فهذا ونحوه طرق يُعلَم بها شهادةُ الله. وثَمَّ طرق أخرى، وهي إخبار رسل الله المتقدمين، وإخبار أممهم عنهم بمثل ما أخبر به هذا الرسول، فلذلك قال: (قُل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم وَمَن عِندَه عِلْمُ اَلكِتَبِ) (4) ، وقال:   (1) سورة فصلت: 1-2. وخبر عتبة رواه ابن إسحاق باسناد منقطع، انظر "سيرة ابن هشام" (1/293،294) . وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (14/295-297) وأبو نعيم في "الدلائل" (1/234) والبيهقي في "الدلائل" (2/202-203) موصولاً من حديث جابر. وهو حديث حسن. (2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/506-507) والبيهقي في "الدلائل" (2/198-199) من حديث ابن عباس. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد"، وقال البيهقي بعد إيراده من عدة طرق: "كلّ ذلك يؤكد بعضه بعضًا". (3) سورة العنكبوت: 50-51. (4) سورة الرعد: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ) (1) ، وقال: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ) (2) ، وقال: (أَم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) إلى قوله: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) (3) . فالقرآن قد أخبر الله فيه بأمور، وإخباره بها شهادته بها، وكفى بالله شهيدًا، فنفسُ إخباره وشهادته بما شهد به من أمر الربوبية والرسالة والثواب والعقاب وأحوال أوليائه وأعدائه كافٍ، وهو الطريق السمعية. وقد قال: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (4) . فهذه الطريق البصرية التي قد تُسمَّى العقل، وهو أن يرد في أنفسهم وفي الآفاق ما يدلُهم على مثل ما دلَّ عليه القرآن، فيروا حالَ المؤمنين بمحمدٍ وحالَ الكافرين به كما أُخْبِروا به عن المتقدمين، ويروا أيضًا حالَهم إذا آمنوا أو كفروا، ويروا أيضًا الدلائل الدالة على وحدانية الخالق وصفاته التي شهد بها الرب. فالكلام في شيئين: في أن القرآن منزل من عند الله، وهذا قد شهد به الله بما أتى به، وسيُريهم آياتٍ يعاينونها تُبيِّن أنه منزل من عند الله. والثاني: الكلام فيما أخبر به القرآن أيضًا كما تقدم، وأن الحق يتناول نسبته إلى الله، ويتناول أنه صدق في نفسه، واللهُ شهيد بالأمرين، وقد أرى آياتِه على الأمرين.   (1) سورة الأحقاف: 10. (2) سورة الشعراء: 197. (3) سورة البقرة: 140. (4) سورة فصلت: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 مسألة في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 مسألة في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "أتدري ما حقُّ اللهِ على العباد؟ " (1) ، وفي قوله: وما حق العبادِ على الله"، فهل حَقُّهم واجبٌ عليه كما حقُّه واجبٌ عليهم على ظاهرِ اللفظ أم مجازٌ؟. أجاب شيخ الإسلام بقية السلف الكرام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابنُ تيمية أيَّده الله: الحمد لله ربّ العالمين. هذه المسألة ونحوُها للناس فيها ثلاثة أقوال، طَرَفانِ ووَسَط (2) : طائفة تقول: إنّ الله يجب عليه أشياء، ويَحْرُمُ عليه أشياء، بالقياس على المخلوقين، وإنّ العباد بقياسِ عقولهم يُوجِبون عليه ويُحرِّمون عليه، كما يَجبُ على العبادِ ويَحْرُمُ عليهم، فيقولون: يجب عليه أن يَفعَلَ في حقِّ كلِّ عبدٍ ما هو الأصلح له في دينه، ولهم في الصلاح الدنيوي نزاع. ويقولون: إنه لا يَقدِر على أن يفعلَ غيرَ ما فَعَلَ، وإن العبادَ يَقدِرون على مالا يَقدِرُ عليه اللهُ، وإنَّه لا يَقدِرُ أن يَهدِيَ ضالاًّ ولا يُضِلّ مُهتديًا. وهذا قول القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرِهم. والقول الثاني: قول من يقول: إنّ الله سبحانَه وتعالَى لا يُوجبُ هو على نفسِه شيئًا، ولا يُحَرِّمُ على نفسِه شيئًا، ولا يُنَزَّه عن فعلٍ من الأفعال، ويجوز أن يقع منه كل ما هو مقدور، فلا يَقدِرُ أن يَظْلِمَ أحدًا، بل الظلمُ ممتنع لذاته، وإنّه ليس في أسمائه الحسنى وصفاتِه   (1) أخرجه البخاري (7373 ومواضع أخرى) ومسلم (30) . (2) انظر "مجموع الفتاوى" (18/147 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 العُلاَ ما يَدُلُّ على تنزُّهِه عن أفعالٍ مذمومة، ولا عن اتخاذِه ولدًا، ولا عن أمرِه بأن يُشْرَكَ به. وخالفوا قولَه: (قَالُوا أتَّخَذَ الله وَلَدًا سبحانه) (1) ، وقالوا: إنه يجوز أن يأمر بالفحشاء والمنكر، وقالوا: لا يُنَزَّهُ قَطُّ عن فعل من الأفعال، ولا أمر من الأمور، وإنْ كان أمرًا بالشركِ والكذِب والظلم، وإن كان نهيًا عن الصدق والعدل والتوحيد، ولا يميز بين ماَ يفعلُه وما لا يفعلُه إلاّ بما جَرتْ به العادةُ، مع أنّ العاداتِ يمكنُ خَرْقُها، أو أخبار الأنبياء، مع أنّ خبرهم عند طائفةٍ منهم لا يُفيد اليقينَ، وخبرهم بالوعدِ والوعيد عند أكثرهم لا يُعلَمُ منه شيء. ويقولون: إنه يَخلُق ما يَخلُق لا لسببٍ ولا لحكمةٍ. وهذا قول الجهمية الجبرية ومَن اتبعهم من المتأخرين. والطائفتان تقولانِ: إن القادرَ يُرجح أحدَ المتماثلَينِ لا لمرجِّحٍ، لكن هؤلاء يجعلون فعلَه كلَّه كذلك، وأولئك يجعلونه كذلك في الابتداء. وقد ذهب إلى كل من القولين طوائفُ من أعيانِ الناس، وإن كان القولانِ ضعيفينِ (2) . والقول الثالث ما دلَّ عليه الكتابُ والسنَّة، وكان عليه سلفُ الأمّة وأئمَّتُها، كالأئمة الأربعة وغيرهم: إنه سبحانَه عليم حكيم رحيم، وإنّه كتبَ على نفسِه الرحمةَ كما أخبرَ في كتابه (3) ، وحَرَّم على نفسه الظلم، كما ثبتَ في الحديث الصحيح الإلهي عن أبي ذرّ الغِفَاري (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يُخبِر به عن ربه عزَّ وجلَّ أنه قال: "يا عبادي، إني   (1) سورة يونس: 68. (2) في الأصل: "ضعيفان". (3) سورة الأنعام: 12. (4) أخرجه مسلم (2577) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 حَرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا". وإنّه أوجبَ على نفسه نَصْرَ المؤمنين، كما قال تعالى: (وكان حقًا علينا نَصرُ اَلْمُؤمِنينَ (47)) (1) . فليس للمخلوق بنفسه على اللهِ حقٌّ، ولا يُقاسُ الخالقُ بالمخلوق فيما يفعلُه، كما لا يقاسُ بالمخلوقِ في صفاتِه وذاتِه، بل ليس كمثلِه شيء، لا في ذاتِه ولا في صفاتِه ولا في أفعالِه، ولكن هو كتبَ على نفسِه الرحمةَ، [وحرَّم على نفسه] الظلمَ كما تقدَّم. وقد اتفق المسلمون على أنه أخبرَ بما أخبَر به من ثواب المؤمنين وعقوبة الكافرين، وأنه صادقٌ لا يُخلِفُ الميعاد، فاتفقوا على ثبوتِ الخبر، وإنما النزاعُ في كتابتِه على نفسِه وتحريمِه على نفسه، لكن النصوصَ دَلَّتْ على ذلك. وكذلك حَلفُه "لَيفعلَنَّ" كقوله تعالى: (لأملأن جهنم منك وممن تَبِعَكَ منهم أجمعين (85)) (2) ، وقوله: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من اَلجِنَّةِ والناس أجمعين (13)) (3) . ومثلُ هذا القسم ليسَ خبرًا محضًا، بل فيه معنى الإرادة والعهد، كما في الوعد. ومن قال بالقولِ الثاني يتأوَّلُ كتابتَه على نفسِه الرحمةَ وتحريمَه على نفسِه الظلمَ، بأن المرادَ إخبارُه بوقوع ذلك وعَدَمِ وقوع هذا. والظلم عندهم هو ما يَمتنع أن يكون مقدوَرًا، وما يمتنع أنَ يكون مقدورًا لا يَحْرُم، وقد علمَ الناسُ أنه لا يكون، فلا فائدةَ بالإخبارِ أنه لا يكون.   (1) سورة الروم: 47. (2) سورة ص: 85. (3) سورة السجدة: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وأيضَا فإنه ذكر ذلك مقدّمةً لنهيِه عبادَه عن الظلمِ بقوله: "يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالموا". فلو أرادَ به مالا يكون مقدورًا كان المناسبُ لهذا أن يحرم على عبادِه مالا يقدرون عليه. وهذا يناسبُ قولَ من قال: الاستطاعةُ لا تكون إلاّ مع الفعل، فيكون قد حرَّمَ عليهم ما يفعلونه من ظلمِ بعضهم بعضًا، ولا حَرَّم عليهم الشركَ الذي هو ظلمٌ عظيم، ولا حرَّمَ عليهم ظلمَ أنفسِهم. وإذا قيل: أراد بالظلم الذي حرَّمَه على نفسِه مالا يكونُ مقدورًا، وبالظلم الذي حَرَّمَه على عبادِه ما يَقدِرون عليه، لم يكن ذكر هذا مناسبًا لذكرِ هذا، وهو قد قال: "يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالَموا". الضمير إلى الظلم، فلو كان الأول مالا يُقْدَر عليه، لقيل: لا معنى لتحريمه هذا على نفسِه. والمناسب إذا لم يُحرِّم إلاّ ما يكون مقدورًا لهم، وإلاّ فالمعنى على قولِ هؤلاء: حرَّمتُ على نفسيْ إذْ أَجعلُ الشيءَ موجودًا معدومًا، وأَجعلُ الجسمَ متحركًا ساكنًا، وأجعلُ المحدَثَ قديمًا والقديمَ مُحدَثًا، ونحو ذلك من الأمور التي ليست شيئًا باتفاق العقلاء، ولا يَتصوَّرُ العقلُ وجودَها في الخارج، وحَرَّم عليهم ما يَقدِرون هم عليه، وهو إنما ذكر هذا ليُقِيمَ الحجةَ على خلقِه بقوله: يا عبادي إني حرَّمتُ الظلمَ على نَفْسِي، فأنتم أولى أن يكون الظلم محرَّمًا عليكم، لأنه سبحانَه على كلِّ شيء قدير، ورب كلِّ شيء وخالقُه، ولا يتصرَّفُ إلاّ في مُلكِه، لا في ذلك غيرُه، وليس فوقَه آمر يأمره، فإذا كان مع كمالِ قدرته وعِزَّتِه ووحدانيّتِه قد حرَّمَ الظلمَ على نفسِه، فكيف بالمخلوقِ الذي فوقَه آمر يأمرُه، ومُجَاز يُجازيه، وقد يَتعدّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فيتصرفُ فيما لا يملكه. وأما كونُه يقول: حرَّمتُ على نفسي ماليسَ مقدورًا لي، كالجمع بين الضدَّين ونحو هذا، ولا يَقدِرُ أحدٌ على جزايته وعقوبته، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يُريد، لا مُعقَّب لحكمِه، ولا رادَّ لأمرِه - فهذا مما يُعلَم يقينًا أن الرسولَ لم يَقصِدْ هذا، بل تحريم ماهو مقدور، كما قصدَ تحريمَ الظلم الذي يقدرون عليه. وهو سبحانَه لا يَظلِمُ مثقالَ ذَرةٍ، (ولا يظلم ربك أحداً (49)) (1) ، ويقول لعبده إذا حاسَبَه يوم القيامة: لا ظلمَ عليك، فلا يَنْقُصُ أحدًا من حسناتِه شيئًا، ولا يَحمِلُ عليه سيئاتِ غيرِه، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)) (2) . قال غير واحدٍ من السلف: الظلم أن يَحمِل عليه سيئاتِ غيرِه، والهَضْمُ أن يَهْضِمَ من حسناتِه (3) . فهذا مما حرَّمَه على نفسِه وهو قادرٌ عليه، لكنه منزهٌ قُدُّوسٌ سَلامٌ، لا يجوز أن يَظلِمَ أحدًا، ولا يجوز أن يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، بل هو حكيم عليمٌ رحيمٌ، لا يَفعلُ إلاّ بموجب رحمتِه وحكمتِه وعدلِه. وهو سبحانَه خالقُ كلَّ شيء وربُّه ومليكُه، ما شاءَ كانَ، ومالم يَشَأ لم يكن. فكل واحد من قولِ القدرية المعتزلة [و] الجهمية الجبرية باطلٌ، والصواب فيما جاء به الكتابُ والسنة، وما كان عليه سلفُ الأمة وأئمتها.   (1) سورة الكهف: 49. (2) سورة طه: 112. (3) انظر: "زاد المسير" (5/324) والقرطبي (11/249) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وهذه المسألة فرعٌ على هذا الأصل، والكلامُ على هذا مبسوط في مواضعَ غيرِ هذا، وهذا مقدارُ ما احتملتْهُ الورقةُ من الجواب. فعلى هذا فقوله: "أتَدريْ ما حقُ اللهِ على عبادِه؟ " قال: اللهُ ورسوله أعلم. قال: "حقُّه عليهم أن يَعبُدوه، لا يُشرِكوا به شيئًا"، هو حق استحقهُ بنفسِه على عبادِه. وقوله: "أتدري ما حق العبادِ على اللهِ إذا فعلوا ذلك؟ أَنْ لا يُعذبَهم"، هو حق أَحَقه على نفسِه لعبادِه، كما قال تعالى: (وكان حقا علينا نصر المُؤمنِينَ) (1) ، فهو أَحَقه بنفسِه على نفسِه، لا لأنَ العبادَ بأنفسِهم يستحقون عليه شيئًا، ولا يُقاس على خَلقِه فيما يستحقُّه المخلوقُ على المخلوق، فإنه خلقَ عبادَه، ولم يكونوا قبلَ وجودِهم شيئًا، بل عدمًا محضًا لا يستحقون شيئًا، ثمَّ لما خلقَهم فكل ما فيهم من الأمور الوجودية هي مخلوقة له، فيمتنع أن يكون مُوجَبًا على الربِّ عزَ وجل محرمًا عليه، وهذا هذا. والله أعلم. (هذا مختصر جواب الشيخ تقي الدين أثابه الله تعالى) . ***   (1) سورة الروم: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سيد الاستغفار أن يقول العبد "اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت ... " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فصل في قوله عليه السلام: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنتَ" (1) . قد اشتمل هذا الحديثُ من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيد الاستغفار، فإنه صدَّرَه باعترافِ العبدِ بربوبية الله، ثم ثنَّاها بتوحيد الإلهية بقوله: "لا إله إلا أنت". ثمَّ ذكر اعترافَه بأن الله هو الذي خلقَه وأوجدَه ولم يكن شيئًا، فهو حقيقٌ بان يتولَّى تمامَ الإحسان إليه بمغفرةِ ذنوبه، كما ابتدأ الإحسانَ إليه بخلقه. ثمَّ قال: "وأنا عبدك"، اعترفَ له بالعبودية، فإنّ الله تعالى خلقَ ابنَ آدم لنفسه ولعبادتِه، كما جاء في بعض الآثار: "يقول الله تعالى: ابنَ آدم! خلَقت لنفسي، وخلقتُ كل شيء لأجلِك، فبحقي عليك لا تشتغلْ بما خَلقتُه لك عما خلقتك له". وفي أثرٍ آخر: "ابنَ آدمَ! خلقتك لعبادتي فلا تلعبْ، وتكفَّلتُ لك برزقِك فلا تَتْعَبْ. ابنَ آدم! اطلُبني تجدْني، فإن وَجدتَني وَجدتَ كل شيء، وإن فُتكَّ فَاتَكَ كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء". فالعبد إذا خَرَج عما خلقه الله له من طاعتِه ومعرفتِه ومحبتِه والإنابةِ إليه والتوكُلِ عليه، فقد أبقَ من سيِّدِه، فإذا تاب إليه ورَجَع إليه فقد راجعَ ما يُحِبه الله منه، فيفرح الله بهذه المراجعة. ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخبِر عن الله (2) : "للهُ أشدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه مِن واجد راحلته   (1) أخرجه البخاري (6306) عن شداد بن أوس. (2) أخرجه البخاري (6308) ومسلم (2744) عن ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 عليها طعامُه وشرابُه بعد يأسِه منها في الأرض المهلكة، وهو سبحانَه هو الذي وفَّقه لها، وهو الذي ردَّها إليه". وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان، وحقيقٌ بمن هذا شانُه أن لا يكون شي لا أحبَّ إلى العبدِ منه. ثمَّ قال: "وأنا على عهدِك ووَعْدِك ما استطعتُ"، فالله سبحانه وتعالى عَهِد إلى عبادِه عهدًا أمرهم فيه ونهاهم، ووعدهم على وفائهم بعهده أن يثيبَهم بأعلى المثوبات، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله إليه وتصديقِه بوعدِه. أني أنا مقيم على عهدِك مُصدِّقٌ بوعدِك. وهذا المعنى قد ذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كقوله: "من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه" (1) . والفعل إيمانًا هو العهد الذي عَهِدَه إلى عبادِه، والاحتساب هو رجاؤه ثوابَ الله له على ذلك، وهذا لا يَليقُ إلاّ مع التصديق بوعده. وقوله "إيمانًا واحتسابًا" منصوبٌ على المفعول له، إنما يَحمِلُه على ذلك إيمانُه بأن الله شرعَ ذلك وأوجبَه ورَضِيَه وأمر به، واحتسابُه ثوابَه عند الله، أي يفعله خالصًا يرجو ثوابَه. وقوله: "ما استطعتُ" أي إنما أقومُ بذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب ما ينبغي لك وتستحقه علي. وفيه دليل على إثباتِ قوة العبد واستطاعتِه، وأنه غيرُ مجبورٍ على ذلك، بل له استطاعةٌ هي مناطُ الأمر والنهي والثواب والعقاب. ففيه رد على القدرية المجبِّرة الذين يقولون: إن العبد لا قدرةَ له ولا استطاعة، ولا فعلَ له البتَّهّ، وإنما يعاقبه الله على فعلِه هو، لا على فعل العبد. وفيه رد على طوائف المجوسية وغيرهم.   (1) أخرجه البخاري (38 ومواضع أخرى) ومسلم (760) عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ثمَّ قال: "أعوذ بك من شرِّ ما صنعت"، فاستعاذتُه بالله الالتجاءُ إليه والتحصُّن به والهروب إليه من المستعاذ منه، كما يَتحصَّن الهاربُ من العدوّ بالحصن الذي ينجيه منه. وفيه إثبات فعلِ العبدِ وكسْبه، وأنّ الشرَّ مضافٌ إلى فعلِه هو، لا إلى ربِّه، فقال: "أعوذ بكَ من شرِّ ما صنعت". فالشرُّ إنما هو من العبد، وأما الربُّ فله الأسماء الحسنى، وكلُّ أوصافِه صفاتُ كمال، وكلُّ أفعالِه حكمة ومصلحة. ويؤيّد هذا قولُه عليه السلام: "والشرُّ ليس إليك" في الحديث الذي رواه مسلم (1) في دعاء الاستفتاح. ثمَّ قال: "أبوء بنعمتك عليَّ" أي أعترفُ بأمر كذا، أي أُقِرُّ به، أي فأنا معترفٌ لك بإنعامك عليَّ، وإني أنا المذنب، فمنك الإحسانُ ومني الإساءةُ. فأنا أحمدك على نعمك، وأنتَ أهلٌ لأن تُحمَد، وأستغفرك لذنوبي. ولهذا قال بعض العارفين: ينبغي للعبد أن تكون أنفاسُه كلُّها نفسَيْن: نفسًا يَحمد فيه ربَّه، ونفسًا يستغفره من ذَنْبه. ومن هذا حكاية الحسن مع الشابّ الذي كان يجلس في المسجدَ وحدَه ولا يجلس إليه، فمرّ به يومًا فقال: ما بالك لا تجالسنا؟ فقال: إني أُصبِح بين نعمةٍ من الله تستوجب عليَّ حمدًا؛ وبين ذنب مني يستوجب استغفارًا، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن مجالستِكً. فقال: أنتَ أفقهُ عندي من الحسن. ومتى شَهِدَ العبدُ هذين الأمرين استقامتْ له العبودية، وتَرقَّى في درجاتِ المعرفةِ والإيمان، وتصاغرتْ إليه نفسُه، وتواضَعَ لربِّه. وهذا   (1) برقم (771) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 هو كمالُ العبودية، وبه يَبرأُ من العُجْب والكِبْر وزينةِ العمل. والله الموفق الهادي، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم، ورضي الله عن أصحاب رسولِ الله أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. (من كتابة العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن إسحاق التميمي الداري نسبًا الحنفي مذهبًا، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. آمين آمين آمين) . *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 قاعدة في الصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخُ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه. فصل جعل اللهُ سبحانَه وتعالى عبادَه المؤمنين بكل منزلة خيرًا منه، فهم دائمًا في نعمةٍ من ربهم، أصابَهم ما يُحِبَّون أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويُقدرها عليهم متاجرَ يَربحون بها عليه، وطُرُقًا يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عَن إمامهم ومتبوعهم - الذي إذا دُعي يوم القيامة كل أناسٍ بإمامهم دُعُوا به صلواتُ الله وسلامه عليه - أنه قال (1) : "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله عجب، ما يقضي الله له من قضاء إلاّ كان خيرًا له، إن أصابته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له". فهذا الحديث يَعمُ جميعَ أَقضيتِه لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على مكروهها وشكرَ لمحبوبها، بل هذا داخلٌ في مسمى الإيمان، فإنه كما قال السلف: الإيمان نصفان، نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر. كقوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (5)) (2) . وإذا اعتبر العبدُ الدينَ كلَّه رآه يَرجِعُ بجملته إلى الصبر والشكر، وذلك   (1) أخرجه مسلم (2999) عن صهيب. (2) سورة إبراهيم: 5، لقمان: 31، سبأ: 19، الشورى: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 لأن الصبر ثلاثة أقسام (1) : صبر على الطاعة حتى يفعلَها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمورَ به إلاّ بعد صبرٍ ومصابرةٍ، ومجاهدةٍ لعدوّه الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤُه للمأمورات وفِعلُه للمستحبات. النوع الثاني: صبرٌ عن المنهي حتى لا يفعلَه، فإنّ النفسَ ودواعيها وتزيين الشيطان وقُرَناء السوء تأمرُه بالمعصية، وتُجَزِّئُه عليها، فبحسب قوة الصبر يكون تركُه لها. قال بعض السلف (2) : أعمالُ البِرِّ يَفعلُها البَرُّ والفاجر، ولا يَقدِرُ على ترك المعاصي إلاّ صدِّيق. النوع الثالث: الصبر على ما يُصِيبُه بغير اختيارِه من المصائب، وهي نوعان: نوع لا اختيارَ للخلقِ [فيه] ، كالأمراضِ وغيرِها من المصائب السماوية، فهذه يسهل الصبر فيها، لأن العبْدَ يشهدُ فيها قضاءَ اللهِ وقدرَه، وأنه لا مدخلَ للناس فيها، فيصبر إمّا اضطرارًا وإمّا اختيارًا، فإن فتحَ الله على قلبه بابَ الفكرةِ في فوائدِها، وما في حَشوِها من النِّعَم والألطاف، انتقلَ من الصبر عليها إلى الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذٍ في حقه نعمةً، فلا يزالُ هِجيْرَا قلبه ولسانِه فيها: "رب أَعِني على ذكرِك وشكرك وحسنِ عبادتك" (3) . وَهذا يقوى ويضعف بحسب قوةِ محبة العبد لله وضعفِها، بل هذا يجد أحدنا في الشاهد،   (1) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (15/574-577، 14/304-356) . (2) هو سهل التستري، كما روى عنه أبو نعيم في "الحلية" (10/211) . (3) من الأدعية المأثورة، أخرجه أحمد (5/244،247) وأبو داود (1522) والنسائي (3/53) عن معاذ بن جبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 كما قال بعض الشعراء (1) يخاطب محبوبًا له نالَه ببعض ما يكره: لئِنْ سَاءَني أن نِلتَني بمَسَاءةٍ لقد سَرَّني أنّي خَطَرتُ ببالِكا النوع الرابع (2) : ما يحصل له بفعل الناس في ماله أو عِرضِه أو نفسِه، فهذا النوع يَصعُب الصبرُ عليه جدًّا، لأنّ النفس تستشعِرُ المُؤذيَ لها، وهي تكره الغلبة، فتَطلبُ الانتقام، فلا يَصبِر على هذا النوع إلاّ الأنبياء والصدّيقون. وكان نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أُوذِي يقول: "يَرحمُ اللهُ موسى، لقد أُوذِي بأكثر من هذا فصَبر" (3) . وأَخبَر عن نبي من الأنبياء أنه ضربَه قومُه، فجعلَ يقول: "اللهم اغفِرْ لقومي، فإنهم لا يعلمون" (4) . وقد رُوي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه جرى له مِثلُ هذا مع قومه، فجعل يقول مِثلَ ذلك (5) . فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون. وهذا النوع من الصبر عاقبتُه النصرُ والهُدى والسُّرور والأمنُ، والقوة في ذاتِ الله، وزيادة محبةِ الله ومحبة الناس له، وزيادة العلم.   (1) هو ابن الدمينة، والبيت من قصيدة مشهورة له بعضها في حماسة أبي تمام (2/62-63) ، وتمامها في ديوانه (ص13-18) ، وهناك التخريج. وقد وجدت القصيدة في 21 بيتًا في "الفصوص" لصاعد (1/67-70) . وفي جميع المصادر قافيتها كاف مكسورة. (2) كذا في الأصل، والأولى أن يكون "الثاني" من نَوعَي المصائب. (3) أخرجه البخاري (3150،3405 ومواضع أخرى) ومسلم (1062) عن ابن مسعود. (4) أخرجه البخاري (3477،6929) ومسلم (1792) عن ابن مسعود. (5) أخرجه الطبراني عن سهل بن سعد، كما في "مجمع الزوائد" (6/117) . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ولهذا قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ (24)) (1) . فالصبر واليقين يُنال [بهما] الإمامة في الدين (2) ، فإذا انضاف إلى هذا الصَّبرِ قوةُ اليقين والإيمان تَرَقَّى العبدُ في درجات السعادة بفضل الله تعالى، و (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)) (3) . ولهذا قال الله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)) (4) . ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدّةُ أشياءَ: أحدها: أن يشهدَ أن الله سبحانه وتعالى خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، ومالم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العُلْوِيّ والسّفليّ ذرَّة إلاّ بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بكَ، تَسْتَرِحْ من الهمّ والغَمِّ. الثاني: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) (5) . فإذا شهد العبدُ أن جميع ما يناله منْ المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه [بسببها] ، عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم. وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا   (1) سورة السجدة: 24. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (10/39) . (3) سورة الحديد: 21، الجمعة: 4. (4) سورة فصلت: 34. (5) سورة الشورى: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 آذَوْه، ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار، فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً. قال علي بن أبي طالب -كرَّمَ الله وجهَه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلاّ ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه (1) . ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلاّ بذنبٍ، ولا رُفِع إلاّ بتوبة. الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر، كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)) (2) . ولمّا كان الناسُ عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم يأخذ فوق حقّه، ومقتصدٌ يأخذ بقدرِ حقِّه، ومحسنٌ يعفو ويترك حقَّه، ذَكَر الأقسامَ الثلاثة في هذه الآية، فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين. ويشهد نداءَ المنادي يوم القيامة: "إلاَ لِيَقُم مَن وَجَب أجرُه على الله" (3) ، فلا يَقُمْ (4) إلاّ من عفا وأصلح. وإذا شهِدَ مع ذلك فوتَ الأجر بالانتقام والاستيفاء، سَهُلَ علمِه الصبر والعفو. الرابع: أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ أورثَه ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه، ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام وإرادةِ الشرّ، وحصَلَ له من حلاوة العفو ما يزيد لذّتَه ومنفعتَه عاجلاً وآجلاً، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافًا مضاعفةً، ويدخل في قوله تعالى:   (1) انظر شرح هذه الكلمة عند المؤلف في "مجموع الفتاوى" (8/161-180) . (2) سورة الشورى: 40. (3) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس وأنس. انظر "الدر المنثور" (7/359) . (4) كذا في الأصل مجزومًا، والأولى أن يكون مرفوعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 والله يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (134)) (1) ، فيصير محبوبًا لله، ويصير حالُه حالَ من أُخِذَ منه درهمٌ فعُوضَ عليه ألوفًا من الدنانير، فحينئذٍ يَفرحُ بما منَّ الله عليه أعظمَ فرحًا (2) يكون. الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: "ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ عزًّا" (3) . فالعزّ الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من الَعزّ الحاصل له بالانتقام، فإنّ هذا عِزٌّ في الظاهر، وهو يُورِث في الباطن ذُلاًّ، والعفوُ ذُلٌّ في الباطن، وهو يورث العزَّ باطنًا وظاهرًا. السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالمٌ مذنب، وأنّ من عَفا عن الناس عَفَا الله عنه، ومن غَفَر لهم غَفَر الله له. فإذا شَهِدَ أن عفوه عنهم وصفحَه وإحسانَه مع إساءتِهم إليه سببٌ لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله، فيعفو عنه ويصفح، ويُحسِن إليه على ذنوبه، ويَسْهُل عليه عفوُه وصبرُه، ويكفي العاقلَ هذه الفائدةُ. السابع: أن يَعلم أنه إذا اشتغلتْ نفسُه بالانتقام وطلب المقابلة ضاعَ عليه زمانُه، وتفرَّقَ عليه قلبُه، وفاتَه من مصالحِه مالا يُمَكِن استدراكُهُ، ولعلّ هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالتْه من جهتهم، فإذا عفا وصَفحَ فَرغَ قلبُه وجسمُه لمصالحه التي هي أهمُّ عنده من الانتقام.   (1) سورة آل عمران: 134، المائدة: 13. (2) كذا في الأصل. (3) أخرجه مسلم (2588) عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الثامن: أن انتقامَه واستيفاءَه وانتصارَه لنفسِه، وانتصارَه لها، فإن رسول الله عليه وسلم ما انتقمَ لنفسِه قَطُّ، فإذا كان هذا خيرَ خلق الله وأكرمَهم على الله لم يَنتقِمْ لنفسِه، مع أن أَذَاه أَذَى الله، ويتعلّقُ به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفُس وأزكاها وأبرُّها، وأبعدُها من كلّ خُلُقٍ مذمومٍ، وأحقُّها بكل خُلُقٍ جميلٍ، ومع هذا فلم يكن يَنتقِم لها، فكيف يَنتقِمُ أحدنا لنفسِه التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تُساوِي نفسُه عنده أن ينتقم لها، ولا قدرَ لها عنده يُوجِبُ عليه انتصارَه لها. التاسع: إن أُوذِيَ على ما فعلَه لله، أو على ما أُمِرَ به من طاعتِه ونُهِي عنه من معصيتِه، وجبَ عليه الصبرُ، ولم يكن له الانتقام، فإنّه قد أوذِي في الله فأجرُه على الله. ولهذا لمّا كان المجاهدون في سبيل الله ذهبتْ دماؤهم وأموالُهم في الله لم تكن مضمونةً، فإن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلبَ الثمنَ منهم لم يكن له على الله ثمنٌ، فإنه من كان في الله تَلَفُه كان على الله خَلَفُه، وإن كان قد أُوذِي على مصيبة فليَرجعْ باللومِ على نفسِه، ويكون في لَومِه لها شُغْلٌ عن لَومِه لمن آذاه، وإن كان قد أُوذِي على حظّ (1) فليُوطِّن نفسَه على الصبر، فإنّ نيلَ الحُظوظِ دونَه أمرٌ أَمَرُّ من الصَّبر، فمن لم يصبر على حرِّ الهَوَاجر والأمطارِ والثلوج ومشقةِ الأسفارِ ولصوصِ الطريقِ، وإلاّ فلا حاجةَ له في المتاجر. وهذا أمر معلوم عند الناس أنّ مَن صدَقَ في طلب شيء من الأشياء بُدِّل من الصبر في تحصيله بقدر صدقِه في طلبِه.   (1) في الأصل: "حض" تحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 العاشر: أن يَشهدَ معيَّهَ الله معه إذا صَبَر، ومحبَّهَ الله له إذا صَبَر، ورِضاه. ومن كان الله معه دَفَع عنه أنواعَ الأذى والمضرَّات مالا يَدفعُه عنه أحدٌ من خلقِه، قال تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)) (1) ، وقال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)) (2) . الحادي عشر: أن يَشهد أن الصبرَ نِصفُ الإيمان، فلا يبدّل من إيمانه جَزاءً في نُصرةِ نفسِه، فإذا صَبَر فقد أَحرزَ إيمانَه، وصانَه من النقص، والله يدفع عن الذين آمنوا. الثاني عشر: أن يشهد أنّ صبرَه حكمٌ منه على نفسِه، وقَهرٌ لها وغَلَبةٌ لها، فمتَى كانتِ النفسُ مقهورةً معَه مغلوبةً، لم تطمعْ في استرقاقِه وأَسْرِه وإلقائِه في المهالك، ومتى كان مطيعًا لها سامعًا منها مقهورًا معها، لم تزَلْ به حتَّى تُهلِكَه، أو تتداركَه رحمةٌ من ربِّه. فلو لم يكن في الصبر إلاّ قَهرُه لنفسِه ولشيطانِه، فحينئذٍ يَظهرُ سلطانُ القلبِ، وتَثبُتُ جنودُه، ويَفرَحُ ويَقوَى، ويَطْرُد العدوَّ عنه. الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبرَ فاللهُ ناصرُه ولابُدَّ، فاللهُ وكيلُ من صَبر، وأحالَ ظالمَه على الله، ومن انتصَر لنفسِه وكلَهُ اللهُ إلى نفسِه، فكان هو الناصر لها. فأينَ مَن ناصرُه اللهُ خيرُ الناصرين إلى مَن ناصِرُه نفسُه أعجز الناصرين وأضعفُه؟ الرابع عشر: أن صَبْرَه على من آذاه واحتمالَه له يُوجِبُ رجوعَ خَصْمِه عن ظُلمِه، ونَدامتَه واعتذارَه، ولومَ الناسِ له، فيعودُ بعد إيذائِه (3) له   (1) سورة الأنفال: 46. (2) سورة آل عمران: 146. (3) في الأصل: "أذائه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 مستحييًا منه نادمًا على ما فعلَه، بل يَصيرُ مواليًا له. وهذا معنى قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)) (1) . الخامس عشر: ربّما كان انتقامُه ومقابلتُه سببًا لزيادة شرِّ خصمِه، وقوّةِ نفسِه، وفكرته في أنواع الأذى التي يُوصِلُها إليه، كما هو المشاهَد. فإذا صبر وعفا أَمِنَ من هذا الضرر، والعاقلُ لا يختارُ أعظمَ الضررين بدَفْعِ أدناهما. وكم قد جلبَ الانتقامُ والمقابلةُ من شرٍّ عَجَزَ صاحبُه عن دفعِه، وكم قد ذهبتْ نفوس ورِئاسَات وأموال لَو عفا المظلومُ لبقيتْ عليه. السادس عشر: أنّ من اعتادَ الانتقام ولم يَصبِرْ لابُدَّ أن يقعَ في الظلم، فإنّ النفس لا تَقتصِرُ على قدرِ العَدْل الواجب لها، لا علمًا ولا إرادةً، وربما عجزت عن الاقتصار على قدرِ الحقَّ، فإنّ الغضبَ يَخرُجُ بصاحبه إلى حدٍّ لا يَعقِلُ ما يقول ويفعل، فبينما هو مظلوم يَنتظِرُ النَّصْرَ وَالعِز، إذ انقلبَ ظالمًا يَنتظِرُ المقتَ والعقوبةَ. السابع عشر: أنّ هذه المَظْلَمةَ التي ظُلِمَها هي سبب إمّا لتكفيرِ سيئتِه، أو رَفْعِ درجتِه، فإذا انتقمَ ولم يَصبِرْ لم تكنْ مُكفِّرةً لسيئتِه ولا رافعةً لدرجتِه. الثامن عشر: أنّ عفوَه وصبرَه من أكبر الجُنْدِ له على خَصْمِه، فإنّ من صَبَر وعفا كان صبرُه وعفوه مُوجِبًا لذُل عدوِّه وخوفِه وخَشيتِه منه ومن الناس، فإنّ الناس لا يسكتون عن خصمِه، وإن سَكتَ هو، فإذا انتقمَ زالَ ذلك كلُّه. ولهذا تَجِدُ كثيرًا من الناس إذا شَتَم غيرَه أو   (1) سورة فصلت: 34-35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 آذاه يُحِبُّ أن يَستوفيَ منه، فإذا قابله استراحَ وألقَى عنه ثِقلاً كان يجده. التاسع عشر: أنه إذا عفا عن خصمِه استشعرتْ نفسُ خصمِه أنه فوقَه، وأنه قد رَبِحَ عليه، فلا يزال يرى نفسَه دونَه، وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعفو. العشرون: أنه إذا عفا وصَفَحَ كانت هذه حسنةً، فتُوَلِّدُ له حسنةً أخرى، وتلك الأخرى تُولِّدُ له أخرى، وهَلُمَّ جَرًّا، فلا تزال حسناتُه في مزيد، فإنّ من ثواب الحسنةِ الحسنة، كما أنّ من عقاب السيئةِ السيئة بعدها. وربَّما كان هذا سببًا لنجاتِه وسعادتِه الأبدية، فإذَا انتقم وانتصرَ زال ذلك. والأصل الثاني الشكر، وهو العمل بطاعة الله (1) . ***   (1) هنا انتهى الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فتوى في العشق (*)   (*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: - قال ابن القيم في كتابه روضة المحبين صفحة 131 تعليقا على هذه الفتيا وردا على من أحل النظر المحرم: " وأما من حاكمتمونا إليه وهو شيخ الإسلام ابن تيمية فنحن راضون بحكمه فأين أباح لكم النظر المحرم وعشق المردان والنساء الأجانب وهل هذه إلا كذب ظاهر عليه وهذه تصانيفه وفتاواه كلها ناطقة بخلاف ما حكيتموه عنه وأما الفتيا التي حكيتموها فكذب عليه لا تناسب كلامه بوجه ولولا الإطالة لذكرناها جميعها حتى يعلم الواقف عليها أنها لا تصدر عمن دونه فضلا عنه وقلت لمن أوقفني عليها هذه كذب عليه لا يشبه كلامه وكان بعض الأمراء قد أوقفني عليها قديما وهي بخط رجل متهم بالكذب وقال لي ما كنت أظن الشيخ برقة هذه الحاشية، ثم تأملتها فإذا هي كذب عليه ولولا الإطالة لذكرنا من فتاويه ما يبين أن هذه كذب " - وقد ذكر المحقق الشيخ (علي العمران) رأيه في هذه المسألة فقال (في مشاركة له بملتقى أهل الحديث) : أقدم الجواب عن سؤال تكرر كثيرا في هذا المنتدى وفي غيره من المنتديات ألا وهو ما يتعلق بـ ((رسالة العشق)) المطبوعة في (جامع المسائل: 1/177-186) ، ومدى صحة نسبتها لشيخ الإسلام ابن تيمية، فأقول: * مهما كان الباحث واسع الإطلاع قوي المعرفة بما يكتب - كالشيخ محمد عزير شمس - فإنه قد يفوته كثير مما يدركه غيره، وهذا من طبيعة البشر، فكان ماذا لو فاته الاطلاع على كلام ابن القيم في نفي هذه الرسالة وأنها مكذوبة على الشيخ؟! * وعذره في إثبات هذه الرسالة أمور: 1- كثرة كتب ابن تيمية ورسائله وفتاويه، فعدم ذكرها ضمن كتبه ومؤلفاته، ليس دليلا على نفيها. 2- أن ابن القيم قد نقل بعض التقسيمات الموجودة فيها في كتابه ((الجواب الكافي)) كما أشار إليه عزير شمس في الهوامش. 3- أن النسخة الخطية قد نسبت هذه الفتوى لابن تيمية. 4- أن الرأى الذي استغربه الكثيرون وهو: جواز تقبيل من خاف على نفسه الهلاك، ليس رأيا خارجا عن الإجماع، بل قد اختاره بعض العلماء ومنهم أبو محمد بن حزم - كما ذكر ابن القيم-. أقول فهذه الأمور مجتمعة - إذا تجردت عن قرينة نفي ابن القيم للرسالة وتكذيبه لها الذي لم يطلع عليه عزير شمس - تسوغ هذه النسبة، وإن لم نجزم بها جزما لايقبل الشك. * هذا العذر - في تقديري على الأقل - مسوغ لهذه النسبة، فكيف لو اجتمع إليه دليل خامس، وهو: أن الأمير علاء الدين مغلطاي وهو من تلاميذ ابن تيمية وأنصاره - قد أثبت هذه الرسالة للشيخ ونقل منها في كتابه ((الواضح المبين فيمن مات من المحبين)) . * بعد هذا كله فالرسالة - عندي - لا تثبت لشيخ الإسلام ابن تيمية، فليس فيها نفَسه ولا أسلوبه المعهود في الكتابة، وما ذكره ابن القيم من أدلة في نفيها كاف. وقد ذكر في "روضة المحبين" (ص/131) أن أحد الأمراء - ويعني به مغلطاي - قد أوقفه على هذه الفتوى، ثم نقدها. * واستدراكا لهذا الأمر؛ فإنه سينبه في آخر (المجموعة الخامسة) - إن شاء الله- على ما استجد من معلومات وفوائد وتصحيحات فيما يتعلق بهذه السلسة (1-8) تحت عنوان: ((استدراكات)) وسيكون التنبيه على هذه الرسالة منها0 هذا أولا 0 وثانيا: أنه في الطبعة الجديدة لـ (آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال) - وهي قريبة إن شاء الله تعالى - ستحذف هذه الرسالة منها. هذه خلاصة رأيي في هذه المسألة، والحمد لله حق حمده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بسم الله الرحمن الرحيم سؤال رُفِع لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، وصورته: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل عاشقٍ في صورة، وتلك الصورة مُصِرَّة على هجره منذ زمانٍ طويل لا يزيده إلاّ بُعدًا، ولا يزداد لها إلاّ حُبًّا، وعشقُه لهذه الصورة من غير فسقٍ ولا خنا، وليس هو ممن يُدنِّس عشقَه بِزِنا، وقد أَفْضَى الحالُ إلى هلاكِه لا مَحَالةَ إن بَقِيَ مع محبوبه على هذه الحالة. فهل يَحِل لمن هذه حالُه أن يهجر؟ وهل يَجبُ وصالُه على المحبوب المذكور؟ وهل يأثم ببقائه على ما يكره منَ المحبّ؟ وماذا يجب من تفاصيلِ أمرِهما وما لكل واحدٍ منهما على الآخر من الحقوق مما يوافق الشرعَ والعقل؟ أفتونا مأجورين رحمكم الله. الجواب الكلام على هذه المسألة ينبني على أصلين: أحدهما يتعلق بالعاشق، والآخر يتعلق بالمعشوق، ولكل واحدٍ منهما تفاصيل تُذكَر عند ذكره. ولابُدَّ من تقديم مقدمة ينبني عليها الجواب، وهي: لاشكَّ أنه من المعلوم أن الشرع والعقل قد دلاَّ [على] وجوب تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدامِ المفاسدِ وتقليلها، فكلَّما يرى العاقل أنه إذا دخل في أمرٍ ما يُوجِبُ له مصلحةً من وجهٍ ومفسدةً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وجهٍ وجبَ عليه عند ذلك الترجيحُ، فيأخذ لنفسه بالأسَدِّ والأكمل والأرشد والأصلح. ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة شرعية دينية، لما يُؤدِّي إلى الاشتغال بذكر المخلوق عن ذكر الخالق، والعبث بالصور لا المعاني، والالتحاق بالعالم الحيواني غير الناطق في الائتلاف الصوري. كما سُئِل بعضهم عن العشق، فقال: هي قلوبٌ غَفلَتْ عن ذكر الحق، فشُغِلَتْ بذكر الخلق. فهذا مما يدل على بُعْدِ عُشّاق الصور عن الربّ العظيم باشتغالهم بالخسيس الذميم. لكن قد ذكر المتقدمون من عقلاء العرب وظرفائهم وطائفةٌ من الحكماء أن فيه فوائد، مع اتفاقهم على نقصه من جهة ما ذكرنا من أنّ صاحبه كُلَّما قَرُبَ منه بَعُدَ عن الله عزَّ وجل. إن فيه فوائد (1) ، من جملتها رقّة الطبع وإزالةُ خبثه وترويح النفس وخفّتها ورياضةُ الجسد، كما رُوِيَ عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قيل له: إنّ ابنَك عَشِقَ فلانة، فقال: الحمد لله الذي صيَّره إلى طبع الآدمي. وقال بعضهم: العشق داء أفئدة الكرام. وقال بعضهم: العشق لا يَصْلُح إلاّ لِذي مُروءةٍ ظاهرة، أو لِذي لسانٍ فاضلٍ وإحسانٍ كاملٍ، أو لذي أدبٍ بارع وحسبٍ خاشع (2) ، ويَقْبُح لسواهم. وقال بعضهم: العشقُ يُشَجِّع جَنَانَ الجبان، ويُصَفِّي ذِهْنَ الغبي، ويُسَخِّي كفَّ البخيل، ويُخْضِعُ عِزَّةَ الملوك، ويُسَكِّنُ نَوافِرَ الأخلاق.   (1) ذكر ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص194-195) ما هنا من الأقوال. (2) في "الجواب الكافي": "ناصع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وهو أَنِيْسُ المُؤنس وجليس المجالس (1) ، وملك قاهر وسلطان. وقال بعض العرب (2) : إذا أنتَ لم تَعْشَقْ ولم تَدْرِ ما الهوَى ... فأنتَ وعَيْرٌ في الفَلاَةِ سَواءُ وحُكِيَ أنَّ جالينوسَ قال: من لم تبتهج نفسُه للصوت الشجي والوجه البهي فهو فاسد المزاج، يحتاج إلى العلاج. وقال بعض الحكماء: العشقُ يُرَوِّض النفسَ ويُهذب الأخلاقَ، وإظهارُه طَبَعي، وإضمارُه تكليفي، حاجبُه الصبرُ وخادمُه الجوارحُ. فهذه آثار - كما ترى - دالة على أنه ليس في العشق مصلحة شرعية دينية، وإنما مال إليه هؤلاء لما ذكروا فيه من المصالح العقلية والرياضية، من تهذيب النفس ورياضتها، ولو تَعلَّقَ هؤلاء بمحبة الإله المعبود لألْهَاهُم ذلك عن محبة الأشخاص الفانية، وحَصَلَ لهم مقصودُهم من رياضة النفس وفرط المحبة وتهذيب الأخلاق المذكورة، وصار كلُّ موجودٍ يُحدِثُ لهم الفِكرُ فيه وجدًا لِمُوْجدِه، وكلُّ مخلوقٍ يَتبيَّنُ لهم منه محبةٌ لخالقِه، فتخاطبهم الموجودات وَالمخلوقات بألسنةِ الأحوال، وتُوضح لهم أنه لا يَستحقُ المحبةَ على الكمال غيرُ ذِي الإكرام والجلال. هذا ما يتعلق بالمقدمة وكيفية بناء الأصلين عليها. أما ما يتعلق بالعاشق فقد ذكرنا أنه لابدّ من تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدامِ المفاسد وتقليلها، فمن دَخَلَ على أمرٍ ما فواجبٌ عليه أن ينظر في ذلك الأمر، فإن كانت مصلحتُه راجحة على مفسدتِه أَخَذَ بالأرجحِ.   (1) في الأصل: "المجرس". وفي الجواب الكافي: "أنيس من لا أنيس له، وجليس من لا جليس له"، وهو أوضح. (2) البيت في "روضة المحبين" (ص176) و"تزيين الأسواق" (1/43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وقد دَلَّ الدليلُ كما ذكرنا على أنه ليس في العشق الصوري مصلحة دينية كما ذكرنا، وإنما فيه مصلحة رياضية نفسية، والمصالح الدينية مقدمة، مع ما يقرن بذلك مع أدائه إلى فساد الذهن وتشويش الحواس، وهو ملحق بشرب الخمر المحرم، وليس لصاحبه عذر يعتذر به ولا حجة يُقِيمها. مثال ذلك أن من شرب الخمر فسَكِرَ، فحَصَلَ منه جناية في حق أحدٍ أو عَرْبَدَة على غيرِه، فأَتْلَفَ شيئًا، أخِذَ به، لأن الذي أزالَ عقلَه سبب محرم أدخلَه على نفسِه راضيًا غيرَ مُكرَهٍ، مع علمه قبل أن يشربه أنه يؤدي به الحال إلى هذا، فإذا اعتذر وقال: لم أَعِ ما قلتُ، ولا كان عقلٌ أميزُ به، قلنا له: أنتَ فرَّطتَ حين شربتَ. ولهذا جَنَحَ بعضُ العلماء إلى مؤاخذة السكرانِ بما يصدرُ منه من طلاقٍ وعتاقٍ وجنايةٍ، بخلافِ من يَزول عقله بخلطٍ سوداوي أو روحاني، فإن ذلك ليس هو من فعلِه، ولا تسبب فيه برضاه، كما رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال (1) : "رُفِع القلمُ عن ثلاث"، فذكر المجنون حتى يُفيقَ. فعلى هذا لا ينبغي لأحد أن يُحْكِمَ على نفسِه عشقَ الصور، ليؤدي به الحال إلى الهلاك، فمن فعلَ ذلك فهو المفرط بنفسه والمقرر لها، فإذا هلكتْ فهو الذي أهلكها، وإذا قُتِلَتْ فهو الذي قتلَها، فإنه لولا تكرارُ نظرِه إلى وجه معشوقِه لم يَثبُتْ محبتُه في قلبه، حتى أدَّاه إلى ما أدَّاه.   (1) أخرجه أحمد (6/100،101،144) والدارمي (2301) وأبو داود (4398) والنسائي (6/156) وابن ماجه (2041) عن عائشة. وفي الباب عن علي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وذلك لأن أول مرتبة المحبة (1) تُسمَّى الاستحسان، وهي المتولدة عن النظر والسماع، ثم تَقْوَى هذه المرتبة بطولِ الفكرة في محاسنِ المحبوب وصفاتِه الجميلة، فتصير مودَّةً، وهي الميل إليه والألفة بشخصه. ثمَّ تتأكَّد المودَّةُ فتصير محبة، والمحبة هي الائتلاف الروحاني. فإذا قويت صارت خُلَّة، وهذا أصحُّ الأقوال. والخلّة بين الآدميين هي تمكُّنُ محبةِ أحدهما من قلب صاحبه حتى يسقط بينهما السرائر، ثمَّ تقوى الخُلَّة فتصير هَوى، والهوى أن المحبَّ لا يُخالِطه في محبوبه تَغيُّرٌ، ولا يُداخِلُه تَلوُّنٌ. ثمَّ يزيد الهوى فيصير عِشْقًا. والعشق الإفراط في المحبة حتى لا يخلو العاشقُ من تخيُّلِ المعشوق وفكرِه وذكرِه، ولا يَغيبُ عن خاطرِه وذهنِه، فعند ذلك يَشغلُ النفسَ عن استخدام القوة الشهوانية والنفسانية، فيمنع من النوم لاستضرار الدماغ. فإذا قوي العشقُ صار تتيُّمًا، وفي هذا الحال لا يوجد في قلبه فضلة لغير تصور معشوقه، ولا يرضى نفسه بسواها. فإذا تزايد الحال صار وَلَهًا، والوَلَهُ هو الخروج عن الحدود والضوابط حتى تختلَّ أفعالُه وتتغيَّرَ صفاتُه، ويصيرَ مُوَسْوسًا لا يَدري ما يقول ولا أين يذهب، فحينئذٍ يَعْجز الأطباءُ عن مداواتِه، وتَقْصُرُ آراؤهم عن معالجته، لخروجه عن الحدود والضوابط. قال بعضهم (2) : الحبُّ أول ما يكون لَجَاجةٌ يأتي به ويسوقُه الأقدارُ   (1) انظر مراتب الحب في "روضة المحبين" (ص 16 فما بعدها) و"الجواب الكافي" (ص 162 فما بعدها) . (2) البيتان في "اعتلال القلوب" (2/375) و"مصارع العشاق" (1/53) و"ذم الهوى" (ص334) و"روضة المحبين" (ص183) و"الجواب الكافي" (ص191) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 حتى إذا خاضَ الفتَى لُجَجَ الهوى جاءتْ أمور لا تُطَاقُ كبارُ فلو لم ينتقل العاشق بنفسه في هذه المراتب من مرتبة إلى مرتبة، حتى وصلَ إلى الحد الذي يُؤذيه، لم يُصِبْه أذًى، فهو الجاني على نفسِه، وأشبه به قول القائل: "يَدَاكَ أُوكِتَا وفُوكَ نَفَخَ" (1) . فتصور بهذا أنه مُخطىء بما صدرَ منه أو لا، وإن كان ينبغي أن يحتاطَ لنفسه ولا يُورّطَها فيما فيه هلاكُها. فعلى هذا فالعاشقُ له ثلاث مقامات (2) : مبتدأ، ومتوسط، ونهاية. أما مبتدؤُه ففي أول الأمر واجب عليه كتمانُ ذلك وعدمُ إفشائِه للمخلوقين، تقليلاً للوشاة عليه، وإمالةً لقلب محبوبه إليه، مُراعيًا في ذلك شرائط الفتوة من العفة مع القدرة، وإلاّ التحقَ بالشيطان الرجيم وحزبِه، فازداد به الأمرُ إلى المقام الأوسط، فيغلبُ عليه الحال، فلا بأسَ بإعلام محبوبه بمحبته إياه، فيَخِفُّ بإعلامِه له وشكواه إليه ما يجده منه، ويَحْذَر من إطْلاعِ الناس على ذلك، فهو يكون سببَ هلاكِه. فإن زاد به الأمر حتى يخرج عن الحدودِ والضوابط المذكورة، فقد التحقَ مَن هذا حالُه بالمجانين والمولهين. على أن من رَخَّص في العشق من العقلاء، لما ذكرنا من ترويضِه للنفس وتهذيبه للأخلاق، فجعلَه مشروطًا بالعفَّة المذكورة، كما قال قائلُهم: "عِفُوا تَشْرُفوا، وَاعْفُوا تَطْرفوا". وقال الأحنف بن قيس (3) :   (1) انظر شرح هذا المثل في "جمهرة الأمثال" (2/430) و"فصل المقال" (ص 458) و"مجمع الأمثال" (2/414) و"المستقصى" (2/410) . (2) ذكرها ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص191-193) . (3) الصواب أنهما للعباس بن الأحنف، كما في "الأغاني" (8/359) و"التذكرة الحمدونية" (6/229) . وهما بلا نسبة في "روضة المحبين" (ص344) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أتأْذَنُونَ لِصَب في زيارتكم فعندكم شَهَواتُ السمعِ والبَصَرِ لا يُضْمِرُ الشوقَ إن طالَ الجلوسُ به عَفُّ الضميرِ ولكن فاسقُ النَّظَرِ وقيل لبعض العشاق: ما كنتَ تَصنَعُ لو ظَفِرْتَ بمن تَهوَى؟ قال: كنت أَمْنَعُ طَرْفي من وجهِه، وأُرَوِّحُ قلبي بذكرِه وحديثِه، أستُر منه مالا يحب كَشْفُه، ولا أصير بفتح القفل إلى ما يَنقُض عهده. وأنشد (1) : أخلو به فأعفّ عنه كأنني خوفَ الديانة لستُ من عُشَّاقِه كالماءِ في يدِ صائم يَلْتَذُّه ظَمَأ فيَصْبِر عن لذيذِ مَذاقِه وانقسموا قسمين: قسمٌ قَنِعُوا بالنظرة البعيدة ولو في مدّة مديدة، كما قال شاعرهم: ليسَ في العاشقينَ أقنَعُ مني أنا أَرضَى بنظرة من بعيدِ وقال الآخر: لو مَرَّ في خاطري تَقبيلُ وَجْنَتِه لَسَيلَتْ فِكَرِي عن عارضَيْه دمَا وقال آخر: وأَحفظُه عن نَاظِرَيَّ ومُقْلَتِي مخافةَ أن العينَ تَجْرَحُ خَدَّهُ واستمرُّوا على هذه الحالة، فمنهم من يموتُ وهو كذلك، لا يَظهر سِرُّه لأحدٍ، حتى محبوبُه لا يَدري به. رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن عَشِق فعَفَّ فكَتَمه فماتَ منه فهو شهيد" (2) . وهذا مقام   (1) البيتان في "الجواب الكافي" (ص195) . (2) أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (1/349) والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/156،262،6/50-51،11/297،13/184) وابن الجوزي في "ذم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 عظيم يرفع، إن تركَه وحَسَمَ مادتَه [فهو] أفضلُ وأقرب إلى الحق كما ذكرنا. والقسم الثاني أباحوا لمن وصلَ إلى حدٍّ يخافُ على نفسِه منه- القُبلةَ في الحين قد غلبَه نفسه وقَهرَه قوته. قالوا: لأن في تركها ما يُؤدِّي إلى هلاكِ النفس، والقُبلةُ صغيرة، وهلاك النفسِ كبيرة، وإذا وقعَ الإنسان في مرضينِ خَطِرَيْنِ دَاوَى أخطرَهما، ولا خَطَرَ أعظمُ من قتلِ النفس، حتى أوجبوا على المحبوب مطاوعتَه على ذلك إذا علم أن تركَه ذلك يُؤدّي إلى هلاكِه، واستدلُّوا على ذلك بقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (1) ، قالوا: إن سبب نزولها أن رجلاً جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسولَ الله! إني أصبتُ من امرأة أجنبية كلَّ شيء إلاّ النكاح، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلَّيتَ معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر الله لك. فنزلتْ هذه الآية (2) . وبقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا   = الهوي" (ص327) و"العلل المتناهية" (2/285) من حديث ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف سويد بن سعيد وأبي يحيى القتات. واتفق الأئمة المتقدمون على تضعيف هذا الحديث، وحكم عليه ابن القيم والألباني بأنه موضوع. انظر الكلام عليه في "الضعيفة" (459) و"الجواب الكافي" (ص230- 231) و"زاد المعاد" (4/252-256) و"المنار المنيف" (ص140) و" روضة المحبين" (ص 180) . (1) سورة هود: 114. (2) أخرجه البخاري (6823) ومسلم (2764) بنحوه عن أنس، وليس فيه ذكر نزول الآية. وهو في حديث آخر بسياق مختلف عند البخاري (526،4687) ومسلم (2763) عن ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 هُمْ يَغْفِرُونَ (37)) (1) . إلاّ أنهم كما قال بعض السلف: ما رأيتُ شيئًا أشبهَ باللَّمَم من قول أبي هريرة: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله كتب على ابن آدمَ حظَّه من اَلزنا أدركَ ذلك لا مَحَالةَ، فالعين تَزني وزناها النَظر، واللسان يزني وزناه النطق، والرِّجل تزني وزناها الخُطا، واليدُ تزني وزناها البطش، والقلب يَهْوَى ويتمنى، والفرج يُصدِّق ذلك أو يكذبه" (2) . وهذه النصوص واردة في حق النساء، وهذا السؤال عن الرجال، لأن أولئك القوم في الزمن الأول لم يكن للغلمان عندهم قدرٌ يهوون من أجله، أما الآن فقد زادوا على الحدّ، وازدادوا على أولئك في الحد، وهم الفتنة موجودة، وقد نهى الله عز وجل عن إرسال النظر، فقال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (3) حَسْمًا لهذه المادة، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي: "النظرة الأولى لك، والثانية عليك" (4) . حتى قيل: "رُبَّ حربٍ حميتْ من لفظه، وربَّ عِشقٍ غرس من لحظِه". وقد نقل الشيخ محيي الدين النووي (5) تحريمَ النظر إلى الأمرد الحسن بشهوة وبغير شهوة، وأفتى به وصحَّحه - رحمه الله - ذهابًا إلى سَدِّ هذه الثغرًة وحَسْمِ مادة هذه البلية العظيمة. فإن كان هذا السائل كما زعم ممن لا يُدَنِّس عشقَه بزنًا، ولا   (1) سورة الشورى: 37. (2) أخرجه البخاري (6612) ومسلم (2657) . والمراد ببعض السلف ابن عباس. (3) سورة النور: 30. (4) أخرجه أحمد (5/351،353) وأبو داود (2149) والترمذي (2777) عن بريدة بن الحصيب. (5) في "فتاواه" (ص202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 يَصحبُه بخنًا، فيُنظَر في حالِه، إن كان من الطبقة الأولى فقد ذكر شروطهم فيما يتعلق بالكتمان حتى عن المحبوب، وإن كان كافيًا لهم ان صدقت دعواهم. وإن كان من الطبقة الثانية فلا بأسَ بشكواه إلى محبوبِه كي يَرِق عليه ويَرحمَه. وإن غَلَبَه الحالُ فالتحقَ بالثالثة أُبيحَ له ما ذكرنا، بشرطِ أن لا يكون أنموذجًا لفعل القبيح المحرم، فيلتحق بالكبائر، فيستحق القتلَ عند ذلك، ويزول عنه العذر، ويَحِقّ عليه كلمة العذاب، (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)) (1) . وأما ما يتعلق بالمعشوق فيجبُ عليه إدامةُ حمدِ الله وشكرِه على ما أعطاه من الجمال والحسن، ويَحرِص أن لا يجتمع مع حُسنِه قبيحُ الفعال، ولا يُدنِّس جمالَه بخسيس الخصال. فإن ظهرَ له من محبّةِ هذا صِدقُ دعواه، وفهم سلوك طريق المحبة من نجواه، فعامَلَه المعاملةَ الجميلة، وأباحَ له النظرَ والمحادثةَ المذكورة، والقُبلةَ في الأحيانِ بالشروطِ المتقدمة، مع أنَ هذا يكون تفضُّلاَ منه فلا يجب عليه، فإن خَسَّتْ نفسُ العاشقِ وجَنَحَتْ إلى الفِسقِ الصُّراحِ هَجَرَه، وما عليه في ذلك من جُناح، وإن قَتَلَه بعشقِه فليقتُلْه، فهذا بعضُ حقِّه. والله أعلم بالصواب، وعنده علم الكَتاب. آخره، والله سبحانه وتعالى أعلم. ***   (1) سورة الزمر: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 مسألة في الفُتُوَّة وآدابها وشرائطها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 مسألة في الفتوة وآدابها وشرائطها، وهل لها أصل في كتاب الله وسنة رسول الله؟ وهل الفتوة متصلة بإبراهيم الخليل عليه السلام أو بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ وهل إذا كانت متصلة بأحد من الأنبياء أو من الأولياء، فهل للباس والماء والملح الذي يشربونه أصل في ذلك؟ حتى أنه إذا شرب أحدهم الشربة يعد نسبها إلى آدم عليه السلام، وكيف سمّيتْ فتوة؟ وأيش السبب في ذلك؟ وهل لأحد من أئمة المسلمين قول في ذلك أم لا؟. الجواب الحمد لله. الفتى في كلام العرب هو الحدث بالنسبة إلى غيره، كما قال تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً (13)) (1) ، وقال تعالى: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)) (2) ، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) (3) ، (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ) (4) . ثم إنها غلبت في عرف كثير من الناس على مكارم الأخلاق، لكون الشباب ألين أخلاقا من الشيوخ، وصاروا يطلقون الفتوة على ذلك، حتى قال بعض المشايخ: طريقتنا تَتَفَتَّى وليس تَتَعَرَّى. وكما قال آخر منهم: التصوف خُلُقٌ، مَن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف.   (1) سورة الكهف: 13. (2) سورة الأنبياء: 60. (3) سورة الكهف: 60. (4) سورة يوسف: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وأعظم مكارم الأخلاق تقوى الله، ولهذا روي عن الإمام أحمد أنه سئل عن الفتوة، فقال: ترك لما تخشى. وهذا من قوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)) (1) . ولهذا يقولون: إن هذه الآية تجمع علم الطريق، وصار يتكلم في الفتوة وما يدخل فيها من طوائف من المشايخ وغيرهم، وجماع الأمر المحمود يرجع إلى الأصلين، كما روى حديثًا صححه عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِل ما أكثر ما يُدخِلُ الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل ما أكثر ما يُدْخل الناسَ النار؟ فقال: الأجوفان: الفم والفرج (2) . فتقوى الله وحسن الخلق يجمع كل خير، وقد قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)) (3) . وسواء سمي ذلك فتوة أم لم يُسمَّ، فالاعتبار في الدين بالإخاء التي جاءت (4) في القرآن وما علق بها من مدح وذمّ، ووعدٍ ووعيد، وثواب وعقاب، فالممدوح مثل اسم الإيمان والإسلام والتقوى والإحسان والبر والصدق والعدل ونحو ذلك، والمذموم مثل الكفر والنفاق والفجور والإساءة والكذب والظلمِ والفواحش ونحو ذلك. فمن فعل ما يُحمَد عليه في القرآن حُمِد، ومن فعَل ما يُذَمُّ عليه في القرآن ذُمَّ، ومن فعل ما يُحمَد وما يُذَمُّ استحقَّ الحمد والذمّ جميعَا، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)) (5) .   (1) سورة النازعات: 40-41 (2) أخرجه أحمد (2/291،392،442) والبخاري في "الأدب المفرد" (289، 294) والترمذي (2004) وابن ماجه (4246) عن أبي هريرة. (3) سورة النحل: 128. (4) كذا في الأصل بتأنيث اسم الموصول والفعل. (5) سورة فصلت: 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وأما سقي الماء والملح وإلْباس السراويل ونحو ذلك فبدعة باطلة لا أصلَ لها، ولم يفعل ذلك أحدٌ من الأنبياء والصالحين، لا إبراهيم ولا علي ولا غيرهما. ولا يُشرَع اجتماع طائفة وتحزُبُهم على التناصر المطلق، بحيث ينصر بَعضُهم بعضًا في الحق والباطل، بل الواجب على كل أحدٍ اتباع كتابُ الله وسنة رسوله، والمؤمنون إخوة يجب موالاة بعضهم بعضًا وتناصرهم وتعاونهم على البر والتقوى. قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (1) ، وقال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)) (2) ، وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)) (3) . وفي الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر". وقال (5) : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُذُ بَعْضُه بعضا"، وشبك بين أصابعه. وقال (6) : "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يُحِب لأخيه من الخير ما يُحِبّه لنفسه".   (1) سورة الحجرات: 10. (2) سورة المائدة: 55-56. (3) سورة التوبة: 71. (4) البخاري (6011) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير. (5) أخرجه البخاري (1437) ومسلم. (2585) عن أبي موسى الأشعري. (6) أخرجه البخاري (13) ومسلم (45) عن أنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وأمثال هذه الآيات والأحاديث التي إذا آمن الناس بها، وسَمَّوا بما سمّاهم الله ورسوله، جمع الله لهم خير الدنيا والآخرة. ولم يكن من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين لا من أهل البيت ولا غيرهم [مَن] يدعو الناس إلى هذا الاسم، ولا يحزب له أحزابًا عليه. ومن نقلَ عن أمير المؤمنين علي أو غيره شيئًا من ذلك فقد كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بحاله. وأما الأمور المكروهة في الدين من الظلم والكذب (1) ونحو ذلك، فلا يشك مؤمن بالله ورسوله أنه يجب النهي عن ذلك، بل يجب النهي عن دواعي ذلك وأسبابه وما يقصد به ذلك. وكثير مما تسميه الناس فتوةً في هذا الزمان يقصدون به التعاون على ظلم أو فاحشة، ويجعلون ذلك وسيلةً لصيد المُردان وإفسادِهم، فلو كان الفعل الذي يفعلونه مباحًا وكان المقصود به ذلك لكان محرَّمًا باتفاق المسلمين، فإنّ في الصحيحين (2) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوَّجُها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه". فإذا كانت الهجرة التي أمر الله بها عبادَه، إذا كان مقصود المهاجر [بها] التزوّج بامرأةٍ أو طلب دنيا لم يكن له إلاّ ذلك، ولم يكن له في الآخرة من خلاق، فكيف ممن يفعل البدع لقصد الفواحش والظلم،   (1) في الأصل: "اللـ". (2) البخاري (1) ومسلم (1907) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 حتى يُجَرِّئُوا الشباب على القتل المحرم وأخذ الأموال والعِشرة في طاعة الشيطان، من جنـ[ـس] ما يفعله أهل الدساكر وأهل المياسر. والواجب النهي عن هذه الشباهة، وعقوبة من يفعل ذلك عقوبة بليغة تردع المتعاونين على الإثم والعدوان المتشبثين بخطوات الشيطان. والله أعلم. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة، كدق المنبر بالسيف في أول درجه وثانيه وثالثه، وقول المؤذنين عند ذلك: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وعلى أبي بكر وعمر ضجيعَيْه، وفي الثانية: وعلى عثمان وعلي صِهْرَيْه؛ وفي الثالثة: وعلى آل محمد وعلى الحمزة والعباس عَمَّيْه. فإذا رَقِيَ أعلى المنبر أقبلَ على الناس وسلَّم عليهم ورفعَ يدَه، فإذا شرعَ في الخطبة وأتى إلى ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفعَ المؤذنون أصواتهم بالصلاة عليه، فإذا فرغ الخطيب قام بعضُ المؤذنين ومجَّد الخطيبَ وأثنى عليه. الجواب البدع التي يفعلها الخطباء في الجمعة متعددة، قد ذكروا منها نحو عشرين بدعة (1) ، منها ما ذكر من الدق بالسيف، ورفع المؤذن صوتَه بالدعاء للخطيب، أو بالصلاة والترضي. وأما تسليم الإمام عليهم إذا استقبلَهم بعد الاستدبار، فهو مستحب عند الشافعي وأحمد وغيرهما (2) ، وقد جاء ذلك مأثورًا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3) ،   (1) ذكر الشيخ الألباني بدعا أخرى أوصلها إلى 75 بدعة، أكثرها متعلق بالخطبة والخطيب. انظر "الأجوبة النافعة" (ص64-75) . (2) انظر: "معرفة السنن والآثار" (2/489) و"روضة الطالبين" (1/536) و"المقنع في شرح مختصر الخرقي" لابن البنا (1/439) و"المستوعب" للسامري (2/28) . (3) وهو ضعيف، أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (2/121) وابن عدي في "الكامل" (5/253) عن ابن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ولكن يسلِّم السلام الشرعي. واتفق الأئمة على أن المشروع لمن سمعَ الخطيبَ أن يُنصِت ولا يَجهرَ بشيء، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا قلتَ لصاحبك - والإمام يخطب يوم الجمعة-: أَنصِتْ، فقد لغوتَ" (1) . فإذا كان الأمر بالإنصات لاغيًا فكيف غيره؟ وسواء في ذلك المؤذن وغيره، لا يجهر أحدهم عند تكلُّم الخطيب بشيء، لا بصلاةٍ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا غير ذلك. لكن هل يسكتُ عند ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو يصلّي عليه سِرًّا في نفسِه؟ هذا فيه نزاعٌ بين العلماء، فأما رفع الصوت بذلك أو غيرِه فمنهيٌّ عنه باتفاق العلماءِ، وجمهورُهم على أنّ ذلك محرَّم، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قولَيْه وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقد تبين أن هذه الأفعال مذمومةٌ إلاّ سلام الخطيب على المأمومين. والله أعلم. الحمد لله، وصلَّى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ***   (1) أخرجه البخاري (934) ومسلم (851) عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قاعدة في أفعال الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا. فصل في أعمال الحج والعمرة، وما يُشرَع منها في غير حج ولا عمرة، وما يختص بالحج، وهل لمن ليس بحاج ولا معتمر أن يدخلَ معهم في بعض ذلك ولا يلتزمَ شرائطَه، وكذلك الصلاة فنقول : أعمال الحج ثلاثة أقسام، منها ما يختص بالحج، ومنها ما يشترك فيه الحج والعمرة، ومنها ما يُشرَع منفردًا عن الحج والعمرة. فهذا الثالث هو الطواف بالبيت، فإن الحج لابدّ فيه من طوافٍ بالبيت، وكذلك العمرة. والطوافُ عبادة مستقلة، فيطوف بالبيتِ المُحِلُّ الذي ليس في حج ولا عمرة، ولا يُشتَرطُ له إحرامٌ. وهذا متفق عليه بين المسلمين، مشروع للخلق من حين بَنَى إبراهيمُ البيتَ. قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)) (1) . فهذه   (1) سورة الحج: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 العبادات الطواف والاعتكاف والصلاة هي مشروعة لجميع الناس، لا يَختصُّ شيء من ذلك بالحج والعمرة، بل الاعتكاف مشروع بغير إحرام، وكذلك الصلاة، وكذلك الطواف. لكن الطواف هو ركن في الحج والعمرة، بخلاف الاعتكاف، لقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)) (1) . وأما الطواف بالصفا والمروة فيختصُّ بالحج والعمرة، لا يُشرَعُ منفردًا، بل ولا يُشرَع إلاّ بعدَ الطواف بالبيت، ولهذا يجيء في الحديث: "طافَ بالبيت وبين الصفا والمروة" (2) . قال تعالى: (*إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (3) ، لم يُشرَع ذلك مطلقًا كما شُرِع الطواف والاعتكاف والصلاة، وقد ثبتَ في الصحيح (4) : أن ناسًا كانوا يظنونَ أن الصفا والمروة ليس من شعائر الله، بل ظنُّوا ذلك من أعمال الجاهلية، وآخرون كانوا لا يطوفون بهما في الجاهلية. فلما جاء الإسلامُ سألوا عن ذلك، فأنزلَ اللهُ هذه الآية، يُبيِّنُ أن الصفا والمروة من شعائرِه، وقد شَرَعَ لعبادِه الطوافَ بهما، فلا جُناحَ في ذلك على من حجَّ أو اعتمر، وأزالَ بذلك ما كان قد حَصَلَ من الشك والظن. وهذا كما يسألُ الرجلُ عن عبادةٍ مأمورٍ بها، فيظنُّ أنها منهيّ عنها، فيقالُ له: لا بأس بذلك، وإن كان ذلك مشروعًا مستحبا. ولم يكن حين نزولِ هذه الآية قد أوجب الله الحج، بل بيَّن أن   (1) سورة الحج: 29. (2) انظر مثلًا عند البخاري (1545) عن ابن عباس، و (1708) عن ابن عمر، و (1762) عن عائشة. (3) سورة البقرة: 158. (4) البخاري (1643) ومسلم (1277) عن عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ذلك مشروع بقوله: إنهما (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) ، وبقوله: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)) (1) . فهذا وهذا يبيّن أن ذلك عمل صالح، وأن قوله "فلا جناح" لنفي الشبهة التي وقعت لهم في ذلك، وأنَ قوله "لا جناح عليه" أي لا جناح في التقرب بالطوافِ واتخاذِه عبادةً، فإنّ أحدًا لا يطوف بهما إلاّ على وجه التعبُّد، ليس ذلك كالسفر الذي يُفعَل على وجهِ العبادة وغيرِ وجهِ العبادة. فلما قال تعالى (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) وهو لا يفعل إلاّ عبادةً، كان المعنى: لا جُناحَ [على] من عبد الله بهما، فيدلُّ ذلك على أنّ الطواف بهما عبادةٌ لله. وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن تنازعوا: هل ذلك ركن؟ كما يقوله مالك والشافعي، أو واجبٌ يَجْبُره دم؟ أم لا شيءَ في تركهما؟ كما يقوله طائفة من السلف، وهي ثلاث روايات عن أحمد (2) . وأقوى الأقوال أنه واجب يَجبُره دمٌ. وهذا كما يقول: تُقامُ الجمعة في القرى، وبدون إذن الإمام، وإن كان ذلك واجبًا، لما في ذلك من الشبهةِ. وكما يجوز الجمع بين الصلاتين بعرفةَ ومزدلفةَ، وإن كان ذلك هو السنة. وكما يجوز إشعارُ الهَدْي، وإن كان ذلك هو السنة. وكما يقول: يجوز قضاء الفوائتِ في أوقات النهي، وإن كان ذلك واجبًا، لأنَّ قضاءَها على الفور. وكما يجوز قَصْرُ الصلاةِ في السفر وإن كان آمنًا، وهذا هو السنة، بل هو واجب في أحدِ قولَي العلماء. ونظائر ذلك كثيرة. والمقصود هنا أن الطواف بالصفا والمروة مما لا يكون إلاّ في   (1) سورة البقرة: 158. (2) انظر "المغني" (5/238-239) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 حج أو عمرةٍ بالكتاب والسنة والإجماع، فلا يُفْعَل مُفردًا كالطواف، ولا يختصُّ بالحج كالوقوف. وكذلك الإحرام والتلبية والحلق أو التقصير هو مما يشترك فيه الحج والعمرة. وأما القسم الثالث وهو ما يختصّ [به] الحج، كالوقوف بعرفةَ وتوابعه مزدلفةَ ومنى، ورمي الجمار، فهذه الأعمال يختص بها الحج، وما اختصّ به الحج فإنه يختصُّ بمكانٍ وزمانٍ. فالوقوف لا يكون إلاّ يومَ عرفةَ وليلةَ النحر، وهو مختص بعرفات، لا يُسافَر إلى غيرِها للوقوف، وكذلك توابعه: كالوقوف بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فهذا له مكان مخصوص، وهو مشروع في أوقاتٍ مخصوصة. بخلاف العمرة، فإنها مشروعة في جميع السنة، قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1) ، وقال: (*يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (2) . ولهذا اتفق العلماء على أنَّ من طَلَعَ عليه فجرُ يومِ النحرِ ولم يَقِفْ بعرفةَ، أنه فاتَه الحج، لأنَّ له وقتًا محدودًا، وإذا فاته الحج سقطتْ توابعُه - كالوقوف ورمي الجمار - عند عامة العلماء للسلف والخلف، وهو قولُ الأئمة الأربعة وغيرهم، لكنه هل ينقلب إحرامُه عمرةً؟ لكونها لا وقتَ لها، أو يتحلَّلُ بطوافِ الحج وسعيِه؟ فيه قولانِ مشهوران للعلماء، والنزاع في مذهب أحمد وغيره (3) .   (1) سورة البقرة: 197. (2) سورة البقرة: 189. (3) انظر: "المغني" (5/425-427) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وفيها قولٌ شاذ أنه يتمُّ أعمالَ الحج من الوقوف بمزدلفةَ ورمي الجمار، يُروَى عن الأوزاعي والمزني، وهو رواية ضعيفة عن أحمد. والصواب ما عليه الجمهور، كما نُقِلَ عن الصحابة، ولأن اللهَ إنما أمر بهذه الأعمال من وقفَ بعرفةَ، فقال: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (1) الآية. وإذا كان إنما أمر بذلك من أفاض من عرفات، فمن فاته الحج لم يُفِض من عرفات، فلا يؤمَر بذلك. وهذا كما أن الطواف بين الصفا والمروة إنما يكون تابعًا للطواف بالبيت، فلا يُفعَلُ إلاّ بعدَه، فمن لم يَطُفْ بالبيت لم يَطُفْ بالصفا والمروة. وأعظم أعمال الحج الوقوفُ والطواف، وهما ركنانِ في الحج باتفاقِ العلماء، وهذا من جنس السكون، وهذا من جنس الحركة. فصل فمن اجتاز بالمواقيت لقصد الحج والعمرة، فعليه الإحرام بالسنة المستفيضة واتفاقِ العلماء، كما قال ابن عباس في الحديث المتفق عليه (2) ، وقال: وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، وأهل الشام الجحفة، وأهل نجدٍ قرنًا، وأهل اليمن يلملم، وقال: "هنّ لهنّ ولكل آتِ آتى عليهن من غيرِهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دُونَ ذلك   (1) سورة البقرة: 198-200. (2) البخاري (1526) ومسلم (1181) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فمن أهلِه، حتى أهل مكة يُهِلُّون منها". وإذا اجتاز بالمواقيت لا يُرِيد الحرمَ، فليس عليه الإحرامُ بالاتفاق. وإن اجتاز بها يُريد مكةَ لتجارة أو زيارة أو غيرِ ذلك مما لا يتكرر، فإنه ينبغي له أن يَدخُل محرمًا بحج أو عمرة. وهل ذلك واجب؟ فيه قولان للعلماء، والجمهور على الوجوب، وهو مأثور عن ابن عباس، حكاه عنه أحمد وغيره، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد. وعنهما أن ذلك مستحب. ومن قال بالوجوب تنازعوا فيما إذا ترك ذلك، هل يلزمُه القضاءُ؟ فأوجبَه أبو حنيفة، ولم يُوجِبْه الباقون. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ممن يريد الحج والعمرة" (1) لا يُنافِي هذا القولَ، فإن هؤلاء يُوجبون عليه أن يُرِيد الحج أو العمرة، لكن الحديث فيه نفي ذلك عمن (2) لا يريده، مثل المجتاز بالمواقيت إلى غير مكة. ولو كان منزلُه بالمواقيت أو دونَها لم يُوجبْ أبو حنيفة عليه الإحرام، وأوجبه مالك والشافعي وأحمد - علىَ قولهما بالوجوب -، وقد حكى الطحاوي الأوَّلَ عن مالك. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو وخلفاؤه لم يَدخُلْ أحدٌ منهم مكَّةَ إلاّ محرمًا، إلاّ عامَ الفتح، فانه دَخَلَ وعلى رأسِه المِغْفَر (3) ، ولم يكن محرمًا، لأن الله أَحَلَّ له القتالَ فيها يومَئذٍ، وقال: "إنها لم تَحِلَّ لأحدِ قبلي، ولا تَحِلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهارٍ" (4) . وقال: "فإن   (1) في حديث ابن عباس السابق. (2) في الأصل: "عما". (3) أخرجه البخاري (1846) ومسلم (1357) عن أنس. (4) أخرجه البخاري (112) ومسلم (1355) عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أحدٌ تَرخَّصَ بقتالِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها فقولوا: إنما أحلَّها اللهُ لرسوله، ولم يُحِلها لك، وقد عادت حرمتُها اليومَ كحرمتِها أمسِ" (1) . فصل وأما من عَمِلَ أعمالَ الحج والعمرة فهذا عليه أن يفعلها على الوجه المشروع، وليس له أن يجتاز بالمواقيت بلا إحرامٍ، بالسنة واتفاق العلماء. وهو كمن أراد الصلاةَ، عليه أن يُصلَّيها على الوجه المشروع، فيصلّيها بطهارة وقصدٍ إلى القبلة، وإن كانت الصلاةُ تطوعًا غيرَ فرضٍ، لكن ليس له أن يُصلَيَ إلاّ على الوجه المشروع. كذلك الحج والعمرة وإن كان متطوعًا، فليس له أن يحجّ ويعتمر إلاّ على الوجه المشروع. فلو قال: أنا أدخلُ بلا إحرام، وأطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، لم يكن له ذلك. وكذلك لو قال: أنا أدخلُ بلا إحرامٍ، وأَقِفُ بعرفةَ ومزدلفةَ وأرمي الجمار، لم يكن له ذلك بالسنة واتفاقِ العلماء. ولو قال: أنا أريد الوقوفَ فقط، فأذهبُ في شأني غيرَ محرمٍ إلى عرفة، فأقِفُ مع الناس وأرجعُ، فهذا أولَى بالمنع، لأن ذاك تركَ الإحرامَ وحدَه، وهذا تركَ الإحرامَ وتوابعَ الوقوف. والوقوف بعرفة إنما شرعَه الله بعمل قبلَه - وهو الإحرام -، وعملٍ بعده - وهو الوقوف بالمشعر الحرام وسائر المناسك-، قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ   (1) أخرجه البخاري (1832) ومسلم (1354) عن أبي شريح العدوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إلى قوله (*وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)) (1) . فأمر سبحانَه الناسَ إذا أفاضوا من عرفات أن يذكروه عند المشعر الحرام، وهو مزدلفة كلها بالسنة واتفاق العلماء، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عرفة: "هذا الموقف، وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنَة". وقال في مزدلفة: "هذا الموقف، ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن مُحَسَّر". وقال: "منى كلها مَنْحر، وفجاجُ مكة كلها منحر" (2) . وأمر الناس بقضاء مناسكهم أي إتمامها وإكمالها. وأمرهم أن يذكروه في أيام معدودات، وهنّ أيام التشريق، وفيها يُرمَى الجمارُ الثلاث، ويُذكرَ اللهُ عند رمي الجمار بدعاءٍ بينَ كلّ جَمرتَيْن. ومزدلفةُ المبيتُ بها والوقوفُ بها ورَمْيُ الجمار بمنًى واجب عند العلماء قاطبة، ومنهم من جعلَ الوقوفَ بمزدلفةَ ركنًا. فهذا الذي وقفَ بعرفةَ إن لم يفعل ما أمره الله من هذه الأعمال فقد عصى الله ورسولَه، وتَركَ ما أوجبَه الله. وإن فَعَلَ ذلك بغير إحرام، وقال: كنتُ حاجًّا، فهو أيضًا عاصٍ لله ورسوله، فإن هذه هي أفعال الحج، وليس للإنسان أن يأتي بالعبادة بلا قَصْدِ التعبد، فإنّ هذا استهزاءٌ بآيات الله. وهو بمنزلة من يقومُ ويَركعُ ويقرأ ويسجد، ويقول: لستُ مُصلِّيًا، فلا أحتاجُ إلى وضوء.   (1) سورة البقرة: 198-203. (2) هذه الألفاظ من حديث جابر الطويل الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما في مواضع من كتاب الحج مطولاً ومختصرًا. فيطلب من هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وليس لأحدٍ أن يَشهدَ مجامعَ الناس في صلاتهم وحجهم إلاّ إذا شاركهم في ذلك. وفي السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صلاةَ العصر بمسجد الخيف، فرأى رجلينِ لم يُصَلِّيا، فقال عليَّ بهما، فأُتِيَ بهما تُرعَدُ فَرائِصُهما، فقال: "مالكما لم تُصَلِّيا؟ ألستما مسلمينِ؟ "، فقالا: يا رسولَ الله! صلينا في رحالنا، قال: "إذا صليتما في رحالِكما ثمَّ أتيتما مسجدَ جماعةٍ فصَلِّيا معهم، فإنهما لكما نافلة" (1) . وكذلك قال عن الأمراء الذين يُؤخرون الصلاةَ عن وقتها، قال: "صَلُوا الصلاةَ لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلةً" (2) . وفي رواية: "ولا يَقُلْ أحدُكم قد صَلَّيتُ" (3) . وكذلك الوقوف بعرفة ومزدلفةَ، لا يَقِفُ هناك مع الحجاج إلاّ حاجٌّ مُحرِم. وقد رُوِي عن عمر بن الخطاب أنه رأى بعرفةَ قومًا عليهم العمائمُ، فأرادَ عقوبتهم. والله سبحانَه يُبَاهِي الملائكةَ بأهلِ عرفَةَ، فيقول: انظروا إلى عبادي، آتوني شُعْثًا غُبْرًا (4) . وهذا شعارُ الإحرام، فمن لم يُحرِم لم يأتِ رَبه لاَ أشعثَ ولا أغبرَ. فمن ذهبَ إلى عرفات بغير إحرام، ووقف مع الناس ثم انصرف منها، كما يَحصُل لطائفةٍ من الناس ممن   (1) أخرجه أحمد (4/160،161) والدارمي (1374) وأبو داود (575،576، 614) والترمذي (219) والنسائي (2/112) عن جابر بن يزيد بن الأسود العامري عن أبيه. (2) أخرجه مسلم (648) [244] عن أبي ذر. (3) هي عند البخاري في "الأدب المفرد" (954) ومسلم (648) [242] . (4) أخرجه أحمد (2/224) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه أيضًا (2/305) عن أبي هريرة. وهو حديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يَحمِلُه الجن والشياطين، يَحمِلُونهم إلى عرفات ثمّ يَرُدُّونهم، فهؤلاء ضالُّون مبتدعون خارجون عن شريعة الإسلام، وإن كانوا وقفوا بعرفاتِ بغيرِ إحرامٍ وفي غيرِ حجّ، ولم يفعلوا ما أمر به المفيضون من عرفات بعد ذلك. والوقوفُ بعرفاتٍ لا يكون قط مشروعًا إلاّ في الحج باتفاق المسلمين، في وقتٍ معين على وجهٍ معين، فمن قال: أَقِفُ ولستُ بحاجّ فقد خرجَ عن شريعة المسلمين، بل إن اعتقد ذلك دينا لله مستحبًّا فإنَّه يُستتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِلَ. وإن قال: ليس بدينٍ لله ولا هو مستحب، قيل له: إنما فعلتَ على وجهِ التديُّن والتعبد به، وهذا لا يجوز. وإن كنتَ فعلتَه على سبيل التنزه والتفرُّج فهذا شَرٌّ وشَرٌّ. والحج والعمرة لهما شأن يميزهما، فيلزمان بالشروع، كما قال: (وأتموا الحج والعمرة لله) (1) ، فمن دخلَ فيهما لم يكن له الخروج، فالواقفُ بعرفةَ عليه إتمامُ الحج وإن كان متطوعًا، وليس له أن يَقِفَ ويَنصرِفَ باتفاق المسلمين. فهذا الذي حَملتْه الجن إلى عرفةَ ثم منها إلى بلده، قد تركَ ما أمر الله به قبلَ الوقوف وبعدَ الوقوف وحالَ الوقوف، حيث وقَفَ بثيابه من غير إحرام. ولو قُدِّرَ أنه وَقَفَ بعرفةَ ومزدلفةَ ومنى كان قد تركَ ما يجب عليه من الإحرام، وفعل ذلك في ثيابه بغير عُذْرٍ. وهذا لا يجوز بالنص والإجماع. ولهذا يُذكَر عن بعض المحمولين إلى عرفةَ من بلدٍ بعيدٍ - إمّا الإسكندرية أو غيره - أنه رأى في منامه وهو هناك ملائكةً تَنزِلُ تكتُبُ   (1) سورة البقرة: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الحجاجَ، فقال: ألاَ تكتبوني؟ فقالوا: لستَ منهم، الحجّاجُ هؤلاءِ الذين جاءوا رُكبانًا ومُشاةً، وأحرموا ووقفوا وهم يتمون الحج. أو كما قيل له. وأيضًا فالله تعالى إنما دعا الناسَ إلى بيته على لسانِ الخليل، قال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) (1) . فجَعلَ الآتينَ إلى بيته نوعينِ: رجالاً ورُكبانًا، وليس فيهم طائر ولا محمول في الهواء، فدلَّ على أن هذا القسم الثالث ليسوا ممن أجاب دعوةَ ربّهم، ولهذا لا يُلَبون. ومنهم من يَحمِله الشيطانُ، ويَمنعُه أن يَرى شيئًا، فلا يُحِسُّ بنفسِه إلاّ بعرفةَ أو بغيرها من الأماكن التي يحمله إليها. وقد حدَّثني غيرُ واحدٍ من الثقاتِ عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه قال: خرجتُ مرةً، فرأيتُ بالكسوةِ - أو قال بغيرها - رجالاً ممن يطير في الهواء، فيذهب إلى مكة، فقالوا: لا تذهبُ معنا؟ فقلتُ لهم: لا، فإن هذا الذي تفعلونه لا يُسقِط الفرضَ عنكم، ولا يتقبله الله حتى تحجوا كما أمر الله ورسولُه، فيحصُل لكم في طاعةِ اللهِ من التَعَب وغيرِه ما يَأجُرُكم الله عليه، وأما هذا الحج فلا فائدةَ فيه. فقالوا: نحن نَقْبَل منك ونَحجُّ معك على السنة. فلما حَجوا قالوا: جزاكَ الله خيرًا، فإنّا في هذه الحجة ذُقْنا طعمَ العبادةِ لله وحَلاوةَ الحج. ومن هؤلاء المحمولين الذي تَحمِلُهم الجن إلى مكة من يُذهَبُ به قبلَ الحج، فيُحرِم من الميقاتِ، ويحجُّ حجَّ المسلمين. ولكن هذا محروم، فوَّتَ نفسَه فَضْلَ السَّيْرِ إلى المواقيت راكبًا أو ماشيًا، فلم   (1) سورة الحج: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 يكن له أجر الحجَّاج. ومن هذا الباب ما يُحكَى عن بعض المشايخ - معروفٍ أو غيرِه - أنه سارَ في الهواءِ إلى مكة، فطافَ بالبيتِ، ثمَّ ذهبَ ليشرَبَ من زمزم، فوقَعَ فَشُجَّ. فإنّ هذا وإن كان أهونَ من الذي حُمِلَ يومَ عرفةَ إلى عرفةَ، كما حُمِلَ جماعة كثيرة من أعصارٍ وأمصارٍ متفرقةٍ. وأقدمُ من حُكِيَ هذا عنه حبيب العجمي. فأما الصحابة فكانوا أجلَّ قَدْرًا من أن يَطمَعَ الشيطانُ في أن يُضِلَّهم ويَصْرِفَهم عن سنة الرسولِ وشريعتِه، كما صَرَفَ من كانَ قليلَ العلمِ والمعرفةِ بالسنة والشريعة من العُبّاد والزهّاد وغيرِهم. والذين يُحْمَلون إلى عرفات أو غيرها، منهم من لا يَعرِف أن ذلك من الجنّ، ومنهم من يَعرِف ذلك، ويَظُنّ هؤلاء وهؤلاء أنّ ذلك كرامة من كرامات الأولياء، وأنّ هذا العمل مما يُحِبُّه الله ويَرضاه ويثيبُ صاحبَه عليه. ولو علموا أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب في الشريعة، وأنّه من إضلالِ الشياطين لهم، لم يفعلوه لما عندهم من الدين والخير وحسنِ القصد، رحمة الله عليهم. والمجتهد المخطئ يُغفَر له خَطَؤُه، ويثَاب على حسن قَصْدِه وما عمله من عمل مأمورٍ به، والله أعلم. لكن مثل هذا هو مما يُعذَر فاعلُه عليه، ليس هو مما يُستَنكَر عليه، بخلاف ما فعلَه من لم يَعرِف، فإنه يظن أن هذا من أعظم القُربات. ولو عَلِمَ أنّ مثل هذا الحمل إلى الأمكنة البعيدة يَحصُل للكفار من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين أعظمُ مما يَحْصُل للمؤمنين، لَعَلِمَ أنه من عمل الشيطان، لا مما أمرَ به الرحمن. وذلك أن الطواف بالبيت مشروع بغير إحرام، لكن نفس الدخول إلى مكة للطواف بغير إحرام لا يجوز عند جماهير العلماء، بل لو جاز لتجارةٍ لم يجز، فكيف للطواف بلا إحرام. ومن لم يُوجِبْه فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 يَستحِبُّه، فهذا فوَّتَ نفسَه هذه الفضيلة. وذهابُه محمولاً مع الجنّ أو غيرهم في الهواء ليطوفَ ليس من الأعمال الصالحة المشروعة، لا واجبًا ولا مستحبًّا، ولو كان ذلك مشروعًا لكان الأنبياء أقدرَ على ذلك، وكانوا يذهبون في الهواء يَحجُّون، وهذا لم يُعرَف عن أحدٍ من الأنبياء ولا الصحابة، والأنبياء أفضل الخلق، والصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء، ولو كان عملاً صالحًا لكان هؤلاء أحق به من غيرِهم. ونبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أُسرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليُرِيَه الله من آياته بالمعراج، كما قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)) (1) . فالمقصود كان أن يُرِيَه الله من آياتِه، كما أراه ليلةَ المعراج ما أراه من الآيات. قال تعالى: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)) (2) . وقال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (3) . وفي الصحيح (4) عن ابن عباس قال: هي رؤيا عَينٍ أُريَها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةَ أُسرِيَ به. ولهذا كان قوله (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) دليلاً في المعراج الذي كان بعد المَسْرَى إلى المسجد الأقصى، لم يكن المقصود مجردَ رؤية الأقصى، فإنه قد رآه المسلم والكافر والبَرُّ والفاجر، ولكن هو سبحانَه أخبر بذلك ليكون هذا آيةً للرسول، فإنهم قد رأوا   (1) سورة الإسراء: 1. (2) سورة النجم: 12-18. (3) سورة الإسراء: 60. (4) البخاري (3888،4716،6613) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 المسجد الأقصى، فإذا أخبرهم أنه رآه ووَصَفَه لهم - كما جاء في الحديث الصحيح (1) - كان ذلك حجةً له على أنه رآه، ولم يُمكِنْهم تكذيبُه في ذلك، بخلاف ما لو أخبر بالعروج إلى السماء ابتداءً، فإنهم كانوا إذا كذبوا بذلك لم يكن هناك ما رأوه حتى يَصِفَه لهم. وهو سبحانَه قد أخبر بعُروجِه إلى السماء في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)) (2) . وهو سبحانَه ذكر هذا بعد أن ذكر رؤيةَ جبريل النزلة الأخرى في الأرض، فإنه رآه على صورته مرتين، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقال في سورة التكوير وقد ذكر سبحانه بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)) (3) ، فهذا جبريل، ثم قال: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)) (4) . وهؤلاء الذين يُحمَلُون إلى مكة في الهواء: منهم من مُثل له فرسٌ أو بعيرٌ، يركبُه وهو يسير في الهواء، ومنهم من لا يرى شيئًا، ومنهم من يَعرِف أنه محمولٌ. وقد حدثني منهم مَن حُمِل، وحدَّثني جماعاتٌ عن جماعاتٍ منهم وعمَّن كان قبلَنا. وأحوالُهم مع الشياطين بحسبِ بُعدِهم عن معرفةِ ما جاء به الرسولُ والعملِ به، فإنّ هذا هو   (1) أخرجه البخاري (3886،4710) ومسلم (170) عن جابر. (2) سورة النجم: 13-18. (3) سورة التكوير: 19-21. (4) الآيات 22-29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 دين الله، وأهلُه هم عباد الله الذين لا سلطانَ للشيطان عليهم، كما قال تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفي بربك وكيلا (65)) (1) . ولما قال الشيطان: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)) (2) قال الله: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) ، ثم قال: (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (3) . وهذا استثناء منقطع في أصح القولين، لقوله في الآية الأخرى. (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)) (4) ، ولم يستثن منهم أحدًا. وقال في الآية الأخرى: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)) (5) . و عباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين، وعبادتُه إنما هي بطاعته وطاعة رسله، وذلك هو الواجب والمستحب، كما في صحيح البخاري (6) وغيره [في] حديث الأولياء من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" - ورُوِي: فقد آذنتُه بالحرب - "وما تقربَ إلي عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحِبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمع به، وبَصَرَه الذي يبصر به، ويَدَه التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، ولئن سألني لاعطِينه،   (1) سورة الإسراء: 65. (2) سورة الحجر: 39-40. (3) سورة الحجر: 41-42. (4) سورة الإسراء: 65. (5) سورة النحل: 98-100. (6) برقم (6502) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ولئن استعاذ بي لأعِيذنَّه. وما تَردّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدي عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأكره مَساءتَه، ولا بدّ له منه". وهذا مبسوط في مواضع (1) . والمقصود هنا أنه كلَّما كان الإنسان أقربَ إلى الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسولَه كان أقربَ إلى أن يكون من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وكلَّما كان أبعدَ عن ذلك كان أقربَ إلى الشياطين. فهؤلاء الذين يحملهم في الهواء: منهم من يحمله إلى بلاد الكفر، ويدخلون مع الكفار في دينهم، وهم منافقون وإن كانوا في ديار الإسلام يُظهِرون الإسلام. ومنهم من يُحمَل من بعض بلاد الكفار إلى بعض، ومن ذلك ما يكون بسحر، ومنه مالا يَعرِفُ صاحبُه السحرَ، لكن يكون مشركًا أو منافقا يَتعبُّد تعبد المشركين والمنافقين. والذين يُحْمَلون إلى مكة: منهم من لا يدخل المسجد الحرام ولا يصلي فيه، ولا يصلي في الطريقِ ولا في بلدِه، والمدة في وصولهم إلى مكة تختلف، منهم من يَصِل في بعض نهار من مثل مصر والشام والجزيرة والعراق، ومنهم من يَصِل في يوم أو يومين أو أكثر من ذلك. وقد حدثني بعض هؤلاء المحمولين أنه كان له رُفْقَة سماهم، وأنهم لم يدخلوا المسجد الحرام، ولا طافوا ولا صلَّوا، لا فيه ولا في الطريق. ومن هؤلاء من يتمثل له شخص ويقول: أنا الخضر، أو يُسمي غيرَ الخضر من الأنبياء والصالحين، ويقول: أنا أذهب بك إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، وقد يُكاشِفُه ببعض الأشياء، وقد   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (11/61-64، 75-77، 159-162، 186- 190، 194-218، 221-223؛ 17/133-134، 390-394) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 يُحضِر له طعامًا أو شرابًا في الهواء، ويكون ذلك مما قد أخذه من بعض الأماكن، وكثير منه يكون مسروقًا قد سرقَه وأخذَه الشيطانُ من مالِ مَن خانَ شريكَه، أو من مالِ مَن لم يذكر اسمَ الله عليه. وهؤلاء من جنس الكُهَّان، قد يُوحُون إلى أوليائهم من الإنس بعضَ ما يكاشفون به، ولابُدَّ أن يكذبوا في بعض ما يُخبِرون به، لكن ما كان مستورًا عنهم قد ذكَرَ صاحبُه عليه اسمَ الله لا يَرَونَه ولا يُخبِرون به. وهذا من الفروق بين إخبار هؤلاء وبين إخبار المسيح بما يأكلون ويدَّخرون في بيوتهم، فإن المسيح يُخبر بالبواطن التي تكون محجوبة عن الجنّ، كما يحجب عنهم الأشياء بذكر اسم الله تعالى. فالآكِل متى ذكرَ اسمِ الله لم يَشْرَكْه الشيطانُ في طعامِه، وإن سمَّى الله عند دخولِ المنزل لم يشركْه في دخولِ البيت، وإن لم يُسمِّ الله لا في هذا ولا هذا أدركَ المبيت والطعام، كما بيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في الحديث المعروف (1) . والمسيح يُخبر بذلك، وأيضًا فخبر المسيح صِدق كلُّه، ليس في شيء منه كذب، وهؤلاء الذين يُخبرون عن إعلام الشياطين لهم لابدَّ أن يكذبوا. قال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)) (2) . والكلام على جنس هذا وأقسامه مذكور في مواضع. والمقصود أن مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا بالإجماع، لا واجبًا ولا مستحبًّا، بل هو منهي عنه لا   (1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1096) ومسلم (2018) عن جابر. (2) سورة الشعراء: 221-223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 يجوز التعبد به، بل من أراد أن يقف مع المسلمين بعرفة فإنه يحج كما يحج المسلمون، فيُحرِم إذا حَاذَى الميقاتَ، وإذا أفاضَ من عرفات فعلَ عند المشعر الحرام ومِنًى ما أمرَ الله به ورسولُه، وطافَ بالبيت العتيق. لا يُشرَع الوقوفُ إلاّ على هذا الوجه. ومَن حُمِل إلى عرفات ولم يَقِف الوقوفَ المشروعَ، فهو كمن حُمِلَ يومَ الجمعة إلى المسجد وهو جُنُبٌ أو بلا وضوءٍ، فسمعَ الخطبةَ ولم يُصَلِّ مع المسلمين، أو صلَّى بلا وضوءٍ أو إلى غيرِ القبلة. والعبدُ والصبي لا يَلزَمُهما الحج، وإذا حجَّا صحَّ حجهما ولم يَسقُطْ عنهما فرضُ الإسلام، بل إذا بلغَ هذا وعتقَ هذا فعليه الحجُّ إن استطاعه. ولو أراد العبدُ والصبي أن يَقِفَ بلا إحرامٍ وحجّ مُنِعَ من ذلك. وليس لأحدٍ أن يَقِفَ بعرفة إلاّ مكشوفَ الرأس مُحرِمًا، إلاّ من كان معذورًا. ولو أرادَ الماشي إلى عرفة والراكبُ أن يَقِفَ مع الناس بلا حجّ ولا إحرامٍ مُنِعَ من ذلك، كما لو أراد الماشي والراكب والمحمولُ في الهواء أن يشهدَ عند المسلمين، فيكون بين صفوفهم ولا يُصلّي صلاتهم، فهذا يُعاقَب على ذلك. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر النساء أن يخرجن إلى العيد، وأمرَ الحُيضَ والعواتقَ وذواتِ الخدور، وقالْ: "أما الحيض فيعتزلن المصلَّى ويَشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين" (1) ، فالحيَّض مع كونهن معذورات في ترك الصلاة أمرَهُنَّ أن لا يختلطن بالمصلِّيات، ولا يكُنَّ بين صفوف المصليات، بل يعتزلن المصلَّى، ويشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين. فكيف من لا عذرَ له إذا أراد أن يختلط بالمصلين في   (1) أخرجه البخاري (324 ومواضع أخرى) ومسلم (890) عن أم عطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 صفوفهم ولا يُصلَّي معهم؟ وكذلك من يطوف بالهواء منِ الإنس، فقد رئيَ بعضُ هؤلاءِ في الهواء عند الكعبة، وتوضأ وسقط من وضوئه على الأرض، فأنكر عليه الرائي وأحسنَ في إنكارِه، فإن الصلاة والطواف في الهواء غير مشروع، بل يطوف بالأرض ماشيا أو راكبا لعذر، وكذلك الصلاة يصلّي على الأرض أو راكبًا لعذرٍ. فهذا هو الذي يكون عبادةً لله واتباعا لما أنزلَه ولرُسُلِه، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عملَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردّ" (1) . وحَمْلُ هؤلاء في الهواء ليس من كرامات أولياء الله، بل من تلعُّبِ الشياطين بهم وإضلالهم لهم، كما يفعل الشياطين بالمشركين والنصارى ونحوهم، يفعل بهم أعظم مما هو من هذا، وكذلك ما يفعل مع السحرة والكفان، كما قد بُسط في مواضع. وقد قال العفريتُ لسليمان لما قال: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)) (2) . فهذا يبين أن العفاريت يقدرون على مثل ذلك، لكن هذا كان لسليمان تسخيرًا من الله لسليمان، كما سخر له الريح غدوُّها شهر ورواحها شهر، والشياطين كل بناء وغوَّاص، وآخرين مقرنين في الأصفاد. والشياطين أضلَّت كثيرًا من بني آدم، فذكروا لكثيرٍ من الإنس أن سليمان كان سَحَرَ الجن بأسماء وكلماتٍ يقوم بها وهي شرك، وكتبوا ذلك في كتب، وقد قيل: إنهم دفنوها، حتى ظهرتْ تلك الكتب، وقالوا: إن سليمان كان يسحر الجن بهذا، فصار أهلُ الضلالِ فريقَين:   (1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (1718) عن عائشة. وهو عند البخاري (2697) بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه ... ". (2) سورة النمل: 38-39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فريقًا قَدَحُوا في سليمانَ وبَيَّنوا أنه ساحر، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب، وفريقًا قالوا: إنه نبي، وإنّ هذه الأسماء والكلمات علَّمه الله إياها، فعملوا بها فكفروا. فنَزَّه الله سليمانَ عن قول الطائفتين، وبيَّن كُفْرَ مَن اتبعَ الشياطين، وذَمَّ أهلَ الكتاب الذين نبذوا كتابَ الله وراءَ ظهورِهم، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)) (1) . وبَسْطُ هذا له مواضع أُخَر، والله سبحانَه أعلم. ***   (1) سورة البقرة: 101-103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فتوى في البيع بفائدةٍ إلى أجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بسم الله الرحمن الرحيم سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية - رضي الله عنه - عن رجلٍ احتاج إلى مئة درهم، فجاء إلى رجلٍ فطلبَ منه دراهم، فقال الرجل: ما عندي إلا قماش، فهل يجوز له أن يبيعه قماش مئةِ درهم بمئة وخمسين إلى أجلٍ؟ أو يشتري له قماشًا من غيره، ثمّ يبيعه إياه بفائدة إلى أجل؟ وهل يجوز اشتراط الفائدة قبل أن يشتري له البضاعة؟ وما مقدار ما يجوز له أن يكسب في البضاعة إذا كانت تساوي مئة درهم إلى سنة؟ وهل تجوز المماكسة عند وزن الدراهم في البيع الحاضر أم لا؟ فإن أعطى البائع بطيبة قلبه، فهل يجوز له أن يبيع ما قيمته خمسون درهمًا بمئةٍ إلى أجلٍ معلوم؟ وكيف يصنع بتجارته إذا جلبها؟ وكيف يدينها إلى أجل؟. فأجاب، فقال رحمه الله، ومن خطِّه نقلتُ: الحمد لله رب العالمين. متى قال له الطالب: أريد دراهم، فأيّ طريق سلكوه إلى أن تحصل له الدراهم ويبقى في ذمته دراهم إلى أجل - فهي معاملة فاسدة، وذلك حقيقة الربا، فإن حقيقة الربا أن يبيعه ذهبًا بذهب إلى أجلٍ، أو فضةً بفضةٍ إلى أجلٍ، حرم الله الربا لما فيه من ضرر المحاويج، وأكل أموال الناس بالباطل، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (1) .   (1) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. انظر صحيح البخاري (1) ومسلم (1907) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فمتى كان المقصود ما حرَّمه الله ورسوله، فالتوسل إليه بكلّ طريق محرَّمٌ، وإنما يُباح للإنسان أن يتوسل إلى ما أباحه الله ورسوله منَّ اَلبيع المقصود والتجارة المقصودة، فإن الله أحلّ البيع وحرَّم الربا، وقال: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (1) . فالتاجر الذي يشتري السلعة ليبيعَها، ويربحَ فيها إمّا بنقلها من موضع إلى موضع، أو حَبْسِها من وقتٍ إلى وقت، فهذا يقصد السّلعة التي يربح فيها، لا يقصد أن يبيعَها بأقلّ من ثمنها ولا بمثل ثمنها. والبيع مثل أن يكون قصْدُه السلعةَ لينتفع بها، إما بأكلٍ أو شرب أو لُبْسٍ أو ركوبٍ، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع التي أباحها الله بالأموال. فإذا لم يكن قصده أن ينتفع بالمال، ولا أن يبيعه ليربح فيه، وإنما مقصودُه أن يبيعه ويأخذ ثمنه، فهذا مقصودُه مقصود الربا، ومتى واطأه الآخر على ذلك كانَ مُرْبِيًا، سواء اتفقا على أن يبيعه السلعة إلى أجل، ثم يبتاعها بأقلّ مما باعها، كما قالت أم ولد زيد بن أرقم لعائشة رضي الله عنها: يا أمَّ المؤمنين! إني بعتُ من زيد بن أرقم غلامًا إلى العطاء بثمان مئة درهم، ثمّ ابتعتُه منه بستّ مئة درهم، فقالت لها عائشة: بئس ما شريتِ، وبئس ما اشتريتِ، أَخبِري زيدًا أنه قد أبطلَ جهادَه مع رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ أن يتوب (2) . وسئل ابن عباس عمّن باع حريرةً ثم ابتاعها بأقلّ، فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة.   (1) سورة النساء: 29. (2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/330،331) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وسئل عن ذلك أنس بن مالك، فقال: هذا ممّا حرَّم الله ورسوله. وقال ابن عباس: إذا استقمت بنقدٍ ثمّ بعتَ بنقدٍ فلا بأس به، وإذا استقمتَ بنقدٍ ثمّ بعتَ بنسيئةٍ فتلك دراهم بدراهم. و"استقمت" بلغة أهل مكة بمعنى قوّمت. وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من باع بيعتينِ في بيعةٍ فله أوكسُهما أو الربا". فمتى اتفقا على أن يبيعه السّلعة ثم يبتاعها، فقد باع بيعتين في بيعةٍ، فله أوكسهما، وهو الثمن الأقلّ، مثل أن يتفقا على أن يبيعه إلى أجلٍ بمئةٍ، ويبتاعها بثمانين، فتعود السلعة إلى ربّها بالبيع الثاني، ويعطي الطالب ثمانين، فليس له أن يطالبه إلاّ بالأوكس، وهو الثمانون. وكذلك لو كان ربُّ السلعة هو المحتاج، مثل أن يحتاج الجندي أو الفلاح أو نحو ذلك إلى القرض، فيقول: اشترِ فرسي أو ثوري بثمانين حالةً ثم بعنيه بمئةٍ مؤجلة، فليس له إلاّ الثمانون. والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له مالم يفسخاه، والشرط العرفي الذي جرت به العادة بمنزلة اللفظي، والمقاصد في العقود معتبرة، فإنما الأعمال بالنيات. وكذلك إذا اتفقا على أنه يشتري سلعةً من غيره بثمنٍ حالٍ، ثم يبيعه إياها إلى أجلٍ بأكثر من ذلك الثمن، ثم إن المشتري يعيدها إلى صاحب الحانوت، فهذه الحيلة الثلاثية، ومتى درى صاحب الحانوت بقصدهما كان شريكهما في الربا.   (1) أبو داود (3461) عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وأما اشتراط الربح قبل أن يشتري البضاعة في مثل هذا، فلأن مقصودهما دراهم بدراهم إلى أجل. وأما إذا كان المشتري يشتري السلعة لينتفع بها أو يتّجر فيها، لا ليبيعها في الحال ويأخذ ثمنها، فهذا جائز، والربح عليه إن كان مضطرًا إليها يكون بالمعروف. فإذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير أو شرابٍ عنده أو لباسٍ، كان عليه أن يبيعهم إياه بقيمة المثل، فيربح الربح المعروف، وكذلك يربح على المسترسل الذي لا يماكسه، كما يربح على سائر الناس، فإن غبن المسترسل ربًا. وإذا تفرق المتبايعان عن تراضِ لزم، وكان على المشتري أن يوفيه جميع الثمن، ولا يحل له أن يمكسه شيئًا منه، بل لا يحل له أن يسأله أن يضع عنه شيئًا منه إذا كان غنيًا، فإن سؤال الغني لغيره حرام، وهذا يسأل غيره أن يسقط عنه حقّه. ولا يحلّ له أن يمكّن غلامَه أن يطلب منه شيئًا من الثمن، فإذا أعطاه البائع بطيب نفسه كان صدقةً عليه، والصدقة أوساخ الناس، فإن اختار أن يقبل أَوساخ الناس من غير حاجةٍ فقد رضي لنفسه بما لا يرضى به العاقل. وأما إذا باعها إلى أجلٍ معلومٍ لمن ينتفع بها أو يتجر فيها، فجائز؛ فإن باعها مزايدة لم ينضبط ذلك، وإن باعها مرابحةً كان الربح ما يتفقان عليه ويرضيان إذا لم يكن المشتري مضطرًّا، وإن كان مضطرًّا ربح عليه ما يربحه على غير المضطرّ. والله أعلم. آخرها، لله الحمد والمنّة، وصلواته على خير خلقه محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا. (علَّقها أحمد بن المحبّ من خطّ المجيب - رحمه الله - في ليلة حادي عشري رجب سنة 747) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 مسائل في الإجارة ونقص بعض المنفعة والجوائح، والفرق بين الجائحة في الثمر والزرع وغير ذلك أجاب عنها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني رحمة الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 بسم الله الرحمن الرحيم سأل أبو عبد الله سؤالاً صورته: ما تقول السادة العلماء - رضي الله عنهم أجمعين - في الرجل يستأجر أرضًا ليزرعها، أو يضمن بستانًا، فينقطع الماء عن الأرض والبستان، أما ماء المطر أو النهر فيفسد بعض الزرع والثمر، فهل يُحَطُّ عن المستأجر أو الضامن من الأجرة شيءٌ أم لا؟ وكذلك إذا استأجر طاحونًا يديرها الماء فينقطع، وكذلك إذا استأجر ظِئرًا للإرضاع، فينقص لبنها، وأمثال ذلك. وكذلك إذا أصاب الأرضَ الجرادُ أو الفار أو النار، فتَلِفَ الزرع أو الثمر، هل يوضع الجائحة فيضمن المؤجر ما تلف بالآفة السماوية. وما الفرق بين وضع الجوائح في الثمرة المشتركة والزرع في الأرض؟ بينوا لنا ذلك. وفي الرجل يضمن بستانًا بألفٍ مثلاً، وفيه عشرة أصناف من الفاكهة، فيتعطل بعض المنافع، ويرتفع سعر الباقي فيزيد على الألف. وكذلك الطاحونة إذا كانت عدة أحجارٍ، فيعطل البعض، وزاد السعر. وكذلك في الحانوت وغيره. أفتونا وابسطوا القول مثابين، رضي الله عنكم. أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية: الحمد لله رب العالمين. نعم يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة، وقد نصَّ على ذلك أحمد وغيره من العلماء. قال أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ابن القاسم: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن رجل اكترى أرضًا فزرعها، وانقطع الماء عنها قبل تمام الوقت، قال: يحط عنه من الأجرة بقدر مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها. وهذه المسألة لها صورتان (1) : أحدهما أن ينقطع الماء بالكلية، بحيث لا يمكن الانتفاع بها لشيء من الزرع، فهذا لا أعلم نزاعًا أن للمستأجر الفسخ هنا، وفيما إذا انهدمت الدار المستأجرة. لكن هل ينفسخ الإجارة بنفس الانقطاع؟ أو يخير المستأجر بين الفسخ والإمضاء؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد: إحداهما أنه ينفسخ بمجرد انقطاع الماء. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وهو المنصوص عن أحمد، لأنه أمر أن يحطّ عن المستأجر بقدر انقطاع الماء، ولم يعلق ذلك باختياره، فأسقط الأجرة من حين انقطاع الماء. وهذا معنى الانفساخ. والثاني: يثبت له الفسخ، وهو المنصوص عن الشافعي في صورة انقطاع الماء، ونص في صورة الهدم على الانفساخ. فخرجت المسألتان على قولين. ومأخذ من قال: له الفسخ، أنه قال: المنفعة لم تتعطل، بل يمكن الانتفاع بالأرض في غير الازدراع، فأما إذا قدّر أن المنفعة تعطلت بالكلية فلا نزاع بين الأئمة في انفساخ الإجارة. وهذا هو الصواب في المسألتين، لأن المنفعة المقصودة بالعقد إذا كانت هي الازدراع، لم يكن الانتفاع بها في غير ذلك   (1) انظر تفصيل القول في هذه المسألة في "مجموع الفتاوى" (30/266 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 مستحقا بالعقد، فوجوده كعدمه. والأئمة الأربعة وجمهور العلماء متفقون على أنه متى تعطلت المنفعة المقصودة بالعقد انفسخت الإجارة. مثل أن يستأجر ظئرًا، فيموت في أثناء المدة؛ أو يستأجر جمالاً أو حميرًا للركوب أو الحمل، فيموت قبل التمكن من استيفاء المنفعة؛ ونحو ذلك مما يتلف فيه العين المستأجرة، فإنه ينفسخ الإجارة عند الأئمة الأربعة. وقال أبو ثور: لا ينفسخ الإجارة إذا كان المستأجر قد تسلَّم العين المستأجرة، وإن تلفت عقب التسلُّم، لأن ذلك تلف بعد القبض، فأشبهَ ما لو تلف المبيع بعد القبض، فإنه يكون من ضمان المشتري، فكذلك إذا تلف الموجود بعد القبض كان من ضمان المستأجر، لاسيما من يقول: إنه لا يوضع الجوائح في الثمر المبيع بعد بُدُوّ صلاحه إذا تلف بعد قبض المشتري، فإن هذا قياس قوله، لأنه يقول هناك قد تلف بعد القبض، وإن كان المشتري لم يتمكن من الجداد والحصاد، كذلك المنافع هنا تلفت بعد القبض، وإن كان المستأجر لم يتمكن من استيفاء المنفعة بالبيع عند الأكثرين، كمالك والشافعي وأحمد في أقوى الروايات. ولولا قبضه لها لما جاز ذلك، وله أن يربح فيها عندهم، مع النهي عن الربح فيما لم يضمن، فدل ذلك على أنها من ضمانه. ومذهب الجمهور هو الصواب، لما روى مسلم في صحيحه (1) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو بعتَ من أخيك تمرًا، فأصابته جائحةٌ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بمَ تأخذ مالَ أخيك بغير حق؟ ".   (1) برقم (1554) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وفي رواية لمسلم (1) : أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح. فإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الثمرة التالفة من ضمان البائع، ونهى البائع أن يأخذ من المشتري شيئًا من الثمن، وبين أنه أكل مالاً بالباطل، مع أن الثمرة بعد بدو صلاحها عينٌ موجودة، فإنه قد يمكن الانتفاع بها ببعض الوجوه، فالمنافع التي لم توجد بعدُ ولا يمكن المستأجر من استيفاء شيء منها أولى وأحرى أن لا يكون من ضمانه، بل من ضمان المؤجر. ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي في الجديد يقولان: المنفعة تتلف من ضمان المؤجر، والثمرة من ضمان المشتري. فإذا كان النص قد ورد في الثمار بأنها من ضمان البائع، فلأن تكون المنافع من ضمان المؤجر أولى. وأيضًا فإن تلف المنافع قبل التمكن من استيفائها كتلف الأعيان المبيعة قبل التمكن من استيفائها، وإذا كان المبيع التالف قبل التمكن من قبضه من ضمان البائع، فكذلك المنافع التالفة قبل التمكن من استيفائها، ومعلومٌ أنه لم يتمكن من استيفائها، وطرد ذلك الثمرة بعد ظهور صلاحه وقبل كماله، فإن المشتري لما لم يتمكن من جدادها على الوجه المعروف كانت من ضمان البائع، فإن التمكن إنما يحصل عند إمكان الجداد على الوجه المعروف. فإن قيل: بل المستأجر قد قبض المنفعة قبضًا حكميا، فقبض العين بدليل جواز التصرف فيها بالإجارة، وبدليل أنه يجب عليه تسليم الأجرة. قيل: هذا فيه نزاع، فأما إجارة المستأجر لما استأجره فعن أحمد   (1) برقم (1554/17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فيها أربع روايات (1) : إحداها: لا يجوز بحالٍ، بناءً على هذا، إذ المنافع لو تلفت لتلفت من ضمان المؤجر. وكذلك عنه في بيع المشتري للثمرة المشتراة قبل الجداد روايتان، والنزاع في ذلك معروف عن الصحابة ومن بعدهم. والثانية: يجوز بمثل الأجرة، ولا يجوز بزيادة إلاّ إذا جدّد فيها عمارة، فإن فعل تصدَّق بالزيادة. وهذا قول أبي حنيفة وطائفة. والثالثة: لا يجوز إلاّ بإذن المؤجر. والرابعة: يجوز مطلقًا، كقول الشافعي وكثير من العلماء. وكذلك يجوز على المشهور عنه للمشتري أن يبيع الثمرة قبل كمال صلاحها، وعلى هذا فنقول: وجد القبض للمبيع، ولم يوجد كمال القبض الذي يُوجِب أن يتلف من ضمان المشتري والمستأجر. والدليل على أنه لم يوجد القبض التام أن البائع عليه سَقْي الثمرة إلى كمال صلاحها، فلو تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع بلا نزاع. وإذا كان على البائع تمام التوفية عُلِم أنه لم يوجد كمال القبض. وكذلك المؤجر عليه عمارة ما شعث من العين المؤجرة، وما يحتاج إليه الآدمي والبهيمة من النفقة هو على المؤجر، والإنفاق على العين المؤجرة من تمام التسليم المستحق بالعقد. فعُلِم أنه لم يوجد كمال القبض، وإنما وجد التخلية التي لا يتمكن معها من كمال الاستيفاء.   (1) انظر: "المغني" (8/56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وإنما جاز فيها التصرف بالبيع وغيره، لأن البائع قد فعل ما يمكنه من الإقباض، وكذلك في الإجارة قد فعل المؤجر غاية ما يمكنه، وانتقلت بهذا إلى ضمان المستأجر من بعض الوجوه، وهو أنه إذا تلفت المنفعة تحت يده تلفت من ضمانه، فلا يكون إذا ربح فيها قد ربح فيما لم يضمن، فالاعتبار في الضمان بتمكنه، إذا تمكن من استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه، والمستأجر بعد تسليم العين قد تمكن من استيفائها شيئا فشيئًا، كما كان يتمكن المؤجر، فلو تركها تلفت من ضمانه، فإذا باعها باعها بعد قبض مثلها. وإن كان القبض التام الذي يوجب إذا تلفت بغير اختياره أن يكون من ضمان المؤجر لم يوجد. وهكذا الثمرة بعد بدو صلاحها إذا خُلِّي بينه وبينها كان متمكنًا من قبضها والانتفاع بها إن شاء، ولو قطعها لضمنها بالمسمى، لم يضمنها ضمان الغصب. ثم يقال: أما كونها مضمونة على البائع فهو ثابت بالنصّ، وأما جواز التصرف فيها ففيه نزاع، وحينئذِ فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا منع الحكم، فإن ما ثبت بالنصّ لا يجوز دفعه بغير نصِّ يعارضه، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجهٍ أنه قال: "من ابتاع طعامًا فلا يَبعْه حتى يستوفيه" (1) . وثبت عنه أنه قال: "إن بعتَ من أخيك ثمرةً، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " (2) . فيجب العمل بالحديثين، فإن كان القبض   (1) أخرجه البخاري (2126،2133،2136) ومسلم (1526) من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (2132،2135) ومسلم (1525) من حديث ابن عباس نحوه. (2) سبق تخريجه قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 المبيح للتصرف هو كمال القبض الذي يرفع ضمان البائع لم يجز للمشتري بيع الثمرة؛ وإن أريد به أصل القبض فهو موجودٌ هنا، والسنة دلت على أن ضمان المشتري وجواز تصرفه لا يتلازمان، بل قد يكون مضمونًا عليه من بعض الوجوه مالا يجوز له بيعه، وقد يجوز أن يبيعَ ما يكون مضمونًا على البائع من بعض الوجوه. وهذا ظاهر مذهب أحمد، وهو الذي ذكره الخرقي وغيره، وإن كان من أصحابه من يقول بتلازمهما، كمذهب أبي حنيفة والشافعي. وذلك أنه قد ثبت في الصحيحين (1) عن ابن عمر أنه قال: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من مال المبتاع". فإذا باعه حيوانًا، وتمكن المشتري من قبضه ولم يقبضه، كان من ضمان المشتري. وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه. وكذلك إذا اشترى صُبْرةَ طعام جزافًا، وتمكن من نقله، كان من ضمان المشتري في ظاهر مذهب أحمد، مع أنه لا يجوز له بيعه حتى ينقله، كما في الصحيح (2) عن ابن عمر أنه قال: "لقد رأيت الناس في عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتاعون جزَافًا - يعني الطعام - فيضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم". وفي لفظ (3) : "كنا في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبتاع الطعام، فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكانٍ سواه قبلَ أن نبيعَه". فابن عمر نقل هذا وهذا، وكلاهما مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، فالموجب   (1) ذكره البخاري تعليقًا في كتاب البيوع: باب 57، ووصله الدارقطني في "سننه" (3/54) . وانظر "فتح الباري" (4/352) . ولم يروه مسلم. (2) البخاري (2137) . (3) لمسلم (1527) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 للضمان تمكُّن المشتري من القبض المقصود بالعقد، سواءً قبض أو لم يقبض، فإذا لم يكمل الصلاح لم يتمكن من القبض المقصود بالعقد. وكذلك إذا تلفت العين المؤجرة، وإذا اشترى عبدًا وقدر على أخذِه، فقد تمكن من القبض المقصود بالعقد، وأما بيعه فيعتمد القبض الممكن، فإذا قبض الشجرة والعين المؤجرة فقد قبضها القبض الممكن، وإذا لم ينقل الصبرة لم يقبضها القبض الممكن. وهذا لأن ما أمكن فيه كمال القبض كالصبرة يمكن أن يوقف البيع على كمال القبض فيها، ومالم يمكن فيه ذلك كالثمر والمنفعة، فإنه قد جاز بيعها قبل وجودها للحاجة، فكذلك يجوز بيعها بعد القبض الممكن فيها للحاجة أيضًا، لأن الشارع يعتبر الشروط بحسب الإمكان. إلاّ ترى أنه فهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، إذ لا حاجة إلى بيعها في هذه الحال، وهو بيع غرر قد يُفضي إلى أكل المال بالباطل، وأما بعد بدو الصلاح فهم محتاجون إلى بيعها في هذه الحال، إذ تأخير البيع إلى كمال الصلاح متعذر، فإنه حينئذٍ قد تتلف وتفسد هي أو بعضها قبل أن تشترى. وما فيه من الخطر جبره الشارع بوضع الجائحة. و ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع، بل هذا قول طائفة من الفقهاء، وخالفهم آخرون، فهو مورد نزاع لم يدل عليه نصٌّ ولا قياس صحيح، بل الشارع منع من البيع حيث يكون فيه مفسدة ولا حاجة إليه، وأباحه حيث يحتاج إليه، وأزال ما فيه من المفسدة بما شرعه من الضمان. والطعام المنقول يمكن تأخير بيعه إلى حين نقلِه، بخلاف الثمر على الشجر والمنفعة في الإجارة، كما أن الثمرة يمكن تأخير بيعها إلى بدو صلاحها، بخلاف تأخيره بعد بدو الصلاح. ولهذا كان الصحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 جواز بيع المقاثي، وأنه إذا بدا الصلاح في بعض ثمر البستان بيع ذلك النوع، بل بيع ذلك الجنس، بل بيع جميع الأجناس التي في البستان، إذا كان بيع بعض الأجناس دون بعض من البستان الواحد فيه ضرر، كما في تأخير بيع الثمر بعد بدو الصلاح. والبيع الذي يحتاج الناس إليه لم تحرمه الشارع، بل أوجب فيه وضع الجوائح، وإنما نهى عما لا يحتاج إليه. فصل ولو اكترى أرضًا للزرع فزرعَها، ثمَّ أصابَها غَرَق أو آفة من غير الشرب، فلم تُنبت، فالمنقول عن أحمد أنه يلزمه الكرى، بخلاف ما لو غرقت في وقت زرعها، فلم يمكنه الزراعة، فإنه لا يلزمه الأجرة، لتعذر التسليم، وهكذا نُقِل عن مالك. وقد فرَّق الأصحاب بين هذه الصورة وبين صورة انقطاع الماء بأنه هناك تعطلت المنفعة المستحقه بالعقد، وهنا تلف مال المستأجر، فأشبهَ مالو تلف ماله في الدار المؤجرة، فإن المؤجر لا يضمن ما تلف للمستأجر في العين المؤجرة، كما لو سرق ماله الذي على الدابة المكتراة. ولم أقف بعدُ على لفظِ أحمد في هذه المسألة، وقياسُ نصوصِه وأصوله بل وأصول غيره: أنه إذا أصابتِ العينَ آفة عَطَّلَتْ منفعَتَها انفسختِ الإجارة فيما بقي، كما إذا تعطلت بالانهدام وانقطاع الماء والموت، فإنه إذا أصابَ الأرضَ غرق تعذر معه نباتُ الأرض فقد تعطَّلَ نفعُها، وكذلك لو أصابها حريق أو ركبها جراد يمتنع معه نباتُ الزرع فقد تعطَل نفعُها، كما تعطّل بغير ذلك، ولكن لا يضمن المؤجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الزرع التالف، ولا توضع الجائحة عن المستأجر فيما تَلِفَ من زرعه، كما توضع عن المشتري، لأن المؤجر لم يبعه الزرعَ، وإنما باعه منفعتَه. و نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر، فإن المؤجر وإن لم يضمن متاعه فإنه لا أجرة له من حين تعطلت المنفعة، وكذلك لو تلفت الحمولة وما عليها بأمر سماوي، فإنه لا يضمن المؤجر ما عليها، ولكن تبطل الإجارة من حينئذٍ، فكذلك الأرض إذا أصابتها آفة سماوية أفسدتِ الزرعَ وعطلتِ المنفعة لم يكن على المؤجر ضمان الزرع، ولم تبطل الإجارة إذا تعطلت المنفعة، والمنفعة المقصودة ليست مجرد وضع البذر فيها، بل المقصود أن ينبت الزرع فيها ويكمل نباته إلى حين الحصاد، وإذا نبت وغرقت الأرض فهو كما إذا نبت وانقطع الماء، وهو في انقطاع الماء لا يضمن زرع المستأجر، كذلك في الغرق. وهذا بخلاف ما إذا باعه ثمرة على البائع سقيها، فإنه هنا إذا تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع، بل وكذلك إذا تلفت بغير العطش، لأن البائع باعه ثمرةً، فتلفُ الثمرة كتلف المنفعة. وأما تلف الزرع الثابت للمستأجر فهو كتلف متاع المستأجر الذي في الدار، فأين هذا من هذا؟ فمن قال: إن المؤجر لا يضمن الزرع فقد أصاب، ومن قال: إنه لا يجب على المستأجر أجرة المنفعة المتعطلة فقد أخطأ. ونظير هذا ضامن البستان إن كان اشترى ثمرةً، فإذا تلفت بالعطش فهي في ضمانه في مذهب الشافعي، كما هو في مذهب مالك وأحمد، وإن تلفت بآفة سماوية فهي مسألة وضع الجوائح. وأما إذا كان الضامن مستأجرًا ضمنها على أنه يخدمها ويسقيها، فهذا مستأجر متى تلفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الثمرة بالعطش أو غيره فهو كتلف الزرع لا يضمنه المؤجر، لكن إن تعطلت المنفعة سقط من الأجرة بقدر ما تعطل منها. وذلك أن الثمرة قد تكون تساوي جملة، والزرع حصل بعمل المستأجر، وقد يساوي ذلك أكثر من الأجرة، فلا يجب على المؤجر إلاّ ضمان الأجرة فقط، فإذا تعطلت المنفعة بآفة سماوية سقطت الأجرة، وما تلف مع ذلك للمستأجر من ثمرٍ وزرع فهو من ضمانه، لا من ضمان المؤجر. هذا هو الواجب في هذا ونظائره، ومن تدبَّره وتدبَّر نظائره وأصولَ الشرع عَلِمَ أن هذا مما لا يُنازع فيه من فهمه، وإنما وقعت الشبهة حيث قد يظن الظان، أنه توضع الجوائح في الإجارة، كما توضع في البيع، بمعنى أن المؤجر يضمن ما تلف من زرع المستأجر، كما يضمن ما تلف من الثمرة المبيعة، وهذا خطأ. نعم لو باعه زرعًا، فتلف بآفةٍ سماوية، فإنه توضع الجائحة فيه في أحد الوجهين في مذهب أحمد ومالك، كما يوضع في الثمرة، وفي الآخر لا يوضع، قالوا: لأن الزرع إنما يباع بعد كمال صلاحه، فلا يحتاج إلى وضع الجائحة فيه. فصل. وأما إذا نقصت المنفعة، مثل نقص الماء المعتاد عن السماء وعن الأرض، بحيث ينتفع به نصف المنفعة المستحقة أو أقل أو أكثر، فكلام أحمد وأصوله تقتضي أنه يحطّ عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، فإنه قال: يُحطُّ عنه من الأجرة بقدر مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها. ولو تغيبت المنفعة أو كانت معيبة، فقياس مذهبه أن للمستأجر المطالبةَ بالأرش مع الإمساك، كما يقول ذلك في البيع وأولى، لاسيما وعنه في ممسك المصراة هل له المطالبة بالأرش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 روايتان. ومن أصحابه من قال: ليس له الإمساك إلاّ بكل الأجرة، وضعف هذا على أصل أحمد ظاهر بين. وإنما الكلام إذا قلنا: إنه ليس للبائع إلاّ المطالبة بالأرش مع إمكان الرد. ف نظير هذه المسألة في الإجارة أن تَظهر العينُ المؤجرةُ مَعِيبةً في استيفاء شيء من المنفعة، فهذه الصورة كالبيع، وأما إذا كان قد ازدرع الأرض، ثم عابت في أثناء المدة، ونَقَصتْ منفعتُها، فهنا لا عليه ردّ جميع المنفعة، بل غايته الفسخ في المستقبل. وإذا فسخ في المستقبل كان له إبقاء زرعه بأجرة المثل، ومعلوم أن إبقاءه بقسطه من الأجرة أولى. كما نقول: إذا تعطلت المنفعة في أثناء المدة أنه ينفسخ الإجارة فيما بقي من المدة، ويجب للماضي قسطه من الأجرة. هذا مذهب مالك وأحمد والشافعي، وجعل بعض أصحابه له قولاً بالانفساخ في الجميع، ووجوب أجرة المثل للماضي، كالهلاك الطارئ في بعض المبيع، ومعلوم أْن المستأجر إذا كان له زرع في الأرض لم يمكنه إذا فسخ ردّ المنفعة، بل له إبقاؤه بأجرة المثل، فإبقاؤه بقسطه من المسمى مع أنه يحطّ عنه قسط ما نقص من المنفعة أولى. فعيب المنفعة في الإجارة إن كانت قبل تسلُّم شيء من المنفعة فهذا كالبيع، وإن كانت بعد استيفاء شيء من المنفعة فلها صورتان: إحداهما: أن يتعذر ردُّ العين المؤجرة لما له فيها من الزرع ونحو ذلك. والثانية: أنه يمكن ردّ العين، كالدار المعيبة والطاحون والحانوت. فهنا يتوجه قول من يقول: ليس له إلاّ الفسخ، أو الإمساك بالأجرة كلها، إذا قلنا بمثل ذلك في البيع. ويتوجه أن يقال: بل هنا يُحَط عنه من الأجرة، وإن قلنا: ليس له في البيع أن يمسك بالأرش مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 إمكان الردّ، لأنه قد استوفى بعض المنفعة، وتلف بعضها، فهو كما لو اشترى أعيانا، فتلف بعضها قبل التمكن من القبض، فإنّه يُحط عنه من الثمن بقدر قسط التالف قبل التمكن من القبض، كما لو تلف بعض الثمرة في الجوائح، وكان أكثر من الثلث، فإنه يحطّ عنه من الثمن بقدر التالف بلا نزاع عند من يقول بوضع الجوائح، فتَلَفُ بعض المنفعة كتَلَفِ بعض الثمرة، ومعلومٌ أن انقطاعَ بعضِ الماء أو تعطُّلَ بعضِ الأرض ذَهابُ بعض المنفعةِ. (آخر ما كتب فيها، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. علَّقها لنفسه أحوج الخلق إلى رحمة الله محمد بن أبي شامة الحنبلي، عفا الله عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين) . *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فصل في الطلاقِ، وتقسيمِه إلى سنّي وبدعيّ، وبيانِ أن الطلاقَ البدعيَّ لا يقع من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية مما كتبه في القلعة بدمشق في آخر عمره رحمة الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. وقال شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله، ونقلتُه من خطّه. فصل الطلاق منقسم إلى طلاقِ سنَّة مأذونٍ فيه، وطلاقِ بدعةٍ منهي عنه بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن تنازع الناسُ في الطلاقِ المحرَّم المنهيِّ عنه هل يَقعُ أم لا. واتفقوا على أن َّ الطلاقَ السنّي المباح أن يُطلِّقَ واحدةً في طُهر لم يُصِبْها فيه، وكذلك إذا طلَّقها حاملاً قد تبيَّنَ حملُها، فهذا وهذا جائز بالنصّ والإجماع، ولكن هل يُسمَّى طلاقُ الحاملِ طلاقَ سنةٍ، أو لا يُسمَّى سنّةً إلاّ طلاقُ من تحِيضُ؟ فيه قولانِ، وهو نزاع لفظي. والصغيرة التي لم تَحِضْ والآيسة ليس في حقهما طلاق بدعة من حيث الوقت. وأما العدد ففيه نزاعٌ مشهور، وأكثر السلف على أنه لا يَحِل له أن يُطلِّقَ إلاّ طلقةً واحدة، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو ظاهر مذهب أحمد الذي رجع إليه - وهو اختيار أكثر أصحابه - بعدَ أن كان يُجوِّزُ الثلاثَ، كما هو قول الشافعي، وهو اختيار الخِرَقي، وقد بُسِطَ الكلامُ على هذه المسائل في مواضع (1) .   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (33/8 وما بعدها،33/72 وما بعدها،33/81 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 والذي تَبينَ دلالةُ الكتاب والسنة عليه وأصول الشرع أن َّ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم كما لا يَلْزَم سائِرُ العقود التي تَنقسم إلى حلال وحرام، كالنكاح الحرام والبيع الحرام، إذا كان التحريم لحقِّ الله، كالنكاحِ في العدّة وبيع الخمر ونحوِها من المحرَّمات، وأما إذا كان النهي لحق آدمي فلو رضي جاز، مثل بيعِ المَعِيْب المدلس، وبيع المصرَّاةِ، وتلقي الجلَب والاشتراء منهم، ونحو ذلك. فهنا أيضًا العقدَ غير لازم، لكن المظلوم يُخير بين الفسخ والإمضاء، فهو موقوفٌ على رِضاه، وقد أعطى النهيَ حقه، فإن المقصود إزالة المفسدة، وذلك يَحصُلُ بتمكينه من الفسخ، وإذا عَلِم أنه مظلومٌ ورضي بذلك جاز، كما لو رضي في ابتداء العقدِ مع علمِه بالعيب والتدليس، فإن هذا جائز بالنص والإجماع. وهذا هو الجواب في هذا الباب، فإن من الناس مَن جعلَ النهي الذي لحقِّ آدمي يَقتضي فسادَ العقدِ أيضًا، وقال أبو بكر عبد العزيز بذلك في المَعِيْب المدلس، فلما أُورِدَ عليه المصرَّاة سكتَ ولم يُجبْ. ولو أنهم قالوا: النهي يقتضي هنا مُوجبَه من فسادِ لزوم العقد، فإن العقد لا يقع لازمًا كلزوم العقود الصحيحة، بل للمظلوم الفسخ، لكان هذا عملاً بالنصوص كلِّها وبالإجماع، مع طَرْدِ القاعدة. وأما من زَعَم أن النهي هنا يقتضي بُطلانَ العقد بالكلية، فهو قول فاسد مخالفٌ للنصّ والأجماع، وهو قولُ من لم يَعرِفْ مقصودَ النهي، وهو إزالةُ الفساد بحسب الإمكان. وهو في مقابلة قول من يقول: إنّ النهي لا يقتضي الفساد أصلاً (1) ، ويَحتجُّ بصُوَرٍ متنازعٍ فيها، كطلاق   (1) انظر لمعرفة مذاهب العلماء في هذا الباب: "تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد" للعلائي ص299 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الحائض، والصلاة في الدار المغصوبة، إذْ ليس معهم صورةٌ منهيٌّ عنها مع أنها صحيحة لازمة، لا بنص ولا بإجماعٍ، بل كل ما يُذْكَرُ في ذلك فهو من صُوَر النزاع، ولا نصَّ في شيء من ذلك على أنه صحيح لازم. ولهذا لم يكن هذا القول معروفًا عن أحدٍ من السلف والأئمة، كما لم يُعرَف ذلك عن أحدٍ من السلف والأئمة، وإنما قاله طائفة من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن تَبعَهم، وقال هؤلاء: إن فساد العبادات والعقود لا يتلقى من خطاب الشارع بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، وإنما يتَلَقَّى من خطاب الإخبار بقوله: إنّ هذا صحيح أو فاسد، أو جَعْلِه الشيءَ شرطًا ومانعًا وركنًا، فيفسد العبادة أو العقد، لفواتِ شرطِه أو رُكنِه أو لوجودِ مانعِه. وهذا كلامُ قومٍ ليسوا من أهل الاجتهاد والعلم بالأدلة الشرعية، وإنما يتكلمون في مقدّراتٍ مفروضةٍ في الأذهان، لا وجودَ لها في الأعيان، فإن هذا الذي زعموا أنه هو الذي يُستدلُّ به على صحةِ العقود والعباداتِ وفسادِها، لا يُوجَد في كلام الشارع، لا يوجد في كلامه أنه قال: هذا العقد أو العبادة تصحّ أو لا تصحّ، أو هذا ركن أو شرط أو مانع ونحو ذلك. وإنما هذه عبارات الفقهاء الذين فهموا ما فهموه من كلام الشارع، وعبَّروا عن ذلك بعباراتهم، ثمَّ قد يكون ما عبَّروا به عن كلام الشارع حقًّا بالإجماع، وقد يكون فيه نزاع. وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أهل الاجتهاد فإنهم يحتجون به على فساد العبادات والعقود بالنهي عنها، كما يُفسِدون نكاح الأمهات والأخوات وغيرهما من المحرمات. ولهذا لما أفتى ابن مسعود رجلاً في تزوج بنت امرأته التي لم يدخل بها، واعتقد أنها كالربيبة، ثمَّ قَدِمَ المدينةَ، فسأل عمر وغيره من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الصحابة، فقالوا له: الشرط في الربائب دون الأمهات. فرجعَ ابن مسعود، فأمرَ الذي كان أفتاه أن يفارقَ امرأتَه، لما علم أن هذا مما تناولته آية التحريم، وهو قوله: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) (1) ، علم أن هذا العقد فاسد. وكذلك سائر الصحابة والعلماء متفقون على الاستدلال على فساد هذه العقود بالنهي، وهذا في العبادات أظهر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنّ الذين قالوا: إنّ الطلاق المحرَّم يقعُ، قد احتجّ بعضهم بقوله تعالى: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) (2) . قالوا: والمراد لا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الولد، فدلّ ذلك على أنه طلّقها بعد أن أصابها، وإلاّ فلو طلَّقها في طهرٍ لم يصبها فيه لم يكن حاملاً، ولو طلّقها وقد استبان حملُها لم يمكنها كتمانُ الحمل. وهذه الحجة مما يعتمد عليها من يراها حجة قوية، وسنبيّن إن شاء الله أن هذه الآيةَ حجةٌ عليهم لا لهم، وممن ذكر ذلك أبو علي الجبَّائي في تفسيره، فقال بعد أن نَصرَ أنّ الأقراءَ هي الحيض: وقد دلَّت هذه الآية على أن الطلاق قد يَلزَم لغير السنة، وذلك أنّ المطلِّق للسنة هو من طلَّق امرأته وهي طاهر من غير جماع، أو طلَّقها بعد أن تبيَّن الحملُ بها، والمطلقة إذا كانت طاهرًا من غير جماع لا يجوز أن   (1) سورة النساء: 23. (2) سورة البقرة: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 يظهر بها الحبل، فيحرم كتمانُه، والتي قد ظهر بها الحبل لا يجوز أن تكتمه وتبينه من نفسها بعد الطلاق، وإن يكتم ذلك زوجها الذي طلقها علمنا أن هذه المطلقة الكاتمة لحبلها كانت طلقت بعدما جُومعت في الطهر من غير أن يتبين بها حَبَلٌ. وإذا كانت كذلك لم تكن في وقت سنة، وقد لزمها الطلاق مع ذلك بنصّ القرآن. قال: وهذا يدلُّ على بطلانِ مذهب الرافضة في قولهم: إنّ الطلاق لا يلزم إلاّ للسنة. فإن قيل: قوله: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) قد يكون هو الحيض. قيل: إن الحيض لا يكون حيضًا وهو في الرحم، ولا يكون حيضًا حتى يخرج عن الرحم، وإذا خرج عن الرحم فليس هو في الأرحام. وإنما أمرهنّ الله أن لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، فليس يجوز أن يكون عنى بذلك إلاّ الحبل. قلت: فقد فسَّر الآية بأن المراد الحبل دون الحيض، وادعى أنه لا يجوز إرادة الحيض، لأنه إنما يكون حيضًا إذا كان ظاهرًا، دون ما إذا كان في الرحم. وهذه حجة ضعيفة، والسلف قد أطلقَ بعضُهم القولَ بأنه الولد، وأطلق بعضهم القولَ بأنه الحيض، وبعضُهم ذكر النوعين جميعًا (1) ، وهو الصواب، فإن لفظَ الآية يَعمُّ هذا وهذا، ومن أطلق القول بأحدهما فقد يكون مرادُه التمثيلَ لا الحصرَ، فإن مثل هذا كثير فاشٍ في كلام السلف. يذكرون في تفسير الآية ما يمثلون به المراد من ذِكر بعض الأنواع، لا يقصدون تخصيصَها بذلك. كما يقول المترجم إذا ترجمَ بعض الألفاظ وعينَ مسماها، فإذا قال له   (1) انظر: "زاد المسير" (1/261) والقرطبي (3/218) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الأعجمي: ما الخبزُ؟ أخذَ الرغيف وقال: هذا. وهذا باب واسع لبسطِه موضع آخر (1) . وأما الاحتجاج بقوله: (فِي أَرْحَامِهِنَّ) فيقال: هو سبحانه قال: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) ، فالظرف متعلق بقوله (خَلَقَ) ، فما خلق الله في رحمها لم يحل لها كتمانُه، وكتمانُه إخفاؤه عن غيرها، وذلك يتناول كتمانه بعدما يخرج من الرحم، مثل كتمان الولد إذا ولدتْه، وكتمان الدم إذا حاضت، فإنها إذا كتمت ذلك عن الزوج وغيره، ولم تُخبر بذلك، فقد كتمت ما خلق الله في رحمها، فإن هذا خلق في رحمها، وإن كان قد خرج من الرحم بعد ذلك، وهي منهية عن كتمانه مطلقًا، لم يخص النهي بوقت وجودِه في الرحم، لاسيّما وهو إذا فسَّره بالولد، فولدتْه وكتمتْه، لم يقل إنها ولدت، لئلا يظن أنّ عدتها انقضت، أو لتضيع نسبه، على أنه كان ذلك محرمًا، وكانت منهيةً عن ذلك. ولو قيل: الرجلُ يكتُم ما تحت ثيابه أو ما في منديله، كان كإمساكِه، وإن خلَع ثيابه حيثُ لا يُرى، وإن أخرج ما في المنديل حيثُ لا يُرى، فالظرف هنا متعلق بالفعل العامل فيه، كالاستقراء وكالخلق في الآية ليس معلَّقا بالكتمان، والمنهيُّ عنه الكتمان مطلقًا، وحيث نهي الإنسان عن الكتمان فإنه متناول لمثل هذا، كقوله: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (2) ، وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) (3) ، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ   (1) انظر: "مجموع الفتاوى" (13/333 وما بعدها) . (2) سورة البقرة: 283. (3) سورة البقرة: 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فِي الْكِتَابِ) (1) ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سُئِل عن علمٍ يعلمه فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" (2) . فلو تكلم بالشهادة حيث لا ينتفع صاحبُها، ولم يُظهرها حيث ينتفع بأدائها، كان كاتمًا لها، وإن كان قد أخرجها من فمه. وكذلك كاتم العلم. والمرأةُ على كتمان الحيض أقدرُ منها على كتمان الولد، فإنها إذا كانت حاملاً انتفخَ بَطْنُها، وعَرفَ حملَها كثير من الناس، ثمَّ إذا ولدتْه فإنه يظهر أعظم مما يظهر دمها، فإن دمَها قد يَسِيْل ويَخْرجُ ولا يَعلم بذلك أحد، فتكون دلالةُ الآية على النهي عن كتمان الحيض أقوى، وإن كانت قد تدل على الآخر. فصل وأما كون الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه فهو قولُ من قال: إن الطلاق إنما هو الطلاق الشرعي الذي أذن الله فيه وملكه للإنسان، وأما مالم يأذن فيه فإنه لم يملكه للإنسان، كما لم يملكه الطلاقَ بعد انقضاء العدة، ولا طلاقَ غيرِ المدخولِ بها إذا أبانَها بواحدةٍ، ثمّ أراد أن يطلّقها تَمام الثلاث، وكذلك البائن بالخلع عند أكثر السلف والخلف لم يُمَلّكْه طلاقَها، ولم يُملكه طلاقَ الأجنبية. وإذا كان الإنسان ليس له طلاق إلاّ فيما يملك، ولا عتاق إلا فيما يملك، كما جاء في الحديث (3) ،   (1) سورة البقرة: 159. (2) أخرجه أبو داود (3658) والترمذي (2649) وابن ماجه (261) وأحمد (2/263) من طرق عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة. وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم. وللحديث طرق أخرى وشواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة. (3) أخرجه أحمد (2/185،189،190،207،215) وأبو داود (2190،2191، 2192، 3273) والترمذي (1181) والنسائي (7/288) وابن ماجه (2047، 2111) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو حديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فطلاقه لواحدةٍ من هؤلاء طلاق باطل، إذ كان الله لم يملكه إياه. وكذلك طلاق الحائض والموطوءة التي تبيَّن حملُها لم يملكه الله طلاقَها، فإنه لم يأذن في ذلك ولم يُبحْه، بل نهى عنه، وما نهى عنه العبد من نكاح وطلاق وعتق وبيع فَإنه لم يملكه ذلك، فتصرفه فيه تصرُّف في غير ملكٍ، ولو سمّي ملكًا فهو محجور عليه فيه منهي عنه، وتصرُّفُ المحجورِ عليه فيما حُجِر عليه فيه لا يجوز، فتصرُّفُ من حَجرَ الله ورسولُه عليه أولى أن لا يصحَّ، لاسيما وهو سفيه حيث خالف أمرَ الله ورسوله، وفعلَ ما نهى عنه، وهم يسلمون أن الوكيل في الطلاق لا يملك إلاّ ما أذن له فيه، ولو طلق غير ذلك لم يقع، بل هو محجور عليه فيه، فما لم يأذن الله فيه وحجر على صاحبه فيه أولى أن لا يقع. والله تعالى قد نهاه عن الطلاق إلاّ في العدَّة، كما نهاه عن النكاح في العدة، ولو تزوج في العدة لم يصح بالاتفاق، فكذلك إذا طلق لغير العدة، فإن الذي حرَّم هذا حرَّم هذا، والحكم إنما استفيد من تحريمه، ليس في كلامه يصح أو لا يصح، أو يُشترط أو لا يشترط، بل الدلالة في كلامه على هذا من جنس الدلالة في كلامه على هذا. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان دلالة الآية على نقيض ما استدلوا عليه، فنقول: قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (1) إنما يتناول من كانت عدتها الأقراء، لا يتناول الحامل، فان الحامل لا تتربص ثلاثة قروء، بل عدتها كما قال تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (2) . وإذا كانت المرأة حاملاً لم تتربص ثلاثة قروء، ولكن ربما ظنت أن   (1) سورة البقرة: 228. (2) سورة الطلاق: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 عدتها القروء، ثم يتبين أنها حامل، كما أنه ربما ظنت أن أجلها وضع الحمل، ثئمَ يتبين أنها حامل. وحينئذٍ فالنساء ثلاثة أقسام. أما المطلقة طلاقَ السنة التي طُلِّقتْ في طهر لم يُصِبها فيه فالظاهر من هذه أنها ليست حاملاً، والتي استبان حملها ظاهرُ أمرِها أنها حامل، والتي وطئها ولم يعلم أحَملتْ أم لا فهذه مشكوك فيها، لا تدري أعدتُها القروء أو وضع الحمل. والأولى طلاقُها جائز بالاتفاق، والثانية أيضًا طلاقُها جائز بالاتفاق، وهذه الثالثة لا يجوز طلاقُها، لأنه يحتمل أن تكون عدتُها القروء، ويحتمل أن تكون عدّتُها الحمل. والله إنما أباحَ الطلاقَ للعدَّة، وذلك إنما هو لمن علمت عدتها، وهي القروء أو الحمل، وهي المطلقة في الطهر قبل الجماع، أو المطلَّقة وقد استبانَ حملُها. وإذا كان كذلك فالآيةُ تضمنتْ أمر المطلقة بأن تتربص ثلاثة قروء، وهذا الأمر لا يكون إلاّ لمن طُلِّقتْ بعد الطهر وقبل الجماع، فأما من استبان حملُها فلا تُؤمَرُ بذلك. ومن شك هل هي حامل أم لا، لو كان طلاقُها جائزًا لم تُؤمر بذلك، بل يقال لها: انظري، فإن كنتِ حاملاً فعدَّتكِ الحملُ، وإن كنتِ حائلاً فعدَّتُكِ القروء. فلما كان الله تعالى أمرَ المطلَّقاتِ بتربُّص ثلاثة قروء، وأمرُه لم يتناولْ هذه المشكوك فيها، لم تدخلْ في الآية. فتبين بذلك بطلانُ قولهم إنّ الآية تناولَتْها. ثمَّ نقول: إذا كان في هذه الآية أمرُ كل مطلَّقةٍ بعد الدخول بتربُّصِ ثلاثةِ قروء، وإن كانت من أولات الأحمال فأجلُها وضع الحمل، وهذه لا تُؤمر عَقِبَ الطلاقِ لا بهذا ولا بهذا، عُلِمَ أنها ليست مطلقة، فدلَّ على أنه لا طلاقَ لها. ومما يُوضِّح هذا أن الآية أمرت المطلقاتِ بتربصِ ثلاثة قروء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وذلك من حين الطلاقِ، فهي من حين الطلاق تتربَّصُ، وهذه لو كانت مطلَّقةً لم تُؤمر بتربُّص ثلاثة قروء من حين الطلاق، ولا هي من أولات الأحمال، فعُلِمَ أنها ليست مطلقة. ومما يُوضِّح ذلك أن قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) إمّا أن يقال: إنها عامة في كل مطلقة، ثمَّ استُثْنِيَتْ ذاتُ الحمل، كما قال ذلك طائفة؛ وإما أن يقال: بل هي مختصة بغير ذاتِ الحمل لم تتناولْ لغيرهن، فإنّ القرآن قد بَيَّن أن غير المدخولِ بها لا عِدَّةَ عليها بقوله: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) (1) . ولهذا قال من قال: إن هذه الصورة مستثناة مخصوصة من هذا العموم. وقد يقال: الآية لم تَشمل غيرَ المدخولِ بها، فإنه قد قال في سياقها: () وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (2) ، وقبل الدخول ليس لها حق في المعاشرة. وقال أيضًا: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) (3) ، وهذا مختص بالمدخول بها، فغير المدخول بها يَرجِعُ إليه نصفُ مَهرِها الذي أعطاها، بقوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) (4) . ولأن قوله: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (5) يتناول الحيضَ والولدَ. ومن لم يدخل بها ليس له منها ولد.   (1) سورة الأحزاب: 49. (2) سورة البقرة: 228. (3) سورة البقرة: 229. (4) سورة البقرة: 237. (5) سورة البقرة: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فإن قيل: قد يكون الضميرُ في آخرِها أخصَّ منه في أوَّلها، كما قالوا: إن قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) يَعُمُّ البائناتِ والرجعياتِ، وقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ) يختصُّ بالرجعيات. وتنازعوا هل يقال: التخصيص في الضمير فقط أو التخصيص في أولها فقط؟ ليتطابق المضمر والمظهر، أو بالوقف؟ على ثلاثة أقوال، وهي أقوال معروفة (1) . قيل: هذا على قول من يقول: إن المطلقاتِ فيهن بانتْ بعد الدخول، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، ثمَّ رجعَ أحمد عن هذا، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي. فظاهر مذهبه أن الطلاق بعد الدخول لا يكون رجعيًا. وأما الثلاث فذاك هو الطلاق المحرَّم، وقد بينه بعد هذا بقوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (2) ، أي الطلاق المذكور في الآية، وهو الرجعي. وهذه الآية وأمثالُها مما يُستدلُّ به على أنّ الطلاق بعد الدخول لا يكون إلاّ رجعيًا، ولهذا يذكر اللهُ فيه الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، وهو مما يَدُلُّ على أن ّ الخلع ليس بطلاقٍ (3) ، لأنه لا رجعةَ فيه، فإن الله سماه افتداءً، ولهذا كان لا رجعةَ فيه عند عامة العلماء، وهو في أحد القولين - وهو الثابت عن عثمان وابن عباس وغيرهما - أنها تُستبرأ منه بحيضةٍ، فلا تتربصُ ثلاثةَ قروء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول إسحاق وغيره وقول طائفة من السلف، وإذا كان فسخًا لم يكن له عدد. فهذه خصائص الطلاق المذكورة في الآية،   (1) انظر "الإحكام" للآمدي (2/336) وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/153) و"تيسير التحرير" (1/320) و"شرح الكوكب المنير" (3/390-391) . (2) سورة البقرة: 229. (3) انظر "مجموع الفتاوى" (32/289-313،321-344،33/9-10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وهي ثلاثة: تربصُ ثلاثة قروء، واستحقاق البعل الرجعةَ، وأنه مرَّتانِ، ثلاثتُها منفيةٌ في الخلع، لأنه افتداءٌ افتدتْ به المرأةُ نفسَها من زوجها كما يَفتدِي الأسيرُ، فقد اشترتْ ذلك وعاوضتْ عليه. وقد يُشبه بالإقالةِ أيضَا، ولهذا قال من قال: ينبغي أن لا يكون بزيادة على المسمى كالإقالة. وإذا قيل: هو فسخٌ، فهل يصحُّ مع الأجنبي؟ فيه وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد. أحدهما: لا يَصحُّ، فإنه حينئذٍ يكون كالإقالة، والإقالةُ لا تكون مع الأجنبي. وهذا قول أبي المعالي والرافعي، وقد ذكره أبو الخطاب وغيره من أصحاب أحمد. والثاني: يَصحُّ مع الأجنبي، وهو الصحيح المشهور عند أصحاب أحمد، وكذلك ذكره العراقيون من أصحاب الشافعي، كأبي إسحاق الشيرازي في "نكته"، وذلك لأنه كافتداء الأسير، ويجوز بَذْلُ الأجنبيِّ العوضَ في افتداء الأسير. وبسطُ هذا له موضع آخر (1) . والمقصود هنا أن القرآن من تدبره تدبرَا تامَّا تبينَ له اشتمالُه على بيان الأحكام، وأنَّ فيه من العلم مالا يُدرِكه أكثرُ الناس، وأنِّه يُبيّن المشكلاتِ ويَفصِل النزاع بكمالِ دلالتِه وبيانِه إذا أُعطِيَ حقَّه، ولم تُحرَّفْ كَلِمُهُ عن مواضعه. فقوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصٌّ في أنَّ المرادَ ذاتُ الأقراء. وقد تنازعَ الناسُ هل يعمُّ لفظُها لذواتِ الحمل والمتوفى عنها، ثمَّ قد خُصَّ منها ذلك؟ أو لا يَعُمُّ لفظُها لهؤلاءِ؟   (1) انظر: "مجموع الفتاوى" (32/91-92،307) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 على قولين (1) . والأول قاله بعضُ أهلِ التفسير، كما ذكره مقاتل بن سليمان، وكما رُوِي عن الضحاك أيضًا، وهو شيخُ مقاتل. قالوا: إنّ اللهَ استثنى من هذه الآية من لم يُدخَلْ بها، واستثنى منها ذواتِ الحمل، واستثنى الصغيرة والكبيرة. فأما استثناءُ من لم يُدخل [بها] (2) فقد قاله غيرُ هؤلاء، ورواه أبو داود في سننه (3) عن ابن عباس، وتقدم القول فيه. وأما استثناءُ هؤلاءِ وإخراجُهن من الآية فقول ضعيف. والصواب أن الآية لم تشمل هؤلاء: أما الصغيرة والكبيرة فإنهن لا يحضن، وقوله (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) هي الحيض التي يكون فيها طُهر، فلابدّ أن يكون ذلك فيمن تحيض وتطهر، ويَمتنع أن يقال لمن لا قروءَ لها: تتربَّصُ ثلاثة قروء. فالآية لم تشمل أولئك. ولم يقل أحدٌ: إنه استُثنِيَ منها المتوفى عنها، فإنّ لفظ المطلقات لا يتناول من ماتَ عنها زوجُها. وأما أولاتُ الأحمال فنقول: لو شَمِلَها اللفظُ لكانت تحتاج أن تتربَّصَ ثلاثةَ قروء بعدَ وضع الحمل وانقضاءِ النفاس، فإن العادة الغالبة أن الحامل لا تَرَى دمًا، وقد تراهُ نادرًا، والفقهاء مختلفون هل هو حيض أم لا؟ ولو قيل: هو حيضٌ نزاع أنه لا تَقضي به العدة، ثمّ إنها ترى النفاس، ثمَّ تتربص ثلاثة قروء، فتبقى في العدة أكثر من   (1) انظر: "زاد المسير" (1/262) والقرطبي (3/112) . (2) زيادة على الأصل. (3) برقم (2282) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 سنة في الغالب، ومعلوم أن الله كما لم يرد ذلك بهذه الآية، فلم يدل لفظها على ذلك، لأنه قال: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، والتربص الانتظار، فجعل مدة التربص ثلاثة قروء، كما قال: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) (1) . والتربص في الموضعين من حين السبب، وهو الإيلاء أو الطلاق، فإنه لمّا قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) كان أمرًا لهن بالتربص من حين طلَّقهن، وإذا وجب عليها من حينِ الطلاق تربصُ ثلاثةِ قروء حينئذ امتنعَ أن يكون بين الطلاق وهذه القروء عدة أخرى كالحمل، والله تعالى أمر بطلاقها للعدة، فالعدة التي هي القروء، فستعقب الطلاقَ لا تتراخى عنه، ولأن قوله (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) عددٌ، فعُلِم أنها لا تتربص زيادة على ذلك. فهذا وغيرُه مما يُبيّن أنَّ لفظ الآية لم يَشمَل إلاّ المطلقة التي لها قروء عقبَ الطلاق، لم يتناول الصغيرة ولا الكبيرة ولا الحامل، كما لم يتناول المتوفى عنها، وإذا كان كذلك تبيَّن أنها أيضًا لم يتناول من لا تدري أتَعْتَدُّ بالقروء أو بوضع الحمل، فإن هذه ليست مأمورةً من حين الطلاق أن تتربَّصَ ثلاثةَ قروء، والآية قد دلَّت على أن المطلقاتِ المذكورات في الآية مأمورات أن تتربَّصَ كل واحدةٍ منهن ثلاثةَ قروءٍ عقبَ الطلاق، فلم تدخل في الآية الحاملُ، ولا من لا يُعرَف هل هي حاملٌ أو حائل، ولو كانت هذه مطلقة لوجب أن تشملَها الآية على تقدير، فيجب عليها إن لم تكن حاملاً أن تتربص من حين الطلاق ثلاثة قروء، فلما لم تَشْمَلها الآية عُلِمَ أنها ليست مطلقة. والمطلقات المذكورات هنا هُنَّ المطلقات المذكورات في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ   (1) سورة البقرة: 226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (1) ، والطلاق للعدة لا تَدخُلُ فيه هذه، فإنها ليست مطلقة للعدة، فعُلِمَ أنها لا تكون مطلقة. وأما الجواب عمّا احتجوا به فيقال: الآية سواءً شَمِلَت الولدَ والحيضَ، أو قُدِّرَ أنها مختصّة بالولد، فلا يمتنع أن يطلّق للسنة وتكتم الحمل والولد، تارةً تكرهُ الزوج فتكتمه، لئلا يعلم به فيراجعها، وتارةً تكتمه لتطول العدةُ فتأخذُ النفقة، وقد تكتُمه لتَنفِيَه عن أبيه، وذلك أنه إذا طلَّقها وقد رأت الطهر، فقد تكون مع ذلك حاملاً، فإن الحاملَ قد ترى الدمَ باتفاق الناس، وهل يكون حيضًا؟ على قولين، والطُهرُ دليل ظاهرٌ على براءةِ الرحم وليس قاطعًا، فقد تكون حاملاً لاسيما في أوائل الحمل، وترى الدم [في] الطهر، فيطلِّقها يَظُنها حائلاً، وتكون حاملاً تكتُم ذلك. وقد يكون في ابتداء الخبر، فتُخبِر أنها حاضت وطهرت، ليطلَّقها، رغبةً منها في الطلاق وكراهة التزوج. وقوله (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (2) يقتضي تحريمَه في هذه الحال أيضًا، فإنه إذا حرم عليها الكتمان بعد الطلاق، فقبلَ الطلاقِ أولَى أن يحرم عليها الكتمانُ، لأنه حينئذٍ يحتاج أن يَعرِف هل هي طاهر فيُباحُ له الطلاق، أم لا؟ وهل هي حاملٌ لئلا يُطلقها، أم لا؟ فإذا كتمت الحملَ وزعمت أنها طاهر ليطلقها، كانت أولى بالإثم من أن تكتم ذلك في آخر العدة، فإن هذه قصدتْ أن تُوقِعَه في طلاقٍ محرم، وأن تُخرِجَ نفسَها من ملكِه بالحيلة، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن المنتزعات والمختلعات هنّ المنافقات" (3) ، وقال: "أيما امرأةٍ سألتْ   (1) سورة الطلاق:1. (2) سورة البقرة: 228. (3) أخرجه أحمد (2/414) والنسائي (6/168) والبيهقي (7/316) من حديث = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 زوجَها الطلاقَ في غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحةُ الجنة" (1) . فإذا كان هذا بسؤالها واختيارِه فكيفَ باحتيالها ومَكْرِها. وهذا مما يَدُلُّ على بطلان الطلاق، فإنّ الشارع حكيم ينبغي أن يعاقبها بنقيضِ قصدِها، فلا يَحصُل لها ما طلبته من المكر والخداع المحرَّم. فإذا كتمتِ الحملَ وقالت: إني طاهر، حتى طلَّقها، ولم تكن طاهرًا بل كانت موطوءةً، ولم يتبين حملُها فهذه لا يقع بها الطلاق، على هذا القول الذي نصرناه، وقد وقع مثلُ هذه القضية، وإذا تبين أنها قد تكتم الحبل بعد الطلاق وقبل الطلاق، مع أن المطلقة مأمورة بثلاثة قروء، تبيَّن أنَّ هذا القول هو المتضمن للعمل بالآية دُون ذاك. وقد ذكر بعض أهل التفسير (2) أنهن في الجاهلية كنّ يفعلن ذلك، فقال ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس كانت المرأة إذا كانت راغبةً في زوجها قالت: أنا حُبلَى، وليست حبلى، لكي يُراجعَها. وإن كانت حُبلَى وهي كارهة قالت: لستُ بحبلى، لكي لا يَقدِرَ على مراجعتها، أو لكيلا يُراجعَها. فلمّا جاء الإسلام ثبتوا على هذا، فنزل قولُه، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (3) . ثم نزلت: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (4) . قلت: وهذا يقتضي أنهم كانوا يُطلِّقون الموطوءة قبلَ نزول آية   = أبي هريرة. وله شواهد، راجع "السلسلة الصحيحة" (632) . (1) أخرجه أحمد (5/277،283) وأبو داود (2226) والترمذي (1187) وابن ماجه (2055) من حديث ثوبان. (2) انظر تفسير القرطبي (3/118) و"الدر المنثور" (1/275-276) . (3) سورة الطلاق:1. (4) سورة البقرة: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الطلاق، وحينئذٍ فقد تقول: أنا حبلى، فيراجعها، وقد تقول: لستُ حبلى، فلا يُراجعُها. فلمَّا أنزل الله آيةَ الطلاق أمر بالطلاق للعدة أن تكون طاهرًا أو حاملاً قد تبين حملُها، وأنزلَ آية البقرة، فصارَ الطلاقُ وهي طاهر، والغالب أنها لا تكون حُبلَى، فما بقيت تتمكن مما كانت تتمكن منه في الجاهلية. وقد ذكر بعضُ أهلِ التفسير أنهم كانوا يُراجعون الحاملَ بعد الطلاقِ الثلاث، وأنّ الآية نزلت في ذلك، ففي "تفسير الخمس مئة" لمقاتل قال: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) يعني من الولد، (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) يعني أزواجهن أحقُّ بردّهن يعني برجعتهن في ذلك، يعني في الحمل. كان هذا في أول الإسلام، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما دامت في العدة، ثم نزلت: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) في الحبل بعدما طلَّقها ثلاثًا معلومة في كتاب الله ممكنة. وفسَّر الآياتِ إلى قوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يعني ما بُيِّن من الزوج والمرأة في الطلاق والرجعة (يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)) . فمن طلق امرأته ثلاثًا وهي حُبلَى أو غير ذلك، فقد بانت منه، ولا تَحِلُّ له حتى تنكح زوجًا غيرَه. وفي تفسير عاصم بن سليمان الكُوزي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: وقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) يعني في الحامل، في أول الإسلام كان الرجل إذا طلق امرأتَه ثلاثًا وهي حاملٌ أو غيرُ حاملٍ، فهو أحقُّ برجعتها ما دامت حاملاً. ثمَّ نزلت في امرأةِ رجلٍ لم يعلم بحملها، فطلَّقها زوجُها، ولم تُخبِره المرأة بحملها. فذلك قوله: (إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) إذا تراجعا ما بينهما، ثمَّ نسخَتْ هذه الآية التي بعدها، فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) يقول: بحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الصحبة، إلى أن قال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) التطليقة الثالثة (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) حاملاً كانت أو غيرَ حاملٍ. قلتُ: أما كونُ الطلاق في الجاهلية وفي أول الإسلام كان بغير عددٍ، يُطلِّق الرجلُ المرأةَ ما شاءَ ثمَّ يراجعُها، فهذا مشهور معروف، قد ذكره عامة العلماء، ولا فرق في ذلك كان بين الحامل وغيرها. ولم يكن في الجاهلية عِدَّة ولا عدد للطلاق، وأنزلَ الله العدَّةَ أولاً، فكان الرجل المضارّ يُطلِّقها، حتى إذا لم يَبقَ من العدّة إلاّ قليلٌ راجعَها، ثمَّ يُطلِّقها، فتَستأنِفُ العدة، فيُمهِلها، حتى إذا بقي منها قليلٌ طلَّقها، ثمَّ كذلك يفعل، حتى يبقَى دائمًا يُطلّقها ثمَّ يراجعها، فأنزل الله الثلاثَ. وكان له أن يرتجعَها بعد الطلاق الثلاث إذا كانت في العدة، سواءً كانت العدة حملاً أو قروءًا، كما ذكر هؤلاء. ولم يكونوا إذ ذاك أُمِرُوا بالطلاقِ للعدة، فإنه إذا كان يملك أكثر من ثلاث أمكنَه تطويلُ العدَّةِ وإضرارُها وإنْ طلَّقها للعدَّة، ولكن لمّا قُصِروا على الثلاث أُمِروا أن لا يطلقوا إلاّ للعدة، لتكون العدة عَقِبَ الطلاق، فلا يقع ضررٌ أصلاً. وما ذكر من أن المرأة كانت تكتم الحمل تارة لبُغضِها للرجل، وتارة لئلاّ يُراجعها، وتقول: إني حبلى، وتكتم الحيض تارةً لحبّها له، ليمسكها، وأنّ رجلاً طلق امرأته ولم تُعلِمْه أنها حاملٌ، فهو يوافق ما ذكرناه من أنها قد تكتم الحمل حين الطلاق. وقولهم: "إن هذا في الحمل، وكان هذا في أول الإسلام"، فمعناه أنه في أول الإسلام لما كان الطلاق بغير عدد، ولم تكن هناك سنة وبدعة، كانت المرأة تتمكَّنُ من كتمان الحمل تارةً وكتمان الحيض، ودعوى الحمل تارةً، لهواها في الحالين. فلمّا صار الطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ثلاثًا ما بقي يتمكن من المراجعة إلا في الطلقتين، وأُمِرَ أن لا يُطلِّقها حتى يعلم أنها حامل أو غير حامل، فإن كانت حاملاً كانت عدتها الحمل، وأَقْدَمَ على علمٍ فلا يندمُ، ولا تَغُرُّه وتكتُمه وتكذِبُ عليه. وإن ظهر أنها ليست حاملاً، لكونها في طهرٍ لم يصبها فيه، كان كذلك، وما بقي الكذب الذي يضرُّه يمكنها إلاّ في صُوَرٍ نادرةٍ، إذا طَهُرت ثمَّ تبيَّن أنها حامل، أو فيما إذا كتمتِ الحمل أولاً وقالت: إني طاهر، وهو مع ذلك وفي كلا الموضعين إنما يُمكنُها الخِداعُ على قول من يُوقع الطلاق. ومَن لا يُوقع إلاّ طلاقَ السنة يقول: إذا تبيَّن أنها كانت حاملاً ولم يعلم، لم يَقع الطلاقُ، فإنها لم تكن طاهرًا، ولا كان ذلك دَمَ حيضٍ. وأيضًا فقد يكون مرادُهم أنّ هذه الآية - آية القروء - نزلت قبلَ الأمر بالطلاق للعدة، فكانوا في تلك الحال لهم أن يطلقوا المرأة حائضًا وموطوءةً، وحينئذٍ فقد تكون حاملاً وتكتم الزوجَ ذلك، أو حائلاً وتكتم ذلك، فكان النهي عن الكتمان في تلك الحال عامًّا. ثمّ إنه بعد ذلك أمر بالطلاق للعدة، ونُهِيَ الرجلُ أن يُطلّق امرأة بمرة إلاّ إذا تبين حملُها، فزال هذا الفساد، كما قيل لهم: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا) (1) ، لما كان الطلاق بلا عددٍ فأمر بالعدة أولاً، ثم قُصروا على الثلاث ثانيًا، ثمَّ أُمِروا بطلاق السنة ثالثًا. وهذا يُبين حقائق الأمور، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. ولهذا قال في سورة الطلاق (2) : (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ، فدلَّ على   (1) سورة البقرة: 231. (2) الآية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أنَّ العدَّةَ كانت مشروعةً قبلَ ذلك، وأنّ آية العدَّة نزلتْ قبلَ الأمر بطلاقِ السنة، وهذا يحقِّق ما ذُكِر، والحمد لله رب العالمين. وكذلك إذا كتمتِ الحملَ وقالت: إني طاهرٌ، فإنّه لا يقع الطلاق. فهذا كلُّه ما يُبيِّن أن القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين، وعليه يَدُلُّ الكتاب والسنة، وهو الموافقُ لمقاصدِ الشرع، وهو الذي يَسُدُّ بابَ الضِّرار والمخادعة والمكر، الذي أراده الله بأمْرِه بطلاق السنة، وبقَصرِه الطلاقَ على ثلاثٍ، وإلاّ فإذا قيل بوقوع طلاقِ البدعة كان الضرر الذي كان في الجاهلية من هذا الوجه باقيًا. فإذا قيل: إنّ الطلاقَ بعد الطهر لازمٌ أمكنَها حينئذٍ أن تكتمَ الحملَ إذا كانت زاهدةً في الرجل لئلا يرتجعها، وأن تكتمَ الحيضَ وتَدَّعي الحملَ إذا كانت راغبةً في الرجل ليرتجعها. وما ذكره بعض أهل التفسير من أن نهيَها عن كتمان ما خلق الله في رحمها كان في أوَّلِ الإسلام، إن قيل: أرادوا بذلك أنّ النهي كان في أول الإسلام قبلَ قَصْرِهم على الثلاث وأَمْرِهم بطلاق السنة، لأنَّ الحاملَ حينئذٍ كانَتْ تُطلَّق من غير أن يعلم أنها حامل، فاحتاجوا إلى ذلك. وأما بعد أن بيَّن الله أنها لا تُطلق حتى يعلم أنها حائل أو حامل، فلا حاجةَ إلى ذلك. فهذه حجة قوية على من احتج بالآية على وقوع طلاق البدعة كما تقدم. لكن الآية تُبيِّن أنهنَّ نُهِيْنَ عن الكتمان في الحال التي أُمِرَت بها المطلقة أن تتربَّص ثلاثة قروء، وقيل فيها: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (1) ، وهذا هو آخر الأمر، فيكون النهي يشمل هذه الحال وغيرها بطريق الأولى كما تقدم، وإذا نُهِيْنَ عن   (1) سورة البقرة: 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الكتمان لم يدلّ ذلك على أنّ كتمانها ينفعها إذا علم بها، بل قد لا يعلم كتمانها، فتكتمه الحمل، فيطلِّق يَظُنُّها طاهرًا، ويستمرّ الأمر إلى أن تَضَعَ الحملَ، فربَّما غيبت الولد وكتمت الولادة. كما رُوي أن امرأة لعمر فعلتْ ذلك، وأنّ عمر عاقبها بمنعها من الأزواج. وربما مات الولدُ أو قتلته، وربّما كَرِهَ الزوجُ مراجعتها بعد ذلك. هذا مع العلم بأن طلاقها لا يقع، فكيف وأكثر الناس يَظنُّون أنّ طلاقَها يَقَعُ، فيكون كتمانُها مَضَرَّةً في هذه الحال. والزوج قد يعتقد أن طلاقَها يَقَعُ كما يَعتقده غالبُ الناس، فيتضرَّرُ حينئذٍ بمكرِها وكيدِها، فنَهْيُ اللهِ لها عن الكتمانِ فيه كمالُ المصالحِ للعالِم والجاهل في مسائل الإجماع والنزاع. ثمَّ من كان أَبْصَرَ وأخبرَ بحكمة الربِّ ورحمتِه ومحاسنِ الإسلام تبيَّنَ له أنّ الربَّ لم يجعل لها طريفا إلى أن تُضارّ الرجل، حتى تُوقِعَه في طلاقٍ أو تمنعَه من رجعةٍ، إلاّ إذا كان حكم الله ورسوله خَفِيًّا عليه، فيُؤتَى من عدمِ علمِه، لا مِن نقصٍ في حكمِ الله ورسوله. والله أعلم وأحكم، ولا حولَ ولا قوة إلاّ بالله. آخره، والحمد لله رب العالمين. (بلغَ مقابلةً بالأصلِ خطِّ المؤلف، ومنه نُقِل. والحمد لله رب العالمين) . *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فتوى في طلاق السنة وطلاق البدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. سُئِل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه، ومن خطِّهِ نقلتُ: ما تقول السَّادة الفقهاء أئمةُ الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في طلاقِ السنة وطلاقِ البدعة ما هو؟ وهل طلاقُ البدعةِ حلالٌ أو حرام؟ وهل طلاقُ الثلاث بكلمة واحدةٍ من السنة أو البدعة؟ وهل هو حلالٌ أو حرامٌ؟ بيِّنُوا لنا هذه المسألةَ، رحمكم الله وهداكم. فأجاب رحمه الله: الحمد لله. طلاقُ السنة الذي أباحه الله ورسولُه أن يُطلق الرجلُ امرأتَه طَلْقةً واحدةً في طهرٍ لم يُصِبْها فيه، ثُمَّ يَدَعَها حتى تَقضِيَ العدةَ، فإن كان له فيها غَرَضٌ راجعَها في العدة، أو يراجعُها بعَقْدٍ جديد بعد انقضاء العدة، وإن لم يكن له فيها غرضٌ تركَها. فإذا فعل ذلك فقد طلَّق للسنة، وهذا الطلاق الذي أباحه الله بالكتاب والسنة والإجماع. فأما إذا طلَّقها في الحيض فإنه يكون عاصيًا لله مبتدعًا باتفاق الأئمة، وكذلك إذا طلقها بعد أن وَطِئَها قبلَ أن يستبينَ حملها، فإنه طلاق بدعة. وكذلك إذا طلَّقها ثلاثًا بكلمة واحدةٍ أو بكلماتٍ في طُهرٍ واحدٍ فإنه يكون عاصيًا لله مبتدعًا عند جماهير السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه، بل لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 طلَّقها واحدةً ثمَّ أَتْبَعَها بطَلْقتينِ قبلَ أن تنقضيَ العدةُ فانه يكون أيضًا مبتدعًا في مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه. والقرآن والسنة يدل على أن الله إنما أباح للرجل أن يطلق طلقةً واحدةً، فإذا راجعها ثمَّ أرادَ أن يُطلق الثانيةَ فله ذلك، وكذلك الثالثة، فإذا طلَّقها ثلاثًا كذلك لم يكن مبتدعًا. وإذا وَقَعَ به الطلاق الثلاث حَرُمَتْ عليه حتى تنكحَ زوجًا غيرَه. فإذا طلَّقها على الوجه المشروع لم يندم. وهو قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إلى قوله (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (1) . فهذا إنما يكون لمن طلَّق أقل من ثلاث، فيمسك بمعروف، أو يفارق بمعروف، وفي مثل هذا يقال: "لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا"، وهو أن يبدو له فيراجعها. فأما إذا وقع الثلاث فأيُّ أمرٍ يَحدُث بعدَ الثلاثِ؟ وأيُّ رجاءٍ يكون بعدها؟ فلهذا قال جمهور السلف والخلف: إن جمعَ الثلاثِ بدعةٌ منهيٌّ عنها، والمطلِّق ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ مبتدعٌ عاصٍ. ولم يثبت أن أحدًا أوقعَ الطلاقَ الثلاث على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكلمة واحدةٍ، بل زوجُ فاطمةَ ابنةِ قيسٍ طلَّقها زوجُها آخرَ ثلاثِ تطليقاتٍ. والمُلاعِن كان باللعانِ قد ثبت حكمُ الفرقة بينه وبين   (1) سورة الطلاق: 1-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 امرأتِه، فطلَّقَ ثلاثًا، ولو لم يُطلِّقها لكانتْ محرَّمةَ عليه. فالطلاقُ لم يُفِدْ شيئًا. فأما أن يكون المسلمون يُطلِّقون ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - كما يفعل الناسُ في زمانِنا - فهذا لم يَثبُت فيه حديثٌ صحيح، ولهذا كان الصحابة يذمُون من يُطلِّق ثلاثًا بكلمة واحدةِ، ويقولون: إنه عاصِ لله، والطلاقُ إذا وقعَ لم يرتفع بالكفارة بإجماع المسلمين، وإنما الكفارة في الأيمان، لا في إيقاع الطلاق. والله أعلم. (صورة خطه) كتبه أحمد بن تيمية. (بلغ مقابلةً بأصلِه، ومنه نُقِل) . *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فصل في جمع الطلاق الثلاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 بسم الله الرحمن الرحيم (قال شيخ الإسلام وبحر العلوم تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني - رحمه الله ورضي عنه -، ومن خطّه نقلتُ:) . فصل جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في آخر الروايتين عنه، واختيار أكثر أصحابه. ثم هل يقع عند هؤلاء أو لا يقع، أو تقع واحدة، أو يُفرَّق بين المدخول بها وغيرِ المدخولِ بها، فيه نزاع (1) . والنزاع بين السلف إنما هو هل تقع واحدة أو ثلثٌ. وأما القول بأنه لا يقع شيءٌ فإنما هو منقول عن بعض أهل البدع من أهل الكلام والرافضة. وقالت طائفة: بل هو مباح. والكلام في مقامين: أحدهما: أنه محرَّم، والدليل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، والاعتبار بالأصول المعلومة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فمن وجوهٍ: أحدها: أنه سبحانه قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (33/71-73،76-98،32/311-312) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) إلى قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (1) . ومعلوم أن هذه السورة هي سورة الطلاق، وقد ذكر الله فيها من أحكام الطلاق والرجعة والعدد ونفقة الحامل والمرضع وغير ذلك مالم يذكره في موضع آخر، وهي تدل على تحريم جمع الثلاث من وجوه: أحدها: أنه قال (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) إلى قوله (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) . ومعلوم أن هذا لا يكون في الطلاق الثلاث، فإن الثلاث لا إمساك بعدهن، وبعد الثلاث لا يُحدِث الله للزوج رجعةً بدون رضاها. ولهذا قال غير واحدٍ من الصحابة والتابعين والعلماء - كابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس - وفقهاء الحديث ومن وافقهم من العلماء: إن هذا في الرجعية.   (1) سورة الطلاق: 1-6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الثاني: أن قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ) إذن في مطلق الطلاق، ليس إذنًا في كل طلاق. ومن ظنَّ أن هذا عام فقد غَلِطَ ولم يُفرِّق بين العامّ والمطلق، فإن قول القائل "كُلْ" و"بعْ" ونحو ذلك إذن في مطلق الأكل والبيع، لاْ يتعرض للعموم لا بنفي ولا إثباتٍ. ولهذا لم يكن تقييدُ هذا المطلق رفعًا لمدلول اللفظِ ولا نسخًا له، وإذا لم يكن فيه عمومٌ فهو لم يأذن إلاّ في الطلاق الذي وصفَه، وهو أن يطلّق للعدة وأن يُحصيَ العدة ويتقي الله، وأنه إذا بلغن أجلهن أمسكَ بمعروف أو فارقَ بمعروفٍ. وهذه الصفة إنما هي في الطلاق دونَ الثلاث، كما أنها إنما هي في الطلاق لاستقبال العدّة، فمن طلَّقها حائضا فلم يُطلِّق كما أمره الله تعالى. كذلك من لم يطلق الطلاق الموصوف بأن صاحبه لا يدري لعلَّ الله يُحدِث بعده أمرًا، وبأنه إذا بلغت المرأة أجلَها فإمًّا أن يُمسِك بمعروف أو يُسرِّح بمعروف، فلم يطلِّق الطلاقَ الذي أمر الله به. الثالث: أنه أمر بإحصاء العدَّة وأن يتقي الله، وأمر إذا بلغن أجلهن أن يُمسِك بمعروف أو يُسرِّح بمعروف، وهذا لا يُحتاج إليه في الثلاث، فإن الثلاث إنما يحتاج إلى إحصاء العدة لتَحِلَّ لغيره، لا لأجل إمساكِه وتسريحه. الرابع: أنه قال (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، وهذا حكم المطلقة الرجعية، فإن زوجها أحق بها ما دامت في العدة، فليست كالزوجة من كل وجه، ولا كالبائن من كل وجه، بخلاف الزوجة فإن لها أن تخرج بإذن زوجها، والبائن لزوجها أن يُخرجَها بلا إذنها، فإنها لا تستحق عليه السكنى ولا النفقَة، إلاّ أن يختار هو أن يُحصِنَها، فله إلزامُها بالسكنى لحقه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 العدة. وقد دلَّ على ذلك سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصحيحة في فاطمة بنت قيس حيث قال لها: "ليس لكِ سكنى ولا نفقة" (1) . ولم يعارِضْ ذلك أحدٌ بمعارضةِ صحيحة، فإنّ القرآن لا يخالف ذلك بل يوافقه، فإنّ الله قال: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (2) ، والضمير عائد على ما تقدم، وهي الرجعية. وما ذكره في الحامل والمرضع فبيّن فيه أن النفقة حينئذ لأجل الحمل، لا لأجل النكاح، ولهذا قال: (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، فهذا ذكره لغاية نفقة الحمل، وإلاّ فقد بين عدة الحامل بقوله (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (3) ، وقوله بعد ذلك: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (4) . وقد ثبت بالإجماع أن أجرة الرضاع نفقة الولد، وهي تجب للنسب لا للنكاح، فدل ذلك على أن نفقة الحامل لذلك. ولهذا كان أصح القولين أن نفقة الحامل تجب للحمل (5) ، وحكمُها حكمُ نفقة الولد التي تجب على والده، وهذا مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والشافعي في أحد قولَيْه، ومن قال: إنها تجب للزوجة من أجل الحمل، فكلامه متناقض لا يُعقَل. الخامس: أنه قال (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)) ، وهو كما قال غيرُ واحدِ من الصحابة، فأيّ أمرِ يحدث بعد الثلاث، فإن   (1) أخرجه مسلم (1480) من طرقٍ عن فاطمة. (2) سورة الطلاق: 6. (3) سورة الطلاق: 4. (4) الآية 6. (5) انظر "مجموع الفتاوى" (34/72-75، 105-106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الله ذكر هذا ليبين أنه قد يَحدثُ بعدُ رغبةٌ في الزوجة ونَدَمٌ على الطلاق، فيكون له سبيل إلى رجعتها. السادس: أنه قال في سياق الآية: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)) ، وقد قال الصحابة لمن طلق ثلاثًا (1) : لو اتقيتَ اللهَ لجعلَ لك فَرَجًا ومخرجًا، فعُلِمَ أن جامعَ الثلاثِ لم يتقِ الله. السابع: أنه قال (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، والإشهاد إنما يؤمَر به في حكم الطلاق الرجعي، وهو واجب على الرجعة في أحد القولين، ويُستحبّ في الآخر. الثامن: أنه قال (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي وصلن إلى آخر المدة، فإن الأجل هو آخر المدة، والعدة مجموعها، ولهذا قال تعالى في الآيسات: (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) ، وقال: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، فجعل الأجل وضع الحمل، ولم يجعل ذلك عدة، لأن العدة ما يُعدُّ، وهي المدة التي تُعَدُّ. وأما الأجل فهو آخر المدة. ولهذا دلَّت هذه الآية على أن الحامل لا أجل لها إلاّ وضع الحمل، سواء كانت متوفى عنها أو مدخولاً بها، ولهذا قال ابن مسعود (2) : أشهد أن سورة النساء القُصْرَى نزلتْ بعد الطولَى، (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) وقال سبحانه: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) ، لأنه إنما يُخير بين الإمساك والتسريح عند آخر المدة، بخلاف أثنائها، فإنه لا   (1) هذا مروي عن ابن عباس، أخرجه أبو داود (2197) . (2) كما في "صحيح البخاري" (4910) . قال الحافظ في "الفتح" (8/655،656) : مراد ابن مسعود إن كان هناك نسخ فالمتأخر هو الناسخ، وإلا فالتحقيق أن لا نسخ هناك، بل عموم آية البقرة مخصوص بآية الطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 يسرحها حينئذٍ، وهذا إنما يكون في الرجعية. التاسع: أنه خيَّره بين الإمساك والتسريح، وليس المراد بالتسريح هنا تطليقًا بائنًا باتفاقِ المسلمين، فإن ذلك لا يختص ببلوغِ الأجل، بل المراد به تخلية سبيلها، كما قال: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)) (1) ، فأمر بتسريح المطلقة قبل المسيس، وتلك ليست رجعية، ولا يلحقها الطلاق الثاني، وإنما المراد تخلية سبيلها وإزالة يده عنها، فإنّ له يدًا على الرجعية، فإذا بانت لم يكن له عليها بُدٌّ. الموضع الثاني من كتاب الله قوله تعالى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ   (1) سورة الأحزاب: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)) (1) . وهذه الآيات تدلُّ على أن المشروع هو الطلاق الرجعي دون الثلاث، من وجوه: الأول: أنه قال (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) ، وهذا يدل على أن كلَّ مطلَّقة فإنها تتربَّص ثلاثة قروء، وأن بعلَها أحق بردّها في ذلك، فلو كان المطلِّق مخيَّرًا بين إيقاع واحدة وثلاثٍ لم تكن كل مطلَّقةٍ كذلك، بل كان هذا وصفَ بعضِ المطلقات. فإن قيل: فهذا يرد عليكم فيمن طلقت الطلقة الثالثة. قيل: قد بيّن ذلك بقوله فيما بعدُ (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) ، تبين أن هذا الطلاق هو مرتان فقط، والثالثة قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) . وقبلَه قوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) ، فكان تمام الكلام يُبيّن المرادَ، ولم يكُ في ذلك خروج عن مدلولِ القرآن ومفهومه وظاهرِه، بخلاف ما إذا قيل: إن المطلق مخير بين الواحدة والثلاث. وأيضا فالآية عامة في كل مطلقة، والمطلقة طلقة ثالثة قد خصّها في تمام الكلام بقوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، فيبقى ما سواها على ظاهر القرآن وعمومِه.   (1) سورة البقرة: 227-232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الوجه الثاني: أن الله ذكر حكم الطلاق الذي أذنَ فيه وشرعَه، فإنه لما قال: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)) ، وقال: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ، وقال: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) ونحو ذلك، دَلَّ على أنه أَذِنَ في الطلاق وأباحَه في الجملة، وهو سبحانه لم يأذن في كل طلاق ولا أباحَه، بل الطلاق ينقسم إلى مباح ومحظور بالكتاب والسنة والإجماع. وإنما الكلام هنا في جمع الثلاث هل هو من المباح أو المحظور، فإذا قيل: إن الله بيَّن حكم الطلاق الذي أباحَه، ولم تكن الثلاث مباحة، كان القرآن على ظاهره وعمومِه؛ وإذا قيل: هو من المباح، والقرآن يعمُ الطلاقَ المأذونَ فيه والمحظورَ، كان ذلك مخالفًا لظاهر القرآن. الوجه الثالث: أنه قال (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) ، وهذا صفة الطلاق الرجعي، فدَلَّ ذلك على أن هذا هو الطلاق الموصوف في كتاب الله بقوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) ، فالمطلّق ثلاثًا ابتداءً لا رجعةَ له، ومن لم يُوقع إلاّ طلاقًا لا رجعةَ فيه فقد خالفَ كتابَ الله. الوجه الرابع: أنه قال بعد ذلك (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) ، ثم قال: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) . وفي الحديث المرسل عن أبي رزين الأسدي الذي رواه الإمام أحمد وغيره (1) أنه قيل: يا رسولَ الله! فأين الطلقةُ الثالثة؟ قال: في قوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) . وهذا معناه أنه جوّزَ إمساكها بعد الثانية، فعلم أنها تكون زوجة بعد الثانية، لا   (1) أخرجه الطبري (2/278) وابن أبي حاتم (9/412) والبيهقي (7/340) ، وانظر تفسير ابن كثير (1/279-280) و"الدر المنثور" (1/664) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 تحرم بالثانية. ثم ذكر حكمه إذا أوقع الثالثة بقوله: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) . وقد فسَّر بعضهم (1) معناه بانَّ قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) هو الطلقة الثالثة، وهذا غلط من وجوهٍ كما قد ذُكِر في موضع آخر. ومعلومٌ أن هذا لا يتناول الثلاث المجموعة، فإنه ليس بعد وقوع الثلاثِ إمساكٌ بمعروف. الوجه الخامس: أن قوله (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) لفظ معرف باللام، فيعود إلى الطلاق المعهود، وهو الطلاق الذي تقدم ذكره في كتاب الله بقوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ، وهو الطلاق الرجعي، فدلَّ ذلك على أن الطلاق المشروع في كتاب الله هو الطلاق الرجعي الذي يقع مرةً بعد مرةٍ، وبعدهما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والثالثة قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا) . الوجه السادس: أن قوله (مَرَّتَانِ) إمّا أن يُريد به مرةً بعد مرة، كما في قوله (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) (2) ، وكما في قوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) (3) الآية. ومعلومٌ أن الثلاث في الاستئذان لا تكون بكلمةٍ واحدةٍ، فلو قال: "سلامٌ عليكم، أأدخل ثلاثًا" لم يكن قد استأذنَ ثلاثًا. وكما في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال في يومٍ مئة مرة سبحانَ الله وبحمده حُطَّت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر" (4) ؛ وفي مثل قوله: "سبّح ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر ثلاثًا وثلاثين" (5) ؛ وقوله: "كان إذا سلَّم   (1) انظر "زاد المسير" (1/263) والقرطبى (3/127-128) . (2) سورة الملك: 4. (3) سورة النور: 58. (4) أخرجه البخاري (6405) ومسلم (2691) عن أبي هريرة. (5) أخرجه مسلم (597) عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 سلَّم ثلاثًا" (1) ، وأمثال ذلك مما يقتضي لفظُ العددِ فيه تكريرَ القول. لاسيَّما وهو لم يقل: "الطلاق طلقتان"، وإنما قال (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) . وإذا قال: "هي طالق ثلاثًا" قد يقال: إنه طلَّقها ثلاثًا، لكن لا يقال: طلَّقها ثلاث مرات، بل إنما طلَّقها مرةً واحدةً. وكذلك لو قال: "هي طالقٌ طلقتَينِ" إنما يقال: طلَّقها مرةً واحدةً، لا يقال: طلَّقها مرتين. وإمَّا (2) أن يريد به "طلقتان" سواء كان بكلمة أو كلمتين، ولو أريد هذا لقيل: "الطلاق ثلاث"، لم يقل: "الطلاق مرتان"، بخلاف ما إذا أريد الأول، فإن المراد الطلاق المذكور، وهو الطلاق الرجعي مرتان: مرةً بعد مرة؛ والثالثةُ الطلاقُ بعد الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وهو قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، ولو أريد هذا لقيل: "الطلاق طلقتان"، ولم يقل "الطلاق مرتان". وقوله تعالى (نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) (3) هو على مقتضاه، أي مرةً ومرةً، وليس المرادُ إيتاءً واحدًا، بل إيتاء مرتين. الوجه السابع: أن الطلاق اسم مصدر طلَّقَ تطليقًا، ومعلومٌ أن التطليق فعلٌ يفعله المطلِّق بكلامه الذي يتكلم به، وهذا لا يُعقل أن يكون مرتين، إلاّ إذا قيل مرَّةً بعد مرّةٍ، فأما إذا طلَّقها بكلمة واحدةٍ فهذا لم يصدر منه الطلاقُ إلاّ مرةً واحدةً لا مرتين. وإن جاز أن يقال: إنه طلَّقها طلقتين، فلا يجوز أن يقال: إنه طلَّقها مرتين، ولا يُفهَم لفظ "طلَّقها مرتين" بدون تكرير التطليق. يدلُّ على ذلك أن قوله "الطلاق مرتان" يدلُّ على ما يدلُّ عليه   (1) أخرجه البخاري (94،95،6244) عن أنس. (2) عطف على قوله "إما أن يريد به مرة ... " في أول الوجه السادس. (3) سورة الأحزاب: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 قول القائل "طلَّقها مرتين"، ولو قال ذلك لم يفهم منه إلاّ أنه طلَّقها مرةً بعد مرةٍ، فكذلك قوله "الطلاق مرتان". وإذا قال القائل: "سبّح مرتين أو ثلاثًا" و"هلّل مرتين أو ثلاثًا" ونحو ذلك، فُهِمَ منه أنه قال ذلك مرةً بعد مرةٍ، وكذلك إذا قيل "كَلّمهُ مرتين أو ثلاث مرات". ومنه قوله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (1) ، وقوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) إلى قوله (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) (2) ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (3) : "من قال في يومٍ مئةَ مرة سبحان الله وبحمده، حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، ومن قال في يومٍ مئةَ مرةٍ لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له مئةَ حسنة، وحطَّ عنه مئةَ سيئةٍ، وكانت له حرزًا من الشيطانِ يومَه ذلك حتى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاءَ به إلاّ رجلٌ قال مثلَما قال أو زاد عليه". وقوله في الحديث الصحيح (4) : "إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئةَ مرةٍ"، وقوله في الحديث الصحيح (5) : "أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". الوجه الثامن: أنه قال بعد قوله "الطلاق مرتان": (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) ، فأمره بعد الطلاق مرتين أن يمسك بمعروف   (1) سورة التوبة: 80. (2) سورة النور: 58. (3) سبق ذكر الحديث وتخريجه قريبًا. (4) مسلم (2702) عن الأعز المزني. (5) ضمن الحديث السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 أو يسرح بإحسان، وهذا لا يكون إلاّ فيما إذا أخر الطلقةَ الثالثةَ عن الطلقتين، لا إذا جمعَ الجميعَ. الوجه التاسع: أنه قال بعد ذلك (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) ، ومعنى ذلك باتفاق المسلمين: فإن طلَّقها الذي طلَّقها مرتين فلا تحل له من بعدِ هذا الطلاق الثالث حتى تنكح زوجًا غيره، فإن طلَّقها هذا الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، أي ينكحها نكاحًا ثانيًا إن ظنَّا أن يقيما حدود الله، وحينئذٍ فالله تعالى إنما حرَّمها في القرآن بطلقة وقعتْ بعد الطلاقِ مرتين. الوجه العاشر: أنه قال (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ، فقوله "وإذا طلقتم" عام في كل تطليق، فإنه نكرة في سياق الشرط، فأمر عند بلوغ الأجل بالإمساك أو التسريح، وهذا لا يكون مع جمع الثلاث، فعُلِم أن جمعَ الثلاث لم يدخل في ذلك. فلا يكونْ داخلا في مسمَّى التطليق، فلا يكون مشروعا، فإنه لو دخل في مسمَّاه لزِمَ مخالفةُ ظاهرِ القرآن وتخصيصُ عمومِه. فإن قيل: فهذا يرد عليكم في الثالثة إذا أوقعها بعد ثنتين. قيل: قد بين ذلك بقوله (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) إلى قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا) ، فقد بين أن الطلاق الذي ذكر فيه الإمساك إنما هو مرتان فقط. الوجه الحادي عشر: أنه قال (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) ، ولم يقل "ثلاثًا"، مع العلم بأنه يملك أن يُطلقها ثلاث تطليقات في ثلاث مرات، فعُلِم أنه أراد أن يُبين أن الطلاق الذي هو أحقُ برجعتها فيه مرتان، ولو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 قيل: أراد: الطلاقُ الرجعي طلقتان، لم يستقم ذلك إذا جمعَها، فإن الرجعي حينئذ يكون طلقة واحدة، وطلقة بعد طلقة، وطلقتان مجموعتان، بخلاف ما إذا قيل "مرتان"، فنه لا يكون إلاّ مرة بعد مرة. فن قيل: فإذا كان المراد أن الطلاق الرجعي مرتان عُلِمَ أن لنا طلاقًا رجعيًّا وطلاقًا غير رجعي، وذلك يتناول البائن والمحرّم، وهو الثلاث. قيل: لفظ الطلاق إمّا أن يَعُمَّ كل طلاقٍ أو يعود إلى الطلاق المتقدم، وهو المعهود، وعلى التقديرين فنه يقتضي أن كل طلاق إنما يكون مرة بعد مرةِ، ولا يكون إلاّ رجعيا، فمن أثبت طلاقًا بكلمة توجب البينونةَ فقد خالفَ دلالةَ القرآن، فضلاً عن طلاقٍ واحدٍ يوجب التحريمَ. الوجه الثاني عشر: أنه قال (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا) ، وهذا لا يتأتى في جمع الثلاث. الوجه الثالث عشر: أنه قال (وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً) ، وقد رُوِي أن جمع الثلاث من اتخاذ آيات الله هزوا، كما رواه النسائي (1) من حديث ابن وهب أخبرني مخرمة عن أبيه سمعتُ محمود بن لبيد قال: أُخبِر رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجلِ طلق امرأتَه ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: أَيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله! أفلا أقتله؟ الوجه الرابع عشر: أنه قال (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) ، وهذه النعمة تظهر فيما إذا وقع للعبد أن   (1) 6/142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 يطلقها مرةً بعد مرةٍ، وأن يراجعها بعدَ التطليق، فأما إذا حرَّمَها عليه في أول تطليق يُطلِّقه فهذه حرمت عليه في أول مرة، وتحريم الطيبات ليس من باب النعم، بل قد جعله عذابًا بقوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (1) ، وقوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (2) . الوجه الخامس عشر: قوله (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) ، والوعظ هو الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ) (3) أي يؤمرون به، وقوله: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) (4) أي ينهاكم الله. فدلَّ عل أنه سبحانه أمرهم ونهاهم في الطلاق الذي ذكره، ولو كان قد أباح لهم الثلاث جميعًا لم يكن فيما ذكره من الطلاق أمر ولا نهي، فإنه بعد الثلاث لا إمساك ولا تسريح ولا وعظ، وفاعلُها إذا كان لم يُذنِب فلا يُوعَظُ قبل التطليق ولا بعده، والقرآن يدلُّ على أنه وعظهم فيما ذكره من الطلاق. الوجه السادس عشر: قوله (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) ، فإن هذا عامٌّ في الطلاق الذي ذكره الله في كتابه، وجَعله مرتين، فلو كان قد أذِنَ في جمع الثلاث لم تكن الآية على عمومها، بل كان هذا في بعض التطليق المذكور دون بعض، وهو خلافُ ظاهرِ القرآن وعمومِه. الوجه السابع عشر: أن القرآن خطاب للصحابة ابتداءً، ثم للأمة بعد الصحابة، ومعلومٌ أن الخطابَ بالطلاق الذي ذكر الله أحكامَه،   (1) سورة النساء: 160. (2) سورة الأنعام: 146. (3) سورة النساء: 66. (4) سورة النور: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 كقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) ، وقوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) ، وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) لا يتناول جمعَ الثلاث، وإنما يتناول من طلَّق مرةً بعد مرة، فدلَّ ذلك على أن هذا هو الطلاق المعروف عند المخاطَبين بالقرآن ابتداءً. ودلَّ ذلك على أن جمعَ الثلاث لم يكن من الطلاق الذي يعرفونه، إذ لو كان كذلك لكان يستثنيه ويُبيِّنه، وإلاّ كان القرآن قد أريد به خلافُ ظاهرِه وعمومِه بلا بيانٍ من الله ورسوله. الوجه الثامن عشر: أن يقال: معلومٌ أن ظاهر القرآن وعمومَه يَدُلُّ على أن الطلاق المشروع طلقة بعد طلقة، فإذا أريد خلافُ ظاهرِه فلابُدَّ من بيانٍ من الله أو رسولهِ لذلك. ومعلومٌ أنه ليس في القرآن آية تَدُلُّ على إباحة جمع الثلاث، ولا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يدلُّ على ذلك، فإن حديث فاطمة بنت قيس إنما فيه أن زوجها طلَّقها آخر ثلاثِ تطليقاتٍ، وحديث الملاعنة لما طلَّقها ثلاثًا إنما فيه طلاق من لا سبيل له إلى المقام معها، وهذا كما لو طلَّق من حرمت عليه بغير الطلاق ثلاثًا، وطلاق هذه زيادة توكيدٍ في مفارقتها، بل هو لغوٌ لم يُوجبِ الفرقةَ التي يُوجبها الطلاق، بل وجوده كعدمه. والطلاق الثلاث حرمت عليه ليكون له سبيل إلى رجعتها، وهذا المعنى منتفٍ في حقّ هذه. ولو قُدِّر أنه فعلَ منكرًا، فالمنكر إذا بين الله ورسولُه أنه منكر لم يَجِبْ بيانُ ذلك في كل مجلس. وهذا جوابٌ ثانٍ عن حديث فاطمة بنت قيس، فليس معهم إلاّ مجرد سكوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو إذا بيَّن تحريم الشيء لم يكن سكوتُه عن إنكارِه كلَّ وقتٍ دليلاً على الجواز. الوجه التاسع عشر: أن الله حرَّمها عليه بعد الطلقة الثالثة حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 تنكح زوجًا غيره، ولم يُبِح له أن يُطلَّقها رابعةً، وهذا عقوبة له، كما قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (1) ، وقوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (2) . فنها إذا حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره لم يكن قادرًا على تزوُّجِها ولو رضيتْ به، بل من الممكن أنها لا تتزوج بغيره، أو تتزوج بمن لا يُطلقها، ومن طبع الإنسان أنه يكره أن تتزوجَ امرأتُه بغيره. ولهذا حُرِّم على غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنكح أزواجه من بعده، إكرامًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فدلَّ على أن تحريمَها حتى تنكح زوجًا غيرَه إهانة له، فإنه إذا كان منعُ غيرِه من التزوُّج بامرأته إكرامٌ، فاشتراطُ تزويج غيره في الحلّ وجَعْلُ ذلك واجبًا في عودِها إليه إهانةٌ له، والإهانةُ لا تكون إلاّ لمذنب. فإن قيل: فالله أباحَ الطلاقَ. قيل: لم يُبحْه مطلقًا، لكن أباحه بعددٍ محصورٍ، وأن تحرم عليه امرأته بعد الثالثَة، والأمرُ الذي لم يُبَحْ فيه إلاّ مقدارٌ معين وحرمت عليه بعد ذلك المقدار - لا يكون مباحًا مطلقًا، بل هو بمنزلة ما أُبِيح من الحرير، فإنه أُبِيحَ للنساء، وأُبيح منه عَرْضُ كف للرجال؛ وبمنزلة الهجرة والإحداد ومقام المهاجر بمكة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يَحل لرجلٍ أن يهجر أخاه فوقَ ثلاثٍ، يلتقيانِ فيصدّ هذا ويصدُّ هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام" (3) . وقال: "لا يحل لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميّتٍ فوقَ ثلاثٍ" (4) . وأذن للمهاجر أن   (1) سورة النساء: 160. (2) سورة الأنعام: 146. (3) أخرجه البخاري (6077،6237) ومسلم (2560) عن أبي أيوب الأنصاري. (4) أخرجه البخاري (5334،5335) ومسلم (1486،1487) عن زينب بنت أبي سلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 يقيم بمكة بعد قضاء نُسُكهِ ثلاثًا. فكان الأصل في هجرة المسلم والإحداد على غير الزوج ومُقام المهاجر بما هاجر عنه أن يكون منهيا، لكن رخّص في الثلاث منه للحاجة إلى ذلك. كذلك الطلاق، لما لم يُبح منه إلاّ الثلاث دلَّ على أن الأصل فيه الحظر، والمعنى أن الرجل خُير بين أن يطلقها فتحرم عليه، وبين أن لا يطلقها، ومعلوم أنه إذا أُبِيْحَ مجموعُ التطليق وتحريمها عليه لم يكن. الطلاقُ وحدَه مباحًا، فمن ظنَّ أن الطلاق مباح مطلقًاْ كما يُباحُ الأكل والشربُ فقد غَلِطَ، بل إذا اقتصر على ثلاث تطليقاتٍ وحرمتْ بعد الثالثة دلَّ على أنه أبيح منه قدر الحاجة، ومعلوم أن جمعَ الثلاث لا حاجةَ إليه، فلا يُباح (1) . ***   (1) انتهى الكلام هنا في الأصل، ولعل المؤلف لم يكمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فصل في الأحاديث الواردة في الطلاق الثلاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 والأحاديث في هذا الباب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ، بل فيها في الصحيح والسنن ما يدلُّ على أن الثلاث بكلمة واحدة لا تكون لازمة لكل من أوقعها. مثل الحديث الذي في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وغيرهما (1) عن طاوس عن ابن عباس: أن الطلاق كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدةً، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة، فلو أنّا أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم. وهذا الحديث بطرقه وألفاظه مذكورٌ في غير هذا الموضع، والذي رواه طاوس كان يفتي بموجبه كما قد ذُكِر في غير هذا الموضع (2) . والمقصود هنا حديثُ ركانة (3) ، فإنه قد احتج به غيرُ واحدٍ من أهل العلم على وقوع الثلاث بكلمة واحدة، حيث قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أردتَ إلاّ واحدةً؟ قال: ما أردتُ إلاّ واحدةً. وعليه اعتمد الشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة (4) . وحديث ركانة هذا قد ضعَّفه طائفة (5) كأحمد وأبي عبيد وابن حزم،   (1) أخرجه مسلم (1472) وأحمد (1/314) وأبو داود (2200) والنسائي (6/145) . (2) انظر: "مجموع الفتاوى" (33/8) . وقد أخرجه عن طاوس: عبد الرزاق في "مصنفه" (6/302) وابن أبي شيبة في "مصنّفه" (5/26) . (3) أخرجه الدارمي (2277) وأبو داود (2208) والترمذي (1177) وابن ماجه (2051) من طريق علي بن يزيد بن ركانة عن جده. وأخرجه أبو داود (2206، 2207) أيضًا من طريق نافع بن عجير عن ركانة. (4) انظر: "الأم" (5/277) . (5) قال الترمذي عقب روايته: "هذا حديث لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، وسألتُ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 مع أنه رواه ابن حبان في صحيحه (1) . وقال الشافعي (2) : عمّي ثقة، وعبد الله بن علي بن السائب ثقة. وأما نافع بن عُجَير فروى عن علي بن أبي طالب وعن ركانة، وروى له أبو داود والنسائي. وهذا الإسناد مع الإسناد الآخر (3) الذي رواه أيضًا أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم في صحيحه يُوجب حُسْنَ الحديث، فإنهما إسنادانِ ليس فيهما مُتَّهم، لكن رواته ليسوا معروفين بالعلم، ولا يُعرَفُ لقاء بعضهم بعضًا، كما سيأتي بيانه. وفي الجملة لو لم يُعارِضْه غيرُه لأمكنِ أن يقال هو حسن أو صحيح على طريقة بعضهم، وأما إذا عارضه ما هو أرجح منه فإنه يُقدَّم الراجح. وقد يُقال: إنه لم يُعارِضْه غيرُه. وطائفة أخرى عارضوه بأنه قد رُوِي فيه أنه طلَّقها ثلاثا. فأما إذا تدبرنا الروايات في هذا الباب وتتبعناها لم نجد بين الحديثين خلافًا، بل في حديث الثلاث دلالة صريحة على أن الثلاث لا تقع بكلمة واحدة، ونحن نذكر ذلك. قال أبو داود في السنن (4) : باب في نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث. حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ   = محمدًا (يعني البخاري) عن هذا الحديث، فقال: فيه اضطراب". وانظر بيان ضعفه واضطرابه في "إرواء الغليل" (7/140-143) . (1) كما في "موارد الضمآن" (1321) . (2) كما في "تهذيب التهذيب" (9/353) . (3) أشرت إليه عند تخريج الحديث. (4) 2/259 رقم (2195) ، ومن طريقه أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/339) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلَّق امرأتَه فهو أحق برجعتها وإن طلَّقها ثلاثًا، فنسخ ذلك، فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (2) الآية. قلتُ: هذا مروي عن عائشة وغيرِ واحدٍ من السلف (3) . ثم ذكر أبو داود (4) حديث طاوس، فقال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتَعلَمُ إنما كانت الثلاث تُجعَل واحدةً على عهدِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكرٍ وثلاثِ من إمارةِ عمر؟ قال ابن عباس: نعم. وكأنه - والله أعلم - ذكره أبو داود هنا لقولِ من قال: إن هذا الحديث منسوخ، وإنه كان هذا حكمه لمَّا كان الطلاق بغير طلاق. وهذا من جملة ما حُمِل عليه هذا الحديث، وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا. لكن من المعلوم أن ذلك المنسوخ لم يكن محصورًا بثلاثٍ، بل كان إذا طلقها أكثر من ثلاث راجعَها بغير اختيارها، وكان إذا طلقها ثلاثًا مفترقاتٍ، كلّ واحدةٍ بعد رجعةٍ أو عقدٍ جديدٍ، له أن يُراجعَها. وهذا هو المنسوخ بلا ريب، وأما كون الثلاث تُجعَل واحدةً فهذا حكمٌ غيرُ الحكم المنسوخ، إذ المنسوخ لم تُجعَل الثلاث فيه واحدةً، ولا كان الطلاقُ مقصورًا على ثلاثٍ، بل الثلاث والخمس والعشر والواحدة كانت فيه سواءً. ثم إن ذلك المنسوخ لم يُعمَل به لعدَ نسخِه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) سورة البقرة: 228. (2) سورة البقرة: 229. (3) انظر: تفسير الطبري (2/273،276) وابن كثير (1/279) . (4) رقم (2200) . وسبق تخريجه في أول الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ولا أبي بكر ولا خلافةِ عمر، بل قد نزلَ القرآنُ بأنها بعدَ الثالثة تَحرُم عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وتواترت بذلك السنة، وشاع ذلك في المسلمين. ولم يكن هذا من جنس تحريم نكاح المتعة الذي خفي على بعضهم، فإن هذا لم ينزل نَسْخُه صريحًا في القرآن، ولا ظَهَرَ أمرُه كظهورِ الطلاق الثلاث، فإن طلاق الرجلِ المرأةَ الطلقةَ الثالثة بعد ثنتين ممّا تكرر وقوعه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخليفتَيه، مثل فاطمة بنت قيس لما أرسل إليها زوجها أبو حفص بن المغيرة بآخر ثلاث تطليقات، وكان قد ذهبَ مع علي إلى اليمن (1) ، وكان هذا في آخرِ الأمر قريبًا من حجة الوداع. وكذلك امرأة رفاعة القُرظي تميمة بنت وهب، لما طلَّقها رفاعة، فأبتّ طلاقَها بالثلاث، ونكحتْ بعده عبد الرحمن بن الزَّبير، وجاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسألُه العودَ إلى رفاعةَ، فقال: "لا، حتى تذوقي عُسَيلتَه ويذوقَ عُسَيلتك" (2) . وكلا القصتين مشهورة ثابتة في الصحيح والمساند والسنن من غيرِ وجه، وهذا بخلاف سِرّ المتعة. فلو كان أحدٌ يُمسِك امرأتَه بعد الطلقة الثالثة لكان ذلك مما يَظهر للمسلمين. وأما المتعة فلما حُرِّمت تركَها مَن علم التحريمَ، ومن لم يَعلَمْه فعلَها قليل منهم وهي تُفْعَل سِرًّا. ولم يَنْقُل أحدٌ أن أحدًا بعد النسخ أمسكَ امرأتَه بعد ثلاثِ تطليقاتٍ، كل طلقةٍ بعد رجعةٍ أو عقدٍ، ولا أنه طلَّق بغيرِ عددٍ، مع   (1) أخرجه مسلم (1480/41) وأحمد (6/414) وأبو داود (2290) والنسائي (6/62،210) من طرقٍ عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة به، وللحديث طرق أخرى في الصحيح والمسند والسنن. (2) أخرجه البخاري (2639 ومواضع أخرى) ومسلم (1433) وغير هما. وللحديث طرق كثيرة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أن الآثار التي فيها أن الطلاق كان بغيرِ عددٍ آثارٌ قليلةٌ خفيةٌ لا يَعلمها جمهورُ الناس، ولم يَروِ أهلُ الصحيح منها شيئًا، وإنما رواها طائفةٌ من أهل السنن والتفسير والفقه. وأما الآثار بتحليل المتعة في أول الإسلام فهي مشهورة صحيحة معروفةٌ عند المسلمين، فكانت شبهة من اعتقد بقاءَ حِلِّ المتعة من هذه الجهة، ولهذا ذهبَ إلى ذلك طائفة من السلف من أصحاب ابن عباس وغيرهم، إذْ كان ابن عباس أفتى بها. وقد قيل: إنه رجع عنها، وقيل: إنه إنما أفتى بها عند الضرورة، حتى رَوى له علي بن أبي طالب نَهْيَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، كما أخرج ذلك أهلُ الصحيح وغيره (1) . وأما جواز التطليق بغير عددٍ فلم يذهب إليه مسلم، بل هو مما يُعلَم فسادُه بالضرورة من دين الإسلام، فكيف يُقال: إنّ هذا كان بعد النسخ موجودًا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر؟. وأيضًا ففي الحديث أن عمر رضي الله عنه قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أَناة، فلو أنَّا أنفذناه عليهم، فأنفذَه عليهم. فدلَّ ذلك على أنه أنفذَ عليهم ما كانت لهم فيه أناة، فلو كان ما فعلوه هو المنسوخ المحرَّم لم تكن لهم أناة في شيء قد ظهرَ تحريمُه بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع، ولم يكن إنفاذُه عليهم مما يتعلق باجتهاد الأئمة. ثمَّ ذكر أبو داود في سننه حديثًا ثابتًا مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن جَمْعَ الثلاث بكلمة يكون واحدةً، كما في حديث أبي الصَّهباء.   (1) أخرجه البخاري (5115) ومسلم (1407) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وذكر ما يُعارِضُه، فقال (1) : حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج، قال: أخبرني بعضُ بني أبي رافع مولى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: طلَّقَ عبدُ يزيدَ - أبو رُكانةَ وإخوتِه - أمَّ رُكانةَ، ونكحَ امرأةً من مُزَينةَ، فجاءت النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ما يُغْنِي عَنّيْ إلاّ كما تُغني عني هذه الشعرةُ - لشَعرةٍ أخذتْها من رأسِها -، ففَرِّقْ بيني وبينه، فأخَذتِ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حميَّةٌ، فدعا بركانةَ وإخوتِه، ثم قال لجلسائه: "أتَرون فلانًا يُشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلان منه كذا وكذا؟ ". قالوا: نعم، قَال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد يزيدَ: "طَلِّقْها"، ففَعلَ. [ثم] قال: "راجعْ امرأتَك أمَّ ركانَةَ وإخوتِه"، فقال: إني طلَّقتُها ثلاثًا يا رسولَ الله، قال: "قد علمتُ، راجعْها". وتَلا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (2) . قال أبو داود: وحديثُ نافع بن عُجَير وعبد الله بن علي بن يزيد ابن ركانة عن أبيه عن جدّه: أن ركانةَ طلَّق امرأتَه، فردَّها إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - أصحُّ، لأنهم ولدُ الرجلِ، وأهلُه أعلمُ به (3) ، إنّ رُكانةَ إنما طلَّق امرأتَه البتَّةَ، فجعلها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدةً. ثم روى هذا الحديثَ أبو داودَ (4) من طريقِ الشافعي: حدثني عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله (5) بن علي بن السائب،   (1) برقم (2196) . وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (6/390-391) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/339) . (2) سورة الطلاق:1. (3) كذا في الأصل و"الإصابة" (2/432) ؛ وفي السنن: "لأن ولد الرجل وأهله أعلم به". (4) برقم (2206) . (5) في مطبوعة السنن: "عبيد الله"، وهو تصحيف، انظر "التقريب" (3509) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 عن نافع بن عُجَير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة طلَّق امرأتَه. وفي لفظِ: عن ركانة بن عبد يزيد أنه طلَّق امرأتَه سُهَيْمةَ البتَّهَ، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وقال: واللهِ ما أردتُ إلاّ واحدةً، فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والله ما أردتَ إلاّ واحدةً؟ " فقال ركانةُ: والله ما أردتُ إلاّ واحدةً، فردَّها إليه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فطلَّقها الثانيةَ في زمان عمر، والثالثةَ في زمان عثمان. ورواه أبو داود (1) أيضَا وابن ماجه (2) وأبو حاتم بن حِبّان في صحيحه (3) من حديث جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جدّه أنه طلَّق امرأتَه البتَّهَ، فأتى النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ما أردتَ"؟ قال: واحدة، قال: "آلله"؟ قال: آلله! قال: "هو على ما أردتَ". ورواه الترمذي (4) : فقلت: يا رسولَ الله! إني طلَّقتُ امرأتي البتَّهَ، فقال: ما أردتَ بها؟ قلتُ: واحدة، قال: والله؟ قلت: والله! قال: فهو ما أردتَ. وقال: لا نَعرِفُه إلاّ من هذا الوجه. وقال ابن ماجه (5) : سمعتُ أبا الحسن الطَّنافسي يقول: ما أشرفَ هذا الحديثَ! قال ابن ماجه: أبو عبيد تركَه ناحيةً، وأحمد جَبُنَ عنه.   (1) برقم (2208) . (2) برقم (2051) . (3) كما في "موارد الظمآن" (1321) . وأخرجه أيضا الدارمي (2277) والترمذي (1177) والدارقطني (4/33) والحاكم (2/199-200) والبيهقي (7/339) . (4) برقم (1177) . (5) برقم (2051) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 قال أبو داود (1) : وهذا أصحُّ من حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا، لأنهم أهلُ بيته، وهم أعلمُ به. وحديثُ ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس. قلتُ: فجعلَ أبو داود - رضي الله عنه - القصتينِ واحدةً، وهو كما قال: ويَرِدُ عليه أنه في حديث ابن جريج أنَّ ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا، وليس هذا في حديث ابن جريج الذي رواهُ هو، وإنما فيه أن عبدَ يزيدَ - أبَا ركانةَ وإخوتِه - طَلَّقَ أمَّ ركانةَ، ونكحَ امرأةً من مُزَينةَ، وأنها اشتكت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكرتْ أنه عنّين، وأنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيَّن كَذِبَها بأن أولادَها يُشبِهونَه، فدَلَّ على أنهم منه، وأنه ليس بعنّين. ثمَّ إنه أمر عبدَ يزيدَ أبا رُكانةَ أن يُطلِّق هذه المزنية المشتكية، وإنه أمرَه أن يُراجعَ أمَّ رُكانةَ التي طلَّقها ثلاثًا. هذا هو الذي في حديث ابن جريج، ليس في حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا. لكن قد يُقالُ: إن القصة واحدة، وإن هذا الراوي غَلِطَ في بعض ألفاظ القصة في المطلِّق والمطلَّقة، كما يقول من يقول: إنه غَلِط في عدد الطلاق. وقد يقال: من قال هذا لم يكن له أن يقول في حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق ثلاثًا، بل هذا يُبيِّن أن قائلَ ذلك لم يتأمَّل الحديثَ حقَّ التأمل، فإذا تأمَّلَهما عَلِأن المنقولَ في هذا الحديث قصة غير المنقول في الآخر، فلا المطلقُ المطلِّقَ، ولا المطلَّقةُ المطلَّقة، فإن المطلقةَ في هذا سُهَيْمةُ امرأةُ رُكانةَ، وهناك أمُّه؛ ولا لفظُ التطليق لفظَ التطليق. وفي هذا من تزويج عبد يزيد لامرأةٍ مُزَنيةٍ، ودعواها عنَّتَه، وتكذيب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشَبَهِ أولادِه له، مالا   (1) 2/263. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 يمكن أن يكونَ في حديثِ رُكانةَ، فإن ركانةَ لم يكن له أولاد أدركوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَدُّون من الصحابة، وإنما المعدودُ من الصحابة هو وإخوتُه وأبوه، كما في حديث ابن جريج. لكن يُجَابُ عن هذا بأن عبدَ يزيد أبا ركانةَ لم يذكره في الصحابة الزُبيرُ بن بكّار ولا ابنُ عبد البر ولا غيرهما من المصنفين في الصحابة فيما علمنا (1) ، بل قال الزبير بن بكار في كتاب "نسب قريش وأخبارها" (2) : وولد هاشم بن المطلب بن عبد مناف: عبد يزيد، وأمُّه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف. فولد عبد يزيد بن هاشم: رُكانة وعُجَير وعُبَيد وعُمَير بني عبد يزيد، وأمُّهم العَجِلَة بنت العجلان ونسبها إلى كنانة. قال: وركانة بن عبد يزيد الذي صارِعَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الإسلام، وكان أشدَّ الناس، فقال: يا محمد! إن صرَعْتَني آمنتُ بك، فصرَعه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أشهد أنك ساحر. ثمَّ أسلمَ بعدُ، وأَطْعَمَه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسين وَسَقًا بخيبر. ونَزلَ ركانة المدينةَ، وماتَ بها في أول خلافة معاوية (3) . قال: وعُجَير بن عبد يزيد أطعمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثين وسقًا (4) .   (1) ذكره الذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" (1/360) ، وعلَّم له علامة أبي داود، وقال: أبو ركانة طلق امرأته، وهذا لا يصح، والمعروف أن صاحب القصة ركانة. (2) لا يوجد في المطبوع منه، ونقله الحافظ في "الإصابة" (2/432) . وانظر "نسب قريش" للمصعب ص 95-96. (3) انظر "نسب قريش" للمصعب (ص96) و"الإصابة" (1/521) . (4) انظر "نسب قريش" (ص96) و"الإصابة" (2/466) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 قال: وولد عُبيد بن عبد يزيد: السائب، أُسِرَ يَومَ بدرٍ، وكان يُشبِه بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) . فقد بيَّن أنَّ ركانة وابنَه كانا من الصحابة، بخلاف أبيه عبد يزيد. وأيضًا فلا يجوز أن يكون في الصحابة من يُسمَّى بهذا الاسم، فتبيَّنَ أن المطلِّقَ ركانةُ لا أبوهُ. وإذا قال القائل: ما في حديث ابن جريج من قصَّة عبد يزيد أبي ركانة لا يعارضه حديثُ ركانة بوجه من الوجوه، [و] لم يجز دفعُ أحدهما بالآخر، بل يبقى النظر في رواة هذا الحديث، وهم ثقات معروفون إلاّ بعض بني أبي رافع، فإنه يُحتاج إلى معرفتهم، فإنهم ليسوا من ولدِه لصلبه، إذْ ولدُه لصُلبِه عبد الله وعبيد الله كاتب علي رضي الله عنه، وهذان قديمان لا يرويان عن عكرمة، ولا يَروي عنهما ابن جريج. قيل: هذا الحديث قد رُوِي بإسنادٍ آخر معروفِ الرجال، وهو يُبيِّن أن القصة واحدة، رواه أحمد والبيهقي وغيرهما (2) من حديث إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، فجَعَل المطلِّق رُكانة. ورواه القاضي الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم من حديث يونس بن بكير، فقال في "كتاب الطلاق": ثنا محمد بن الحسين، ثنا ابن (3) ، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن أبا ركانة طلَّق امرأتَه ثلاثًا، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) انظر "نسب قريش" (ص96) والإصابة (2/11) . (2) أخرجه أحمد (1/265) والبيهقي (7/339) . وانظر "الفتح" (9/362) . (3) بياض في الأصل، ولم أتمكن من تحديده، فالمصدر الذي نقل عنه مفقود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 فقال: يا رسولَ الله! طلقتُ امرأتي ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، وإني قد وَجَدتُ عليها وَجْدًا شديدًا، فقال: "أتُريد أن ترتجعها"؟ قال: قلت نعم يا رسولَ الله، قال: "فإنما هي واحدة". وقد رواه البيهقي فقال في "السنن الكبير" (1) : وقد رَوى محمد ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحدٍ، فحزن عليها حُزنًا شديدًا، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيفَ طلَّقها، قال: طلَّقتُها ثلاثًا، فقال: في مجلسٍ واحد؟ قال: نعم، قال: إنما تلك واحدة، فارجعْها إن شِئتَ، فراجعَها. وكان ابن عباس يَرى أنما الطلاق عند كل طُهْرٍ، فتلك السنّة التي كان عليها الناس، والتي أمر الله بها (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (2) . قال البيهقي: أخبرناه أبو بكر بن الحارث، ثنا أبو محمد بن حيان، ثنا سلم (3) بن عصام، ثنا عبيد الله (4) بن سعد، ثنا عمي، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، فذكره. قال البيهقي: وهذا الإسناد لا تقوم به حجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس فُتْياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولادِ ركانة أن طلاق ركانة كانت واحدةً. قلتُ: أما المعارضة بفُتيا ابن عباس ففيها كلامٌ مذكور في موضع آخر (5) . وأما حديث أولاد ركانة فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله،   (1) 7/339. (2) سورة الطلاق:1. (3) في البيهقي: "مسلم" وهو تصحيف، انظر: "ذكر أخبار أصبهان" (1/337) . (4) في البيهقي: "عبد الله" وهو تصحيف. انظر: "التقريب" (4323) . (5) وسيأتي الكلام عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 لكن البيهقي ذكر في حديث أن المطلق ركانة، وهو الصواب. وقد رواه أحمد في المسند (1) من هذا الوجه فقال: ثنا سعد بن إبراهيم، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلَّق ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحدٍ، فحزِن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف طلَّقتَها؟ قال: طلَّقتُها ثلاثًا، قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، فقال: إنما تلك واحدة، فارجعْها إن شئتَ، قال: فرَجَعَها. فكان ابن عباس يرى أنّما الطلاق عند كل طُهر. وهذا الحديث خرَّجه أبو عبد الله المقدسي في صحيحه (2) الذي هو خير من صحيح الحاكم. فقد اتفق يونس بن بكير وإبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق على هذا الحديث، لكن قال أحدهما: إن المطلِّق ثلاثًا أبو ركانة، كما في حديث ابن جريج، وقال الآخر: إنه ركانة. فإن كان المطلق أبا ركانة فلا منافاةَ بينه وبين حديث ركانة في البتةِ، وإن كان المطلق ركانة فهذه الرواية من هذين الوجهين تُعارِض مَن روى أنه قال: لم أطلِّق إلاّ واحدة. ورواة هذا الحديث مشهورون بحمل العلم، بخلاف ذاك، لكن ذاك من روايةِ أهل بيتِه. ويَعضُد روايةَ من روى أن الطلاق كان ثلاثًا حديثُ ابن عباس الذي في صحيح مسلم (3) أن الثلاث كانت تجعل واحدةً على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر. فهذا يوافقُ رواية ابن عباس، ورواية ابن عباس من وجهين عن عكرمة يصدق أحدهما صاحبه، فإن عكرمة عن   (1) 1/265. (2) يقصد به "الأحاديث المختارة"، طبعت منه بعض الأجزاء. (3) برقم (1472) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ابن عباس أثبتُ من عبد الله بن علي بن [يزيد بن] (1) ركانة عن أبيه عن جدّه. وقد قال أحمد: حديث ركانة ليس بشيء (2) . وابن إسحاق يُدخِله أبو حاتم وابن خزيمة وابن حزم في الصحيح. والبيهقي اعتقد أن القضية واحدة، كما اعتقدها أبو داود، ولكن ما رووه يخالف ذلك، فإما أن يكون الغلط فيما رووه، أو الغلط منهم في فهم ما رووه، ولا ريبَ أنهم صادقون فيما رووه رضي الله عنهم. وهذا الحديث عَمِلَ به رُواتُه، فكان ابن إسحاق يعمل به، ويقول: إن الثلاث بكلمة واحدةٍ واحدةٌ (3) . وكذلك عكرمة راويهِ عن ابن عباس. ورُوِي ذلك عن ابن عباس أيضًا، كما قال أبو داود في سننه (4) : وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا بفمٍ واحدٍ فهي واحدة. قال: وروى إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعلَه قولَ عكرمة. وذكر أبو داود (5) عن ابن عباس من ستة أوجهٍ أنه أوقع الثلاث بمن أوقعَها بكلمة واحدةٍ، من رواية مجاهد وسعيد بن جبير ومالك ابن الحويرث وعطاء وعمرو بن دينار ومحمد بن إياس بن البكير.   (1) زيادة على الأصل لتصحيح الاسم. (2) ذكر الخطابي في "معالم السنن" (3/122) وعنه المنذري في "مختصر السنن" (3/122،134) أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها. (3) حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم كما في "إغاثة اللهفان" (1/324) ؛ والجصاص في "أحكام القرآن" (1/388) . وانظر "مجموع الفتاوى" (33/8) . (4) 2/260. (5) في الموضع المذكور قبل قول عكرمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وكان عطاء ونحوه يدخلون على ابن عباس مع العامة، وكان طاوس يدخل عليه مع الخاصة، وكذلك عكرمة مولاه كان من خاصَّته. فلهذا حَمَل من حَمَل قول ابن عباس على مثل فعل عمر، من أن هذا من العقوبات التي يجتهد فيها الأئمة، ليس شرعًا لازمًا، وهو عقوبة لمن لم يتقِ الله. ولهذا كان ابن عباس يقول لمن يُفتيه: لو اتقيتَ الله لجعلَ لك فرجًا ومخرجًا (1) . وأبو داود (2) روى حديث حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحدٍ عن طاوس أن رجلاً يقال له أبو الصهباء كان كثيرَ السؤال لابن عباس قال: أما علمتَ أن الرجلَ كان إذا طلَّق امرأته ثلاثًا قبلَ أن يدخل بها جعلوها واحدةً، على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، قال ابن عباس: بلى! كان الرجل إذا طفَق امرأته ثلاثًا قبلَ أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسولِ الله وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى - يعني عمر - الناسَ قد تتايَعُوا فيها قال: أُجِيزُهن عليهم. ثم روى (3) من حديث ابن عُليَّة عن أيوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهدٍ قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلَّق امرأته ثلاثًا، قال: فسكت حتى ظننتُ أنه رادُّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس! وإن الله تعالى قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)) (4) ، وإنك لم تتقِ الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتُك، وإن الله قال:   (1) أخرجه أبو داود (2197) . (2) برقم (2199) . (3) برقم (2197) ، وهي قبل رواية حماد بن زيد لا بعدها. (4) سورة الطلاق: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) (1) في قُبُل عدتهن. قلت: لا يُقال مثل هذا الكلام إلاّ لمن علم أن جمعَ الثلاث محرَّمٌ، ثمَّ فَعَلَه عامدًا لفعل المحرَّم، فإنّ هذا لم يتق اللهَ بل تعدَّى حدودَه. أمَّا من لم يعلم أن ذلك محرم، ولا قامتْ [عليه] حجة بتحريم ذلك، ولو عَلِم أنه محرَّم لم يفعله، فن هذا لا يخرج عن التقوى بذلك، ولا يقال له: إنك لم تتقِ الله فلا أجد لك مخرجًا، ولا يقالُ له: عصيتَ ربك. ففي فُتيا ابن عباس هذه ونحوها إيقاعُ الثلاث بمثلِ هذا لمَّا تتايَعَ الناسُ فيما نُهُوا عنه، فأجازه عليهم عمر ومن رُوِي أنه وافقه، كعثمان (2) وعلي (3) وابن مسعود (4) وزيد بن ثابت (5) وابن عباس (6) وابن عمر (7) وأبي هريرة (8) وعبد الله بن عَمْرو (9) وغيرهم الذين أجازوا الثلاث على   (1) سورة الطلاق:1. (2) كما في "مصنف" عبد الرزاق (6/394) و"المحلى" (10/172) . (3) أخرجه عنه عبد الرزاق (6/394) وابن أبي شيبة (5/22) والبيهقي في "الكبرى" (7/334-335) وابن حزم في "المحلى" (10/172) . (4) أخرجه عنه عبد الرزاق (6/394-395) وابن أبي شيبة (5/22-23) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/58-59) والبيهقي (7/335) وابن حزم (10/172) . (5) لم أجد ذلك مرويًا عنه في المصادر التي رجعت إليها. (6) أخرجه عنه مالك في "الموطأ" (2/570) وعبد الرزاق (6/396-397) وابن أبي شيبة (5/25) وأبو داود (2198) والطحاوي (3/57-58) والدارقطني (4/58-61) والبيهقي (7/335) وابن حزم (10/172) . (7) رواه عنه عبد الرزاق (6/395) والدارقطني (4/45) والبيهقي (7/336) . (8) أخرجه عنه أبو داود (2198) والطحاوي (3/57،58) والبيهقي (7/335) . (9) أخرج ذلك عنه مالك في "الموطأ" (2/570) وأبو داود (2198) والطحاوي (3/58) والبيهقي (7/335) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الناس المتتايعين فيما نهوا عنه من ذلك، كما وافقوا عمر على أن حَدَّ في الخمر بثمانين لما كثر شُربُ الناس لها واستقلُّوا العقوبةَ بأربعين (1) . وكان عمر رضي الله عنه أحيانًا ينفي في الخمر ويحلق الرأس فيُغلظ عقوبتها بحسب الحاجة، إذْ لم يكن من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها حدّ مقدَّرٌ موقَّتُ القدر والصفة لا يُزاد عليه ولا يُنقَص منه، كما في حدِّ القذف، بل كان قدرُ العقوبة فيها وصفتها موكولةً إلى اجتهاد الأئمة بحسب الحاجة، فمن أدناها أربعون بالجريد والنّعالِ وأطرافِ الثياب، وهذا من أخفّ العقوباتِ قَدْرًا وصفةً، ثمَّ أربعون بالسياط، وهذا أعلى في الصفة دون القدر، ثم ثمانون بالسياط، وهذا أعلى منهما. وهل يُعاقَب فيها بالقتل بعد الثالثة أو الرابعة إذا لم ينتهوا إلاّ بذلك؟ فيه أحاديث ونزاعٌ ليس هذا موضعه (2) . فحديث عبد يزيد أو ركانة مَرويٌّ من هذين الوجهين، وأقلُّ أحوالِه حينئذٍ أن يكون حسنًا، فإن الحسن عند الترمذي هو ما رُوِي من وجهين ولم يُعلَم في رُواتِه متَّهم بالكذب، ولم يُعارِضْه ما يَدُلُّ على غلطه، وهو من أحسنِ ما يحتج به الفقهاء. وقد يقال: هو صحيح، وابن. حبان وإن كان قد صحَّح حديث البتةِ فإنه يصحّح حديث ابن إسحاق هو وغيره كابن خزيمة وابن حَزم وغيرهما،   (1) انظر "المغني" (12/498-499) . (2) أخرجه أحمد (4/95،96،100) وأبو داود (4482) والترمذي (1444) وابن ماجه (2573) والحاكم (4/372) عن معاوية. وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وقبيصة بن ذؤيب وعبد الله بن عمرو وجرير بن عبد الله والشريد وشرحبيل وأبي سعيد الخدري، كما في المصادر السابقة. وقد قيل: إنه حديث منسوخ، ولا دليل على ذلك، بل هو محكم غير منسوخ كما حقق ذلك الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المسند" (9/49-92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وابنُ حزم وغيرُه يُضعِّفون حديث البتّة كما ضعَّفه أحمد رحمه الله. وابن إسحاق إمام حافظ، لكن يُخاف أن يُدَلِّس ويخلط الأحاديث بعضَها ببعض، فإذا قال "حدثني" زالت الشبهة. وقد ذُكِر أن داود بن الحصين حدَّثه وعمل بما حدثه به. ولا يَسْترِيبُ أهلُ العلم بالحديث أن هذا الإسناد أرجحُ من إسناد البتة، هذا لو انفرد، وأما مع موافقته لحديث أبي الصهباء الذي في صحيح مسلم فإن ذلك ممّا يُؤكِّد الاحتجاج بذلك الحديث، ويردُّ على من عَلَّلَه بما لا يَقدح في صحته، كقولِ من قال: إن ابن عباس رُوِي عنه بخلافِه، فصارَ حديثُ عكرمة يُروَى عن ابن عباس من وجهين، وجهالة الراوي في أحدهما كجهالة أولاد ركانة، فإنهم لا يُعرَفون بعلمٍ ولا حفظٍ. والإسناد الآخر رجالُه من مشاهير أهل العلم والفقه والصدق. وحديث طاوس عن ابن عباس الذي لا ريب في صحته موافق، فصارت الأحاديث بأن الثلاث كانت واحدةً يُصدِّق بعضُها بعضًا، ولم يَروِ أحدٌ من أهلِ العلم حديثًا ثابتًا بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألزَمَ بثلاثٍ مُفَرَّقة. وقد جاءَ حديث ثالثٌ في. الثلاث مجتمعةً، رواه النسائي (1) فقال: أخبرنا سليمان بن داود، أبنا ابن وهب، أخبرني مخرمة عن أبيه قال: سمعتُ محمودَ بن لبيد قال: أُخبِر رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجلٍ طلَّق امرأتَه ثلاثَ تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال: "أيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهرِكم"؟! حتى قام رجلٌ فقال: يا رسولَ الله! أفلا أقَتلُه؟.   (1) 6/142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ففي هذا الحديث أنه غَضِبَ على من طلَّق ثلاثًا بكلمة واحدةٍ، وجَعَل هذا لعبًا بكتاب الله، وأنكر أن يُفعَل هذا وهو بينهم، حتى استأذنه رجلٌ في قتله، ومع هذا فلم يُذكَر أنه فَرَّقَ بينَه وبينَ امرأتِه، وتأخيرُ البيان عن وقتِ الحاجة لا يجوز، ولا يقال: كان هذا معلومًا بينهم. فإن هذا يشتبه، وقد ثبت أنهم كانوا يجعلون الثلاث واحدةً، ونفسُ التحريم يشتبه على العلماء فضلاً عن العامَّة، حتى أن كثيرًا منهم يقولون: ليس هو بحرام. فإن قيل: المطلِّق كان يعتقد وقوعَ الطلاقِ بالثلاث. قيل: كما كان يعتقد إباحتَه. ولم يَنقُل أحدٌ بإسنادٍ ثابت أن أحدًا طلَّق امرأتَه ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، وهي ممن يُباحُ له إمساكها، فأوقعَ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روى طائفة من المصنفين في الحديث والفقه والخلاف أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أهل العلم بالحديث، فلا حاجةَ إلى ذكرِها، ولكن الذي يُظَنُّ أن فيه حجةً ثلاثةُ أحاديث: حديث فاطمة بنت قيس، ففي رواية غير واحدٍ أنها قالت: طلَّقني ثلاثًا (1) ، وفي لفظ بعضهم: طلَّقني البتةَ (2) . ولكنَّ هذا مجمل فسَّرَه ما ثبت في الصحيح (3) من رواية الزهري عن أبي سلمة وعبيد الله عنها أن زوجها أبا حفص بن المغيرة خَرج مع عليّ إلى اليمن، وأرسل إليها بتطليقةٍ كانت بقيتْ من طلاقِها.   (1) رواه عنها: عبد الرحمن بن عاصم (كما عند أحمد 6/414 والنسائي 6/207) ؛ وعروة (كما عند مسلم برقم 1482 والنسائي 6/208) ؛ والبهي (كما عند مسلم برقم 1480/51 وأحمد 6/412) وغيرهم. (2) رواه عنها: أبو سلمة بن عبد الرحمن (كما عند مالك في "الموطأ"، وأحمد 6/412 و413 و414 و415 و416، ومسلم برقم 1480/36 وغيرهم) . (3) مسلم برقم (1480/40،41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 والثاني : حديث العجلاني (1) ، قال أبو بكر بن أبي عاصم لما ذكر اختلافهم في طلاقِ العجلاني: قال مالك بن أنس في حديثه: فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال إبراهيم بن سعد: ففارقَها، وقال ابن إسحاق: هي طلاق البتة، وقال ابن أبي ذئب: ففارقَها، وقال الأوزاعي: ففارقَها، وقال عقيل: ثمَّ فارقَها. ولم يُنقَل عنه لفظ طلاق، بل قال: كذبتُ عليها إن أمسكتُها، ولكن الراوي عبَّر عن مفارقته إياها بهذه الألفاظ التي تَدُلُّ على أنه فارقَها فراقًا باتًّا قبلَ أن يُؤمَر بذلك، فإن كان الراويَ عبَّر عن مفارقتِه بقوله "طلَّقها ثلاثًا" - لأن مقصوده أنَّه حرَّمَها عليه - فليس فيه حجَّة؛ وإن كان هو تكلَّم بلفظ الطلاق بقوله "طلَّقها ثلاثًا" قد يُراد به مفرَّقَة، كقوله: هي طالق، هي طالق، هي طالق، كما في حديث فاطمة وغيرها أن زوجَها طلَّقها ثلاثًا، وكان المراد ثلاثًا مفرقات، فلا حجَّة فيه أيضًا؛ وإن قال: "هي طالق ثلاثًا" فلا حجة فيه أيضًا، كما سنذكره. والثالث : حديث امرأة رفاعة (2) ، وهو أيضًا لفظٌ مُجْمَلٌ، فقد يكون الطلاق الثلاث وقَع مفرَّقًا، كما وقَع في حديث فاطمة بنت قيس. بل (3) وأما حديث البتة (4) إن صحَّ ففيه أنه أتى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) أخرجه البخاري (5308 ومواضع أخرى) ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد الساعدي في قصة عويمر العجلاني. (2) أخرجه البخاري (2639،5260 ومواضع أخرى) ومسلم (1433) من حديث عائشة. وفي بعض طرقه أنه طلقها ثلاثًا، وفي بعضها أنه بت طلاقها، وفي بعضها أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات، مما يدل على أنها وقعت مفرقة. (3) كذا في الأصل. (4) يقصد حديث ركانة الذي سبق ذكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وقال: ما أردتُ إلاّ واحدة، وأنه استحلفَه ما أردت إلاّ واحدةً. ومنطوقُ هذا لا حجةَ فيه، لأنه إذا لم يُرِدْ إلاّ واحدةً لم يَقَعْ به إلاّ واحدة. وفيه حجة على مسألة النزاع المشهورة بين الفقهاء. وأما مفهومه فمجملٌ، لو قال: أردتُ ثلاثًا حتى كان يغضب عليه ويُؤدّبه لفعلِه المحرَّم الذي نهى عنه، كما غضب على غيرِه، ويؤخر إذنَه له في الرجعة تأديبًا له، أو كان يُوقِعها به. وليس في الحديث بيان لأحدهما، والطريق الآخر الذي هو أصح فإنه أوقعَ ثلاثًا، ولا يجوز أن يثبت تحريمٌ عامٌّ يَلزَمُ الأمَّةَ بمسكوتٍ مجملٍ أو بحديثٍ مضعَّفٍ، قد عارضَه ما هو أصحُّ منه لا بيانَ فيه للوقوع، وإنما فيه الفرق بين أن يُرِيدَ الواحدةَ أو أكثر، والفرقُ ثابتٌ بدون إيقاع الثلاث. وقد روى مسلم في صحيحه (1) عن عائشة قالت: طلَّق رجلٌ امرأتَه ثلاثًا قبلَ أن يدخلَ بها، فأراد زوجُها الأول أن يتزوَّجها، فسُئِل رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: "لا، حتَّى يذوق الآخر من عُسَيْلتها ما ذاق الأول". وهذه هي قصة تميمة التي تزوجها رفاعة، وكان يدَّعي أنه وطئها. وتطليقُها ثلاثًا قد يكون مفرقةً، وقد يكون طلَّقها ثلاثًا بكلمة واحدةٍ، ولكن بانت بواحدةٍ إذا لم يكن دخل بها. فليس فيه دلالة على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ذلك ثلاثا. ***   (1) برقم (1433/115) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فصل في الطلاق الثلاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 أمكنني (1) ، وبقيتُ على ذلك مدةً ... فلم أجد دليلاً شرعيا يُوجِب إيقاعَ الثلاث بكلمةٍ واحدة، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس. أما القرآن ... إلاّ على طلاق يستلزم الرجعة إذا كان بعد الدخول ... الثالثة، كما قال أحمد بن حنبل في آخر الروايتين: تدبرتُ القرآن فلم أجد فيه إلاّ طلاقًا رجعيا، ولا يدل قط إلاّ على طلقةِ واحدة ..... وقد ادعى طائفة من العلماء أنه يدلُّ على وقوع الثلاث، واحتجوا بأنه أمر بالطلقة الواحدة، كما في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) إلى قوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً) (2) . قالوا: فأمره الله بالطلاق ..... وليكون له سبيل إلى الرجعة بقوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1)) ، فلو كان لا يقع بالثلاث إلاّ واحدة أو ..... بحالٍ لم يحتج إلى ذلك، بل كان سواء طلَّق واحدةً أو ثلاثًا، فإن له أن يراجعهما. وهذا الدليل ذكره طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولا حجة فيه، لأن التعليل قد يكون للشرع الذي يتناول الأمر والنهي والصحة والفساد، وقد يكون لمجرد الأمر والنهي، أو لنفس المأمور به والمنهي عنه فقط، فعلى قولهم يكون تعليلاً   (1) هذه الرسالة سقطت منها بعض الأوراق من بدايتها، وفي أثنائها طمس في مواضع أشرتُ إليها بوضع النقط. ولم أجد نسخة أخرى تكمل النقص. (2) سورة الطلاق:1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 للمأمور به، أي طلقوا بواحدة ليكون لكم سبيل إلى الرجعة، ولا تطلقوا بثلاث فلا يكون لكم سبيل إلى الرجعة. وهذا إنما يصحّ أن لو كانت الثلاث تقع بكلمة واحدةٍ، فإن كانت الثلاث تقع هكذا صحَّ أنَّه تعليل للمأمور به، لكن لا يثبت أنه تعليل للمأمورِ به حتى يثبت أنه تَقع الثلاث المجموعة؛ فإذا استدلوا به عليه لم يلزم أنه تقع الثلاث المجموعة حتى يثبت أنه هذا تعليل للمأمور به، وهذا دَورٌ يَمنَعُ صحةَ الدلالة. وذلك أنه يجوز أن يكون هذا تعليلاً لنفس الأمر والشرع، والمعنى أن الله شرع لكم أن تُوقِعوا واحدةً وأمركم بذلك، ولم يشرعْ لكم أن توقعوا الثلاث مجموعةً، فإنه لو شَرع لكم ذلك أفضى (1) إلى الندم. ومعلوم أنه إذا لم يشرع إيقاع الثلاث بكلمة واحدةٍ، بل نهى عن ذلك، ولم يجعل الثلاث ..... في هذا أبلغ في عدم الندم، فإنه لو نهى عنه وأوقعوه إذا تكلموا به فقد يكون فيهم من يعصي النهي، وقد يكون فيهم من لا يَبلغُه، فيقع في الندم، فإذا لم يجعله مشروعًا بحال كان هذا أبلغ في انتفاء المفسدة. وأيضًا فإن القرآن إنما يُعلِّل شرعَ الله الذي شرعَه لعباده، والشرع المذكور إذا كان تحريمًا للزيادة وإبطالاً لها كان ذلك أبلغَ في تحصيل مقصودِ الشارع في الحكم وفي حكمته، بخلاف ما إذا كان تعليلاً لمجرد النهي. وهذا كما أنه لو نهى أن تُنكَح المرأةُ على عمتها وعلى خالتها، وقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (2) ، كان هذا   (1) كذا في الأصل. (2) أخرجه أحمد (1/372) وأبو داود (2067) والترمذي (1125) عن ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 تعليلاً للنهي والفساد المنهي عنه بحيث لا يحلُّ له الجمع، ولو جمعَ لكان العقد فاسدًا، لأنه لو وقع المنهيُّ عنه لَزِم الفسادُ، بل الفسادُ يَنْشَأُ من صحةِ المنهي عنه أكثر من فعله، فإنه إذا جمع ولم يصحَّ العقدُ كان الفسادُ أقلَّ منه إذا انعقد المنهي عنه وصحَّحه الشارع، فكذلك هاهنا الفساد إذا صحَّ المنهيُّ عنه أكثر منه إذا فعله ولم يصح. وهذا يُقرِّر أن النهي يُوجبُ فساد المنهي عنه، فإن الشارع إنما نهى عن الشيء لرجحان المفسدَة فيه على المصلحة، فإذا جعله صحيحًا بحيثُ يترتب عليه حكمه ويحصُل به مقصودُه لَزِمَ وقوعُ المفسدة، فأما إذا أبطلَه فلم يترتَّب عليه مقصود المنهي الذي ارتكبه انتفتِ المفسدةُ بالكلية. ولهذا إنما يُحكَم بالفساد فيما إذا أمكن أن لا يَحصُل به مقصوده، فأما الأفعال التي حصل المنهي عنها مقصوده بها فلا يقال إنها باطلة أو غير منعقدة، كالمنهي عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فإنه إذا فعل ذلك فقد فعل مقصوده من المنهي عنه، فلا يمكن إبطاله. وأما المنهي عن الصلاة بلا طهارة والطواف عريانًا فمقصوده براءة ذمته وحصول الأجر، فيمكن إبطال ذلك بأن لا تبرأ ذِمتُه ولا يحصل الأجر؛ وكذلك المنهي عن البيع المحرم والنكاح المحرم مقصودُه حصولُ الملك وحِل الانتفاع، فيمكن أن لا يحصل مقصودُه من الملك وحلّ الانتفاع، فيكون البيع باطلاً، كما اتفق عليه المسلمون من بطلان نكاح ذوات المحارم وبطلان بيع الدم والميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك. وأما الظهار فنُهِي عنه لأنه منكر من القول وزور، لا لمجرد كونهِ مُزِيلاً للملك أو مُوقِعًا للتحريم الذي تُزِيلُه الكفارة، فإن الزوج له أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 يُزِيل الملك بالطلاق، والتحريمُ الذي تزيله الكفارة لا ينافي الشرع، فإن المرأة قد تحرم على زوجها إلى غايةٍ، كتحريم المُحرِمة والصائمة والمعتكفة، وتحريمُ الحلال يُوجب كفارةً على ظاهر القرآن، وهو أحد قولَي العلماء. وإنما نُهِي عَن الظهار لاشتماله في نفسه على القول المنكر والزور، وهذا المعنى لا يمكن إبطالُه بعد وقوعه، كما أن من نُهِيَ عن الكذب وشهادةِ الزور فكذَب وشَهِد بالزور لا يمكن أن يقال: ما كذَبَ ولا شهد بالزور، وكذلك من نُهِيَ عن الكفر والقذفِ فكَفَر وقذفَ لا يمكن أن يقال: إنه ما وَقَع منه كفر ولا سب، فكذلك الظهار، لكن كانوا في الجاهلية وأول الإسلام يجعلونه طلاقًا مُزِيلاً للملك، فرفع الله ذلك، ولم يجعله مزيلاً للملك، بل للرجل أن يمسك المرأة إن شاء ويطأها إذا كفر. ثمَّ قال الشافعي: موجبه إما إزالة الملك بالطلاق، وإما التكفير. وقال الجمهور مالك وأبو حنيفة وأحمد: بلْ موجبُه الامتناع من الوطء أو التكفير، فجعلوه يشبه اليمين التي يكون موجبُها إمّا الامتناع من فعل المحلوف عليه وإما التكفير، لكن الكفارة في الظهار تجب قبل العَود، لأن الظهار محرَّم، لاشتماله على منكرٍ من القول والزور، فلم يكن له أن يطأها حتى يأتي بالتَحِلَّة التي فرضها الله له، وكان ما رفعه الله من إيقاع الطلاق بالظهار كما كانوا عليه في أول الأمر دليلاً على أنه ليس كل لفظٍ قُصِدَ به الطلاق يَقعُ به الطلاقُ، فإن هذا اللفظ كانوا يقصدون به الطلاق، ثم لم يُوقع الله به الطلاقَ، بل نَسخَ ما كانوا عليه. ولابدَّ لهذا من سبب يُوجبُ الفرق بينَه وبين لفظ الطلاق. فلما كان مَن أوقعَ الطلاقَ بلفظه يَقعُ ومن أوقعَ بلفظ الظهار لا يقعُ-: لم يكن بدٌّ من الفرق بينهما في نفس الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ولا يسوغ أن يعلل الشرع بما يقوله من يقول من الفقهاء: لفظ الظهار صريحٌ في حكمه، وقد وجد نفاذًا فيه، فلا يكون كنايَةً في غيره. فإنه يقال له: السؤال هو عن علة هذا الحكم: لِمَ جعلَ هذا القول صريحًا في غير الطلاق بحيث لا يقع به الطلاق وإن نواه، فإن هذا يقتضي أن الأقوال عند الشارع نوعان: نوع إذا نوى به الطلاق وقعَ؛ ونوع إذا نوى به الطلاق لم يقع، فلابدّ لأحد القولين من أن يختصّ بمعنى يوجب اختصاصه بذلك الحكم، فما هو الفارق عند الشارع بين هذا القول وهذا القول حتى جعل الطلاق يقع بهذا ولم يجعله يقع بهذا، بل عدل به عن الطلاق الذي كانوا يوقعونه، إلى أن أوجب فيه الكفارة. وهذا أمرٌ ثابت في نفس الأمر لابدَّ منه. فلقائلٍ أن يقول: العلَّة في ذلك أن هذا القول منكر من القول وزُور، فلا يقع الطلاق بمنكر من القول وزور، فيكون هذا حجة لمن قال: إن الطلاق المنهيَّ عنه لا يقع، لأنه أيضًا محرَّم كما أن هذا محرَّم؛ فإن كون الكلام منكرًا من القول وزورًا يُوجب النهيَ عنه وتحريمَه. ويشاركه في ذلك كل كلام محرَّم، فإنَّ جميعها أقوال محرَّمة ينهى الله عنها ورسولُه. فإن كان المتكلم بالكلام الحرام إذا نوى به الطلاق وَقَع، فما الفرق بين هذا الكلام المحرم وغيره؟. وقد شدَّ بعض متأخري الفقهاء فزعَم أن الظهار ليسَ بمحرَّم. لكن هذا خلاف النصّ والإجماع القديم، فإنه قد حَكَى الإجماعَ على تحريم ذلك غيرُ واحدٍ من العلماء، ولم يُعلَم نزاعٌ قديم يقدم في ذلك كما عُلِمَ في غيرِه. والذي نقطع به أنّا لا نعلم فيه خلافا قديمًا. وقد يقال: بل هذا القول لا يتضمن إزالة الملك، بل هو كذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 في نفسه، وهو منكر لكونه جعل امرأته بمنزلة أمّه. والأقوال التي بها يقع الطلاق لابدّ أن يتضمن إزالة الملك، ولهذا جعل أحمد التحريمَ صريحًا في الظهار، لأنه أيضًا بمنزلته في كونه منكرًا وزورًا. لكن يَرِدُ على هذا أنه إذا قصدَ التشبيهَ ونَوى أنكِ إذا وقعَ بكِ الطلاقُ صرتِ مثلَ أُمِّي، فإن هذا الوصف لازم لو زال الملك. وليس من شرط التشبيه التساوي من كلّ وجه، فقوله "أنتِ مثلُ أمّي" أي طلقتكِ فصرتِ مثلَ أمّي، كقوله "أنتِ خلية وبريَّه وبائن"، فإن المعنى: طلَّقتك فصِرتِ كذلك. وقوله "أنتِ طالق" معناه طلقتكِ فصرتِ طالقًا، فإذا قال "مثل أمّي" أي جعلتك مثلَ أمّي في كونكِ لا تبقي (1) زوجةً. وهذا هو الذي كانوا يقصدونه، وإلاّ فهم يعلمون أن المرأة لا تصير مثلَ أمّه محرَّمةً على التأبيد، فإذا كان ما قصدوه مما يمكن أن يُقصَد بهذا اللفظ وأمثالِه ولم يعتبره الشارع عُلِمَ أنه أبطلَ ذلك لكون القول في نفسه منكرًا وزُورًا، فيشاركه في ذلك ما كان كذلك، فقول القائل "أنتِ طالقٌ ثلاثًا" منكر من القول، لأن الله حرَّمَه، وكل واحدٍ من كون القول منكرًا يوجب إبطاله. وقوله تعالى (وَزُوراً (4)) ، الزور: هو نوع من المنكر، فإن كل زور منكر، فيمكن أن يكون هذا وجه كونه منكرًا. وإن قيل: هو جزء علة. قيل: كل ما كان منكرًا فإن الله ينهى عنه، سواء كان زورًا أو لم يكن. وكذلك إن قيل: هو علة ثانية، وحينئذٍ فالقول المحرم لا يكون   (1) كذا في الأصل بحذف النون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 سببًا لنقلِ الملك، فلا يزول ملكه ويُبَاحُ لغيره بقول محرَّم. فهذا قد يحتجُّ به من يقول: إن الطلاق المحرَّم لا يصح، كما أن النكاح المحرَّم لا يصح، وهذا موجبُ الأصول على قول الجمهور الذين يقولون: النهي يقتضي الفساد، لاسيما والطلاقُ في الأصل مكروه بل محرَّم يُبغِضه الله، وإنما أباح منه قدرَ الحاجة، فيكون ما أبيح من قدر الحاجة إنما أُبيح لمن تكلم به بكلامٍ مباح، وأوقعه على الوجه المأذون فيه، أَمّا من تكلَّم به بكلام محرَّم وفعلَه على الوجه الذي نُهِيَ عنه، فالشارع لم يُبِح له ذلك الطلاقَ، فيكون باقيًا على الحظر، فلا يكون من الطلاق المشروع، كطلاق الأجنبية والطلاق قبل النكاح. يوضّح ذلك أن ما كان محظورًا وأُبيح للحاجة كان رخصةً، والرُّخَصُ لا تُستباحُ على الوجه المحرم، فيكون من طلَّق طلاقا لم يُؤذن له به - كمن طلَّق بلفظ الظهار - فلا يقع الطلاق بذلك. يُوضِّح ذلك أن إيقاع الطلاق ممّن أوقعه على الوجه المحرَّم إما أن يكون عقوبة له، وإما أن يكون رخصة له. والثاني ممتنع، لأن فعلَ المحرَّم لا يناسب النعمة بالرخصة. وإن قيل: هو عقوبة، فيقال: فكان ينبغي أن يعاقب المتظاهر بوقوع الطلاق به، فلمّا لم يعاقبه الشارع بذلك عُلِمَ أن الشارع لم يجعل نفس وقوع الطلاق عقوبةً للخلق، بل إنما عاقبهم بالكفّارات، لأن الكفّارات من جنس العبادات، والله يحب أن يُعبَد، فإذا فعلوها فعلوا ما يُحبه الله ورسوله، كما إذا أقاموا الحدود لله، التي جُعِلتْ عقوباتٍ، فإن الله أمر بها وجعلها واجبةً، وما تقرَّبَ العبادُ إلى الله بأفضلَ من أداءِ ما افترضَ عليهم. فالعقوبات التي يشرعها الشارع هي مما يُجب وقوعه ويرضاه ويأمر به، وهو لا يحب وقوعَ الطلاق ولا يأمر به ولا يَرضاه لغير حاجة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 فكيف يَشرَع وقوعَه ويجعله عقوبة؟! يُوضِّح ذلك أنه تعالى يُبغِض وقوعَ الطلاق، فكيف يشرع العقوبةَ بوجود ما يبغضه؟ وهو إنما يشرعُ العقوبةَ لئلاّ يُوجَد ما يُبغِضه، فيمتنع أن يَحكُم بوجود ما يُبغِضُه لئلَّا يُوجَد ما يُبغِضه، فإن هذا جمعٌ بين النقيضين، لاسيّما إذا كان الذي عاقب به هو نفس ما يُبغِضه. فهو مثل أن يُقال: اسقوه الخمرَ لئلا يشرب الخمر! وهذا ممتنع. فإن قيل: فقد حرَّمها عليه بعد الطلقة الثالثة عقوبةً له. قيل: هناك لما استوفوا الطلاقَ الذي أباحَه لهم للحاجة حرَّمها عليهم بعد الثالثة، فكانت العقوبة بالتحريم عليه لا بوقوع الطلاق عليه، فلم يعاقبهم بوقوع طلاقٍ قطّ. والعقوبة بالتحريم إلى غايةٍ مما جاءت به الشريعة، كما حرَّم الله على المظاهر المرأةَ حتى يكفّر، والعقوبة بالتحريم المؤبَّد كان من شرع من قبلَنا، كما قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (1) ، وكما قال: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)) (2) . فإن قيل: فهلاَّ منعَ وقوعَ الطلاق الثلاث إذا كان يُبغِضه؟ وقال: لا يقع الطلاق الثلاث وإن فرَّقَها. قيل: هذا كان يقتضي المنع من الطلاق بالكلية كدين النصارى، وفي ذلك حرجٌ عظيم، لحاجة الناس إلى الطلاق بعض الأوقات إذا كان يبغضها أو كانت تُبغِضه. ولهذا أباح الله الافتداء إذا خافا أن لا   (1) سورة النساء: 160. (2) سورة الأنعام: 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 يقيما حدودَ الله، فلم يُبح الله الخلعَ إلاّ عند الحاجة. وكذلك الطلاق، لكن لما أبيح الطلاقُ للحاجة لم يُبَح منه إلاّ الثلاثُ، فإنها قدر الحاجة، وحرَّمها عليه بعد الثالثة، لئلا يكون ذلك مانعًا من استيفاء العدد الذي أبيح رخصةً مع قيام السبب الحاظِر. كما أنه لم يُرخَّص في اقتناء الكلاب إلاّ للحاجة. فإن قيل: فهلاّ أبيح له بعد الثالثة أن يتزوَّجها بعقدٍ جديد قبل أن تنكح زوجًا غيرَه؟. قيل: كانت النفوس تطمع في عودها بعد الثالثة باختيار الزوجين، فلم يكن هذا وحده زاجرًا للنفوس عن استيفاء الثلاث، كما بسطناه في موضع آخر. وعلى هذا فيظهر حكمة الشارع في أحكامه، ويتبين تناسب الأصول الشرعية، وما في ذلك من الرحمة والعدل والحكمة، وإلاّ فلماذا جُعِلَتْ هذه الكلمةُ يقع بها الطلاق وهذه لا يقع مع قصد الإنسان للوقوع في الحالين؟ ولماذا حرمت عليه بعد الثالثة؟ ولماذا جُعِل في الظهار الكفارة؟ وقولنا "لماذا" تنبيه على حكمة الشارع وعدله ورحمته، وإن الأقوال التي توافق ذلك هي التي توافق شرعه، دون ما يخالف ذلك من الأقوال المتناقضة. والمقصود في هذا المقام أن القرآن ليس فيه ما يدل على وقوع الثلاث جملةً. وأما السنة فليس فيها أيضًا شيء من ذلك، بل لا يُعرَف أن أحدًا أوقعَ الثلاثَ جملةً على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنها وقعتْ به. وما رُوِيَ في ذلك من الأحاديث فهي ضعيفة بل موضوعة كَذِب عند أهل العلم بالحديث، بل قد نُقِل نقيضُ ذلك. وحديث فاطمة بنت قيس لمَّا طلَّقها زوجُها ثلاثًا إنما كانت الثالثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 آخر ثلاث تطليقات، كما جاء ذلك مُفسَّرًا في الصحيح (1) . وحديث المتلاعنين طلَّقها ثلاثًا بعد اللعان، واللعانُ حرَّمَها عليه أشدَّ من تحريم الطلاق، فكان وجودُ الطلاق كعدمِه. وإذا قيل: فلماذا لم يَنْهَه عن التكلُّم بالثلاث إن كانت لا توجب طلاقًا في هذه الحال؟ قيل: كما أنه لم ينهه عن أصل التطليق في هذه الحال مع أنه عندهم لا يفيدُ ولا يقع بها طلاقٌ، وذلك لأن النهي إنما كان لمفسدة الوقوع، فلما لم يكن هنا محلٌّ يقع به الطلاق لم تكن هنا مفسدة، كما لو طلَّق أختَه التي تزوَّجها، فإذا تزوَّج من تحرمُ عليه على التأبيد وطلَّقها كان هذا توكيدًا للتحريم، فكذلك طلاق الملاعنة توكيد لمقصود الشارع، فإنِّه بيَّن أن مقصوده تحريمها عليه، والشارع قصد ذلك أيضًا. بخلاف من قَصدَ الشارعُ أن لا يحرِّمها عليه بالثلاث، بل نهاه عن إيقاع الثلاث جملةً بها، ولهذا غضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من أوقع الثلاث في غير الملاعنة، دون من أوقعه في الملاعنة. وأما حديث رُكانة بن عبد يزيد (2) فقد رُوِي أنه طلَّقها ثلاثًا فردَّها عليه بعد الثلاث، ورُوِي أنه طلَّقها البتة وأنه حَلَّفَه ما أراد إلاّ واحدة، فقال: ما أردتُ إلاّ واحدةً، فردَّها. وقد روى أهل السنن أبو داود وغيرُه هذه وهذه، ورجَّحوا الثانية لأنها من رواية أهل بيته، لكن أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم من العلماء ضَعَّفوا حديثَ ركانة، وذلك أنَّ رواتَه قومٌ لم يُعرَفوا بحملِ العلم، ولا يُعرَف من عَدْلِهم   (1) سبق ذكر هذا الحديث وحديث المتلاعنين فيما مضى، وتكلم عليهما المؤلف. (2) سبق ذكره وكلام المؤلف عليه فيما مضى، فلا نعيد التعليق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وضبطهم ما يوجب أن تثبتَ بمثل نقلهم سنة للمسلمين تُوجبُ حكمًا عامًّا للأمة. وأيضًا فالرواية الثانية لا تدلُّ بمنطوقها، بل غاية ما تدلُّ بمفهومها، وهو لو قال "أردت ثلاثًا" كان يحتمل أن يؤدِّبه على ذلك ويعاقبه لكون ذلك محرَّمًا، ويحتمل أنه كان يُوقِعها به، فاستفهامُه له يدلُّ على اختلاف الحكم بين إرادة الواحدة وإرادة الثلاث. لكن هل كان الإحلاف لأجل التحريم والمعصية أم لأجل الوقوع؟ هذا ليس في الحديث ما يبينه. وفي سنن النسائي (1) أن رجلاً طلَّق امرأتَه ثلاثًا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغَضبَ عليه وقال: أتتلاعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ فقال الرجل: أفأقتلُه يا نبيَّ الله؟ فهذا فيه غضبُه عليه حتى استأذنه بعضُ المسلمين في قتلِه، وليس فيه أنه أوقع به الثلاث، فدلَّ ذلك على أن هذا كان منكرًا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفاعله مستحق للذمّ والعقاب، وليس فيه أنه أوقعه به، فقد يكون استفهام ركانة لهذا. فهذا الحديث لا يدلُّ على وقوع الثلاث بل على تحريمها، ودلالته على أنها لا تقع أقوى. ثمَّ قد ثبت في صحيح مسلم (2) وغيره عن ابن عباسٍ أن الثلاث كانت واحدةً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، ثم قال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم [فيه] أناةٌ، فلو أنّا أمضيناه عليهم، فأَمْضاه عليهم.   (1) 6/142. وفيه: "أيُلعَب ... ". (2) برقم (1472) ، وقد سبق كلام المؤلف عليه فيما مضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وأما قول القائل: إن ابن عباس أفتى بخلافه، فقد اختلفت فُتْيا ابن عباس في ذلك، فنُقِل عنه إيقاعُ الثلاث بكلمة واحدة، ورُوِيَ عنه أنه لا تقع، كما ذكر ذلك أبو داود في سننه وغيرُه (1) . والمقصود هنا أنه ليس في السنة قَط أن أحدًا طلَّق ثلاثًا جملةً على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأوقعها به، وهذا لا ريبَ فيه. وأما الإجماع فلا إجماعَ في المسألة (2) ، بل قد نقل عن أكابر الصحابة - مثل الزبير وعبد الرحمن بن عوف وعلي وابن مسعود وابن عباس - أنه لا تقع الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ، وهو قول غير واحدٍ من التابعين ومن بعدهم، كطاوس وعكرمة وابن إسحاق والحجاج بن أرطاة، وقول طائفة من أصحاب مالك من أهل قرطبة وغيرهم، وقول طائفة من فقهاء الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، وكان جدُّنا أبو البركات يفتي بذلك أحيانًا، وقول [طائفة] من الناس من أهل الحديث والكلام والفقه، وهو أحد قولَي الظاهرية بل أكثرهم، وقول الشيعة. وأما القياس ف لا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع، لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فسادَ المنهي عنه، بمعنى أنه لا يحصل للمنهي قصده، والمنهي عن الطلاق المحرم قصدُه وقوعُه، ففسادُه يُوجب أن لا يحصل مقصوده. كما أن المكرِه الظالم لما كان قصدُه وقوَعَ الطلاق بالمكرَه لم يقع الطلاق من المكْرَه.   (1) سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى. (2) علق عليه أحد القراء: "هذا كلام ساقط، بل الإجماع منعقد على وقوع الثلاث، وأنه جائز، انتهى". قلت: كأن المعلق لم يقرأ ما نقله المؤلف عن أكابر الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فأين الإجماع الذي ادَّعاه المعلق؟ وانظر "مجموع الفتاوى" (33/82-84) . وقد سبق ذكر بعض الآثار الواردة فيه فيما مضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 فإن قيل: المنهي عنه إذا كان سببًا للإباحة فينبغي أن لا يُباح له، لأن المعصية لا تكون سببًا للنعمة، وأما إذا كان سببًا لإيجاب أو تحريم فإنه يصحّ، كالنذر والظهار، فإنه نُهِي عن النذر وانعقد، ونُهِيَ عن الظهار وانعقد. قيل: أما الظهار فقد تقدم القول فيه، وبيّنّا أنه نفسه قولٌ منكر وزُورٌ، وأنهم كانوا يجعلونه طلاقا، فأبطل الشارع ذلك، وذكرنا أن هذا مما يَحتجُّ به من يقول "النهي يقتضي الفساد"، حيث لم يُوقع الطلاق. وأما إيجاب الكفارة فيه فلكونه أتى بالمنكر من القول والزور، والكفارة قربة وطاعة، كما أوجب الكفارة في نظائر ذلك من الأمور المنهي عنها، كالجماع في رمضان وغيره. وأما النذر فإنه يمين، وهو حجة لنا، فإنه إذا نذرَ ماليس بقربة لم يلزمْه، بل يُجزِئه كفارة يمين. وأما إذا نذرَ القُرَب فالقُرَب يحبُّها الله ورسوله، وإنما نُهِي عن النذر لاعتقاد أنه يَقضِي حاجتَه، لا لكون المنذور مكروها. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه يُستَخرج به من البخيل" (1) ، والاستخراج من البخيل مما يُحِبّه الله ورسوله، فلم يَحصُل بانعقاد النذر إلاّ ما يُحِبُّه الله ورسولُه، لكن يُخَافُ عليه أن لا يُوفِيَ. كما أن المُحرِمَ قبل الميقات يُخَاف عليه أن يرتكب المحظورات، وكذلك الشارع في التطوعات يُخاف عليه أن لا يأتي بها، وما كان مُفضِيًا إلى الطاعة لم يَبطُل خوفًا من عدم الإتمام، بل قد يأمر بإتمامه، كما قال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (2) .   (1) أخرجه البخاري (6608،6692،6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر. (2) سورة البقرة: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 والمفسدة التي نهي عنها إنما هي إذا لم يفعل المنذور، أما مع فعله فالمصلحة راجحة، وإذا لم يفعل كان كاذبًا، لكونه التزم مالم يَفِ به، وهو مذموم على الكذب، كما قال تعالى: (*وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)) (1) . وقد ذكرنا أن نفس المنهي عنه إذا كانت المفسدة فيه فلا يمكن رفعها، وإنما يمكن رفع ما يترتب على ذلك. وأما الأفعال كالقتل والوطء والشرب إذا رفع محرمًا فهنا لا يمكن أن يقال: لا حكم له، بل وجودُه كعدمه، بخلاف بيع الميتة ونكاح الأم، فإن هذا العقد باطل، وجودُه كعدمه. والأقوال قسمان: قسم هو بمنزلة الفعل، كالكفر وشهادة الزور ونحو ذلك، فإن هذا إذا كذب لم يمكن أن يقال: وجود الكذب كعدمه. وكذلك إذا اعتقد الكفر بقلبه أو قاله بلسانه غيرَ مُكرَهٍ استهزاءً بآيات اللهِ لم يمكن إن يقال: وجود ذلك كعدمه. فالطلاق والعتاق عند جمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد في القسم الأول من جنس البيع والنكاح وغيرهما، لا من جنس الكذب. والقول الموجب للصدق إذا كذب صاحبُه كان الذنب له، ولم يكن رفع المفسدة إلاّ بأن يقال: الصيغة ليست التزامًا وعهدًا، وهذا ممتنع، إلاّ ترى أنه لما التزم فعلَ المحرمات أبطل الشارع ذلك، ولما التزم فعل المباحات لم يأمره بذلك، بل شرع الكفارة في الموضعين   (1) سورة التوبة: 75-77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 عند من يقول بذلك كأحمد وغيره، أو لا شيء عليه كما يقوله الشافعي وغيره. وأيضًا فإنه إذا نذر الطاعات إن جعل وجود العقد كعدمه ففيه صَدٌّ عن الترغيب في الطاعات، والشارع يُرغب في ذلك من لم ينذر، فكيف إذا نذر؟ وكذلك إن قيل: فيه كفارة يمين مطلقًا ففيه صَدٌّ عن الطاعات التي هي أحبُّ إلى الله من الكفارة، وهذا بخلاف المحرّمات، فإن الكفارة أحب إلى الله منها. ثم الظهار ونذر المعصية أوجب كفارةً يتقرب بها إلى الله، أما إيقاع الطلاق الذي نهى الله عنه وهو يوجب ما يُبغِضه الله من غير مصلحةٍ في ذلك، لا للزوج ولا للمرأة ولا لأحدٍ من المسلمين، ولا فيه ما يُحِبّه الله ورسولُه، فكيف يشرع الله وقوعَ فسادٍ راجح وشر راجح، ولا يجعل للعباد طريقًا إلى رفع ذلك الشر والفساد؟! وهذا ليس من شريعة الإسلام ولله الحمد والمنة. وإذا قيل: العبد هو الذي أوقع ذلك. قيل: نعم، والعبد هو الذي يعقد سائر العقود المنهي عنها، ويلتزم ما فيها من اللوازم، ومع هذا لما كان فسادها راجحًا أبطلَ الشارعُ تلك العقود، ولم يشرع وقوع ذلك الفساد الراجح، كمن نكح أنكحةَ منهيَّا عنها، وباعَ بيوعًا منهيَّا عنها، ونحو ذلك، فالطلاق المحرَّم عقد من العقود المنهي عنها. فإن قيل: فعمر بن الخطاب ألزمَ الناسَ بوقوع الثلاث جملة كما ذكرتم، وعمر لم يكن ليخالف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعُلِمَ أنه اطّلعَ على دليل شرعي يُوجِب ذلك. وقد وافقه علي وابن مسعود وابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 عباس وابن عمر وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو (1) ، فهؤلاء أفتوا فيمن أوقع الثلاث جملة أن تقع. واشتهر ذلك عند عامة العلماء حتى ظنه من ظنَّه إجماعا، وصار نقيضُ ذلك يُحكَى عن أهل البدع كالرافضة، ولهذا لمّا ذُكِر هذا القولُ عن الرافضة لأحمدَ قال: قولُ سوء، أو نحو ذلك. قيل: أما المنقول عن عمر رضي الله عنه فظاهره أنه عاقبَ الناسَ بإيقاعِها جملة لما أكثروا من فِعْلِ ما نُهُوا عنه، ولهذا قال: إن الناس قد أسرعوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أنّا أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم. والذين أفتوا بذلك من الصحابة رأوا رأيَ عمر في ذلك، وألفاظهم تَدُلُّ على أنهم فعلوا ذلك عقوبةً لمن فَعَلَ ما نُهِيَ عنه، كقول ابن مسعود لما سُئِل عمن طلَّق ثلاثًا: أيها الناس! مَن أتى الأمرَ على وجهِه فقد بُيِّن له، وإلاّ فوالله ما لنا طاقة بكل ما تُحدِثون. وفي لفظٍ: من أتى بدعةً ألزمناه بدعتَه. فعُلِم أن هذا كان عنده ممّا نُهُوا عنه، فألزمَهم به. وكذلك ابن عباس قال لمن طلَّق ثلاثًا: إنك لو اتقيتَ الله لجعلَ لك فَرَجًا ومخرجًا، ولكنّك لم تتق اللهَ فلم يجعل لك فرجًا ومخرجًا. وكذلك عبد الله بن عمر يقول: إذا فعلتَ ذلك فقد عصيتَ الله وبانت منك امرأتك. ومثل ذلك كثير في كلامهم، يَذُمُّون فاعلَ ذلك مع إيقاعهم به الثلاث. وهذا يقتضي أن فاعلَ ذلك كان مذمومًا عندهم مع إيقاع الثلاث به. وقد كان للصحابة رضي الله عنهم اجتهاد في أنواع من العقوبات   (1) سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وفي المنع من بعض المباحات، لما يَرونَه من مصلحة الأمة، كاجتهاد عمر وغيرِه في حدّ الشارب حتى حَدُّوه ثمانين، وحتى كان عمر ينفيه ويَحلِق رأسَه. وكما كان عمر ينهى عن متعة الحج ليعتمر الناسُ في غير أشهر الحج، فمنَعَهم من المباح لمَّا رآهم يتركون به ماهو مشروع للأمة، ولما رأى في ذلك من حَضِّ الناس على الطاعة به، ويمنعهم من المباح ليفعلوا خيرًا أو لئلاّ يفعلوا شرًّا. فلمّا كثر منهم إيقاعُ الثلاثِ جملةً، ورأى أنهم لا ينتهون عن ذلك إلاّ بإلزامهم بها ومنعِه من المرأة إذا قال ذلك، فمنعهم من نكاحها بعد الثلاث جملةً ومُفرَّقًا، لئلاّ يفعلوا الشرَّ الذي كانوا يفعلونه، كما منعهم من متعة الحج، ليفعلوا الخيرَ - وهو العمرة - في سائر السنة، وكما حرَّم على الناكح في العدَّة أن يتزوج المنكوحة أبدًا، ليمنعهم بذلك من الشر الذي فعلوه، وهو التزوج في العدّة. وكما منع شاربَ الخمر أن يقيم ببلدِه، ليمنعه بذلك من شُربِ الخمر. وهذه العقوبات لها أصل في الشرع، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى المخنَّثَ والزاني، ومَنَعَ الحميريَّ من السَّلَب الذي أمر خالدًا أن يُعطِيَه إياه، فحرَّمَه عليه بعد أن أوجبَه له، ليزجر بذلك عن التعدّي على ولاة الأمور لما اعتدى عوف بن مالك على خالدٍ (1) . وكذلك ما رُوِي من منع الغالّ سهمَه. وأيضًا فإنه لما أمر بهجر الثلاثة الذين خُلِّفوا أمرَ أزواجَهم بهجرهم، ومنعهنَّ أن يمكِّنوهم من مضاجعتهم (2) ، مع أن هذا حلالٌ للزوج مع امرأته. وهذا أبلغ من موجب الظهار، فإن هذا تحريم لنسائهم عليهم إلى أن يتوبَ الله عليهم أو يحكمَ الله بحكمٍ   (1) أخرجه مسلم (1753) عن عوف بن مالك. (2) كذا في الأصل، والأولى أن يكون: "ومنعهن أن يمكنهم من مضاجعتهنَ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 آخر. والمظاهر تحرمُ عليه إلى أن يكفر، فاثبت موجب الظهار تعزيرًا لمن استحقَّ التعزير بالهجرة. وعاقبَ المتلاعنينِ بتحريم كل منهما على الآخر، وهذا أبلغ من موجب الطلاق. فإذا كان قد عاقبَ بتحريمٍ أخفَّ من موجب الطلاق وبتحريمٍ أبلغَ من موجب الطلاق، وجعلَ الثاني شرعا مطلقًا، وجعلَ الأوَّلَ تعزيزًا يسوغ أن يفعله الأئمةُ بمن أذنب مثل ذلك الذنب -: لم يمتنع أن يكون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - مع كمال علمه ونُصحِه للأمة - رأى أن يُعاقِبَ المستكثرين مما نَهى الله عنه، الذين لم يرتدعوا بمجرد نهي الشارع، بما هو من جنس العقوبات المشروعة. وقد كان أحيانًا يَهُمُّ بنهيهم عن أشياءَ وعقوبتهم بالمنع، ثم يتبين له الصواب في ذلك، كما همَّ أن يمنعهم من الزيادةِ في قدرِ الصَّداق على ما فعلَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأزواجِه وبناتِه، ويجعل فِعلَه شرعًا لازمًا لهم لا يزدادون عليه، وأن يعاقب من جاوزَ فِعلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجَعْلِ الزيادة في بيت المال، حتّى تبيَّنَ له أن ذلك مما أباحه الله لهم، فلا يُمنَعون منه ولا يُعاقَبون عليه. وإلاّ فهل يَظنُّ من يؤمن بالله واليوم الآخر ويَعرِف حالَ السابقين الأولين أن عمر بن الخطاب أو غيره من الخلفاء الراشدين كان يَعمِد إلى نَسْخِ شرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وأن المسلمين يُقِرونه على ذلك مع علمه وعلمهم بأن هذا نسخ لشرعِه! نعم، الأمور الاجتهادية التي يفعلها أحد الخلفاء تارة يوافقُه عليها جماعتهُم، وتارة يوافقه عليها بعضُهم وينكرها بعضُهم إنكارَ مجتهدٍ على مجتهدٍ، كما أنكر عمران بن حصين وغيره على عمر ما قاله في متعة الحج (1) ، مع أنه قد ثبت عن عمر أنه لم يُحرِّمها، وأنه كان له فيها اجتهادٌ متنوع.   (1) أخرجه البخاري (1571) ومسلم (1226) عن عمران بن حصين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وإذا كان هذا مخرجَ ما فعلَه عمر فيقال: من كانوا عالمين بالتحريم وأقدموا عليه بعد علمهم بالتحريم، واستكثروا منه بعد علمهم بالتحريم، فمن ألزمَهم به فقد اقتدى بعمر في ذلك وبمن وافقه من الصحابة. وأمّا من لم يعلم أن ذلك محرَّم أو اعتقدَ أنه مباح وفَعَلَه، فهذا لا يستحق أن يُعاقَب، ولا يمكن إلزامُه به على وجه العقوبة، إلاّ أن يكون الشارع ألزمَه بالثلاث. وظهر مقصودُ عمر، فإنهم إذا كانوا يعتقدون تحريمَه، والشارع نهاهم عنه، وإذا أوقعوه جعله واحدة، فإذا صاروا يوقعونه قاصدين للثلاث صاروا يقصدون ما نُهوا عنه، وقد يعتقد عامتُهم وقوعَ الثلاث به، فعاقبهم عمر على ذلك بإلزامِهم ما قصدوه وما اعتقدوه. فإن قيل: فقد تقدم أن الشارعَ لم يُعاقِب بوقوع الطلاق. قلنا: نعم، ليس في الكتاب والسنة عقوبةٌ بوقوع الطلاق، ولكن جَعْل هذا عقوبةً هو مما يقوله كثير من السلف والخَلف بالاجتهاد، كما يقول كثير من الفقهاء: إنما يُوقَع الطلاقُ بالسكران عقوبة له، ونحن ذكرنا مقاصد اجتهاد عمر رضي الله عنه. وأيضًا فعمر رضي الله عنه رأى أن في إلزامهم به منعًا لهم من إيقاعِه، فرأى أن ما يَنتفِي من وقوع الطلاقِ البغيض إلى الله أكثرُ مما يقعُ منه، فدَفَعَ أعظم الفسادَين بالتزامِ أدناهما، فإنهم إذا كانوا يوقعون الثلاث المحرَّمة ولا يرونها إلاّ واحدةً، وكانوا يَقصِدون الثلاث أولاً بالقول المحرّم مع علمهم أنه لا يلزمهم ذلك، يكثر منهم تكلُّمهم بالثلاث وقصدُهم إيقاعَها، وذلك بغيض إلى الله، ووقوعُه أيضًا بغيض، لكن ما فعله أوجب دفع أكبر البغيضَينِ وقوعًا بأدناهما وقوعا، فإنهم إذا علموا أنه يُلزمهم بالثلاثِ الثلاثَ امتنعوا عن التكلم بالثلاث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فكان في ذلك دَفعُ أمور كثيرة بغيضة إلى الله بإلزام أمور أقل منها، ولمّا رأى أنهم لا ينتهون إلاّ بذلك فَعَلَ ذلك. وكان عمر ينهى عن التحليل ويقول: لا أُوتَى بمحلِّل ومحلَّل له إلاّ رجمتُهما، فلو رأى عمر أن إيقاع الثلاث يُفضِي إلى التحليل الذي حرَّمه الله ورسولُه وإلى كثرته العظيمة لم يَنْهَ عنه، لعلمِه بأن القول بأن الثلاث لا تقع إلاّ واحدة خير من التحليل، وأن المفسدة في التحليل أضعاف المفسدة في أن يتكلموا بالثلاث فلا يقع بهم إلاّ واحدة. فمتى دارَ الأمر بين أن تقع الثلاثُ ويحلل، وبين أن لا تقع الثلاث، كان أن لا يقع أولى. ولا يرتاب في هذا من نوَّر الله قلبَه بالإيمان، فإن التحليل فيه شرٌّ كبيرٌ ليس في عدمِ إيقاع الثلاث جملةً منها شيء. وكان نكاح التحليل قليلاً جدًّا في زمن الصحابة، ولهذا سُئِلوا عنه في وقائعَ مخصوصة، وقال عمر بن الخطاب: لا أُوتَى بمحلِّل ولا محلَّل له إلاّ رجمتُهما. وقد لعنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلِّلَ والمحلَّلَ له (1) . ولم يكن على عهده من يُظاهِرُ بذلك، لكن قد يكون من يفعل ذلك باطنًا ومن يقصده، فلعنَه كما لعنَ آكلَ الربا ومُوكِله وشاهدَيْه وكاتبَه، لتنزجر النفوسُ بذلك عن قصد التحليل، فلا يقع منه شيء لوجهين: أحدهما: لتتمَّ عقوبة الله للمطلّق الذي طلَّق الثالثةَ بعد طلقتين، فلا يَقصِد أحدٌ إعادةَ امرأتِه إليه، فينزجر بذلك عن إيقاع الثلاث مفرقة.   (1) أخرجه أحمد (1/448،462) والدارمي (2263) والترمذي (1120) والنسائي (6/149) عن ابن مسعود، وأخرجه أحمد (2/323) عن أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجه (1934) عن ابن عباس، وفي الباب عن آخرين، وهو حديث صحيح. انظر "إرواء الغليل" (1897) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 والثاني: لأن التحليل من جنس السفاحِ لا من جنس النكاح، فإنه غير مقصود. ولهذا كان الزوجُ مُشبهًا فيه بالتيس المستعار، الذي يقصد استعارتَه لا مصاحبتَه. فلما كان مفسدةُ وقوع الثلاث قليلةً لقلَّةِ التحليل، وكان الناس قد أكثروا مما نُهُوا عنه منَ إيقاع الثلاثِ جملةً، رأى عمر أن يعاقبهم بإنفاذ ذلك عليهم، لئلا يفعلوا ذلك، فالشارع حرَّم عليهم المرأة بعد الثالثة عقوبةً لهم، فرأى عمر وغيرُه أنهم إذا أكثروا من إيقاعها مجتمعة استحقوا هذه العقوبة. بخلاف ما كان على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وأول خلافته، فإنها كانت قليلةً في الناس، وكانوا ينتهون بنهي الشارع، فلم يكن في وقوعها قليلاً حاجة إلى عقوبة. ولا ريبَ أنه إذا كثر المحظور احتاجَ الناسُ فيه إلى زجرٍ أكثر مما إذا كان قليلاً. ولهذا لما رأى الصحابة رضي الله عنهم كثرةَ شُرْب الناسِ الخمرَ واستخفافَهم بالعقوبة التي هي أربعون جَلَدوا ثمانين، وَكان عمر مع ذلك يَنفِي ويَحلِق الرأسَ، لأن عقوبة الشارب لم يُقدِّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها قدرًا مؤبدًا كما قدَّر في القذف، لا عددًا ولا صفةً، بل أقل ما ضرَب أربعين، وكان يضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وقد أمر بقتل الشارب في الرابعة (1) ، فكان صفةُ عقوبتِه وقدرُها مُفوَّضًا إلى اجتهاد الأئمة، ولو كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجبَ فيها حدًّا حرَّمَ ما زاد عليه لامتنعَ عليهم أن يُبدِّلوا شريعتَه، فإنهم لا يتفقون على ضلالةٍ. وإذا كان هذا فعلَه عمر على وجه العقوبةِ والتعزير بذلك لكثرة إقدام الناس على المحظور، لا لأنه شرع لازم لكل من تكلَّم بذلك،   (1) سبق ذكر هذا الحديث وتخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 سواءً كان عالمًا بالتحريم أو جاهلاً، وسواء كان الناس يحتاجون إلى العقوبة بذلك أو لا يحتاجون، لم يكن على أن إيقاع الثلاث بكلمة واحدة لكل من تكلم بها دليل شرعيٌّ أصلاً. وإذا كان كثير من الفقهاء يُوقِعون الطلاقَ بالسكران، ويقولون: نُوقِعه عقوبة ونَجعلُ ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، مع أن هذا لا يُوجب انتهاء الناس عن الشُكر، فكيف لا يكون ما فعلَه عمر رضي الله عنه من العقوبة مما يسوغ فيه الاجتهاد؟ مع أن ذلك أقرب إلى الأدلةِ الشرعية ومقصودِ المعاقب من هذا. ولو قُدِّر أن بعضَ الصحابة رأى وقوع الثلاث جملةً بكل من تكلَّم بها، ورأى هذا شرعًا عامًّا لازمًا، فقد نازعَه في ذلك غيرُه، مع أن هذا بعيد، فإن الذين رُوِيَ عنهم إيقاعُ الثلاث جملةً رُوِيَ عنهم نَفْيُ ذلك، كعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس (1) ، فَحَمْلُ كلامِهم على اختلاف حالين أولى من حَمْلِ كلامِهم على التناقض، واعتقادهم فساد أحد القولين (2) . وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) . فإن قيل: فإذا لم يكن الطلاق المحرَّم لازمَ الوقوع، فيلزم أن المطلقة في الحيض أيضًا لا يجب أن يلزم فيها الوقوع. وحديث ابن عمر قد ثبت في الصحيحين (3) أنه لمَّا طلَّق امرأته في الحيض غضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "مُرْه فيراجعها، حتى تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم   (1) انظر تفسير القرطبي (3/132) و"مجموع الفتاوى" (33/83) و"إغاثة اللهفان" (1/329-330) ، حكى ذلك عنهم ابن وضاح. (2) بعده سبعة أسطر في الأصل وكتب في الهامش: "مكرر يأتي في موضعه". (3) البخاري (5252،5332 ومواضع أخرى) ومسلم (1471) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 تطهر، ثم إن شاء بعدُ أمسكها، وإن شاء طلَّقَها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". وقد رُوِي عن ابن عمر (1) أنه قيل له: أتعتدُّ بها؟ قال: أفرأيت إن عجز واستحمق. وقال: إن طلقتها ثلاثًا عصيتَ ربَّك وبانت منك امرأتك. قيل: أولاً حديث ابن عمر قد رُوِي فيه أنه حَسَبَها من الثلاث، ورُوِيَ أنه لم يَحْسُبْها، وكلا الإسنادين جيد. وقوله "راجعْها" مثل قوله "رُدَّها" ونحو ذلك، وهذه الألفاظ تُستَعمل في العقدَ المبتدأ، وتُستَعمل في إمساك المطلقة، وتُستَعمل في إمساك من لم يقع بها طلاق، قال تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) (2) ، فهذا عقد جديد. وقال تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) (3) ، فهذا رجعة المطلقة. وقال: فردها علي. وابن عمر رضي الله عنه إما أن يكون كان يعلم أن الطلاق في الحيض لا يجوز، بل يجب إذا طلق المرأة أن يطلقها لعدَّتها كما أمر الله بذلك؛ وإما أنه لم يكن يعلم هذا، فإن كان يعلمه وألزم بما أوقع فقد يكون من جنس إلزام عمر لهم بالثلاث، وإن لم يكن عَلِمَ بالتحريم وألزم بها فهو دليل على أنها تلزم، فيحتاج الاستدلال بحديثه إلى مقدمتين: إحداهما: أنه أمر بمراجعةٍ هي مراجعةُ من وقع بها الطلاق. والثانية: أن وقوع الطلقة لم يكن عقوبة عارضةً على ذنبٍ، بل   (1) كما في بعض الروايات للحديث السابق. (2) سورة البقرة: 230. (3) سورة البقرة: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 هي شرع لازم لكل من طلَّق في الحيض. وكلا المقدمتين تحتاج إلى دليل. ثم قد يُستَدلّ على نقيض ذلك بأن علة تحريم الطلاق في الحيض هي إطالة العدَّة عليها عند كثير من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وعلَّله آخرون من أصحاب أبي حنيفة وأحمد بأن الحيض زمن النفرة عن المرأة والزهد فيها، والطهر زمن الميل إليها والرغبة فيها. وبالجملة فلا بُدَّ لهذا الحكم من علَّةٍ، وقد بحثوا عن الأوصاف الثابتة في محل الحكم، فلم يجدوا وصفًا مناسبًا إلاّ هذا أو هذا، والسَّبْرُ مع المناسبة والاقتران من أقوى الطرق التي تثبت بها العلَّة. وإذا كانت العلَّة ما ذكره الأولون، فإذا وقع الطلاق فإنما يُؤمر به لإزالة تلك المفسدة، والأيمان كانت لا تزول، فلا فائدة في الأمر بالمراجعة. والفقهاء لهم في وجوب المراجعة قولان هما روايتان عن أحمد، ولهم في ارتجاعها في الحيضة التي تلي ذلك الطهر قولان هما روايتان عن أحمد (1) . ومن قال: إن الرجعة لا تجب، وإنها تُشْرَع في الطهر الذي يلي الحيضة، لم يكن في الأمر بالرجعة عنده فائدة، ولا زال بها مفسدة طلاق الحيض، بل ذلك أشدُّ في الضرر عليها، فإنه يرتجعها وهو في الحيض لا يطأها، ثمّ يُطلّقها في الطهر الأول، فيحتاج إلى استئناف العدَّة عليها، فيزداد الطول والضررُ. وهذا أشهر القولين. ومن قال: إنها تبني لم يكن في الارتجاع عنده فائدة؛ ومن قال: لا يطلّقها إلاّ في الطهر الثاني فإنه لا يُوجِب وطئها في الطهر   (1) بعده في الأصل بياض بقدر ثلاث كلمات، ومكتوب عليه: "كذا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 الأول، فإذا أمسكها ولم يطأها وطلَّقها في الطهر الثاني استأنفت العدة أيضًا عند الجمهور، فكان ارتجاعها زيادةَ شر. وإن بَنَتْ على العدَّة فلا فائدة في الرجعة. وهذا بخلاف ما إذا لم يقع الطلاق، فإنه لا عدَّة عليها فيردها، لأنها امرأته، ولا يطلّقها في الطهر الأول لأنه لم يتمكن بعدُ من وطئها، فالنفور بينهما قد لا يزول، فإذا تركها إلى الطهر الثاني تمكن من وطئها، فربما بسبب ذلك تَفْتُر رغبتُه عن الطلاق. والشارع نهى الرجالَ أن يطلقوا إلاّ لاستقبال العدة، لئلا تطول بذلك العدة. فهذا حكمة نهي الشارع، لكن إذا فعلوا ما نُهُوا عنه، فإن أوقع الطلاق لغير العدة فقد حصلَ الشرُّ الذي كرهَه الله ورسولُه، وحَصَلَ طولُ العدَّة لا مَحالةَ، لأن هذا الطلاق إذا وقعَ أوجبَ عدةً، فتكون طويلةً، ومراجعتُها بعد ذلك - إذا قيل: إن الطلاق قد وقعَ - لا تَرفعُ هذه العدة الطويلة، ولا تُزيل هذا الضرر، بل إما أن تَزيده ضررًا وطولاً آخر، كما هو قول الجمهور الذين يُوجبونَ على المرتجعة إذا طلقت قبل الدخول عدةً أخرى، وقد ذكر الثوري أن هذا إجماع الفقهاء. وإما أن تبقى العدةُ طويلةً مُضِرَّةً كما كانت، كما هو قولٌ للشافعي ورواية عن أحمد. فإن قيل: بل في الرجعة في الحيض تُمكنه من الاستمتاع بغير الوطء، وفي تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني تُمكنه من وطئها في ذلك الطهر. قبل: هذا الذي لا يزول الضررُ إلاّ به لا يأمرون به، ولم يأمر الشارع به، وإنما أمر على قولكم بمجرد رجعة للمطلقة، وهذا المأمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 به على قولكم يزيد الضرر، فإنه يكون قد طلَّقها واحدةً، فيطلقها ثنتين. وهذا أيضًا دليل آخر، وذلك أن مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايات أن تفريق الثلاث في ثلاثة أطهار بدعة، وهو الصحيح، وأن السنة أن يطلقَها واحدةً، ثم يدعَها حتى تنقضيَ عدتُها، فإذا كانت الأولى قد وقعت ثم أبيح له الثانية في الطهر الأول أو الثاني، كان في هذا. خلاف للسنة بأن طلقها ثانيةً بعد أولى. فإن قيل: لكن طلّقها الثانية بعد أن راجعَها، وهذا سنة بالاتفاق. قيل: بل في هذا وجهان ذكرهما أبو الخطاب، أحدهما: أنه بدعة، وعلى هذا التقدير فالحديث حجة عليهم صريحة. والثاني - وهو الأظهر -: هو سنة لمن طلَّقها ثم راجعها ثم اختار طلاقها أن يطلقها، أما من كان غرضُه طلاقَها، وقد طلَّقَ واحدةً، فيؤمر بما يلزم أن يُوقع ثانيةً. وأيضًا فإن تطويل العدة وضررها يزولُ بذلك. وأيضًا فالاعتداد بتلك الطلقة من الثلاث أعظم ضررًا على الزوجين من تطويل العدة عليها، ولو خُيرت المرأةُ بين هذا وهذا لاختارت طولَ العدَّة على أن تُحسَب من الثلاث. فكيف تقصد مصلحتها بما هو عليها أشدُّ ضررًا. وأما ما ذكره الآخرون فإنهم قالوا: أراد بذلك تقليلَ الطلاق، فإنه منع منه زمنَ الزهدِ فيها، وأذِنَ فيه زمنَ الرغبة فيها. وإذا كان هذا مقصود الشارع فهذا المقصود لا يحصل إذا أُمِرَ المواقع له بالرجعة، وقيل له: طَلقْ بعد ذلك، لأنه حينئذٍ لا يكون في الرجعة إلاّ تكثير الطلاق، لأنّ الأول لا يرتفع، والثاني قد يحصل، بل هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الأظهر ممن غرضه الطلاق، فيكون ما أُمِر به لا يَرفَعُ المفسدةَ بل يَزِيدها، بخلاف ما إذا لم يقع، فإن المفسدةَ تُعْدَمُ حينئذٍ. فصل أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة، والحاجة تندفع بثلاثٍ متفرقة، كل واحدة بعد رجعة أو عقدٍ، فما زاد على هذا فلا حاجةَ إليه فلا يشرع، فإنه إذا فرق الثلاثة عليها في ثلاثة أطهارٍ لم تكن به حاجة إلى الثانية والثالثة، فإن مقصوده من الطلاق يحصل بالأولى، كما أنه لا حاجة به إلى الثلاث. فإن قيل: قد يكون مقصوده رفع نفقتها، فيطلقها ثلاثًا لئلَّا تجب لها نفقة، ولا يجب أيضًا سُكنى عند فقهاء الحديث. قيل: هذا يمكنه عند من يوجب للمبتوتة النفقة والسكنى بأن يطلقها طلقة بائنة، كما هو مذهب أبي حنيفة، وهذا رواية عن أحمد، وإن لم يقل بوجوب النفقة للمبتوتة، لكن عنده له أن يبتَّها بواحدة، فتسقط النفقة بإسقاط رجعته. وأما على قول الباقين فيقولون: نفقتها في الرجعة حقٌّ لها، فليس له أن يُسقِطه إلاّ برضاها، فإذا رضيت أن يختلعها سقطت النفقة، وإذا كانت هي تريد أن يُنفِق عليها ويتمكن من ارتجاعها لم يكن له إسقاطُ ذلك. ونفقة العدَّة أمر هيِّن، ليس له لأجلها أن يُوقع نفسَه في الثلاث التي يحصل بها ضرر عظيم، كما أنه ليس لأجلها أن يعجل طلاقها في الحيض بالكتاب والسنة والإجماع، فعُلِمَ أن تسويغ تغيير الطلاق الشرعي لأجل إسقاط النفقة من المناسبات التي يشهد لها الشرع بالإبطال والإهدار. وأيضًا فإن الله أمر المطلق أن يمتع المطلقة، فيعطيها متاعًا لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 حصل لها من الذلة بالطلاق، فكيف يسوغ الطلاق الذي يكرهه ويحرمه. وأيضًا فإن هذا الكلام يقتضي جوازَ إيقاع الثلاث جملةً، ونحن في هذا المقام إنما نتكلم على القول بتحريمه، فأما مع القول بجوازه فلا ريبَ في وقوعه. وإذا عُرِف أن هذا مقصود الشارع فالطلاق المسمَّى الشرعي لا يترتَّبُ عليه مفسدة راجحة، بخلاف غيرِه من أنواع الطلاق البدعي المنهي عنه، فإن فيه من المفسدة الراجحة ما أوجبَ أن الله ينهى عنه. والفساد الحاصل في الطلاق والتحليل وخلع اليمين وغير ذلك إنما هو لخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما شرع لهم من الطلاق، فلما فعلوا ما نُهُوا عنه أوجبَ ذلك لهم ضررًا في دينهم أو دنياهم، فإنهم إن لم يخالفوا أمرًا آخر حصل لهم ضرَرٌ في دنياهم بمفارقة الأهل وخراب البيت وتشتيت الشَّمْل وتفرق الأولاد، وبالمطالبة بالصدقات المتأخرة وفرض النفقات، وغير ذلك من أنواع الشرور الحاصلة بالطلاق في الدنيا، وإن دخلوا فيما نُهُوا عنه من تحليل وغيره حصل لهم ضررٌ في دينهم مع الضرر في الدنيا أيضًا، بالعار بدخولهم فيما نُهُوا عنه من الطلاق البدعي، يوجب لهم الضرر والشر لا محالةَ، فإذا أوقعوه فقيل إنه يقع حَصَلَ هذا الضررُ، فإن الضرر لم ينشا من إيقاع لا وقوعَ معه، وإنما نشأ من إيقاع معهُ وقوع. فإذا قيل: إنه يقع، فالضرر حاصل لم يَزُل، والفساد واقعٌ لم يرتفع، ولم يكن في النهي ما يرفع الفسادَ ويُصلحُ العباد، بل كان أن لا يُنْهَوا عنه ويحرم عليهم أقل لضررهم، فإن الضرر حاصل بوقوعه إذا أوقعوه، لكن إذا كان محرمًا زاد الضرر بالإثم، فيبقون آثمين مضرورين، وفساد النهي عنه حاصل مع أن المنهيَّ عنه من باب العقود، والكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 الذي يقبل الصحة والفساد ليس من باب الأفعال والتأثيرات التي لا يمكن رفعُ موجبها، فإن الطلاق كالنكاح والعتاق والظهار ونحو ذلك مما إذا تكلم به يقع تارةً ولا يقعُ أخرى، ليس وقوعه من لوازم إيقاعِه. والطلاق عند أصحابنا وغيرهم ينقسم إلى صحيح وفاسد، كما قالوا - واللفظ لأبي الخطاب في "الانتصار" - في مسألة المكره: إنه قولٌ حُمِلَ عليه بغير حق فلم يلزمه حكمُه كالإقرار بالطلاق. قال: وهذا لأن لفظ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ، وليس نفوذُه أمرًا محسوسًا لا مردَّ له، فإذا كان محمولاً عليه بالباطل كان مردودًا، لأن الشرع يحكم في الرد والقبول، وقرَّر ذلك. وأما من قال: إن طلاق المكره يقع، كما يقول أبو حنيفة، فإنه يقول مالا يقبل الرفع، كالنكاح والعتاق والخلع، فإنه كالفعل يَنْفُذ مع الإكراه، بخلاف ما يقبل الرفع كالبيع والإجارة والهبة. وعندنا الجميع يقبل الرفع، وإذا كان كذلك فمحرَّمُه يقع فاسدًا. فإن قيل: لو أوقعه سُنيا لغير حاجة؟. قيل: فإن الإنسان أخبرُ بمصلحة نفسِه، فإذا أوقعه على الوجه المشروع لم يمكن أن نقول: ذلك محرَّمٌ عليه. فإن قيل: فأنتم تقولون: الطلاق لغير حاجةٍ محرمٌ أو مكروه وإن كان سُنيا. قيل: هذا كلامٌ مجمل، ولابدّ من تفصيله. قيل: هذا السؤال يَرِدُ على الجمهور الذين قالوا بان الثلاث يحرمُ جمعُها، فإن هؤلاء قالوا: إن الطلاق لغير حاجةٍ محرَّمٌ، والحاجة لا تدعو إلاّ إلى واحدةٍ. ثم لمّا أُورِدَ عليهم هذا السؤال قالوا: العاقل لا يتكلف النكاح والتزام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 المهر وحقوق النكاح ثم يُقدِم على الفراق إلاّ لحاجتِه إليه، إمّا لعدم إرادتِه للمرأة وعدم محبتِه لها؛ أو لعدم حصولِ مقصوده بنكاحهِ بها: لكونها ممتنعةً منه، أو لكونها تكلِّفه ما يضره، أو لكون أهلها يكلفونه ذلك؛ أو لبغضِه لها: إما بُغضًا لصورتها أو لخُلُقها أو لدينها أو لِظلمِها له؛ أو لغير ذلك. فأما مع كونه مريدًا لها إرادةً راجحةً على كراهتها فلا يَقصِد إيقاعَ الطلاق أصلاً. ولهذا لم يقع الطلاقُ إلاّ ممن له قصدٌ صحيح يَقصِد به مصلحتَه، فلم يقع بالمجنون بالاتفاق، وإن كان يتكلم باختياره ويفعل باختياره، فإن البهائم تفعل باختيارها، فكيف المجنون، لكن لمّا تغيَّر عقلُه الذي يُوجب أن لا يُميّز بين قصد ما ينفعه وما يَضُرُّه لم يقع به الطلاقُ باتفاق المَسلمين. وكذلك لا يقع بالنائم والمُبَرسَم ولا بمن زالَ عقلُه بغير فعل محرّم منه كالمغمى عليه، بالاتفاق. ولكن تنازع المسلمون في السكران، والذي نصرناه في غير هذا الموضع (1) أنه لا يقع به أيضًا، كما هو قول أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وعقبة بن عامر، ولم نعلم أنه ثبت عن صحابي خلافُ ذلك صريحًا، وهو قول طوائف من أئمة التابعين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها أئمة من أصحابه، كأبي بكر الخلال وأبي الخطاب وغيرهما، وهو طرد ما ذكرناه من الطلاق إذا كان إنما أبيح للحاجة، وهي جلب منفعةٍ أو دفع مضرَّة، فلم يقع إلاّ ممن له قصد صحيح يَجلِبُ به المنفعةَ ويَدفَعُ به المضرَّةَ، وحينئذٍ فإقدامُه عليه دليلُ الحاجةِ.   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (33/102-109، 38-43،14/115-118) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وأما الهازِلُ فذاك لزمه عند من يقول به، لأنه اتخذ آيات الله هزوًا، كما يلزم الكفر لمن تكلم به مستهزئًا، لأنه اتخذ آيات الله هزوًا، لئلّا يستهزئ أحدٌ بآيات الله. وهذا إذا قيل عوقب به كانت العقوبة تدفع أن يستهزئ أحدٌ بآيات الله، كما أن تكفير المسلم بآيات الله هزوًا يمنع أن يستهزئ أحدٌ بآيات الله، فكان في إيقاع الطلاق به زوال هذه المفسدة، وكان ما حصل له من الضرر ضررًا بمن يستحق هذا الضرر، بخلاف المكرَه وبخلاف السكران، فإن ذنبه هو الشرب، ليس ذنبه إيقاع الطلاق، والشارع لا يعاقبه على الشرب بالتزام ما يمكن أن يتكلم به، ولو كان ذلك لعاقبَه بالقتل، لأن السكران قد يتكلم بالكفر، كما قد يتكلم بالطلاق. وعلى هذا فإذا قالوا: الطلاق لغير حاجةٍ محرَّم أو مكروه، قالوا: إن الطلاق الشرعي مباح مأذون فيه. وهذا معنى قوله: "أبغض الحلال إلى الله الطلاقُ" (1) ، أي أبغض ما أُبيحَ للحاجة وهو محرَّم بَغِيض إلى الله بدونها: الطلاقُ، كما تقول: أبيحت المحرَّمات للمضطر، أي أبيح له عند الضرورة ما كان محرَّمًا بدونها، ليس المراد به أن الشيء في حالٍ واحدةٍ يكون حلالا حرامًا، كذلك الشيء في حالٍ واحدةٍ لا يكون بغيضًا إلى الله مأذونًا فيه من جهته، فإن هذا تناقض. فصل ومما يُبين هذا أن الله إذا كان يُحب شيئًا فإنه يأمر به أمرَ إيجاب   (1) أخرجه أبو داود (2178) وابن ماجه (2018) عن ابن عمر مرفوعًا. وهو ضعيف موصولاً، والمشهور فيه أنه عن محارب مرسلاً. انظر الكلام عليه في "إرواء الغليل" (2040) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 أو استحباب، أمرًا يُيَسر أسبابَه، فإنه ما لا يتم المأمور به إلاّ به فهو مأمور به، وإذا كان يكرهه فهو ينهى عنه نهيَ تحريمٍ أو نهيَ تنزيهٍ، والنكاح في الأصل حسن مأمور به، وأدنى أحوالِه الإباحة، لا ينهى عنه إلاّ لمعارضٍ راجح: كالعجز عن واجباته أو الاشتغال به عما هو أوجبُ منه، كما إذا تعارض الحج المتعيِّنُ والنكاحُ فإنه يُقدّم الحج ونحو ذلك. والطلاق منهي عنه إلاّ لحاجةٍ كما قد عُرِف، فالذي يُناسِب ذلك تيسيرُ حصول النكاح وتشديد حصول الطلاق، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (1) ، فأمر بالتعاون على ما يحب، ونهى عن التعاون على ما يكره. وطائفة من الناس يعكسون الأمر، فتجدهم يشدّدون النكاح ويُصعِّبون صحتَه، فلا يوقعون ما يحبه الله إلاّ بشرائط كثيرة، وكثير منها لا أصل له في الكتاب والسنة، كاشتراطِ بعضهم لفظَينِ معينَينِ، وهو الإنكاح والتزويج؛ واشتراط بعضهم أن يكون ولي المرأة عدلاً؛ واشتراط بعضهم حضورَ شاهدينِ عدلين مبرزينِ؛ واشتراط بعضهم في صحتِه الكفاءةَ في النسب والدين واليسار والصناعة والحرّية؛ واشتراط بعضهم أن يكون القبول عقب التلقظ بالإيجاب. وهذه الشروط ونحوها لا أصل لها، بل الأصول والنصوص تدلُّ على بطلان اشتراطها. ثمَّ إن طائفةً من الناس يشدِّدون في انعقاده، ويُعيدون اللفظ على العاميّ مرتين أو ثلاثًا، ويزيدون على ما ذكره الفقهاء أمورًا من جنس الوسواس الذي يزيدونه في نيات العبادات. ثم الطلاق الذي يبغضه الله لغير حاجة تجدهم سِراعًا إلى وقوعِه، فيُوقِعونَه على المكرَه والسكران والحالف الحانث الناسي والمكره والجاهل وغير هؤلاء.   (1) سورة المائدة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 هذا مع أن الشارع يُضَيق إيقاعَه، فنهى عن إيقاعه في الحيض وفي طهرٍ أصابها فيه، وعن إيقاع الثلاث جملةً، بل أمر أن لا يطلق إلاّ واحدةً في طهرٍ لم يُصِبْها فيه، ولا يُردِفَها بطلاقٍ حتى تقضي العدة إن لم يكن له غرض في رجعتها. وهذا من الشارع تضييق لوقوعه. والنكاح يُشرَع وقتَ حيضِ المرأة ونفاسِها وصومِها واعتكافِها وصومِ الرجلِ واعتكافِه، وإن كان الوطء متعذرًا، ويُشرَع في الأوقات الفاضلة. فالواجب منعُ وقوع ما يُبغِضه الله إلاّ حيث يكون في وقوعه مصلحة راجحة، وتيسيرُ وقوع ما يحبه الله إلاّ إذا كان في وقوعه مفسدة راجحة، وحيث لا تكون مصلحة وقوعِه راجحةً فالأصول تقتضي أنه لا يقع، لأن الشارع لا يُوقع إلاّ ما تكون مصلحته محضة أو راجحةً، وما كان مفسدتُه محضةً أو راجحةً فإنه يَرفعُه ولا يُوقِعه. والله أعلم. (نقلته من خط مصنفه شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله. قُوبل بالأصل بعد نقله منه) . *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فتوى في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 سئل شيخ الإسلام علامة الزمان تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني - قدَّس الله روحَه ونوَّر ضريحَه - عن رجل طلَّق امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة، فهل يقع به واحدة أم ثلاث؟. فأجاب: أما جمع الطلقات الثلاث فمحرَّم عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه واختيار أكثر أصحابه، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي - يعني طلاقَ المدخولِ بها - غير قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (1) . وعلى هذا القول فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة، بأن يفرِّق الطلاق على ثلاثة أطهار، فيطلّقها في كل طهرٍ طلقةً؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة. والثانية: ليس له ذلك، وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك، وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه، كأبي بكر عبد العزيز والقاضي أبي يعلى وأصحابه. والقول الثاني: إن جمع الثلاث ليس بمحرَّم، بل هو ترك الأفضل، وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد، واختارها الخِرقي. واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلَّقها زوجها أبو حفص بن المغيرة   (1) سورة البقرة: 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ثلاثًا، وبأن امرأةَ رفاعة طلَّقها زوجُها ثلاثًا، وبان الملاعن طلق امرأته ثلاثًا ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك (1) . وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة فيه أنه طلقها ثلاثًا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة كانت آخر ثلاثِ تطليقات، لم يطلق ثلاثًا لا هذا ولا هذا. وقول الصحابي "طلَّقَ ثلاثًا" يتناول ما إذا طلَّقها ثلاثًا متفرقات، بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها. وهذا طلاق سنّي واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في معنى الطلاق ثلاثًا. وأما جمعُ الثلاث بكلمةٍ فهذا كان منكرًا عندهم، إنما يقع قليلاً، فلا يجوز حملُ اللفظِ المطلقِ على القليل المنكر دون الكثير المحق، ولا يجوز أن يقال طلق ثلاثًا مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قولٌ بلا دليل، بل بخلاف الدليل. وأما الملاعن فإن طلاقه وَقَع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة، التي تحرم بها المرأة أعظم ما تحرم بالطلقة الثالثة، فكذا مؤكدًا لموجب اللعان. والنزاعُ إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، ولاسيما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فرَّق بينهما، فإن كان قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها فدلَّ على بقاء النكاح. واستدلَّ الأكثرون بأنّ القرآن يدلُّ على أن الله لم يُبِح إلاّ الطلاق الرجعي وإلاّ الطلاق للعدَّة، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) إلى قوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (2) ،   (1) سبق ذكر هذه الأحاديث وكلام المؤلف عليها بتفصيل. (2) سورة الطلاق: 1-2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وهذا إنما يكون في الرجعي. وقوله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) يدل على أنه لا يجوز إردافُ الطلاق الطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها، وإنما أباح الطلاق للعدة، أي لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية أو الثالثة قبل الرجعة بنت على العدة، فلنم تستأنفها باتفاق المسلمين، وإن كان فيه خلاف شاذ عن خِلاس وابن حزم قد بيّنا فساده في موضع آخر. فلم يكن ذلك طلاقًا للعدة. ولأنه قال: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، فخيَّره بين الرجعة وبين أن يدعها حتى تنقضي العدة، فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان، وقد قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) (1) ، فهذا يقتضي أن هذا حال كلّ مطلقة، فلم يشرع إلاّ هذا الطلاق. ثم قال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) أي هذا الطلاق المذكور مرتان، وإذا قيل: سبّح مرتين أو ثلاث مرات، لم يجز أن يقول: "سبحان الله مرتين"، بل لابدّ أن ينطق بالتسبيح مرةً بعد مرة، وكذلك لا يقال: طلق مرتين إلاّ إذا طلق مرةً بعد مرة. فإذا قال: أنت طالقة ثلاثًا أو طلقتين لم يجز أن يقال: طلَّق ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال طلَّق ثلاثَ تطليقاتٍ أو طلقتين، لكن يقال: طلَّق مرةً واحدة. وقال بعد ذلك: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (2) ، فهذه الطلقة الثالثة، فلم يشرعها الله إلاّ بعد الطلاق الرجعي مرتين، وقد   (1) سورة البقرة: 228. (2) سورة البقرة: 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 قال الله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) (1) وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كلَّ طلاق. فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع. ودلائل تحريم الثلاث كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار. وسبب ذلك أن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة، كما ثبت في الصحيح (2) عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن إبليس ينصب عرشَه على البحر، ويَبعثُ سراياه، فأقربهم إليه منزلةَ أعظمهم فتنةَ، فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلتُ به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما زِلْتُ به حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأتِه، فيُدنِيه منه ويلتزمه ويقول: أنت أنت!! ". وقال الله تعالى في ذم السحرة: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) (3) . وفي السنن (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن المختلعات والمنتزعات هنّ المنافقات". وفي السنن (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أيُّما امرأةٍ سألتْ زوجَها الطلاقَ من غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنة". وفي السنن (6) أيضًا: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق".   (1) سورة البقرة: 232. (2) مسلم (2813) . (3) سورة البقرة: 102. (4) النسائي (6/168) وغيره، كما سبق تخريجه فيما مضى. (5) أبو داود (2226) وغيره، كما سبق. (6) أبو داود (2178) وابن ماجه (2018) عن ابن عمر. وسبق الكلام عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ولهذا لم تُبَح إلاّ ثلاثُ مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره. وإذا كان إنما أبيح للحاجة فالحاجةُ تندفع بواحدةٍ، فما زادَ باقٍ على الحظر. والناسُ في الطلاق المحرم هل يقع أم لا؟ على قولين، وأقوالُ الصحابة رضي الله عنهم في جمع الطلقات الثلاث كثير مشهور، رُوِي الوقوع فيها عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعمران بن الحصين وغيرهم؛ وروي عدمُ الوقوع فيها عن أبي بكر وعن عمر سنتين من خلافته وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس و. عن الزبير بن العوَّام وعبد الرحمن بن عوف (1) . قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث في كتاب "الوثائق" له (2) : فطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثًا في كلمةٍ واحدةٍ، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس. وقال: وذلك لأن قوله "ثلاث" لا معنى له، لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله "ثلاث" إذا كان مخبرًا عما مضى، فيقول: طلَّقتُ ثلاث مرات، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجلٍ يقول: قرأتُ سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصحّ، ولو قرأها مرةً واحدة فقال: قرأتُها ثلاث مرات كان كاذبًا. وكذلك لو حلف بالله ثلاثًا يُردد الحلفَ كانت ثلاثة أيمانٍ، وأما لو حلفَ بالله فقال:   (1) سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى. (2) طبع بعنوان "المقنع في علم الشروط"، والنص فيه (ص80-81) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 أحلف بالله ثلاثًا لم يكن حلفُه إلاّ يمينًا واحدة. والطلاق مثله. قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوَّام وعبد الرحمن بن عوف، روينا ذلك كلَّه عن ابن وضّاح. يعني الإمام محمد بن وضّاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة ويحيى بن معين وسحنون ابن سعيد وطبقتهم. قال: وبه قال شيوخُ قرطبة: ابن زنباع شيخ هدًى (1) ، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصرِه، وابن بقيّ بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة. قلت: وقد ذكر التلمساني هذا رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية، حكاه عنه المازري وغيره، ويفتي بذلك أحيانًا الشيخُ أبو البركات ابنُ تيميةَ. وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" وأبو داود وغيرهما (2) عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحد، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد أستعجلوا في أمرٍ كانت فيه أناة، فلو أمضيْناه عليهم، فأمضاه عليهم. وفي رواية: إن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأمضاه عليهم. والذين رَدُّوا هذا الحديث تأولوه بتأويلاتٍ ضعيفة، وكل حديث   (1) كذا في الأصل، وفي المقنع: "شيخ وقتنا هذا". (2) سبق تخريجه فيما مضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألزمَ الثلاثَ بمن أوقعَها جملةً - مثل حديثا روي عن علي، وآخر عن عبادة، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك - فكلّها أحاديث ضعيفة باتفاقِ أهل العلم بالحديث، بل موضوعة. وأقوى ما ردُّوه به أنهم قالوا: ثبت من غير وجه عن ابن عباس أنه أفتى بلزوم الثلاث (1) . وجواب المستدلين أن ابن عباس رُوِي عنه من طريق عكرمة أيضًا أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وموقوفًا على ابن عباس، ولم يثبت خلافُ ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فالمرفوع أن رُكانةَ طلق امرأتَه ثلاثا (2) ، فردَّها عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين عن عكرمة، وهو أثبتُ من رواية عبد الله بن علي بن زيد بن ركانة ونافع بن عجير أنه طلَّقها البتة، وأنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحلفه ما أردتَ إلاّ واحدةً. فإنّ هؤلاء مجاهيل الصفات، لا تُعرَف أحوالُهم ليوافقَها، وقد ضعَّف أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأبو عبيد وابن حزم وغيرُهم حديثهم. قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: حديث ركانة في البتةِ ليس بشيء. وقال أيضًا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلَّقَ امرأتَه البتةَ، لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنّ ركانة طلق امرأته ثلاثًا.   (1) سبق ذكره. (2) سبق الكلام على حديث ركانة عند المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتّة بهذا الحديث الذي فيه أنه طلَّقها ثلاثًا، وقال: أهل المدينة يسمّون من طلَّق ثلاثًا البتة، وهذا يدلّ على ثبوت الحديث عنده. وكذلك ثبتَه غيره من الحفاظ. وقد روى أبو داود هذا الحديث في سننه عن ابن عباس من وجهٍ آخر، كلاهما موافق لحديث طاووس عنه. وأحمد كان يعارض حديث طاووس ب حديث فاطمة بنت قيس أنّ زوجها طلَّقها ثلاثًا ونحوه. وكان أحمد يروي (1) جمعَ الثلاثِ جائزًا، ثم رجعَ عن ذلك، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو رجعي. واستقرَّ مذهبُه على ذلك، وعليه جمهورُ أصحابه. وتبين أن حديث فاطمة إنما كانت ثلاثًا متفرقاتٍ لا مجموعةً. فإذا كان قد ثبت حديثان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ من جمع ثلاثًا لم يلزمْه إلا واحدة، وليس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه أنه لا يلزمه إلاّ واحدة، وعدولُه عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولى، لما تعارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، وكان ذلك يدلّ على النسخ، ثمّ إنه رجع عن المعارضة، وتبيَّن له فسادُ هذا المعارض وأنَّ جمعَ الثلاث لا يجوز، فوجبَ على أصلِه العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، ولكن علل حديث طاووس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذه علة في إحدى الروايتين عنه. وأما ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه فذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لاسيما وقد بيَّن ابنُ عباسٍ عذرَ عمر بن الخطاب في   (1) في الهامش: "لعله يرى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الإلزام، وهو عذرُ ابن عباسٍ أيضًا، وهو أن الناس لمّا تتايعوا فيما حرَّم الله عليهم استحقوا العقوبة على ذلك، فعوقبوا بلزومه، بخلافِ ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مُكثِرين من فعلِ المحرَّم. وهذا كما أنهم أكثروا شربَ الخمر واستخفُّوا بحدّها كان عمر يَضرِب الشاربَ ثمانين ويَنفِي فيها ويَحلِق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكما قاتل عليٌّ رضي الله عنه بعض أهل القبلة، ولم يكن ذلك على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [و] التفريق بين الزوجين هو مما كانوا يُعاقَبون به، إمّا مع بقاء النكاح، وإما بدونه، فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرَّقَ بين الثلاثة الذين تخلَّفوا وبين نسائهم - حتى تاب الله عليهم - من غير طلاق. والمطلِّق ثلاثًا حرمت عليه امرأتُه حتى تنكح زوجًا غيرَه، عقوبةً له ليمتنع عن الطلاق. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه كمالك وأحمد - في إحدى الروايتين - حرَّموا المنكوحة في العدَّة على الناكح أبدًا، لأنه استعجلَ ما أحلَّه الله، فعُوقِب بنقيض قصدِه. والحَكَمانِ لهما عند أكثرِ السلف أن يُفرِّقا بين الزوجين بلا عوضٍ إذا رأيا الزوج متعديًا، لما في ذلك من منعِه من الظلم، ورفع الضرر عن الزوجة، وعلى ذلك دلَّ الكتاب والسنة والآثار، وهو مذهب مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. والمقصود هنا التنبيهُ على مآخذِ الناس، فالذين لا يرون الطلاقَ المحرَّمَ لازمًا يقولون: هذا الأصل الذي عليه الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو أن العقود المحرمة لا تقع لازمة، كالبيع المحرَّم والنكاح المحرَّم والكتابة المحرَّمة. ولهذا أبطلوا نكاحَ الشغار ونكاحَ المحلّل، وأبطلَ مالك وأحمد البيعَ عندَ النداءِ يومَ الجمعة. ولكنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الذين خالفوا قياسَ أصولهم في الطلاق خالفوها لما بلغَهم من الآثار، فلما ثبتَ عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يُلزِمون بذلك إلاّ وذلك مقتضى الشرع. واعتقد طائفة أن لزومَ هذا إجماعٌ، لكونهم لم يعلموا فيه خلافًا، لاسيما وصار القول بذلك معروفًا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق. قال المستدلُّون لهم: أما الشيعة وطائفة من أهل الكلام فيقولون: جامع الثلاث لا يقع به شيء. وهذا القولُ لم يُعرَف عن أحدٍ من السلف، بل قد تقدم الإجماع على نقضه، وإنما الكلام هل يلزمه واحدة أو ثلاث، والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن دفعُه. وليس مع من ألزم بالثلاث وجعل ذلك شرعًا لازمًا للأمة حجةٌ يجبُ اتباعُها، لا من كتابٍ ولا من سنة ولا من إجماع، وإن كان قد احتجَّ بعضُهم بالكتاب، وبعضُهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وبعضهم بالقياس، وقد يحتج بعضهم بحجتين أو أكثر. لكن المنازع تبيَّنَ له أن هذه كلها حجج ضعيفة، وإن كان الكتاب والسنة والاعتبار إنما يدل على عدم اللزوم. وتبيَّن أنه لا إجماعَ في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة من الصحابة تدلُّ على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته شرعًا لازمًا، كما شرع تحريم المرأة بعد الطلقةِ الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزامِ ذلك إذا كَثُر ولم تَنتهِ الناسُ عنه، وقد ذكرت الألفاظ المنقولة عن الصحابة في غير هذا الموضع. والعقوبة إنما تكون لمن علم التحريم وأقدمَ عليه، وأما من لم يعلم التحريم فلا تجوز عقوبتُه. وعامةُ الآثار المنقولة عن الصحابة تدلُّ على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصى الله بإيقاعِها جملةً، فأما من كان متقيًا لله فإن الله يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (1) ، فمن لم يعلم التحريمَ حتى أوقعها، ثمَّ لما علم التحريمَ تابَ والتزمَ أن لا يعود إلى المحرَّم، فهذا لا يستحق أن يُعاقَب. وليس في الأدلة الشرعية - الكتابِ والسنة والإجماع والقياس - ما يوجب لزومَ الثلاث له، ونكاحُه ثابت بيقين، وامرأتُه محرَّمة على الغير بيقينٍ. وفي إلزامه بالثلاث إباحتُها للغير مع علمه، وذريعة إلى نكاحِ التحليل الذي ذمَّه الله ورسولُه. ونكاح التحليل لم يكن ظاهرًا على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه، ولم يُنقَل قَطُّ أنّ امرأةً بعد الطلقة الثالثة أعيدت إلى زوجها بنكاحِ تحليلٍ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهد خلفائه، بل لعنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلِّل والمحلَّل له، ولعنَ آكلَ الربا ومُوكِلَه وكاتبَه وشاهدَه (2) . ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي، لأنّ التحليل الذي كان يُفعَل كان مكتومًا، يَقصِده المحلِّل ويتواطأ عليه هو والمطلِّقُ والمرأةُ ووليُّها، لا يُعلَم قَصدُهم، ولو عُلِمَ لم يَرْضَ أن يُزوِّجَه، فإنه من أعظم المستقبحات والمستنكرات عند الناس. فلما لم يكن على عهدِ عمرَ تحليلٌ، ورأى أنّ في إنفاذِ الثلاث زجرًا لهم عن المحرَّم، فَعَلَ ذلك باجتهادِه رضي الله عنه. أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذُ الثلاث يُفضِي إلى وقوعِ التحليل المحرَّم بالنصّ والإجماع - إجماع الصحابة - والاعتبار، وغيرِ ذلك من المفاسد، لم يَجُزْ أن تزالَ مفَسدة بمفاسدَ أغلظَ منها، بل جَعْلُ الثلاثِ واحدةً في مثل هذه الحال - كما كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر - أولى.   (1) سورة الطلاق: 2-3. (2) سبق تخريج هذا الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يُفتُون بلزوم الثلاث في حالٍ دونَ حالٍ، كما نُقِل عن الصحابة، وهذا إما لكونهم رأوه من باب التعزير الذي يجوز فعلُه بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر، والنفي فيها وحلق الرأس؛ وإما لاختلاف اجتهادهم، فرأوه تارةً لازمًا، وتارةً غيرَ لازم. وبالجملة ف ما شرَعَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره، فإنّه لا نسخَ بعد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا يجوز أن يُظَنَّ بأحدٍ من علماء المسلمين أنه يَقصِد هذا، لاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدين. وإنما يَظُنُّ مثلَ ذلك في الصحابةِ أهلُ الجهلِ والضلالةِ من الرافضة والخوارج، الذين يُكفِّرون بعضَ الخلفاء أو يُفسِّقونه. ولو قُدِّر أنَّ أحدًا فعلَ ذلك لم يُقِرَّه المسلمون على ذلك، فإنّ هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمعَ على مثلِ ذلك. لكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي، فيصيب فيكون له أجران، ويُخطىء فيكون له أجرٌ واحد. وما شرعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرعًا معلَّقًا بسبب، إنما يكون مشروعًا عند وجودِ السبب، كإعطاء المؤلفةِ قلوبُهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة. وبعض الناس ظنَّ أنّ هذا نُسِخَ (1) ، لما روي عن عمر أنه ذكر أنّ الله أعزّ الإسلام وأهله، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلَّفةِ قلوبُهم، فترك ذلك لعدمِ الحاجة إليه، لا لنسخِه. كما لو فُرِض أنه عُدِم في بعض الأوقات ابنُ السبيلِ أو الغارمُ.   (1) انظر تفسير ابن كثير (2/379) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ونحو ذلك متعة الحج، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عنها، وكان ابنُه عبد الله وغيرُه يقولون: لم يُحرِّمها، وإنما قَصَد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دُوَيرةِ أهلِه في غيرِ أشهر الحج، فإن هذه العمرة أفضل من عمرةِ المتمتع والقارن باتفاق الأئمة. حتى أن مذهب أبي حنيفة وأحمد المنصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج، وأفرد الحج في أشهره فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد. ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، وقالوا: إنّ هذا يحرم ولا يجوز، وإنّ ما أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه من الفسخ [كان] خاصًّا لهم. وهذا قول كثير من الفقهاء، كأبي حنيفة ومالك والشافعي. وآخرون من السلف والخلف قالوا: بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يَحُجَّ أحدٌ إلاّ متمتعًا مبتدئًا أو فاسخًا، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه في حجة الوداع. وهذا قول كثير من السلف والخلف، كأحمد بن حنبل وغيرِه من فقهاء الحديث. وعمر لمّا نهى عن المتعة خالفَه غيرُه من الصحابة، كعمران بن الحصين وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعةِ النساء، فإن عليًّا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباسٍ إبَاحةَ متعةِ النساء، فقال له: إنك امرؤٌ تائهٌ، إنّ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرَّم المتعة وحرَّم لحوم الحمر الأهلية عامَ خيبر. فأنكر عليٌّ على ابن عباس إباحةَ لحوم الحمر وإباحةَ متعةِ النساء. فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم، وهو بيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 أن الناس قد أحدثوا ما استحقوا به عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إمّا أن يكون كالنهي عن منع الفسخ، لكون ذلك كان مخصوصًا بالصحابة، وهو باطلٌ، فإن هذا كان على عهد أبي بكر، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاصَ الصحابة بذلك. وبهذا أيضًا تَبطُل دعوى من ظنَّ أن ذلك منسوخ كنسخ متعة النساء. وإنْ قُدِّر أن عمر رأى ذلك لازمًا فهو اجتهادٌ منه، كاجتهاد من اجتهد في المنع من فسخ الحج، لظنّه أن ذلك كان خاصًّا. وهذا قولٌ مرجوحٌ، قد أنكره غيرُ واحدٍ من الصحابة، والحجة الثابتة مع من أنكره. وهكذا الإلزام بالثلاث، من جعلَ قول عمر فيه شرعًا لازمًا، قيل له: فهذا اجتهاد قد نازعه فيه غيرُه من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجبَ ردُّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح. فإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تُفعَل عند الحاجة، وهذا الأمرين بعمر (1) . ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين: من جهة أن العقوبة بذلك هل تُشرَع أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يَرى غيرُه العقوبةَ به، كتحريقِ علي - رضي الله عنه - الزنادقةَ، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس في ذلك. ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقّها، فمن كان من المتقين استحقَّ أن يجعل الله له فَرَجًا ومخرجًا، ولم يستحق العقوبة. ومن لم يعلم أن جمعَ الثلاث محرَّم، ولما علم أنّ ذلك محرم تاب   (1) هكذا العبارة في الأصل، ولعلّ هنا سقطًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 من ذلك، والتزم أن لا يُطلِّق إلاّ طلاقًا سنيا، فنه من المتقين في باب الطلاق. فمثلُ هذا لا يتوجهُ إلزامُه بالثلاث مجموعةً، بل يلزم بواحدةٍ منها. وهذه المسألة من المسائل الكبار، وقد بسطتُ الكلامَ عليها في مواضعَ في نحو مجلدين وأكثر (1) ، وإنما نبهنا عليها تنبيهًا لطيفًا. وعلى هذا الراجحُ لهذا الموقع أن يلتزمَ طلقةً واحدةً، ويُراجع امرأتَه. والله أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وهو حسبنا ونعم الوكيل. (تمت المسألة لله الحمد والمنة يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة سنة 1187. بلغ مقابلةً وتصحيحًا) . ***   (1) لم يصل إلينا أكثر ما كتبه المؤلف في هذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 فصل في الإيلاء من كلام الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه كتبه أخيرًا بقلعةِ دمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. قال شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله: فصل في طلاق الإيلاء قال تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)) (1) . والذي عليه جمهور الصحابة والعلماء أنه لا يقع به الطلاق، حتى تمضي الأربعة، فإما أن يفئ وإما أن يطلق، وإن طلَّق قبل ذلك جاز. وقد قالت طائفة: إن عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة أشهر، فإذا مضت وقعَ به طَلْقَة، وهذا مذهب أبي حنيفة، والأول مذهب الثلاثة، وقولهم هو الصواب كما قد بُين في غير هذا الموضع (2) . لكن المقصود أنه متى طلق فقد قيل: إنه لا يَقَع إلاّ بائنًا لئلّا يملك الرجعة، وقيل: يقع رجعيًّا، وله الرجعة، ثم تُضرَبُ له مدة الإيلاء. وقيل: للإمام أن يطلق عنه إذا امتنع ثلاثًا. وهذه أقوال ضعيفة، والصواب القول الآخر الذي دلَّ عليه القرآن، وهو أنه إذا طَلَّق أو طَلَّق عنه الإمامُ لم يقع إلاّ طلقة رجعية، لأن الله   (1) سورة البقرة: 226-227. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (20/381) ، و"المغني" (11/47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ذكر قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) عقبَ قوله (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) ، فيجب أن تكون هذه المطلقة داخلةً في قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (1) . ولهذا يجب عليها العدة ثلاثة قروء باتفاق العلماء، وإن كان له عنها أربعة أشهر، وهذا يؤيد ما قررناه من أنها جعلت ثلاثة قروء لحقّ الزوج في الرجعة، وإذا كانت هذه المطلقة داخلة في قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) وجبَ أن يكون بعلُها أحق بردِّها في العدة كما بينه القرآن. لكن يقال: إنّ الله خيَّره بين شيئين: بين أن يَفيءَ أو يُطلِّق، وهو تخيير بين إمساك بمعروف أو تسريح بحسان، فإذا طَلّق ثمَّ أراد الرجعةَ فقد قدم على الطلاق، فيكون قَدْ فاءَ بعد الطلاق، وحينئذٍ فعليه أن يطأها عقبَ هذه الرجعة إذا طلبت ذلك، ولا يمكن من الرجعة إلاّ بهذا الشرط، لأن الله خيره بين أن يَفيء فيمسكها بمعروف، وبين أن يُسرِّحها بإحسان، فإذا أراد أن يرتجعها فيمسكها بغير معروفٍ لم يكن له ذلك. ولأن الله إنما جعل الرجعة لمن أراد إصلاحًا بقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) (2) . وإذا لم يكن مقصودُه حسن عشرتها بالوطء لم يكن مريدًا للإصلاح، فلا يمكن من الرجعة. ولأن الله لما خيَّره بين أن يَفيء وبين أن يطلق، فإن طلَّق واستمر على ذلك فقد اختار الطلاق، ولكن الله جعله أحق من غيره في العدة، فإذا ارتجعها كان قد اختار إمساكها، لم يرد استمرارَ الطلاق، وحينئذٍ فيكون كمن لم يطلق، ولو لم يطلق كان عليه أن يطأها إذا لم يختر الطلاق، كذلك هذا. ولأنه لو سوغ أن يرتجع ولا يطأها أربعة أشهر، ثم يطلق ثم   (1) سورة البقرة: 228. (2) سورة البقرة: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 يرتجعها ولا يطأها أربعةً لكان قد جعل له تربّص سنةٍ، وذلك خلاف القرآن، وفيه إضرار عظيم بها، والله أعلم. فصل وهو سبحانه قال: (يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) (1) . والإيلاء هو اليمين، وهو القَسَم، وهو الحَلْف، يقال آلَى وائْتَلَى، كقوله (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) (2) ، ويقال: تألَّى يتألَّى. وهو سبحانه عَدَّاه بحرف "من" فقال: (مِنْ نِسَائِهِمْ) ، وكذلك الاستعمال، كقول عائشة رضي الله عنها: "آلَى من نِسائِه شهرًا" (3) ، وهذا استعمال الناس كافّةً يقولونَ "آلَى من نسائه". فحكى ابن الأنباري (4) عن بعض اللغويين أنه قال: "من" بمعنى في أو على، والتقدير: يَحلِفون على وطء نسائهم، فحذف الوطءَ وأقام النساءَ مقامَه، وقيل: تقديره يولون أي يعتزلون من نسائهم. وكلاهما ضعيف، لأن حروف المعاني لا يقوم بعضُها مقامَ بعضٍ عند البصريين، لأنه لو صرَّح فقال: يحلفون على وطءِ نسائهم، لم يدلَّ على أنه حلفَ لا يطأ، بل هذا يُفهَم منه أنه حلفَ على الفعل، والحذفُ إن لم يكن في الكلام ما يدل عليه كان غيرَ جائز. وأيضًا فإنه يقال: اعتزل امرأتَه، لا يقال: اعتزلَ منها. لكن قوله (يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) كقوله (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ) (5) و (وَالَّذِينَ   (1) سورة البقرة: 226. (2) سورة النور: 22. (3) أخرجه الترمذي (1201) وابن ماجه (2072) من طريق مسروق عن عائشة. وقد روى من طرق أخرى عنها. (4) نقله ابن الجوزي في (زاد المسير) (1/257) . (5) سورة المجادلة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) (1) ، وكلاهما مُضَمَّن معنى الامتناع، فإن المُولي يمتنع باليمين من امرأته، وكذا المظاهر يمتنع بالظهار من امرأته، وكلاهما مقصوده الامتناع والبعد والنفور منها والهربُ منها والتخلُّص منها والفرار منها، فمِنْ هي لابتداء الغاية، ولكن الفعل هنا قد ترك. وإذا قلت: سرتُ من مكة إلى المدينة فالمجرور بمن مبدأ الفعل، كذلك إذا قلت: غَضبتُ من هذا، أو خِفتُ من هذا، أو حَذِرْتُ من هذا، أو فَزِعتُ من هذا ونحو ذلك، كان المجرور هو مبدأ الغاية للفعل المذكور، والمُوْلي والمُظَاهِر هو تاركٌ للمرأة، والمُوْلي ممتنع من وطئها، وإنما يكون بسبب منها، وإن كانت قد تكون مظلومة لكونه يُبغِضُها ويغضب منها وينفر عنها، وإن كانت مظلومة، فبكل حالٍ هو ممتنع منها أي من وطئها، وهو نافر منها. لكنه في الإيلاء هو ممتنع باليمين، وفي الظهار ممتنع بتحريمها لما شبهها بأمه التي تحرم عليه. ولهذا كانوا يَعدُّون هذا وهذا في الجاهلية طلاقًا، إذ لم يكن في شرعهم كفارة يمين ولا كفارة ظهار، فمتى حرَّمها فلا تحرم إلاّ بالطلاق، ومتى ألزمته اليمين تركَ وَطْأهَا، فالزوجة لا تكون ممنوعًا من وطئها، فإذا زال لازمُ النكاح زال. والله سبحانه في البقرة ذكر الأيمان ثم الطلاق، كما أنه في سورتَي التحريم والطلاق ذكر الأيمان ثم الطلاق، وفرق بين الأيمان والطلاق هاهنا وهاهنا، وهو مما يُبين الفرق بين الأيمان والطلاق، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع (2) ، ويُبين أن الحلف بالطلاق من باب الأيمان لا من باب الطلاق، كما أن الحلف بالنذر من باب الأيمان لا   (1) سورة المجادلة: 3. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (33/57 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 من باب النذر، وكذلك الحلف بالكفر من باب الأيمان لا من باب الكفر، وطَرْدُه الحلف بالعتاق والظهار والحرام. وهو سبحانه في سورة المائدة ذكر كفارة الأيمان، وفي سورة التحريم أحال عليها فقال: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) (1) . وأما البقرة فنزلت قبل المائدة، فذكر فيها النهي أن يجعلوا الله عُرضةً لأيمانهم (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) (2) ، فتضمنت النهي عن أن يجعل الحلف بالله مانعًا من فعل الخير، لكن هذا يقتضي في أول الأمر النهيَ عن الحلف على ذلك حين لم تُشرَع الكفارة، فلما شُرِعتِ الكفارةُ صار النهيُ عن جَعْلِ هذه اليمين مانعةً من فعل ما يحبه الله، فإنه إما أن لا يحلف بها فيجعلها مانعةً، وإما أنه إذا حَلَفَ لا يَجعلُ الحلفَ بها مانعًا، فإن الكفارة مشروعة عن اليمين. ولهذا تنوعت عبارات المفسرين للآية، قال أبو الفرج (3) : وفي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها لا تحلفوا بالله أن لا تبرّو ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. هذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن جبير وإبراهيم والضحاك وقتادة والسدّي ومقاتل والفراء وابن قتيبة والزجاج في آخرين. والثاني: أن معناها لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبرُّوهم وتُصلحوا بينهم بالكذب. روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس.   (1) سورة التحريم: 2. (2) سورة البقرة: 224. (3) أي ابن الجوزي في "زاد المسير" (1/254) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 والثالث: لا تكثِروا الحلف بالله وإن كنتم بارّين مصلحين، فإنّ كثرة الحلف ضربٌ من الجرأة عليه. هذا قولُ ابن زيد. قلت: الحلفَ بالله كاذبًا لا يجوز مطلقًا، ولكن هذه الآية لم يقصد بها النهي عن الحلف الكاذب، وأما الإكثار من الحلف به مع الصدق فإنه ليس بمحرَّم، والآية تضمنت نهيًا يوجب التحريم، والحلفُ بالله تعظيمٌ له. وقد حلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مراتٍ متعددة، وأمر الله تعالى بالحلف في ثلاث مواضع، قال تعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) (1) ، وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) (2) ، وقال تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) (3) . وما يُروى عن الله تعالى أنه قال: "لا تحلفوا بي صادقين ولا كاذبين" كلامٌ لا إسنادَ له عن الله تعالى، ليس مما أنزله الله على محمد، ولا نُقِل عن نبي قبله بإسنادٍ يُعرَف. وطائفةٌ من النسّاك يستحبون أن لا يحلف أحدٌ قَط، وينهون عن ذلك، ولكن ليس هذا شرعَ الإسلام. كما أن طائفة يستحبون الصمت مطلقًا حتى عن الكلام الواجب والمستحب، وليس هذا من شرع الإسلام، بل قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (4) . فما كان واجبًا أو مستحبًّا فقوله خيرٌ من السكوت عنه، والسكوتُ عن الواجب   (1) سورة يونس: 53. (2) سورة سبأ: 3. (3) سورة التغابن: 7. (4) أخرجه البخاري (6018،6136،6138،6475) ومسلم (47) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 محرَّم. وما لم يكن خيرًا فهو مأمور بالصمت عنه، فإنه عليه لا له، كما قد بُسِط هذا في مواضع (1) . وفي الحديث المرفوع: "لا تحلفوا إلاّ بالله، ولا تحلفوا إلاّ وأنتم صادقون" (2) . وهذا مبسوط في موضعه. وعامة السلف والخلف على أن المراد بالآية المعنى الأول، وهو أن لا يجعل الحلف بالله مانعًا من فعلِ ما أمر الله به، فإن هذا حرام لا يجوز، لم يبح الله أن يجعل الحلف به مانعًا من فعل ما أمر به، بل ما أمر به هو يحبّه ويرضاه، وهو واجب أو مستحب، والحلفُ به على تركِ ذلك يمين ليست بواجبة ولا مستحبة، فلا يجوز أن يجعل ماليس بطاعةٍ لله مانعًا من طاعة الله. والله تعالى لما أنزل الكفارة جعلَ الكفارة تحلَّةَ اليمين، كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من حلف على يمينٍ فرأى غيرَها خيرًا منها فليأتِ الذي هو خير، وليكفر عن يمينه" (3) . وأما قبل إنزاله الكفارة فآيات البقرة ليس فيها كفارة، فقيل: كان يجوز الحنث بلا كفارة، لكن هذا لم يثبت. وقيل: بل كان منهيًّا عن الحلف، ثم إذا حلف كان عاصيًا قد ورَّطَ نفسَه بين ذَنْبَين، والحنث منهيٌّ عنه، وجَعْلُ اليمين مانعةً من الخيرِ منهيٌّ عنه. ثم إن الله تعالى شرعَ الكفارة، فصار الحالفُ قادرًا على التكفير. وهذه العبارة التي ذكرها أبو الفرج من أن معناها النهي، عن الحلف   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (25/292-294،7/49،22/315) . (2) أخرجه أبو داود (3248) والنسائي (7/5) من حديث أبي هريرة، وهو صحيح. (3) أخرجه مسلم (1650) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 بالله على ترك طاعته، يُناسِب ما كان الأمر عليه قبل الكفارة، وعبارة كثير من المفسرين أن معناها إذا حَلَفْتَ فلا تجعلْ حلفك بالله مانعًا من فعل الطاعة، وهذا يناسب الحال بعد الكفارة، والآية تتناول هذا وهذا. قال كثير من المفسرين - واللفظ للبغوي (1) -: معنى الآية لا تجعلوا الحلفَ بالله سببًا مانعًا لكم من البر والتقوى، يُدعَى أحدُكم إلى صلة رحم أو برً فيقول حلفتُ بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البرّ. وذكر الحديث الذي في الصحيح (2) عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من حَلَفَ بيمينٍ فرأى خيرًا منها فليكفر عن يمينه، وليأتِ الذي هو خير". وروى ابن أبي حاتم وغيرُه (3) ما في تفسير ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) قال: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنعِ الخيرَ. قال ابن أبي حاتم (4) : ورُوي عن مسروق وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي ومجاهد وعطاء والزهري والحسن وعكرمة وطاوس ومكحول ومقاتل بن حيان وقتادة والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسُّدّي نحو ذلك. وقال (5) : حدثنا أبي ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل نا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن عطاء قال:   (1) "معالم التنزيل" (1/200) . وانظر: القرطبي (3/97،98) وابن كثير (1/273) . (2) مسلم (1650) . (3) تفسير ابن أبي حاتم (2/407) والطبري (4/422 تحقيق شاكر) و"السنن الكبرى" للبيهقي (1/33) . (4) "تفسيره" (2/407) . (5) المصدر نفسه (2/406) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 جاء رجل إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! إني نذرتُ إن كلمتُ فلانًا فكل مملوك لي عَتيق لوجه الله، وكل مالٍ لي ستر للبيت، فقالت: لا تجعلْ مملوكيك عتقاء لوجه الله، ولا تجعل مالك سترًا للبيت، فإن الله يقول: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) الآية، قالت: فكفرْ عن يمينك. ورَوى (1) عن السُّدي قال: وأما "تبروا" فالرجل يحلف أن لا يَبرَّ ذا رَحِمِه، فيقول: قد حلفتُ، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذِي رَحِمه، وليبرَّه ولا يُبالِ بيمينه. وعن عبد الكريم الجزري (2) قال في قوله (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) قال: التقوى يحلف ويقول: قد حلفتُ أن لا أعتق ولا أصدق. وعن سعيد بن جبير (3) في قول الله (وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) قال: كان الرجل يريد الصلح بين اثنين، فيُغضِبه أحدُهما أو يتهمه، فيحلف أن لا يتكلم بينهما في الصلح، قال: أن تصلوا القرابة وتتقوا وتصلحوا بين الناس فهو خير من وفاء اليمين في المعصية. قال ابن أبي حاتم (4) : ورُوي عن السُّدي نحو ذلك، وقال: هذا قبل أن تنزل الكفارات. وأما تفسير اللفظ من جهة العربية، فقال الفراء (5) : والمعنى ولا   (1) المصدر نفسه (2/407) . (2) المصدر نفسه (2/407) . (3) المصدر نفسه (2/407) . (4) المصدر نفسه (2/408) . (5) "معاني القرآن" (1/144) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 تجعلوا الله معترضًا لأيمانكم. وقال أبو عبيد (1) : نصبًا لأيمانكم. وقال طائفة- واللفظ للبغوي (2) -: العرضة أصلُها المدُّ (3) والقوة، ومنه قيل للدابة التي تصلح للسفر عرضة لقوتها عليه، ثم قيل لكل ما يصلح لشيء: هو عرضة له، حتى قالوا للمرأة: هي عرضة للنكاح إذا صلحت له. والعرضة كل ما يعترض له فيمتنع عن الشيء. ثم قال: ومعنى الآية لا تجعلوا الحلف بالله سببًا، إلى آخر كلامه المتقدم. قلت: فعلى هذا يكون التقدير لا تجعلوا الله معروضًا لأيمانكم تقصدون الحلف به لئلا تفعلوا الخير، ويكون قوله (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) من تمام ما نُهوا عنه، أي لا تجعلوا الله محلوفًا به لئلا تفعلوا الخير، فتجعلوا ما يجب من تعظيم حقه والحلف به مانعًا لكم من فعل ما يحبه ويرضاه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فإذا قيل: هو عرضة لكذا، أي هو أهل أن يتعرض إليه بكذا، فلا تجعلوه عرضة لليمين أن تبروا وتتقوا، أي كراهة أن تبروا وتتقوا. هذا تقدير البصريين. وتقدير الكوفيين لئلا تبروا وتتقوا وتصلحوا (4) ، أي السبب الداعي لكم إلى أن يكون عرضة لأيمانكم كراهة فعل الخير، فلما كرهتم فعلَ ما يحبه جعلتموه عرضة ليمينكم، لتكون اليمين به مانعةً لكم من فعل ما كرهتموه من الخير، فهذا لا يجوز. وعلى ما قال السُّدِّي المعنى: لا تجعلوا الله معترضًا بينكم وبين   (1) كذا في الأصل و"زاد المسير" (1/253) الذي نقل عنه المؤلف. ولعل الصواب أبو عبيدة، وهذا قوله في "مجاز القرآن" (1/73) . (2) "معالم التنزيل" (1/200) . (3) كذا في الأصل، وعند البغوي: "الشدة". (4) انظر: تفسير القرطبي (3/98) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ما أمر به. لكن لفظ الآية (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) ، ولم يقل "بينكم"، فتضمن العرضة معنى المنع، لأن المعترض بين الشيئين مانع بينهما، ويكون المعنى لا تجعلوا الله مانعًا لكم من البر والتقوى، ويكون (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) منصوبًا (1) بالعرضة. لكن هذا ضعيف في العربية، فإنه قال: (عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) ، فدلَّ على أنه معروض لليمين، وهو فُعْلَة بمعنى المفعول، لا بمعنى الفاعل، وهو المعارض المانع. (آخر ما كتب فيها، والحمد لله وحده. بلغَ مقابلةً بالأصلِ خط المؤلف، ومنه نُقِل. والحمد لله رب العالمين) . ***   (1) في الأصل: "منصوب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فصل في الظهار من كلام شيخ الإسلام، إمام الأئمة الأعلام، تقي الدين، أوحد العلماء العاملين أبي العباس ابن تيمية رحمة الله عليه مما صنفه بقلعة دمشق في محبسه الأخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يَسِّرْ وأعِنْ الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا. فصل في الظِّهار قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)) (1) . وقد عُرِفَ أنها نزلتْ في خولة بنت ثعلبة لما تظاهر منها أوس بن الصامت (2) ، وكان الظهار والإيلاء طلاقًا عندهم، فلما أتتِ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجادلتْه واشتكت إلى الله أنزلَ هذه السورة. وكانت قد قيل لها: إنه   (1) سورة المجادلة: 1-4. (2) أخرجه أحمد (6/410) وأبو داود (2214،2215) عن خولة بنت ثعلبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وقع بكِ الطلاقُ، على ما كانت عادتهم، وذلك أن موجب هذا اللفظ. أنها تحرم عليه أبدًا، لأنه شبَّهها بأمّه يَقصِدُ تحريمها، فمقصوده تحريمها، والتحريم لا يكون إلاّ بزوال الملك بالطلاق، فلهذا كان طلاقًا. والإيلاء هو حلف على أنه لا يَطأها، ولم يكن عندهم لليمين كفارة، فكانت اليمين تمنعه من وطئها، والمرأة لا تكون محرمة الوطء أبدًا، فتقع به الطلاق. فالظهار أوجب تحريمَ وطئها، والإيلاء أوجبَ تحريم وطئها، وكلاهما ينافي موجبَ النكاح، فإن النكاح لا يكون إلاّ مع حلّ الوطء. فلهذا كانوا يرون هذا وهذا طلاقًا، حتى أنزل الله تعالى في الظهار الكفارة الكبرى، والمُوْلي خَيَّره بين أن يَفِيء وبين أن يُطلّق، فإنه إذا فاءَ ورجعَ كان له مخرج بالكفارة، كما قال: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1) ، وقال: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (2) . قال سبحانه: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) (3) ، كما قال في الآية الأخرى: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ) (4) . وهم كانوا يعرفون أنهم ما هنّ أمهاتهم، لكن شبهوهنّ بهنّ، فأقاموا الزوجة مقام الأمّ، وجعلوها مثل الأمّ، فبيَّن الله تعالى بطلانَ هذا التشبيه، وأنّ الأمّ هي التي ولدتْك، والزوجة لم تلد، فامتنع أن تكون أمًّا أو مثل الأمّ.   (1) سورة البقرة: 226. (2) سورة التحريم: 1. (3) سورة المجادلة: 2. (4) سورة الأحزاب: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ثم قال: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) (1) . فالمنكر ضدّ المعروف، والزور الكذب، والكذب يكون في الأخبار، والمنكر هو المكروه المذموم المعيب، وذلك يكون في الأفعال والإنشاءات، كالأمر والنهي وصيغ العقود، كقوله: أنتِ عليَّ كظهر أمّي، تضمنت إنشاءًا وإخبارًا، فكانت منكرًا من القول باعتبار ما فيها من الإنشاء، وكانت زورًا باعتبار ما فيها من الإخبار، فإن كونه يجعل زوجته الحلال التي ما ولدتْه مثل أمّه الحرام التي ولدتْه أمر منكرٌ مكروهٌ بَغيض، تنفر عنه القلوب لما فيه من القبح، وهو زور أيضًا لما فيه من الكذب. فدلَّ القرآن على أن المنكر من القول والزور لا يقع به طلاقٌ، وإن قَصَدَ به الإنسان الطلاق، كما كانوا يقصدون الطلاق بهذا القول. ودلَّ القرآن على أنه ليس كل لفظ يَقصِد به الإنسانُ الطلاقَ يقع به الطلاق، بل لابُدَّ أن يكون ذلك القول ليس منكرًا من القول ولا زورا. فكان في هذا دلالة على مذهب الجمهور من السلف والخلف أن صيغة الحرام لا يقع بها طلاق إذا قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام، فإنّ هذا هو مثل قوله: أنتِ عليَّ كظهرِ أمّي، لكنه هنا صَرَّح بالحكم الذي هو مقصود التشبيه، وهو منكر من القول، حيث جعل الحلال حرامًا، وهو زورٌ أيضا، فإن الحلال لا يكون حرامًا. وقول من قال: إنه طلاق هو شبيه بقولهم في الجاهلية: إنّ الظهار طلاق. بل دَلَّ هذا على أن الحرام لا يكون طلاقًا ولو قُصِدَ به الطلاق، كما أنّ الظهار لا يكون طلاقًا وإن قُصِدَ به الطلاق. وقد نصَّ على ذلك أحمد وغيره.   (1) سورة المجادلة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وللناس هنا ثلاثة أقوال (1) : فذهب بعض المالكية إلى أن الظهار إذا قصد به الطلاق كان طلاقًا كالحرام، وهذا قياس قولهم، لكنه هو قولهم في الجاهلية، وهذا رجوع إلى قول أهل الجاهلية. وذهب طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد إلى أنه إذا قصد بالحرام الطلاق كان طلاقًا، خلاف الظهار. وهؤلاء أرادوا أن يجمعوا بين نصّ الظهار وبين ما اعتقدوه قياسًا في الكنايات، وأنه أيّ لفظٍ قصد به الطلاق وقع، فتناقضوا؛ فإن لفظ الظهار إذا قصد به الطلاق لم يقع، ولا فرقَ بينه وبين لفظ الحرام. فإن قالوا: اللفظ إذا كان صريحًا في حكم، ووجد نفاذًا فيه، لم يجز جَعْلُه كنايةً في غيره. قيل لهم: فهذا يدلُّ على أنه ليس كلُّ ما احتمله اللفظ كان كنايةً فيه، بل لابدّ أن يكون صريحًا في حكمٍ آخر، وحينئذٍ فلِمَ قلتم: إن الحرام ليس بصريح في الظهار كلفظ الظهار؟ وما الفرق بينه وبين لفظ الظهار؟. وأما أحمد فإن نصوصه المتواترة عنه أنه يجعله صريحًا في الظهار، لا يقع به الطلاق ولو نواه به. وأيضًا فإمًا أن يُجعل الظهار كنايةً في الطلاق، وإمّا أن لا يجعل، فمن جعله كنايةً فيه فقد أتى بقولِ أهل الجاهلية الذي أبطله القرآن،   (1) انظر "المغني" (10/397،11/61) ، و"مجموع الفتاوى" (32/295،309؛ 33/74،160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 ومن لم يجعله كنايةَ فإمّا أن يقيس عليه ما كان في معناه فلا يقع به طلاق، وإمّا أن لا يقيس، فإن لم يَقِسْ فإنه يقول: اللفظ إذا كان صريحًا في حكم ووجد نفاذًا لم يكن كنايةً في غيره، وجعلوا هذا هو عمدتهم في الفرق بين الطلاق بالظهار والطلاق بغيره، فيقولون: الظهار صريح في حكم، وقد وجد نفاذًا فيه، فلا يكون كنايةً في الطلاق، بخلاف غيرِه من الألفاظ، مثل لفظ الحرام والخلية والبرية، فإن تلك ليست صريحة في حكم، فلهذا كانت كنايةً في الطلاق. فيقال: هذا الفرق باطل من وجوهٍ: أحدها: أن قول القائل "اللفظ إذا كان صريحًا في حكم ووجد نفاذًا لم يكن كنايةً في غيره" دعوى مجردَّة لم يُقِم عليها دليلاً، ولم يثبِتْها بنص ولا إجماع ولا قياسٍ صحيح. الوجه الثاني: أن يقال: هذه الدعوى باطلة، فإن اللفظ الصريح في حكمِ ليس من شرطه أن لا يكون مستعملاً في غيره، لا مطلقًا ولا مقيدًا، بل ولا يجب أن يكون نصًّا فيه، بل إذا كان ظاهرًا فيه بحيث يكون هو المفهوم عند الإطلاق فهو صريح فيه، وإن كان محتملاً لغيره، وإن كان قد يراد به غيره مع التقييد والقرينة، وحينئذٍ فإذا كان صريحًا في حكمٍ فمعناه أن المفهوم منه عند الإطلاق هو المعنى المقتضي لذلك الحكم. كلفظ التطليق، هو عند الإطلاق يُفهَم منه إيقاع الطلاق، وإن قيل: إنه صريح في المعنى الموجب للحكم فهو صريح في الإيقاع المقتضي للوقوع، وكذلك إن قيل: هو صريح فيهما. وإذا كان هذا معنى الصريح أمكن أن يكون مستعملاً في معنى آخر يريده به المتكلم مع القرينة، وحينئذٍ فلا يكون صريحًا في معنًى مانعًا عن استعماله في معنى آخر، كسائر الألفاظ التي هي ظاهرة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 معنًى وتُستعمل في غيره مع القرينة. الوجه الثالث أن يقال: عامة الألفاظ الصريحة في معنًى وحكم تكون كنايةً في غيره مع وجود النفاذ، كلفظ التطليق، فإنه صريح في الإيقاع إيقاع الطلاق، ثم إذا قال: أنتِ طالقٌ من وثاقٍ، أو من زوجٍ كان قبلي، أو من نكاح قبل هذا، ووصله بهذا لم يقع بها طلاق، وهذا مما لا أعلم فيه نزاعًا، ولو قصد ذلك بقلبه فقال: أنتِ طالق، ومرادُه من وثاق، أو من الجبل الذي كنت مقيدةً به، أو من زوج قبلي، أو منّي قبل هذا النكاح، فإنه لا يقع به الطلاق في الباطن، بل يدين فيما بينه وبين الله. وهل يُقبَل في الحكم؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، فاللفظ صريح، ووجد نفاذًا، ومع هذا كان كنايةً في الطلاق من الوثاق. وفي حديث فيروز الديلمي (1) لما خيَّره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين زوجتيه، وكان قد جمع بين الأختين، قال: فعمدتُ إلى إحداهما، فطلقتُها. أراد بتطليقها إرسالها وتسريحها، وإلاّ فإحداهما قد حَرُمتْ عليه، لا تحتاج إلى طلاق. وهذه الفرقة عند الشافعي وأحمد وغيرهما فسخٌ لا طلاق، وقد سماها طلاقًا. وكذلك لو قال في الخلع: هي طالق تالق، كان خلعًا موجبًا للبينونة، لأنه قيَّده بالعوض، فتكون فرقةً بائنةً، كما لو كان بغير لفظ الطلاق في أحد قولي العلماء، كما قد بُسط في موضعه.   (1) أخرجه أحمد (4/232) وأبو داود (2243) والترمذي (1129،1130) وابن ماجه (1951) من حديث الضحاك بن فيروز عن أبيه. وانظر الكلام عليه عند المؤلف في "مجموع الفتاوى" (32/317-319) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وكذلك لفظ الحرية الذي يقولون: إنه صريح في العتق، من نوى به أنه عفيف غير فاجر، لم يقع به العتق، بل يقبل منه، لاسيما عند القرينة، كما لو قيل له: ما حالُ مملوكك هذا؟ وكيف دينُه وخُلقُه؟ فقال: هو حُرٌّ. فهذه القرينة تبين أنه أراد أنه عفيف، لم يُرِد إعتاقَه، فلا يعتق، وإن قيل: هو صريح وقد وجد نفاذًا. وكذلك لفظ النكاح والتزويج، هما صريح في العقد، ثم إذا قال: أنكحت أو زوجتك فلانةً، ومع هذا فهو محتمل للخبر عن عقدٍ ماضٍ. وكذلك سائر صيغ العقود، إذا نوى ذلك كان محتملاً، وإن كانت القرينة تدلُّ على ذلك قُبِل منه. وأيضًا فلو قيل: زوجْتك بهذه، فهو محتمل قَرَنْتك بها، كما في قوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً) (1) . وهذا يراد باللفظ مع ما يدل على ذلك، كما لو جمع بين الصغار بين كل صغير وصغيرة في موضع قيل: زَوَّجْ هذه بهذا وهذه بهذا، أي اقرِنْها به. وقد يقال: أنكحتك فلانة، بمعنى مكَنتك من سَبْيها وأخذها، كما قال الشاعر: ومن أيّمٍ قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عم وخال (2) وكذلك لفظ الوقف، يراد به تحبيس الأصل، وقد يقال: وقفتُ هذا، أي وقفتُه في السوق لأبيعه. وكذلك ألفاظ الإيلاء، إذا قال: والله لا وَطِئت، فقد يراد: لا وَطِئتُك برجلي، ولو أراد ذلك لم يكن مُوليًا في الباطن، وفي قبوله في الحكم نزاع.   (1) سورة الشورى: 50. (2) كذا في الأصل، والشطر الثاني ناقص. ولم أجد البيت في المصادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 فعامة الألفاظ الصريحة تكون كنايةً في معنًى آخر، مع كون المحل قابلاً لمعنى الصريح. فعُلِم أن هذه الدعوى باطلة، وإنما ذكرت في الظهار ليفرّق بها، وليس هو فرقًا صحيحًا. الوجه الرابع: أنه لو سُلِّم أن الأمر كذلك، فلا ريب أن لفظ الظهار كان في عرفهم يراد به الطلاق، أو يحتمل أن يراد به الطلاق، فكان صريحًا في الطلاق أو كنايةً فيه، والأرجح أنه كان صريحًا فيه، فإنه إذا كان ظاهرًا أوقعوا به الطلاق، ولم يسألوه عن نيته، فإنّ مقتضاه تحريم الوطء على التأبيد، والزوجة لا تكون كذلك، وسواء كان صريحًا أو كناية فالشارع أبطلَ إيقاعَ الطلاق به. وإن قصدوه دون غيره من ألفاظ الصرائح والكنايات، فلابّد من فرقٍ بينه وبين غيره لأجلِه فرق الشارع بينهما، وإلاّ فلِمَ أَبطل وقوع الطلاق بهذا اللفظ دون غيره من الألفاظ المحتملة؟ ولِمَ جَعل له حكمًا آخر غيرَ وقوع الطلاق؟ فذلك المعنى إن كان مختصًّا بهذا اللفظ، وإلاّ قِيْسَ به ما كان في معناه، ومعلومٌ أن قوله "أنتِ عليَّ حرام" في معنى "أنتِ عليَّ كظهر أمّي"، فيجب أن يقاس به. فإن قال هؤلاء: نحن نقيسُ به لفظ التحريم، لأنه في معناه. قيل: وإن كان هذا في معناه، فالشارع إنما علل بكونه منكرًا من القول وزورًا، فيجب أن لا يقع الطلاق بقولٍ منكر ولا بقولٍ زور، وإن كان صاحبه قصد الطلاق. وهذا يقتضي أن لا يقع الطلاق بلفظ محرم. والمطلّق في الحيض مطلِّقٌ بلفظ محرم، وهو منكر من القول، فيجب أن لا يقع به الطلاق، وكذلك المطلِّق ثلاثًا بكلمة أو كلماتٍ بدون رجعةٍ أو عقدٍ قد أتَى بمنكرٍ من القول، فيجب أن لا يقع به، وكلاهما أتى بزورٍ، فإن الزور الكذب، وكلاهما اعتقد أنه يملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ما أوقعه، وذلك زور وكذب، فلم يُملِّكْه الله إلاّ الطلاق المباح، وأما الحرام فلم يُملّكه إياه. وفي الآية سؤال، وهو أن الله قال: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) (1) ، كما قال في الآية الأخرى: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ) (2) . والمتظاهر ما قال: إنّ زوجته أمُّه، لكنه شبَّهها بها، وهو لم يقل: "ما هن مثل أمهاتهم"، بل قال: "ما هن أمهاتهم". فيقال: المتظاهر مقصودُه تحريم الوطء، وقوله "أنتِ عليَّ كظهر أمّي" معناه: وطؤك مثل وطء أمي، فمقصوده تشبيه الوطء بالوطء، وأن يكون وطؤها مثل وطء أمه، وذلك يقتضي أن تكون حرامًا، ووطؤها لا يكون مثل وطء أمّه إلاّ إذا كانت من جنس أمّه، وإلاّ فإذا تباينت الحقائق تباينت أحكامها، فكان موجب قولهم أن تكون الأزواج من جنس الأمهات، كما تكون أمُّ الأب والأمِّ من جنس الأمّ في التحريم والمحرَّمِيَّة، فبيَّن الله تعالى أن هذَا الجنس ما هو هذا الجنس، بل جنس آخر، فقال: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) ، وقال (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ) ، كما قال (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ) (3) . وهم لم يكونوا يقولون: هو مولود منه، بل جعلوه من جنس المولود، فجعلوا حكمه حكم المولود منه الذي هو الابن، فقال تعالى: هذا ما هو من جنس الابن، فلا يكون حاله حالَه.   (1) سورة المجادلة: 2. (2) سورة الأحزاب: 4. (3) سورة الأحزاب: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 والمعقول من الكتاب والسنة أنه إذا كان إنما لم يقع به الطلاق لأنه منكر من القول وزور، فكل قولٍ هو منكر أو زور لا يقع به طلاقٌ، والطلاق المحرم منكرٌ من القول، لأنه محرَّم، وكل محرَّم منكر، وكونُه منكرًا يوجب أن لا يترتب أثره عليه. وقد يقال: هو زور، لكونه اعتقد أنه يملك إيقاعَه، وهو كاذب في هذا الاعتقاد، فإنّ الله لم يُملّك أحدًا ما هو محرَّم، فكل قولٍ أو فعلٍ محرم فإن الله نهى عنه، ولم يأذن فيه، ولم يجعل العبد مالكًا له. والظهار لما كان محرمًا لم يملك أحد أن يظاهر، ولم يُبحْه، وإذا ظاهر لم يترتب على الظهار موجبه، وهو التحريم الموجب لزوال الملك ووقوع الطلاق، كما كانوا عليه في الجاهلية، بل جعل عليه كفارةً إذا اختار بقاءَ امرأتِه ووطئها، لكونه حرَّمها، وهو قد فرضَ التَّحِلَّةَ، وإن اختار أن يفارقها ويطلّقها فقد أنشأ طلاقًا شرعيًّا مباحًا، وذلك له، ولا كفارة عليه، بل عليه أن يستغفر الله من الظهار، فإنه ذنب. والكفارة لا تجب بكل ذنب، كما لو حرَّم الحلال بيمين أو غير يمين فإنه منهيٌّ عن ذلك بقوله: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) (1) ، وقوله: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) (2) ، ومع هذا فلا كفارة عليه إلا إذا عاد فاستحل ما حرَّمه، دون ما إذا اجتنبه، وذلك أنه إذا اجتنبه وطلَّق المرأة، ففي هذا من الحرج والضرر عليه ما يشبه جزاء ذلك الذنب، فلابدّ من التكفير أو اجتناب ما حرَّمه، وهو في المرأة بطلاقها،   (1) سورة المائدة: 87. (2) سورة التحريم: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وكانوا قبل أن يشرع الله الكفارة يتعين اجتناب ما حرَّموه، لا يباح بكفارة. وهذا الذي ذكرناه من أن الكفارة لا تجب إلاّ إذا عاد، هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف (1) ، وحُكِيَ عن طائفة أن الكفارة تجب بمجرد الظهار، حكي ذلك عن مجاهد والثوري. قال الحاكي عنهما: والمراد من العود هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار. وهذا القول في تفسير العَوْد هو معروف عن ابن قتيبة، فإنه لما أنكر على من قال: إنه لا يقع بلفظ واحد، قال (2) : وإنما تأويل الآية أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلافَ حكمه عندهم في الجاهلية، وأنزل قوله: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) يريد في الجاهلية (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) في الإسلام، أي يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام. وهذا كما قد قيل في قوله في الصيد: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) أي في الجاهلية، (وَمَنْ عَادَ) أي في الإسلام (فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) (3) . قلت: وهذا قول ضعيف، فإنه قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) ، فلابدّ من عَوْدٍ بعد الظهار، والعود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية هو نفس الظهار.   (1) انظر تفسير الطبري (28/6-8) وابن عطية (15/438-440) ، و"زاد المسير" (8/183-185) ، والقرطبي (17/280-281) ، وابن كثير (4/344) . (2) "تفسير غريب القرآن" ص456-457. (3) سورة المائدة: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وأيضا فأوَّل ظهار كان في الإسلام أنزلَ الله فيه هذه الآية، ولم يكونوا بعدُ قد نُهُوا عن الظهار حتى يقال: إنه كان عائدًا إلى ما نُهُوا عنه. وأيضا فليس من شرط ثبوت الظهار أن يكون قد تظاهر من امرأته في الجاهلية، ولو كان ما ذكروه صحيحًا لم يثبت إلاّ فيمن تظاهر منها في الجاهلية، ثم عاد إلى ذلك في الإسلام. وهذا معلوم البطلان باتفاق المسلمين. وأيضًا فأوس بن الصامت لم يكن قد تظاهر من امرأته قبل ذلك، ولو كان قد تظاهر منها لكان ذلك طلاقًا عندهم. وأيضا فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسألْه هل تظاهرتَ منها قبلَ هذا. وأيضا هو لم يقل: "والذين تظاهروا منكم" بصيغة الماضي، بل قال: "يظاهرون"، وهذا يتناول الحالف بالاتفاق. وقريب من هذا القول قول الشافعي: إنه إذا أمسكها عقبَ الظهار زمانًا يتَّسِع للطلاق ولم يطلّقها فيه لزمتْه الكفارة. والعَود عنده هو مجرد إمساكها هذا الزمنَ اليسيرَ بلا طلاق، فن طلَّقها عقبَ الظهار، أو مات أحدهما عقبَ الظهار، فلا كفارة. وهذا القول لم يُنقَل عن أحدٍ من السلف، وهو ضعيف أيضًا، فإنه قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) ، و"ثم" توجب الترتيب، وتقتضي المهلة، فلابدّ أن يَحصلَ بعد الظهار عَوْدٌ مرتب عليه في زمانٍ متمهّلٍ فيه، ولو كان العود لا يكون إلاّ عقبَ الظهار لقال: "فيعودون إلى ما قالوا". وأيضًا فإن العود يقتضي إنشاءَ فعلٍ أو كلامٍ، ومجرّدُ الإمساك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 تركٌ محضٌ، واستصحابٌ لحالٍ، وهذا لا يُسَمَّى عودًا. وأيضًا فإن الطلاق عقبَ الظهار قد يكون محرمًا، لكونه ليس زمنَ طُهْرٍ لم يجامعْها فيه، بل قد تكون المرأة حائضًا، أو موطوءةً في الطهر، فلا يحل له طلاقها، ولا له غرضٌ في إمساكها، بل هو يختار طلاقها، لكن الشرع أمره أن يؤخر الطلاق إلى طهرٍ لم يجامعها فيه، فكيف يكون هذا مختارًا لها عائدًا إلى ما قال؟ مع كمال بغضه وكراهته لها. وأيضًا فن طلَّقها طلاقًا رجعيًّا فهي زوجه، ترثه ويرثها، وذلك لا ينافي بقاء النكاح، وإن طلَّقها غيرَ رجعي فذلك منهي عنه، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة. وأيضًا فقد يَقِفُ مترددًا هل يمسكها أو يفارقها؟ فكيف يجعل عائدًا بمجرد ترك الطلاق؟. وصاحب هذا القول إنما قاله لما رأى قول من قال هو الوطء أو العزم عليه، فيه إشكالٌ، ورأى أن الظهار اقتضى خروجها من ملكه، فإن طلَّقها فقد أنفذ موجبه، وإن لم يطلقها فقد ناقض موجب الظهار، فقد عاد إلى ما قال. وليس كذلك، فقد يكون في زمن التردد والتطويل يعود أو يطلق، وإنما يكون عائدًا إذا أتى بخصيصة النكاح، وهي الوطء. والذي عليه عامة السلف والفقهاء أنّ العود هو الوطء أو العزم عليه، وجمهور السلف قالوا: هو الوطء، كذلك قال طاوس والحسن والزهري وقتادة، وهو قول أحمد وغيره. وقالت طائفة: هو العزم على الوطء، كما يحكى عن أبي حنيفة ومالك وطائفة من أصحاب أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وسبب النزاع في ذلك أنّ عليه إخراج الكفارة قبل الوطء بنصّ القرآن، قال تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) . وأما قول من قال: هو تكرير لفظ الظهار، فهو من أضعف الأقوال أيضًا، فإنّ ذلك مخالفٌ لأصول الشرع، إذ كان القول المحرم تحرم منه المرة الواحدة والمرتان والثلاث، وكلَّما كرَّره كان أعظمَ إثمًا. والأحكام المعلقة به إنما هي معلَّقة بجنسه، كالقذف واليمين الغموس وشهادة الزور، وتحريم الحلال بغير الظهار، إما بصيغة قسم وإما بغير ذلك، وكذلك الكفر والردة، وأمثال ذلك الحكم المعلق بهذه معلّق بجنسها، وإذا غلظ القول وكرَّره تغلَّظ الإثم وتكرر. لكن ليس فيها ما يقال: إنه لا يلزمه بالمرة الواحدة حكم، لكن إن كرَّره لزمه الحكم، وإنما يقال هذا فيمن لزمه الحكم أولاً، أو تاب ورجعِ، ثم عاد إلى ما نهي عنه، فهذا قد يختلف حكمه، فكذلك ما فعله أولاً قبل العلم بالتحريم، أو فعلَه ناسيًا أو مخطئًا، فعفي عنه. فهذا قد يقال فيه: إنه إذا عاد لزمه الحكم، لكون العود ليس من جنس الأول، بل الثاني فعله عالمًا عامدًا. وهذا كما قد اختلف العلماء فيمن تاب من الردّة ثمّ عاد، وهو الذي تكررتْ رِدّتُه، فهذا فيه نزاع (1) ، كما قيل في الصيد: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) (2) ، فهذا عودٌ بعد العفو، قيل (3) : إنه عُفِي عما كان في الجاهلية وقبل التحريم، ومن عاد بعد النهي فينتقم الله منه. وقيل: عفا الله عن أوّلِ مرة بالجزاء، ومن عاد ثانيًا لم يحكم   (1) انظر "المغني" (12/269 وما بعدها) . (2) سورة المائدة: 95. (3) انظر: "زاد المسير" (2/426-427) ، والقرطبي (6/317) ، وابن كثير (2/104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 عليه وقيل له: ينتقم الله منك. وهذا قول ضعيف، والجمهور على أنه يحكم عليه ثانيًا وثالثًا، ومن قال: لا يحكم عليه ثانيًا، قال: لأنه قد تاب من الأول، وعفي عنه بالجزاء. ولم يقل أحد: إن أول مرّةٍ لا حكمَ فيه، كما قيل مثل ذلك في الظهار. وأما إذا تكلم المرتد بالكفر مرة أو مرتين أو ثلاثًا، فإنه يوجب تغليظ الردّة، وهو كالكافر الأصلي، إذا تكلّم بالكفر مرةً بعد مرة لا يقال: إن الأول لا حكم له، وإنما الحكم إذا كرره. وكذلك القاذف إذا قذف مرةً بعد مرة، فالقذف الأول موجبٌ للحدّ، ولكن قد يتنازعون في الثاني هل يدخل في الأول؟ وباب التداخل إذا كان الجميع حقًّا لله، وهي من جنس واحدٍ دخلَ بعضها في بعض، كما لو زنى ثم زنى، أو سرق ثم سرق، ولم يُعاقَب على الأول، فإنه إنما يُقام عليه حدٌّ واحد، لأن الحدّ مشروع في جنس هذا الفعل، فقليله وكثيره في الحد سواءٌ جعل الشارع القطع حدًّا لمن سرق النصابَ أو أضعافَ النصاب. وكذلك حدّ الزنا لمن أولجَ مرةً أو مرَّاتٍ. وأما الشرب فقد قيل: إنه من هذا الباب، وليس كذلك؛ فإن حدّه غير مقدّر، بل من شرب كثيرًا ومرَّاتٍ فإنه يُزاد في عقوبته بحسب الاجتهاد. وهذا بناء على أن الأربعين الزائدة على الأربعين يفعلها الإمام تعزيرًا بحسب الاجتهاد، كما يقوله الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (1) .   (1) انظر "المغني" (12/499) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فهذه أصول الشرع كلُّها تُبيّن أن الجنس المحرم لا يسقط حكم المرة، ويغير الحكم في المرتين، فمدَّعي مثل ذلك في الظهار ادَّعى على الشارع ما هو مخالف لأصوله وقواعدِه ومقاصده المعروفة. وهؤلاء إنما أتوا من لفظ (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) ، ظنّوا أن المراد بذلك أن يُكرِّر قوله الأول، وهذا اللفظ لا يستعمل في مثل هذا المعنى، فلا يقال لمن كرَّر قوله: إنه عاد إلى قوله، إلاّ إذا اختصّ الثاني بمعنًى يقتضي أنه لا يعود، مثل أن يُستتاب من قولٍ ثم يعود إليه، فيقال: عاد إلى قوله؛ لأن التوبة تقتضي رجوعه عنه، فإذا نقضها فقد عاد إلى الذنب. وكذلك إذا نُهِي عن فعلٍ أو قولٍ ثم فعلَه وقاله. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1) ، وقال تعالى في حق بني إسرائيل: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) (2) أي إن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة، وإن عدتم إلى التوبة عدنا إلى الرحمة. فأما من كرّر القول أو الفعل، مثل من يسبّح في الصلاة ثلاثًا أو أكثر من ذلك، أو يستغفر مرات، فإنه لا يقال في المرة الثانية والثالثة: إنه عاد. فهؤلاء غَلِطُوا في فهم القرآن واللغة التي بها نزل القرآن، ولهذا قال الزجاج (3) : هذا قول من لا يدري اللغة. ومثل هذا يقع كثيرًا ممن يدَّعي التمسُّكَ بظاهر القرآن والحديث، وقد غَلِطَ في ذلك، ليس ما ادعاه هو الظاهر الذي دلَّ عليه اللفظ. ولفظ الإعادة والعود حيث استُعمِل لابدّ أن يكون بينه وبين الابتداء   (1) سورة المجادلة: 8. (2) سورة الإسراء: 8. (3) "معاني القرآن وإعرابه" (5/135) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 نوعُ فرقٍ، حتى يتميز المُعَادُ من المبتدأ، فأما إذا كان هو إيَّاه من كل وجهٍ فهذا لا يقال فيه: إنه أعادَهُ، ولا عاد إليه. وقد يقال لمن فعلَ فعلاً وقَطَعه لتعَب أو شغلٍ ونحو ذلك: عُدْ إلى ما كنتَ، وعُدْ إلى حالك، لأن الأول حصل عقبَه فتور تميَّز به عن الثاني، فلو وصل الثاني بالأول لم يُقَل: إنه عاد. فإذا قال: أنتِ على كظهر أمّي، أنتِ على كظهرِ أمّي، أو قال: والله لا أطأكِ، والله لا أطأكِ، لم يُقَلْ: إن قول الثاني عود إلى الأول، بل هو تكريرٌ محضٌ. وأيضًا فالذي قالوه لو كان صحيحًا محتملاً إنما يجب الجزم به إذا كانت ما مصدرية، أي ثم يعودون إلى قولهم، وليس في الآية ما يُوجب ذلك، بل يجوز أن تكون ما موصولة، أي إلى الذي قالوه. وهذا أَظهر، فإن كونها موصولة أكثر في الكلام، ولفظ العود يُستعمل في مثلِ هذا، كقوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1) . وهذا منشأ غلط طائفةٍ من الناس في الآية، فإنهم ظنّوا أن ما مصدرية، وأن المعنى: ثم يعودون لقولهم، ولم يفهموا معنى كونها موصولة. ثم هؤلاء الذين ظَنُّوا أنها مصدرية قالوا أقوالاً كلُّها باطلة، فقال داود ومن وافقه (2) : إن العود تكرير القول. وهذا القول لا يُعرَف عن أحدٍ قبلهم، وقيل: إنه مروي عن بكير بن الأشج. وقال طائفة من أهل العربية ما قاله ابن قتيبة من أن قوله: يتظاهرون في الجاهلية، ثم يعودون إليه في الإسلام. وهو قولٌ فاسدٌ أيضًا.   (1) سورة المجادلة: 8. (2) انظر "المحلى" (10/52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وقال أبو علي الفارسي قولاً ثالثًا، قال: ليس الأمر كما ادّعاه من قال بتكرير اللفظ، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه، وقيل: سُمِّيَتِ الآخرة معادًا، ولم يكن فيها أحدٌ ثم عاد إليها. وقال الهذلي (1) : وعَادَ الفَتَى كالطفلِ ليس بقائلٍ سوى الحق شيئًا واستراحَ العواذِلُ وهذا أيضًا ضعيف من وجوه: أحدها: أن لفظ العود لابُدَّ أن يتضمن رجوعًا عن شيء أو إلى شيء، فقوله "وعاد الفتى كالطفل"، وقوله: .... فعادَا بعدُ أبوالاَ (2) وفي الحديث (3) : "تعاد روحها" هو رجوع عن حالٍ كانوا عليها إلى حال أخرى. فأما الأمر المبتدأ إذا فعله الإنسان فلا يقال: إنه عاد إليه. وأيضًا فما ذكروه إنما هو في لفظ العود مجردًا، فماذا قيل: عاد إلى كذا، ورجع إليه، وعاد فيه، كما قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (4) ، وقال أصحاب الكهف: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ   (1) أبو خراش الهذلي كما في "شرح أشعار الهذليين" (3/1223) . وروايته؟ "كالكهل" و"سوى العدل". (2) تمام البيت: تلك المكارمُ لا قَعبانِ من لبن شِيبا بماء فعادَا بعدُ أبوالاَ وهو لأبي الصلت بن ربيعة الثقفي من قصيدة له، ويروى أيضا للنابغة الجعدي. انظر "سمط اللآلي" (1/281) و"طبقات فحول الشعراء" (1/58،260-262) . (3) أخرجه أحمد (4/287، 288) وأبو داود (4753) عن البراء بن عازب ضمن حديث طويل. (4) سورة المجادلة: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)) (1) . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "العائد في هبته كالعائد في قَيئه" (2) . فهذا ونحوه إنما يُعرَف إذا عاد إلى مثل ما كان عليه أولاً. والمعاد سُمي معادًا لأن الله يعيد الخلق فيه بالنشأة الثانية، كما قال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (3) ، وقال: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (4) ، وقال: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)) (5) . وأيضًا فإنهم يعودون إلى ربهم، كما يقال: إنهم يرجعون إليه ويُردون إليه، كما قد بُسِط هذا في غير هذا الموضع. وأيضًا فهَبْ أن لفظ العود لا يقتضي ذلك، فلابد من تفسير قوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) . وأبو علي لم يذكر معنى الكلام. وقد قيل فيها قولٌ رابعٌ وخامس على أصلِ من يقول: إنها مصدرية، قال الزجاج (6) : المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. فجعلَ اللامَ لامَ كَيْ، لم يَجعَلْها مُعديةً ليعودون. وأضعف منه قول من يقول (7) : هو محمولٌ على التقديم والتأخير، والمعنى: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون، أي يعودون إلى ما كانوا عليه من الجماع، فتحرير رقبة من أجل ما قالوا.   (1) سورة الكهف: 20. (2) أخرجه البخاري (6975 ومواضع أخرى) ومسلم (1622) من حديث ابن عباس. (3) سورة الروم: 27. (4) سورة الأنبياء: 104. (5) سورة الأعراف: 29. (6) "معاني القرآن" (5/135) . (7) هذا منقول عن الأخفش كما في تفسير القرطبي (17/282) ، ولم أجده في "معاني القرآن" له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وهذا فاسدٌ من وجوه: أحدها: أنه لم يقل "فَلِمَا قالوا تحرير رقبة" أو "تحرير رقبة لِمَا قالوا"، بل قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) . ولا يجوز أن يقال: "لِمَا قالوا فتحريرُ رقبة"، فإن الفاء هي جواب الشرط، والشرط هو ما في الاسم الموصول من معنى الشرط، والاسم الموصول أو النكرة الموصوفة - إذا كان في الصلة أو الصفة معنى الشرط - دخلت الفاء في خبر المبتدأ، كقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) (1) ، ومثله قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (2) ، وقوله: (وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا) (3) . ولو دخلت "إن" على المبتدأ ففيه نزاعٌ، والقرآن قد جاء بالفاء في قوله: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) (4) . فقوله (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (5) بمنزلة قوله: "من تظاهر ثم عاد فعليه تحرير رقبة". ولا يجوز أن يقال: "لِمَا عادَ فعليه تحرير رقبة". وأيضًا فتحرير الرقبة لم يَجب لمجرد العود، بل الموجب له الظهار، والعَود شرطٌ، أو الموجب مجموعهما، فقولهم: إن الرقية إنما وجبت لأجل العود فقط غَلَطٌ. وقول الزجاج: ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا،   (1) سورة البقرة: 274. (2) سورة المائدة: 38. (3) سورة النساء: 16. (4) سورة الجمعة: 8. (5) سورة المجادلة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 فاسدٌ أيضًا، فإنهم إذا عادوا مع الظهار وجبت الكفارة، وإن لم يعودوا لأجل ما قالوا. وأيضًا فهم لا يعودون لأجل ما قالوا، بل يعودون لرغبتهم في المرأة لا للقول، بل القوع مانعٌ من العود، فكيف يُجعَل علةَ له وداعيا إليه. وهذه كلها أقوال من لم يَفهم الآيةَ ولا حُكْمَ الشرع، بل ظَنُّوا أن "ما" مصدرية، ولم يفهموا المعنى إذا كانت موصولة. وفيها قول سادس، وهو أنها مصدرية، لكن المصدر بمعنى المفعول، ذكره المهدوي وغيره. والصواب أنها موصولة، كما اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها، وكما في نظائرِها من القرآن، ولبطلان معنى المصدرية، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1) ، وقال تعالى: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)) (2) . وقد أطلق العود في قوله (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (3) ، وفي قوله: (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) (4) ، وفي قوله: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) (5) . والذي قالوه هو المقول، كما في قوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) (6) ، فإنهم بيتوا غير الذي   (1) سورة المجادلة: 8. (2) سورة الأنعام: 28. (3) سورة الأنفال: 38. (4) سورة الأنفال: 19. (5) سورة الإسراء: 8. (6) سورة النساء: 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 أمرهم به وقالوا فيه طاعة، وهو غير المقول، ليس المراد أنهم بيتوا لفظًا غير اللفظ الذي لفظتْ به، فإن هذا لا يضر إذا كان المعنى موافقًا لما قاله. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)) (1) . فقوله "مالا تفعلون" هو مفعول القول، وهو المقول، وهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناه، فكان إخبارهم عن أنفسهم أنهم إذا علموا الأحب فعلوه، ووعدهم بذلك، والمقول هو فعلهم للأحب، وهو الموعود به المخبر عنه، فلامَهم على أن قالوا مقولا هو موعود مُخْبر به ولم يفعلوه، وكان الفعل نفسه هو المقول، فالمقول هو المخبر عنه إن كان القول خبرًا، والمأمور به والمنهي عنه إن كان القول أمرا أو نهيا. فإذا قال: لا أفعل، ثم فعل، فقد عاد لما قال، وإذا قال لأفعلنَّ، ولم يفعل، فلم يفعل ما قال. وهذا هو المعنى المفهوم في مثل هذا اللفظ عند عامة الناس الخاصة والعامة، بل وفي سائر اللغات، فإذا قيل: فلان قد حلفَ أن لا يكلم فلانا، أو قال: لا أكلمه، ثم عاد إلى ما قال، فهموا منه أنه عاد إلى أن يكلمه، لم يفهموا أن ما مصدرية. فصل ومعنى قوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) (2) أي إلى الذي امتنعوا عنه بقولهم، فإن القول إذا كان خبرا فالمقول هو المخبر عنه، وإن كان أمرًا فالمقول هو المأمور به، وإن كان نهيا فالمقول هو المنهي عنه.   (1) سورة الصف: 2-3. (2) سورة المجادلة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 والظهار في معنى المنهي، فن مقصود المظاهر أن يحرم عليه امرأتَه، وينهى نفسه عن اتخاذها زوجةً، فلا يطأها، فمقولُه هو ما نهى عنه نفسَه من اتخاذها زوجةً والاستمتاع بها، فإذا عاد إلى ذلك فقد عاد إلى ما نهى عنه نفسَه، وهو مقولُه، وهذا العود يتضمن رجوعه وندمه، ولفظ العود يدل على ذلك، ولهذا فسَّر ابن عباسٍ العودَ بالندم، فقال: يندمون، يرجعون إلى الألفة (1) . قال الفراء (2) : يقال: عاد فلان لما قال، أي فيما قال، وفي بعض ما قال، يعني رجع عما قال. ولهذا قال الشافعي: إذا أمسكها لحظةً فقد عاد. لكن يقال: مجرد الكف لا يكون عودًا، فإنه قد يكون اعتقد أن الظهار حرَّمها عليه ووقع به الطلاق، فلا يحتاج إلى طلاق ثانٍ، وقد تكون نيته أن يطلقها فيما بعدُ، أو يطلقها إذا جاء وقتُ الطلاق المشروع، وقد يكون مترددًا هل يطلقها أو يمسكها، فمجرد مرور لحظةٍ لا يوجب أن يقال: إنه عاد. وإذا عزمَ على الوطء فليس له أن يطأ حتى يُكفِّر بنص القرآن واتفاق الناس، لكن لو رجع عن هذا العزم، وبدا له أن يطلقها، أو مات أحدهما قبل الوطء، فقد قيل: إنه تستقر عليه الكفارة، لأنه عاد، والصحيح الذي عليه جمهور السلف أن الكفارة لا تستقر إلاّ بالوطء، فأما مجرد العزم فلا يوجب شيئًا، فإن في الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم به أو تعمل به". وهذا عازم على العود، ولم يَعُدْ بعدُ، وإنما   (1) انظر أقوال العلماء في تفسير الطبري (28/7) وابن كثير (4/344) . (2) "معاني القرآن" (3/139) . (3) البخاري (5269،6664) ومسلم (127) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 يكون عائدًا إذا وطئها. فقوله (ثُمَّ يَعُودُونَ) كقوله (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) (1) ، وقوله (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (2) . ومعلومٌ أن المراد إذا عزمتَ. فصل وقال تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) (3) ، ولم يقل: "من قبل أن يتماسا" كما ذكر في الإعتاق والصيام، فلهذا تنازع العلماء هل يجب الإطعام قبل التماسّ كما يجب الإعتاق والصيام، أم يجوز تأخيره؟ على قولين مشهورين (4) ، هما روايتان عن أحمد، والقول بوجوب تقديمه قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين، والآخر يُحكى عن مالك. ومن قال ذلك قال: إن الله أطلق الإطعام، ولم يقيِّده كما قيَّد الصيام، وهما حكمان مختلفان، فيُحمل المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده، بخلاف العتق، فإنه حكم واحد. وفي العتق أيضًا قولان (5) هما روايتان عن أحمد، فالشافعي يشترط الإيمان في رقبة الظهار، وكذلك مالك، وأبو حنيفة لا يشترطه، فصار من الناس من يحمل المطلق على المقيد في الموضعين، ومنهم من يحمله في العتق فقط، لأن الحكم واحد، ومنهم من يحمله في تقديم الكفارة فقط، لأن السبب واحد.   (1) سورة النحل: 98. (2) سورة الطلاق: 1. (3) سورة المجادلة: 4. (4) انظر: "المغني" (11/98) . (5) انظر المصدر السابق (11/81-82) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 والمقصود هنا هو التقديم في الكفارات الثلاث، وهو سبحانه لم يقل في الثلاث: "من قبل أن يتماسا"، لأن فيما تقدم بيان له، كما أنه لم يقل في الصيام: "ذلكم توعظون به"، لأن فيما تقدم بيان له، ولكن ذكر التماس في الصيام، ولم يكتف بذكره في العتق، لأن في الصيام يصوم شهرين متتابعين قبل التماس، فيتأخرّ التماسّ هذه المدة الطويلة، فلو لم يذكره لظنّ الظانّ أنه في العتق وجب التقديم لأن الزمان يسير، يمكنه أن يعتق ثم يطأ تلك الليلة، وأما الصيام فيتأخر الوطء شهرين متتابعين، وفي هذا مشقة عظيمة، فلا يفهم هذا من مجرد تقييده في العتق، فلهذا أعيد ذلك في الصيام. وأما الإطعام فمعلوم أنه دون الإعتاق ودون الصيام، وقد جعل بدلاً عنه، فإذا كانت الكفارة المتقدمة الفاضلة يجب عليه أن يقدّمها على الوطء، والمرأة محرَّمة قبل التكفير، فلأَن تكون الكفارة المؤخرة المفضولة كذلك بطريق الأولى؛ فإن الظهار أوجب تحريمها إلى التكفير بالكفارة المقدمة، فكيف يبيحها قبل التكفير إذا كفّر بالكفارة المفضولة المؤخرة؟. هذا مما يُعلَم من تنبيه الخطاب وفحواه أن الشارع لا يشرع مثله، فكان إعادة ذكره مما لا يليق ببلاغة القرآن وفصاحته وحسن بيانه، بل نفسُ تحريمها قبل صيامِ الشهرين - وهو الأصل المبْدَل منه - يوجب تحريمها قبل البدل، وهو الإطعام، بطريق الأولى. وتقديم الإطعام على التماس أسهل من تقديم الصيام. وهو في الإعتاق قال: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (1) ، ولم يقل مثل ذلك في الصيام والإطعام، وقد عُلِمَ أنهما كذلك،   (1) سورة المجادلة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وأنهم يوعظون بالصيام والإطعام، كما يوعظون بالإعتاق. والوعظ أمر ونهيٌ بترغيب وترهيب، فهم يوعظون بالتحريم قبل التكفير، أي يُنهَون به ويُزجَرون به عن الظهار، فإن الظهار محرَّم بالنص والإجماع، فإذا علم المتظاهر أن المرأة تحرم عليه إلى أن يكفر، كان ذلك مما يَعِظُه، فينهاه ويزجُره أن يتظاهر منها. وأيضًا فإنه قال بعد ذلك: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) (1) ، والحدود هي الفاصلة بين الحلال والحرام، والحدُّ إمّا آخر الحلال وإما أول الحرام، فلهذا قيل في الأول: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا) (2) ، وقيل في الثاني: (فَلا تَقْرَبُوهَا) (3) . وقد قال بعد ذلك: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) ، فعلم أن هنا محرم له حد، وقوله "وتلك" إشارة إلى ما تقدم كله، فلو كانت لا تحرم إلاّ إذا كانت الكفارة طعامًا لم يكن هنا حد، بل كانت حلالاً كما كانت، فلم يكن هناك حد يُنهَى عن تعدِّيه أو قربانه. وأيضًا فقوله (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) إن كان تقديره: "من قبل أن يتماسا" فقد اتفقت الكفارات، وثبت أنها محرمة قبل التكفير بالأنواع الثلاثة، وإن لم يكن هذا تقديرَه، بل قوله "فإطعام ستين مسكينًا" إيجابٌ للإطعام، لم يُعلَم متى يجب الكفارة بالإطعام، فإنه لم يقل: "فإطعام ستين مسكينًا بعد التماس". فإن قيل: يجب إذا وطئها. قيل: ليس في الآية ما يدل على ذلك، ليس فيها ما يدل على أن   (1) الآية 4. (2) سورة البقرة: 229. (3) سورة البقرة: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الإطعام يجب بعد الوطء لا قبله، بل اللفظ إن كان مطلقًا كما زعموه فلا دلالة له، لا على هذا ولا على هذا. وهذا غلطٌ يُنزَّه القرآن عنه وأيضًا فقوله (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) اقتضى إيجاب الإطعام، وليس في الآية ما يقتضي تأخير الوجوب إلى بعد التماسّ، فيبقى الإيجاب يتناول الحالين، ما قبل التماسّ وما بعده، فهو واجب قبل التماس، فإن لم يفرق الواجب حتّى تماسا فعليه إخراجه بعدَ ذلك. وأيضًا فقوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) مع قوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) دل على أن العود له مبدأٌ وله منتهىً كسائر الأفعال، فمبدؤه إذا عزم عليه، ومنتهاه إذا وطىء. وقوله "ثم يعودون" لم يرد به توقيف الكفارة على تمام العود، فإنه لو أراد ذلك لم تجب الكفارة إلاّ بعد تمام العود، وهو خلاف قوله "من قبل أن يتماسا". بل أراد به أنه يجب إخراجها بعد الشروع في العود بالعزم عليه، قبل إتمامه بالوطء. وإذا كان هذا هو مقتضى قوله "ثم يعودون" مع قوله "من قبل أن يتماسّا"، فهو إنما أوجب التكفير بالإطعام بعد هذا العود، فعُلِم أنه واجب إذا شرع في العود، وإن لم يحصل تمام العود، وإلاّ لزم اختلاف معنى العود في الآية. وأيضًا فالكفارات هي من جنس العبادات، وفيها معنى العقوبات، كما أن الحدود هي عقوبات، وهي أيضًا عبادات، ولهذا قال: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) ، أي تزجرون به، وتُنهَون به، وتعاقبون به، وقد جعل من تمام العقوبة أن تحرم عليه إلى أن يكفّر، فذا قيل: إنها لا تحرم على المكفّر بالإطعام زالت العقوبة الواجبة بالتحريم، لاسيما والتكفير.. (1) .   (1) انتهى ما وُجِد من كلامه في الأصل، وما بعده غير متصل بما قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 بين يدي الكتاب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذه مجموعة ثانية من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية تحتوي على ثلاثةٍ من أهم آثاره، وهي: 1- فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد. 2- قاعدة في الاستحسان. 3- قاعدة في شمول النصوص للأحكام. وقد وصلت إلينا الرسالتان الأولى والثانية بخط الشيخ، أما الثالثة فتوجد منها عدة نسخ كاملة وناقصة، وسيأتي وصفها جميعًا في مواضعها من مقدمات هذه الرسائل. ونظرًا إلى أهمية الموضوعات التي تناولتها هذه الرسائل عُنِيتُ بها عنايةً خاصّةً، فقمتُ بضبطها ومقابلتها على الأصول عدّة مرات، والتعليق عليها بما يفيد في التوثيق والتخريج، والربط بين كلام المؤلف هنا وبين ما هو مبثوث في مواضع أخرى من كتبه وفتاواه، والتنبيه على بعض الأخطاء والتحريفات التي وقعت في نسخِ الرسالة الثالثة والتي شوّهت معالمها، والإشارة إلى ما في أصلي المؤلف للرسالتين من العبارات التي قد تُشكِل أو تُستَغْرَب، ومحاولة توجيهها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وقد قدَّمتُ لكل رسالة بمقدمة مستقلة، قصت فيها بتوثيق نسبتها إلى المؤلف، ووصف النسخ الخطية، ودراسة الموضوعات التي تناولتها، وبيان منهج المؤلف فيها. وتوسعت في الحديث عن بعض القضايا وبيان موقف شيخ الإسلام منها، والردّ على بعض الشبه التي أثيرت قديمًا وحديثاً. وقد طبعت "قاعدة في الاستحسان" من قبل بصورة مفردة، ثم رأيتُ أن تُنشر ضمن هذه المجموعة. وأرجو أنني قد وُفِّقت في تقديم هذه الرسائل التي تضيف الجديد المفيد إلى عالم المطبوعات، والطريف المثير إلى عالم الفكر. وأدعو الله أن يجعلها نافعة للعلماء والطلاب وعامة الناس، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. محمد عزير شمس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا أثر من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية بخطه، ينشر لأول مرة بعد سبعة قرون من كتابته، يتناول فكرة القطب والأبدال والأوتاد، التي شاعت لدى الصوفية وعامة الناس منذ القرن الرابع تحت تأثير بعض الثقافات الوافدة إلى المجتمع الإسلامي، واستنادًا إلى بعض الأحاديث الباطلة الموضوعة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى جاء كبير الصوفية وفيلسوفهم في عصره ابن عربي المتوفى سنة 638، فوضع نظامًا للأولياء ورجال الغيب، وجعلهم في مراتب ودرجات، وحدَّد لكل مرتبةٍ عددًا معينًا منهم، وخصَّهم ببعض العلوم والصفات والوظائف. وتبعه من جاء بعده من الصوفية، بل زادوا عليه أشياء من خيالاتهم وأوهامهم، فتحدثوا عن مملكة وهمية يجتمع فيها رجال الغيب ويصدرون قراراتهم، ويقررون كل ما يجري في العالم!! لقد كان لهذه الفكرة آثار سيئة في المجتمع الإسلامي، حيث تعلق كثير من الناس بالغوث والقطب والأبدال والأوتاد، وظنّوا أن الشدّة إذا نزلت بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة، وادعى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 بعضهم أن مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان يكون من جهته، وبواسطته يفيض الخير إلى سائر الخلق، وأنه يعطي الملك وولاية الله لمن يشاء ويَصرِفهما عمن يشاء، إلى غير ذلك من الدعاوي الباطلة التي تجعل للقطب والغوث نوعًا من الألوهية والربوبية، وهي من أعظم الكذب والمحال والشرك والضلال والإلحاد. ومن الغريب أن كثيرًا من العلماء المتأخرين تأثروا بمقولات الصوفية في هذا الباب، ووافقوهم في الغالب، ونقلوا هذه الخرافات إلى مؤلفاتهم في التفسير والحديث والعقيدة والسيرة والأخلاق والفتاوى والأدب واللغة والتاريخ والتراجم بدون النكير عليها، بل ألّف بعضهم رسائل مستقلة لتأييدها. ونظراً لخطورة هذه الفكرة وما في شيوعها وانتشارها من ضرر على العامة والخاصة في عقيدتهم، قام بعض العلماء لمناقشتها والردّ عليها، وبيان ما فيها من مخالفة للعقل والشرع، ونقد الأحاديث التي يحتج بها الصوفية. وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية أقواهم كلامًا في الباب، وأوسعهم ردًّا على هذه الفكرة، وقد كتب كتاباتٍ عديدة في هذا الموضوع يأتي بيانها (ص 39- 49) ، أطولُها هذه الفتوى التي أنشرها اليوم. وأقدم لهذه الفتوى ببعض الفصول التي تعتبر شرحًا لهذه الفكرة عند الصوفية، وبيانًا لمصدرها، وأثرها في المجتمع الإسلامي، ودرجة الأحاديث التي يستندون إليها، واستعراضًا لمن نقد هذه الفكرة، وإبرازاً لموقف شيخ الإسلام منها في ضوء كتاباته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وتحليلاً لمحتويات هذه الفتوى، ووصفًا لنسختها الخطية. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. • فكرة القطب والأبدال عند الصوفية لم تكن فكرة القطب والأبدال (كما ذكرها الصوفية) موجودة في القرون الثلاثة الأولى، فلا أساس لها في الكتاب والسنة، ولم يذكرها السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولم يعتقدوها كما تعتقد الصوفية. وبعد استعراض مجموعة من المصادر توصلتُ إلى أن أقدم مَن يُنقل عنه عدد الأولياء ورجال الغيب وذكر مساكنهم هو أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتّاني (ت 322) أحد مشايخ الصوفية، فقد قال -كما نُقِل عنه-: "النقباء ثلاث مائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعُمدُ أربعة، والغوث واحد. فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعُمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة. فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العُمدُ، ثمّ أجيبوا، وإلاّ ابتهل الغوث، فَلاَ يُتِمُّ مسألته حتى تُجاب دعوته" (1) .   (1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/75- 76) بإسناده إليه. وفيه علي بن عبد الله بن جهضم، متهم بالكذب، كما في (الميزان) (3/143) و (اللسان) (4/238) . ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/300) من طريق الخطيب، وكذا نقلت عنه المصادر المتأخرة، مثل "المقاصد الحسنة" ص 10 و"الخبر الدال" (2/255) وغيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 أما أبو طالب المكي (ت 386) فيعبّر عنها بقوله: "القطب اليوم الذي هو إمام الأثافي الثلاثة والأوتاد السبعة والأبدال الأربعين والسبعين إلى ثلاث مائة كلهم في ميزانه وإيمان جميعهم كإيمانه، إنما هو بدلٌ من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والأثافي الثلاثة بعده إنما هم أبدال الثلاثة الخلفاء بعده، والسبعة هم أبدال السبعة إلى العشرة، ثم الأبدال الثلاث مائة وثلاثة عشر إنما هم أبدال البدريين من الأنصار والمهاجرين" (1) . نلاحظ هنا أن أبا طالب ذكر "الأثافي الثلاثة" مكان "العمد الأربعة"، و"الأوتاد" مكان "الأخيار"، والأربعين والسبعين وثلاث مائة جعلهم كلهم "أبدالاً"، ولم يقسمهم إلى "بدلاء" و"نجباء" و"نقباء". ويأتي الهجويرى (ت465) بعدهما، فيقول: "أهل الحل والعقد وقادة حضرة الحق جلَّ جلاله، فثلاث مائة يُدْعَون الأخيار، وأربعون آخرون يُسَمَّون الأبدال، وسبعة آخرون يقال لهم الأبرار، وأربعة يسمون الأوتاد، وثلاثة آخرون يقال لهم النقباء، وواحد يسمى القطب والغوث. وهؤلاء جميعًا يعرفون أحدهم الآخر، ويحتاجون في الأمور لإذن بعضهم البعض" (2) . وذكر ابن عربي أن المجمع عليه من أهل الطريق أنهم على   (1) "قوت القلوب" (2/78) . (2) "كشف المحجوب " (الترجمة العربية) ص 447، 448. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 ستّ طبقات أمهات: أقطاب وأئمة وأوتاد وأبدال ونقباء ونجباء (1) . وجعلهم لسان الدين ابن الخطيب سبع طبقات (2) . وأوصلهم داود القيصري (3) وحسن العِدْوى الحمزاوي (4) إلى عشر. وهكذا نجد أن الصوفية في مختلف العصور زادوا ونقصوا في هذه الألقاب والمراتب، وأسهم كلّ واحد منهم في وضع هذا النظام وإقامة أسسه بما لديه من تصورات وخيالات، وبينهم خلاف كبير في تعداد الملقبين بلقب معين. • معاني هذه الألقاب نأتي الآن إلى معاني هذه الألقاب ووظائف أصحابها وصفاتهم عند الصوفية، وأول من تحدث عنها بتفصيل هو ابن عربي، وتبعه من جاء بعده من المؤلفين في التصوف والمصطلحات الصوفية، وقد جمع عبد الوهاب الشعراني في "اليواقيت والجواهر" (2/79- 83) أقوال ابن عربي من "الفتوحات المكية"، وأقوال غيره من مصادر مختلفة في هذا الموضوع. وسنعرِض هنا باختصار بعض ما قالوه بالاعتماد على المصادر القديمة المعتمدة لديهم. (1) أما القطب فهو -عند الصوفية- عبارة عن الواحد الذي هو   (1) "الفتوحات المكية" (2/40) . وفي موضع آخر منه (3/244) جعلهم ثماني طبقات، بزيادة "الرجبيين" و"الأفراد". (2) "روضة التعريف بالحب الشريف" (ص 432) . وكذا جعلهم عمر الفوتي سبعاً في "الرماح" (1/21) مع اختلاف في الأسماء. (3) "شرح مقدمة التائية الكبرى" (ق 104 ب) . (4) "النفحات الشاذلية" (2/99) . وانظر "جامع الأصول في الأولياء" ص 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 موضع نظر الله من العالم في كل زمان، ويقال له "الغوث " (1) باعتبار التجاء الملهوف إليه. أعطاه الله الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس، لا من حيث إنسانيته (2) . واسم القطب في كل زمان عبد الله وعبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق بمعاني جميع الأسماء الإلهية بحكم الخلافة، وهو مرآة الحق تعالى ومجلى النعوت المقدسة ومحل المظاهر الإلهية وصاحب الوقت وعين الزمان وصاحب علم سر القدر، وله علم دهر الدهور، ومن شأنه أن يكون الغالب عليه الخفاء (3) . ولم يخل زمان من الأقطاب، وقد عدَّ ابن عربي خمسة وعشرين قطباً من عهد آدم عليه السلام إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسمَّاهم (4) . والقطب عند الصوفية نوعان، أحدهما: هو المتمكن في   (1) "الفتوحات المكية" (3/244) . وانظر "اصطلاحات الصوفية" لعبد الرزاق القاشاني ص 141 (ط. كلكتا 1854 م) . (2) "التعريفات" للشريف الجرجاني ص 185- 186 (ط. فلوجل) . وانظر "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي ص 273، و"كشاف اصطلاحات الفنون " للتهانوي ص 1091، 1167. وفيه نصوص من مصادر فارسية أيضًا. (3) "اليواقيت والجواهر" (2/79) . (4) "الفتوحات المكية" (2/362) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 القطبية الصغرى أو الحسية، والآخر: هو المتمكن في القطبية الكبرى أو المعنوية، وهو المعبر عنه بباطن نبوة محمد أو الحقيقة المحمدية (1) . يقول ابن عربي: القطب الواحد الممد لجميع الأنبياء والرسل والأقطاب من حيث النشء الإنساني إلى يوم القيامة هو روح محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) . وهذه القطبية الثانية هي التي عرَّفها الجرجاني فقال: "القطبية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد، فلا يكون خاتم الولاية وقطب الأقطاب إلاّ على باطن خاتم النبوة" (3) . ولمزيد من الشرح ننقل هنا كلام التيجاني حيث قال: "أعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقًا في جميع الوجود جملة وتفصيلاً، حيثما كان الربّ إلهاً كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى، ثمّ قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق، فلا يصل إلى الخلق شىء كائناً ما كان من الحق إلاّ بحكم القطب وتوليه ونيابته عن الحق في ذلك وتوصيله كل قسمة إلى محلّها، ثمّ قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة من ذرات الوجود جملةً وتفصيلا، فترى الكون كلّه أشباحاً لا حركة لها، ْ وإنما هو الروح القائم فيها جملةً   (1) "كشف الوجوه الغر" (2/103) . (2) "الفتوحات المكية" (2/363) . (3) "التعريفات" ص 186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وتفصيلا" (1) . كل من يقرأ هذه التصريحات يقتنع بأن الصوفية يخرجون بالقطب عن نطاق البشرية، ويحلقون به في عالم الربوبية، وقد ذكروا له خمس عشرة علامة (2) ، منها أنه يُكشَف له عن حقيقة الذات الإلهية، ويحيط علماً بصفات الله تعالى، وأن علم القطب لا حدود له، فلا يخفى عليه شيء من الدنيا والآخرة. ويحيط بمعرفة أحكام الشريعة ولو كان أميّاً (3) ، وهو أكمل الخلق وأفضل جماعة المسلمين في كل عصر (4) ، ولا حدود لمرتبته فهو محيط بجميع المراتب (5) ، ويُبصِر بجميع أجزاء بدنه ما عدا العين (6) ، ولا يطيق رؤيته إلاّ الخواص (7) . واشترط بعضهم أن يكون قطب الأقطاب من أهل البيت (8) ، وذكروا أنه يستقر بمكة، وقال آخرون: إنه يدور في الآفاق الأربعة من أركان الدنيا كدوران الفلك في أفق السماء، وهو بجسده حيث شاء من الأرض (9) . ومن وظائفه: التصرف في الكون   (1) "جواهر المعاني (لعلي حرازم برادة (2/89- 90) . (2) "اليواقيت والجواهر" (2/78) . (3) "جواهر المعاني" (2/85) . (4) المصدر نفسه (2/266) ، و"الطبقات الكبرى" للشعراني (2/139) . (5) "جواهر المعاني" (2/106، 107) . (6) "الإبريز" (ص 349) . (7) "الطبقات الكبرى" (2/94) . (8) "روح المعاني" (19/22، 20) . (9) "نشر المحاسن الغالية" (أو "كفاية المعتقد") لليافعي ص 394، و"الفتاوى= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 والتأثير في حوادثه والحكم الشامل التام في جميع المملكة الإلهية (1) ، ووقاية المريدين من السؤال والحساب في الآخرة (2) ، ولا يجري في عالم المخلوقات شىء إلاّ بإذنه حتى ولو كان جريانه في القلوب (3) . نكتفي بهذا القدر في بيان القطب وصفاته ووظائفه عند الصوفية، وننتقل إلى المراتب والألقاب الأخرى. (2) الإمامان: هما اللذان أحدهما عن يمين القطب، ونظره في عالم الملكوت، وهو مرآة ما يتوجه من المركز القطبي إلى العالم الروحاني من الإمدادات التي هي مادة الوجود والبقاء؛ والآخر عن يساره، ونظره في الملك، وهو مرآة ما يتوجه منه إلى المحسوسات من المادة الحيوانية، وهو أعلى من صاحبه، وهو الذي يخلف القطب إذا مات (4) . (3) الأوتاد: هم أربعة في كل وقت لا يزيدون ولا ينقصون، منازلهم على منازل الأربعة الأركان من العالم: شرق وغرب   =الحديثية" للهيتمي ص 322، و"الطبقات الكبرى" للشعراني (2/139) وغيرها. وراجع "منازل القطب" لابن عربي، ص 4. (1) "الفتوحات المكية" (3/257) و"جواهر المعانى" (2/88) . (2) "الإبريز" (ص 338) . (3) "جواهر المعاني" (2/89) . (4) "الفتوحات المكية" (3/244) و"التعريفات " ص 36، و"التوقيف على مهمات التعاريف " ص 60 وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وشمال وجنوب، مع كل واحدٍ منهم مقام تلك الجهة، يحفظ الله بهم العالم، لهم روحانية إلهية وروحانية إلِّية، يحوون على علومٍ جمة كثيرة. ومنهم من هو على قلب آدم، والآخر على قلب إبراهيم، والآخر على قلب عيسى، والآخر على قلب محمد (1) . (4) الأبدال أو البُدَلاء: هم سبعة يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكلِّ بدلٍ إقليم، وإليهم تنظر روحانيات السماوات والأرض (2) . وجعل بعض الصوفية السبعة الأبدال خارجين عن الأوتاد، ومنهم من قال: إن الأوتاد الأربعة من الأبدال، وقالوا: سُمُّوا أبدالاً لكونهم إذا مات واحدٌ منهم كان الآخر بدله، وقيل: سُمُّوا أبدالاً لأنهم أعطُوا من القوة أن يتركوا بدلهم حيث يريدون، لأمر يقوم في نفوسهم على علمٍ منهم، فيرتحلون إلى بلد، ويقيمون فيَّ مَكانهم الأول شبحاً آخر شبيهاً بشبحهم الأصلي بدلاً منه، بحيث إن كلّ من رآه لا يشك أنه هو (3) . (5) النجباء: هم أربعون، مشغولون بحمل أثقال الخلق (وهي من حيث الجملة كل حادث لا تفيء القوة البشرية بحمله) ، وذلك لاختصاصهم بوفور الشفقة والرحمة الفطرية، فلا يتصرفون إلاّ في   (1) "الفتوحات المكية" (2/400، 401) ، و"التعريفات" ص41، و"التوقيف" ص 66؛ و"كشاف اصطلاحات الفنون" ص 1453، 1454. (2) "الفتوحات المكية" (2/376) و"حلية الأبدال" ص 11. (3) انظر المصدر السابق (2/400) ، و"التعريفات" ص 44، و"التوقيف" ص 36؛ "مشتهى الخارف الجاني" ص 510، وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 حق الغير، إذ لا مزيد لهم في ترقياتهم إلا من هذا الباب (1) . وذكر بعضهم أنهم ثمانية في كل زمن لا يزيدون ولا ينقصون، عليهم أعلام القبول في أحوالهم، ويغلب عليهم الحال بغير اختيارهم، أهل علم الصفات الثمانية، ومقامهم الكرسي، لا يتعدونه ما داموا نجباء، ولهم القدم في علم تسيير الكواكب كشفاً واطلاعاً، لا من جهة طريقة علماء هذا الشأن (2) . (6) النقباء: هم ثلاث مائة، وهم الذين تحققوا بالاسم الباطن، فأشرفوا على بواطن الناس، فاستخرجوا خفايا الضمائر، لانكشاف الستائر لهم عن وجوه السرائر. وهم ثلاثة أقسام: نفوس علوية، وهي الحقائق الأمرية، ونفوس سفلية، وهي الخلقية، ونفوس وسطية، وهي الحقائق الإنسانية، وللحق تعالى في كل نفس منها أمانة منطوية على أسرار إلهية وكونية (3) . عرضنا فيما سبق- باختصار- بعض ما عثرنا عليه من النصوص التي تبين تعداد رجال الغيب ومراتبهم وألقابهم وصفاتهم ووظائفهم. وكل من يطلع عليها يستغرب وجودها في المصادر، ولكن هذا هو الأمر الواقع عند الصوفية، وهذه معتقداتهم التي أعلنوا عنها في   (1) انظر: "الفتوحات المكية" (3/244) ، و"التعريفات" ص 259، و"اصطلاحات الشيخ محي الدين ابن عربي" ص 286. (2) "التوقيف " ص 322. (3) "التعريفات" ص 266، "اصطلاحات الصوفية" للقاشاني ص 96، "التوقيف" ص 329. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 مؤلفاتهم بشان الأولياء ورجال الغي ب. • أحاديث الأبدال احتج الصوفية ومن تابعهم لهذه الفكرة بالأحاديث التي ورد فيها ذكر الأبدال، ويلاحظ أنه لم يَرِد ذكر هذا اللفظ في شيء من الأحاديث في الكتب الستة إلاّ في حديث واحد عند أبي داود (4286) ، وهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة (1) . أما الأحاديث الأخرى التي اشتملت على لفظ "الأبدال" خارج الكتب الستة فقد أخرجها بعض المحدثين، مثل: عبد الرزاق في "المصنف" (11/249- 250) ، وأحمد في "المسند" (1/112، 5/322) ، وابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" (بأرقام 8، 57- 59) ، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول " (ص 69- 71) ، والطبراني في "المعجم الكبير" و"الأوسط" (كما في "مجمع الزوائد" 10/63) ، وابن عدي في "الكامل" (في مواضع متفرقة) ، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/8- 9) و"أخبار أصبهان" (1/ 180) ، وأبو محمد الخلاّل في "كرامات الأولياء"، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7/439) ، والديلمي في "الفردوس" (1/154) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (1/289-304، 334- 341) وغيرهم.   (1) استقصى طرق هذا الحديث وبيان ما فيها من الاضطراب وأن أكثرها منقطعة- أخونا الفاضل الدكتور عبد العليم البستوي في "الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة" ص 324- 335. وانظر "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني (1965) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وقد أفردها السخاوى وبيَّن عللها في جزء سماه "نظم اللآل في الكلام على الأبدال" (1) ، وجمعها السيوطي في "الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال" (2) ، ولكنه سردها دون نقدها وبيان ما فيها من العلل. وكان الدافع له على تأليفه إنكار بعضهم ما اشتهر عن الصوفية من أن منهم أبدالاً ونقباء ونجباء وأوتاداً وأقطاباً، فحاول إثبات ذلك بجمع الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب. ولم يفلح السيوطي في إثبات المدَّعى، فلم يصحّ من هذه الأحاديث شيء عند المحدثين النقاد، وعلى فرض ثبوت بعضها عند المتساهلين في التصحيح فليس فيها ما يفيد وجود رجال الغيب ومراتبهم وصفاتهم ووظائفهم واجتماعاتهم وقراراتهم حسب ما يتصورها الصوفية. وقد أورد السيوطي هذه الأحاديث أو بعضها في مؤلفاته الأخرى، مثل: "اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/ 330-332) و"التعقبات على الموضوعات" (ص 471) و"الدر المنثور" (1/765- 767) و"الجامع الصغير" (3/167- 170 بشرح المناوي) ، وادعى صحتها وتواترها. وقلَّده في إيرادها وتصحيحها من جاء بعده من المؤلفين (3) ، والواقع أنه لا يبقى منها   (1) كما ذكر ذلك في "المقاصد الحسنة" ص10. ولا أعرف وجود هذا الجزء في المكتبات. (2) ضمن "الحاوي للفتاوي" (2/241- 255) . (3) مثل القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/430- 431) ، وابن عراق في= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 شىء يصلح للاحتجاج بعد نقدها على منهج المحدثين، فبعضها أوهى من بعض، ومنها ما هو موضوع، ومنها ما هو شديد الضعف ومنكر، ولذا ضعَّفها القاضي أبو بكر ابن العربي في "سراج المريدين" (1) ، وحكم عليها ابن الجوزي بالوضع وذكرها في "الموضوعات" (3/150- 152) ، وقال ابن الصلاح في "فتاواه" (ص 53) : "لا يثبت". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه (2) أن هذه الأسماء الدائرة على ألسنة الصوفية ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلاّ لفظ "الأبدال" فقد روى فيه حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً.   ="تنزيه الشريعة المرفوعة" (2/356- 307) ، وابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص 323- 324) ، وعلي المتقي البرهانفوري في "كنز العمال" (14/53- 55) و"منتخب كنز العمال" (5/331- 334 بهامش "مسند أحمد") ، والفتني في "تذكرة الموضوعات" (ص 193- 194) ، والقاري في "المعدن العدنىِ في فضل أويس القرني" (ص 65- 74) ، والمناوي في "فيض القدير" (3/167- 170) ، والزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (5/396- 400) ، والعجلوني في "كشف الخفاء" (1/24- 26) ، ومرتضى الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" (8/385- 387) ، وابن عابدين في "إجابة الغوث" (2/269- 272 من "مجموعة رسائله" والألوسي في "روح المعاني" (11/178) ومحمد صبغة الله المدراسي في "ذيل القول المسدد" ص 108- 112 وغيرهم. وانظر "روض الرياحين" لليافعي ص 10. (1) كما ذكر ذلك صنع الله الحلبي في "سيف الله على من كذب على أولياء الله" ص 65. (2) سيأتي ذكرها فيما بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 136) : "أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلةٌ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام، فإنّ فيهم البدلاء، كلَّما مات رجلٌ منهم أبدلَ الله مكانَه رجلاً آخر". ذكره أحمد، ولا يصحُّ أيضًا، فإنّه منقطع". وذكر الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص 408- 410) الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي، وحكم عليها بالوضع. وذكر في "ميزان الاعتدال" (3/105) حديث أنس منها، وقال: "هذا باطل". وأورد ابن كثير بعض هذه الأحاديث في "تفسيره" (1/669- 670) و"تاريخه" (9/213، 214) و"جامع المسانيد والسنن" (19/240- 241، 7/134- 137) ، وقال في الموضع الأخير بشأن حديث عبادة بن الصامت: "فيه نكارة شديدة جدًّا". وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 8) : "حديث الأبدال له طرق عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة". ثم ذكر بعض الأحاديث وقال (ص9) : "بعضها أشد في الضعف من بعض". وبعد أن أورد الأمير الصنعاني بعض هذه الأحاديث في "الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف " (ص 58- 59) قال: "في صحتها عند أئمة الحديث مقال". وليس هنا مجال لنقد هذه الأحاديث واحدًا واحدًا، حتى نعرف صحة هذه الأحكام التي أصدرها النقاد، ويمكن مراجعة تعليقات العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي على "الفوائد المجموعة" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 للشوكاني (ص 245- 249) ، وكلام الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (بأرقام 935- 936، 1474- 1479، 2498) ففيهما غنية لمن أراد الوصول إلى الحق والصواب. وفي مجلة "المنار" المجلد 11 (1908) ص 50- 56 نقد لحديث ابن مسعود الذي يستند إليه الصوفية، بقلم السيد محمد رشيد رضا. وأودّ أن أقف هنا مع كلامٍ للمناوي في "فيض القدير" (3/ 170) يشتمل على القدح في شيخ الإسلام ابن تيمية ورَمْيه بالتهور والمجازفة في الحكم على هذه الأحاديث، وبالعناد والتعصب لكونه لم يُقوّها بكثرة الطرق وتعدّد المخرجين. قال المناوي: "زعم ابن تيمية أنه لم يرد لفظ الأبدال في خبر صحيح ولا ضعيف إلاّ في خبر منقطع، فقد أبانت هذه الدعوى عن تهوره ومجازفته، وليته نفى الرواية، بل نفى الوجود، وكذب من ادعى الورود". لم ينقل المناوي كلام شيخ الإسلام بنصه، بل تصرَّف فيه، ونصُّه كما في "مجموعة الرسائل والمسائل" (1/48) (1) : "فهذه الأسماء [أي الغوث والأوتاد والأقطاب والأبدال والنجباء] ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلاّ لفظ الأبدال، فقد رُوِي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً".   (1) وعنها في "مجموع الفتاوى" (11/433، 434) بتحريف يسير. وقد نقله الألوسي في "روح المعاني" (6/95) على الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 فانظر كيف حرَّف المناوي هذا الكلام، اختار لفظ "الأبدال" بدلاً من "هذه الأسماء" التي تُشير إلى الألفاظ الخمسة، وحذف لفظ "محتمل" بعد "ضعيف"، ليوهم أن شيخ الإسلام ينفي ورود هذه الألفاظ بإسناد ضعيف مهما كان ضعفه. والذي يتأمل كلام الشيخ يفهم منه بوضوح أنه ينكر ورود الألفاظ المذكورة بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل، ولا ينكر أن يَرِد شىء منها في حديث موضوع أو ضعيف غير محتمل. وكل ما ذكره السيوطي وغيره من هذا القبيل، فورود مثل هذا لا ينقض قول شيخ الإسلام، بل هو أدرى بمثل هذه الأحاديث الواهية من غيره. واستدراكه فيما بعد بقوله "إلاّ لفظ الأبدال، فقد رُوي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً"- لأنه أحسن ما ورد في الباب، وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 112) ، فاستحق التنويه. ومع ذلك فهو منقطع الإسناد. قال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/289) : "هذا منقطع بين شريح [بن عبيد] وعلي، فإنه لم يلقَه". وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المسند" (2/171) : "إسناده ضعيف لانقطاعه، شريح بن عُبَيد الحمصي لم يدرك عليّاً، بل لم يدرك إلاّ بعض متأخري الوفاة من الصحابة". أما قول الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/62) : "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير شريح بن عبيد، وهو ثقة، وقد سمع من المقداد، وهو أقدم من علي"- فقد وهم فيه اغتراراً بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 ذكره المزي في ترجمة شريح، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر. فالصواب أنه لم يلق عليّاً، والحديث منقطع الإسناد كما قال شيخ الإسلام. وقد اكتفى بذكر هذا الحديث كنموذج، لأنه أحسن ما ورد في الباب، ومع ذلك فهو منقطع، أما الأحاديث الأخرى فنكارتها واضحة وبطلانها ظاهر، ولذا لم يُشِر إليها، مع أن حديث عبادة بن الصامت منها أخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (5/322) وقال عقب روايته: "هو منكر"، فلم يستحق التنويه مثل غيره من الأحاديث الواهية في المصادر الأخرى. بهذا التفصيل يظهر لنا جليّاً مقصود شيخ الإسلام من نفي ورود هذه الألفاظ "بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل"، والغرض من استدراك لفظ "الأبدال" والإشارة إلى وروده في حديث شامي منقطع. فنسبة المناوي إلى الشيخ أنه ينكر ورود لفظ "الأبدال" في خبر صحيح أو ضعيف إلاّ في خبر منقطع- غلط، ورميه بالتهور والمجازفة يدلّ على عدم فهمه للمقصود، فلم ينفِ الشيخ ورود لفظ "الأبدال" بإسناد ضعيف غير محتمل، ولم يُكذِّب من ادعى ذلك، وكلُّ ما ورد في هذا الباب لا يُبطل ما قاله. أما قول المناوي: "وهذه الأخبار وإن فرض ضعفُها جميعها، لكن لا يُنكِر تقويَ الحديثِ الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلاّ جاهل بالصناعة الحديثية أو معاند متعصب"- فهو خطأ وقع فيه كثير من العلماء المتأخرين حيث أطلقوا أن الحديث الضعيف إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 جاء من طرقٍ متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح، فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ازداد ضعفًا إلى ضعف، لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحيث لا يرويه غيرُهم يرفع الثقةَ بحديثهم، ويؤيد ضعفَ روايتهم (1) . وعلى هذا فمن قوَّى أحاديث الأبدال التي انفرد بروايتها المتهمون بالكذب والمتروكون ونحوهم يكون على الجادة أم من يُنكِر تقويتها؟ • مصدر هذه الفكرة رأينا فيما سبق أن الأحاديث التي يستند إليها الصوفية كلها موضوعة وواهية، ثم إنها لا تساعدهم على صياغة فكرة "القطب" الذي يرأس رجالَ الغيب في نظرهم، فلا ذكر لهذا اللفظ في شيء من الأحاديث والآثار. ولذا يرى أكثر الباحثين أنها فكرة دخيلة استمدها الصوفية من غيرهم، واختلفوا في تحديد المصدر، فذكر بعضهم أن مفهوم "القطب" بوصفه المبدأ الفعال (أو الباطن) (2) لكل إلهام شبيهٌ بالعقل "النُّوسْ" في الأفلاطونية الحديثة، ويُشبه عقيدة الإسماعيلية القائلة بتجسيد العقل الأول (الإمام) في الناطق (3) .   (1) انظر "الباعث الحثيث" لأحمد محمد شاكر (1/135) . (2) كما عند القاشاني في "اصطلاحات الصوفية" ص 141 (3) انظر"دائرة المعارف الإسلامية"- بالإنجليزية- الطبعة الجديدة، مقال "القطب" (5/544) ؛ و"ابن الفارض والحبّ الإلهي" لمحمد مصطفى حلمي ص 277 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وهناك باحثون آخرون التفتوا إلى التشابه القائم بين مفهوم الشيعة عن "الإمام" بوصفه تجليًا للكلمة الإلهية ومفهوم "القطب" الأكبر عند الصوفية، والتقاء أحدهما بالآخر (1) . كما لاحظ باحثون عديدون ذلك التوازي بين التدرج الرئاسي للقائمين على الدعوة الإسماعيلية والتدرج الرئاسي في التصوف برئاسة القطب، وقرروا أنه مستمد من الإسماعيلية (2) . وقد صرّح بعض علماء الشيعة أن القطب والإمام مصطلحان معناهما واحد، وينطبقان على شخص واحدٍ (3) . وأكد المستشرق هنري كوربان في عددٍ من بحوثه ودراساته أن فكرة القطب هذه انتقلت إلى التصوف من الشيعة، وأنها فارسية الأصل (4) . ويرى أحمد أمين (5) أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالاً وثيقًا، وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمَّته "قطبًا"، وكوَّنت مملكة من الأرواح على نمط مملكة   (1) انظر: "الصلة بين التصوف والتشيع" لكامل مصطفى الشيبي ص 463؛ وهنري كوربان في كتابه عن الإسلام الإيراني (1/92) . (2) انظر: "الصلة بين التصوف والتشيع" ص 457 وما بعدها؛ وي. ماركوي في مجلة "أرابيكا" المجلد 15 (1968) ص 27؛ وص التصوف: المنشأ والمصادر، لإحسان إلهى ظهير ص 235؛ و"الإسماعيلية: تاريخ وعقائد" له ص 594- 612. (3) انظر"الفلسفة الشيعية" للآملي ص 223؛ و"الإسلام الشيعي" لمحمد حسين طباطبائي (الترجمة الإنجليزية) ص 114. (4) انظر: "الإسلام الإيراني" (1/186، 229، 3/279) . (5) في "ضحى الإسلام" (3/245) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي في التشيع. وقد سبق هؤلاء الباحثين بعضُ العلماء القدامى، فأدركوا التشابه بين القطب عند الصوفية وبين الإمام المنتظر عند الشيعة وبين الباب عند النصيرية، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون وغيرهما. وسيأتي ذكر موقفهما فيما بعد إن شاء الله. ومما يؤكد أن هذه الفكرة مأخوذة من الشيعة أن أحد علماء الشيعة حيدر ابن علي الآملي (ت بعد 782) قرَّر في كتابه " نص النصوص" (1) جميع ما عند الصوفية بشأن رجال الغيب وأولياء الله، وذكر أن "القطبية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يكون إلاّ لورثته، لاختصاصه عليه السلام بالأكملية، فلا يكون خاتم الولاية وقطب الأقطاب إلاّ على باطن ختم النبوة". بعد هذا العرض الموجز لآراء بعض الباحثين المحدَثين والعلماء القدامى نصل إلى أن فكرة "القطب" فكرة دخيلة عند الصوفية، انتقلت إليهم من الشيعة القائلين بالإمام المنتظر، ومن الإسماعيلية الذين جعلوا رجالهم في مراتب ودرجات. وقد كان الصوفية القدامى إلى منتصف القرن الرابع بعيدين عنها، ْ ثم تسربت إليهم وتحكّمت فيهم بعد اتصالهم بالشيعة ومخالطتهم لهم في بلاد العجم. وتطورت هذه الفكرة فيما بعد إلى نظرية "الديوان الباطني"   (1) ق 91- 96 (نسخة مكتبة مجلس الأمة بطهران) ، وعنه في ملحق كتاب "ختم الأولياء" للحكيم الترمذي، ص 503- 506. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 الذي يجتمع فيه رجال الغيب برئاسة القطب، ويديرون شئون العالم المرئي وغير المرئي (1) . ولا تزال هذه النظرية عند الصوفية مسلّمة إلى يومنا هذا (2) . • أثرها في المجتمع الإسلامي لقد كان لنظرية القطب والأبدال هذه آثار خطيرة في المجتمع الإسلامي من نواع عديدة، أهمها في مجال العقيدة، فقد قرر الصوفية أن للأولياء القدرة النافذة على التصرف المقيد والمطلق في شئون العالم العلوي والسفلي، فأربعة منهم يمسكون العالم من جوانبه الأربعة (هم الأوتاد) ، وسبعة آخرون كل واحدٍ منهم مشرف على قارة من قارات الأرض السبع (هم الأبدال) ، وفوقهم جميعًا وليٌّ واحد هو موضع نظر الله (يسمى القطب أو الغوث) ، وهو الذي يدبر شأن الملك، ومن جهته يكون مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان، وبواسطته يفيض الخير إلى سائر الخلق. وإذا نزلت الشدَّة بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة.   (1) انظر (الإبريز من كلام عبد العزيز) للسجلماسي (1/2 وما بعدها) . (2) انظر: "السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني" لمحمد المكي بن مصطفى بن عزوز ص 74؛ و"فتح الرحيم الرحمن في شرح نصيحة الإخوان" للحنصلي ص 176؛ و"فيض الوهاب" لعبد ربه بن سليمان القليوبي (5/57 وما بعدها) ؛ ومحمد زكي إبراهيم في مجلة "المسلم" المجلد 15: 7 (يونيو 1965) ص 15، والمجلد 20/11 (أغسطس 1970) ص 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 هذه الأمور وغيرها مما ذكرها الصوفية (والتي تحدثنا عنها فيما مضى مع ذكر النصوص من المصادر المعتمدة لديهم) لا يخفى ما في الاعتقاد بها من خطورة على عقيدة التوحيد، فهي محاولة خبيثة لتجريد الإله الحق سبحانه وتعالى من اختصاصاته التي لا يشاركه فيها مخْلوق، وجعلها مشاعًا بين الخالق والمخلوق على حدّ سواء، وهذا هو الشرك في الربوبية -والعياذ بالله-، وهو أقبح أنواع الشرك، فقد كان المشركون القدامى على علم بربوبية الله وخصوصيته في الخلق والرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة وغيرها من أمور الربوبية كما حكى عنهم القرآن. فالذي يعتقد ذلك في الأولياء هو أجهل من أولئك المشركين وأضلّ. وبهذا نعرف ما نتج عن فكرة القطب هذه من مخاطر جسيمة في باب العقيدة لدى عامة الناس، الذين تعلقوا بها واعتقدوها ونشأوا عليها في البيئات الصوفية، ولُقِّنوها منذ الصغر. ولا زلنا نرى في البلاد الإسلامية من ينادي "الغوث" للمدد، ويعتقد في الأولياء بما لا يجوز اعتقاده إلاّ في الله، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. وكان من آثارها السيئة على العلماء أن كثيرًا منهم نقلوا مقالات الصوفية في هذا الباب، وأدرجوها في مؤلفاتهم دون نقد أو تعقيب، وقد تسربت هذه الفكرة إلى كتب التفسير وشروح الحديث، والفقه والفتاوى، والسيرة والأخلاق، والتاريخ والتراجم، والأدب واللغة وغيرها، ويطول بنا القول لو ذَكَرنا جميع النصوص في المصادر التي رجعنا إليها، ولذا نقتصر على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 الإشارة إلى بعضها تاركين التفصيل لموضع آخر. لقد كانت كتب التفسير إلى القرن السادس خالية من الإشارة إلى فكرة الأبدال، فلا نجد لها ذكرًا عند الطبري والبغوي وابن عطية وابن الجوزي وغيرهم في تفاسيرهم، حتى جاء القرطبي في القرن السابع فنقل في تفسيره (1) عن بعض العلماء في تفسير قول الله تعالى (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أن المدفوعَ بهم الفسادُ هم الأبدال! ثم ذكر بعض ما ورد من الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، وسكت عنها. وجاء بعده السيوطي، فسَرَد هذه الروايات في تفسيره (2) دون نقد وتمحيص، ففتح المجال لغيره من المفسرين أن يوردوها، ويفسروا بعض الآيات القرآنية بها، ويتكلموا على القطب والأبدال وغيرهما بأدنى مناسبة (3) . ولم يكن قد اشتهر عند شرّاح الحديث والمشتغلين به إلى زمن الحافظ ابن حجر الكلام على القطب والأبدال ومراتب رجال الغيب كما هي عند الصوفية -وإن وُجد عند أبي جمرة في "بهجة النفوس" شيٌ من ذلك-؛ بل كانوا يقتَصرون على رواية الأحاديث الواردة في هذا الباب بأسانيدها ليبرءوا من عهدتها، أو نقدها وتضعيفها وبيان عللها. وجاء المتأخرون فسردوا هذه الروايات دون نقدها   (1) "الجامع لأحكام القرآن" (3/259) . (2) "الدر المنثور" (1/765- 767) (3) انظر مثلاً "روح المعاني" للآلوسي (6/94- 95، 11/178، 22/19-20) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وتمحيصها، وادعوا صحَّتها وتواترها، وتلقَّوها بالقبول، ثم تكلموا على شرحها وبيان معانيها بالاستناد إلى أقوال الصوفية، ويكفي أن نذكر هنا كمثال: المناوي (1) وملاّ علي القاري (2) ، اللذين قرَّرا ما قاله الصوفية، ونقلا عنهم نصوصًا غريبة في أثناء شرح الحديث دون استنكار أو تعليق. أما كتب الفقه والفتاوى فنذكر منها نص فتوى الشيخ زكريا الأنصاري (الملقب بشيخ الإسلام لدى الشافعية) ، لما سُئِل عن شخصٍ ادعى أن القطب ليس له وجود في زمن من الأزمنة، ولا ثَمَّ شيءٌ في الوجود يقال له القطب، هل هذه الدعوى صحيحة أو لا؟ فأجاب بأن القطب موجود في كل زمان، كلَّما مات قطبٌ أقام الله مقامه آخر، نفعنا الله ببركتهم. وهذا أمر مشهور، والمنكر لذلك محروم من بركة الأقطاب، معترف بأن منّة الله بلقائهم لم تواجهه. وليته إذا فاته الوصول إليها لا يفوته الإيمان بها (3) . هذا نصّ كلامه الذي يُقرِّر فيه وجودَ القطب في كل زمان، وأن منكره محروم من بركته، وعليه أن لا يفوت الإيمان به إن لم يُقدَّر له الوصول إليه!! وذكر ابن حجر الهيتمي (4) أنه كان في مجلس الشيخ محمد   (1) "فيض القدير" (3/167- 170) . (2) "مرقاة المفاتيح" (5/181- 183) . (3) "العناية والاهتمام بجمع فتاوى شيخ الإسلام" ص 381. (4) "الفتاوى الحديثية" ص 325. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 الجويني يوماً، فانجرَّ الكلام إلى ذكر القطب والنجباء والنقباء والأبدال وغيرهم، فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك بغلظة، وقال: هذا كله لا حقيقة له، وليس فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له الهيتمي: "معاذ الله! بل هذا صدقٌ وحق لا مريةَ فيه، لأنّ أولياء الله أخبروا به، وحاشاهم من الكذب، وممن نقل ذلك الإمام اليافعي، وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة"، فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه عليه. ثم ذهبا إلى الشيخ زكريا الأنصاري الذي عاتب الجويني عليه، فآمن الجويني بذلك وصدَّق به وأقرَّ بثبوته!! هذا نموذجٌ مما كان يجري بين الفقهاء في هذا الموضوع، فلا يَسَعُ المنكرَ إنكارُ ذلك، ويضطرّ إلى الإيمان به والتصديق به والإقرار بثبوته إذا أراد أن يعيش بينهم. وعلى هذا فلا نستغرب أن يُدخِلَ بعض المؤلفين هذا الموضوع في كتب العقيدة، كما فعل إبراهيم اللقاني في "عمدة المريد لجوهرة التوحيد"، ويتكلم عنه المؤلفون في السيرة النبوية ويعتبروا وجود الأقطاب والأبدال من خصائص الأمة المحمدية، كما فعل القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/430- 431) ، والحلبي في "السيرة الحلبية"، وابن التلمساني في "حواشي الشفا"، والزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (5/396- 401) وغيرهم. بهذا العرض الموجز نستطيع أن نقدّر كم تكدَّرت ينابيع الثقافة الإسلامية بهذه الفكرة الخرافية التي لا أساس لها من الكتاب والسنة، ولم يقل بها أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 • الذين نقدوا هذه الفكرة نظرًا لخطورتها على العقيدة وما في شيوعها من آثار سيئة على المجتمع، انتقدها بعض العلماء وذكروا أنها من مخترعات الصوفية وأباطيلهم. ومن أوائل من ردّ عليها وبيَّن ضلال القائلين بها القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي، فقد تكلم عليها في كتابه "سراج المريدين " الذي ألَّفه في التصوف (1) . ومنهم من اقتصر على نقد الأحاديث الواردة في الأبدال، والحكم عليها بالوضع والبطلان، وقصد بذلك هدم الفكرة من أساسها، وبيان أنه لا مستند لها في الكتاب والسنة، وهذا ما فعله ابن الجوزي وغيره من العلماء الذين سبق ذكرهم فيما مضى عند الكلام على أحاديث الأبدال، فلا نعيده هنا. وسُئل ابن الصلاح: هل ورد عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "على كل قدم نبي من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ولى من أولياء الله تعالى"؟ وأن القطب على قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وأن في الأرض سبعة أوتاد وأبدال ونجباء ونقباء؟ كلما مات رجل أقام الله عز وجل   (1) أعارني أخي البحاثة المحقق محمد السليماني نسخة مصورة من هذا الكتاب، وبحثتُ فيها عن كلامه في هذا الموضوع، فلم أجده في مظانه. وقد أشار بعض المؤلفين إلى كلامه في الكتاب المذكور، انظر: "سيف الله على من كذب على أولياء الله" لصنع الله الحلبي ص 64- 65؛ و"تيسير العزيز الحميد" ص 235؛ و"غاية الأماني في الرد على النبهاني" (2/68) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 عوضه رجلاً، ولا تزال الوراثة دائمة في علم الباطن وفي علم الظاهر إلى قيام الساعة. الأمر على مما ذكر أم لا؟ فأجاب: لا يثبت هذا الحديث، وأما الأبدال فأقوى ما رويناه فيهم قول علي رضي الله عنه إنه بالشام الأبدال، وأيضًا فإثباتهم كالمجمع عليه بين علماء المسلمين وصلحائهم. وأما الأوتاد والنجباء والنقباء فقد ذكرهم بعض مشايخ الطريقة، ولا يثبت ذلك. ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق إلى أن تقوم الساعة، وهم العلماء (1) . وللعزّ بن عبد السلام رسالة في إبطال قول الناس أن قطب الأقطاب والأبدال لهم تصرف، بيَّن فيها بطلان قول الناس فيهم، وردَّ على من يقول بوجودهم، وأقام النكير على قولهم "بهم يحفظ الله الأرض" (2) . وقد وصلت إلينا نسختان من هذه الرسالة: إحداهما في مكتبة الأوقاف ببغداد برقم [2/9683 مجاميع] في ثماني ورقات؛ والأخرى في معهد الاستشراق في ليننغراد في ست ورقات (3) .   (1) "فتاوى ابن الصلاح " ص 53. ونقل بعضها ملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" ص 77 (وتحرف فيه "الأوتاد" إلى "الأدباء"!) . (3) ذكرها حاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/883) ؛ ومرتضى الزبيدي في "تاج العروس" مادة بدل (7/223) ؛ وإسماعيل باشا البغدادي في "هدية العارفين" (1/580) . (3) كما في فهرس المعهد المذكور (1/140) . وقد ذكر هاتين النسختين إياد خالد الطباع في مقدمة تحقيقه لكتاب "شجرة المعارف والأحوال" للعز بن= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 جاء بعدهم شيخ الإسلام ابن تيمية فكتب كتابات عديدة في هذا الموضوع، وناقش الصوفية في القطب والأبدال والأوتاد وغيرها من الألفاظ، وبيَّن ما ورد منها على لسان السلف ومعانيها عندهم، وأبطل الأحاديث الواردة في هذا الباب، وفصَّل الكلام على مخالفة هذه النظرية للدين والعقل. وسنعرِض آراءَه في هذا الموضوع في الفصل القادم إن شاء الله. وممن تأثر بشيخِ الإسلام تلميذُه ابن القيم الذي حكم على أحاديث الأبدال والأوتاد بأنها باطلة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) . واختصر مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه (2) فتوى لشيخ الإسلام، وظنَّ أن السيوطي لم يطلع على كلام الشيخ، لأنه لم يتعرض لذكره، ولا لردّ ما احتجَّ به مما لا يمكن ردُّه. وأرى أن السيوطي وقف على كلام الشيخ، ولكن تجاهله لأنه لم يقدر على مناقشته، فأحبَّ السكوت عنه. وقد صَرَّح المناوي في شرح كتابه "الجامع الصغير" (3) أن المؤلف (السيوطي) خالف عادته هنا باستيعاب طرق حديث الأبدال إشارةً إلى بطلان قول ابن تيمية. وانتهج الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي (4) نهجَ شيخ الإسلام في   = عبد السلام، ص 25. (1) "المنار المنيف" ص 136. (2) "شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور" ص 400- 406. (3) "فيض القدير" (3/170) . (4) في "سيف الله على من كذب على أولياء الله" ص 64-65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الرد على من يدعي أن للأولياء تصرُّفًا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة، وأن منهم أبدالاً ونقباء، وأوتادًا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس. فقال: "هذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة". ثم أطال في مناقشته هذه الدعاوي، وقال في آخر البحث: إنها من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي وابن تيمية. أما ابن خلدون (1) فيكشف عن صلة هذه النظرية بما عند الإسماعيلية والشيعة، فيقول: "كان سلفُهم (أي الصوفية) مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة، الدائنين أيضًا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبًا لم يُعرَف لأولهم، فأشرِبَ كلُّ واحدٍ من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القولُ بالقطب، ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثمّ يورث مقامه لآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب "الإشارات" في فصول التصوف منها، فقال: "جلّ جناب الحق أن يكون شِرعةً لكل وارد، أو يطلع عليه إلاّ واحدٌ بعد   (1) "مقدمة ابن خلدون" ص 473، وانظر "شفاء السائل لتهذيب المسائل" له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 الواحد"، وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء". هذه آراء بعض العلماء القدامى ونُتَف من انتقاداتهم، تؤكّد أن هذه النظرية أجنبية عن الفكر الإسلامي الأصيل، تسربت إلى الصوفية من غيرهم وتحكمت فيهم عبر القرون. • موقف شيخ الإسلام منها لم يناقش فكرة القطب والأبدال أحدٌ مثلما ناقشها شيخ الإسلام ابن تيمية، فله كتابات عديدة في هذا الباب، كتبها ردًّا على بعض الأسئلة التي وُجِّهت إليه، أو تناولها عرضًا في بعض كتبه. وأكثرها تفصيلاً واستيعابًا هذه الفتوى التي بين أيدينا والتي وصلت إلينا بخطه، وفتوى أخرى (مخطوطة) لم تنشَر بعد (1) ، وفتوى ضمن السؤال عن أهل الصفة (2) ، وفتوى ضمن السؤال عن زيارة القبور (3) ، وتكلم عليها عرضًا في بعض   (1) ثم نشرتُها ضمن المجموعة الأولى من "جامع المسائل" التي تحتوي على خمس وعشرين رسالة وفتوى ومسألة للشيخ لم تُنشَر حتى الآن. (2) نُشرت أولاً في "مجموعة الرسائل والمسائل" (1/46- 51) ، وعنها في "مجموع الفتاوى" (11/433- 444) . (3) نشرت مرارّا أولاها في المطبع الخليلي بآره (الهند) ؛ ثم في "مجموعة= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 مؤلفاته (1) وفتاواه (2) . وفيما يلي استعراض لأهم الجوانب التي تناولها شيخ الإسلام بالبحث، ودراسة لموقفه منها، في ضوء هذه الفتوى والكتابات الأخرى التي سبق ذكرها. ذكر شيخ الإسلام دعوى الصوفية أن في الأرض ثلاث مائة وبضعة عشر هم "النجباء"، وسبعين هم "النقباء"، وأربعين هم "الأبدال "، وسبعة هم "الأقطاب" على عدد الأقاليم السبعة، وأربعة هم "الأوتاد" كالأوتاد التي يذكرها المنجّمون، وواحدًا هو "الغوث"، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابتهم نائبة فزعوا إلى الثلاث مائة وبضعة عشر، وأولئك إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، وهكذا يرفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى "الغوث"، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة. وأن "الغوث" يطلع على أسرار قلوب العباد، علمه ينطبق على علم الله. ويزعمون أنه على قدم كل نبيّ من الأنبياء وليَّان: وليّ ظاهر ووليٌّ   = الرسائل" (القاهرة 1323) ص 103- 122؛ ثم في "مجموع الفتاوى" (27/ 96-105) ، ولها طبعات أخرى غيرها. ونقلها- باختصار- مرعي بن يوسف الكرمي في "شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور" ص 400- 406. انظر: "منهاج السنة النبوية" (1/91- 96) ؛ و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ضمناً "مجموع الفتاوى" (11/167- 168) ؛ و"درء تعارض العقل والنقل" (5/315) . انظر: "مجموع الفتاوى" (27/57- 58) = "مختصر الفتاوى المصرية" ص 599؛ و"مجموع الفتاوى" (11/294 و 364) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 باطن. ويقولون: إن هؤلاء الأولياء يُستسقى بهم الغيث وتنزل الرحمة ويكشف العذاب، وإذا غضب الله على أحدٍ من أهل الأرض وأراد أن يُنزِل غضبَه نظر إلى قلوب هؤلاء، فإن وجدهم راضين بذلك أنزل عذابه، وإلاّ رفعَه. ويدَّعون أن مدد الخلائق في نصرهم ورزقهم يكون بواسطة الغوث، بل إن مدد الملائكة في السماء والطير في الهواء والحيتان في البحر أيضًا بواسطته، وهو يُعطي الملك والولاية لمن يشاء، ويَصرِف عمن يشاء. ثم بدأ يناقشهم، فذكر أن هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصل لها في الكتاب والسنة، ولا قول أحد من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين وشيوخهم. وهذه الأعداد والمراتب والصفات والأسماء ذكرها بعض المتأخرين من الصوفية، وقد زادوا فيها ونقصوا، ولهم أقوال مختلفة في هذا الباب، وقد ادعى بعضهم أنه ينزل كلَّ عام على الكعبة ورقةٌ مكتوب فيها اسم غوث ذلك العام وخضرِه، وان لكل زمانٍ خضرًا، وأنه نقيب الأولياء، وأنه مرتبة محفوظة لا شخص معين، ونحو هذه الدعاوي التي يَعلمُ كل عاقلٍ بطلانَها وضلالَ معتقدها. وهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل. وقد رُوِي في "الأبدال" حديثٌ عن علي بن أبي طالب مرفوعاً، ولكنه بإسناد منقطع، فهو من رواية بعض الشيوخ الشاميين عن علي، ولم يسمعه منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وقد بحث شيخ الإسلام عن معاني هذه الألفاظ والأسماء في اللغة والشرع، وذكر أن ما ورد منها على لسان بعض السلف ليس على الوجه الذي يتصوره الصوفية، بل بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين. أما "الغوث" فلا أصل له في كلام أحدٍ من السلف، ولم يُعرف عن أحد منهم أنه قال: فلانٌ غوث هذه الأمة، أو أن للأمة غوثًا بمكة ونحوه، فهذا من محدثات الصوفية ومخترعاتهم. ولا يستحق هذا الوصف إلاّ الله سبحانه وتعالى. ولفظ "النقباء" ذكر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله تعالى في قوله: (* وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) . وجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار اثني عشر نقيبًا على عدد نقباء موسى. وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يُعرِّفون العُرَفاء وينقّبون النُّقباء، ليُعرِّفوهم بأخبار الناس وينقّبوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في الكتاب والسنة، وإطلاق هذا اللفظ على أولياء الله ليس له أصل في كلام السلف. أما لفظ "الأبدال" فقد جاء ذكره في كلام كثير من السلف، فرُوِي عن الشافعي في بعضهم: كنّا نعدّه من الأبدال، وقال البخاري في رجل: كانوا لا يشكون أنه من الأبدال، وقال يزيد بن هارون: الأبدال 0هم أهل العلم، وقال أحمد: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم. وكذا وصف غير هؤلاء من النقاد والحفاظ والأئمة غير واحدٍ بانه من الأبدال. وكان المقصود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 منه أنهم أبدالٌ عن الأنبياء وخلفاءُ لهم وورثتُهم، يخلفونهم في سننهم، ويحملون الأمة على طريقهم. وقد جاء في حديثٍ وصف الذين يحبّون السنّة ويعلّمونها الناس بأنهم خلفاء النبي، وفي حديث آخر أن "العلماء ورثة الأنبياء". والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال بعضَ ما بُعِثوا به من العلم فهو وارثٌ لذلك المقدار، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان بدلاً منهم في ذلك. ومعلوم أن من جملة أحوال الأنبياء دعاءَهم للخلق، وما يحصل بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قامَ مقامَهم في بعض ذلك كان بَدلاً منهم في ذلك البعض. ومن زعم من الصوفية أنَّ البدل إذا غابَ عن مكانه أبدل بصورة على مثالِه، ولذا سُمُّوا أبدالاً، فهذا باطل، ولم يكن السلف يعنون به هذا المعنى. أما اسم "القُطْب" فهو مأخوذ من قطب الرحى، وهو ما يدور عليه الرحى، فالشخص الذي يدور عليه أمر من الأمور فهو قطب ذلك الأمر، وأفضل الخلق هم الرسل، وعليهم تدور رسالة الله إلى خلقه، وإمام الصلاة يدور عليه أمر الإمامة، فهو قطب الإمامة، ومؤذن المسجد قطب الأذان، وحاكم البلد قطب الحكم، وأمير الحرب قطب هذه الإمارة، وكان الخلفاء الراشدون أقطاب الأمة، دار عليهم من مصالح الأمة في دينها ودنياها ما لم يَدُر على أحدٍ مثلُه. وقد يكون في عصرٍ رجل هو أفضل أهل الأرض، كما قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 يكون رجلان أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر، ويحصل بدعائهم وعبادتهم من الخير ويندفع من الشرّ ما لا يحصل بدون ذلك، كما في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (1) . وقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) ، وقال: (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25)) . فهذا ونحوه مما يوافق أصول الدين. وأما ما يدعيه الصوفية في القطب والمرتبة التي يسمونها القطبية فمن الغلو الذي يُشبه غُلوَّ النصارى والرافضة، حيث قالوا: إن مدد أهل الأرض يكون من جهته، وإن الله إذا أنزل إلى الأرض خيرًا من هُدىً ورزقٍ ونصرِ فإنه يُنزِله عليه، ثمّ منه يَفيض إلى سائر الخلق. لم يكن السلف يفهمون من القطب هذا المعنى، ولا خطر ببالهم إلاّ معناه اللغوي الذي سبق ذكره. ولا يُعرَف أنهم تكلموا بهذا الاسم في الرجال، ولا جعلوا اسم "القطب" مما يُعبَّر ول عن أحوال أولياء الله المتقين، بخلاف اسم "الأبدال" في نُقِل عنهم التكلم بذلك في مواضع. أما "الأوتاد" فقد ورد على لسان بعض المتأخرين، والوتد هو المُثبِت لغيره، كما أن الجبال أوتاد الأرض، فمَن ثبَّت الله به   (1) أخرجه البخاري (2896) والنسائي 6/45 وغيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 الإيمان والتقوى في قلوب بعض عباده، أو ثبت بدعائه وعبادته نصرُهم ورزقُهم، كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك. أما "النجباء" فلم يرد إطلاقه عند السلف على أولياء الله، ولم يثبت شيء من الآثار التي رويت في ذلك. بهذا التفصيل نعرف أن السلف عند استخدامهم لبعض هذه الألفاظ لم يفهموا منها تلك المعاني والخصائص التي استقرت في أذهان الصوفية، ولذا فاستناد هؤلاء إلى الآثار التي وردت فيها تلك الألفاظ على لسان بعض السلف لا يُجدِيهم شيئا، فهي -على فرض ثبوتها عنهم- ليست على الوجه الذي يتصوره الصوفية، بل بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين. وعندنا أصلان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع، الأول: أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)) وقال: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)) . والثاني: أن الله يجلب للناس المنافعَ ويدفع عنهم المضارّ بدعاء عبادِه المؤمنين وصلاتهم وعبادتهم، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "وهل تُنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم". إذا عرفنا هذين الأصلين تبيَّن لنا أنه ليس لأولياء الله عددٌ محصور تتساوى فيه الأزمنة، ولا لهم مكانٌ مُعيَّن من الأمكنة، بل هم يزدادون وينقصون بحسب زيادة أهل الإيمان والتقوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 ونقصانهم. وقد بعث الله رسوله بالحق، وآمن معه بمكة نفرٌ قليل كانوا أقل من سبعة، ثم أقلّ من أربعين، ثم أقلّ من سبعين، ثم أقلّ من ثلاث مائة، فأين كان أولئك الأبدال وغيرهم ممن يذكرهم الصوفية بالعدد والترتيب والطبقات؟ هل كانوا في الكفّار؟ ثم هاجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إلى المدينة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل منهم، فمن كان هو الغوث الذي يدّعي الصوفية وجوده بمكة بعد الهجرة؟ ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين عدد لا يُحصَى، ولا يحصرون بثلاث مائة ولا بثلاثة آلاف، فكل من جعل لهم عددًا محصورًا فهو من المبطلين عمدًا أو خطأً. ونسألهم مَن كان القطب والأبدال وغيرهم من زمن آدم ونوح وإبراهيم وقبل محمد عليهم الصلاة والسلام في الفترة حين كان عامة الناس كفرة؟ وإن زعموا أنهم كانوا بعد رسولنا ففي أيّ زمانٍ كانوا؟ ومَن أوَّلُ هؤلاء؟ وبأيّ آية وبأيّ حديث مشهورٍ وبأيّ إجماع متواتر من القرون الثلاثة ثبتَ وجودُ هؤلاء بهذه الأعداد حتى نعتقده؟ لأن العقائد لا تعتقد إلاّ من هذه الأدلة الثلاثة ومن البرهان العقلي، (قُل هَاتُوا بُرهانكم إن كنتم صادقين (111)) ، فإن لم يأتوا به فهم الكاذبون بلا ريب، فلا نعتقد أكاذيبهم. وقولهم "إنّ النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 ونحو هذا على الإطلاق باطل قطعًا، فإن هذه البلاد كانت في أول الإسلام ديارَ كفر، لم يكن بها أحدٌ من أولياء الله، ولمّا صارت دار إسلام صار فيها من أولياء الله بحسب ما في أهلها من الإيمان والتقوى. ولا يختص إقليم من هذه الأقاليم بالأبدال، ومن قال إن الأبدال لا يكونون إلاّ بالشام فقد أخطأ، فإن خيار هذه الأمة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة، ولما فتحت الأمصار كان في كل مصرِ من خيار المسلمين مَن لا يُحصيه إلاّ الله. وإذا كان الأبدال أفضل الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام، فإن طائفته كانت أولى بالحق من طائفة معاوية بشهادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يكون الأبدال خارجين عن جماعة علي ويكونون بالشام؟ ومما يبين أنهم ليسوا مخصوصين بالشام أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من السلف كانوا يجعلون منهم من ليس بالشام، وهذا كثير في كلامهم، فما يدعيه الصوفية غلط. وقولهم "إن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بَصَرَه حتى تنفرج تلك النازلة" من أعظم الكذب والبهتان، فإن هذا "الغوث" المدَّعَى ليس بأعظم من الرسل، وهم قد يُمنَعون ما يسألون، وقد كان الأنبياء يجتهدون في الدعاء، فكيف يكون غيرُهم لا يرفع بصرَه حتى تُدفَع النوازل؟ وقد نزل بهذه الأمة من الشدائد ما لا يحصيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 إلاّ الله، واتصل بعضها مدةً، فأين كان هذا الغوث؟ وكان المسلمون لا يرفعون أمر هذه الشدائد إلى غير الله ولا يتركونها لشخص معين، فمَن هذا الأدنى الذي يرفعها إلى الأعلى؟ وإذا كان الله يجيب الكفار إذا دعوه مضطرين، فكيف يُحوِجُ عبادَه المؤمنين إلى وسائط في رفع حوائجهم إليه؟ وأين الحاجة إلى الوسائط والله يسمع ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه؟ ومن أباطيل الصوفية ادعاؤهم أنه "على قدم كل نبيّ وليَّان: ولىٌّ ظاهر ووليٌّ باطن"، فقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رأى الأنبياء، النبي يجيء وحدَه، والنبي يجيء معه رجلٌ، والنبي يجيء معه رجلان، فإذا كان النبي قد لا يتبعه أحدٌ، أو لا يتبعه إلاّ رجل واحد، فكيف يجب أن يكون له في كل عصرٍ اثنانِ على قدمِه من أمة غيرِه؟ وأيضًا فقول القائل إن الوليّ على قدم النبي لا يجوز أن يريد به اتباعَ شريعته، فإنه بعد مبعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقبل الله من أحدٍ إلاّ شريعته. ثم إن غالب الأنبياء لم يُقَصُّوا على نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تعرفهم أمته، فكيف يكون من أمته من هو على قدم نبيٍّ لا يعرفه ولا يعرف قدمَه؟ وخلاصة القول أن هذا الكلام لا دليل عليه، ولو كان حقًا لكان معروفًا عند أهل العلم والإيمان، فإذا لم يكن له أصل عندهم عُلِم بطلانه. ومن أشنع ما يزعمه الصوفية قولهم في "الغوث القطب": إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 يطلع على أسرار قلوب العباد، وينطبق علمه على علم الله، ويعرف جميع الأولياء، وتنتهي إليه حوائج الخلق، وبواسطته يكون مدد الخلائق في نصرهم ورزقهم. وقد ناقشهم شيخ الإسلام وبيَّن أن هذه الدعاوي كلها باطلة، وهي نظير ما يدعيه النصارى في "المسيح" والرافضة في "المنتظر" والنصيرية في "الباب" والفلاسفة في "العقل الفعال"، وأظهر في الشرك والضلال والكفر والفساد من أن نعرض لها. وقد أطال شيخ الإسلام في الردّ عليها، وذكر نصوصًا من الكتاب والسنة تدل على أنها من الشرك في الربوبية، ولا يجوز نسبة الأمور المذكورة إلى الأنبياء والرسل، فكيف تصح لهذا "الغوث" المزعوم الذي لا وجود له إلاّ في أذهان الصوفية؟ ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى المواضع التي أشرنا إليها في أول هذا الفصل، وليقرأ هذه الفتوى التي فصّل الكلام فيها حول هذا الموضوع. هذا عرض موجز لآراء شيخ الإسلام في هذا الباب، وبه يظهر أنه بحث دعاوي الصوفية في القطب والأبدال من نواح متعددة، وناقشهم مناقشة طويلة بالعقل والنقل، وهَدَم أساس نظريتهم، وأبطل كلَّ شبهة تعلقوا بها. وهذه الفتوى التي تُنشَر الآن لأول مرة هي أطول فتوى له فيها. • وصف النسخة الخطية توجد نسخة فريدة من هذه الفتوى بخط المؤلف ضمن مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية بدمشق برقم 3845 عام [مجاميع 109] (الورقة 235- 257) باستثناء الورقة 256 أ- ب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 فهي من "سنن أبي داود"، وفيها الأحاديث ذات الأرقام (1302- 1308) . ويلاحظ أن الورقة مقلوبة، فصفحة ب سابقة في الترتيب على أ. ويبدو أنها ورقة ضائعة من نسخة قديمة من "السنن" عليها آثار التصحيح والمقابلة. تبتدىء هذه النسخة بنصّ السؤال الذي قُدِّم إلى شيخ الإسلام، وبَعدَه بَدَأ الشيخ كتابة الجواب في أسفل الصفحة بقوله "الحمد لله "، وانتهى منها في الورقة (255 أ) ، حيث قال في آخرها: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية". ثم رأى الزيادة على ما سبق، فشطب على العبارة المذكورة، وكتب صفحتين، وقال في الأخير: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية". وقد كانت هذه الفتوى بلا عنوان، فكتب في أولها أحدُ المفهرسين "فتوى الأقطاب والأبدال" بخط حديث. وبجانبه في أعلى الصفحة بخط قديم: "نقله محمد بن المحب"، مما يفيد أن هذه الفتوى نُسِختْ منها نسخة بخط محمد بن المحب، ناسخ بعض مؤلفات شيخ الإسلام التي وصلت إلينا. وهو الحافظ شمس الدين أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب عبد الله المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، المشهور بالصامت لكثرة سكوته (713- 789) ، ترجم له الحافظ في "الدرر الكامنة" (3/465) ، وقال: "تفقه إلى أن فاق الأقران، وأفتى ودرّس، وكان كثير المروءة حسن الهيئة، من رؤساء أهل دمشق". وله أخ اسمه أبو الفتح أحمد (719- 749) ، ترجمته في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 "الدرر الكامنة" (1/179) ، وهو أيضًا ناسخ كثير من مؤلفات شيخ الإسلام التي وصلت إلينا. وخطّ هذين الأخوين متقن، ومتشابه إلى حدّ كبير، وأكثر منسوخاتهما بالاعتماد على الأصول والمسودات التي بخط الشيخ. وقد شرَّقتْ هذه النسخ وغرَّبتْ، وتفرقتْ في بلدان عديدة، وضاع كثير منها وبقي بعضها في المكتبات. وتعتبر هذه النسخ أهمّ ما وصلَ إلينا من مؤلفات شيخ الإسلام بعد الأصول التي بخطه. وإذا عثرتَ على شيء منها بخط أحدهما فلا تلتفتْ إلى نسخ أخرى متأخرة، ولا تتعبْ في جمعها وتحصيلها، فهي لا تفيدك إلاّ زيادة التصحيف والتحريف والسقط، كما هو مجرَّب لديّ بعد فحص مثل هذه النسخ. ونظرًا لأهمية النسخة التي نقلها ابن المحب بحثتُ عنها في فهارس المكتبات، فلم أعثر عليها مع الأسف، ولذا عكفتُ على أصل المؤلف، وبذلت جهدي في قراءته، واستطعت أن أقدمه بالشكل الذي يراه الناظرون. وقد سبق لي وصف خط المؤلف في مقدمتي على "قاعدة في الاستحسان" (ص 14، 42) ، وكلّ ما ذكرتُه هناك ينطبق على هذا الكتاب، فأحيل القراء إليها. وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج أثر مهم من آثار شيخ الإسلام بخطه، وأشكر الإخوة الذين جلبوا لي المصوَّرات الفلمية والمكبرة عن الأصل، حتى تمكنتُ من قراءة الكلمات والأسطر التي كانت ساقطة أو مطموسة في مصوَّرتي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وأخصّ بالذكر منهم الأخوين الكريمين والمحققين الفاضلين علي ابن محمد العمران وأحمد حاج محمد، فقد سعيا في ذلك كثيرًا، جزاهما الله أحسن الجزاء عن العلم وأهله، ووفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب. محمد عزير شمس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 نماذج من الأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 نصّ الفتوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 بسم الله الرحمن الرحيم ما تقول السادةُ العلماءُ أئمةُ الهدى ومصابيحُ الدُّجَى فيمن يَزعمُ أنه على قَدمِ كُل نبي من الأنبياء وليَّانِ: وليٌّ ظاهرٌ وولىٌّ باطن، وهما أقطابُ الغوثِ (1) الذي ينتهي إليه حوائجُ الخلقِ، وأنّ له أربعةَ أوتاد وسبعةَ نُجَبَاءَ واثنا عشرَ (2) نقيبًا وأربعين بَدَلاً، وأنّ كلَّما ماتَ من الاثنا عشر واحدا (3) أُخِذَ من الأربعين، ومن السبعة أُخِذَ من الاثنا عشر (4) ، وكل ينزل من أكثر العدد إلى أقلِّ العدد بحسب مراتب الأوضاع، وأنّ الغوث بمكة، والقطبين أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، والأربعة بأركان الأرض، والنجباء بمصر، والأبدال بالشام، والنّقباء بالعراق، وأنّ الشدّةَ إذا نزلتْ بأهل الأرض رِفعَها الأدنَى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يَرفعُ بصرَه حتى تنفرجَ تلك النازلة. ويَدَّعون أنَّ لكل قطب علم (5) لا يعرفه الآخر، ويسمُّون أنواعًا من العلوم الظاهرة والباطنة.   (1) كذا في الأصل، والأولى "قطبا الغوث". (2) كذا في الأصل، والصواب "اثني عشر". (3) كذا في الأصل، والصواب: "من الاثني عشر واحدٌ". (4) كذا في الأصل بالألف. (5) كذا في الأصل بالرفع، وحقه النصب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 والمسئول معرفةُ الحق المشروع، هل هذه الأشياء المسمَّاةُ لها دليلٌ من كتاب أو سنةٍ؟ أو لها وجود أو لها تأثير؟ أو لها حقيقة تَرجعُ إلى تَمثُّلها في الأكوانِ أو الأذهان؟ وهل الحديث المروي عن النبَي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لاّ تَسُبُّوا أهلَ الشام، فإنَّ فيهم الأبدالَ"، هل هو صحيح أم ضعيف؟ وإن كان صحيحًا ما حكمه؟ أفتونا مُثَابِين مأجورين إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 الحمد لله. هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصلَ لها من كتاب ولا سنَّةٍ، ولا قولِ أحدٍ من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين وشيوخهم، الذين لهم في الأمة لسانُ صِدقٍ، وإنما يُذكَر بعضُ هذا الكلام عن بعض الشيوخِ المتأخرين، مع أنه لا أصلَ له، وزَادَ في ذلك مَن بعدهم ونقصوا، وغَيروا في الأعداد والمراتب والصفات،/ وقالوا أشياءَ نعلم مخالفتَها لدين المسلمين، بل ولعقلِ عقلاءِ العالمين. وقد يَروون في ذلك أحاديثَ موضوعة، مثل روايتهم أنه كان للمغيرة بن شعبة غلام اسمُه هلال، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنه من السبعة" (1) . وقد روى هذا الحديثَ بعضُ المصنِّفين في الرقائق، كما روى غيرَه من الموضوعات، وأما الشهادة لمعيَّن بالجنَّةِ فهذا صحيح، فقد شهدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة لغير واحدٍ من الصحابة، كالعشرة وثابت بن قيس وغيرهم.   (1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/24) من طريق عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليدخلن من هذا الباب رجلٌ ينظر الله إليه"، قال: فدخل هلال ... ، إلى آخر الحديث، وسنده ضعيف ومقطع. وأخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (الأصل الخامس والعشرين بعد المائة) من طريق يحيى بن أبي طلحة عن أبي الدرداء قال: كنت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فقال: "يدخل من هذا الباب رجلٌ من أهل الجنة ... " الحديث مطولاً. وانظر "الإصابة" (3/608) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وهؤلاء الذين تكلموا في هذا من المُتأخرين يجعلون الأقطابَ سبعةً على عددِ الأقاليم، ويجعلونَ الأوتادَ أربعةً كالأوتادِ التي يذكرها المنجّمون، ويجعلون الغوثَ واحدًا مقيمًا بمكةَ، ويجعلون مددَ أهلِ الأرضِ منه، ويقولون: إنه منه يَفِيضُ على أهلِ الأرضِ ما يَنزِلُ عليهم من الهدى والرزق ونحو ذلك، ويقولون: إنه لابُدَّ لكل زمانٍ من ذلك، كما يَقول الرافضة: إنه لابُدَّ لكل زمان من إمام معصوم، وكما يقولُ النصارى: إنه لابُدَّ من الباب الذي به يُحفَظ أهلُ الأرض (1) . فقيل لبعضِ هؤلاء: فإذا كان لابُدَّ كذلك فمَنِ الغَوثُ الذي كان بمكةَ بعد الهجرةِ على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه الراشدين، الذي كان هو المُمِدّ لرسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكرٍ وعمرَ وهو أفضلُ منهم؟ فبُهِتَ مدَّعِيْ ذلك. وقد يقولون مع ذلك بأنّ لكلّ زمانٍ خَضِرًا، ويجعلونَ الخَضِرَ مرتبةً محفوظةً لا شخصا معيَّنا، ويَدَّعونَ أنه يَنزِلُ كلَّ عامٍ على البيت ورقة مكتوبٌ فيها اسمُ غوثِ ذلك العام وخضرِه. ونحو هذه الدعاوي التي يَعلَمُ كلُّ عاقلٍ بطلانَها، وضَلالَ معتقدِها، وكَذِبَ المُخبِرِ بها عمدًا أو خطأ. ومن هؤلاء من يُعيِّن لكل قريةٍ من القرى واحدًا من هذا العدد   (1) ذكر المؤلف نحوه في "مجموع الفتاوى" (11/364، 439، 442؛ 27/ 96) و"منهاج السنة" (1/91-92) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 أو أقل أو أكثر، ويتكلمون في ذلك نظمًا ونثرًا بكلامٍ يُناقِضُ العقلَ ويخالف دينَ الإسلام. وحقيقةُ الأمر في ذلك أنَّ أولياء الله هم المؤمنون المتقون (1) ، كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) (2) /وفي صحيح البخاري (3) عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بمثلِ أداء ما افترضتُ عليه، ولا يَزالُ عبدي يَتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أُحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسْمَع به، وبَصرَه الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمشِي بها. فبيْ يَسْمَع، وبِي يُبْصِر، وبي يَبْطِشُ، وبي يمشي، (وإن سألني لأعطِينَّه، ولئن استعاذني لأعِيْذَنَّه) (4) ، وما تردَّدتُ عن شىء أنا فاعلُه تردُّدي عن قَبْضِ نفسِ عبدي المؤمنِ يَكرهُ الموتَ وأَكْرهُ مَسَاءتَه، ولابدَّ له منه". وأيضًا فإنّ الله بعباداتِ عبادِه المؤمنين ودُعائِهم يَجلِبُ للناسِ   (1) بيّن المؤلف ذلك في "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" وغيره من مؤلفاته ورسائله. (2) سورة يونس: 62- 64. (3) برقم (6502) . (4) ما بين القوسين مستدرك في الهامش، ولم يظهر منه إلاّ قليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 المنافعَ ويَدْفَعُ عنهم المضارَّ، كما في السنن (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وهل تنصَرون وتُرْزقون إلاّ بضُعفائِكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم". وانتفاعُ الخَلْقِ بدعاء المؤمنين وصلاتهم كانتفاع الحيّ والميّتِ بدعاء المؤمنين واستغفارِهم، ونزولِ الغيثِ بدعاءِ المؤمنين واستغفارِهم، والنَّصْر على الأعداءِ بدعاء المؤمنين واستغفارهم، وأمثال ذلك مما اتفق عليه المؤمنون. فهذانِ الأصلانِ هما أصلانِ ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع. وليس لأولياء الله عددٌ محصور تتساوى فيه الأزمنة، ولا لهم مكانٌ معيّنٌ من الأمكنة، بل هم يزدادون ويَنقُصون بحسبِ زيادةِ أهلِ الإيمان والتقوى ونقصانهم. فَبَعَثَ الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الناس، وكان الأمر كما أخبر في الحديث الصحيح (2) : "إن الله نَظَرَ إلى أهلِ 236 ب الأرض فمَقَتَهم، عَرَبَهم وعَجَمَهم،/ إلاّ بقايا من أهل الكتاب". وقد ثبتَ في الصحيح (3) أن إبراهيم الخليل قال لسارةَ: "إنه ليس على وجهِ الأرض مؤمنٌ غيري وغيرُك". وقد أخبر الله عن نوحٍ   (1) أخرج البخاري (2896) عن مصعب بن سعد قال: رأى سعدٌ أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل تنصرون وتُرْزقون إلاّ بضعفائكم". ورواه النسائي (6/45) عن مصعب عن أبيه سعد نحوه، وفيه: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم". وأخرجه أحمد في "مسنده" (1/173) من طريق مكحول عن سعد نحوه. (2) أخرجه مسلم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي. (3) البخاري (2217، 3358) عن أبي هريرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 أنه (ما ءامن معه إلا قليل (40)) (1) ، وأنَّ الله أغرقَ أهلَ الأرضِ إلاّ من كان معه في السفينةِ. وقد كانت الشام قبلَ أن يخرج إليها موسى وبنو إسرائيلَ يَغلِبُ على أهلِها الكفرُ، فأورثها الله لبني إسرائيلَ، فصارَ فيها من الأنبياء والصالحين ما لم يكن فيها نَظِيرُه قبلَ ذلكَ. ولمَّا بعث اللهُ محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمن به طائفة قليلة، فكان أولَ من آمن به أبو بكرٍ وعليٌّ وزيدٌ وخديجةُ، وآمنَ على يَدَيْ أبي بكرٍ عثمانُ وطلحةُ والزبيرُ وسعد وعبد الرحمن، ثمَّ تَزايدَ أهلُ الإيمانِ حتًى بلغوا أربعين، فلم يكنْ بمكةَ قبلَ ذلك أربعونَ مؤمنًا، بل ولا عَشَرة مؤمنونَ، بل ولا أربعةٌ. ثم إنّ الإيمانَ زادَ، وهاجرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، وكَثُر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكل هؤلاء من سادات أولياء الله المتقين، فبايَعهُ تحتَ الشجرة أكثرُ من ألفٍ وأربع مائة قد رضي الله عنهم، وكلهم من أهل الجنة، قال الله فيهم: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (2) . وفي الصحيح (3) أنه قال لخالد بن الوليد لمَّا (4) سَابَّ   (1) سورة هود: 40. (2) سورة الحديد: 10. (3) البخاري (3673) ومسلم (2541) . (4) "لما" مشطوب عليها في الأصل سهوًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 عبد الرحمن بن عوفٍ: "يا خالدُ، لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقَ أحدُكُم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغَ مُذَ أحدِهم ولا نَصِيْفَه ". وخالدٌ هو ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فإنه أسلم بعد/ الحديبية (1) ، فجعلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هؤلاء التابعينَ من الصحابةِ بالنسبة إلى السابقين منهم بهذه المنزلة. وانتشرَ الإسلامُ بعد هذا في أرضِ اليمن والشام والعراق وخراسان ومصر ومغرب (2) ، حتى بقي في العصر الواحدِ من هذه البلادِ من أولياء الله أُلوفٌ مؤلَّفةٌ. فمن قَصَرَهم حينئذ على الأربعين أو ثلاث مائة كان جاهلاً، كما أنَ من بلغ بهم في أولِ الإسلام هذا العددَ كان جاهلاً. وأما الأسماء المذكورة فتسميةُ "الغوثِ" لا أصل لها في كلامِ أحدٍ من السلف بالمعنى الذي يَدعِيْه هؤلاء (3) ، ولا يُعرَفُ عن أحدٍ من السلف أنه قال: فلانٌ هو غوثُ هذه الأمة، أو إنّ للأمة غوثًا بمكة أو يجيء مكة. وأما لفظ "النُّقَباء" فإنما ذُكِر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله في قوله: (* وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا   (1) انظر "أسد الغابة" (2/109) و"الإصابة" (1/413) . وقد اختلف في تاريخ إسلامه على أقوال، ولا يصخُ له مشهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل فتح مكة. (2) كذا بدون الألف واللام. (3) انظر كلام المؤلف على "الغوث" في "مجموع الفتاوى" (27/96؛ 11/ 437) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) (1) . وكذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ للأنصار اثني عشرَ نقيبًا على عددِ نُقَباءِ مُوسى (2) . وكذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه عامَ حُنَين لما أطلقَ لهوازنَ السبيَ فقال: "لِيَرْفَعْ لنا عُرَفَاؤكم مَنْ طَيَّبَ ممن لم يُطَيِّب" (3) . وكان العسكرُ اثني عشرَ ألفًا. وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يُعَرِّفُون العُرَفاءَ ويُنَقِّبُون الئقَباءَ، ليُعزَفُوهم بأخبار الناس، ويُنَقبُوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في الكتاب والسنة وكلام السلف. وأما من جَعَلَ لأولياء اللهِ نُقَباء َهم، اثنا عشرَ، أو جَعَلَ الخَضِرَ نقيبَ الأولياء، فهذا باطل، فإنَ أولياء الله لا يَعْرِفُ أعيانَهم على التفصيلِ أحدٌ من البشر، لا نبيّ ولا غيرُ نبيّ. وقد كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمدينته مؤمنون (4) ومنافقون، وقد قال الله له: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (5) . وإذا لم يَقعِ التمييزُ بين هؤلاء وهؤلاء لخير الخلق، فغيرُه   (1) سورة المائدة: 12. (2) أخرجه أحمد في "المسند" (3/460) من حديث كعب بن مالك. وذكر ابن هشام في "السيرة" (1/443، 444) أسماءهم، فراجعه. (3) أخرجه البخاري (2308، 2540، 2608، 3132، 4319، 7177) من حديث عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة. (4) تكررت "مو" في الأصل. (5) سورة التوبة: 101. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 أولى، ومن لم يعَرِفْ أعيانَ المنافِقين جَوَّزَ على مَن ظاهرُه الإسلام أن يكون مؤمنًا، وإذا لم يُعْلَم فُجورُه جاز أن يكون تقيًّا، وكلُّ مؤمنٍ تقيٍّ وليٌّ لله. وقالوا لعمر بن الخطاب: من يُعطَى المغازي؟ قيل: فلان وفلان وآخرون لا يعرفهم أميرُ المؤمنين، فقال: إن لا يكن عمر يعرِفهم فإن الله يعرفُهم، وقد قال تعالى: (وما يعلم جنود ربك إلا هو) (1) . وقد ثبت في الصحيح (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعرِف أمته يومَ القيامةِ بسِيماهُم، فإنّهم يكونون غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ من آثارِ الوَضوءِ. وأيضًا فأولياء الله إذا كان لهم نُقَباءُ كان النُقَباءُ أخبرَ بهم ممن يَرفعونَ أخبارَهم إليه، ومعلومٌ أن الذين يَرفَعونَ أخبارَهم إليه سواء كان نبيًّا أو غير نبيّ، هو أعلى مرتبةً من النُّقَباء، فيكون المفضولُ أعلمَ بأولياءِ اللهِ من الفاضل، وهذا ممتنعٌ. بخلاف النُّقَباء الذين جاء بهم الكتاب والسنة، فإنهم يرفعون أخبارَهم الظاهرة التي يَشهَدُ بها الشُّهودُ ويَحكُم بها الحُكَّام، وإن كان قد يكون في ذلك ما يُستدَلُّ به على الإيمان والتقوى، لكنّ الدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمِ الدليلِ المعيَّنِ عدمُ المدلول عليه، فلا يُشْهَد على شخصٍ معين أنه ليس من أولياء الله إلاّ بعليم يقتضي ذلك. والنقباء لا   (1) سورة المدثر: 31. (2) البخاري (136) ومسلم (246) من حديث أبي هريرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 يشهدون بذلك، ومن لم يشهد بذلك لم يكن عَالمًا بمن هو وليّ ممن ليس بولي. وأما لفظ "الأبدال" (1) فقد جاء ذِكرُه في كلامِ كثير من السلف: فلانٌ كان يُعَدُّ من الأبدال. ولفظ "الأوتاد" (2) جاء في كلام بعضهم. فأما لفظ "الأبدال " فقد فُسِّر بثلاثِ معاني: قيل: سُمُّوا أبدالاً لأنهم أبدالٌ عن الأنبياء، وهذا المعنى صحيح. فإن الأنبياء،/لهم خُلَفاء، كما كان الخلفاء الراشدون خلفاءَ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد كان له في حياتِه ولغيرِه من الأنبياء خلفاءُ في أمرٍ دونَ أمرٍ، فإنه كان إذا خرجَ في غَزْوٍ أو حَجٍّ أو عُمرةٍ استخلفَ على المدينة بعضَ أصحابه، كما كان يَستخلف ابنَ أمّ مكتوم وغيره، واستخلف علي بن أبي طالب [في] غزوة تبوك، وكان قد خرج معه عامة أصحابه، ولم يبق بالمدينة من المؤمنين إلاّ معذور، غير الثلاثة الذين خُلِّفوا، فخرج إليه على، فقال: يا رسولَ الله، أتَدَعُنِي مع النساءِ والصبيان؟ فقال: "أما تَرضَى أن تكونَ منّي بمنزلة هارون من موسى؟ " (3) وقد قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)) (4) .   (1) انظر كلام المؤلف على هذا اللفظ في "مجموع الفتاوى" (11/441) . (2) انظر عن هذا اللفظ: "مجموع الفتاوى" (11/440) . (3) أخرجه مسلم (2404) وأحمد في "المسند" (1/185) والترمذي (2999، 3724) من حديث سعد بن أبي وقاص. (4) سورة الأعراف: 142. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 فاستخلف موسى هارون مدةَ ذهابِه للميقات إلى أن عاد. وكذلك كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته وُلاةٌ على الأمْصَار كعتَاب بن أَسِيد وخالد بن سعيد وغيرهما، وسُعَاةٌ على الصدقات ونُواب في التعليم، كمعاذٍ وأبي موسى، وكلٌّ من هؤلاء خليفة له وبدل عنه في بعض الأمور دونَ بعضٍ. وجاء في حديثٍ وصفُ الذين يُحيون السنَّةَ ويُعلِّمونها الناسَ بأنهم خلفاءُ النبي (1) ، وللأنبياء أيضًا ورثة كما في الحديث المشهور في السنن: "العلماء ورثةُ الأنبياء" (2) . والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال بعضَ ما بُعِثوا به من العلم فهو وارث لذلك المقدار، ومن قام مقامَهم في بعض الأمر فقد خلفهم في ذلك على البدلية، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان بدلاً منهمِ في ذلك. وقد استسقى عمر بالعباس وقال: "اللهم إنّا كنّا إذا أجْدَبْنا نتوسل إليك بنبيّنا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبيّنا" (3) . ومعلوم أن من جملةِ أحوالِ الأنبياءِ دعاءَهم للخلق، وما يحصل   (1) أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص5) وأبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان " (1/81) والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (ص 31) من حديث علي. وهو حديث موضوع، انظر الكلام عليه في الضعيفة (854) . (2) أخرجه أحمد (5/196) وأبو داود (3641) والترمذي (2682) وابن ماجه (223) من حديث أبي الدرداء، وهو حديث حسن. (3) أخرجه البخاري (1010، 3710) من حديث أنس بن مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قام مقامَهم في بعض ذلك كان بَدَلاً منهم في ذلك البعض. وقيل: سُمُّوا أبدالاً لأنه كلَّما مات رجل أبدلَ الله مكانه رجلاً. وهذا لا يَصحُّ، ولا مدحَ فيه/فإنّ كون الشخص إذا ماتَ قامَ مقامَه غيرُه قد يكون مع إيمانه، وقد يكون مع كفره، والله جعلَ بعضَ بني آدمَ خُلفاءَ بعض مع اختلاف أعمالِهم. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) (1) ، وقال: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)) (2) . فقد جعل أمة محمد خلائفَ عمن أهلك من القرون المكذبين الظالمين. وقد قال نوح له (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)) (3) ، فهذا الولد الفاجر الكَفارُ بَدَلٌ عن أبيه. فليس في إبدالِ شخصٍ مكان شخص مدح إلاّ أن يكون الأولُ ممدوحًا، فإن لم يُعتَبر في معنى البدل أن يكون بدلاً عن نبيٍّ أو مَن يقوم مقامَ نبيٍّ لم يكن في كونه بدلاً عمَّن كان قبلَه صِفةُ مدح. وأيضًا فلو كان كلُّ من ماتَ قامَ مقامَه غيرُه لَلَزِمَ أن يقومَ مقامَ   (1) سورة الأنعام: 165. (2) سورة يونس: 13- 14. (3) سورة نوح: 27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أمثالُهم، ولم يكن كذلك. وهؤلاء أفضلُ خلفاءِ الرُّسُل وأبدالهم ووُرَّاثهم. وأيضًا فمن يكون بدلاً عن الأنبياء كثيرون إذا كَثُرَ الإيمان والتقوى، قليلون إذا قَل ذلك، ومعلومٌ أنَّ المؤمنين المتقين ليسوا إذا مات منهم واحدٌ قامَ مقامَه غيرُه. وقد قيل في معنى الأبدال: إنهم بَدَّلُوا سيئاتِهم حسناتٍ. وهذا معنى التائبين، فكل مؤمنٍ تابَ من سيئاتِه له هذا المعنى. وزعمَ بعضُهم أنَ البدلَ إذا غابَ عن مكانه أُبدِلَ بصورةٍ على مثالِه. وهذا باطل، ولم يكن السلف يَعْنُون بالبدل هذا المعنى، ولا يجعلون ذلك لازمًا لمن يسمونه بهذا الاسم. وأما اسم "القُطْب" (1) فالقطب مأخوذ من قطب الرَّحَى، وهو ما يدور عليه الرحَى، وكذلك قطب الفلك وغيرُ ذلك من الأجسامِ الدائرة. ف الشخص الذي يدور عليه أمر من الأمورِ هو قطبُ ذلك الأمرِ، وأفضلُ الخلقِ هم الرُّسُلُ، وعليهم تدور رسالةُ الله إلى خلقه، وتبليغُهم أمرَه ونهيَه ووعدَه ووعيدَه،/وكلُّ من دارَ عليه أمرٌ من الأمورِ فهو قُطبُه، فإمامُ الصلاةِ قُطبُ الإمامة، ومؤذِّنُ المسجد قُطبُ الأذان، وحاكم البلد قطب القضاء، وأميرُ الحرب قطبُ هذه الإمارة، وأئمة الهُدَى -كالشيوخِ الذين يُقتدَى بهم في دينِ الله- هم أقطابُ ما دارَ عليهم من ذلك. ومَن يُنْصَر المسلمون ويُرْزَقون   (1) انظر كلام المؤلف على هذا اللفظ في "مجموع الفتاوى" (11/440) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم هم أقطابُ ما دارَ عليهم. وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأةُ راعية على مالِ زوجًها، وهي مسئولة عن رعيتها، والمملوكُ راع على مالِ سيِّدِه وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيَّته". وكان الخلفاء الراشدين (2) أقطاب الأمة، دارَ عليهم من مصالحِ الأمة في دينها ودنياها ما لم يَدُرْ على أحدٍ مثلُه، ثمَّ بعدَهم تفرَّقَ الأمرُ، فصارَ الملوكُ والأمراءُ يقومون ببعض الأمر، وأهلُ العلم والدين يقومون ببعض الأمر، وهؤلاء من أولي الأمر، وهؤلاء من أولى [الأمر] (3) . وقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (4) يتناولُ الطائفتَيْنِ العلماءَ والأمراءَ إذا أَمروا بطاعة الله، فمن أمرَ بمعصية الله فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ، وقد جاء في الأثر: "صِنْفانِ إذا صَلحوا صَلحَ الناسُ: العلماءُ   (1) البخاري (893، 2409، 2554، 2558، 2751، 5188. 5200، 7138) ومسلم (1829) من حديث ابن عمر. (2) كذا في الأصل بالياء والنون، ويصح إذا جعلنا "الخلفاء الراشدين" خبرًا مقدمًا لكان، و"أقطاب" اسمٍا مؤخرًا مرفوعًا. (3) لا يوجد في الأصل، وهو واضح من السياق. (4) سورة النساء: 59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 والأمراء" (1) . وقد يكون في الزمان رجلٌ هو أفضل أهل الأرض، كما قد يكون رجلان وثلاثة وأربعة، ولكن ليس في الوجود/رجلٌ هو أفضل أهل الأرضِ، وفيه ما يَقتضي أنه بوجودِه يَحصُلُ للناسِ الرزقُ، ويَنتَصِرونَ على الأعداء، وتهتدي قلوبهم مع كونهم مُعرِضين عن طاعة الله ورسوله. بل كان نوح أفضلَ أهل الأرضِ، وقد مَكثَ في قومِه ألفَ سنةٍ إلاّ خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وقد قال نوح: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)) (2) . لمَّ إنَّ اللهَ أغرقَ أهلَ الأرضِ إلاّ من آمن به. وكذلك غيرُه من الرسل، كهُوْدٍ وصالح وشعيب ولوط وغيرهم. نعم قد يَحصُل بدعائه وعبادته من الخير ويَندفِعُ من الشرِّ ما لا يَحصُل بدون ذلك، كما في قوله: "بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (3) . وقد قال تعالى لنبيه: (وَمَا كانَ الله ليعَذِبَهُم   (1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/96) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/184) من طريق محمد بن زياد اليشكري عن ميمون بن مهران عن ابن عباس مرفوعاً. وهو حديث موضوع، آفته محمد بن زياد، وهو وضاع كذاب. (2) سورة نوح: 5- 7. (3) جزء من حديث سبق تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (1) وقال تعالى: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)) (2) . يقول: لولا أن تَطَأوا أولئك المؤمنين والمؤمنات الذين لم تعلموهم إذا دخلتم مكة بالسيف، لسلَّطكم على أهل مكة، ولو تميَّز المؤمنون من الكُفار لعذبنا الكفار عذابًا أليما. فهذا ونحوه مما يُوافِق دينَ المسلمين. /وأما ما يدعيه قومٌ في القطب والمرتبة التي يُسَمونها "القطبيّة" و"القُطبانية" فمن الغلوّ الذي يُشبِه غُلُوَّ النصارى والرافضة، كقولِ أحدهم: القطب الغوث الفرد الجامع، وتفسيرهم ذلك بأن مددَ أهلِ الأرض يكون من جهته، وأن الله إذا أنزلَ إلى أهل الأرض خيرًا من هُدىً ورزقٍ ونصرٍ فإنه يُنزِله عليه، ثم منه يَفِيْض إلى سائر الخلق. وقد يدَّعي أحدهم أنه منه مددُ ملائكةِ السماواتِ وطيرِ الهواء وحِيْتَانِ الماء، وأنه يُعطِي الملكَ وولايةَ اللهِ لمن يشاء ويَصرِف ذلك عمن يشاء. ونحو هذه المقالات التي تَجعلُ للقُطب نوعًا من الإلهية والربوبية التي لم تَحصُلْ للأنبياء. وآخرون يجعلون ذلك للغوث، ويجعلون مسمى الغوث أعلى   (1) سورة الأنفال: 33. (2) سورة الفتح: 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 من مسمى القطب. وآخرون يجمعون بين الاسمين فيقولون: "القطب الغوث"، كما تقدم. فهذا وأمثاله من أعظم الكذب والمحال، ومن أعظم الشرك والضلال، وهو شبيه بالإفك والشرك الذي ذمَّ الله به المشركين وأهل الكتاب. وهو سبحانه كثيرًا ما يجمع بين الكذب والشرك، كقوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (1) ، وقول الخليل: (أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) (86) (2) ، وفي له تعالى:) (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)) (3) . /وما يُنزل الله على قلوب عبادِه من الهُدَى والإيمان هو بمنزلة ما يعطيهم إياه من الرزق، ومَعلوم أن ما يُنزِلُه من المطر ويُنبتُه من النبات لم ينزله قبل ذلك على شخصٍ من البشر، وكذلك ماَ يُغذِّيْ به عبادَه من الطعام والشراب والهواء لم يَتَغذَّ به قبله واحد من الناس، ثم انتقل عنه إلى الناس، وأنه ... (4) من الهدى هم الرسل صلوات الله عليهم، فالرسول يدعو إلى الله ويتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويُعلِّمهم الكتاب والحكمة، وهو يهديهم بمعنى أنه   (1) سورة الحج: 30- 31. (2) سورة الصافات: 86. (3) سورة القصص: 74- 75. (4) هنا كلمة لم أستطع قراءتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 يدعوهم ويُبيِّن لهم، وليس في قدرته أن يجعل الهدى ولا الضلالة في قلب أحد، بل ذلك لا يَقدِرُ عليه إلاّ الله، قال تعالى: (إِنَكَ لَا تَهدِى من أَحببت) (1) ، وقال تعالى: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (37)) (2) أي من يضله الله لا يهدَى، كما قال: (مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتَدِ وَمن يُضلِل فَلَن تجدَ لَه وَلِيَّا مرشِدًا (17)) (3) ، وقال: (*لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)) (4) . ولهذا أمر الله عبادَه أن يقولوا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)) (5) ، وهذه الهداية المطلوبة من الله، لا يَقدِرُ عليها إلاّ الله. وفي الصحيح (6) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهمَّ ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السماواتِ والأرضِ، عالمَ الغيب والشهادةِ، أنتَ تَحكمُ بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون، اهْدِني لما اختُلِفَ فيه من الحقّ بإذْنِك، إنَّك تَهدِي من تَشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ". وقد ثبت في الصحيحين (7) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ به من الهُدَى والعلم كمثلِ غَيْثٍ أصابَ أرضًا، فكانت   (1) سورة القصص: 56. (2) سورة النحل: 37. (3) سورة الكهف: 17. (4) سورة البقرة: 272. (5) سورة الفاتحة: 6. (6) مسلم (770) من حديث عائشة. (7) البخاري (79) ومسلم (2282) من حديث أبي موسى الأشعري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 منها طائفة قَبلتِ الماءَ، فأَنْبتتِ الكَلأَ وَالعُشْبَ الكثيرَ، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء فسَقى الناس وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قِيْعَانٌ/ لا تُمسِك ماءً، ولا تُنبتُ كَلأً. فذلك مَثَلُ مَن فَقُهَ في دينِ اللهِ، ونَفَعَه ما بَعثنَي اللهُ به مَن الهدى والعلم، ومَثلُ مَنْ لم يَرْفع بذلك رأسًا، ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرسِلْتُ به". فقد بَيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ مثل ما أرسلَه اللهُ به كالماءِ، والماءُ مختلف باختلاف المحلّ الذي يَصِلُ إليه، فهكذا ما بعثَ الله به رسولَه يَختلِفُ أثرُه باختلاف القلوب التي يَصِلُ إليها، فكما أنَّ الزرعَ يَحصُلُ من الماء ومن التُّربةِ الطيبة، فهكذا الهدى، يَحْصُلُ من هداية الأنبياء ومن القلوب القابلة لذلك. فإذا كان هذا حال الرسل مع من يخاطبه الرسول ويكلِّمه ويَحرِص على هُداه، لا يَقدِر على جعل الضال مهتديًا، فكيف يُجعَل شخص دون الرُّسُل بكثير يَهدي الخَلْقَ كلهم، لا سمعوا كلامَه ولا رأوه، ولا عرفوه ولا عرفوا ما قال؟ وهل هذا إلاّ من جنس قول الرافضة في المنتظَر الذي لم يَسمَعْ له أحدٌ بحِسٍّ ولا بخَبَرٍ، ولا وَقَعَ له على عَيْنٍ ولا أثرٍ. وفي الجملة فما يقوم بقلب الإنسانِ من معرفة الهدى والعلم والإيمان، لا ينتقل عنه ويقوم بغيره، ولكن قد يقومُ بغيرِه (1) إذا علَّمه وخاطبه، مع بقاء الهدى والعلم في قلب الأوّل. ولهذا يُشَبَّه   (1) تكررت كلمة "بغيره" في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 العلمُ بالمصباح الذي يقتبس منه الناس وهو لا ينقص، فإن المقتبس من المصباح يُحدِثُ الله له نارًا في ذُبَالةِ مصباحه من غير أن ينتقل إليه من ذلك المصباح شيء، فهكذا العلم. وقد يُعطي الله رجلاً من العلم والهدى نظيرَ ما أعطى غيرَه بدون تعليم الأول وخطابه. فهذا الغوث القطب/ إذا لم يُعلِّمِ الناس ويُخاطِبْهم كان ما جعله الله في قلوب الناس من الهدى والعلم نظير ما في قَلبه إذا قدر من0.. (1) ، ولكن لم يكن سببًا في ذلك، فضلاً عن أن يَكون من قلبه فاضَ إلى قلوبهم، لاسيما إذا لم يَرَهُ الناس ولا عَرَفوا ما قال ولَا فعل، فإن الإنسان قد يَرى كيان الرجل وآثاره، أو يرى وجهه وعمله، فيَحصُل له بذلك من الهدى والعلم ما يَسَّرَه الله له، أمّا بدون سمع هذا وبصره لذلك، وبدون خطاب دال له أو لمن يوصل إليه، فكيف يصل إليه منه هُدىً؟ فضلاً عن أن يكون منه يَحصُل هُدى جميع الخلق. فليتدبّر اللبيبُ هذا يتبينْ له أنّ ما وصفوا به قطبَهم وغَوثَهم أمرٌ لا يَقدِرُ عليه الأنبياء في العلو، ومع هذا فمعلِّمو الكتاتيب ومُقَرِئو القرآن ومعلّموهم آدابَ الإسلام أهدى للخلق من هذا القطب الغوث الذي قدروه في الأذهان، ولا حقيقةَ له في الأعيان، كما قدَّر الرافضةُ وعَبَدةُ الصلبان. وإذا كان هذا في الهدى الذي يَحصل   (1) هنا كلمة غير واضحة في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 بالتعليم والخطاب، فما الظن بالرزق الذي هو أعيان تنتقل من محل إلى محل، أو اغتذاء يقوم بالإنسان لا يتصور أن يقوم بغيره. نعم يمكن أن يَحصُلَ بالدعاء المستجاب للإنسان من الهدى والرزق والنصر ما لا يَحصُل بدون ذلك، كما ذكرناه أولاً في قوله: "وهل تنصرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم". وكذلك توجه القلوب والهمم له من الأمر بحسب ما يقدره الله، وهذا عام الوجود لا يختص/ بشخص معين، ولا يكون الأمر في ذاك عامًّا للخلق. أما وهذا أمر لم يَحصُلْ للأنبياء والمرسلين، فكيف من دونَهم؟ ولا ريبَ أنَ هؤلاء الضالّين الغُلاة من الذين جعلوا بين اللهِ وبينَ خلقِه وسَائطَ جعلوهم له أندادًا وشُرَكاءَ وشفعاءَ، كما فَعَلتْه النصارى بالمسيح وأمِّه والأحبارِ والرهبان. قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (1) . ولهذا أمر نبيَّه أن يقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)) (2) . ودين الله الذي بعث به رُسُلَه وأنزلَ به كُتبه أثبت وساطة الرسل   (1) سورة التوبة: 31. (2) سورة آل عمران: 64. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 بين الله وبين خلقِه، فيُبَلغونهم أمرَه ونهيَه وخبرَه ووعدَه ووعيدَه، ويقطعون وساطة المخلوقات في العبادة والاستعانة والدعاء والتوكل، فلا يُعبَد إلاّ اللهُ، ولا يتوكَّلُ إلاّ عليه، ولا يُدعَى إلاّ هو، فإنه لا ربَّ غيرُه، ولا خالقَ غيرُه، ولا إلهَ سواه. وكل ما خلقَه من الأسباب فإنه موقوف على سبب آخر يَشْرَكه ويُعِينُه، وله مانع يَحجُبه ويُعوقُه، فما من الموجودات شيء يستقل بالتأثير غيرُ الله، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل ما جُعِل سببًا كإحراق النار فلابد له من مُعين، وهو قبولُ المحلّ، وقد يَحصُل مانع كما حصل في نار إبراهيم،/وبهدى الرسل ودعائهم يهتدي الخلق، ولكن هدى الخلق موقوف على قبولهم. وقد يكون القلبُ مائلاً للهدى، لكن يَحصُلُ له مانع يُعَارِضُه، كما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون (112)) (1) . وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (99)) (2) . وقال تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)) . وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْر   (1) سورة الأنعام: 112. (2) سورة آل عمران: 99. (3) سورة الزخرف: 37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)) (1) . ونظائر هذا كثير. فمن عَدَل عن سبيل المرسلين، فلم يتُابِعْهم ويُطِعْ أمرَهم ونهيَهم قَطَعَ ما بينَه وبينَ الله، فصارَ مشركًا بالله يدعو غيرَ الله، إمّا الملائكة وإمّا الكواكب وإمّا الجنّ، وإمّا البشر كالأنبياء والصالحين، وإما صُوَرَ هؤلاء وتماثيلهم، وإمّا ما يظنُّه موجودًا من هؤلاء. ويتخيلُ في هؤلاء من صفات الإلهية ما لا حقيقةَ له، ويثبت الوسائطَ في خلق الله وربوبيته، ويَجعلُ له شُرَكاءَ وشُفَعاءَ بغير إذنه، وهو سبحانه كما قال: (ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2) ،/وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (3) . والناس في الشفاعة على طرفين ووسط (4) : فالمشركون والنصارى ونحوهم أثبتوا شُفَعَاءَ لهم بدون إذنِه، وهذه الشفاعة التي نفاها الله في كتابه، فقال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ   (1) سورة الفرقان: 27- 29. (2) سورة البقرة: 255. (3) سورة سبا: 22- 23. (4) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (1/148- 151، 116- 120، 313-314) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا (44) (1) . وقال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)) (2) . وقال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)) (3) . وقال تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ) (4) . وقال تعالى: (قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) (5) . وقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) (6) . /وأما الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل الكبائر من أمته، فنَفَوا الشفاعةَ بإذنِ الله وبغير إذنه، وهؤلاء ضُلاَّل، وإن كان ضلالُ الأولين أعظم، إذ ذلك الضلالُ شِرك بالله، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام. ومع هذا فقد صار كثير من المتأخرين المنتسبين إلى العمل والعبادة، يثبتُ نوعًا من هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون والنصارى، فصاَروا أسوأَ حالاً من الخوارج والمعتزلة من هذه الجهة، كما أن هؤلاء ونحوهم   (1) سورة الزمر: 43- 44. (2) سورة الأنعام: 94. (3) سورة يونس: 18. (4) سورة السجدة: 4. (5) سورة البقرة: 254. (6) سورة البقرة: 48. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 يثبِتون القدر الذي نفته المعتزلة ونحوُهم من القدرية، فتكون بذلك خيرًا منهم، لكنهم قد يحتجون به على الشرع، بل قد يلاحظونه، ويُعرِضون عن الأمر والنهي، ويجعلونه الحقيقةَ التي تَدفَع مقتضى الشريعة، وهي الحقيقة الكونية، فيصيرون بذلك مُضاهِين للمشركين الذين قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء) (1) . ومعلوم أن هؤلاء المشركين شرٌّ ممن جَحَد القدرَ من المعتزلة ونحوهم، فهؤلاء الذين يدفعون الأمر والنهي الشرعيَّيْنِ ناظرينَ إلى الحقيقة الكونية، ويثبتون الشفاعةَ التي أثبتها المشركون والنصارى، شر من الخوارج والمَعتزلة من هذا الوجه ومن هذا الوجه،/ فإنهم جمعوا بين الإشراك والبدع في العبادات وبين الاحتجاج بالقدر. وهذا حال المشركين الذين ذمَّهم الله في كتابه، فإنهم كانوا تارةً يعبدون غيرَ الله، وتارةً يزعمون عبادةً لم يشرعها، ويُحرّمون ما أحلّه، وتارةً يحتجون بالقدر. وقد ذكر الله عنهم في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما فيه عبرة للمعتبرين، فإنه سبحانه قرَّر في سورة الأنعام توحيدَه وعبادتَه وحدَه لا شريكَ له، وأنه هو الذي يُدعَى عند الشدائد، وهو الذي يَكشف الضرّ ويُنزِل الرحمة، كقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) (2) . وقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ   (1) سورة الأنعام: 148. (2) سورة الأنعام: 40- 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 (وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)) (1) . وقوله تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)) (2) . وهذه الآية عامَّةٌ في كل من أرادَ الله بعمله. ودعاؤهم بالغداة والعشي يتناول من صلّى صلاةَ الفجر وصلاةَ الظهر والعصر، وليست هذه الآية مختصة بأهل الصفة ولا نزلت فيهم، فإن هذه الآية نزلت بمكة (3) . /وِكذلك الآية الأخرى التي في سورة الكهف: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) (4) . فإن سورة الكهف مكية أيضًا باتفاق العلماء، والصُّفَّةُ إنما كانت بالمدينة، لم تكن بمكة، ولكن طلبَ   (1) سورة الأنعام: 46. (2) سورة الأنعام: 51- 52. (3) أخرج أحمد في "مسنده" (1/420) عن ابن مسعود قال: مرَّ الملأ من قريش على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعنده خباب وصهيب وبلال وعمّار، فقالوا: يا محمد! أرضيتَ بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن ... ، وقد ذكر ابن كثير (3/260) أنها مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة. وراجع تفسير الطبري (11/376) بتحقيق الشيخ محمود شاكر. (4) سورة الكهف: 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 قومٌ من رؤساءِ المشركين من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يَطْرُد المؤمنين الضعفاءَ والفقراءَ عنه، فأنزل الله هذه الآية (1) ، يأمره فيها بأن لا يَطْرُدَ أحدَا لأجل ضعفِه أو فقرِه إذا كان مؤمنًا يُرِيد وجهَ الله، فإنّ الناسَ إنما يُقَرَبُهم إلى الله الإيمانُ والتقوى، لا عِبْرةَ بالغنى ولا بالفَقر. وقد ذكرَ سبحانَه ما يُناسِبُ هذه الآيات في سورةِ الأنعام إلى قوله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)) (2) . ثمَّ إنه سبحانَه قرَّر في السورة بعد التوحيدِ الرسالةَ والكتابَ المنزل، وذَكَرَ ما ذَكَره من رُسُلِه صلواتُ الله عليهم، وذَكَرَ المعادَ والثوابَ والعقابَ، ثمَّ إنه خَتَمَ السورةَ بذمِّ حالِ المشركين وما حرَّموه وما شَرَعُوه من الدين الذي لم يأذن به الله، فقال: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (3) إلى قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ   (1) أخرجه مسلم (2413) من حديث سعد بن أبي وقاص. والاَية مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة. (2) سورة الأنعام: 63- 64. (3) هذا جزء من الآية 21 من سورة الشورى، ولعل المؤلف يَقصد هنا الآية 138 من سورة الأنعام: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)) . فإن الآية التي ذكرها فيما بعد من سورة الأنعام، وهذه السورة هي التي يدور الكلام عليها هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون (148)) (1) . فأخبر عن المشركين أنهم احتجوا فيما شرعوه من الدين وحرموه من الأشياء بالقدر، فقالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) . قال تعالى: (كذلك كذب الذين من قبلهم) أي كذبوا بأمرِ الله ونهيه وخَبَره الذي بعثَ به رُسُلَه، فإن هذا تكذيبٌ منهم للشرع محتجينَ عليه بَالقدر. ثم قال: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)) ، فبيَّن أن الاحتجاجَ بالقدر ليس بدليل على صحة قول المحتج، فإنَ القدرَ مُتناولٌ لكل كائن، فالمحتجُ به لا علْمَ عَنده، إن يَظن إلاّ ظنا، وهو في ذلك من الخَارصين الحازِرين الَكاذبين (2) . وفي صحيح مسلم (3) عن عياض بن حمار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أخبر به عن الله أنه قال: "خَلقْتُ عباديَ حُنفاءَ، فاجْتَالتْهم الشياطينُ، وحَرمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرتْهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإنَ رَبي قال لي: قُمْ في قُرَيش فأنَذرهم، فقلتُ: أيْ رَب إذَا يَثْلغُوا رأسي حتى يَجعلوه خُبْزَةً. فقالَ: إني   (1) سورة الأنعام: 148- 149. (2) بعده في الأصل: "وقال في سورة" ولعل المؤلف كان يريد أن يكتب هنا آية، فعدل عنها، وذكر الحديث الآتي. (3) برقم (2865) . وأخرجه أيضًا أحمد 4/162، 266 وابن ماجه (4179) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 مُبْتَلِيكَ ومُبْتَلٍ بك، ومُنزِلٌ عليك كتابًا لا يَغسِلُه الماءُ، تَقرأُه نائمًا ويَقظانَ. فابْعَثْ جُندًا أَبعَثْ مثلَهم، وأَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك، وقَاتِلْ بمن أطاعَك من عَصَاك". وهذا الأصل مُبيَنٌ في الكتاب والسنة، فمن شَرَعَ دِينًا لم يَأذنْ به الله، أو احتج بالقدر، وجَعَلَ الحقيقة الكونية معارضةً للأمر والنهي الشرعيين فقد ضَاهَى/ هؤلاء المشركين. ولهذا كان المتكلمون في علوم الحقائق على ثلاثة (1) درجات: إحداها: أهل الحقيقة الدينية الشرعية، الذين يتكلمون في حقائق الإيمان، كالحبّ لله، والتوكل عليه، وإخلاص الدين له، والخوف منه، والرجاء له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمِه، ونحو ذلك من حقائق الدين بما يوافق الكتاب والسنة. فهذا أهل طريق أولياء الله المتقين وحِزْبه المصلحين وعباده الصالحين. والثانية: من خاضَ في حقائق الدين بمجرد ذَوقه ووَجْدِه ورَأْيِه، سواءً وافَقَت الكتابَ والسنةَ أو خالفتْ. فهذا (2) يصيبون تارةً ويُخطِئون تارةً، ويكونون من أهل السنة تارةً ومن أهل البدعة أخرى. الثالثة: من وقف عند الحقيقة الكونية القدرية، ولم يُميِّزْ بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين طاعته ومعصيته، ولا بين ما يُحِبه   (1) كذا في الأصل "ثلاثة" بإثبات الهاء. (2) كذا في الأصل بالإفراد، والأولى "فهؤلاء" ليناسب الآتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 ويرضاه وبين سائرِ ما قدَّره وقضاه. فهؤلاء أهلُ ضلالٍ وتعطيلٍ، قد حقَّقُوا التوحيد الذي أقرَّ به المشركون، ولم يدخلوا في توحيد الله ودينه الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون. فإن انتقلوا من ذلك إلى الحلول ووحدةِ الوجود والإلحاد فقد صاروا من أعظم أهلِ الكفر والإلحاد. وهؤلاء فيهم من الإشراك بالله والمخالفة لدينه ما لا يعلمه إلاّ الله، كما قد بَسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع (1) . والمقصود هنا الكلام على اسم "القطب" ومسماه،/ وما علمتُ أنَ السلف تكلموا بهذا الاسم في الرجال. (2) ، ولا جعلوا اسم القطب مما يُعَثر به عن أحوالِ أولياء الله المتقين. بخلاف اسم "الأبدال"، فإنه نُقِلَ عنهم التكلُّم بذلك في مواضع. وقد تكلم بعض المتأخرين بلفظ "الوتد"، والوتدُ: المُثبتُ لغيره، كما أن الجبال أوتاد الأرض، فمن ثبتَ اللهُ به الإيمَانَ والتقوى في قلوب بعض عباده، أو ثَبَتَ بدعائِه وعبادتِه نصرُهم ورزقُهم، كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك. وأما قول القائل: "إن على قَدَم كل نبي من الأنبياء وليَّان (3) : ولي ظاهر وولي باطن"، فهذا كذب بلا ريب، فإنّ الأنبياء مائة ألفٍ   (1) انظر "مجموع الفتاوى". (2) هنا كلمة مطموسة في الأصل، ولعلها "الصالحين" وما في معناها. (3) كذا في الأصل بالرفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وأربعة وعشرون ألفَ نبي (1) ، وأصحاب رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين صحبوه أفضلُ الخلق، وما بلغوا هذا العدد، بل مكث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى حين الفتح أكثر من عشرين سنة، وما آمن معه إلاّ بضعة عشر ألفًا. ومعلوم أن هؤلاء الأولياء لا يكونون بعد مبعثه في غير أمته، فإذا كانت أمتُه في سنين كثيرة لا تَبلُغ هذا العدد عُلِم قطعًا بطلانُ ذلك. وأيضًا فقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رأى الأنبياء، النبي يجيء وحده، والنبي يجيء معه الرجل، والنبي يجيء معه الرجلان (2) . فإذا كان النبي قد لا يَتَبعُه أحدٌ، أو لا يتبعه إلاّ رجلٌ واحد، فكيف يجب أن يكون له في كَل عصرٍ اثنان على قَدَمِه من أمةِ غيره؟   (1) كما في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (361) من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني قال حدثنا أبي عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر. قال الهيثمي في "موارد الظمآن" (94) : فيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، قال أبو حاتم وغيره: كذاب. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/166- 168) والطبراني قسماً منه في "المعجم الكبير" (1651) من طريق إبراهيم بن هشام به. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/167) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/9) من طريق آخر عن أبي ذر، وفيه يحيى بن سعيد السعيدي، قال العقيلي: لا يتابَع على حديثه، وقال ابن عدي: يعرف بهذا الحديث، وهو منكر من هذا الطريق. وأخرج بعضه أحمد في "مسنده" (5/265) من حديث أبي أمامة، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/159) : مداره على علي بن زيد، وهو ضعيف. (2) أخرجه البخاري (5705، 5752، 6541) ومسلم (220) من حديث ابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وأيضًا فقوله: "وفيٌ باطن ووليٌّ ظاهر" إن أُرِيدَ به وليٌ يعرفه الناس ويظهر لهم ولايتُه، ووليٌ لا يَظهر لهم، فمن المعلوم أن الناس لا يظهر لهم ولايةُ مائة ألف ولا عشرة ألف (1) ، ولا يُشهَد بالولاية إلاّ لمن ثبتَ أنه ولي، إما بنصّ أو بما يقوم مقامَه. وإن كان لا يُشْهَد بنَفْيِها، لكن نحن نعلم قطعًا أنه لا يظهر ولاية هذا العدد للناس. وإن أريد بظهوره وجودُه بين الناس وعلمُهم به، فعامَّة الأولياء ظاهرون بهذا الاعتبار، بل ليس من الأولياء من لم يَرَهُ الناس، وإذا قُدر أن فيهم من يَختفِي عن الناس كثيرًا من أوقاته أو أكثرها، فلا بد أن يظهر لبعضهم في بعض الأوقات، ولو أنه ظهرَ/لأبويه ومَن ربَّاه إذا كان صغيرًا. ثم هؤلاء في غاية القلة، وهم من أضعف الأولياء ولاية، بل القرون الفاضلة كان وجود هؤلاء فيها نادرًا أو معدومًا، فإن سكنى البوادي والجبال والغِيْران واعتزال المسلمين من جُمَعِهم وجماعتهم إما أن يكون منهما عنه، وإما أن يكون صاحبُه إذا عُذِر عاجزًا منقوصًا. وأيضا فقول القائل "إنّ الوليّ على قدم النبي" لا يجوز أن يريد به اتباعَ شريعته، فإن بعد مبعث محمد لا يتقبل الله من أحد إلاّ شريعته، ولو كان موسى حيًّا ثم اتبعه متبعٌ وترك شريعةَ محمد كان ضالاً (2) ، فلم يبق إلاّ موافقته في بعض أخلاقه وأحواله، كما شبه   (1) كذا في الأصل "ألف" بدل "آلاف". (2) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده" (3/338، 387) = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وشبَّه عمرَ بنوح وموسى (1) ، وحينئذ فيحتاج أن تكون أخلاقُ الأنبياء متفاوتةً هذا التفاوت، وهذا غير معلوم. وأيضا فإنّ غالب الأنبياء لم يُقَصُّوْا على نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم تعرفهم أمتُه، فكيف يكون من أمته مَن هو على قدمِ نبي لا يَعرِفه ولا يعرف قدمَه؟ وأيضًا فهذا كلامٌ لا دليلَ عليه، ولم يَقُلْه من له قولٌ في الأمة، ولو كان مثلُ هذا حقًّا لكان معروفا عند أهل [العلم] (2) والإيمان. فإن مثل هذا لو كان حفًا مما لا يخفى على أهل العلم والإيمان من هذه الأمة، فإذا لم يكن له أصلٌ عندهم عُلِمَ بطلانُه.   = والدارمي (441) عن جابر مرفوعًا: (والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حثا أدرك نبوتي لاتبعني". وأخرج أحمد (3/470، 4/265) نحوه عن عبد الله بن ثابت. (1) أخرجه أحمد في "مسنده" (1/383) والحاكم في المستدرك (3/21) من حديث عبد الله بن مسعود. وراجع كتب التفسير في تفسير سورة الأنفال: الآيتين 67- 68. (2) زيادة يقتضيها السياق، وانظر السطر الذي يليه لتعرف أن الزيادة من أسلوب المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 فصل وأما قول القائل: "الغوث الذي تنتهي إليه حوائج الخلق" ، فحوائجُ الحلق لا تنتهي إلاّ إلى الله، كما قال سبحانه: (وَمَا بِكُم فِن نِعمَهِ فَمِنَ اَللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكمُ اَلضُّرُ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)) (1) ، وقال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (2) ، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)) (3) . قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والمسيح والعُزَير، فأنزل الله هذه الآية (4) . وقال تعالى: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) (102) (5) . وأفضل الخلق: الرسل، والله سبحانه   (1) سورة النحل: 53. (2) سورة فاطر: 2. (3) سورة الإسراء: 56- 57. (4) أخرجه الطبري (15/104) وابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/2335) عن ابن عباس. (5) سورة الكهف: 102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 بعثَهم مبشرين ومنذرين (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (1) ، وجعلهم سُفَراء بينه وبين خلقِه في تبليغ أمره ونهيِه، ووَعْدِه ووعيدِه، وسائرِ كلامِه سبحانه وتعالى. ولم يَضْمَن الرسلُ للخلق لا رزقًا ولا نصرًا ولا هُدىً، بل قال أولُهم نوحٌ: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَك) (2) ، وأَمَر خاتَمَهم وأفضلَهم- صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلَّم تسليمًا -أن يقول ذلك، فقال: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء) (3) ، وقال له: (إِنَّكَ لَا تهدِى مَن أَحببتَ) (4) ، وقال له: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) (5) ، وقال له: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)) (6) ، وقال: (إنما أنت منذرٌ) (7) ، (لست عليهم بمصيطرٍ) (8) .   (1) سورة النساء: 165. (2) هذه الآية في سورة الأنعام: 50، وليس في سياق قصة نوح. والاَية التي أرادها المؤلف في سورة هود: 31 على لسان نوح: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) ، فاشتبهت على المؤلف، وجل من لا يسهو. (3) سورة الأعراف: 188. (4) سورة القصص: 56. (5) سورة آل عمران: 128. (6) سورة الرعد: 40. (7) سورة الرعد: 7. (8) سورة الغاشية: 22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 /فقول القائل: "إن حوائج الخلق تنتهي إليه"، إن أراد به ما يحتاج إليه الخلق من الرزق والهدى والرزق (1) يُحدِثُه الله بواسطته، فقد جعل بين الله [و] (2) بين خلقه ربًّا متوسطًا، كما يزعمه المتفلسفة في العقل الفعال، وهو كفر صريح بإجماع أهل الملل. ثم إنه من أظهر الكذب، فإن أفضل الخلق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعده أولو العزم كإبراهيم وموسى وعيسى، ونحن نعلم قطعًا أن عامة ما كان الله يُحدِثُه في زمانهم لم يكونوا متسببين فيه، ولا كانوا يعلمون به، وقد قال الخضر لموسى لمّا نَقَر العصْفورُ في البحر: "ما نَقَصَ علمي وعلمك من علم الله إلاّ كما نَقَصَ هذا العصفور من هذا البحر" (3) فإذا كان هذا في العلم الذي لا تأثير معه، فكيف بالتأثير في الملك. ومن قال: إن طير الهواء وحيتان البحر ووحوش الفلا والكفّار الذين بأرض الهند والأجنَّة في بطون الأرحام تجري منافعهم ومصالحهم على يد رجلٍ من البشر، فقد قال نظيرَ ما يقوله النصارى في المسيح، وكان قوله من أعظم الكذب القبيح (4) .   (1) كذا وردت "كلمة" الرزق مرة ثانية في الأصل. (2) زيادة لا توجد في الأصل. (3) أخرجه البخاري (122، 3401. 4725، 4727) ومسلم (2380) من حديث أبي بن كعب. (4) بعده في الأصل: "ثم إن"، ثم بياض في باقي الصفحة بقدر ستة أسطر، وكأن المؤلف أراد أن يكتب شيئًا، ثم عدل عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 /وإن قال: إن أهل الأرض إذا احتاجوا إلى شئ دَعَا اللهَ فيُعطِيه بدعائه، كان هذا من نمط الذي قبله، فإنه قد عُلِم أن الله يُجِيب دعوةَ المضطر إذا دعاه وإن كان كافرًا، فإذا كان المشركون يدعون الله بلا واسطة فيُجيب دعاءَهم، فالمسلمون الذين هم عبادُه أولى. وقد يَدعو اللهَ بدعاَءٍ لم يعلم به أحد من البشر. فإن قيل: ذلك الغوثُ يطلع على أسرار قلوب العباد. كان هذا القول أظهرَ في الكفر والفساد، فسَيِّدُ ولدِ آدم يُظهِرُه على شئ ويُجيب عليه أشياءَ. وقد قال له: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (1) . وقال: (قُل َلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) (2) . وقد رُمِيَتْ أم المؤمنين بالإفك وأُخفِيَ عنه أمرُها مدَّةً، لِما كان في ذلك له من المحنة، تعظيمًا لأجرِه ورفعًا لدرجته. وكذلك لما جاء قوم زكَوْا بني أبَيْرق الذين كانوا قد سرقوا طعامَ جارهم ودِرْعَه، ظَن صدْقَ المزكِّين ودفع عن المتَهمِين، حتى أنزل الله تَعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) (3) الآيات.   (1) سورة التوبة: 101. (2) سورة الأنعام: 50. (3) سورة النساء: 105. وسبب نزولها الذي أشار إليه المؤلف، أخرجه الترمذي (3036) والحاكم في "المستدرك" (4/385- 388) من حديث قتادة بن النعمان. وانظر تفسير الطبري (5/165 وما بعدها) وتفسير ابن أبي حاتم= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وفي الصحيح (1) عنه أنه قال: "إنكم تختصمون إليّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ". وفي لفظ: "فأحسبه صادقًا. فمن قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعةً من النار". ولما رآهم يُلقحون النخل [قال] : "ما أظنُّه يُغني شيئًا"، فتركوه، فصار شِيْصًا، فقال: "إنما أخبرتكم عن ظنّي، فلا تؤاخذوني بالظنّ، ولكن إذا حدثتكم عن الله فلق أكذب على الله" (2) . وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإليَّ " (3) . ومثل هذا كثير، فإذا كان هذا أفضل الخلق وأعلمهم فكيف يجوز أن يقال في غيره إنه يعلم جميع أسرار من يحتاج إلى الله؟ /ثم قد عُلِم بالقرآن والتواتر والتجارب أن الخلق مازالوا يحتاجون إلى الله، ويضطرُّون إلى دعائه، إما في إعطائهم ما ينفعهم، كإنزال المطر، وإثبات النبات، وغفران الذنوب، والإعانة على الطاعات؛ وإما في دفع ما يكرهون، مثل دفع الأعداء وتفريج   = (4/1059-1060) و"الدر المنثور" (2/670) . (1) أخرجه البخاري (2458، 2680، 6967، 7169، 7181، 7185) ومسلم (1713) من حديث أم سلمة. (2) أخرجه مسلم (2361) من حديث طلحة بن عبيد الله، ورواه أيضًا أحمد (1/ 162، 163) وابن ماجه (2470) . والشيص: هو البُسر الرديء الذي إذا يبس صار حشفا. (3) أخرجه مسلم (2363) من حديث عائشة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 الكربات، وهو يجيب دعاءَهم ويُعطيهم سُؤْلَهم تحقيقًا لقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)) (1) من غير أن يرفعوا أمرهم إلى واسطة بينهم وبين الله. وأيضًا ف مازال الناسِ يُجْدِبون ويستولي عليهم العدو، وهذا الغوثُ لا ينفع ولا يَدفع، فيا ليتَ شعري ماذا هي الحوائج التي يقضيها؟ أهي التي سألوا الله فيها؟ فالله مجيبُ المضطر إذا دعاه، وهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، أم التي لم تُقضَ بعدُ لأحدٍ فيها؟ أم النعم التي ابتدأهم الله بها من غير سؤالهم؟ فهو سبحانَه يَرزُق الكفار ويمنعهم، بل وينصرهم إذا شاء، كما نصرهم يومَ احد، (لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)) (2) . فإن كان هذا الغوثُ ساعيًا في ذلك كان عاصيًا لله ورسوله، محاربًا لله ورسوله، فإن من حارب الله ورسولَه وعباده المؤمنين كان من أعداء الله لا من أولياء الله. وما يرويه أهل الكذب والضلال من أن أهل الصفة قاتلوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لما انهزم أصحابه يوم حنين أو غير يوم حنين، وأنهم قالوا: نحن مع الله، من كان مع الله كنا معه، من أعظم الكذب الموضوع (3) /وأعظم الكفر بالله   (1) سورة البقرة: 186 (2) سورة آل عمران: 140- 141. (3) ذكر المؤلف في "مجموع الفتاوى" (11/47- 49) هذه الرواية، وبين كذبها= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 ورسوله، وهذا يقوله من ينظر إلى مجرد ما يقدره الله ويقضيه، ويشهد الحقيقة الكونية، مُعرِضًا عمّا يحبُّه الله ويرضاه، وما أمر به ونهى عنه، وبَعثَ به رسلَه وأنزلَ به كُتبَه. ومن طَرَدَ هذا القولَ كان أكفرَ من اليهود والنصارى، فإنّ أولئك آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضٍ، وصاحبُ هذا المشهد لا يؤمن بشيء من الكتاب، وغايتُه في شهودِه تحقيقُ توحيد المشركين كأبي لهب وأبي جهل وأمثالهما من الكفار، فإنّ أولئك كانوا يُقِرُّون بأن الله رب كل شيء وخالقُه، كما أخبر الله عنهم بقوله: (وَلَئِن سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَ السَّمَاواَتِ والأَرضَ لَيَقُولُنَ اَللهُ) (1) . فمن جَعَل غايةَ تحقيقِه في توحيده أن يشهد ذاك، كان منتهاه هذا الإشراك. والله سبحانَه بَعث الرسلَ بتوحيد الإلهية، وهو أن لا يعبد إلاّ الله، ولا يخاف إلاّ إياه، ولا يتوكل إلاّ عليه، ويخلص له الدين، ويطيع رسلَه ويتبعهم، ويحبّ ما أحبّ ويُبغِض ما أبغض، ويوالي من والَى ويعادي مَن عادى، ويأمر بما أمر وينهى عما نهى، حتى يكون الدين كله له، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)) (2) ، وقال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً   = وبطلانها، وحكم على من يقول بها أنه ضال غاو، بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك، فإن تاب وإلاّ قُتِل. (1) سورة لقمان: 25، وسورة الزمر: 38. (2) سورة الأنبياء: 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 يُعْبَدُونَ (45)) (1) ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت) (2) ،/وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون) (3) . فقد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر، فكيف بغيرهم؟ وقد قال عن النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون (31) (4) . ومعلوم أن النصارى لم تجعل الأحبار والرهبان شركاءَ لله في خلق السماوات والأرض، ولا جعلتِ النبيين كذلك، بل جَعَلَتْهم وسائطَ بينهم وبين الله في الإعطاء والمنع والضر والنفع، وأعطوهم من الدعاء والطاعة ما لا يستحقه إلاّ الله، وظنوا أنهم يشفعون لهم عند الله كما يشفع المخلوقُ عند ملوك الدنيا، يشفع عنده من يَعِزّ عليه ومن يحتاج إليه، والله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعالِه ولا أحكامِه، ولا شيء من دونه سبحانه وتعالى، فهو الذي يأذن للشفيع فيشفع، وهو الذي يقبل شفاعته، فالأمر منه وإليه، لا   (1) سورة الزخرف: 45. (2) سورة النحل: 36. (3) سورة آل عمران: 79- 80. (4) سورة التوبة: 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 خالق غيره ولا ربَّ سواه، فلا يُرجَى غيرُه، والشفاعة من جملة الأسباب التي قدَّرها وقضاها، يفعل بها كما يفعل بسائرِ ما يُقدِّرهُ من الأسباب. وأما لفظ "النجباء" فهذا لا يُعرَف في كلام أحد من السلف من أقسام عباد الله الصالحين وأولياء الله المتقين، وإنما تكلم به بعض الشيوخ المتأخرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 / فصل وأما قول القائل: "إن النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق" ونحو هذا الكلام، فهذا الكلام على الإطلاق باطلٌ قطعًا، فإن هذه الأمصار كانت في أول الإسلام ديارَ كفر، لم يكن بها أحد من أولياء الله، ولما صارت دارَ إسلام صار فيها من أولياء الله المتقين بحسب ما في أَهلِها من الإيمان والتقوى، ولا يختص إقليم من هذه الأقاليم بالأبدال. ومن قال إن الأبدال لا يكونون إلاّ بالشام فقد أخطأ، فإن خيارَ هذه الأمةِ من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة النبوية، ولما فُتِحت الأمصار كان في كل مصرٍ من خِيار المسلمين من لا يُحصِيه إلاّ الله. وقد جاء في فضائل الشام وأهلِه أحاديث معروفة (1) لم يَجىءْ مثلُها في العراق وغيره من الأمصار، مثل قوله في الحدَيث الصحيح: "إن ملائكة (2) الرحمن باسطة أجنحتها على الشام" (3) .   (1) انظر "فضائل الشام ودمشق" للربعي، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (الجزء الأول) و"فضائل الشام" لابن رجب وغيرها. وراجع "مجموع الفتاوى" (27/505- 511) . (2) في الأصل "أجنحة"، وهو سبق قلم، والتصويب من مصادر التخريج الآتية. (3) أخرجه أحمد (5/184) والترمذي (3954) والحاكم في "المستدرك" (2/ 229) من حديث زيد بن ثابت. قال الترمذي: حسن، وصححه الحاكم والمنذري في "الترغيب والترهيب" (4/63) والألباني في تخريج أحاديث= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وقوله: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" (1) . وفي القرآن أربع آيات تدل على حصولِ البركة في الشام (2) . ومثل قوله لعبد الله بن حوالةَ لما قال: "إنكم ستُجَندونَ أجنادًا مُجندةً جندًا بالشام وجندًا باليمن وجندًا بالعراق"، فقال عبد الله بن حوالة: يا رسول الله! اخترْ ليْ، فقال: "عليك بالشام، فإنها خِيرَة الله من أرضه، يَجتبي إليها خِيرَتَه من عبادِه، فمن أبي فليَلْحَقْ بيمنِه، وليسق من غدُرِه، فإن الله قد تكفلَ لي بالشام وأهلِه". رواه أبو داود وغيره (3) . وفي "صحيح مسلم" وغيره عنه أنه قال:"لا يزال أهل الغرب ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة" (4) . قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل الشام./وهذا الذي قاله   = فضائل الشام" (ص 11) . (1) أخرجه البخاري (1037، 7094) من حديث ابن عمر. وأخرجه أيضًا أحمد (2/90، 118) والترمذي (3953) . (2) هي خمس آيات في سورة الأعراف: 137؛ وسورة الإسراء: 1؛ وسورة الأنبياء: 71، 81؛ وسورة سبأ: 18. وانظر "مجموع الفتاوى" (27/506) . (3) أخرجه أبو داود (2483) وأحمد (4/110) من طريق أبي قتيلة عن ابن حوالة، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (5/33) والحاكم في "المستدرك" (4/510) من طريق مكحول عن ابن حوالة بنحوه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وللحديث طرق أخرى في "تاريخ دمشق" (1/56- 81) . وذكرها الألباني في "تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق" (ص 12-13) وتكلم عليها. (4) أخرجه مسلم (1925) وأبو يعلى في "مسنده" (783) وأبو نعيم في "الحلية" (3/95- 96) من حديث سعد بن أبي وقاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 أحمد هو معروف عند السلف، كانوا يسمون أهل الشام وما يغرب عنها أهل الغرب (1) ، ويسمون أهل نجد والعراق وما يشرق عن ذلك أهل الشرق. فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بالمدينة النبوية، فما يغرب عنها فهو غرب، وما يشرق عنها فهو شرق. وقد جاء في بعض الآثار أنَّ أكثر الأبدال بالشام (2) . فأما الحديث المأثور "لا تسبُّوا أهل الشام فإن فيهم الأبدالَ، أربعين رجلاً، كلّما مات رجلٌ أبدل الله مكانه رجلا"، فهذا يُروى عن علي بن أبي طالب بإسنادٍ منقطع، وهو في "المسند" (3) وغيره، وهو من رواية بعض الشيوخ الشاميين عن علي، وهو لم يسمعه منهم، وإنما بلغه عن علي بلاغًا، فلم يضبط له لفظه. و إذا كان الأبدالُ الأربعون أفضلَ الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام، فإن الأمة في زمن علي كانوا ثلاثة أصناف: صنفٌ قاتلوا معه، كعمار وسهل بن حُنَيف وأمثالهم، فهؤلاء مع   (1) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (7/446، 27/41، 507, 28/ 552,531) . (2) أخرج الربعي في "فضائل الشام ودمشق" (ص 44) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (2/286) من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا: "ستكون دمشق في آخر الزمان أكثر المدن أهلاَ، وهي تكون لأهلها معقلاً، وأكثر أبدالاً .... ". قال الألباني في "تخريج أحاديث فضائل الشام" (ص 40) : حديث منكر، تفرد بروايته محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الغساني. (3) 1/112. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 علي بن أبي طالب لم يكن بالشام مثلُهم، بل علي ومن معه أولى بالحق من معاوية ومن معه من الشاميين، كما في الصحيحين (1) عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "تمرق مارقة على حينِ فرقةٍ من المسلمين يَقتلهم أولى الطائفتين بالحق"، وفي لفظ: "أدناهما إلى الحق". فهذا حديث صحيح صريح بأن عليًّا وطائفته أولى بالحق من الطائفة الأخرى معاوية وطائفته. /والصنف الثاني من المؤمنين من لم يقاتل، لا مع علي ولا معاوية، كسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مَسْلَمة وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأمثالهم، فهؤلاء أيضًا أفضل من أهل الشام، وقد كان في لفيف أهل الشام من هو أفضل من كثير من أهل العراق والحجاز. أما من لم يشهد القتال مع معاوية فإن في الشاميين من لم يقاتل معه كأبي أمامة الباهلي وغيره. وأما من كان في عسكره فقد كان في عسكره أيضًا قوم صالحون لهم اجتهاد وحسن مقصد، وبكل حال فلا يَعتقد مسلم أن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وسهل بن حنيف ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين الأولين الذين يشهدُ الكتاب والسنة بفضلهم على من بعدهم، كان   (1) أخرجه مسلم (1065) فقط. ورواه أيضًا أحمد (3/25، 32، 45، 48، 64، 79، 97) وأبو داود (4667) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 الأبدال الأربعون الذين هم أفضل الأمة خارجين عنهم في حياتهم. فهذا الأصل المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع لا يعارضه خبر واحد رواه الثقات، بل يُنسبون في ذلك إلى الغلط، فكيف بحديث منقطع فيه من الريبة ما لا يخفَى. /ومما يبين ذلك أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من السلف كانوا يجعلون من الأبدال من ليس بالشام، كما في حكاية أن مالك ابن دينار ومحمد بن واسع وغيرهما من الأبدال (1) ، وفي حديث مَعْدان الذي سأل الثوري عن قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ) (2) فقال: بعلمِه (3) ، قالوا: وكان معدان من الأبدال. ومثل هذا كثير في كلامهم. وأما لفظ "النقباء" و"النجباء" في أولياء الله، فقد تقدم أنه ليس لذلك أصل في كلام السلف.   (1) رواها أبو نعيم في "الحلية لما (3/114) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/301) . (2) سورة المجادلة: 7. (3) أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة" (ص 72) والآجري في "الشريعة" (ص 289) واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (3/401) ، وأورده ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص 127) والذهبي في "العلو" (كما في "مختصره" ص 139) . وكلهم ذكروا قول الثوري في تفسير قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (سورة الحديد:4) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 فصل وأما قول القائل: "إن الشدَّةَ إذا نَزلتْ بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يَرفعُ بصرَه حتى تنفرج تلك النازلةُ"، فهذا من أعظم البهتان من وجوه: أحدها: أن هذا الغوثَ المدَّعَى ليس بأعظم من الرُسلِ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم. وهؤلاء سادةُ الخلائق، يُجيبُ الله من دعائهم ما لا يجيب من دعاء غيرهم، وهم الذين تُطَلَبُ منهم الشفاعةُ يومَ القيامة، حتى يُنتَهى إلى خاتم الرُسُل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمدٍ، عبدٍ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: "فيأتوني، فأذهبُ إلى ربي، فإذا رأيتُه خَرَرْتُ ساجدَا، فأحمدُ ربي بمحامدَ يَفتحُها عليَّ لا أُحسِنُها الآن، فيقول: أَيْ محمد, ارفَعْ رأسَك، وقُلْ تُسمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ". قال: "فأرفع رأسي فأقول أمتي أمتي، فيَحُذُ لي حَدًّا يدخلهم الجنة ... " الحديث بطوله (1) . وأحاديث الشفاعة من أصح الأحاديث وأشهرها. فهذا سيد الخلائق وصاحب المقام المحمود لا يَبْتَدِىءُ   (1) أخرجه البخاري (4476، 6565، 7410، 7440) ومسلم (193) من حديث أنس بن مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 بالشفاعة بل بالسجود والثناء،/حتى يؤذن له بالشفاعة فيشفع ثم يشفع. أما في الدنيا ففي الصحيح (1) عنه قال: "سألت ربّي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومَنَعَني واحدةً، سألتُه أن لا يُسلِّط على أمتي عدوًّا من غيرهم فيَجْتَاحهم، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُهلِك بسَنَةٍ عامّةٍ، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يجعل بأسَهم بينهم، فمنعنيها". وفي الصحيح (2) أنه قال لِعَمِّه: لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) (3) . وقد صلى على عبد الله بن أُبَى ودعا له (4) ، حتى أنزل الله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (5) . وقال له: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (6) .   (1) مسلم (2890) من حديث سعد بن أبي وقاص. ورواه أيضًا أحمد (1/175 ,181) . (2) أخرجه البخاري (1360، 3884، 4675، 4772) ومسلم (24) من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه. (3) سورة التوبة: 113. (4) أخرجه البخاري (1269، 4670، 4672، 5796) ومسلم (2400، 2774) من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري (1366، 4371) من حديث عمر بن الخطاب. (5) سورة التوبة: 84. (6) سورة المنافقين: 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وثانيه في الفضيلة الخليلُ، فإنه قد ثبت في الصحيح (1) أنه خير البرية، وهو أفضل الرسل بعد محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ِ، وقد استغفر لأبيه بقوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (2) ، ومع هذا فآزرُ في جهنم. وقد اعتذر الله عن إبراهيم من استغفاره له (3) . وأيضًا فقد قال تعالى: (ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُود (76)) (4) . وأيضًا فالأنبياء صلوات الله عليهم كانوا يجتهدون في الدعاء، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ِ يدعو في مقاماتٍ معروفةٍ، ففي يوم بدرٍ كان يناشد ربَّه ويجتهد في الدعاء حتى أتته البشرى بنزول الملائكة (5) ؛ وفي الاستسقاء اجتهد في الدعاء (6) ، تارةً في المسجد وتارةً في   (1) مسلم (2369) عن أنس. وأخرجه أيضًا أحمد (3/178، 184) وأبو داود (4782) وا لتر مذي (3352) . (2) سورة إبراهيم: 41 (3) في سورة التوبة: 114 (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم (114)) (4) سورة هود: 74- 76. (5) أخرجه البخاري (2915، 3953، 4875، 4877) عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (1763) عن عمر بن الخطاب. (6) وردت أحاديث عديدة في الاستسقاء، منها حديث عبد الله بن زيد الذي أخرجه البخاري (1023- 1025) ومسلم (894) ، وفيه ذكر الدعاء قبل الصلاة. وحديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري (933، 1013، 1019، 1021) ومسلم (897) ، وفيه ذكر الدعاء في خطبة الجمعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الصحراء، حتى نزل الغيث. فإذا كانت الشدة لم تزلْ إلاّ بعد اجتهادهم/في الدعاء في هذه المواطن، فكيف يكون غيرهم لا يرفع بَصَرَه حتى تُدْفَع النوازلُ؟ ثم إن الأمة قد نزل بها من الشدائد ما لا يحصيه إلاّ الله، واتصل بعضُها مدَّةً، فأين كان هذا الغوث؟ وحدَّثوني عن الشيخ عبد الواحد بن القصَّار- وكان من الشيوخ العارفين- أنه في اليوم الذي أُخِذَتْ فيه بغداد، كُشِفَ له عن ذلك والسيفُ يعمل في أهلها، فجعل يقول: أين القطب، أين الغوث؟ هذا السيف يعمل في أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأيضًا فكل مسلم يعلم من نفسه أن هذه الشدائد العامة لم يتركها هو وأصحابه لشخصٍ معين، بل دعوا الله سبحانه كما يدعونه عند الاستسقاء، وكما يدعونه عند الاستنصار على الأعداء، لا أحد يرفع أمره إلى غير الله، الفهم إلاّ ما يقوله بعض الناس لبعضٍ كما جرت به العادة، فمَنِ الأدنى الذي يرفع هذه الأمور إلى الأعلى؟ وأيضًا فقد أخبر الله عن المشركين أنهم يدعونه إذا مسَّهم الضرُّ مخلصين له الدين, فيُجيبهم، قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)) (1) . وقال تعانى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ   (1) سورة الإسراء: 67. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 مَا كَانُوا يَعْمَلُون (12)) (1) . وقال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)) (2) . ونظائره في القرآن كثيرة. وقد قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) (3) ، فهو سبحانه قريب مجيب. وفي الصحيحين (4) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: "إنكم لا تَدْعُون أصمَ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنقِ راحلته". وقد قال الخليل: (إِنَّ ربّىِ لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)) (5) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنون في الصلاة: "سمع الله لمن حمده". فإذا كان هو سبحانه سميعَ الدعاء، مجيبًا لدعوة عِباده، قريبًا منهم، يُجيبُ الكفّار إذا دَعَوهُ مضطرين، فكيف يُحْوِجُ عبادَه المؤمنين إلى وسَائط في رفع حوائجهم إليه كما يفعله الملوك؟ وهو سبحانه يُكلِّم عبادَه يوم القيامة ليس بينه وبينهم حاجب   (1) سورة يونس: 12. (2) سورة العنكبوت: 65- 66. (3) سورة البقرة: 186. (4) البخاري (2992، 4202، 6384، 6409, 6610, 7386) ومسلم (2704) عن أبي موسى الأشعري. (5) سورة إبراهيم: 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 ولا ترجمان، كما في الصحيح (1) عن عديّ بن حاتم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما منكم من أحدِ إلاّ سيكلّمه ربُّه ليس بينه وبينه حاجبٌ ولا ترجمان، فينظُرُ أَيْمَنَ منه فلا يَرَى إلاّ شيئًا قدَّمَه، ويَنظُر أشأمَ منه فلا يَرَى إلاّ شيئًا قدَّمَه، ويَنظُر أمامَه فتَستقبلُه النار، فمن استطاعَ منكم أن يتقي النارَ ولو بشِقِّ تمرة فليفعل، َ فإن لم يستطع فبكلمةٍ طيّبة". والمصلِّي يقول في الصلاة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) (2) . وفي الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن المصلّي يناجي ربه"، وقال (4) : "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قِبَلَ وجهِه، فلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وجهِه". ف إذا كان العبد يناجي ربَّه ويخاطبه، والله يَسمعُ كلامَه ويجيب دعاءَه، فأين حاجتُه إلى الوسائط التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ /التي يعلم كل عاقلٍ من أهل الإيمان أنها من تأويل أهل الشرك والبهتان. وشواهد هذه الأصول كثيرة، قد بُسِطَتْ في غير هذا الموضع. والكتاب والسنة مملوءٌ (5) بما يُناقِضُ دعوى هؤلاء المفترين.   (1) البخاري (6539، 7512) ومسلم (1016) . (2) سورة الفاتحة: 5. (3) البخاري (405، 413، 417، 531، 1214) ومسلم (551) من حديث أنس بن مالك. (4) أخرجه البخاري (406، 753، 6111) ومسلم (547) عن ابن عمر. (5) كذا في الأصل بالإفراد، كأن الكتاب مع السنة شيء واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وهذا كلُّه- الذي عليه هُمْ- شعبةٌ قوية من شعب دين النصارى، الذين (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون (31) (1) . وقد أمرنا الله أن نقول في صلوِاتنا: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّين (7)) (2) قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالّون" (3) . فاليهود شبَّهوا الخالق بخلْقِه، فوصفوه بصفات النقص والعيب، كالفقر والبخل واللُّغوب. والنصارى شبَّهوا المخلوق بالخالق، فوصفوه بصفات الإلهيّة التي لا يستحقها إلاّ الله، حتى أشركوا بالله ما لم يُنزِّل به سلطانًا. ولهذا قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (17)) (4) . وقال تعالى: (الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ   (1) سورة التوبة: 31. (2) سورة الفاتحة: 6- 7. (3) أخرجه أحمد (4/378) والترمذي (2953، 2954) من حديث عدي بن حاتم، ضمن حديث طويل. قال ابن كثير في "تفسيره" (1/142) : وقد روي حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. (4) سورة المائدة: 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (75)) (1) . /وفي الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُطْروني كما أَطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله". وقد حَسَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موادَّ الشركِ قولاً وعملاً، حتى قال: "لا يَقولنَّ أحدكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثمَِّ شاء محمد" (3) . وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غضَبُ الله على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد" (4) . وقال: "لَعَنَ الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يُحذر ما فعلوا (5) . وقال قبلَ أن يموتَ بخمس: "إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون   (1) سورة المائدة: 75. (2) البخاري (3445) مختصرًا و (6830) مطولاً من حديث ابن عباس عن عمر ابن الخطاب. (3) أخرجه أحمد (5/72، 398) والدارمي (2702) وابن ماجه (2118) من حديث طفيل بن سخبرة، وأخرجه أحمد (5/384، 394، 398) وأبو داود (4980) من طريق عبد الله بن يسار عن حذيفة بن اليمان. وأخرجه أحمد (5/393) وابن ماجه (2118) من طريق ربعي بن حراش عن حذيفة به نحوه. (4) أخرجه أحمد (2/246) والحميدي (1525) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 283، 7/317) بإسناد صحيح عن أبي هريرة. (5) أخرجه البخاري (435، 436 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 القبور مساجد، إلاّ فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (1) . ونَهى عن الصلاة عند طلوعِ الشمس وعند غروبها (2) . والله سبحانَه لم يأمر مخلوقًا أن يسأل مخلوقًا وإن كان بدأ باسمه بالسؤال أحدًا، فلم يأمره به، بل قال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) (3) . وقال لابن عباس: "إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله" (4) . وفي الصحيح (5) عنه أنه قال في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم الذين لا يَسْترقون ولا يَكْتَوون ولا يَتطَيرون، وعلى ربهم يتوكلون". فجعل من فضائلهم أنهم لا يطلبون من غيرهم رُقْيَةً وإن كانت الرقيةُ دعاء. فهذا وصفُ خواصِّ عبادِ الله. وهذا باب واسعٌ، قد بُسِطَ في غير هذا الموضع (6) .   (1) أخرجه مسلم (532) من حديث جندب بن عبد الله البجلي. (2) أخرجه البخاري (586، 1197، 1864، 1992، 1995) ومسلم (827) عن أبي سعيد الخدري. (3) سورة الشرح: 7- 8. (4) أخرجه أحمد (1/293، 307) والترمذي (2516) من طريق حنش الصنعاني عن ابن عباس. وللحديث طرق أخرى كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة. (5) البخاري (5705، 5752، 6472، 6541) ومسلم (225) عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (218) عن عمران بن حصين. (6) كتب بعده في الأصل: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية"، ثم شطب عليه، وواصل الكتابة فيما بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 /وغاية ما يُرَاد بالمشايخ الصالحين ما يُراد من الأنبياء والمرسلين، والمراد منهم تبليغ رِسالاتِ الله وهدايةُ عباد الله، والدعوة إلى الله، هذا هو المقصود الأعظم. ولهم أيضًا من الدعاء لعباد الله والشفاعة لهم ما هو من الأمور المطلوبة، لكن الأمر كله لله، وقد جَعَلَ اللهُ لكل شيء قدرًا. ودعاء الله من الأنبياء والمؤمنين للعبد هو من نِعَم الله عليه، وأسعدُ الناس بذلك أعظمُ إخلاصًا لله وتوكُلاً عليه، كما في الصحيح (1) أَنَّ أبا هريرة قال: يا رسول الله، أيُّ الناسِ أَسْعَدُ بشفاعتِكَ؟ قال: "لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ قبلَكَ، أسعدُ الناسِ بشفاعتي مَن قال لا إله إلاّ الله يَبتغي بها وجهَ الله". فالعبدُ مأمورٌ أن لا يتوكَّلَ إلاّ على الله، ولا يَرغب إلاّ إليه، ولا يخاف إلاّ إياه، ولا يعمل إلاّ له. والله يُيَسِّر له من الأسباب ما لم يكن له في حساب، فإنه سبحانه يتولى الصالحين، وهو كافٍ عبدَه، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)) (2) أي حسبُك وحسبُ مَن اتبعك من المؤمنين الله، فهو وحدَه كافٍ عبادَه لا يحتاج إلى ظهير ولا شريك. قال تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ   (1) البخاري (99، 6570) . (2) سورة الأنفال: 46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الذُّلِّ) (1) . فإن المخلوق ذليل يتولى من يتولاه لِذُلِّه، فإنه إن لم يكن له مَن يُعِينه وينصره/عَجَزَ وذَلَّ، وقَهَرَهُ عَدُوُّه. والله تعالى لا يُوالِي عبادَه من الذُّلّ، بل برحمتِه وفضلِه وجُودِه وإحسانِه، وهو الغني عن كلِّ ما سِواهُ، وكل ما سواه فقير إليه، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) (2) . قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (3) . وقال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)) (4) . وقال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) (5) . وهذا كثير في كتاب الله، والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية   (1) سورة الإسراء: 111. (2) سورة الرحمن: 29. (3) سورة سبأ: 22- 23. (4) سورة الأنبياء: 26- 28. (5) سورة مريم: 93- 95. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 قاعدة في الاستحسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فبين أيدينا كتاب مهتم من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث من مباحث أصول الفقه، وهو الاستحسان، حرَّر القول فيه وأجاد، وبيّن وجه الخلاف بين القائلين به والمانعين منه، ودرس تلك المسائل التي يذكر العلماء أنها استحسان على خلاف القياس، بطريقةِ لم يُسبَق إليها. وقد كنتُ عثرت على نسخة من هذا الكتاب ضمن مجموعة سيأتي وصفها، وتأمَّلْتُ فيها فرأيت أنها بخط شيخ الإسلام ومسوّدته، بدلالة الشطب على كثير من الكلمات والعبارات والإلحاق في مواضع عديدة، وهي خالية من النقط تقريباً. وبدأت في قراءتها ونسخها، وكنت أقف على بعض الكلمات، وأقلّبها على وجوهها، حتى أصل إلى وجه الصواب فيها. أخذ مني النسخ والقراءة وقتاً طويلاً، لأني قمتُ بنسخها في فترات مختلفة، كنت أنسخ جزءاً منها وأنصرف عنها لمدة طويلة أو قصيرة، لصعوبة الاستمرار فيها، وكثرة تلك الكلمات التي لا أهتدي لصوابها، حتى عثرتُ على بعض النصوصِ المقتبسة من هذا الكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 عند ابن القيم في "بدائع الفوائد"، والتي حلت لي بعض الإشكالات، ورجعت إلى كتاب "العدّة" لأبي يعلى الذي نقل منه المؤلف نصوصاً عديدة، وقرأت مبحث الاستحسان في معظم كتب الأصول عند الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية، وأخيراً فتّشتُ عن الموضوعات التي تناولها شيخ الإسلام هنا بالبحث والدراسة في كتبه ورسائله وفتاواه، فوجدتُ ما يُشبهها أحياناً بالنصّ والعبارة في مواضع عديدة، وقد ساعدني هذا كثيراً في فكّ الرموز والاهتداء إلى الصواب في كثير من الكلمات والعبارات التي كانت غامضة ومبهمة. واستقام ليَ النصُ تقريباً بعدَما كلَّفَني عَرَقَ القِرْبَة، وأحببتُ نشْرَه كما هو بدون تعليق أو تخريج أو توثيق، كما نُشِرتْ رسائله وفتاواه في "مجموع الفتاوى". ثمّ عَدَلتُ عن هذا الرأي، لأن نشر الكتاب بهذا الشكل يحول دون فهم كثير من المسائل الواردة فيه، والوصول إلى حقيقتها. وقد كان الغرض من كتابة التعليقات على الكتب في تراثنا الإسلامي الإشارة إلى ما في الأصل من خطأ أو صواب، وضبط المشكل من الأسماء والألفاظ، وشرح الغريب والحُوشِيّ منها، وإيضاح الغامض والمبهم من العبارات ليساعد ذلك على فهم النص. يقول ابن جماعة فى تذكرة السامع والمتكلم (ص 186، 191) : "ولا يكتب إلاّ الفوائد المهمّة المتعلقة بذلك الكتاب، مثل تنبيه على إشكال أو احتراز أو رمز أو خطأ ونحو ذلك، ولا يسوّده بنقل المسائل والفروع الغريبة، ولا يُكثِر الحواشي كثرةً تُظلِم الكتابَ أو تُضِيع مواضعَها على طالبها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 فاتبعت هذا المنهج الوسط في تعليقي، ووضعتُ نُصْبَ عيني أموراً: منها توثيق ما نقله المؤلف من الأحاديث والآثار والمذاهب والنصوص، والإشارة إلى آرائه في كتبه ورسائله وفتاواه في الموضوعات التي بحث فيها هنا، وشرح الغريب وتوضيح الغامض من الكلمات، والإشارة إلى ما في الأصل من العبارات التي قد تُشكِل أو تُستَغْرَب، ومحاولة توجيهها. وهذه فصول تتعلق بالكتاب جعلتُها مدخلاً إلى قراءة النصّ ودراسته، ليكون القارئ على بصيرة منه قبل الشروع فيه. • عنوان الكتاب لم يَرِدْ ذكر عنوان الكتاب بخط المؤلف في النسخة الفريدة التي وصلتنا، وقد كتب أحد المفهرسين أو القرّاء في أعلى الصفحة الأولى منها: "في الاستحسان والقياس" استنباطاً ممّا كتبه المؤلف في أوله بعد الخطبة: "فصل في الاستحسان القياس وموضع الاستحسان هل يقـ وتخصيص العلة ... ". ولكنه لم يلاحظ أن المؤلف شطب على العبارة التي تحتها خطّ، فكان ينبغي للشخص المذكور أن لا يذكر "والقياس" في العنوان الذي اجتهد في استنباطه. والكتاب لا يبحث إلاّ في موضوع الاستحسان، ولم يذكر من مباحث القياس إلاّ ما يتعلق بتخصيص العلة، ومسألة القياس على المخصوص من جملة القياس، وللمؤلف كتاب مستقل في معنى القياس. والذي بين أيدينا أفرده لبيان معنى الاستحسان وحقيقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 الخلاف فيه. ولم يكن من عادة المؤلف أن يسمي كتبه ورسائله ويختار لها عناوين مناسبة في مقدماتها كما يفعله عامة المؤلفين المتأخرين، بل كان يبدأ في الكتابة في موضوع معين بعد البسملة أو الحمدلة بقوله: "فصل في ... " أو "قاعدة في ... "، وأحيانا يدخل في الموضوع مباشرة، أو يذكر سبب التأليف، دون أن يختار عنواناً محدداً له. وعندما يحيل في مصنفاته إلى كتبه ورسائله الأخرى يشير إلى موضوعها، أو يكتفي بقوله: "كما بُسِط ذلك في موضع آخر" ونحوه. وأكثر مؤلفاته ورسائله التي وصلت إلينا اختير لها عناوين في حياته أو بعد وفاته من قبل تلاميذه وأصحابه الذين قاموا بنسخها وتبييضها ونشرها، وعلى رأسهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيِّق (ت 749) كاتب مصنفات شيخ الإسلام، الذي كان أبصر بخط الشيخ منه، وإذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه (1) .   (1) ترجمته في: ذيل مشتبه النسبة لابن رافع 27 وتبصير المنتبه لابن حجر 2/605، 606 وتاريخ ابن قاضي شهبة 2: 1/655، 656 والبداية والنهاية 14/229 وفيه "عبد الله بن رشيق"، وهو وهم أو خطأ مطبعي، وتبعه الزركلي في الأعلام 4/86، مع أن في الأعلام نفسه 1/144 صورة خط ابن رشيق هذا، وفيه اسمه الكامل كما ذكرت المصادر الأخرى، وكذا عند ابن عبد الهادي في العقود الدرية 27 والذهبي في المشتبه 317. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وهذا أحد أسباب اختلاف العناوين لمؤلفات شيخ الإسلام، فكتابٌ واحد يذكره المترجمون له بعناوين مختلفة، وتصلنا نسخه الخطية بأسماء غريبة يستنبطها الناسخ أو القارئ أو المفهرس، ويغترّ بها الباحثون فيعدّونها كتبا مستقلة. وجُل من صنع من المُحْدَثين فهرساً لمؤلفات الشيخ في دراسات مفردة أو مقدمات التحقيق لكتب الشيخ وقع في هذا الوهم. وعذرهم في ذلك أنهم في أغلب، الأحيان لم يطلعوا على هذه النسخ، ولم يقوموا بالمقارنة بينها، حتى يصلوا إلى حقيقتها، وإنما نظروا في فهارس المخطوطات التي تذكر هذه العناوين المختلفة، فظنوها كتباً مختلفة. والواجب على من يريد معرفة العنوان الصحيح أو الأقرب إلى الصواب لكتاب من كتب شيخ الإسلام أن يرجع إلى القوائم الأساسية لمؤلفاته التي أعدَّها تلاميذ الشيخ وأصحابه. وأكثرها جمعاً واستيعاباً ثلاث قوائم عملها ابنُ رُشَيِّق المذكور، وابن عبد الهادي (ت 744) ، والصفدي (ت764) . أمّا ابن رُشَيق فله "رسالة في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" نشِرت منسوبةً لابن القيم (ت751) (1) بالاعتماد على نسخة خطية منها توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق. وقد عثرتُ على نسخة أخرى منها، وهي وإن كانت ناقصة إلاّ أن فيها زياداتٍ على المطبوعة، وتحتوي على نصوصٍ اقتبسها ابن عبد الهادي في العقود   (1) بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 28/1953/371-395. ثم صدرت لها طبعات مستقلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 الدرّية (ص 27- 28) وصرَّح بنسبتها إلى ابن رشيق، وأشار إلى القائمة التي صنعها. وكشفت المقابلة بين المخطوطة الثانية وبين المطبوعة عن أمر مهمّ آخر، وهو أن ناسخ النسخة التي كان عليها الاعتماد في النشر (وهو الشيخ جميل العظم) تصرف في إثبات العناوين تصرفاً عجيباً، حيث اختصرها وهذبها وجعلها على نمط واحدٍ، وقدم وأخّر، وحذف ما لم ير فيه فائدة، وهذا نموذج من المخطوطة الثانية والمطبوعة يظهر به الفرق بينهما: المخطوطة المطبوعة سورة اقرأ باسم ربك 84- تفسير سورة اقرأ باسم ربك. * فسَّرها وبيَّن أنها أول سورة أنزلت وبيَّن أنها تضمنت أصول الدين، في مجلد لطيف. قل هو الله أحد 89 - تفسير سورة الإخلاص في مجلد. * فسَّرها في مجلد * وتكلم في مجلد لطيف على كونها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 تعدل ثلث القرآن، وتفضيل القرآن بعضه على بعض. * وله قواعد في التفسير مجملة، تكلم فيها على المصنفات وعلى المفسرين، وما هو متصل وغير متصل، ومن يعتمد عليه ومن لا يعتمد عليه، رأيت منها نحو مجلد كبير. * وكتب قاعدة كبيرة في هذا المعنى * وله جواب في تفسير البغوي والقرطبي والزمخشري أيها أفضل؟ * وله قاعدة في فضائل القرآن. 90- قاعدة في فضائل القرآن. ولعلّ الشيخ جميل العظم أرَاد تهذيب العناوين والأسماء من أجل كتابه الذي ألّفه بعنوان "عقود الجوهر في تراجم من له خمسون تصنيفًا فمائة فأكثر"، ولو أنه حافظ على الأصل كما هو ولم يتصرف فيه لكان أجدى وأنفع وأوثق وأدقّ في وصف الكتب والدلالة على ما أراد المؤلف بيانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 هذا ما ٍيتعلق بالقائمة التي أعذها ابن رُشَيق، والتي نُسبت إلى ابن القيم خٍطأ، فأوقعت جمهرةً من الباحثين والدارسين والمحققين في الوهم خلال خمسة وأربعين عاماً. أما ابن عبد الهادي فذكر قائمة من مؤلفات الشيخ في العقود الدرية (ص 26- 64) وقال في آخرها: "وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني من ضبط مؤلفاته في موضع آخر غير هذا. وأبين ما صنَّفه منها بمصر، وما ألَّفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن. وأرتّبه ترتيبا حسناً غير هذا الترتيب، بعون الله تعالى وقوته ومشيئته". ولا ندري هل وجد ابن عبد الهادي فرصة لصنع هذا الفهرس أم لا؟ ورتَّب الصفدي قائمة مؤلفات الشيخ على الموضوعات في ترجمته في "الوافي بالوفيات" و"أعيان العصر"، واعتمد عليه ابن شاكر الكتبي (ت 764) في ترجمة الشيخ في "فوات الوفيات". هذه القوائم الأساسية إذا اتفقت على عنوان الكتاب فلا يُعدَل عنه إلى غيره مما هو مثبت على مخطوطاته المختلفة إلاّ إذا كان ذلك العنوان بخط المؤلف نفسه، فيرجَّح على غيره. أما إذا اختلفت في ذكر العنوان فيكون الترجيح للاسم الذي يكون مطابقاً لإحدى النسخ الخطية القديمة التي وصلتنا. لننتقل الآن إلى الكتاب الذي بين أيدينا، ولنبحث عن عنوانه الصحيح بعدما رأينا أن المفهرس أو أحد القراء وقع في الخطأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 عندما أثبت عنوانه "في الاستحسان والقياس"، وبيّنا سبب وقوعه في الخطأ. وإذا رجعنا إلى القوائم الأساسية التي أشرنا إليها وجدنا أن ابن رشيق لم يُشِر إلى هذا الكتاب، أو بعبارةٍ أدق: لم نجد ذكره في النسخة المهذّبة المختصرة المنشورة من الكتاب، ولعلّه ذكره في الأصل الذي لم يصل إلينا إلاّ نصفُه تقريباً بصورته الأصلية. أما الصفدي فذكر هذا الكتاب بعنوان "قاعدة في الاستحسان" في الوافي بالوفيات (7/27) وأعيان العصر (1/35 أ [عاطف أفندي 1809] ) وتبعه ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات (1/78) ، وعن ابن شاكر نقل محمود شكري الآلوسي في غاية الأماني في الردّ على النبهاني (1/384) ، وكلهم ذكروا الكتاب ضمن المؤلفات في أصول الفقه. ووجدت عند ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 45) كتاباً بعنوان "قاعدة في الإحسان"، وربّما يكون "الإحسان" تصحيفاً عن "الاستحسان"، فقد جاء ذكره في سياق كتب الفقه والأصول، وسبق أن ذكر (ص 48) "قاعدة في الإيمان المقرون بالإحسان، وفي الإحسان المقرون بالإسلام" فلا وجه لتكراره إلاّ أنني رجعت إلى طبعات أخرى لكتاب العقود الدرّية، فوجدتُ جميعها تتفق على إثبات العنوان المذكور، فترددتُ في القول بوقوع التصحيف فيه. ولم أجد الآن نسخاً خطية من الكتاب لأحقق هذا الأمر. ولم أجد من ذكر هذا العنوان غير المؤلفين الثلاثة (إذا استثنينا ابن عبد الهادي) ، وهو العنوان الموافق لمضمون الكتاب الذي بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 أيدينا، فلم أعدِلْ عنه إلى غيره. وأثبتُّه على الغلاف، وإن كانت نسخة المؤلف خالية منه، لما ذكرتُ من أن هذا العنوان وُضِع من قبل أحد تلاميذ الشيخ وأصحابه، فيرجح على ما يستنبطه أحد المفهرسين أو القراء. • توثيق نسبته إلى المؤلف قرّرنا فيما سبق أن لشيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً بعنوان "قاعدة في الاستحسان"، إلاّ أن هذا لا يكفي لصحة نسبة الكتاب الذي بين أيدينا إليه ما لم تكن هناك أذلة أخرى مقنعة تؤكد ذلك، وبعد الدراسة المتأنية له والرجوع إلى بعض المصادر يظهر لنا جليًّا أنه من تأليف شيخ الإسلام، وأنه الكتاب الذي أشار إليه المترجمون له. أما أنه من تأليفه فأكبر دليل على ذلك أنه مسوّدة كتبها بخطه، كما هو واضح لكل من اطلع على شيء من مؤلفاته بخطه المعروف والموصوف بالسرعة وكونه في غاية التعليق والإغلاق (1) ، حتى أن كثيرا من أصحابه عجزوا عن نقله، وكان هذا أحد أسباب ضياع كثير من مؤلفاته. يقول ابن عبد الهادي: "كان كثيرا ما يقول: قد كتبت في كذا وفي كذا، ويُسأل عن الشيء فيقول: قد كتبتُ في هذا فلا يُدرَى أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: رُدُّوا خطي وأَظْهِروه لِيُنْقَلَ، فمن حرصهم عليه لا يردُّونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب،   (1) تتمة المختصر لابن الوردي 2/408. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 ولا يعرف اسمه" (1) . والكتاب الذي بين أيدينا نموذج من هذا الخط الدقيق، ولعلّه بقي عند بعض أصحابه، ولم تُنسخ منه نسخ، ولا انتشر ذكره مثل بقية مؤلفاته المشهورة، فلم نجد له ذكراً في فهارس المخطوطات، بل المكتبة التي تحتفظ بهذا المخطوط الفريد لا يُوجد في فهارسها ذكرُه، ولذا بقي مجهولاً لدى الباحثين إلى يومنا هذا. ومما يدكُ على أنه لشيخ الإسلام أن في الكتاب إشارة إلى كتاباته الأخرى في موضعين: 1- بعدما قرَّر أن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال، قال: "وهذا هو الصواب، كما قد بسطناه في مصنَّفٍ مفرد، بمناسبة أنه ليس في الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلاً" (ص 197- 198) . يشير هنا إلى رسالته في معنى القياس، وهي من مؤلفاته المطبوعة والثابتة النسبة له (2) . 2- قال: "وقد بّينّا في غير هذا الموضع أنّ الأحكام كلّها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلّها معلّلة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضًا متناولة لجميع الأحكام " (ص 206-207) . يشير هنا إلى " قاعدة في شمول النصوص للأحكام"، حيث أطال الكلام في هذا الموضوع، وقرَّر أن النصوص وافية   (1) العقود الدرية 65. (2) انظر تعليقي على الموضع المذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 بجمهور الأحكام، ومن أنكر ذلك لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد. وهذه القاعدة مذكورة ضمن مؤلفات الشيخ في "العقود الدرية" (ص 45) . وفي الكتاب موضوعات عديدة بحث فيها شيخ الإسلام في كتبه ورسائله الأخرى، وتكلم عليها بنحو الكلام الذي نجده هنا، ورجّح ما رجَّحه هنا، وهذا التوافق لا يدع مجالاً للشك في أن الكتاب للمؤلف نفسه. والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد أشرت في تعليقي إلى هذه المواضع. وهذه نماذج منها: الموضوع - الكتاب - مجموع الفتاوى قياس المشركين 53 ,20/539 ,540و19/287 إذا صلى الإمام قاعداً كيف يفعل المأمومون 54-55 ,23/249و405 ,406 الكلام على من يجعل إجارة الظئر على خلاف القياس 61 ,20/531 ,532و30/197-200 الكلام على من يجعل الإجارة والقراض على خلاف القياس 61, 20/514, 515 الكلام على خبر المصرّاة 67, 20/556-558 الكلام على من جعل حمل العاقلة على خلاف القياس 67, 20/552-554 العلّة نوعان: تامّة ومقتضية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 أولاً 69-70, 20/167, 168و21/356, 357 هل العقوبة المالية منسوخة؟ 73, 28/111 وما بعدها تضعيف الغرم على مَن دُرِىءَ عنه القطعُ 73, 28/113, 118-119, 333 نهي الإمام أحمد عن التأويل والقياس 74, 7/392 معنى "المجمل" في كلام الأئمة 74, 7/391 محلّ سجود السهو عند الإمام أحمد 75-76, 23/17 وما بعدها نفي كون علّة الربا هي الوزن 78, 29/471 القياس الصحيح والقياس الفاسد 79, 19/285-288 هل يقاس على المعدول به عن سَنن القياس؟ 82-83, 20/555, 556 القصر في السفر الطويل والقصير 87, 24/34-35, 12-13, 15 منع قصر المكيين مخالف للسنّة 87, 20/361-362, 24/10-11, 26/130 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 مناقشة أدلة القائلين بالتيمم لكل صلاة 94-96, 21/354-361, 435-438 معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أصليتَ بأصحابك وأنت جنب؟ " 96-97, 21/404-405 المضارب إذا خالف: ماذا يستحق؟ 97-99, 30/85-86, 91, 28/ 84-85 تصرّف الفضولي 99, 20/577 القول بوقف المعقود 101, 20/579-580, 29/249 السنة في اللقطة 101, 20/577, 29/250 أثر عمر بن الخطاب في المضارب واختلاف العلماء في المسألة 102, 30/87, 323, 329 تصرّف الغاصب 102, 20/562-563 من غصب أرضا فزرعها فالزرع لرب الأرض وعليه النفقة، مناقشة من قال: إنه على خلاف القياس 104-105, 29/124 شراء المصحف واستبداله 106, 31/212-213 بيع الأرض الخراجية، الرد على من منع منه لأنها وقف 107-109, 29/206-209, 28/ 588-589 , 31/230- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 231، 17/488- 489 قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر 109-110, 15/299 قبول شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال 111, 15/299 من نذر ذبح نفسه أو ولده ماذا عليه؟ 112-113, 35/343-345 وأخيراً فإن ما نقله ابن القيم في "بدائع الفوائد" (4/124- 126) من هذا الكتاب يعتبر دليلاً قاطعا على صحة نسبته إلى شيخ الإسلام، وهو وإن لم يصرّح بعنوان الكتاب فانه ينقل النصوص منه بقوله: "ونازعهم شيخنا ... " و"قال شيخنا". وهي متطابقة تماماً مع النصوص الموجودة في الكتاب (ص 166-183) وقد علَّق ابن القيم على هذه المقتبسات أحيانا، وميَّز تعليقاته بقوله "قلت". واختصر بعض النصوص، وحذف بعض الكلام، فلم ينقل منه إلاّ ما يدلّ على المقصود. ولاحظت في مطبوعته تصحيفات في مواضع ينبغي أن تصحح بعد المقابلة مع هذا الأصل المنقول منه. • تاريخ تأليفه لا نستطيع أن نحدّد في ضوء المعلومات التي لدينا متى ألّف شيخ الإسلام هذا الكتاب، فلم تسعفنا المصادر بشيء يفيدنا في هذا الباب، ولا تحمل النسخة أيّ إشارة إلى التاريخ الذي فرغ فيه المؤلف من تأليفه. أما الموضوعات المشتركة التي بحث عنها هنا وفي رسائله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وكتبه الأخرى فلا يمكن استنباط التقدم والتأخّر في ضوئها، لأنّ المؤلف كثيراً ما يكرّر فكرة معينة في مؤلفاته وفتاواه، فلو استطعنا معرفة تواريخ بعضها فهذه لا تُرشدنا إلى تاريخ تأليف هذا الكتاب، وهل كان ذلك قبلها أو بعدها. ولكني أكاد أجزم بأنه ألَّفه في أواخر حياته، وبالتحديد بعد سنة 712. والدليل على ذلك أن المؤلف أحال فيه (ص 197) إلى رسالته في معنى القياس، وهي عبارة عن جواب سؤال سُئِل فيه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس. وكان السائل مجهولاً (1) حتى وجدت في إعلام الموقعين (1/383) أن ابن القيم هو الذي كان وجَّه هذا السؤال إلى شيخه، كما ذكر ذلك بنفسه. ولشدّة إعجابه بهذا الجواب أورد معظمه في كتابه المذكور (1/384- 401 ثم 2/3-38) مع التعليق عليه في مواضع. وتفيدنا بعض المصادر (2) أن ابن القيِّم لازم شيخه ستة عشر عاماً (أي 712- 728) حتى رافقه في سجنه في آخر حياته. وعلى هذا فيكون كتابه في معنى القياس من مؤلفات هذه الفترة قطعاً، ويكون الكتاب الذي بين أيدينا قد ألف بعده. وهذا يناسب ما ذكره بعضهم (3) من أن شيخ الإسلام بعد رجوعه من مصر إلى الشام سنة 712 تفرغ للتأليف وكتابة الرسائل والأعمال العلمية الأخرى،   (1) في مجموع الفتاوى 20/504 وغيره بصيغة "سُئِل شيخ الإسلام ... ". (2) الدرر الكامنة 3/401. (3) البداية والنهاية 14/67 والعقود الدرية 321. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وكانت من أخصب فترات عمره التي ألف فيها كثيرا. من كتبه. • سبب تأليفه أشار المؤلف في مقدمة الكتاب إلى سبب تأليفه، فذكر أن المؤلفين في الأصول خاضوا في مباحث الاستحسان وتخصيص العلّة، والقياس على موضع الاستحسان وادعوا في بعض الأحكام التي ثبتت بالنصّ والإجماع أنها مخالفة للقياس، واضطربوا فيها غاية الاضطراب. وكانت الحاجة ماسة إلى تحقيق القول فيها، لأنّ كثيرا من مسائل الشريعة أصولها وفروعها لها علاقة بهذه الموضوعات. وهذا ما دعا المؤلف إلى الكتابة في هذا الباب وتحرير الكلام فيه، وبيان وجه الخلاف بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وأن الخلاف بين الفريقين حقيقي، وليس لفظيًّا كما ذكره عامّة الأصوليين. ويبدو لي أنه عندما وجد أبا يعلى وأبا الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهم من الأصوليين الحنابلة سايروا الحنفية في القول بالاستحسان وتعريفه بأنه مخالفة القياس لدليل، ونصّوا على أنه مذهب الإمام أحمد، ونقلوا عنه مسائل قال فيها بالاستحسان-: أراد أن يبيّن وجه الحق والصواب في هذه القضية، وأن الإمام أحمد وغيره من أصحاب الحديث لم يقولوا بالاستحسان الذي قال به الحنفية، وأن هناك خلافاً منهجيا كبيراً بين الفريقين في هذا الباب، وأن المسائل الاستحسانية التي نقلت عن الإمام أحمد ليست مخالفة للقياس، وأن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال من الأحوال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 هذه الأمور وغيرها كانت تحتاج إلى البسط والتفصيل والحجاج والمناقشة، فنشط لها المؤلف، وألّف هذا الكتاب الذي أتى فيه بنظرات جديدة حول الموضوع، وتناوله بطريقةٍ لم يُسْبَق إليها. • منهج المؤلف فيه للمؤلف منهج متميّز لا يحيد عنه في جميع مؤلفاته، فهو يعتمد على الكتاب والسنة وأقوال السلف في الكلام على أي مسألة، سواء كانت في العقيدة أو الأصول أو المصطلح أو التفسير أو الفقه أو غيرها، وينقل المذاهب والآراء من المصادر المعتمدة لدى أصحابها، ولا ينسب إليهم إلاّ ما يقولون به ملتزماً الأمانة العلمية في ذلك. ثم يُعلّق على كلامهم ويناقشهم بالحجج والبراهين، ويبين وجه خطئهم، ومدى قربهم أو بعدهم من منهج السلف. ويحرّر القول في المسألة تحريراً بالغاً، ويردّ على جميع الشُبَه والاعتراضات التي قد ينخدع بها العامة والخاصة، ويستطرد أحياناً إلى موضوعات أخرى يأتي فيها بفوائد علمية جليلة. كل ذلك بأسلوب سهلٍ ميسَّر يجري كالماء سلاسةً وعذوبة، يكاد يفهمه الجميع: المتعلم منهم وغير المتعلم. وقد انتقد المؤلف الأسجاع والزخارف اللفظية التي يلجأ إليها عامة الكتاب والأدباء، فقال: "وأما تكلف الأسجاع والأوزان والجناس والتطبيق ونحو ذلك مما تكلفه متأخرو الشعراء والخطباء والمترسلين والوعاظ فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين والفصحاء منهم، ولا كان ذلك مما يهتمّ به العرب، وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير فائدة مطلوبة من المعاني، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 كالمجاهد الذي يزخرف السّلاح وهو جبان" (1) . فهو ينزّه أسلوبه عن الزخارف والأسجاع والتعقيدات اللفظية والمعنوية، ويكتب بأسلوب سلس فصيح يُعبِّر بوضوح عن المعاني والأفكار التي يرمي إليها، ولا يُبقِي أيّ غموض أو إبهام فيها. هذه ملامح عامة من منهجه وأسلوبه في الكتابة، نجدها بارزةً في هذا الكتاب أيضًا مثل بقية مؤلفاته، فهو ينقل أولاً عن الأصوليين ما قالوه في هذا الباب، ثم يعلق على كلامهم ويناقشهم، ويبيّن وجه الخطأ والصواب عندهم، ويحرّر المسألة تحريراً بالغاً بأسلوبه الذي عرفناه، مستنداً في كل ذلك إلى الكتاب والسنّة وأقوال السلف الصالح، كما سنرى ذلك فيما بعد إن شاء الله. • مصادره إن أهمّ مصدرٍ رجع إليه المؤلف عند كتابته في هذا الموضوع: كتاب "العدَّة" لأبي يعلى، فقد نقل عنه نصوصا عديدة في مواضع مختلفة، وصرَّح فيها باسم أبي يعلى أو لقّبه بالقاضي، وكان اعتماده عليه دون غيره من كتب الأصول لأنه من أجمعها عند الحنابلة، وكلُّ من جاء بعده مثل الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما اعتمدوا عليه في مؤلفاتهم، ولذا أحال إليه المؤلف ونقل عنه نصوصا في مبحث الاستحسان (ص 167، 175- 176) ، ومبحث تخصيص العلة (ص180- 182) ومبحث القياس على المخصوص من القياس (ص 198- 200،   (1) منهاج السنة النبوية 4/158، 159 (ط. بولاق) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 200- 201 ، 202-203، 204) . وهي عند أبي يعلى في العدّة (5/1605 و 1607-4/1386-1388, 1394, 1397- 1401, 1402, 1403, 1408) . وكذلك ما يتعلق باستحسانات الإمام أحمد بن حنبل برواية صالح والميموني والمَزُوْذِيّ وبكر بن محمد (ص 172-174) يبدو أنه منقول عن العدة (5/1604- 1605) أيضًا. وكذا ما ذكره عن الإمام أحمد برواية [أحمد بن] الحسين بن حسّان، وما ذكره عن ابن شاقلا في "شرح الخِرَقي "، وما ذكره عن أبي الحسن الخرزي في "جزء فيه مسائل من الأصول" (ص181 - 182) -: كله بواسطة كتاب "العدّة" (4/1386- 1387) . وهناك مؤلفون آخرون في الأصول أشار إلى آرائهم وإن لم يقتبس نصوص كلامهم، وهم: - أبو الخطّاب الكلوذاني (ص 174، 180، 182) ، وآراؤه المشار إليها في كتابه "التمهيد" (4/92، 69) . - ابن عَقيل) ص 174، 180، 184) ، وآراؤه المذكورة في كتابه "الواضح " (1/144أ، 144ب، 145أ) . - أبو الحسين البصري (ص 178) ، كلامه في كتابه "المعتمد" (2/839) . - الجصّاص الرازيّ (ص 178) ، قوله في كتابه "الفصول في الأصول" (ق 297 أ- ب) . - أبو حامد المروزيّ وأبو الطيب الطبري (ص 184) كلاهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 من أئمة الشافعية، لا أدري هل ذكر المؤلف رأيهما بالاعتماد على كتبهما أو بواسطة مصدر آخر؟ أما المسائل الفقهية فلا يذكر المؤلف مصادره فيها غالباً؟ لأنه كان حافظاً لها. وقد صرح بالنقل عن مختصر الخرقي (ص 215، 216) في موضعين فقط. وكذلك الأمر بشأن الأحاديث والآثار، فإنها كانت على طرف لسانه، حتى قيل: "كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث " (1) . وفي موضع واحد فقط قال بعد إيراد حديث: "رواه البخاري " (ص 225) . وأشار في موضع إلى كتب الإمام مالك وأصحابه، بشأن ورود لفظ الاستحسان فيها (ص 165) ، كما أشار إلى كلام الشافعي في إبطال الاستحسان (ص 166) . هذه بعض المصادر التي نقل عنها أو أشار إليها، وسنرى فيما بعد أنه لم يقتصر على النقل والاقتباس، بل علَّق على كلّ نصّ بما يُؤيِّده أو يُفنِّده مع ذكر الدليل على ذلك. • تحليل مباحث الكتاب ورأي المؤلف في الاستحسان خصّص المؤلف هذا الكتاب لدراسة مبحث الاستحسان، فبيَّن معناه، وذكر اختلاف العلماء فيه، وفضَل القول في تحرير محل النزاع بينهم، وذكر أنواع الاستحسان عند القائلين به، وهل الاستحسان تخصيص العلة أم لا؟ ودرس تلك المسائل التي يقال إنها استحسان   (1) العقود الدرية 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 على خلاف القياس، وبيّن وجهَ ذم بعض الأئمة له تارةً والقول به أخرى، وجاء فيه بتحقيقات من عنده، ونظرات في هذا الموضوع لم يُسبَق إليها. وقبل أن نقوم بتحليل هذه المباحث ودراسة آراء المؤلف فيها، ينبغي الإشارة إلى أن بعض الباحثين لم يتعرضوا لموضوع الاستحسان عند شيخ الإسلام (1) ، بسبب عدم عثورهم على هذا الكتاب، وحاول آخرون أن يجمعوا نتفاً من كلامه من كتبه ورسائله، ومنهم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الذي توصل بعد دراستها إلى أن شيخ الإسلام جعل الاستحسان قسمين (2) : 1- الاستحسان بمجرد الرأي، وهذا يَرُده، ويعتبر القول به شرعاً في الدين بما لم يأذن به الله، ويعتبر كل استحسان خالف النصَّ بالرأي استحسانا باطلاً لا يجوز القول به ولا اعتباره. 2- الاستحسان لدليل، وهو العدول عن القياس لما هو أقوى منه، وهذا القسم يقول به ابن تيمية. واستند في ذلك إلى قوله: "فنجد القائلين بالاستحسان الذين تركوا القياس لنمن خيراً من الذين طردو القياس وتركوا النص" (3) .   (1) الدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور في رسالة الدكتوراه التي قُدِّمت إلى كلية الشريعة بجامعة الأزهر سنة 1396، وطبعت بعنوان "أصول الفقه وابن تيمية" (القاهرة 1400) . (2) انظر: أصول مذهب الإمام أحمد 512- 513 (الرياض 1397) . (3) مجموع الفتاوى 4/46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وأنه رُوي عن أحمد مسائل قال فيها بالاستحسان، ونقل جملة من تفسيرات الاستحسان، وذكر أن مردّ القول به إلى ترجيح أحد الدليلين على الآخر. ولم يعترض على شيء من ذلك حيث قال بعد نقل كلام الحلواني: "وهذا الكلام منه يقتضي أن الاستحسان ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وهذا معنى قول القاضي. ولفظ الاستحسان يؤيد هذا، فإنه اختيار الأحسن، وإنما يكون في شيئين حسنين، وإنما يوصف القول بالحسن إذا جاز العمل به لو لم يعارض" (1) . أما الأستاذ حمزة زهير حافظ فأشار أوّلاً إلى ذكر شيخ الإسلام لأمثلة الاستحسان التي وردت عن الإمام أحمد، ونسبة القول به إلى أصحاب أبي حنيفة، وإنكار الشافعي له، وعقّب عليه بقوله: "ولم يبين مقصد الشافعي من إنكاره" (2) . ثم نقل عن المسودة كلام الحلواني السابق وتعليق شيخ الإسلام عليه، وقال: "كلام ابن تيمية هنا ينبّهنا على نقطة مهمة، وهي: أن تركنا للقياس في مواضع معينة لا يعني القدح في هذا الأصل الشرعي، بل إن القياس في المسألة التي تركناه فيها دليل قويٌ في نفسه، لولا أن جاء دليل أقوى منه، فقدمناه عليه. وهذا لا يقدح مطلقاً فيه. بل إن ابن تيمية أشار إلى أن اتباع القياس حسن، ولذلك وصف الدليل   (1) المسودة 451- 454. (2) الاستحسان بين المثبتين والنافين: 112 (رسالة ماجستير قدّمت إلى كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 المعارض الذي يكون أقوى منه وصفه بأنه حسن" (1) . ثم تعرّض لموضوع: هل الاستحسان من باب تخصيص العلة أم لا؟ ونقل عن المسوَّدة نصًّا في ذلك. وجاء باحث آخر، وهو الدكتور عمر بن عبد العزيز، فتوصل بعد دراسته لرسالة شيخ الإسلام في معنى القياس إلى أنه منع من إطلاق "المخالف للقياس" على ما ثبت شرعاً على الوجه المخصوص، وأن المسائل الفقهية التي قيل بمخالفتها للقياس بيَّن شيخ الإسلام موافقتَها له، ولكنّه بعد ذلك جعله من القائلين بالاستحسان، الذي يلتقي في بعض أنواعه مع المعدول به عن القياس، أو ما يسمى بالمخالف للقياس، واعتبر هذا موقفاً آخر، وحاول التوفيق بين الموقفين وقال: "إن اعترافه بالاستحسان وإنكاره للمخالف للقياس ينسجمان انسجاماً لا يشوبه شبهة التعارض ... ذلك أنه إنما أنكر اسم "خلاف القياس" لما ثبت شرعاً، لإفضائه إلى اللوازم الستة التي سبق ذكرها، إذ كان فيه إشعار بثبات ذلك القياس بالنسبة لهذا الذي أفرد بحكم آخر بدليل شرعي آخر ... أما الاستحسان فإنه يُشعِر بأن دور القياس المعدول عنه قد انتهى بالنسبة لهذا الذي أفرد بحكم، وأنه ما ينبغي أن يدخل هذا الفرد في نطاقه، ويأخذ حكمه، فلا يستلزم أيًّا من تلك اللوازم الستة الباطلة. أضف إلى، ذلك أن اسم الاستحسان يُشعِر بالمدح والثناء"!! (2) .   (1) المصدر السابق: 113. (2) المعدول به عن القياس- حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية منه: 45 (المدينة المنورة 1408) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 هذه آراء بعض الباحثين الممتازين في بيان موقف شيخ الإسلام من الاستحسان، حيث ذكروا أنه من القائلين به إذا كان الاستحسان لدليل، وهو العدول عن القياس لما هو أقوى منه، وأن الاستحسان هو اختيار الأحسن، وأن ترك القياس في مواضع معينة لا يعني القدح فيه، فإنّه يحرك لدليل أقوى منه. ولو أنهم اطلعوا على هذا الكتاب لعرفوا أن جميع ما توصلوا إليه خلاف ما قرَّره شيخ الإسلام هنا، وأن ما استنبِط من كلامه ليس رأيَه الصريح في هذه القضية، بل هو نقل عن الآخرين وتوجيهٌ لأقوالهم وبيان لما يقصدون إليه. وسنعرض فيما يلي مباحث الكتاب لنعرف موقف شيخ الإسلام من الاستحسان ومن القائلين به والمانعين منه، ومدى موافقته لأحد الفريقين، وكيف ينظر إلى تلك المسائل التي قيل فيها: إنها استحسان على خلاف القياس. بدأ المؤلف كتابه بخطبة الحاجة، وبيان سبب التأليف الذي سبق الحديث عنه، ثم ذكر التعريف المشهور للاستحسان وهو أنه مخالفة القياس لدليل، وبيَّن اختلاف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب: فالظاهرية والمعتزلة والشيعة ينكرون هذا اللفظ مطلقا، وأبو حنيفة وأصحابه يقرّون به بهذا المعنى، ويجوّزون مخالفة القياس للاستحسان، ويعملون بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. والشافعي وأحمد ومالك وغيرهم يذمّون الاستحسان تارة ويقولون به تارةً. وكان الشافعي من أعظم الأئمة إنكاراَ له، وقد تكلم في إبطال الاستحسان وبسط القول في ذلك، ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان في بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 المواضع. ونُقِل عن أحمد أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلافَ القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس. فَيَدَعُون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه". بيَّن المؤلف مراد أحمد من هذا القول، وهو أنه يستعمل النُّصوص كلَّها، ولا يقيس على أحد النصين قياساً يُعارضُ النص الآخر، كما يفعل الحنفية، حيث يقيسون على أحد النصين، ثمَّ يستثنون موضع الاستحسان إمّا لنصَّ أو غيره، فينقضون العلَّة التي يدّعون صحتها مع تساويها في محالّها. أمّا أحمد فيوجب طرد العلَّة الصحيحة، ويقول: إن انتقاضها مع تساويها في محالِّها يُوجب فسادها، وبالتالي فساد القياس المبنيّ على تلك العلة المزعومة. ثم شرح المؤلف الفرق بين المنهجين بذكر بعض الأمثلة على ذلك، وتوصَّل إلى أن منهجَ فقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد وغيرهم العملُ بالنّصين الواردين في المسألة، وعدمُ قياسِ أحدهما على الآخر قياساً يناقض الآخر، أو جعلُ أحدهما منسوخاً بالثاني. بعد بيان هذا الفرق بين المنهجين ذكر المسائل التي قال فيها أحمد بالاستحسان، وأشار إلى أن أبا يعلى فهم منها ومن النص السابق عن أحمد أن المسألة على روايتين عنه: إبطال الاستحسان والقول به، وأنّ أبا يعلَى وأتباعَه كأبي الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما نصروا القولَ بالاستحسان كقول الحنفية، وفسّروه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 كتفسيرهم، ووافقوهم في ذكر أنواعه، وهي: الاستحسان للكتاب، والاستحسان للستة، والاستحسان للإجماع، مع ذكر الأمثلة على ذلك. انتقل المؤلف بعد ذلك إلى نقطة أخرى، وهي: هل الاستحسان تخصيص العلَّة؟ فنقل أوّلاً اختلاف العلماء في جواز تخصيص العلَّة ومنْعِه، ثمَ ذكر أن القاضي أبا يعلى وابن عقيل وغيرهما يمنعون تخصيص العلَّة مع قولهم بالاستحسان، وأن أبا الخطاب الكلوذاني يختار تخصيص العلَّة موافقةً للحنفية. ونقل نصوصاً من كتاب أبي يعلى وحجج الفريقين ومناقشاتها مع ذكر الأمثلة على ذلك. ثم ذكر قولاً ثالثا في هذا الموضوع، وهو تقديم النص وخبر الواحد على قياس الأصول عند من يقول بذلك في حالة التعارض بينهما. وقولاً رابعاً، وهو أنه يجوز تخصيص العلَّة المنصوصة دون المستنبطة. وفي آخر هذا البحث ذكر أن النزاع بين الفريقين القائلين بجواز تخصيص العلة ومنعه إنما هو في علةٍ قام على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما إذا اكتفي فيها بمجرد الطرد الذي يُعلم خلوُّه عن التأثير والسلامة عن المفسدات فكلهم متفقون على أن التخصيص يُبطِلُ تلك العلّة، وأنه لا عبرة بها عند أحد من العلماء. رأينا أن المؤلف نقل إلى هنا آراء الآخرين ونصوصهم في هذا الباب، ولم يعلّق عليها إلاّ في موضع واحد عندما بين مراد الإمام أحمد من قوله السابق ذكره. ولما انتهى من سرد المذاهب والأقوال بدأ في المناقشة والنقد وإبداء رأيه في الخلاف الذي دار حول هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 الموضوع، فذكر أن التحقيق في هذا الباب أن العلة قد تطلق على العلّة التامة المستلزمة لمعلولها بحيث يمتنع تخلف الحكم عنها، فهذه لا يتصور تخصيصها ونقضها، ومتى انتقضتْ بطلتْ. وقد يُراد بالعلّة ما كان مقتضيا للحكم، أي أن فيها معنًى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجباً، وتُسمَى المؤثّرة أو المقتضية أوّلاً، فهذه إذا انتقضت لفرقٍ مؤثر يُفرق به بين صورة النقض وغيرها من الصور لم تَفسُد. فمن قال: إنّ العلة لا يجوز تخصيصها مطلقاً لا لفواتِ شرطٍ ولا لوجود مانعٍ فهو مخطئٌ قطعاً، وقوله مخالف لإجماع السلف، فكلهم يقولون بتخصيص العلّة لمعنًى يُوجِب الفرق. ومورد النزاع في الاستحسان هو تخصيص العلّة بمجرّد دليلٍ لا يُبيِّن الفرقَ بين صورة التخصيص وغيرها، وهذه العلَّة إمّا أن تكون مستنبطةً أو منصوصةً: أ- فإن كانت مستنبطةً وخُصَّت بنصٍّ، ولم يبيّن الفرق المعنوي بين صورةِ التخصيص وغيرِها، فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان يُنكرِه كثيراً الشافعي وأحمد وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة. لأن العلَّة المذكورة لم تُعلَم صحّتُها إلاّ بالرأي، فإذا عارضَها النصُّ كان مُبطِلاً لها، والنصُّ إذا عارضَ العلَّة دلَّ على فسادِها، كما أنه إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دلَّ على فساده. ب- وإن كانت منصوصة، وقد جاء نصن بتخصيص بعض صُور العلَّة، فهذا مما لا ينكره أحمد والشافعي وأصحابهما. كما إذا جاء نصّ في صورة، ونصّ يخالفه في صورةٍ أخرى، لكن بينهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 شَبَهٌ لم يقم دليلٌ على أنه مناط الحكم، فهؤلاء يُقرّون النصوصَ، ولا يقيسون منصوصاً على منصوص يخالف حكمه. ولكن الذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: الصورتان سواءٌ لا فرقَ بينهما، فيكون أحد النصين ناسخاً للآخر. ومثل هذا كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومخالفوهم ممن يقيس منصوصاً على منصوصٍ، ويجعل أحدَ النصين منسوخاً لمخالفته قياسَ النص الآخر. وله أمثلة ذكر المؤلف كثيرا منها وقال: فهذا ونحوه من دفع النصوص البينة الصريحة بلفظ مجملٍ أو قياس هو مما كان ينكره أحمد وغيره. بقيت صورة، وهي أن يجيء نصّان بحكمين مختلفين في صورتين، وهناك صُوَرٌ مسكوت عنها، فهل يقال: القياس هو مقتضى أحد النَّصين، فما سكتَ عنه نُلحِقه به وإن لم نَعرِف المعنى الفارق بينه وبين الآخر؟ فهذا هو الاستحسان المتنازع فيهْ الذي يقول به أصحاب أبي حنيفة وكثير من أصحاب أحمد. أما الآخرون فيقولون: لابدّ أن يُعلَم الجامع أو الفارق، فليس إلحاق المسكوت عنه بأحد النصّين أولى من إلحاقه بالآخر. وإذا عُلِم المعنى في أحد النصَّين ولم يعلم في الآخر، وجاز أن يكون المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يُلحق بواحدٍ منهما إلاّ بدليل. والتحقيق أنه إما أن يُعلَم استواء الصورتين في الصفات المؤثّرة في الشرع، وإما أن يُعلَم افتراقهما، وإمّا أن لا يُعلَم واحدٌ منهما. ففي الحالة الأولى متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض عُلِم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 أن العلَّة باطلة، فإن الشارع حكيم عادل لا يفرّق بين المتماثلين، فلا تكون الصورتان متماثلتين ثم يخالف بين حكميهما. فإنْ علم أنّه فرَّق بينهما كان ذلك دليلاً على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يُعرَف الفرق. وإن عُلِم أنه سوى بينهما كان ذلك دليلاً على استوائهما. وإن لم يُعلَم هذا ولا هذا لم يجز أن يجمع ويُسَوّى إلاّ بدليلٍ يقتضي ذلك. وأحمد إنما قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيص العلّة للفارق المؤثر، وأنكر الاستحسان إذا خُصَّت العلَّة من غير فارقٍ مؤثرٍ، فإن مثل هذا الاستحسان المعدول به عن القياس المخالف له يقتضي فرقاً وجمعاً بين الصورتين بلا دليل شرعي. توضيح ذلك: أن القياس إذا لم ينصّ الشارع على عقته، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبة أو مشابهة ظنَّها مناط الحكم، ثمَ خص من ذلك المعنى صوراً بنص يعارضه كان معذوراً في عمله بالنصّ، لكن مجيء النصّ بخلاف تلك العلّة في بعض الصور دليل على أنها ليست علّةً تامةً قطعاً، فإنّ العلَّة التامة لا تقبل الانتقاض. وإن كان مورد الاستحسان أيضًا معنى ظنه مناسباً أو مشابهاً، فانه يحتاج حينئذٍ إلى إثبات ذلك بالأدلة الدالة على تأثير ذلك الوصف. فلا يكون قد ترك القياس إلاّ لقياسٍ أقوى منه، لاختصاص صورة الاستحسان بما يوجب الفرق بينها وبين غيرها، فلا يكون حينئذٍ لنا استحسان يخرج عن نص أو قياس. وعلى هذا فلا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 الاستحسان الصحيح عدولاً عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال. هذا هو الصواب كما قرَّره المؤلف في رسالته في معنى القياس أيضًا. وتنبني عليها مسألة أخرى ذكرها الأصوليون وفضَل المؤلف الكلام حولها، وهي مسألة القياس على صور الاستحسان المعدول بها عن سنن القياس، وهي من جنس تخصيص العلَّة والاستحسان، فمن جوَّز التخصيص والاستحسان من غير فارق معنوي قال: المعدول به عن سنن القياس لا يجب أن يكون لفارقٍ معنوي، فلا يقاس عليه، وهم أصحاب أبي حنيفة. أما أصحاب مالك والشافعي وأحمد فقالوا: إذا عُرِف المعنى الفارق الذي لأجله ثبت الحكم فيها يجوز القياس عليها. وما ذُكر فيه أنه خالف القياس في صور الاستحسان، فلابدّ أن يكون قياسه فاسداً، أو يكون تخصيصه بالاستحسان فاسداً إذا لم يكن هناك فارقٌ مؤثر. هذا هو الصواب في هذا الباب، وهو الذي ينكره الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنهم لا يأتون بفرقٍ مؤثر بينهما. وحقيقة هذا كلّه أنه قد يثبت الحكم على خلاف القياس في نفس الأمر، فمن يقول بالاستحسان من غير فارقٍ مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارق مؤثر، وبمنع القياس على المخصوص من جملة القياس-: يثبت أحكاماً على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر. وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فهم تارةً ينكرون صحَّة القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارةً ينكرون مخالفة القياس الصحيح لأجل ما يدّعونه من الاستحسان الذي ليس بدليل شرعي، وتارةً ينكرون صحة الاثنين، فلا يكون القياس صحيحاً، ولا يكون ما خالفوه لأجله صحيحاً، بل كلاهما ضعيف. وبعدما انتهى المؤلف من بيان حقيقة الخلاف في هذه القضية عقد فصلاً لدراسة تلك المسائل التي يدّعون فيها أنها تَثبُت على خلاف القياس الصحيح، أو أن العلَّة الشرعية الصحيحة خُصَّتْ بلا فرق شرعي من فوات شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرق شرعي. فذكر أن الأمر بخلاف ذلك كما قاله أكثر الأئمة: الشافعي وأحمد وغيرهما، وإن كان الواحد من هؤلاء قد يُناقض نفسه أيضًا فيخصّ ما يجعله علَّةً بلا فارق مؤثر، كما أنه يقيس بلا علّةٍ مؤثرة. وكان قصده من ذلك ضبط الأصول الكلية المطردة المنعكسة، وبيان أن الشريعة يى فيها تناقض أصلاً، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلاّ تناقضا. وبعد دراسة كل مسألة من هذه المسائل الاستحسانية ذكر أنها ليست مخالفةً للقياس أصلاً، أو أن هناك فرقاً مؤثراً، أو أن الاستحسان فيها ليس صحيحاً بسبب عدم وجود فارق مؤثر. هذا تحليل موجز لمباحث الكتاب، وخلاصة رأي المؤلف في الاستحسان، وبهذا نعرف أنه تناول هذه المسألة بطريقةٍ جديدة، ولم يوافق على ما قاله عامة الأصوليين إنّ الخلاف فيها لفظي، فقد حرّر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وجه النزاع بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وبيّن سبب ذم بعض الأئمة له ثم القول به في بعض المسائل، وقرَّر أن الاستحسان الصحيح لا يمكن أن يكون على خلاف القياس الصحيح، وأن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال. • قيمته العلمية تظهر قيمة الكتاب العلمية عندما يوضع في قائمة الكتب والدراسات التي تتعلق بموضوع معين، والتي تُرتّب تاريخيًّا حسب تأليفها وظهورها، ثم يقارن بينه وبين غيرها من حيث الجدّة والأصالة والابتكار. فكل كتاب يحتوي على آراء جديدة مع الاحتجاج لها، ومناقشات تدل على شخصية المؤلف، بمنهج علمي متميز، وأسلوب طريف مثير-: يُنسَب إليه فضلُ السبق، ويُعترَف لمؤلفه بالإمامة، ويكون موضع العناية والاهتمام من قبل المؤلفين والباحثين. والكتب التي تكون على العكس من ذلك مهما بلغت شهرتها وكثرت نسخها الخطية والمطبوعة، لا يخفى ضعف قيمتها على النقّاد، وزيفها وانتحالها- أحياناً- على المدقّقين الذين يقومون بالموازنة بينها وبين غيرها. ونحن إذا نظرنا إلى هذا الكتاب نجد أن المؤلف جاء فيه برأي جديد في الموضوع لم يُسْبَق إليه، ورد على من يقول: إن في الشريعة أحكاماً على خلاف القياس مبنية على الاستحسان، كما سبق تفصيله وبيان وجهة نظره فيما مضى. وعلى هذا فتكون للكتاب قيمة علمية كبيرة تجعله من أهم الكتب التي ألّفت في هذا الباب، لتميزه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وأصالته ونقده للرأي السائد في الموضوع. • أثره مضى على تأليف هذا الكتاب سبعة قرون، وبقي بصورة المسوّدة التي وصلتنا. ولعلها لم تُبيض، فلا نجد من الكتاب نسخة أخرى في فهارس المخطوطات التي بين أيدينا. ولا نعرف مؤلفاً رجع إليه أو اقتبس منه إلاّ العلّامة ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" (4/124- 126) ، ولكنه لم ينقل الفكرة الأساسية، التي بنى عليها المؤلف كتابه، ولم يذكر منه إلاّ تعريف الاستحسان وأنواعه عند القائلين به، والمسائل التي قال فيها الإمام أحمد بالاستحسان، وقوله في رواية أبي طالب: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان" هل يَدُلّ على إبطال الاستحسان أم لا؟ وتعليق المؤلف على كلام أبي يعلى وأتباعه في المراد من هذا القول. وهذه المباحث كلها في بداية الكتاب، وتعتبر تمهيداً للدخول في الغرض الأساسي من تأليفه، وهو بيان حقيقة الاستحسان الذي يقول به الحنفية ويمنعه الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث، ودراسة المسائل التي نُسِبَ إليهم فيها القول بالاستحسان مع ذمهم له، وهل هي مخالفة للقياس كما قيل؟ ولو أن ابن القيم نقل هذا الكتاب بكامله كما فعل مع رسالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 أخرى لشيخه في معنى القياس في "إعلام الموقعين" (1/383- 401، 2/3- 38) ، واطلع عليه المؤلفون في الأصول، لكان له أثر كبير في كتاباتهم حول هذا الموضوع. ولكنهم لم يعرفوا الكتاب والنصوص المقتبسة منه، فلم يفيدوا منه شيئا. أما الباحثون المحدثون فلم يعرفوه كذلك لكونه مجهول العنوان والمؤلف. ولعلّ نشره يثير هممهم، فيدرسون في ضوئه موقف شيخ الإسلام من الاستحسان، ومنهجه في تناول هذا الموضوع، ويصلون به إلى حقيقة الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث في هذا الباب. وأتوقع أن يكون لهذا الكتاب أثر طيب في المستقبل إن شاء الله. • وصف النسخة الخطية توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق مجموعة برقم [91 مجاميع] تحتوي على أكثر من ثلاثين رسالة وكتاباً معظمها لشيخ الإسلام ابن تيمية، وبعضها لغيره، منها: - أوّل كتاب "إثبات صفة العلو" لابن قدامة (ق 21- 22) - الجزء الأول من حديث أبي عبد الله محمد بن مخلد الدوري (ق 36- 44) - الجزء التاسع من الفوائد المنتقاة من حديث أبي الحسن علي ابن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ الحمامي عن شيوخه (ق 203-210) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 - قطعة من كتاب "السنن" للأثرم (ق 213- 220) - ثبت لأحد تلاميذ البرزالي والمزي (ق 293- 307) - رسالة في الاستعاذة (نقلاَ من أوّل تفسير الرازي) (ق 309- 324) وماعداها من تأليف شيخ الإسلام، وبعضها بخطه، ولا توجد على أكثرها عناوين، ولذا فنحن نشير إلى الأوراق التي هي بخطه دُون ذكر عناوينها، لأنها تحتاج إلى دراسة متأنية، ومقابلتها على مؤلفاته ورسائله المطبوعة، والرجوع إلى القوائم الأساسية التي أشرنا إليها لمعرفة عناوينها الصحيحة. وهذه الأوراق هي: (1- 8، 53- 78، 119- 137, 150، 157- 164. 165- 181، 182- 183، 184- 188، 189- 191، 263- 266، 325- 333) . أما الرسائل الأخرى فقد كتبت بخطوط مختلفة، وبعضها ناقصة الأول والأخير، وترتيب الأوراق في بعض المواضع منها مضطرب. ونسخة هذا الكتاب الذي بين أيدينا تقع في آخر هذه المجموعة النفيسة التي لا تقدّر بثمن (ق 325- 333) . وهي مسوّدة المؤلف نفسه، ولعلّها لم تبيَّض فبقيت مسوّدة كما كتبتْ لأول مرة. وقد ذكر البرزالي (1) أن لشيخ الإسلام تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة   (1) كما نقل عنه ابن عبد الهادي في العقود الدرية 373 وابن كثير في البداية والنهاية 14/137. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 في الأصول والفروع، ثم قسمها ثلاثة أقسام، وقال: 1- كَفَلَ منها جملة، وبُيضَتْ وكُتِبتْ عنه، وقُرِئتْ عليه أو بعضها. 2- وجملة كبيرة لم يُكَملْها. 3- وجملة كَملَها، ولم تُبيضْ إلى الآن. وبعد دراسة هذه النسخة نستطيع أن نقول: إنها من القسم الثالث، فإنّنا لم نعثر على نسخة أخرى من الكتاب في أي مكتبة، ومما يؤيد ذلك أن المؤلف شطب فيها على كثير من الكلمات والعبارات وأبدلها بغيرها، وأضاف إليها تعليقات واستدراكات طويلة في هوامش بعض الصفحات من جميع الجهات. ومن أغرب هذه الإضافات ذلك الاستدراك الطويل في الورقة (331 أ) الذي يستمرّ في هوامش الصفحة، ثم ينتقل الكلام إلى هوامش الصفحة الماضية (330 ب) ثم هوامش الصفحة التي قبلها (330 أ) ، وينتهي بالسطر الذي كتبه المؤلف معكوساً، للدلالة على أن ما فيه نهاية لهذا التعليق الطويل، وليس مرتبطاً بالكلام الموجود بداخل الحوض في تلك الصفحة، ولعلّ هذا التعليق كتب بعد الانتهاء من تأليف الكتاب. لا تُوجد لهذه النسخة صفحة عنوان، ولا كتب المؤلف عنوان الكتاب بخطه (كما ذكرنا ذلك في تحقيق عنوان الكتاب) ، ولا توجد لها خاتمة يُذكَر فيها عادة اسم الناسخ أو المؤلف وتاريخ النسخ أو التأليف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 هذه المسوّدة وغيرها من الكتب التي وصلت إلينا بخط شيخ الإسلام يقع القارئ أو المحقق بإزائها في حيرة، فهو يكتب غالباً بدون نقطٍ وإعجام، ولايميّز الحروف بداخل الكلمة ويمزج بعضها ببعض، ويكتب بسرعة وفي غاية التعليق والإغلاق، حتى عجز كثير من أصحابه عن نقله (كما سبق ذكره فيما مضى) . فقراءة كل كلمة فيه تحتاج إلى تقليبها على الوجوه الممكنة، ولا مساعد في ترجيح أحد الوجوه على غيرها إلاّ السياق والموضوع. فالباء والتاء والثاء والفاء والقاف والنون والياء في بداية الكلمات تكتب عنده بطريقة واحدة تقريباً، و"من" و"في" تتشابهان في مواضع كثيرة، ويكتب "الذي" و"الذين" و"الدين" برسم واحدٍ تقريبا، ويُسقِط بعض الحروف من الكلمة، فمثلاً كلمة "القهقهة" كتبها مرتين "القهقه". ويتبع الرسم القديم في كتابة كثير من الكلمات بحذف الألف أو الهمزة أو غيرهما، مثل: صلح (صالح) ، السلم (السلام) ، يحتج (يحتاج) ، مسله (مسألة) ، ادعا (ادّعى) ، صلوته (صلاته) ، اسحق (إسحاق) ، وحا (وجَاءا) ، العا معنا (ألغَى معنًى) ، ثلثه (ثلاثة) ، ملك (مالك) ، فيعطا (فيُعطَى) ، واحراه (وإجراؤه) . ولا تظهر الميم عنده إذا وقعت تِلْوَ حرف الباء أو التاء أو الياء ونحوها، فيكتب "اتها" (= أتمَّها) ، "انا" (= إنّما) ، " ائه " (- أئمة) ، "الا" (= الماء) ، (الحظور" (= المحظور) ، الانع (= المانع) وغيرها. هذه بعض الأمثلة لطريقة كتابته للكلمات، ويكفي القارئ أن يلقي نظرةً على نماذج من الأصل، ويتأمل فيها بنفسه، ويبذل مجهوده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 في قراءتها، ويقارن بينها وبين قراءتي لها. ولا يخفى أن نسخة الكتاب بخط المؤلف تُوفِّر على المحقّق الوقتَ والجهد في جمع النسخ ودراستها والمقابلة بينها ومعرفة علاقة بعضها ببعض. ولكن المخطوطة التي نحن بصددها زادت مشاكلها فوق ما كنت أتصور، وكان تقديم نصٍّ سليم لها من أصعب الأمور، وقد بذلتُ كلّ ما في وسعي لقراءتها قراءة صحيحةً، ونَسْخِها ملتزماً الرسمَ الإملائي الحديث، ولم أزد إلاّ النقط والإعجام والفواصل والهمزات وتغيير الفقرات، وأبقيت الكلمات التي يبدو أنّ فيها خطأ إعرابيًّا أو صرفيًّا كما هي، وأشرتُ إليها في التعليق. أما الكلمات والعبارات التي شطب عليها المؤلف وأبدلها بغيرها فلم أنبِّهْ إليها، لأنها كثيرة في هذه المسوَّدة، ولا فائدة من ذكرها. وفي الختام أرجو أنني قد وُفِّقتُ في قراءة هذه المسوَّدة قراءةً سليمة، وأدعو الله أن ينفع بها الباحثين في علم الأصول خاصة، والقرّاء والمثقفين عامة، إنه سميع مجيب. محمد عزير شمس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 نماذج من الأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 نصّ الكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الحمد لله، نستعِينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فلا مُضِل له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، ونشهد أن لا إله إلاّ الله وَحْدَهُ لا شريكَ له، ونشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم تسليماً. فصلٌ في الاستحسانِ وتخصيصِ العلَّة، وموضع الاستحسانِ هل يُقاسُ عليه أم لا، وما يرد من الأحكامِ الثابتةِ بالنصّ والإجماع ويُقالُ: إنها مخالِفةٌ للقياس. فإن هذه قواعدُ كَثرُ اضطرابُ الناسِ فيها، والحاجةُ ماسَّةٌ إلى تحقيقها في كثير من مسائلِ الشريعةِ أصولها وفروعِها. أما الاستحسان فالمشهور من معانيه أنه مخالفةُ القياسِ لدليلٍ (1) ، وقد يُرادُ به غيرُ ذلك (2) . والعلماء في لفظه ومعناه المذكور على   (1) وهو ما عبَّر عنه أبو الحسن الكرخي بقوله: "الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه هو أقوى من الأول يقتضي العدول عن الأول ". (المعتمد لأبي الحسين البصري 2/840. ونحوه عن الكرخي في أصول السرخسي 2/200 والتبصرة للشيرازي 493 وشرح اللمع له 2/969 والوصول إلى الأصول لابن برهان 2/321 والإحكام للآمدي 4/137 والبحر المحيط للزركشي 6/91) . وقال الجصاص: هو ترك القياس إلى ماهو أولى منه (الفصول في الأصول: ق 294 ب) . وقال أبو زيد الدبوسي: هو اسمٌ لضرب دليل يعارض القياس الجلي (تقويم الأدلة: ق 225 ب) . ويراجع: أصول البزدوي بشرحه كشف الأسرار 3/4 وأصول السرخسي 2/200. (2) انظر تعريفات أخرى للاستحسان في المصادر السابقة وفي الحاوي= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 ثلاثة أقوال: منهم من ينكر هذا اللفظ مطلقاً، وهم نُفاةُ القياسِ، كداود وأصحابه (1) ، وكثير من أهل الكلام من المعتزلة والشيعة وغيرهم، فليس عندهم في أدلَّة الشرع لا قياس ولا استحسان. ومنهم من يُقِر به بهذا المعنى، ويُجوِّز مخالفةَ القياس للاستحسان، ويعمل بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. وهذا هو المعروف عن أبي حنيفة وأصحابه (2) .   = للماوردي 11/636 والتلخيص للجويني 3/310 والمستصفى 1/275 والمحصول 3/2/166؛ والعدة لأبي يعلى 5/1607 والتمهيد للكلوذاني 4/92 والواضح لابن عقيل 1/144ب وشرح مختصر الروضة 3/191؛ وإحكام الفصول للباجي 687 وشرح تنقيح الفصول للقرافي 451 والموافقات 4/116 والاعتصام 2/142 وغيرها. (1) عقد ابن حزم بابا في إبطال الاستحسان في كتابه الإحكام في أصول الأحكام 6/16- 21، واختصره في كتابه ملخص إبطال القياس والرأي 50- 51. (2) إذا كان الاستحسان عند الأحناف هو ترك القياس إلى ما هو أولى منه، أو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي (كما سبق) ، فمن الغريب حقًّا أن يذكروا مسائل فيها قياس واستحسان، أخذوا فيها بالقياس وتركوا الاستحسان. وهي إحدى عشرة مسألة نقلها أمير كاتب الإتقاني من كتاب الأجناس للناطفي، مخطوطة في مكتبة لاله لي برقم 690 (ق 260 ب- 261أ) . وبعدما ذكر السرخسي في أصوله 2/204- 206 ثلاثاً منها وحاول توجيهها قال: "وهذا النوع يعز وجوده في الكتب، لا يوجد إلاّ قليلا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ومنهم من ذمَ الاستحسان تارةً، وقال به تارةً، كالشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وغيرهم، ففي كتب مالك وأصحابه ذِكر لفظِ الاستحسان في مواضع (1) . والشافعيّ قال: من استحسن فقد   (1) روى أصبغ عن ابن القاسم عن مالك أنه قال: "تسعة أعشار العلم الاستحسان" (الإحكام لابن حزم 6/16 والموافقات 4/118 والاعتصام 2/138) . وواضح أنه لم يقصد به الاصطلاح، بل أراد- كما ذكر محمد بن خويز منداد-: القول بأقوى الدليلين، فالذي يذهب إليه هو الدليل، إن كان يسميه استحساناً. (إحكام الفصول 686) . وقد نقلت عن الإمام مالك مسائل معدودة قال فيها بالاستحسان ولم يُسبَق إليها، منها: الشفعة في الثمار (المدونة 14/134) ، والشفعة في الدار المشتركة التي أقيمت في الأرض المحبوسة (المدونة 14/109) ، والقصاص في الجرح العمد بالشاهد واليمين (المدونة 6/216، 217) ، وأن عقل الأنملة من الإبهام نصف عقل الإصبع (المدونة 16/116 والمنتقى 6/92) . ولعل الإمام كان يعني هذه المسائل الاستحسانية حين قال في رواية القعنبي: "ليتني جُلِدتُ بكل كلمة تكلمتُ بها في هذا الأمر بسوط ولم يكن فرطَ مني ما فرط من هذا الرأي، وهذه المسائل قد كانت لي سعة فيما سُبقتُ إليها". (جامع بيان العلم وفضله 2/145) . ولا نجد للاستحسان آثراً بارزاً في أصول الفقه عند المالكية، فبعضهم نسبه للحنفية والحنابلة فقط، ثم نفاه وأبطله، واعتبر النزاع فيه لا طائل تحته، وبعضهم ربطه بالمصالح المرسلة. (انظر: إحكام الفصول 687- 689 وأحكام القرآن لابن العربي 2/746 ومختصر ابن الحاجب بشرح العضد 2/288 والموافقات 4/116- 118 والاعتصام 2/137- 150) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 شَرَّعَ (1) ، وتكلَّم في إبطالِ الاستحسانِ، وبسطَ القولَ في ذلك (2) . وكان من أعظم الأئمة إنكاراً له، وهو الذي عليه أصحابه في أصول الفقه. ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان، كما قال: أستحسن أن تكون المتعةُ ثلاثين درهما" (3) . ولهذا حُكِيَ للشافعي في الاستحسان قولان: قديم وجديد. وكذلك أحمد بن حنبل، نقل عنه أبو طالب (4) أنه قال: أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلافَ القياسِ قالوا: نستحسنُ هذا   (1) كذا نُقل عنه في عامة كتب الأصول. وقد قال في الرسالة: "إنما الاستحسان تلذذ" (ص507) ، و"أنّ حراماَ على أحدٍ أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر" (ص 504) . (2) في كتاب إبطال الاستحسان من الأم 7/267- 277 (ط. بولاق) وأحكام القرآن له 1/264. (3) الأم 5/62، 7/235 وأحكام القرآن للشافعي 1/201. ومن المسائل التي قال فيها الشافعي بالاستحسان: ثبوت الشفعة إلى ثلاثة أيام (الأم 3/231 ومختصر المزني بهامشه 3/47) ، وترك شيء من الكتابة (الأم 7/362، 364 ومختصر المزني 5/275) ، وأن لا تُقطع يُمنى سارقٍ أخرج يدَه اليسرى فقُطعت (الأم 6/133، 139 ومختصر المزني 5/169) ، وانظر مسائل أخرى في: الحاوي للماوردي 16/166 والبحر المحيط للزركشي 6/95- 97 ورفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب للسبكي 2/ق 374. (4) هو أحمد بن حميد المشكاتي، صحب الإمام أحمد، وروى عنه مسائل كثيرة، وكان أحمد يكرمه ويعظمه. توفي سنة 244. (طبقات الحنابلة 1/39) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 ونَدَعُ القياسَ. فَيَدَعُون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. قال: وأنا أذهبُ إلى كل حديث جاءَ، ولا أقيسُ عليه (1) . قال القاضي أبو يعلى (2) : وظاهر هذا يقتضي إبطالَ القولِ بالاستحسان، وأنه لا يُقاسُ المنصوصُ عليه على المنصوص عليه. قلت: مراد أحمد أنّي أستعمل النصوصَ كفَها، ولا أقيس على أحد النصينِ قياسا يُعارِضُ النصَّ الآخر، كما يَفعلُ مَن ذكرَه، حيث يقيسون على أحد النصّينِ، ثم يستثنون موضعَ الاستحسان إما لنص أو غيرِه، والقياسُ عندهم يُوجبُ العلَّة الصحيحة، فيَنْقُضون العلَّةَ التي يدعون صحتها مع تساوِيْهاَ في مَحَالها./ وهذا من أحمدَ يُبين أنه يُوجِب طردَ العلَّةِ الصحيحة، وأنّ انتقاضَها مع تَساوِيْها في مَحالها يُوجب فسادَها. ولهذا قال: لا أقيسُ على أحدِ النصينِ قياساً يَنقضُه النص الآخر، فإنّ ذلك يدكُ على فساد القياس. وهو يستعمل مثل هذا في مواضع، مثل حديث أم سلمة وفيه   (1) انظر: العدّة 5/1605 والتمهيد للكلوذاني 4/89 والمسودة 452. (2) في العدة 5/1605. وعلق عليه أبو الخطاب الكلوذاني في التمهيد 4/89 بعدما نقل كلام شيخه أبي يعلى: وعندي أنه أنكر عليهم الاستحسان من غير دليل، ولهذا قال: يتركون القياس الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. فلو كان الاستحسان عن دليلِ ذهبوا إليه لم يكره، لأنه حق أيضًا. وقال: أنا أذهب إلى كل حديث جاء، ولا أقيس، معناه: أني أترك القياس بالخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أرادَ أحدُكم أن يُضَحيَ ودخلَ العَشْرُ فلا يَأْخُذْ مِنْ شَعرِه ولا مِن بَشرَتِه شيئاً" (1) ، مع حديث عائشة: كنتُ أَفْتِلُ قلائدَ هَدْي رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يَبْعَثُ به وهو مُقيم، فلا يَحْرُمُ عليه شيء ممّاَ يَحْرُمُ على المُحْرِم (2) . والناس في هذا على ثلاثة أقوال: منهم من يُسوي بين الهَدْيِ والأضْحية في المنع، ويقول: إذا أرسل المُحْرِمُ هَدْيا لم يَحِل حتى يَنْحَر، كما يُروى عن ابن عباس (3) وغيره. ومنهم من يُسوي بينهما في الإذن، ويقول: بل المضحّي لا يُمنَع عن شيء كما لا يُمْنَع المُهْدِيْ، فيقيسونَ على أحدَ النصينِ ما يعارضُ الآخر. وفقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم عملوا بالنصين، ولم يَقِيْسُوا أحدهما على الآخر، كما أن الله لمّا أحلَّ البيعَ وحرمَ الربا (4) لم يَقِسِ المسلمون أحدَهما على   (1) أخرجه مسلم (1977) وأبو داود (2791) والترمذي (1523) والنسائي 7/211، 212 وابن ماجه (3149) . (2) أخرجه مالك في الموطأ 1/340، 341 ومن طريقه البخاري (1700، 2317) ومسلم (1321) . (3) الرواية عنه في المصادر السابقة في الحديث المذكور. وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5/234. (4) في قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة: 275] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 الآخر، وإنما هذا قياس المشركين. وكذلك لمّا أحل المُذَكَى وحَزَم الميتةَ (1) لم تقِيسُوا أحدَهما على الآخر، بل هذا قياسُ المشركين (2) . وكذلك لما جاء (3) الكتابُ والسنةُ بالقُرْعَة (4) ، وجاءا بتحريم القمار (5) لم يقيسوا هذا على هذا، بل أجازوا القُرعةَ، وحزَموا   (1) في الآية الثالثة من سورة المائدة. (2) ذكر المؤلف هذين المثالين في مجموع الفتاوى 20/539. 540 فقال: الشرع دائما يُبطل القياس الفاسد، كقياس ابليس، وقياس المشركين الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، والذين قاسوا الميت على المذكَى وقالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ فجعلوا العلة في الأصل كونه قتلَ آدمي. ونحوه في مجموع الفتاوى 19/287. (3) كتب المؤلف أولاَ: "جاءت السنة بالقرعة"، ثم شطب على "السنة بالقرعة" وكتب: (الكتاب والسنة بالقرعة) ، وبقيت "جاءت" بالتاء. (4) قال تعالى: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران: 44] . ومن الأحاديث الواردة في القرعة: حديث عائشة الطويل الذي أخرجه البخاري (4750 ومواضع أخرى) ومسلم (2770) وفيه: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يخرج أقرعَ بين أزواجه، فائتُهن خرج سهمها خرج بها رسول الله سيَئ معه". (5) قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) . وانظر: أحكام القرآن للشافعي 2/157 والأم 7/336. ومن الأحاديث الواردة في تحريم القمار: حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (4860) ومسلم (1647) ، وفيه: "من قال لصاحبه تعالَ أقامِرْكَ فليتصدقْ ". قال الذهبي في كتاب الكبائر 167: "فإذا كان مجرد القول معصية موجبةً= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 المَيْسِرَ والاسْتِقْسَام بالأزْلاَم، بخلاف من جَعلَ القرعةَ من القِمارِ أو من الاستقسام بالأزلام، ولم يُعلّق بها حكماً. وأحمد أكثر الفقهاء عملاً بالقرعة (1) ، لما كان عنده فيها من النصوص والآثار. وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاء الحديث لما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناسَ إذا صَلَّى الإمامُ قاعداً أن يُصَلُّوا قُعوداً أجمعينَ (2) . ثم لمَّا افتتحوا الصلاةَ قياماً أتَمَّها بهم قياما" (3) . عمل بالحديثين، ولم يَقِسْ على أحدهما قياساً يُناقِضُ الآخرَ ويجعلُه منسوخا" (4) ، كما فعل   = للصدقة المكفّرة، فما ظنُّك بالفعل؟! وهو داخل في أكل المال بالباطل". (1) منه قوله بالقرعة بين الزوجات عند السفر (المغني 7/40) ، وبين الزوجات في الطلاق المبهم (المغني 7/251) ، وبين الناس في قسمة السهام (المغني 9/123) ، وبين رجلين إذا ادَّعيا لقطة (المغني 5/646) ، وبين المعتَقين عن دبر (المغني 9/358) . (2) أخرجه مالك في الموطأ 1/135 ومن طريقه البخاري (689) ومسلم (411) عن أنس بن مالك. وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة، وكلاهما متفق عليه. (3) أخرجه البخاري (687) ومسلم (418) من حديث عائشة في قصة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه، وفيه: "فجعل أبو بكر يصلّي وهو قائم بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس بصلاةِ أبي بكر، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعد". (4) قال ابن قدامة في المغني 2/222: "أشار أحمد إلى أنه يمكن الجمع بين الحديثين بحمل الأول على من ابتدأ الصلاة جالساً، والثاني على ما إذا ابتدأ الصلاة قائما ثم اعتل فجلس. ومتى أمكن الجمع بين الحديثين وجب ولم يحمل على النسخ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 طائفةٌ من الفقهاء، كالشافعي (1) والحميدي (2) وغيرهما (3) . واستدل هو وغيره بأن الصحابة بعده لفَا صَلَّوا جلوساً أمروا مَن خلفهم بالجلوس، وقد شهدوا صلاته في آخر عمره، مثل أُسَيْدِ بن الحُضير (4) ، وهو من أفضل السابقين الأولين من الأنصار، وقد فعل ذلك في عهد أبي بكر، فإنه قُتِلَ في قتالِ المرتدّين من حنيفة أتباعِ مُسيلمة الكذاب (5) ./   (1) قال في الرسالة 254 بعدما ذكر الحديثين: "فلما كانت صلاة النبي في مرضه الذي مات فيه قاعداً والناسُ خلفه قياماً-: استدللنا على أن أمْرَه الناسَ بالجلوس في سقطتِه عن الفرس، قبلَ مرضه الذي مات فيه، فكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه قاعداً والناس خلفَه قياما-: ناسخةً لأن يجلس الناسُ بجلوس الإمام ". وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي: 111- 114. (2) نقل البخاري قول الحميدي عقب الحديث (689) من صحيحه. (3) في الأصل: "وغيره ". (4) قال الحافظ في الفتح 2/175: "قد أمَّ قاعداً جماعةٌ من الصحابة بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أسيد بن حضير وجابر وقيس بن قهد وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة أخرجها عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، بل ادعى ابن حبان وغيره إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد". وانظر: مصنف عبد الرزاق 2/462 ومصنف ابن أبي شيبة 2/326، 327 والسنن الكبرى للبيهقي 3/78 وبعدها، والمغني 2/225. وقد قرر المؤلف في مجموع الفتاوى 23/249 و405، 406 ما قرره هنا. (5) قلت: هذا غريب، فقد توفي أسيد بن الحضير في عهد عمر بن- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وقد قال أحمد بالاستحسان المخالف للقياس في مواضعَ، كقوله في رواية صالح (1) في المضارب: إذا خالفَ فاشترَى غَيْرَ ما أَمَرَ به صاحب المال، فالرِّبْحُ لصاحب المال، ولهذا أُجْرَةُ مثلِه، إلاّ أن يكون الربحُ يُحيطُ باجرةِ مثلِه فيَذْهَبَ. وكنتُ أذهبُ إلى أنَّ الربحَ لصاحب المال، ثم اسْتَحْسَنْتُ (2) .   = الخطاب سنة 20 أو 21، ولم أجد من ذكر مشاركته في قتال المرتدين من بني حنيفة، فضلاً عن وفاته فيه. (انظر: طبقات ابن سعد 3/603 والاستيعاب 1/175 والإصابة 1/49 وسير أعلام النبلاء1/340 والمصادر المذكورة بهامشه) . ثم راجعت كتب التاريخ في قصة قتل مسيلمة الكذاب باليمامة والأحداث التي جرت بين حزبه وبين المسلمين سنة 11، فلم أجد فيها ذكراً لأسيد. (انظر: تاريخ الطبري 3/281- 301 والفتوح لابن أعثم 1/26- 40 [ط. بيروت] والمنتظم 4/79- 83 والبداية والنهاية 6/323- 327) . وسرد ابن الأثير في الكامل 2/248- 249 أسماء أكثر من أربعين شخصاً من المسلمين قُتِلوا باليمامة، ليس من بينهم أسيد. (1) هو ابن الإمام أحمد، يكنى أبا الفضل. توفي سنة 266. (طبقات الحنابلة 1/173) . (2) النص في مسائل الإمام أحمد رواية صالح 1/448 بغير هذا اللفظ، ففيه: "وسألته عن المضارب إذا خالف، قال: بمنزلة الوديعة، عليه الضمان، والربح لرب المال إذا خالف، إلاّ أن المضارب أعجبُ إليَ أن يُعطى بقدر ما عمل". وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود 199: "سمعتُ أحمد سُئل عن المضارب إذا خالف، قال: يختلفون فيه". والنص- كما هنا- نقله المؤلف من العدّة 5/1604، ونقله ابن القيم في بدائع الفوائد 4/124 عن المؤلف، وهو كذلك في الواضح= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وقال في رواية الميمونيّ (1) : أَسْتَحْسِنُ أن يَتَيَمَّم لكلِّ صلاةٍ، ولكنّ القياسَ أنه بمنزلةِ الماءِ حتى يُحدِثَ أو يَجِدَ الماءَ (2) . وقال في رواية الْمَرُّوْذِيّ (3) : يجوزُ شِرَى (4) أرضِ السَّوَادِ (5) ،   = لابن عقيل 1/144 أ، والمسودة 452. وذكر ابن قدامة في المغني 5/40 هذه المسألة وعلَلها بقوله: "لأنّ رب المال رضي بالبيع، فأخذ الربح، فاستحق العامل عوضاَ، كما لو عقده بإذنه، ولأنه عمل ما يستحق به العوض ولم يسقَم له المسمى، فكان له أجرة مثله كالمضاربة الفاسدة". ويأتي الكلام على المسألة في ص 213. (1) هو عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران، أبو الحسن الرقي، من جلّة أصحاب الإمام أحمد. كان الإمام يكرمه ويجلّه ويفعل معه مالا يفعل مع أحد غيره. توفي سنة 274. (طبقات الحنابلة 1/212) . (2) انظر: العدّة 5/1604 والتمهيد للكلوذاني 4/87 والمسوّدة 451 والمغني 1/263. وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود 16: "قلت لأحمد : التيمم لكل صلاةٍ أم للحدث إلى الحدث؟ قال: لكل صلاةِ أعجب إليّ ". وسيأتي الكلام على المسألة في ص 208 وما بعدها. (3) هو أحمد بن محمد بن الحجاج، أبو بكر المروذيَ، من أصحاب الإمام أحمد. كان إماماً في الفقه والحديث، كثير التصانيف. توفي سنة 275. (طبقات الحنابلة 1/56) . (4) هو مقصور وممدود (شِراء) ، والقصر أشهر، وكان الكسائي يقول: مقصور لا غير، انظر مناظرته مع اليزيدي فيه أمام الرشيد في: المصباح المنير (شرى) . ووهم من ضبطه "شَرْي". (5) هي أرض العراق التي افتتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب، سميت بذلك لخضرة زروعها وأشجارها، والخضرة: السواد. (معجم= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 ولا يَجوزُ بيعُها، فقيل له: كيف تُشْتَرَى ممن لا يَملِكُ؟ فقال: القياسُ كما تقول، ولكن هو استحسان. واحتج بأن أصحابَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخصُوا في شِرَى المصاحفِ وكَرِهُوا بَيْعَها، وهذا يُشبِهُ ذاك (1) . وقال في رواية بكر بن محمد (2) فيمن غَصَبَ أرضاً وزرعها: الزَّرعُ لرب الأرضِ، وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئاً يُوافِقُ القياسَ. أَستَحْسِنُ أن يَدْفَعَ إليه نَفَقَتَه (3) . وقد جعل القاضي أبو يعلى المسألةَ على روايتين، ونصَرَ هو وأتباعُه كأبي الخطَاب (4) وابن عَقِيل وابن   = البلدان 3/272) . (1) انظر: العدة لأبي يعلى 4/1182، 1394، 1398، 1605 والتمهيد للكلوذاني 4/87 والواضح لابن عقيل 1/144 أوالمسودة 452 وبدائع الفوائد 4/124. والآثار في كراهية بيع المصاحف أخرجها عبد الرزاق في المصنف 8/110- 113 والبيهقي في السنن الكبرى 6/16 وابن أبي داود في المصاحف عن ابن عباس وابن عمر وبعض التابعين، ورخص بعضهم في بيعها. وسيأتي الكلام على المسألتين فيما بعد (ص 221) . (2) أبو أحمد النسائي الأصل، البغدادي المنشأ. صحب الإمام أحمد وأخذ عنه، وروى مسائل كثيرة، وكان الإمام أحمد يقدمه ويكرمه. (طبقات الحنابلة 1/119) . (3) انظر: العدة 5/1605 والتمهيد للكلوذاني 4/87 والمسودة 452 وبدائع الفوائد 4/124. وراجع المغني 5/234- 236 حيث نقل الرواية وتكلم على المسألة. وسيأتي مزيد البحث عنها في ص 219. (4) هو محفوظ بن أحمد الكَلْوذاني صاحب كتاب "التمهيد في أصول- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 [الزاغوني] (1) القولَ بالاستحسان كقول أصحاب أبي حنيفة وفسر هؤلاء وهؤلاء الاستحسان الذي يقولون به بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه. وقيل: هو أولى القياسين (2) . قالوا- وهذا لفظ القاضي (3) -: والحجةُ التي يُرجَعُ إليها في الاستحسانِ فهي الكتابُ تارةً، والسُّنةُ أُخرى، والإجماعُ ثالثةً. والاستدلال بترجحِ (4) شَبَهِ بعضِ الأصولِ على بعضِ. كما (5) قلنا ب الاستحسان لأجْلِ الكتابِ في شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السَّفَر إذا لم نَجدْ مسلما" (6) .   = الفقه ". توفي سنة 510. (ذيل طبقات الحنابلة 1/116) . (1) لم يكتب المؤلف بعد "ابن" من المقصود به، ولعله "ابن الزاغوني " فهو من أبرز العلماء اتباعًا لمنهج أبي يعلى في الأصول والكلام، وقد وصل إلينا كتابه "الإيضاح في أصول الدين". توفي سنة 527. (ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 1/180) . (2) العدّة 5/1610 والتمهيد 4/92 والواضح 1/144 أ- ب. (3) العدّة 5/1607- 1609. (4) كذا في الأصل وبدائع الفوائد، وفي العدة: "يرجح". (5) كذا في الأصل، وفى العدّة: "فمما". (6) لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) (المائدة: من الآية106) ،. وانظر: المغني 9/183 وتفسير القرطبي 6/346، وسبب نزول الآية عند البخاري (2780) من حديث ابن عباس. وسيأتي الكلام على المسألة فيما بعد، ص 225. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 قال: ومما قلنا فيه ب الاستحسانِ للسنّةِ فيمن غَصَبَ أرضاً وَزَرَعَها، فالزرعُ لِرَبِّ الأرضِ، وعلى صاحب الأرضِ النفقةُ لصاحبِ الزَّرع، لحديثِ رافع بن خَدِيْج عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من زَرعَ في أرضِ قومٍ فَالزرعُ لِرَب الأرضِ وله نفَقَتُه" (1) . وقد كان القياس أن يكون الزرع لزارعه (2) . قال: ومما قلنا فيه بذلك للإجماع جوازُ سَلَمِ الدراهم والدنانير في الموزونات، وكان القياس أن لا يجوز ذلك لوجود الصفة المضمومة إلى الجنس، وهي الوزن، إلاّ أنهم استحسنوا فيه للإجماع (3) . قلت: ومن ذلك أن نفقةَ الصغيرِ وأجرةَ مُرضِعِه على أبيه دونَ أمِّه بالنصّ (4) والإجماعِ. والقياسُ- عندَ مَن يَجْعلُ النفقةَ على كل   (1) أخرجه أبو داود (3403) والترمذي (1366) وابن ماجه (2466) وأحمد 3/465، 1/144 والبيهقي في السنن الكبرى 6/136 من طريق شريك عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وتكلّم عليه الألباني وصححه لشواهده في إرواء الغليل 5/351. (2) قال ابن قدامة في المغني 5/236: "أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحسانا على خلاف القياس، فإن القياس أن الزرعَ لصاحب البذر، لأنه نماء عين ماله، وقد صرح به أحمد فقال: هذا شيء لا يوافق القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته للأثر". (3) انتهى كلام أبي يعلى في العدة. وانظر هذه المسألة في المغني 4/9- 10. (4) قال تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وارثٍ بفرضٍ أو تعصيبٍ، أو على كل ذِيْ رَحِمٍ (1) مَحْرَم، أو على عَمودي النسبِ مطلقاً- أن يكون على الأبوين. وكذلك يقولون : جواز إجارة الظئْر ثابت بالنص (2) والإجماع على خلاف القياس، بل وقد يقولون ب جواز الإجارة، بل و جواز القرض والقراض وغير ذلك على خلاف القياس (3) للإجماع.   = [الطلاق: 7] . وقال القرطبي في تفسيره 18/172: "هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم ". وانظر: الأم 5/90 وأحكام القرآن للشافعي 1/264 وفتح الباري 9/500، 514. (1) في الأصل: "ذي كل رحم". (2) قال تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)) [الطلاق: من الآية6] . والظئر: المرأة الأجنبية تحضن ولد غيرها. وقد قال بعض الفقهاء: إن إجارة الظئر للرضاع على خلاف قياس الإجارة، فإن الإجارة عقد على منافع، وإجارة الظئر عقد على اللبن، واللبن من باب الأعيان لا من باب المنافع. وردّ عليهم المؤلف في مجموع الفتاوى 20/531، 532 و30/197- 200 وبين أنها ليست مخالفة للقياس. والمقصود بهم الحنفية كما في بدائع الصنائع 4/175 والبناية 7/949. (3) أما الإجارة فقالوا: إنها بيع معدوم، لأن المنافع معدومة حين العقد، وبيع المعدوم لا يجوز. وأما القرض فقالوا: لأنه بيع ربويّ بجنسه من غير قبض. ورد المؤلف في مجموع الفتاوى 20/514. 515 على هؤلاء، والمقصود بهم الحنفية، فهم الذين نقل عنهم ما ذكر. انظر: أصول السرخسي 2/203 وبدائع الصنائع 4/173، 7/396 والبناية 7/868. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 لكن إذا أَبْدَوْا معنى يَقتضي التخصيصَ مثلَ الحاجةِ، قيل: هذا يقول به جميعُ الأمّة، بل جميعُ علماء السنّة، مثل إباحة الميتة للمضطر للضرورة، وصلاة المريض قاعداً للحاجة، ونحو ذلك. وإنما يتنازعون إذا لم يظهر في إحدى الصورتين معنًى يُوجِبُ الفرقَ./ ولهذا فسَّر غيرُ واحدٍ الاستحسانَ بتخصيصِ العلَّة، كما ذكر ذلك أبو الحسين البصري (1) والرازي (2) وغيرهما، وكذلك هو، فإنَ غايةَ الاستحسانِ- الذي يقال فيه: إنه يخالف القياسَ حقيقةً- تخصيصُ العلَّةِ. والمشهور عن أصحاب الشافعي منع تخصيص العلة، وعن أصحاب أبي حنيفة القولُ بتخصيصها (3) ، كالمشهور   (1) قال في المعتمد 2/839: "الكلام في الاستحسان على ما فسره أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه يقع في المعنى وفي العبارة. أما في المعنى فهو أن بعض الأمارات قد يكون أقوى من بعض، ويجوز العدول من أمارة إلى أخرى من غير أن تفسد الأخرى، وذلك راجع إلى تخصيص العلة". (2) هو أبو بكر الجصاص الذي قال في الفصول في الأصول (ق 297/أ- ب) : "إن الاستحسان الذي هو تخصيص الحكم مع وجود العلة أنّا متى أوجبنا حكما لمعنى من المعاني قد قامت الدلالة على كونه عَلَما للحكم، وسميناه علة له، فإنّ إجراء ذلك الحكم على المعنى واجب حيث ما وُجِد، إلاّ موضع يقوم الدلالة فيه على أن الحكم غير مستعمل فيه، فرجع مع وجود العلة التي من أجلها وجب الحكم في غيره، فسموا ترك الحكم مع وجود العلة استحسانا". (3) قال الجصّاص في الفصول في الأصول (ق 299 أ) : "تخصيص أحكام العلل الشرعية جائز عند أصحابنا وعند مالك بن أنس، وأباه بشر بن غياث والشافعي، والذي حكيناه من مذهب أصحابنا في ذلك أخذناه= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 عنهما في منع الاستحسان وإجازته. ولكن في مذهب الشافعي خلاف في جواز تخصيص العلة (1) ، كما في مذهب مالك (2) وأحمد (3) .   = عمن شاهدناهم من الشيوخ الذين كانوا أئمة المذهب بمدينة السلام، يعزونه إليهم على الوجه الذي بينا، ويحكونه عن شيوخهم الذين شاهدوهم. ومسائل أصحابنا وما عرفناه من معانيهم فيها تُوجب ذلك. وما أعلم أحداً من أصحابنا وشيوخنا أنكر أن يكون ذلك من مذهبهم إلاّ بعض من كان هاهنا بمدينة السلام في عصرنا من الشيوخ ". وعقد السرخسي في أصوله 2/208- 215 فصلاً في بيان فساد القول بجوازه، وقال: "زعم بعض أصحابنا أن التخصيص في العلل الشرعية جائز، وأنه غير مخالف لطريق السلف، ولا لمذهب أهل السنة، وذلك خطأ عظيم من قائله، فإن مذهب من هو مرضي من سلفنا أنه لا يجوز التخصيص في العلل الشرعية، ومن جوز ذلك فهو مخالف لأهل السنة، مائل إلى أقاويل المعتزلة في أصولهم". وهكذا نجد الخلاف بين الحنفية في هذه المسألة، ونقل هذا الاختلاف في كتب الأصول المتأخرة، انظر: كشف الأسرار للبزدوي 4/32 وشرح مسلم الثبوت 2/277. (1) انظر تفصيل القول في ذلك في: المعتمد 2/822 والتلخيص 3/271، 272 والتبصرة 466 وشرح اللمع 2/882 والمستصفى 2/336 والإحكام للَامدي 3/315 والمحصول 2/2/323 وشرح جمع الجوامع 2/340. (2) ذكر القرافي في شرح تنقيح الفصول 400 أن القول بالجواز هو المذهب المشهور. ولكن ابن القصار في المقدمة في الأصول 80 لم ينقل إلاّ عدم الجواز. (3) انظر: العدّة 4/1386، 1387 والتمهيد 4/69، 70 والمسودة 412،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 ومن الناس من حكى قول الأئمة الأربعة جواز تخصيص العلة. وقد ذكر أبو إسحاق بن شَاقْلاَ (1) عن أصحاب أحمد في تخصيص العلة وجهين. ومن الناس من يحكي ذلك روايتين عن أحمد. والقاضي أبو يعلى وأكثر أتباعه كابن عقيل يمنعون تخصيص العلة (2) مع قولهم بالاستحسان. وكذلك أصحاب مالك (3) . وأما أبو الخطاب فيختار تخصيصَ العلَّة (4) موافقةً لأصحاب أبي حنيفة، فإن هذا هو الاستحسان كما تقدم. وهؤلاء يُجوَزون تخصيصَها بمجردِ دليلٍ يدكُ على التخصيص، وإن لم يُبيق اختصاصُ صورةِ النقضِ فقدانَ شرطٍ أو وجودَ مانع. وهذا حقيقة ما ذكره القاضي وهؤلاء في الاستحسان، كما ذكره فيً الأمثلة. وِلكن القاضي وغيره ممن يقول بالاستحسان ومَنْعِ تخصيصِ العلةِ فرقُوا بينهما فقالوا- واللفظ للقاضي (5) -: لا يجوز تخصيصُ   = 413 وروضة الناظر 2/321. وتكلم المؤلف هنا في هذه المسألة، واستعرض آراء الحنابلة. وانظر: مجموع الفتاوى 20/167. (1) هو إبراهيم بن أحمد بن عمر، كان جليل القدر كثير الرواية حسن الكلام في الأصول والفروع، شيخ الحنابلة في وقته. توفي سنة 369. (طبقات الحنابلة 2/128) . (2) قال في العدّة 4/1386: "لا يجوز تخصيص العلة الشرعية، وتخصيصها نقضها". وانظر: الواضح 1/144 ب. (3) في الأصل: "م" يرمز به إلى مالك. (4) التمهيد 4/69. (5) في العدة 4/1386- 1388. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 العلَّة الشرعية، وتخصيصُها نقضُها. قال: وقد قال أحمد في رواية الحسين بن حسّان (1) : القياسُ أن يُقاسَ الشيءُ على الشيء إذا كان مثلَه في كل أحوالِه، فأما إذا أشْبَهَه في حالٍ وخالفَه في حالٍ فهذا خطأ (2) . قال: وهذا الكلام يمنع من تخصيصها. قال: وقد ذكر أبو إسحاق- يعني ابنَ شَاقْلا- في "شرح الخِرَقي" فقال: أصحابنا على وجهين: منهم من يَرى تخصيصَ العلَّة، ومنهم من لا يَرى ذاك. وقال: وقد ذكرها أبو الحسن الخَرَزِي (3) في "جزءٍ فيه مسائلُ من الأصول ": لا يجوز تخصيصُها.   (1) كذا في الأصل ومخطوطة العدة، والصواب: أحمد بن الحسين بن حسان. صحب الإمام أحمد، وروى عنه أشياء، ولم يذكر تاريخ وفاته. ترجمته في طبقات الحنابلة 1/39. (2) انظر هذه الرواية في العدّة 4/1326، 1354. 1386، 15/1436 والتمهيد 4/5. ونحوه قول الإمام في رواية الأثرم: "إنما يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا شبهته به فأشبهه في حال وخالفَه في حال، فأردت أن تقيس عليه فقد أخطأتَ". (العدة 5/1436) . (3) كذا في تاريخ بغداد 1/4660، وفي طبقات الحنابلة 2/167 (الجزري) . وهو عبد العزيز بن أحمد البغدادي. كان له قدم في المناظرة ومعرفة الأصول والفروع. توفي سنة 391. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 قال: وقول أحمد "القياس كان يقتضي أن لا يجوز شِرَى أرض السواد، لأنه لا يجوز بيعُها" ليس بموجب لتخصيصِ العلّة، فإنها في حكم خاص (1) ، وما ذكر أحمد إنما هوَ اعتراض النصّ على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياسُ الأصولِ للخبر (2) . ولذلك أجابَ من احتج على جواز تخصيصها بالاستحسان فقال (3) : فإن قيل: أليس قد قال أحمد في رواية المَروْذِيّ وقد قيل: كيف تُشْتَرَى ممّن لا يَمْلِكُ؟ فقال: القياس كما تقول، وإنما هو استحسان. واحتج بقول الصحابة في المصاحف. ثم قال في الجواب: قيل: تخصيصُ العلَّة ما يَمنع من جَرْيها في حكم خاص. وما ذكره أحمد إنما هو اعتراضُ النصّ على قياس الأصولِ. ولأنهم قد يَعْدِلُون في الاستحسان عن قياس وعن غير قياس (4) ، فامتنع أن يكون معناه تخصيص (5) بدليل. وقد ناقضه أبو الخطاب (6) ./ وهذا الذي ذكره القاضي قد ذكره كثير من العلماء فيما إذا عارضَ النصّ قياس الأصول، فقالوا: يُقدم النص. واختلفوا فيما إذا   (1) في العدّة: "لأن تخصيص العلَّة ما مَنَع من جَرَيانها في حكم خاص". (2) انتهى كلام أبي يعلى هنا. (3) الكلام لأبي يعلى في العدّة 4/1394. (4) "وعن غير قياس" لا توجد في العدّة. (5) كذا بالرفع في الأصل ومخطوطة العدّة. (6) انظر التمهيد 4/70 وبعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 عارض خبر الواحد قياس الأصول، كخبرِ المُصَراةِ (1) ونحوه (2) . وأمّا الأوّل فمثل حَمْلِ العاقلةِ (3) ، فإنهم يقولون: هو خلاف قياس   (1) أخرجه مالك في الموطأ 2/683، 684 ومن طريقه البخاري (2150) ومسلم (1515) من حديث أبي هريرة، وفيه: "ولا تُصَروا الإبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رَضِيَها أمسكَها، وإن سَخِطَها ردها وصاعاَ من تمر". والمصراة هي الناقة أو الشاة التي يترك صاحبها حلبها ليتجمع لبنها في ضرعها، ليوهم المشتري بكثرة لبنها. وقد أطال المؤلف في الرد على القائلين بأن خبر المصراة يخالف الأصول، انظر: مجموع الفتاوى 20/556- 558. ويقصد بهم الحنفية، انظر: أصول السرخسي 1/341 والمبسوط له 13/38 وكشف الأسرار للبخاري 2/380 ومرآة الأصول 2/18 والتحرير مع شرحه التيسير 3/52. وانظر: المسألة في المغني 4/135 وما بعدها. (2) ذهب جمهور العلماء إلى تقديم خبر الواحد على القياس، وهو قول الشافعي وأحمد وأصحابهما، وقدم أكثر الحنفية القياس. أما المالكية فقال القرافي: حكى القاضي عياض في التنبيهات وابن رشد في المقدمات في مذهب مالك في تقديم القياس على خبر الواحد قولين. (شرح تنقيح الفصول 387) . وانظر أدلة الحنفية ومناقشتها في: الإحكام لابن حزم 1/104، 143 وبعدها، والمستصفى 1/171 وبعدها، والمعتمد 2/548 وبعدها، 653 وبعدها، والإحكام للآمدي 2/94، 112 وأصول السرخسي 1/340، 341، 368 وكشف الأسرار للبزودي 2/381 وبعدها، 390 وبعدها وشرح مسلم الثبوت 2/178 وبعدها. (3) العاقلة: هي الجماعة التي تَعقِل عن القاتل أي تؤدّي عنه ما لزمه من= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 الأصول، وهو ثابت بالنصّ والإجماع. وهذا يذكره بعض الناس قولاً ثالثاً في تخصيص العلة. ويذكرون قولاً رابعاً، وهو أنه يجوز تخصيص (1) المنصوصة دون المستنبطة (2) . وأكثر الناس في التخصيص من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حامد (3) وأبي الطيب (4) والقاضي أبي يعلى وابن عَقِيْل   = الدية، وهم عصبته أي قرابته الذكور البالغون من قبل الأب، الموسرون العقلاء. وأصل وجوب الدية على العاقلة حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (6910) ومسلم (1681) ، وفيه: "اقتتلت امرأتانِ من هذيل، فرمتْ إحداهما الأخرى بحجرٍ فَقَتَلتْها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقضى أن ديةَ جنينها غُرة: عبدٌ أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها". وقد رد المؤلف في مجموع الفتاوى 20/552- 554 على من يقول: إن حمل العاقلة على خلاف القياس. وقد قال به الحنفية، انظر: بدائع الصنائع 7/255. وراجع أيضًا: فتح الباري 12/346. (1) في الأصل: "تخصيصها" ثم شطب عليها، والسياق يقتضي لفظ "تخصيص". (2) انظر: التمهيد 4/70. (3) هو أحمد بن بشر العامري، القاضي أبو حامد المروزي، أحد أئمة الشافعية، له كتب في الأصول والفروع. توفي سنة 362. (تهذيب الأسماء واللغات 2/211) . (4) هو طاهر بن عبد الله بن طاهر، أبو الطيب الطبري الشافعي، الإمام الجليل، الفقيه الأصولي القاضي. توفى سنة 450. (تهذيب الأسماء واللغات 2/247) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وغيرهم يقولون: إذا خُصَّت المنصوصةُ تَبينا أنها نقض العلة (1) ، وإلاّ فلا يجوز تخصيصُها بحال. وهذا النزاع إنما هو في عل! قامَ على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما إذا اكتفي فيها بمجرّد الطَرْدِ الذي يُعلَم خلوُّه عن التأثير والسلامة عن المفسدات، فهذه تَبْطُل بالتخصيصِ باتفاقهم. وأما الطَّرْدُ المَحْضُ الذي يُعلَم خلوُّه عن المعاني المعتبرة فذاك لا يُحتج به عند أحد من العلماء المعتبرين. وإنما النزاعُ في الطَرْدِ الشَبَهِيَّ، كالمجوزات - الشبهية التي يحتجّ بها كثير من الطوائف الأربعة، لاسيما قدماء أصحاب الشافعيّ، فإنها كثيرة في حُجَجِهم أكثر من غيرهم./ والتحقيقُ في هذا الباب (2) أنّ العلَّة تُقَال على العلة التامة،   (1) انظر: العدة 4/1393 والمصادر الأخرى التي سبق ذكرها في أول مبحث تخصيص العلة. (2) هذا، التحقيق ذكره المؤلف في مجموع الفتاوى 20/167، 168 فقال: "أصل ذلك أن مسمى العلة قد يعنى به العلة الموجبة، وهي التامة التي يمتنع تخلف الحكم عنها. فهذه لا يتصور تخصيصها، ومتى انتقضت فسدتْ. ويدخل فيها ما يسمى جزء العلة وشرط الحكم وعدم المانع، فسائر ما يتوقف الحكم عليه يدخل فيها. وقد يعنى بالعلة ما كان مقتضيا للحكم، يعني أن فيه معنى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجباً، فيمتنع تخلف الحكم عنه، فهذه قد يقف حكمها على ثبوت شروط وانتفاء موانع، فإذا تخصصت فكان تخلف الحكم عنها لفقدان شرط أو وجود مانع لم يقدح فيها، وعلى هذا فينجبر النقص= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وهي المستلزِمةُ لمعلولها، فهذه متى انتقضتْ بَطَلَتْ بالاتفاق. وتُقالُ على العلّة المقتضية أوّلاً، وتُسمَّى المؤثّرة ويُسمَّى السببُ دالاً ودليلَ العلَّة ونحو ذلك. فهذه إذا انتقضَتْ لفرقٍ مؤثرٍ يفرّق فيه بين صورةِ النَّقْضِ وغيرِها من الصُّوَرِ لم تَفْسُدْ. ثم إذا كانتْ صورةُ الفرعِ التي هي صورةُ النِّزاع في معنى صورةِ النَّقْضِ أُلحِقتْ بها، وإن كانتْ في معنى صورةِ الأصَلِ أُلحِقت بها. فمن قال: إن العلَّة لا يجوزُ تخصيصُها مطلقاً لا لفواتِ شرطٍ ولا لوجودِ مانع فهذا مخطئ قطعاً، وقولُه مخالفٌ لإجماع السلفِ كلِّهم الأئمةِ الأربعةِ وغيرِهم، فإنهم كلّهم يقولون بتخصيص العلة لمعنًى يُوجبُ الفرقَ، وكلامُهم في ذلك أكثرُ من أن يُحْصَرَ. وهذا معنى قولَ من قال: تخصيصها مذهب الأئمة الأربعة. و القول بالاستحسان المخالفِ للقياسِ لا يمكنُ إلاّ مع القول بتخصيصِ العلَّةِ. وما ذكروه من اعتراضِ النصِّ على قياسِ الأصولِ فهو أحد أنواع تخصيصِ العلَّةِ، وهذا تسليم منهم لكونِ العلَّة تَقْبَلُ التخصيصَ فيَ الجملة. وأما من جَوز تخصيصَ العلة بمجرّدِ دليل لا يُبيِّنُ الفرقَ بين صورةِ التخصيص وغيرِها فهذا مَوْرِدُ النزاعِ في   = بالفرق. وإن كان التخلف عنها لا لفوات شرط ولاوجود مانع كان ذلك دليلاً على أنها ليست بعلة، إذ هي بهذا التقدير علة تامة إذا قدر أنها جميعها بشروطها وعدم موانعها موجودة حكما، والعلة التامة يمتنع تخلف الحكم عنها، فتخلفه يدل على أنها ليست علة تامة". ونحوه في مجموع الفتاوى 21/356- 357. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 الاستحسان المخالفِ للقياسِ وغيرِه. ثمّ هذه العلَّة إن كانتْ مستنبَطةً وخُصتْ بنصٍّ، ولم يُبيَنِ الفرقُ المعنويُ بين صورةِ التخصيصِ وغيرِها فهذا أضعفُ ما يكونُ. وهذا هو الذي كان يُنكِرُه كثيراً الشافعيُّ وأحمدُ وغيرُهما على من يفعلُه من أصحاب أبي حنيفةَ وغيرهم. وكلامُ أحمدَ فيما تقدَّمَ أرادَ به هذا، فإنَّ العلّةَ المبيّنةَ لم تُعْلَمْ صِحَّتُها إلاّ بالرأي، فإذا عارضَها النصُّ كان مُبطِلاً لها. والنصُّ إذا عارض العلَّة دلَّ علَى فسادِها، كما أنه إذا عارضَ الحكمَ الثابتَ بالقياس دلَّ على فسادِه بالإجماع. وأما إذا كانت العلَّة منصوصةً، وقد جاء نص بتخصيصِ بعض صُوَرِ العلَّة، فهذا ممّا لا يُنكِرُه أحمد، بل ولا الشافعي وغيرُهما، كما إذا جاء نصّ في صورةٍ ونصٌّ يُخالِفُه في صورةٍ أخرى، لكنْ بينَهما شَبَه لم يَقُمْ دليل على أنه مَنَاطُ الحكم فهؤلاء يُقِرُّوْنَ النصوصَ، ولا يَقِيْسُوْنَ منصوصاً على منصوصٍ يُخالِفُ حكْمَه، بل هذا من جنس الذين قالوا: (إنَمَا اَلْبَيع مِثلُ الرِّبَا) (1) . وهذا هو الذي قال أحمد فيه: "أنا أذهب إلى كل حديث كما جاء، ولا أَقِيسُ عليه "، أي لا أَقِيْسُ عليه صورةَ الحديث الآخر، فأجعلُ الأحاديثَ متناقضة، وأدفعَ بعضَها ببعضٍ، بل أستعملُها كلَّها./ والذين يدفعون بعضَ النصوصِ ببعضٍ يقولون: الصورتان سواء لا فرقَ بينهما، فيكون أحدُ النصَّينِ ناسخاً للآخر. ومثل هذا   (1) سورة البقرة: 275. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 كثيراَ ما يتنازعُ فيه فقهاءُ الحديث ومن يُنازِعُهم ممّن يَقيسُ منصوصاَ على منصوصٍ، ويجعل أحدَ النصيْنِ منسوخاً لمخالفتِه قياسَ النّصَ الآخرِ في طَيِّ هذا القياسِ. ويَبْقَى الأمرُ دائراَ هل دلَّ الشرعُ على التسويةِ بين الصورتينِ حتى يُجْعَلَ حُكْمُهما سَوَاءَ، ويُجعَلَ الحكمُ الواردُ في إحداهما منسوخا بالحكمٍ المضاد له الواردِ في الأخرى، كما يقوله من يجعل القرعةَ منسوخة بآية الميسر (1) ، وأَمْرَ المأمومين بأن يتبعوا الإمام، فإذا كبَّر كبّروا، وإذا ركع ركعوا، وإذا صَلَّى جالساً صَلَّوا جلوساً أجمعين-: منسوخاً بدوام قيامهم في الصلاة التي صَلَّوا بعضَها خلفَ إمام قائمِ، وباقِيهَا خلفَ إمامِ قاعدِ. ويَجعلُ حديثَ الأضحيةِ والهَدْي أَحدَهما منسوخاً بالآخر (2) . ويجعلون قَطْعَ جاحدِ العاريةِ (3) منسوخَاً إذا سلَّموا أنه قطعها لذلك، منسوخاً" (4) بقوله: "ليس على   (1) الجمهور على مشروعية القرعة في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وليس في القرعة إبطال شيء من الحق كما زعموا. انظر للكلام على القرعة والخلاف فيها: تفسير القرطبي 4/86، 87 وفتح الباري 5/293، 294 وطرح التثريب 8/48، 49. (2) سبق الكلام على المسألتين. (3) قال ابن القيم في إعلام الموقعين 2/62: "صح الحديث بان امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقطعت يدها،. ثم ذكر اختلاف الفقهاء في سبب القطع. والحديث أخرجه مسلم (1688) وأبو داود (4374) عن عائشة. (4) كرّر "منسوخا" لبعد العهد به، وارتباطه بما بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 المختلسِ ولا المنتهب ولا الخائن قَطْعٌ " (1) . ويجعلون العقوبةَ الماليةَ منسوخةً بالنهي عن إضاعةِ المال (2) ، ويَجعلون تضعيفَ الغُرْم على من دُرِىءَ عنه القطعُ منسوخاً بقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (3) . ويجعل (4) تقضيةَ ما شرَطَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينَه وبينَ المشركين في الهُدْنةِ (5) منسوخاً بقوله: "من اشترطَ شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل" (6) .   (1) أخرجه أحمد 3/380 وأبو داود (4391) والترمذي (1448) والنسائي 8/89 وابن ماجه (2591) والبيهقي في السنن الكبرى 8/279 من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (2) مما ورد في النهي عنها حديث المغيرة بن شعبة الذي أخرجه البخاري (2408) ومسلم (539) ، وفيه: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، إضاعة المال ". ورد المؤلف على من يقول إن العقوبة المالية منسوخة في: مجموع الفتاوى 28/111 وما بعدها. (3) سورة الشورى:40. وانظر: مجموع الفتاوى 28/113، 118- 119، 333. (4) لم يستقر المؤلف في هذه الفقرة على صيغة واحدة من "يجعل " و"يجعلون"، فافردها نظراً للفظة "مَنْ" الموصولة، وجمعها نظراً لمعناها. وكلاهما سائغ في العربية. (5) يوجد ذكر هذه الشروط في عامة كتب السيرة، ورواها ابن إسحاق باسناد حسن (انظر: سيرة ابن هشام 3/440- 441 طبعة الأردن 1409) ، ومن طريقه أحمد في مسنده 4/325. (6) أخرجه مالك في الموطأ 2/780، 781 والبخاري (2560، 2561، 2563، 2729) ومسلم (1504) من حديث عائشة، ولفظه: "ما بال= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وكثير مما يَدعونه في الناسخ لا يعلمون أنه قيل بعد المنسوخ. فهذا ونحوه من دفع النصوص البينةِ الصريحة بلفظ مجمل أو قياس هو مما كان يُنكِرُه أحمد وغيره. وكان أحمد يقول: " أكثرُ ما يخطئ الناسُ من جهة التأويلِ والقياسِ" (1) . وقال: "ينبغيْ للمتكلِّم في الفقه أن يَجْتَنِبَ هذين الأصلينِ: المجملَ والقياسَ" (2) . ومرادُه أنه لا يُعارِضُ بهما ما ثَبتَ بنص خاص، ولا يَعْمَلُ بمجردِهما قبلَ النظَرِ في النصوص والأدلةِ الخاصةِ المقيّدةِ. والمطلق يدخل في كلامه وكلام غيره من الأئمة كالشافعي وغيره في المجمل، لا يريدون بالمجمل مالا يُفهَم معناه كما يَظنه بعضُ الناس (3) ، ولا مالا يَستقل بالدلالة، فإن هذا لا يجوز الاحتجاج به بحالٍ.   = رجالٍ يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط ". (1) انظر: مجموع الفتاوى 7/392 حيث نقل قول الإمام وبيَّن المراد منه. (2) قاله الإمام في رواية الميموني، انظر: العدّة 4/1281 والتمهيد 3/368 وشرح الكوكب المنير 4/216. قال أبو يعلى: هذا محمول على استعمال القياس في معارضة السنة، فإنه لا يجوز. (3) قال المؤلف في كتاب الإيمان (ضمن مجموع الفتاوى 7/391) : "لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة- كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم- سواء، لا يريدون بالمجمل مالا يُفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك، بل المجمل مالا يكفي وحده في العمل به وإن كان ظاهره حقا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وأما إذا جاء نصان بحكمين مختلفين في صورتين وثَمَ صُوَر مسكوت عنها فهلْ يُقَال: القياس هو مقتضى أحد النَصّينِ؟ فما سكتَ عنه نُلحِقُه به وإن لم نَعرِف المعنى الفارق بينه وبين الآخر. فهذاْ هو الاستحسان الذي تنوزعَ فيه، فكثير من الفقهاء يقول به، كأصحاب أبي حنيفةَ وكثيرِ من أصحاب أحمدَ وغيرِهم. وهذا هو الذي ذكَره القاضي بقوله (1) : "اعتراضُ النصِّ على قياس الأصول ". وهو في الحقيقة قول بتخصيص العلة كما تقدم. ومن لم يُجوِّز تخصيصَها إلاّ بفارقي بين صورة التخصيص وغيرِها يقول: لابُد أن يُعلَم الجامعُ أو الفارقُ، فليس إلحاقُ المسكوتِ بأحد النصيْنِ بأولى من إلحاقِه بالآخر. وإذا عُلِم المعنى في أحد النصين ولم يُعلَم في الآخر، وجاز أن يكون المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يُلْحَقْ بواحدِ منهما إلاّ بدليل. وإذا عُلِم المعنى في أحد النصينِ ووجودُه في المسكوت عنه، ولم يعلَم المعنى في الآخر فهذا أقوى من الذي قبله، فإنه هنا قد عُلِم مقتضى القياس الصحيح وشمولُه لصورةِ المَسْكُوت. وأما وجودُ الفارقِ فيه فمشكوك فيه. وهذا نظيرُ أَخْذِ أحْمَدَ بالنصوص الواردة في سجود سهوِ (2) ،   (1) العدّة 4/1394. (2) وردت خمسة أحاديث هي العمدة في الباب، ثلاثة منها في السجود بعد السلام، أولها: حديث ذي اليدين الذي رواه أبو هريرة، وفيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ركعتين فسجد، أخرجه البخاري (1227، 1228) = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 فما كان منها قبل السلام أخذ به، وما كان بعد السلام أخذ به، وما لم يجئ فيه نصٌّ ألحقَه بما قبل السلام، لأنه القياس عنده (1) ./ و تحقيق هذا الباب أنه إما أن يُعلَم استواءُ الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع، وإما أن يُعلَم افتراقُهما، وإما أن لا يُعلم واحدٌ منهما، ونعني بالعلم ما يُسميه الفقهاء علماً، وهو أن يقوم الدليلُ على التماثل والاستواء، أو الاختلاف والافتراق، أو لا يقوم على واحدٍ منهما.   = ومسلم (573) . وثانيها: حديث عمران بن حصين الذي أخرجه مسلم (574) وفيه أنه سلم من ثلاث فسجد. وثالثها: حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري (1226) ومسلم (572) وفيه أنه صلى خمساَّ فَسجد، وفي بعض رواياته أنه زاد أو نقص وأمر بالتحري. أما الحديثان اللذان فيهما ذكر السجود قبل السلام، فأولهما: حديث عبد الله ابن بُحينة الذي أخرجه البخاري (1224) ومسلم (570) وفيه أنه قام من الركعتين ولم يجلس. والثاني: حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم (571) وفيه: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدرِ كم صلى؟ ثلاثا أو أربعا؟ فليطرح الشك، وليَبْنِ على ما استيقنَ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ". وجعل بعضهم هذه الأحاديث من باب الناسخ والمنسوخ، انظر: الاعتبار للحازمي 115- 118. (1) في المغني 2/21: قال الإمام أحمد في رواية الأثرم: كل سهو جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سجد فيه بعد السلام [يُسْجَد فيه بعد السلام] ، وسائر السهو يُسجد فيه قبل السلام، هو أصح في المعنى، وذلك أنه من شأن الصلاة، فيقضيه قبل أن يسلم. وانظر: مجموع الفتاوى 17/23 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 فالأوّل متى ثبتَ الحكم في بعض الصوَر دون بعضٍ عُلِم أن العلَّة باطلة، وهذا مثلُ دعوى من يدَعي أن الموجبَ للنفقةِ نفسر الإيلادِ، أو نفسُ الرحم المحرم، أو مطلق الإرثِ بفرضٍ أو تعصيب، ويَقول: إذا اجتمع الجدُّ والجدةُ كانت النفقةُ عليهما. فإنه لمّا ثبت بالنص والإجماع أنه إذا اجتمعَ الأبوانِ كانت النفقةُ على الأب (1) ، عُلِم أن العَصَبةَ في ذلك يُقدم على غيره، وإن كان وارثاً بفرض، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وعُلِم أن قوله (وعلى الوارث مثل ذلك) (2) هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجوداً، لأن عُمَرَ جَبَرَ بَني عمَ مَنْفُوسٍ على نفقته (3) . وهذه الآية صريحة في إيجاب نفقةِ الصغير على الوارثِ العاصب، وقال بها جمهور السلف (4) . وليس لمن خالفها حُجَّةٌ أصلاً. ولكن ادعَى (5) بعضهم أنها منسوخة، وقيل ذلك عن مالك (6) . وبعضهم   (1) سبق الكلام عليه (ص 176) . (2) سورة البقرة: 233. (3) انظر: تفسير القرطبي 18/171. (4) انظر: تفسير القرطبي 3/168، 169. (5) في الأصل: "ادعها" (= ادعاها) . (6) رواه ابن القاسم عنه. قال ابن العري في أحكام القرآن 1/205: "هذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين وتَحار فيه ألباب الشادين، والأمر فيه قريب، وجهه أن علماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمّون التخصيص نسخا، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم ومسامحة". ونقله القرطبي 1/169. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 قال: عَلَيْه أن لا يُضَار" (1) ، فتركُها بدعوى نَسْني أو تأويلِ هو من نوعِ تحريفِ الكلمِ عن مواضعه لغير معارض لها أصلاً مما يَحلَمُ بطلانَه كل من تَدَبَّر ذلك. وإذا كانت الأمِ أقربَ الناسِ إليه لا نفقةَ عليها مع الأب، وهي تَحُوْزُ الثلثَ معه، فأَنْ لا يَجِبَ على الجدةِ مع الجدّ وهي تَحُوْزُ السدسَ أولى وأقوى. والقائلون بذلك يقولون: القياس يَقتضي وجوبَ ثلثِها على الأم، لكن تُرِك ذلك للنص. فيُقَال: أيُّ قياس معكم؟ إنما يكون قياساً لو كان معهم نصّ يتناول هذه الصورة بلفظه أو معناه، وليس معهم ذلك، ولو كان ذلك لكان مجيء هذا النصّ بهذا يُوجبُ إلحاقَ نظائرِه به، فيُقَاسُ كل عاصب معه فرضن أوجبه من وُرَّاثَ الفرض على الأب مع الأمّ. وكذلك إسلامُ النَّقْدَينِ في الموزونات يَقدحُ في كونِ العلةِ الوزنَ، ولم يثبُتْ ذلك بَيِّن، بل بعلّة مُسْتَنبطة قد عارضَها ما هو   (1) أي أن الإشارة في قوله تعالى (وَعَلَى الوَارِث مِثلُ ذَلِك) لا ترجع إلى جميع ما تقدم، وإنما ترجع إلى تحريم الإضرار. قال ابن العربي: "هذا هو الأصل، فمن ادّعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل، وهو يدّعي على اللغة العربية ما ليس منها". قلت: هذا كلام لا طائل تحته، فسياق الآية يأبي ذلك، وعطف "على الوارث" على "على المولود له ... " هو الوجه في العربية لا غير، ولذلك جعله المؤلف هنا من نوع تحريف الكلم ومن المعلوم بطلانه لكل من تدبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 أقوى منها (1) ، فإن لم يُبّين الفرقُ بين النقدينِ وغيرهما وإلاّ كان انتقاضُها مُبطِلاً لها. فانتقاضُ العلّةِ يوجبُ بُطلانَها قطعاً إذا لم تَختصَّ صورةُ النقضِ بفرقٍ معنويّ قطعاً، فإن الشارعَ حكيم عادل لا يُفرّقُ بينَ المتماثلين، فلا تكون الصورتَان متماثِلتينِ، ثمَّ يُخالِفُ بين حُكْمَيْهما، بل اختلافُ الحكمينِ دليلٌ على اختلاف الصورتينِ في نفس الأمر. فإن عُلِم أنه فرَّقَ بينهما كان ذلك دليلاً على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يُعلَم بمجيء الفرقِ. وإن عُلِمَ أنه سَوى بينهما كان ذلك دليلاً على استوائهما. وإن لم يُعلَم هذا ولا هذا لم يَجُز أن يُجمَع ويُسوَّى إلاّ بدليلٍ يقتضي ذلك (2) . وهذا معنى قول إياس بن معاوية: "قِسْ للقَضَاءِ ما استقامَ   (1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 29/471: الأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية لا الوزن كما قاله جمهور العلماء، ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل. فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا. والمنازع يقولْ جواز هذا استحسان. وهو نقيض للعلة. ويقولْ إنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه. وتخصيص العلة الذي قد سمي استحساناً إن لم يبين دليل شرعي يوجب تعليق الحكم للعلة المذكورة، واختصاص صورة التخصيص بمعنًى يمنع ثبوت الحكم من جهة الشرع والأحاديث، وإلاّ كانت العلة فاسدة. (2) انظر كلام المؤلف في معنى القياس الصحيح والقياس الفاسد مع ذكر الأمثلة لهما في: مجموع الفتاوى 19/285- 288. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 القياسُ، فإذا فَسَدَ فَاسْتَحْسِنْ" (1) . فأمر بمخالفة القياس إذا تغير الأمرُ بحصولِ مفاسِدَ تَمنعُ القياس./ وأحمد قال بالاستحسان لأجْلِ الفارقِ بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيصِ العلَّةِ للفارقِ المُؤثر، وهذا حق. وأنكرَ الاستحسان إذا خُصتِ العلةُ من غيرِ فارقٍ مؤثّرٍ، ولذا قال: "يَدَعُون القياسَ الذي هو حن عندهم للاستحسان "، وهذا أيضًا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وغيره، وهو مُنكَرٌ كما أنكروه. فإن هذا الاستحسان وما عُدِل عنه من القياس المخالف له يقتضي فرقاً وجمعاً بين الصورتين بلا دليلٍ شرعي، بل بالرأي الذي لا يَستنِدُ إلى بيان الله ورسوله وأمرِ الله ورسوله، فهو ليس له وضعُ الشرع أبداً، وقد قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (2) . وذلك أنه إذا كان القياس لم ينص الشارعُ على علّتِه، ولا دل   (1) قول إياس هذا في أخبار القضاة لوكيع 1/341 والعدّة لأبي يعلى 5/1606 والتمهيد للكلوذاني 4/91. ونقحه في هذه المصادر: "قيسوا للقضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا". واياس يُضرب به المثل في الذكاء والفطنة، كان قاضيا على البصرة. توفى سنة 0122 انظر ترجمته في أنساب الأشراف للبلاذري 11/337- 351. وهو الذي عناه أبو تمام عندما قال: إقدامُ عمرٍ وفي سماحةِ حاتمٍ في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذَكَاءِ اياسِ (2) سورة الشورى: 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 لفظ الشرعِ على عمومِ المعنى فيه، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبةٍ أو لمشابهةٍ ظنها مناطَ الحكم، ثمَّ خصَّ من ذلك المعنى صوراً بنص يعارضه كان معذوراً فِي عمله بالنصّ. لكن مجيء النصِّ بخلاف تلك العلة في بعض الصور دليل على أنها ليستْ علّةً تامة قطعاً، فإنّ العلةَ التّامّةَ لا تَقبلُ الانتقاضَ. فإن لم يعلم أن مورد النص مختصّ بمعنًى يوجبُ الفرقَ لم يَطمئنَّ قلبُه إلى أنّ ذلك المعنى هو العلَّةُ، بل يجوز أن تكونَ العلةُ معنًى آخرَ، أو أن يكون ذلك المعنى بعضَ العلَّةِ، وحينئذٍ (1) فلا يفترقُ الحكم من جميعِ مواردِ ما ظنَّهُ علةً. وإن كان مورد الاستحسان هو أيضًا معنًى ظنه مناسباً أو مشابهاً فإنّه يَحْتاجُ حينئذٍ إلى أن يثبت ذلك بالأدلَّةِ الدالةِ على تأثير ذلك الوصفِ، فلا يكون قد تركَ القياسَ إلاّ لقياسٍ أقوَى منه، لاختصاصِ صورة الاستحسان بما يوجب الفرقَ بينها وبين غيرها، فلا يكون حينئذٍ لنا استحسان يخرجُ عن نصٍّ أو قياسٍ. وهذا هو الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما في الاستحسان، وما قال به فإنما هو عُدول عن أنه قياس، لاختصاص تلك الصورة بما يوجب الفرقَ. وحينئذٍ ف لا يكون الاستحسان الصحيح عدولاً عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لايجوز العدول عنه بحالٍ. وهذا هو الصواب، كما قد بسطناهُ في مصنَّفٍ مفردٍ، بمناسبة   (1) تكررت هذه الكلمة في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 أنه ليس في الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلاً (1) . وعلى هذا فصُوَرُ الاستحسان المعدولِ بها عن سَنَنِ القياس يُقاسُ عليها عند أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إذا عُرِف المعنى الذي لأجله ثبتَ الحكم فيها. وذكروا عن أصحاب أبي حنيفةَ أنه لا يُقاس عليها (2) ، وهو من جنس تخصيصِ العلَّة والاستحسان، فإنّ مَن جوَّز التخصيص والاستحسان من غير فارقٍ معنوي قال: المعدولُ به عن سَنَنِ القياس لا يجب أن يكون لفارقٍ معنوي، فلا يُقاسُ عليه، لأنَّ من شرطِ القياس وجودَ العلَّةِ وتفرِيْقَها. ومن قاسَ قال: بل لا يكون إلاّ لفارقٍ،/فإذا عَرفناهُ قِسْنَا. قال القاضي (3) وغيره: مسألة: المخصوصُ من جملة القياسِ   (1) يشير المؤلف هنا إلى "رسالة في معنى القياس"، وقد نشرت في مجموعة الرسائل الكبرى بالقاهرة 1323، ثم في مجموعة بعنوان "القياس في الشرع الإسلامي" بالقاهرة 1346، ثم في "مجموع الفتاوى" (الرياض) 20/504- 584. وعنوانها كما في العقود الدرية (ص45، ط. القاهرة 1356) : "قاعدة في تقرير القياس في مسائل عدة، والرد على من يقول: هي على خلاف القياس". وقد نقل ابن القيم في إعلام الموقعين 1/383- 401 ثم 2/3- 38 معظم هذه الرسالة مع التعليق عليها في مواضع، وأفاد بأنه هو الذي سال شيخ الإسلام في هذا الموضوع، فأجاب عليه بهذه الرسالة. (2) انظر نحوه في مجموع الفتاوى 20/555، 556 حيث ذكر المذهبين، وبين وجهة نظر الجمهور. (3) في العدّة 4/1397- 1401. وانظر: التمهيد 3/444- 449= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 يُقاسُ عليه ويُقاسُ على غيره، أمّا القياس عليه فإن أحمد قال في رواية ابن منصور (1) : "إذا نَذَرَ أن يذبحَ نفسَه يَفْدِيْ نفسَه بذبحِ كَبْش"، فقَاسَ مَن نَذَر ذَبْحَ نفسِه على مَن نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِه، وإن كان ذلك مخصوصا من جملة القياس. وإنما ثبتَ بقولِ ابن عباس (2) . وأما قياسُه على غيرِه فإن أحمدَ قال في رواية المزُوذي: يجوز شِرَى أرضِ السوادِ، ولا يجوز بيعُها، فقيل: كيفَ تُشتَرَى ممن لا يَمْلِكُ؟ فقال: القياس كما تقول، ولكن هذا استحسان. واحتج بأن الصحابةَ رخصوا في شِرَى المصاحفِ دونَ بَيْعِها. وهذا يُشْبِه ذاك. قال: فقد قاسَ مخصوصا من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس. وبهذا قال الشافعي. وقال أصحابُ أبي حنيفة: لا يُقاسُ (3) على غيره ولا يُقاس [غيرُه] (4) عليه، إلاّ أن تكون عِلتُه منصوصة أو مُجْمَعاَ على جواز القياس عليه (5) .   = والواضح 1/145 أ. (1) هو إسحاق بن منصور الكَوْسَج. (2) أخرج عبد الرزاق في المصنف 8/460 والبيهقي في السنن الكبرى 15/73 عن ابن عباس أنه أمر من نذر ذبح ولده بذبح كبشٍ. وانظر: المحلى 8/354 والمغني 8/709 وتفسير القرطبي 15/107، 111. (3) أي المخصوص من جملة القياس، كما في العدّة. (4) الزيادة من العدّة ليستقيم السياق. (5) هذا رأي الكرخي منهم، وهناك آراء أخرى لهم مذكورة في كتب الأصول، انظر: أصول السرخسي 2/153 وكشف الأسرار 3/312= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 فالمنصوصُ كقوله: "إنها من الطوافِينَ عليكم والطوافاتِ " (1) . والمجمعُ عليه كالتحالف في الإجارة قياساً على التحالف في البيع، لاتفاقِ مَن أوجبَ التحالفَ في البيع أن حكمهما سواء (2) . والممنوع مثل قياس الجنازةِ على الصلاةِ في الإسقاطِ بالقهقهة (3) ، وإسقاط الكفارة في الاستقاءة لا يقاس عليه الأكل (4) ، والوضوء بنبيذِ التَمرِ لا يُقاسُ عليه غيرُه من الأنبذةِ، وجواز البناء على صلاته إذا أحدث لا يقاس عليه من أَمْنَى بالاحتلام ونحوه (5) . واحتجّ أصحاب الشافعي وأحمد بحُجَج، وهذا لفظ القاضي أبي يعلى، قال (6) : وأيضاً فإنَّا إذا قِسْنَا على المخصوص، أو (7) قِسْنَا   = وشرح مسلم الثبوت 2/251. (1) أخرجه مالك في الموطأ 1/23، ومن طريقه: أحمد 5/303 وأبو داود (75) والترمذي (92) والنسائي 1/55 وابن ماجه (367) من حديث أبي قتادة. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة (154) وابن حبان (121- موارد) والحاكم في المستدرك 1/159، 160. (2) انظر: أصول الجصاص 122 والتمهيد 3/555. (3) انظر: أصول السرخسي 2/153. (4) انظر: فتح القدير لابن الهمام 1/335 وحاشية ابن عابدين 2/414. (5) انظر: أصول الجصاص 120 وفتح القدير 1/377. وهذا كله كلام القاضي أبي يعلى في العدّة. (6) العدة 4/1402. (7) كذا في الأصل بزيادة "أو"، ولا توجد في العدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 المخصوصَ على غيرِه، وحملنا النبيذَ على غيرِه من المائعات، والقَهقهةَ على الكلام، فإن مخالفَنا يعترف بصحة القياس، وأنّه يجب حملُ النبيذِ على غيرِه من المائعاتِ والقهقهة على الكلام، ويدَعي أنه استَحسنَ تركَه لما هو أولى منه (1) . قالوا: وهذا غير صحيح لوجهين: أحدهما: أنه يلزمُه أن يُبين الأولى، وإلاّ حكمُ القياسِ متوجهٌ عليه. وهذا كما لو قال: القرآنُ يدكُ على كذا، ولكن تركتُه للسنةِ، فتكون حُجةُ القرآنِ لازمةَ له ما لم يُبين السنةَ التي هي أقوى من القرآن، ولا يكفي في ذلك مجردُ الدعوى. والثاني: أنه يدَعي أنَ الاستحسانَ أقوى من القياسِ، فلهذا تركه. والقياسُ إذا عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلاً، ولم يكن له حكم. كما لو عارضَه نمنُ كتاب أو سنَّةِ أو إجماع. ولمّا حُكِم بصحة القياس هاهنا امتنع أن يكون مَا عارضَه أقوى منه ومانعاً من استعماله (2) . قلت: مضمونُ هذا إبطالُ أن يكون هذا مخصوصاً من جملة القياس، وقياسه على سائر الصور، وهذا إبطال للاستحسان، وهذا يقتضي أن الاستحسانَ إذا خالفَ القياسَ لَزِمَ بُطلانُ الاستحسانِ إن كان القياس صحيحاً، أو بطلانُ القياس إن كان الاستحسان المعارِضُ   (1) انظر: أصول الجصاص 120 وأصول السرخسي 2/153. (2) هنا ينتهي كلام أبي يعلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 له صحيحاً. وهذا لا يتوجهُ فيمن يقول بالاستحسان، وجَعلَ معارضةَ الاستحسانِ للعفَةِ كمعارضتِه لحكمها، وهذا قولُ نُفاةِ الاستحسان مطلقاً. والتحقيقُ في ذلك أنه إذا تعارضَ القياسُ والاستحسان فإن لم يكن بينهما فرقٌ، وإلاّ لَزِمَ بطلانُ أحدِهما، وهو مسألةُ تخصيصِ العلَّة بعَشها. فإن لم يكن بين الصورة المخصوصة وغيرِها فرقٌ لَزِمَ التسوية، وحينئذ فإمَّا أن تكون العلَّةُ باطلةً، وإمّا أن يكون تخصيصُ تلك الصورةِ باطلاً. وهذا هو الصواب في هذا كُفَه، وهو الذي يُنكرِه الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنَّهم لا يأتون بفرقٍ مؤثّرٍ بينهما، كما لم يأتوا بفَرْقٍ مؤثّرٍ بين نبيذِ التَّمر وغيرِه من المائعاتِ، ولا بين القهقهة في الصلاة التي فيها ركوع وسجود وبين صلاة الجنازة وغيرهما مما يشترطون فيه الطهارة./ وذكروا أدلةً أخرى جيّدة، كقولهم- واللفظ للقاضي (1) -: وأيضاً فإن ما وردَ به الأثَرُ قد صارَ أصلًا بنفسِه، فوجبَ القياسُ عليه كسائر الأصول (2) . وليس ردِّ هذا الأصلِ لمخالفةِ تلك الأصولِ له بأولَى من رَذَ تلك الأصول لمخالفةِ هذا الأصل، فوجبَ إعمالُ كلِّ   (1) في العدة 4/1403. (2) انظر إعلام الموقعين 2/311 حيث قرره ابن القيم ونقل فيه عن شيخ الإسلام. وحاول الحنفية الجواب عنه. انظر: أصول الجصاص 123. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 واحدٍ منهما في مقتضاه، وإجراؤُه على عمومِه. وأيضا فإنّ القياسَ يَجرِي مَجْرَى خبرِ الواحدِ، بدليلِ أن كلَّ واحدٍ منهما يثبُتُ بغالب الظن. ثمَ ثبتَ أنه يَصِحُّ أن يَرِدَ مخالفاً لقياسِ الأصولِ، كذلك اَلقياسُ مثلُه (1) . قلتُ: ومن هذا الباب جمعُ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاةَ بعرفةَ ومزدلفةَ (2) ، لو لم يَرِدْ به نصّ في أسفارٍ أُخَر. وأمّا قَصْرُه الصلاةَ بعرفَةَ بأهلِ مكَّةَ وغيرِهم فليسَ مخالفاً لعادتِه، فإنّه مازالَ يَقْصُر في السفَر، بل هو بيان استواء السَّفَر الطويل والقصير في ذلك (3) . فأمَّا منعُ قَصْرِ المكّيّين فهو مخالفٌ للسنة الثابتةِ بلا ريب (4) . وإنما خالفَ ذلك مَن   (1) هنا انتهى كلام أبي يعلى. (2) ورد ذكر الجمع بهما في حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم (1218) وغيره، وورد ذكر الجمع بعرفة في حديث ابن عمر عند البخاري (1662) ، والجمع بمزدلفة في حديث أبي أيوب الأنصاري عند البخاري (1674) ومسلم (1287) وحديث أسامة بن زيد عند البخاري (1672) ومسلم (1280) وحديث ابن عمر عند البخاري (1673) . (3) هذا ما قرّره المؤلف في مواضع أخرى من كتبه وفتاواه (انظر: مجموع الفتاوى 24/34- 35، 12- 13، 15) ، وذكره العلماء من اختياراته. (العقود الدرية 212 وذيل طبقات الحنابلة 2/405) . (4) قال المؤلف في منسكه (مجموع الفتاوى 26/130) : "ولم يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا خلفاؤُه أحداً من أهل مكة أن يتموا الصلاة، ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى: أتمّوا صلاتكم فإنا قوم سفر. ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ". ونحوه في مجموع الفتاوى 24/10، 11 و20/361، 362. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 غَفَل عن هذه السنة. وأمّا قَصْر غير المكيين فلأنَ القصرَ ليسَ من خصائص الحج ولا متعلقاً به. وإنما هو متعلق بالسفَر طَرداً وعَكْساً. وكلامهم في هذه المسألة تقتضيْ أن ما قيل فيه إنَه خالفَ القياسَ في صور الاستحسان فلا بد أن يكون قياسُه فاسداً، أو أن يكون تخصيصُه بالاستحسانِ فاسداً، إذا لم يكن هناك فَرْق مُؤثر. وهذا هو الصواب في هذا الباب. قالوا (1) : واحتجَّ المخالفُ بأن إثباتَ الشيء لا يَصحُّ مع وجودِ ما يُنافِيْه، فلما كان القياسُ مانعاً مما وردَ به الأثرُ لم يَجُزْ لنا استعمالُ القياسِ فيه، لأنه لو جازَ ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصولِ التي يُمنَع قياسُها منه. فكانَ يَخرجُ حينئذٍ من كوبه مخصوصاً من جملةِ القياسِ. قالوا: والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنّا لا نُسلمُ أن هاهنا ما يُنافِيْه، لأنّ المنافاةَ تكون بدليلٍ خاص، وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكره من التأويل. والثاني: أن المنافاةَ إنّما تَحصُلُ بقياسِه على غيرِه في إسقاطِ حكم النص، فأمّا قياسُ غيرِه عليه فلا يُنَافيْه، لأنه لا يُسْقِطُ حُكْمَ النصِّ عندهم، فيصح القياسُ عليه (2) .   (1) الكلام لأبي يعلى في العدّة 4/1408. (2) انتهى كلام أبي يعلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 قلتُ: هذا الثاني جواب عن قياسِ غيرِه عليه، والأولُ جواب عن قياسِه على غيرِه، ومُنِع لكونه مخصوصاً من جملة القياس. والتحقيق أنه وإن كان مخصوصاً من جملةِ القياسِ فهو مخصوص من قياسٍ معينٍ، لا من كُل قياسٍ، وإنما يُخَص لمعنًى فيه يُوجبُ الفرقَ بينَه وبينَ غيرِه. فإذا قِيْسَ عليه غيرُه بذلك المعنى لم ينافِ ذلك كونَه مخصوصا من ذلك القياس الأول. وحقيقة هذا كُفه أنَه قد يثبت الحكم على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر، فمن يقول بالاستحسان من غير فارقٍ مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارقٍ مؤثّر، وبمنع القياس على المخصوص، يثبِت أحكاماً على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر. وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الأكثرون، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وهم تارةً يُنكرون صحةَ القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارةً ينكرون مخالفة القياس الصحيح لأجل ما يدعونه من الاستحسان (1) الذي ليس بدليل شرعي، و تارةً ينكرون صحةَ الاثنين، فلا يكون القياس صحيحاً، ولا يكون ما خالفوه لأجله صحيحاً، بل كِلاَ الحجتينِ (2) ضعيفة، وإنكار هذا كثير في كلام هؤلاء./   (1) في الأصل: "الإحسان" وهو سبق قلم. (2) كذا في الأصل "كلا" بالتذكير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 فصل وقد تدبَّرتُ عامَّةَ هذه المواضع التي يدَعي من يدَعي فيها من الناسِ أنّها تَثبت على خلاف القياس الصحيح، أو أنّ العلّة الشرعية الصحيحة خُضَتْ بلا فرقٍ شرعي من فواتِ شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرقٍ شرعي، فوجدتُ الأمر بخلاف ذلك، كما قاله أكثر الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما، وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض أيضًا، فيخصُّ ما يجعله علةً بلا فارقٍ مؤثّر، كما أنه قد يقيس بلا علّة مؤثّرة. فالمقصود ضبط أصول الفقه الكلّية المطّردة المنعكسة، وبيان أن الشريعةَ ليس فيها تناقض أصلاً، والقياس الصحيح لا يكون خلافُه إلاّ تناقضاً، فإنّ القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلَين والفرق بين المختلفَين، والجمع بين الأشياء فيما جمع الله ورسولُه بينها فيه، والفرق بينهما فيما فرَّق الله ورسوله بينها فيه. والقياس هو اعتبار المعنى الجامع المشترك الذي اعتبره الشارع وجعله مناطاً للحكم، وذلك المعنى قد يكون لفظ شرعي عام (1) أيضًا، فيكون الحكم ثابتاً بعموم لفظ الشارع ومعناه. وقد بيّنَّا   (1) كذا في الأصل الكلمات الثلاث بالرفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 في غير هذا الموضع (1) أن الأحكام كلَّها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظُه تناولتْ جميعَ الأحكام، والأحكام كلّها معلَّلةٌ بالمعاني المؤثرة، فمعانِيْه أيضًا متناولة لجميع الأحكام. لكن قد يفهمُ المعنى من لِم يَعرفِ اللفظَ العامّ، وقد يَعرِف اللفظ العائمَ ودلالتَه مَن لم يَفهم العلّةَ العامةَ. وكثيراً ما يَغلَطُ من يظنّه قال لفظاً ولم يقله، أو يجعله عاما أو خاصا ويكون مراد الشارع خلاف ذلك، كما يَغْلَط من ينفي لفظاً قاله، وكما يَغْلَطُ من يظنّه اعتبر معنًى لم يعتبره، أو ألغَى معنًى وقد اعتبره، ونحو ذلك. ولنأتينَ بما يذكر العلماء أنه استحسانٌ على خلاف القياس: فمن ذلك ما يقوله أحمد في إحدى الروايتين عنه إذا اعتبر الاستحسان، فإنه قد ذكر عنه روايتين (2) كما تقدم، والقول الثالث وهو الذي يدكُ عليه أكثر نصوصه أن الاستحسان المخالف للقياس   (1) انظر "قاعدة في شمول النصوص للأحكام "، ومجموع الفتاوى 19/280 وما بعدها، فقد ذكر أن الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد، ومن أنكر ذلك لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد. ثم مثل بلفظ "الخمر" و"الميسر" و"الربا" و"الأيمان" وغيرها، فقال عن الخمر إنها تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلاَ آخر يوافق النص. ومن كان متبحّرا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة. (2) كذا في الأصل منصوباً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 صحيح إذا كان بينهما فرق مؤثر قد اعتبره الشارع، وليس بصحيح إذا جُمِعَ بغير دليلٍ شرعي وفُرقَ بغير دليلٍ شرفي، وأنه لا يجوز ترك القياس الصحيح. أما قوله "أستحسن أن يتيمم لكل صلاة، لكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى يَجِدَ الماءَ أو يُحدِثَ" (1) فهذا القياس هو الرواية الأخرى عنه، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم (2) ، وهو الصواب، كما دل عليه الكتاب والسنة. وقوله "القياس" هو قياس الشرع لفظاً ومعنًى. فإن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصعيدُ الطيبُ طَهورُ المسلمِ ولو لم يَجدِ الماءَ عَشْرَ سنينَ " (3) ، وقوله: "جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مسجداً وطَهوراً" (4) ونحو ذلك، ألفاظ   (1) انظر: ص 173. قال ابن قدامة في المغني 1/263: المذهب أن التيمم يبطل بخروج الوقت ودخوله ... فلا يجوز أن يصلي به صلاتين في وقتين، روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس والشعبي والنخعي وقتادة ... ثم نقل رواية الميموني. وعللها بقوله: لأنها طهارة تبيح الصلاة، فلم تتقدر بالوقت كطهارة الماء. (2) انظر: كتاب الأصل لمحمد 1/121 ومختصر القدوري 5 والمحلى 2/128 وحلية العلماء1/205 وفتح القدير لابن الهمام 1/95. (3) أخرجه أبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي 1/171 وأحمد 5/146، 147، 155، 180 من حديث أبي ذر. وصححه الترمذي وابن حبان (126- موارد) والحاكم في المستدرك 1/176، 177. (4) أخرجه البخاري (335، 438) ومسلم (521) عن جابر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 دالة على أن التراب طَهور كالماء./والقراَنُ يدلُّ على أنّه طَهور بقوله لمّا ذكر التيمم: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) (1) . والذين أمروه بالتيمم لكل صلاةٍ تمسكوا بآثار رُوِيتْ عن بعض الصحابة، هي ضعيفة (2) ، وعنهم ما يخالفها. وقالوا: إنه لا يَرفعُ الحدثَ، وإنما هو مُبِيْحٌ، فيُبِيحُ بقَدْرِ الضرورة. قالوا: ولو رفع الحدث لما كان إذا قَدَرَ على استعمال الماء يستعمله بحكم الحدث السابق من غير تجددِ حَدَثٍ. واحتجوا بقوله لعمرو بن العاص: "أصليتَ بأصحابك وأنتَ جُنُبٌ؟ " (3) .   (1) سورة المائدة.: 6. (2) أخرجها الدارقطني 1/184. 185 عن عمرو بن العاص وعلي وابن عمر وابن عباس، وتكلم عليها العظيم آبادي في تعليقه. وأخرج بعضها عبد الرزاق 1/214- 216 وابن أبي شيبة 1/160 والبيهقي في السنن الكبرى 1/221. (3) أخرجه أحمد 4/203، 204 وأبو داود (334) وابن حبان (202- موارد) والدارقطني 1/178 والحاكم في المستدرك 1/177 عن عمرو بن العاص. ولفظه عند أبي داود: قال: احتلمتُ في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلتُ أن أهلك، فتيممتُ، ثم صليتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " يا عمرو، صليتَ بأصحابك وأنت جُنُب؟ " فأخبرتُه بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعتُ الله يقول: (وَلَا تقْتُلواْ أَنفُسَكُم إنً اَللهَ كاَنَ بِكُم رَحِيمَا (29)) . فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يقل شيئاً. والحديث ذكره البخاري 1/454 تعليقاً، وقواه الحافظ في الفتح، وصححه الألباني في إرواء الغليل 1/181. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 وجوابُ هذا (1) أن قولهم "لا يَرْفَعُ بل يُبيح " كلائم لا حقيقةَ له، ولو صحَّ لم يكن لهم فيه حجة، فإنّ الحدثَ ليسَ هو أمراً محسوساً كطهارة الجُنُب، بل هو أمر معنويٌّ يَمنعُ الصلاةَ، فمتى كانت الصلاةُ جائزةً، بل واجبةً معه امتنع أن يكون هنا مانعٌ من الصلاة، بل قد ارتفع المانع قطعاً. وإن قالوا: هو مانع، لكنه لا يمنع مع التيمُّم. فالمانع (2) الذي لا يمنع ليس بمانع. فإن قيل: هو يمنع إذا قدر على استعمال الماء. قيل: هو حينئذ! يُوجِدُ المانعَ. فإن قالوا كيف يعودُ المانعُ من غير تجدُّدِ حَدَثٍ؟ قيل: كما عاد الحاظِرُ من غير تجدُّد حَدَب، فالحاظِرُ للصلاة هو المانعُ، والمبيحُ لها هو الرافعُ لهذا المانع. فإن قيل: أباحَها إلى حِيْنِ القدرةِ على استعمال الماء. قيل: وأزالَ المانعَ إلى حينِ القدرة، فكما يقال: أباح إباحةً موقَّتةً، يقال: إنه رفعَ رَفْعاً موقَّتاً. وإن قالوا: نحن لا نَقبلُ إلاّ ما يَرْفَع مطلقاً كالماء.   (1) انظر مناقشة المؤلف لهذه الأدلة بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 21/354- 361، 435- 438. (2) هذا جواب الشرط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 قيل: ولا نَقبلُ إلاّ ما يُبيح مطلقاً كالماء. وأيضاً فالله ورسولُه قد سمَّاه (1) طَهوراً، وجعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَهورَ المسلم ما لم يَجدِ الماءَ، وجعلَ تُربةَ الأرضِ طَهوراً. والطَّهُور ما يُتطهَّرُ به، وقد قاَل تعالى: (وَإِن كنُتُم جُنُبَا فَاَطًهَرُواْ" (2) . والتيمُّم قد يُطَهِّر، ومع الطهارة لا يبقَى حَدَثٌ، فإنّ الطهارةَ مناقضة للحدث، إذ غايتُه أن تكون نجاسةً معنويّةً، والطهارةُ تُناقِضُ النجاسةَ. فإن (3) قيل: الصلاة بالتيمُّمِ رخصة كأكْلِ الميتةِ في المَخْمَصَةِ، والرخصةُ استباحةُ المحظور مع قيام الحاظر ومَنْعِ المانع، فلو بقي مانعاً لم تَجُزِ الصلاةُ. فَعُلِمَ زوالُ المانعِ. ولا يجوز أن يقال هنا: إنه استباحَ الصلاةَ مع قيامِ الحاظِرِ لها، فإنَّ كونَ الحاظرِ حاظراً زائل من الميتةِ لمعارضٍ راجحٍ، وذلك أن المعنى المقتضِي للحَظْرِ القائم بالميتةِ موجود حالَ المخمصةِ، كما هو موجودٌ في حال القدرة، فإَنّ الميتةَ في نفسها لم تتغَيَّرْ، وإنما تغيَّرَ حال الإنسانِ، كان غنيًّا عنها، ثمَّ صار محتاجاً إليها (4) . فهذا   (1) كذا في الأصل بصيغة الإفراد، وكان المؤلف كتب أولاً "فالله قد سماه "، ثم أضاف "ورسوله"، ولم يغير الفعل. (2) سورة المائدة: 6. (3) من هنا يبدأ الاستدراك الطويل في الهامش، ويستمر إلى هوامش الصفحة السابقة (330 ب) ثم هوامش الصفحة التي قبلها (330 أ) . وسنشير إلى الموضعين فيما بعد. (4) ذهبت بعض الكلمات من ركن الورقة هنا، ولا يمكن استعادتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 يُمكن دعواه في الميتةِ، ولا يُمكن دعواه هنا، لأنه لا ٍتحصلُ له إلاّ الميتةُ، وقد تغيٍرَ حالُه إليها، وحاجتُه تدفع الفسادَ الحاصلَ بأكلها، ٍفكذلك التيمم. قيل: هذا قياس فاسد، وذلك أنه صَادَ ميتةَ وأكلَ، والميتةُ لم تتغيرْ، لكن تَغيَّرَ حالُ الآكل، وهنا ليس إلاّ المُحدِث الذي كانتِ الصلاةُ محرَّمةً عليه، ثمَ صارت واجبةً عليه أو جائزةَ بالتيمم، فلو لم يَتغيَّرْ حالُه بالتيمم لما جازتْ صلاتُه، وليس هنا إلاّ الحدث في الشرعِ، فأُبيْحَتْ (1) له الصلاةُ في حالٍ، وحُرِّمَتْ عليه في حالي، مع تسميتِه في حالِ الإباحةِ مُتطهراً، وجَعْلِ التراب طَهوراً كما جُعِلَ الماءُ طهوراً. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن العاص: "أصَلَّيْتَ بأصحابكَ وأنتَ جُنُبٌ؟ " استفهامٌ (2) ، فسَألَه: أكانَ ذلك أم لم يكن؟ وليسَ هو خبراً أنه صفَى وهو جنبٌ، فلما أخبره أنه تيمم لخشية البَرْدِ تبيَّنَ أنه لم يكن جُنُباَ، فأقَره النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإلاّ فلو كانَ المرادُ الخبرَ وهو قد صَفَى مع الجنابة صلاةً جائزةً لم يسألْهُ. وإن كانت الجنابةُ مانعةً من الصلاة مطلقاً لم يَقْبَلْ عُذْرَه. وهو لم يَقُلْ: "أصَلَّيْتَ وأنتَ (3) جُنُبٌ بلا تيمُّمٍ " ليكون قد استفهمه عن حال التحريم، بل أطلق الصلاةَ مع الجنابة. وهم يقولون: يجوز مع الجنابة تارةً، ولا يجوز أخرى،   (1) من هنا انتقل الكلام إلى هامش الصفحة السابقة (330 ب) . (2) نحو هذا الكلام عند المؤلف في مجموع الفتاوى 21/404- 405. (3) من هنا انتقل الكلام إلى هامش الصفحة السابقة (330 أ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وكلام الرسول يقتضي منعَها مع الجنابة مطلقاً، وأن هذا استفهامُ إنكارٍ، وأنه لما بئنَ أنه تيممَ تَبينَ أنه لم يكن جُنُباً، فلا إنكارَ عليه بهذا أبداً، والله أعلم (1) . فقد تبينَ هنا أن القياسَ هو الصحيح، دون الاستحسانِ الذي يُناقِضُه، وتخصيص العلَّة، وهو كونُ هذا بدلاً طَهوراً مُبيحاً يقوم مقامَ الماء عند تَعذُرِه في جميع أحكامِه، ثُمَ يُخَص بعضُ الأحكامِ من حكم البدليةِ والطهوريّهِ والإباحةِ، والبدلُ يقوم مقامَ المبدلِ في حكمه لا في صورته، والحكمُ جوازُ الصلاةِ به ما لم يجدِ الماء أو يُحدِثْ. فذلك القول مخالفٌ للقياس وتخصيصٌ للعلةِ بلا ريبٍ، والعفَة صحيحةٌ بلا ريبٍ. ونحن إذا قلنا: لا يجوز تخصيصٌ بدونِ فارقٍ مُؤَثرٍ أفاد شيئين: أحدهما: أنه إذا ثبت أنها علةٌ صحيحةٌ لم يَجُزْ تخصيصُها مثل هذا الموضع. والثاني: أنه إذا ثبتَ تخصيصُها عُلِمَ بُطلانُها، وهذا معنى قولنا: لا يجتمع قياسٌ صحيح واستحسان صحيحٌ إلاّ مع الفارقِ المؤثر في الشرع. وأما قوله في المضارب (2) : إذا خالف فاشترى غيرَ ما أمرَ به   (1) هنا انتهى الكلام الطويل الذي كان في هوامش الصفحات. ثم رجع إلى صفحة (331أ) السطر 18. (2) انظر: ص 172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 صاحبُ المال، فالربحُ لصاحب المال، ولهذا أجرةُ مثلِه، إلاّ أن يكونَ الرِّبْحُ يُحيط بأجرةِ مثلِه فيذهب، قال: وكنتُ أذهبُ إلى أن الربحَ لصاحب المالِ فاستحسنتُ. ف هذا استحسان بفرقٍ رآه مؤثراً، والقياسُ مُستنبط، والاستحسانُ مستنبط، وهو تخصيصٌ لعلَّةٍ مستنبطةٍ بفرقٍ مستنبطٍ. وأحمد لا يَرُد مثلَ هذا الاستحسانِ، لكن قد تكون العفَتانِ أو إحداهما فاسدةً، كما لا يَرُدُّ تخصيصَ العلَّةِ المنصوصةِ بفرقٍ منصوصٍ./ والفرق أن المضارب مأمور بالعمل بجُعْلٍ، بل هو شريكٌ في الربح، وعملُه له ولصاحبِ المالِ جميعاً، ولهذا كان للعلماءِ فيما يستحقه في المضاربة الفاسدةِ ونحوِ ذلك قولان: هل يستحقُّ قسطَ مثلِه في الربح، أو أجرة مقدَّرةً تكونُ أجرةَ مثلِه (1) ؟ والقول الأول هو الصوابُ قطعاً، وهذا قياسُ مذهب أحمد، فإنّ من أصله أنّ هذه المعاملاتِ مشاركة، لا مؤاجرة بأجرةٍ مَعلومةٍ، والقياس عنده صحتها. وإنّما يقول أجرة المثل من يجعلها من باب الإجارة. ويَقول: القياس يقتضي فسادَها، والمأجور فيها مأجورٌ للحاجة. وبكلِّ حالٍ   (1) انظر: الأم 3/237 والمبسوط 22/40 والمغني 5/65 وحاشية ابن عابدين 4/486. وانظر آثار الصحابة والتابعين في: مصنف عبد الرزاق 8/253 والإشراف لابن المنذر 1/105 والسنن الكبرى للبيهقي 6/111. وقد تكلم المؤلف على هذه المسألة في مجموع الفتاوى 30/85- 86، 91 و 28/84- 85 بنحو هذا الكلام، وصحح ما صححه هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 فهو يعمل لنفسه لاستحقاق القسط أو الأجر، ويعمل لربِّ المال، فليس هو بمنزلةِ الغاصب الذي جُعِل عملُه لصاحبِ المالِ كالمتبرِّع، فإنّ هذا إنما قبضَ المالَ ليعملَ فيه بالعِوَضِ، وهو بالمخالفة لا يخرج عن كونِ المالِ بيده قبَضَه ليعمل فيه بالعوض، ولكن عَمِلَ غيرَ ما أُمِرَ به، فيكون ضامناً لتعدِّيْهِ، ولكن ليس إذا كان ضامناً يكون وجود عمله كعدمه، مع أنّه مأذونٌ له في التجارةِ به في الجملةِ، ليس هو كمن لم يؤذَن له في ذلك. وهو أيضًا من أصل آخر، وهو أنه إذا تصرف بغير أمرِه كان فُضوليًّا (1) ، فيكون المعقود موقوفاً. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقول أكثر العلماء، وهي التي ذكرها الخِرَقِيُّ في مختصره: أنّ بيعَ الفضوليَ وشِرَاهُ ليس باطلاً بل موقوفاً (2) ، فإن باعَ أو اشترى   (1) الفضولي: من يتصرّف في حق الغير بغير إذن شرعي أي بلا ملك ولا ولاية ولا وكالة. وقد ذهب الحنفية والمالكية والشافعي في القديم، وهو أحد قوليه في الجديد، واْحمد في إحدى الروايتين عنه: إلى أن بيعه صحيح إلاّ أنه موقوف على إجازة المالك، وذهب الشافعي في القول الثاني من الجديد واْحمد في الرواية الأخرى عنه: إلى أن البيع باطل. انظر التفصيل: بدائع الصنائع 5/147 وفتح القدير لابن الهمام 5/309 وشرح الخرشي على مختصر خليل 5/18 وروضة الطالبين 3/353 والمجموع 9/259 والمغني 5/253، 254 والإنصاف للمردادي 4/283 وشرح منتهى الإرادات 2/143، 144 وكشاف القناع 3/157، 158 وتفسير القرطبي 7/156. (2) كذا في الأصل بالنصب على تقدير "يكون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 بعينِ المالِ فهو موقوف، وإن اشترى فى الذمَّة فهو موقوف. فإن أجازه المشترى له وإلاّ لَزِمَ المشتري (1) . وأما القاضي وأتباعُه فاختاروا أن تصرفه مُردد (2) إلاّ إذا اشترى في الذمَّة. والذي ذكره الخِرَقي أصحُّ، لكنه قَرَنَ هذه المسألةَ في مواضعَ من مختصرِه بالعاملِ إذا خالفَ كان متصرِّفاً له بغيرِ إذْنِه، فإذا أجازَه وطلبَ نَصِيْبَه من الربْح صارَ مجيزاً له، وصارَ العاملُ مأذوناً له. والعامل إنما عَمِلَ لأجْلِ نَصِيبِه من الربح، فيستحقُّ نَصِيْبَه من الربح. وقول أحمد: "كنتُ أذهبُ إلى أن الربحَ لصاحبِ المال، ثم استحسنتُ" رجوع منه إلى هذا، وجَعْلُه الربحَ في جميع الصُّوَرِ للمالك يَقتضي أنه يُصَحح تصرف الفضولي إذا أجيْزَ، وإلاّ كان البيعُ باطلاً. وكذلك الشرَى بعين المال، كما يقوله الشافعيّ ومن نَصَر الرواية الأخرى"، ويكون عليه ضمان ما فوّته من مالِه فقط، ليس للمالك غيرُ هذا، ولا يكون للعامل أيضًا رِبْح، لأنّه لم يعمل شيئا. والآثار المأثورةُ عن الصحابة والتابعين في باب البيع والنكاحِ والطلاقِ وغيرِ ذلك تدلُّ على أنهم كانوا يقولون بوقف المعقود،   (1) انظر كلام المؤلف بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 20/577. (2) كذا في الأصل، وهو بمعنى "مردود"، فقد ورد الفعل "رَدّد" بمعنى "رَدَّ" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 لاسيما حيثُ تعذَّرَ استئذانُ المالك (1) . ولهذا أحمد يقولُ بوقْفِها هنا كما في مسألة المعقود، اتباعاً للصحابة في ذلك. وإنما ادَّعَى أنها خلافُ القياسِ من لم يَتَفطَنْ لما فيها من وقف المعقود، كما في اللُّقطةِ (2) . وتكلُّمُ السَّلفِ فيمن يتجر بمال غيره في الربح دليلٌ على صحة التصُّرفِ عندهم إذا أجازه المالك. وبهذا ظهر ما استحسنَه أحمد ورجعَ إليه أخيراً، لأنَه إذا صارَ بالإجازة كالمأذون له، وهو لم يعمل إلاّ بجُعْلٍ برضا المالك، فلا يجوز منعُه حَقَّه. وهذا بناء على أنَّه إذا تصرَّف ابتداءً فالرِّبْحُ كلُّه للمالك، وهو أحد الأقوالِ في المسألة، وقيل: يتصدَّقانِ به، وهو رواية عن أحمد. وقيل: هو للعامل، كقول الشافعي. وقيل: هما شريكانِ فيه، وهو أصح الأقوالِ، وهو المأثور عن عمر (3) في   (1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 25/579, 580: "القول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة، ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة" ثم ذكر بعضاً منها. وانظر 29/249 ففيه نحو من هذا الكلام. (2) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 25/588: جاءت السنة في اللقطة أن الملتقط يأخذها بعد التعريف، ويتصرف فيها، ثم إن جاء صاحبها كان مخيرا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها، فهو تصرف موقوف. وانظر نحوه في 29/250. (3) تكرر في بداية الصفحة القادمة "وهو المأثور عن عمر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 المضاربة (1) ،/لأنَّ المالك لمَّا أَذِنَ فيه صار كالمضارب، وهو لم يعمل ليكون الربحُ للمالك كالمُبْضِع (2) ، فإنه لو فعل ذلك لكان الربح للمالك، وإنما اتَّجَر ليكون الربحَُ له أو بينهما، والمالكُ قد أجازَ بيعَه، ولم يُجزْه ليكون الربحُ كلُّه له، فيكون النماءُ حاصلاً بمالِ هذا وبيع هذا، وَالتصرُّفُ صحيحاً مأذوناً فيه، فيكون الربحُ بينهما. ومن قال: "يتصدَّقانِ به" جَعَلَه كغير المأذونِ فيه، فيكون خَبيثاً، وهو مُتَعَدٍّ، لأنّ الحقّ لهما لا يَعْدُوهما، فإذا أجاز التصرُّفَ جازَ. وكذلك في جميع تصرُّف الغاصب، لاسِيَّما مَن لم يُعلَم أنَّه غاصبٌ، إذا تصرَّفَ في المغصوب بما أزال اسمَه، كطَحْنِ الحَبِّ ونَسْجِ الثوبِ ونحو ذلك، ففيه ثلاثةَ أقوالٍ في مذهب أحمد وغيره: قيل: كلُّ ذلك للمالكِ دون الغاصب، وعليه ضمانُ النقص، كقول الشافعي. وقيل: يملكه الغاصب، وعليه بَدَلُه، كقول أبي حنيفة. وقيل: يُخير المالك بينهما، كقولِ مالك. وهذا أصحُّ (3) ، بناءً   (1) انظر أثر عمر والأقوال المذكورة هنا في مجموع الفتاوى 30/87، 323، 329. (2) كذا في الأصل. والمُبْضِع في اللغة: المُزَوِّج، من أبضَعَ المرأةَ أي زوَجَها. ولم يظهر لي وجه الشبه هنا. (3) ذكر المؤلف هذه الأقوال وصحح ما صححه هنا في: مجموع الفتاوى 25/562- 563. وانظر لهذه المسألة: الأم 3/227 والمدونة 4/190 والمبسوط 11/100، 101. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 على وقفِ التصرُّفاتِ، فإن شاءَ المالك أجازَ تصرُّفَه، وطَالبَه بالنقصِ، كما في العاملِ المخالف، وإن شاءَ طالَبَه بالبَدَلِ لإفسادِه عليه، وبأخْذِه ذلك لأدائه عِوَضَه، فيُخَيَّر على المعاوضة لحقّ المالك. وإذا رَضِيَ المالكُ به فهل يكون الغاصبُ شريكاً لما في عمله؟ فيه وجهان، والأظهر في الجميع أنَّ أثر عمله له، وكونه ظالماً يَظْهر في تَضمينه له، لا في أن يؤخذَ أثرُ عملِه، فيُعْطَى لغيره بلا عِوَضٍ، فإنَ هذا ظلمٌ له، والواجبُ إزالةُ الظلم بالعدل، لا بظلمٍ آخر، "وَجَزاؤاْ سَيّئَةٍ سَيئةٌ مثلُهَا" (1) لا زيادة عليها. وأما قوله فيمن غَصَبَ أرضاً فزرعَها: "الزرعُ لرب الأرض، وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئا يوافق القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته" (2) ، فهذا قاله بالنصّ كما تقدم، لحديث رافع بن خَدِيْج. فيجب أن يكون القياس المخالف لهذا النصّ فاسداً إن لم يَدُلَّ نصّ على صحتِه، ويظهر الفارقُ المؤثِّر، وإلاَّ فالقياس إذا خالف النص كان فاسداً. أمّا فسادُ الحكمِ المخالفِ للنص فبالاتّفاق، وفسادُ العلَّة على قولِ الجمهور الذين لا يرون (3) تخصيصَ العلَّة إلاّ بفارقٍ مؤثِّر،   (1) سورة الشورى: 40. (2) انظر: ص 174. قال في المغني 5/236: "أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحساناً على خلاف القياس، فإن القياس أن الزرع لصاحب البذر، لأنه نماء عين ماله، وقد صرح به أحمد". ثم نقل هذه الرواية. (3) المكتوب في السطر: "من لا يرى"، وكتب فوقه: "الجمهور الذين لا يرون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وهذا نصٌّ قد خالف القياس. وقولهم: "القياس أن الزرعَ لزارعِه" ليس معهم بذلك نص ولا نظير، بل القياسُ (1) أنَّ الزَّرعَ إمّا أن يكون بينهما كالمزارعة، أو يكون لرب الأرضِ، لأنَّ الزرعَ في الأرضِ كالحَمْلِ في البطنِ، وإلقاءُ البِذْرِ كإلقاءِ المنيِّ، ولو وَطِيءَ ذكرٌ أنثَى كان الحملُ لمالكِ الأنثى دون مالك الذكَرِ، وهذا اختيار ابنِ عقيل وغيرِه. لكن المنيَّ لا يقوم، بخلافِ الزَّرع، فلهذا جعل له نفقته، فإنّ الزرعَ عامّته في الأرضِ، في ترابها وَمائها وهوائها وشمسها، كما أن الحمل في البطن عامّته في الأمّ، وماء الأب قليل، كما أنّ الحَبَّ قليل./ وكذلك الشجرُ إذا لُقِّحَ أُنْثاه بذكرَ فإنَّ الثمرَ لصاحبِ الأنثى، لا لصاحب اللقاح، والحَبُّ كاللِّقاح. وقول أحمد: "عليه نفقتُه" يَقتضِي مثلَ البذْر، ويَقتضِي أجرةَ عملِه وعمل فَدَّانِه (2) . فقوله: "ليس هذا شيئاً يوَافق القياسَ" كقوله في العامل المخالف: "ثمَّ استحسنتُ أن يُعْطِيَه الأجرةَ"، فكان قياسُه على ما يراه في الغاصب أن لا يكون له أجرة عمله وعمل فدّانِه، فهو   (1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 29/124: "بعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس، وأنه من صور الاستحسان، وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم، وهو أن الزرع تبع للبذر، والشجر تبع للنوى. وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة". ثم ذكر نحو ما ذكر هنا. (2) الفَدَّان هنا بمعنى المحراث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 مخالف للقياس في هذه الحجة (1) ، لأنه إنما عَمِلَ ليأخذَ العوضَ، لم يعمل مجاناً كالعاملِ في المضاربة، ولأنّ البذرَ له، فليس غاصباً محضاً. وقد اختلفت الرواية عن أحمد: هل يُعطَى ما أنفقَ أو أجرةَ مثلِه؟ والنص ورد بالأول بقوله: "فليس له في الزرع شيء، وله نفقته"، والقياس يقتضي الثاني. فقد يكون قولُه على خلاف القياس من هذا الوجه، وما وردَ به النصُّ قد يكون ما أنفق وأجرة مثله فيه سواء. وأما شِرَى المصاحف والسواد (2) فإنما فرّق فيهما بين الشَرَى والبيع، لأن العلَّة موجودة في البيع دون الشِّرَى، فإن المشترِيَ راغبٌ في المصحف، معظمٌ له، باذلٌ فيه مالَه، والبائع معتاضٌ عنه بالمال، والشرعُ يُفرقُ بين هذا وهذاَ (3) ، كما فَرقَ في إعطاءِ المؤلفةِ   (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب "من هذه الجهة". (2) انظر: ص 173- 174. (3) عند الشافعية بيع المصحف وشراره مكروه، وقول آخر لهم وهو رواية عن أحمد: أنه يكره البيع بلا حاجة دون الشراء، قال ابن قدامة في المغني 4/263 بعدما ذكر الخلاف: "لنا قول الصحابة رضوان الله عليهم، ولم نعلم لهم مخالفاً في عصرهم، ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى، فتجب صيانته عن البيع والابتذال. وأما الشراء فهو أسهل، لأنه استنقاذ للمصحف وبذل لماله فيه، فجاز كما جاز شراء رباع مكة واستئجار دورها ممن لا يرى بيعها ولا أخذ أجرتها، وكذلك أرض السواد ونحوها". وانظر أيضًا: الإنصاف 4/279 والشرح الكبير بذيل المغني 4/12 وكشاف القناع 3/155. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 قلوبُهم بين المعطي والآخذ، وكذلك في افتداءِ الأسيرِ وغيرِ ذلك. ومعلومٌ أنه لو أعطاه المصحفَ والأرضَ الخراجيةَ بلا عِوَضٍ جازَ، وقام فيه مقامه، بخلاف ما لا يجوز تملكُه كالخمر وغيرِها، فإذا بَذَلَ له هذا فيه العوضَ لم تكن مضرتُه إلاّ على البائع. فإن قيل: فإذا لم يحصل للإنسان كلب مُعلَّمٌ إلاّ بثمنٍ فينبغي أن يجوز بذلُه، وإن لم يَجُزْ أخذُه. قيل: إن لم يكن بينهما فرق مُؤثِّرٌ في الشرع فهكذا (1) هو، وإن قيل هناك: يجبُ عليه إعطاءُ الكلب بلا عوضٍ , بخلاف الأرض والمصحف، فهذا فرق. مع أن الثابت عن الصحابةِ كراهةُ بيع المصحف، وابن عباسٍ كان يكرهُه (2) ، وكان أيضًا يُجوِّزُه ويقول: إنّما هو مصوّر, وله أجرة تصويره (3) . فدلَّ على أنَّها كراهة تنزيه. ورُوِيَ عن غيرِه: وَدِدْتُ أنّ الأيديَ تُقطَعُ في بيع المصاحف (4) ، وهذا تغليظُ تحريم. ولهذا اختلفتِ الروايةُ عن أحمد: هل هو نهيُ تنزيهٍ أو تحريمٍ. وأما شِرَاه ومبادلتُه فهل هو مباحٌ أو مكروه على روايتين، وعن ابن عباسٍ يجوز أن يبيعَه ويشتريَ بثمنِه مصحفاً آخر، وليس   (1) في الأصل: "مهاكدى". (2) أخرجه عبد الرزاق 8/112 والبيهقي في السنن الكبرى 6/16. (3) لم أجده في المصدرين السابقين. (4) روي ذلك عن ابن عمر، أخرجه عبد الرزاق 8/112، 113 والبيهقي في السنن الكبرى 6/16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 في المبادلة والشِّرَى استبدال به عَرَضاً من الدنيا، فالأظهرُ جوازُ ذلك بلا كراهة (1) ، وأنَ البيعَ أيضًا لا يحرم، بل يُكْرَه تعظيماً لكتاب الله، إذْ ليس على التحريم دليل شرعي. وكذلك الأرض الخراجية ليس في مَنْع بيعها دليل شرعيّ أصلاً (2) ، فإنّ الذين منعوها من الفقهاء قالوا: إنهَا وقفٌ، وبيعُ الوقف لا يجوز. وهذا إنما هو في الوقف الذي يَبطُلُ حق أهل الوقف ببيعهِ، وهو الذي لا يُورثُ ولا يُوهَبُ، والأرضُ الخراجيةُ تُورَثُ وتُوهَبُ، والوقف الذي لا يُباع لا يُورَث ولا يُوهَبُ، وذلك أن المشتري لها يقوم مقامَ البائع، لا يُبطِلُ حَق أهلِ الوقفِ./   (1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 31/212، 213: "أما إبداله فيجوز عنده في إحدى الروايتين عنه من غير كراهة، ولكن ظاهر مذهبه أنه إذا بيع واشتُرِيَ بثمنه فإن هذا من جنس الإبدال، إذ فيه مقصوده، فإن هذا فيه صرف نفعه إلى نظير المستحق إذا تعذر صرفه إلى عينه ". (2) تكلم المؤلف في موضوع بيع الأرض الخراجية ورذَ على من منع منه لأنها وقف، وفصّل القول فيه بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 29/206-209, 28/288, 589و31/230, 231و17/488, 489. وهو يقصد به أبا يعلى الذي نقل في الأحكام السلطانية 189- 190 منع بيعها عن أحمد على أنها وقف. أما التفريق بين بيعها وشرائها فقد قال ابن قدامة في المغني 1/720: "وإنما رخص في الشراء - والله أعلم- لأن بعض الصحابة اشترى، ولم يسمع عنهم البيع، ولأن الشراء استخلاص للأرض، فيقوم فيها مقام من كانت في يده، والبيع اْخذ عوضٍ عما لا يملكه ولا يستحقه، فلا يجوز". وانظر: الأموال لأبي عبيد 110 وما بعدها، والخراج لأبي يوسف 28 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وأحمد في ظاهر مذهبه يُجوزُ بيعَ المكاتَب لهذا المعنى (1) ، لان ذلك لا يُبطِل حقَّه من الكتابة، بل يكونُ عند المشتري كما كان عند البائع، وهو يُورَثُ بالاتفاق. ولكن لمّا انعقد فيه سببُ الحريةِ تخيلَ مَن مَنَعَ بيعَه أنه يُباعُ حر، كما تخيل أولئك أنه يباعُ وقف، وليس الأمرُ كما تخيلُوه، بل بيعُ الحز هو أن يُسْتَعْبَدَ فيصير بخلاف ما كان حرا، وبيعُ الوقف هو أن يُجعلَ طَلْقا ويُصْرَفَ فعلُه إلى غيرِ مستحقَيْه. والأرضُ الخراجيةُ فعلُها هو فعلُها لم يتغيرْ، وهو الخراجٍ المضروب عليها، سواءً كان ضريبةً كخراجِ عمر، أو صَارَ مقاسمة كما فعلَه متأخرو الخلفاء بأرضِ السوادِ وغيرِها، كما فعلَه المنصورُ. فعلى التقديرين حق المسلمين باقٍ، كما يَبْقَى مع الموتِ والهبةِ. والصحابة الذين كرهوا شِرَاها إنما كرهوه لدخول المسلمِ في خراج أهل الذمةِ، أو إبطالِ حقّ المسلمين به، فإن المشتريَ إنْ أدّى الخراجَ - وهو جزيةِّ- فقد التزمَ الصغار، وإن لم يؤدِّه أبطلَ حق المسلمين، فلذا كرهَ ذلك عمر وغيرهُ من الصحابة، وهم نَهَوا عن الشرَى. وأما البيعُ فإنما كان يبيعُها أهلُ الذمّةِ، لأنّ الأرضَ الخراجية   (1) انظر: المغني 9/490. وانظر هذه المسألة في: مصنف عبد الرزاق 8/424 والأمّ 7/394 والمحلى 9/232 وتفسير القرطبي 12/250 والسنن الكبرى 10/336- 340 والإشراف لابن المنذر 1/339 ومختصر اختلاف العلماء للجصاص 4/428 وفتح الباري 5/194- 196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 إنما كانت بأيدي أهل الذمة، وكان ذلك أيضًا لئلا يَشتغلَ المسلمون بالفلاحة والصغار عن الجهاد. فلمّا كثر المسلمون، وصارَ أكثرُهم غيرَ مجاهدين، وصار أداؤُهم الخراجَ أنفعَ لعمومِ المسلمين من كونها بأيدي الذمة، لم يَصِرْ في ذلك من الصغار ما كان يكونُ في أول الإسلام إلاّ لمن يشتغل بعمارة الأرضِ عن الجهاد. وهذا لا يختص بالخراجية، بل قد رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِكَة فقال: "ما دَخَلَتْ هذه دارَ قويم إلاّ دَخلَها الذُّلُّ ". رواه البخاري (1) . مع أن الأنصار كانوا هم الفلأحين لأرضهم، فهذا على الاشتغال بعمارة الدنيا عن الجهاد، وهذا لا يختصُّ بالخراجية. وأما ما ذكره القاضي من قبولِ شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر (2) ، فلا ريبَ أن الفرقَ هنا ظاهر، وهذا من الاستحسان   (1) برقم (2321) من حديث أبي أمامة الباهلي. ولفظه: "لا يَدخلُ هذا بيتَ قومِ إلاّ أدخله الذل". والسكّة هي الحديدة التي تُحرَث بها الأرض. (2) انظر ما مضى ص 175. والمسألة في المغني 9/182- 184 وفيه: "ثبت هذا الحكم بكتاب الله وقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقضاء الصحابة وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة، فتعين المصير إليه والعمل به سواء وافق القياس أو خالفه". والآية في سورة المائدة: 106، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال: فجل العلماء يتأولونها في أهل الذمة، ويرونها محكمة، وقال مالك وأهل الحجاز: هي منسوخة، وناسخها قوله تعالى: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282] ، قالوا: ولا يكون أهل الشرك عدولاً= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وتخصيص العلَّة التي ظهر فيها الفرقُ، والمنعُ من شهادتهم على المسلمين ثبتَ بالنصِّ، والإذنُ فيها هنا ثبتَ بالنصِّ أيضًا للحاجة. وهل يُعدَّى هذا إلى جميع مواضع الحاجة؟ فيه عن أحمد روايتان (1) ، بناءً على أنّ العلَّة معلومةٌ، وهي موجودة/في غير هذا الموضع. هذا وجهُ القولِ بالجواز. وأمَّا وجهُ المنع فإمّا أن نقولَ: لم نَعلم العلةَ وإنّها مشتركة، أو علمنا اختصاصَها بهذه الصورة للضرورة العامَّة فيها. هذا إذا ثبتَ عمومُ المنع في غير هذه الصورة، إمّا لفظاً وإمّا معنًى. وألفاظ القرآن لا عمومَ فيها بالمنع، وكذلك السنّةُ ليس فيها لفظ عامّ بالمنع. لم يَبْقَ إلاّ القياس، وتلك المواضع أُمِرَ فيها بإشهاد المسلمين، ومعلومٌ أن ذلك إنما هو عند القدرة على إشهادهما، وهذا واجب في الوصية في السفر. وأمّا إذا تعذَّر إشهادُهما على الذَين في السفر أو على الرجعة فليس في القرآن ما يدل على المنع من ذلك. وإذا لم يكن في الكتاب والسنّة منعٌ من إشهاد أهل الذمّة عند تعذُّرِ إشهاد المسلمين، لم يكن هنا قياسٌ يخالف هذه الآية، وقد عمل بها   = أبداً ولا ممن تُرضَى شهادته. وقال الشافعي وأصحابه: الآية محكمة ولكنها في أهل الإسلام جميعا، ولاحظّ لأهل الذمة فيها. انظر تفصيل القول في ذلك في: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد 155 وما بعدها، والأمّ 6/127، 128 وأحكام القرآن للشافعي 2/145، 146 والناسخ والمنسوخ للنحاس 133 وتفسير القرطبي 6/346 وفتح الباري 5/412. وانظر كلام المؤلف في مجموع الفتاوى 15/299. (1) انظر: المغني 9/183، 184. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 الصحابةُ وجمهورُ التابعين. والذين لم يعملوا بها ليس معهم في خلافِها لا نصٌّ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ، وقد تأوّلوها ناجزين (1) من غير أصل يُسَلَّم، وقال بعضهم: هي منسوخة، وقال بعضهم: الشهادة اليمين. والأقوال الثلاثة باطلة من وجوهِ كثيرة. وقول من قال: "لا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين بحالٍ " ليس معهم بذلك لا نصٌّ ولا قياسٌ، ولكنْ كثير من الناس يَغلَطُون لأنهم يجعلون الخاصَّ من الشارع عامًّا، والله أمرَ بإشهاد المسلمين على المسلمين إذا أمكن، فظَنَّ مَن ظَنَّ أن هذا يقتضي أنه لا يَشْهَدُ غيرُهم ولو لم يُوجَدْ مسلمٌ. وبابُ الشهاداتِ مَبْنَاها على الفرق بين خالِ القدرة وحالِ العَجْزِ، ولهذا قُبلَتْ شهادةُ النساءِ فيما لا يَطلعُ عليه الرّجالُ. وقد نصنَ أحمدُ على شَهادتهنّ في الجراحِ وغيرِها إذا اجتمعنَ ولم يكن عندهنَّ رجالٌ، مثل اجتماعهنّ في الحمّامات والأعراسِ ونحوِ ذلك. وهذا هو الصواب (2) ، فإنّه لا نصّ ولا إجماع ولا قياس يمنع شهادةَ النساءِ في مثل ذلك. وليس في الكتاب والسنّة ما يمنع شهادةَ النساء في العقوباتِ مطلقاً (3) .   (1) قراءة ظنية، وفي الأصل رسمت الكلمة بلا نقاط. (2) انظر نحو هذا الكلام في مجموع الفتاوى 15/299. وراجع المسألة في: المغني 9/155، 148 وتفسير القرطبي 3/391. 395 وروضة الطالبين 11/254 والمدونة 8/13 والمحلى 9/399. (3) انظر الآثار الواردة في شهادة النساء في مصنف عبد الرزاق 8/329 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وأما إذا نَذَرَ ذَبْحَ ولدِه أو نفسِه فأحمد اتبعَ ما ثبتَ عن ابن عباس (1) ، وهو مقتضى القياس والنص، فإن. كان قادراً كان عليه كَبْش، وإن سلف فيه بمالٍ فعليه كفارة يمين. وهذا أصحُ الروايات عن أحمد (2) ، وهو الذي يصرح به في مواضع. وقيل: عليه كفارةُ يمينٍ في الجميع. وقيل: كبْش في الجميع (3) . وقيل: لاشيء عليه (4) . وذلك لأنّ مَن نَذَر نَذْراً فعليه المنذورُ أو بَدَلُه في الشرع، وهنا لما تعذرَ المنذورُ انتقلَ إلى البَدَلِ الشرعي، وهو الكَبْش، كما في نظائرِه، فليس هنا ما يخالف القياس الصحيح (5) .   (1) انظر فيما مضى ص 199، وهناك تخريج الأثر. (2) انظر: المغني 8/709 وفيه: "هذا قياس المذهب، لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج، وكلاهما يوجب الكفارة، وهو قول ابن عباس ". وقد أخرج عبد الرزاق 8/459 والبيهقي في السنن الكبرى 10/72 أن امرأة سألته عن إنسان نذر أن ينحر ابنه عند الكعبة، فقال: لا ينحر ابنه وليكفر عن يمينه. وانظر المسألة في تفسير القرطبي 15/111، 112. (3) هو قول أبي حنيفة، ويروى ذلك عن ابن عباس أيضًا. (المغني 8/709) . (4) هو قول الشافعي، قال: لأنه نذر معصية لا يجب الوفاء به ولا يجوز، ولا تجب به الكفارة. (المغني 8/709) . (5) تكلم المؤلف على هذه المسألة في مجموع الفتاوى 35/343- 345 وذكر اختلاف الفقهاء وحججهم، ورجح ما رجحه هنا أن عليه ذبحَ كبشِ، وقال: هذا هو الذي يناسب الشريعة، وجعل الافتداء بالكبش اتباعا لقصة إبراهيم، وهو الأنسب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وهذا الباب- بابُ تدبر العموم والخصوص من ألفاظِ الشرع ومعانيه التي هي عِلَلُ الأحكام- هو الأصل الذي تُعْرَف منه شرائع الإسلام. والله أعلم، والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 قاعدة في شمول النصوص للأحكام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإن مباحث القياس لم تُحرَّر على طريقة فقهاء أهل الحديث في كتب الأصول التي وصلتنا، وأكثرها على منهج المتكلمين وأهل الرأي الذين لم يُنصِفوا أهلَ الحديث في الغالب، ونسبوا إليهم ما لا يقولون به، وعدُّوهم مثل الظاهرية مخالفين للقياس. ونحن نعرف أن الظاهرية أنكروا القياس وحجيته والحاجة إليه، وسَدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحِكَم والمصالح، فاحتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، وحمَّلوهما فوق الحاجة، ووسَّعوهما أكثر مما يسعانِه، فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه، وحيث لم يفهموه منه نفوه وحملوه على الاستصحاب. فهم وإن أحسنوا في اعتنائهم بالنصوص وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة وبيانِهم تناقضَ أهلها واضطرابهم في القياس تأصيلاً وتفصيلا، وذِكْرِ أمثلةِ من تفريقهم بين المتماثلين وجمعِهم بين المختلفين- إلاّ أنهم أخطأوا من وجوه عديدة: منها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 التي يجري النصّ عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ. ومنها: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكيم دلَّ عليه النصُّ ولم يفهموا دلالتَه عليه، وسبب هذا الخطأ حَصْرهم الدلالةَ في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعُرْفِه عند المخاطبين. ومنها: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقّه، وجَزْمُهم بموجبه، لعدم علمهم بالناقل. وليس عدم العلم علمًا بالعدم. أما أصحاب الرأي والقياس فلم يعتنوا بالنصوص كما ينبغي، ولم يعتقدوها وافيةً بالأحكام ولا شاملةً لها، حتى قال بعضهم: إن النصوص لا تَفي بعُشُر معشار أحكام العباد، فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، وقالوا: إن النصوص متناهية وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع. فوسَّعوا طرق الرأي والقياس، وعلَّقوا الأحكام بأوصافٍ لا يُعلَم أن الشارع علَّقها بها، واستنبطوا عللاً لا يُعلَم أن الشارم شرع الأحكام لأجلها. ثمّ اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس؟ ثمَّ اضطربوا فتارةً يقدمون القياس، وتارةً يقدمون النصّ، وتارةً يفرقون بين النصّ المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضًا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرِعت على خلاف القياس. فكان خطؤهم من وجوه: أحدها: ظنُّهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس. الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف القياس، وادعوا فيها الاستحسان، فظنوا أن الاستحسان خلاف القياس. الرابع: اعتبارهم عللاً وأوصافًا لم يعلم اعتبار الشارع لها، وإلغاؤهم عللاً وأوصافا اعتبرها الشارع. الخامس: تناقضهم في نفس القياس، ففرقوا- كثيرًا- بين المتماثلين وجمعوا بين المختلفين. والصواب الذي عليه أئمة السنة والحديث أن الله تعالى قد أنزل الكتاب والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح، بل كلها متعاضدة متناصرة يُصدِّق بعضها بعضا، ويشهد بعضُها لبعض. والنصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلْنا الله ورسوله على الرأي، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية وافيةٌ بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان. وقد تخفى دلالةُ النصّ أو لا تبلغُ العالمَ فيعدِل إلى القياس، ثمّ قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له فيكون فاسدًا. هذا المذهب الثالث- الذي هو مذهب فقهاء أهل الحديث- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وسَط بين الظاهرية وأهل الرأي كما نرى، ولكنا لا نجد من الأصوليين مَن نَصَره عند كلامه على القياس، حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فتكلم عليه وقرره في مواضع من رسائله وكتاباته، وأهمُّها هذه القاعدة التي ننشرها الآن. وتبعه تلميذه العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/350- 383) ، فنقل معظم مباحث هذه القاعدة بلفظها أو بمعناها، مع زيادة التوضيح والشرح بأسلوبه المعروف. وهو وإن لم يذكر شيخه في هذا الموضع، فقد أشار إليه عند الكلام على أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (1/383) . وهذه القاعدة أحد الفصول الثلاثة التي يقول ابن القيم فيها إنها "من أهم فصول الكتاب" (1/355) ، فلا نستغرب أن يقتبسها من شيخه، على طريقته في الاستفادة من كتبه، كما يظهر ذلك لكلّ من يقرأ كلام الشيخين في موضوع واحد. والكتاب مقسم إلى قسمين: في القسم الأول منهما تأصيل لقاعدة شمول النصوص للأحكام وموافقتها للقياس الصحيح. وفي الثاني تطبيق لها على أحكام الفرائض، فإنها من أشكل الأشياء، والنصوص الواردة فيها قليلة محصورة، ومع ذلك شملت جميع الأحكام التي نحتاج إليها، فهذا من أظهر الأدلة على صحة القاعدة المذكورة. وقد أُفرِد القسم الثاني- لأهميته- في بعض النسخ، كما سيأتي ذكرُها فيما بعد، وذكره ابن رشيق (1) بعنوان "شمول النصوص في   (1) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية": 247 (ضمن "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية") . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 الفرائض". ونُشِر مختصر من هذا القسم بحذف كثيرٍ من كلام المؤلف (1) ، وتدلُّ بدايتُه على أنه تكملة لكلام سابق، فقد بدأ بقوله: "والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو من أشكل الأشياء، ليُستَدَلَّ به على ما سواه ... ". وقد ظهرتْ نسختان كاملتان للكتاب تحتويان على القسمين، فاعتمدنا عليهما في نشرتنا له كما كتبه المؤلف دون اختصار، عسى الله أن ينفع به القراء والباحثين. • عنوان الكتاب وتوثيق نسبته إلى المؤلف ذكر ابن رُشَيِّق (2) وابن عبد الهادي (3) والصفدي (4) وابن شاكر الكتبي (5) هذا الكتاب ضمن مؤلفات شيخ الإسلام بعنوان "قاعدة في شمول النصوص للأحكام"، ووصفه بعضهم بأنه "مجلد   (1) في "مجموع الفتاوى" (31/338-356) و"تفسير آيات أشكلت" (2/ 491-573) . والثاني أوفى، ومع ذلك فقد سقطت منه نصوص كثيرة في مواضع، كما يظهر ذلك بالمقارنة بينه وبين هذا الكتاب. (2) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية": 246 (ضمن "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية") . وقد سقط ذكره من طبعة صلاح الدين المنجد للكتاب الذي نشره منسوبًا إلى ابن القيم، مع أنه موجود في الأصل الذي اعتمد عليه. (3) "العقود الدرية" ص 45. ونقل نصاًّ من هنا (ص 264) في "اختياراته" (نسخة الظاهرية) . (4) "الوافي بالوفيات" (7/26) و"أعيان العصر" (1/35 أ) . (5) "فوات الوفيات" (1/78) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 لطيف". وقد تحرَّف هذا العنوان في بعض المصادر (1) إلى "شمول النفوس لأحكام الفقه المنصوص"! ولا يُستفاد منه معنى صحيح ولا سجعٌ مقبول، فلا يُلتَفت إليه. ويكون المعتمد ما ذكره تلاميذ شيخ الإسلام وأصحابه، لكونه موافقًا لبداية النسختين الكاملتين للكتاب. وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا الكتاب في "قاعدته في الاستحسان" (ص 206-207) فقال: "وقد بَينَّا في غير هذا الموضع أن الأحكام كلُّها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلُّها معلَّلة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضًا متناولة لجميع الأحكام". والكتاب الذي بين أيدينا فصَّل فيه الكلام على الموضوع الذي أشار إليه، وقرَّر أنّ الله تعالى بيَّن جميعَ ما أمر به ونهى عنه، وجميع ما أحلَّه وحرَّمه، وبهذا أكمل الدين، ولكن قد يقصر كثير من الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، فيقولون: إنّ النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث. وبمقابل هؤلاء قوم من نفاة القياس نفوا القياس الجليّ الظاهر حتى فرَّقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئًا لحكمة أصلاً، ونفوا تعليل خلقه وأمره، واقتصروا في معرفة الأحكام على مجرد الظواهر، فحيثما فهموا من النصّ حكمًا أثبتوه، وحيث لم يفهموه نفوه وأثبتوا الأمر على موجب الاستصحاب. ثمَّ بيَّن خطأ الفريقين، وناقشهما مناقشة طويلة، وقرَّر أن السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وأن النصوص   (1) "إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون" (2/58) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 شاملة لجميع الأحكام، ولو أُعطِي حقُّها من المعرفة والفهم لدلَّت على جميع الأحكام. ويعتبر القياس دليلاً صحيحًا آخر يوافق دلالة الظاهر والتعليل الصحيح. وقد تكلم شيخ الإسلام في هذا الموضوع في مواضع أخرى من كتاباته وفتاواه، فذكر في فتوى له (1) أن الناس تنازعوا في ذلك: فقوم زعموا أن أكثر أحكام أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع، بل تحتاج إلى القياس، وقوم زعموا أن جميع أحكامها ثابتة بالنص، وأسرفوا في تعلقهم بالظاهر حتى أنكروا فحوى الخطاب وتنبيهه. وقوم يقدمون القياس تارةً، لكون دلالة النص غير تامة أو لكونه خبر الواحد، وقوم يعارضون بين النص والقياس، ويقدمون النص ويتناقضون. ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة الصحيحة لا تتناقض، فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية، ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة، ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة. فان القياس الصحيح حقيقته التسوية بين المتماثلين، وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل. وفي الكتاب الذي بين أيدينا قرر المؤلف أن قياس الجمع والفرق يكون بالأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا كله من الميزان الذي أنزله الله مع رسله كما أنزل الكتاب، وإذا ثبت أن الكتاب   (1) "مجموع الفتاوى" (22/331-332) . وذكر في "منهاج السنة" (6/411-412) مذاهب الناس في هذا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 والميزان منزلان فلا يجوز أن يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح. وإنما يكون التناقض بين الحق الصحيح والباطل الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح الذي كله حق فلا يتناقض، بل يصدّق بعضه بعضًا (1) . وقال في موضع آخر (2) : إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضًا، وإن دلّ القياس الصحيح على مثل ما دلّ عليه النص دلالة خفية. فإذا علمنا بأن الرسول لم يُحَرِّم الشيء ولم يُوجِبْه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد. وذكر في فتوى أخرى (3) في هذا الموضوع أن الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد، ومن أنكر ذلك لمِ يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد. ثم مثّل بلفظ "الخمر" و"الميسر" و"الربا" و"الأيمان" وغيرها، فقال عن الخمر إنها تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنصّ العام والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلاً آخر   (1) انظر ص 272. (2) "مجموع الفتاوى" (25/236) . (3) نشرت في "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/410-415) ، وعنها في "مجموع الفتاوى" (19/280- 289) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 يوافق النصّ. ومن كان متبحرًا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدلّ على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة. وردّ في موضع آخر (1) على من يقول إن "الحشيشة" لم يرد فيها آية ولا حديث، وقال: هذا من جهله، فان القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة وقضايا كلية تتناول كل ما دخل فيها، وكلُّ ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام، وإلاّ فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص. ثمَّ ذكر أمثلة لهذه الألفاظ وشرح معانيها، منها: "الناس" و"الميسر" و"الأيمان" و"الماء" و"المشركين" و"الذين أوتوا الكتاب"، وقال: هذا وأمثاله نظير عموم القرآن لكل ما دخل في لفظه ومعناه، وإن لم يكن باسمه الخاص. ولو قُدّر بأن اللفظ لم يتناوله، وكان في معنى ما في القرآن والسنة أُلحِقَ به بطريق الاعتبار والقياس. وقد بعث الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، والكتاب: القرآن، والميزان: العدل، والقياس الصحيح هو من العدل، لأنه لا يفرق بين المتماثلين. وقد أشار المؤلف إلى هذا المعنى في الكتاب الذي بين أيدينا فقال: "وإذا كان أهلُ المذاهب جعلوا لهم قواعد يضبطون بها ما يحل ويحرم، فالله ورسوله أقدر على ذلك، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُعِثتُ بجوامع الكلم"، فهو يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة   (1) "مجموع الفتاوى" (34/206-210) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 عامة وقضية كلية تجمع أنواعًا وأشخاصًا". ثم مثل لها ببعض الأمثلة (1) . هذه النصوص المتشابهة التي عرضناها تؤكّد أن الكتاب الذي بين أيدينا من تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد فصَّل هنا ما أجمله في مواضع أخرى، ورأيه فيه هو رأيه المعروف في سائر كتاباته، وكلامُه هنا في موضوعات عديدة يُشبه كلامَه في كتبه الأخرى، كما أشرت إلى ذلك في تعليقاتي على الكتاب، فلا حاجة إلى الإعادة. وأذكر على سبيل المثال كلامه في "الاستصحاب" هنا (ص 283-287، 290-295) ، فهو موافق لما ذكره في مواضع أخرى (2) ، كما يظهر ذلك بالمقارنة، وهو هنا أكثر تفصيلا وتوضيحًا. • وصف النسخ الخطية وصلت إلينا نسختان كاملتان من الكتاب، وثلاث نسخ ناقصة تحتوي على بيان شمول النصوص في الفرائض وهو القسم التطبيقي للنظرية التي شرحها المؤلف قبله. أما النسختان الكاملتان فإحداهما في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا برقم [1336] (ق160 ب- 171 أ) ، ليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، وهي مكتوبة بخط مغربي متأخر، لعله من خطوط القرن   (1) ص 275. (2) "مجموع الفتاوى" (11/342، 13/121-122، 23/15-16، 39/ 166) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 الحادي عشر. والنسخة بحجم كبير، وعدد الأسطر في كل صفحة 33 سطرًا، ومتوسط عدد الكلمات في كل سطر 16 كلمة. ولعل هذه النسخة أصابها البلل، فانطمست بعض الكلمات في الركن الأعلى من كل ورقة. ويلاحظ في هذه النسخة أن الناسخ كثيرًا ما يكتب جزءًا من الكلمة في آخر السطر وتكملتها في السطر التالي. انظر مثلا السطر الثاني في أول الكتاب، تجد أنه كتب "موا" في آخر السطر، و"فقة" في السطر التّالي، لتصبح "موافقة"! والنسخة الثانية ضمن مجموع في الخزانة العامة بالرباط برقم [ق 209] (ص 156-178) ، كتبت في رمضان سنة 1001، بخط مغربي أيضًا. وعدد الأسطر في كل صفحة منها 27 سطرًا، ومتوسط عدد الكلمات في كل سطر 17 كلمة. وهي مرقمة الصفحات. وبعد دراسة النسختين والمقابلة بينهما ظهر لي أنهما من أصلٍ واحدٍ، فهما تتفقان كثيرًا في التصحيف والتحريف والسقط، وكلتاهما تبدأ بـ "الحمد لله وحده حقَّ حمده. وله رحمه الله تعالى فصل … ". وتنتهي بـ "والله سبحانه أعلم". وفي النسختين اضطرابٌ في الترتيب وتداخلٌ في الكلام أدَّيا إلى اختلال المعنى، وسبب ذلك أن أصلهما كان مضطرب الأوراق، فنُسِخت عنه النسختان، وانتقل إليهما هذا الاضطراب الذي يبدأ في النسخة الأولى من السطر التاسع من الورقة (168 ب) بعد قوله "فلما بطل سقوطها وفرضها"، وينتهي بالسطر السابع عشر من الورقة (169 أ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 بقوله: "رجل ذكر ... ". وكذا فيما يوافق هذا الموضع من النسخة الثانية. وهذا مما يؤكد أن أصلَ النسختين واحد. وقد اهتديتُ إلى الترتيب الصحيح لكلام المؤلف بمراجعة النسخ الثلاث الناقصة التي كانت تحتوي على تلك النصوص بسياقها الطبيعي، وهي: 1- نسخة فيسبادن بألمانيا برقم [3968] (ق 141-155) . 2- نسخة دار الكتب المصرية برقم [695] (ق98-109) . 3- نسخة المكتبة السعودية التابعة للإفتاء برقم [572/86] (ق6-14) . هذه النسخ الثلاث تتفاوت في الصِّحة، وبعضها أسوأ من بعض، فلا يمكن الاعتماد على واحدةٍ منها، لشيوع التصحيف والتحريف والسقط فيها جميعًا، كما يظهر ذلك بمقابلتها على النسختين المغربيتين. إلاّ أنها أفادت في معرفة الترتيب الصحيح لكلام المؤلف كما ذكرتُ، وترجيح بعض الكلمات الموجودة فيها إذا كان ما في النسختين لا وجهَ له أو مبنيًّا على التحريف الواضح. وكان منهجي في إثبات النصّ أن أختار من النسختين الكاملتين ما هو أصحّ وأنسب في السياق وأقرب إلى أسلوب المؤلف، وأشير إلى ما يخالفه في التعليق، ولم أذكر جميع الفروق والتحريفات، فلا فائدةَ منها في فهم الكلام، ولا يجوز نسبتها إلى المؤلف، لأن النصّ لم يصل إلينا بخطه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وإذا اطمأننت إلى صحة النص في ضوء النسختين لم ألتفت إلى النسخ الثلاث الباقية، لكثرة التحريف الواقع فيها، ولكن إذا كان النص محرَّفًا وغيرَ مفهوم فيهما رجعتُ إلى بقية النسخ في القسم الذي تحتوي عليه، وأثبت ما هو الصواب أو الراجح في نظري، مع الإشارة إلى ما في النسختين، وقد جعلت نسخة الإسكوريال هي الأصل، ورمزت لها بـ "س"، ولنسخة الخزانة العامة بـ "ع". وأشرت إلى النسخ الثلاث الناقصة بقولي "سائر النسخ" أو "بقية النسخ"، ولم أعتمد على واحدةٍ منها بعينها. وراجعت كذلك كتاب "إعلام الموقعين" لترجيح بعض الكلمات على غيرها، وقد ذكرت فيما مضى أنه يحتوي على أكثر مباحث الكتاب بالنصّ أو بالمعنى، مع زيادة التوضيح والتمثيل والتعليق. ولكني لم أثقل الهوامش بالنقل عنه، وعلى القراء والباحثين أن يراجعوه عند قراءة هذا الكتاب للمزيد من الشرح والتفصيل والبيان. وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج هذا الأثر النفيس من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأدعوه أن يجعله نافعًا للعلماء والطلاب، إنه سميع مجيب. محمد عزير شمس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 نماذج من النسخ الخطية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 النص المحقق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 بسم الله الرحمن الرحيم (صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليما. الحمد لله وحدَه حقّ حمده. وله رحمه الله تعالى:) (1) فصل في شمول النصوص للأحكام وموافقة ذلك للقياس الصحيح قال الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (2) ، وقال: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (3) . فأخبر أنه أَنزلِ مع رسوله الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقِسط. وقوله: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ) دليل على أن الميزان مما جاءت به الرسل، كما ذكر أنه أنزل الكتاب والحكمة، وأنه أوحى القرآن والإيمانَ في قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (4) .   (1) كذا في بداية النسختين س، ع. ثم "فصل قال في شمول ... ". (2) سورة الشورى: 17. (3) سورة الحديد: 25. (4) سورة الشورى: 52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وفي الصحيحين (1) عن حذيفة قال: حدَّثنا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثين، قد رأيتُ أحدَهما، وأنا أنتظر الآخر، حدّثنا أن الأمانةَ تنزل في جذْرِ قلوب الرجال، ثم نزل القرآنُ، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة. ثم حدَّثنا عن رفع الأمانة، قال: "ينامُ الرجلُ النَّومةَ، فتُقْبَضُ الأمانةُ من قلبه، فيَظَلُّ أثرُها مثلَ الوَكْتِ، ثم ينام النَّومةَ، فتُقْبَضُ الأمانةُ من قلبه، فيَظَلُّ أثرُها مثلَ المَجْلِ، كجَمْرٍ دَحْرَجْتَه على رجلِك، فنَفِطَ، فتَراه مُنْتَبِرًا وليس فيه شيءٌ" ... الحديثَ (2) . والجذر: الأصل، والأمانة: الإيمان. فأخبر أن الله سبحانه أنزل الإيمان في أصل قلوب الرجال، وقد قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الْأَمْثَالَ (17)) إلى قوله (الْأَمْثَالَ (17)) (3) . وفي الصحيحين (4) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَثَلُ ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل غَيثٍ أصابَ) أرضًا،   (1) ع: "الصحيح". والحديث أخرجه البخاري (6497، 7086) ومسلم (143) . وفي النسختين تحريف كثير في الحديث لم أشر إليه. (2) فسر البخاري غريبَ الحديث نقلاً عن أبي عبيد قال: قال الأصمعي وأبو عمرو وغيرهما: الجذر: الأصل من كل شيء، والوكت: أثر الشيء اليسير منه، والمجل: أثر العمل في الكفّ إذا غلظ. وانظر "فتح الباري" (11/ 333، 334) . (3) سورة الرعد: 17. (4) البخاري (79) ومسلم (2282) . (5) ع: "أصابت". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماء فأنبتتِ الكَلأَ والعُشْبَ الكثيرَ؛ وكانت منها طائفة أَمْسًكتِ الماءَ، فشَرِبتِ الناسُ وسَقَوْا وزَرَعُوا؛ وكانت منها طائفة إنّما هي قِيْعَان، لا تُمسِكُ ماءً (1) ، ولا تُنبِتُ كَلأً. فذلك مَثَلُ مَن فَقُهَ في ديِن الله، ونفعَه ما بَعثَني اللهُ به من الهدى والعلم، ومَثَلُ مَن لم يَرْفع بذلك رأسًا، ولم يَقْبَل هُدى الله الذي أُرسِلْتُ به ". فضربَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث مثلَ ما جاءَ به بالماء الذي يَنزِلُ على الأرض، وشَبَّه القلوبَ بالأرض، والهدى والعلم الذي أنزله الله تعالى بالماء الذي نزل على الأرض، وجعلَ الناسَ ثلاثة أقسام: قسمًا سمعوا وفقهوا وعلموا، وقسمًا حفظوه وبَلَّغُوا غيرَهم فانتفعوا به، وقسمًا لا هذا ولا هذا. هذا المثل يُطابق المثلَ الذي في القرآن (2) ، حيثُ شبَّه الله القلوبَ بالأودية التيَ منها كِبار تَسَعُ ماءً كثيرًا، وصغار لا تَسَعُ إلاّ ماءً قليلا، كما أن القلوبَ منها ما (3) تَسَعُ علمًا عظيمًا، ومنها ما لا تَسَعُ إلاّ دُونَ ذلك، وأن الماءَ بمخالطة الأرض يحتمل زبداً رابيًا لا   (1) ع: "الماء". (2) في الآية التي سبق ذكرها، وهي قوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)) [سورة الرعد:17] . (وانظر "مجموع الفتاوى" (10/ 766) . (3) "ما، ساقطة من ع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 ينفع، كذلك العلم الذي نزل على القلوب يحتمل من الشهوات والشبهات بسبب مخالطته الأنفس ما يكون كالزبد الذي لا ينفع. وبين أن الزَّبَد الذي يذهبُ جُفَاء فيخفى، وما ينفع الناسَ يمكث في الأرض، كذلك العلم في القلوب ما ينفع الناس. وقال تعالى: (كَذَلِكَ يَضرِبُ اللهُ اَلأَمثَالَ (17)) ، فأخبر أن هذا مثلٌ مضروب. وقال تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا) (1) . وقال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) (2) . فبين أنه يُلْهِم المؤمنين (3) الإيمان وما ينفعهم، وذلك إيحاء إليهم وإن لم يكونوا أنبياء. . وفي الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمر". وفي المسند والترمذي (5) حديث النّواس بن سمعان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ضَربَ الله مثلاَ صراطاً مستقيمَاً، وعلى جَنْبَتَي الصراط   (1) سورة المائدة: 111. (2) سورة القصص: 7. (3) في النسختين: "أنهم يلهم كذا المؤمنين"، وهو خطأ. (4) البخاري (3469، 3689) عن أبي هريرة، ومسلم (2398) عن عائشة. (5) أخرجه أحمد في "المسند" (4/182، 183) والترمذي (2859) وقال: حديث غريب. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/73) وقال: صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (1/73) . وفي النسختين تحريف كثير في الحديث لم أشر إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 سُوْرَان فيهما أبواب مفتَّحة، وعلى الأبواب ستورٌ مُرْخَاة/ [161/أ] ، وعلى رأس الصراطِ داع يدعو، يقول: يَا أيها الناس! ادخلوا الصراطَ جميعًا ولا تخرجًوا، وداع يدعو من جَوْفِ الصّراطِ، فإذا أراد أحدٌ أن يَفتَح شيئًا من تلك الأبواب قال: وَيْحَكَ لا تَفْتَحْه، [فإنك إن تفتحه] (1) تَلِجْه ". وفي رواية (2) : "فلا يقع أحدٌ في حدود الله حتى يكشف الستْرَ". قال: والصراط: الإسلام، والسوْرَانِ: حدود الله تعالى، والأبواب المفتَحة: محارم الله، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي في جوف الصراط: وَاعِظُ الله في قلبِ كلِّ مسلم". فبيَّن أن في قلب كل مؤمنٍ واعظًا يَعِظُه، والوعظ هو الأمر والنهي، ترغيبٌ وترهيب (3) ، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ) [أي يؤمرون به] (4) (لكان خيراً لهم) (5) . وقال تعالى: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)) (6) أي ينهاهم، وذلك يُسمَّى إلهامًا ووحيًا. وأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان، وقد قال كثير من السلف:   (1) ما بين المعكوفتين زيادة من "المسند". (2) هي الرواية الثانية في "المسند" (4/183) . (3) انظر نحو هذا الكلام في "مجموع الفتاوى" (20/45) . (4) ما بين المعكوفتين ساقط من س. (5) سورة النساء: 66. (6) سورة النور: 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 الميزان: العدل (1) ، وقال بعضهم: الميزان اسم لما يُوزَن به، والمقصود به العدل، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (2) . فأخبر أن المقصود بإنزال ذلك أن يقوم الناس بالقسط. فدلّ ذلك على أنه أنزل في القلوب من الميزان ما يعلم [به] (3) القسط. ومن ذلك: الاعتبار، وهو اعتبار الشيء بنظيره، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في دية الأصابع: هلاّ اعتبرتموها بدية الأسنان؟ (4) يعني إذا كانت ديتها واحدةً مع اختلافِ منافعها، فكذلك الأصابع ديتها واحدة مع اختلاف منافعها، كما أن النفوس مختلفة الفضائل مع (5) أن ديتَها واحدة، إذْ (6) كان جَعْل (7) الديات المقررة بالشرع مختلفةً باختلاف التلف أمرًا (8) لا يقدر البشر على معرفته وضبطه، وما عجزوا عن العلم به سقطَ عنهم الأمر به، كما يسقط فيما يعجزون عن العمل به.   (1) انظر "تفسير القرطبي" (17/260) و"تفسير ابن كثير" (4/337) وغيرهما. وتكلم عليه المؤلف في "مجموع الفتاوى" (12/249، 35/366) . (2) سورة الحديد: 25. (3) ساقطة من النسختين. (4) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/862) ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/90) . وانظر "فتح الباري" (12/226) . (5) س: "من "تحريف. (6) س: "إذا". (7) س: "عقل". (8) ع: "أمر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 ولهذا قال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (1) . فبيَّن أنه لا يكلف النفوس (2) إلاّ وسعها، لا يكلّفها من القسط الذي أُمِروا به ما يعجزون عن معرفته، ولهذا يقال: هذا أمثل من هذا وأشبه، أي أقرب إلى العدل الثابت في نفس الأمر، الذي لا يمكنُ العبادَ معرفتُه، وإنما كلِّفوا من ذلك ما يُطيقونه، وهو الأقرب إليه. ولهذا يقال لمثل هذه الطريقة: المُثْلَى، ثم كل قوم يسمون ما يرونه أقربَ إلى العدل: الطريقة المُثْلَى، ويقولون: هذا أمثل، كما قاله فرعون: (ويذهبا بطريقتكم المثلى (63)) (3) . ولهذا كان ضَمَانُ النفوس والأموال مبناهُ (4) على العدل، كما قال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (5) ، وقال (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (6) ، وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم) (7) . والتماثل المأمور به معتبرٌ (8) بحسب الإمكان، والاجتهادُ في   (1) سورة الأنعام: 152. (2) س: "أن النفوس". (3) سورة طه: 63. (4) "مبناه" ساقطة من ع. (5) سورة الشورى: 40. (6) سورة النحل: 126. (7) سورة البقرة: 194. (8) س: "معتبرا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 معرفة التماثل هو من باب الاجتهاد الذي اتفق عليه العلماء: مُثبِتو القياس ونُفَاتُه، وقد يكون في نوع من الأنواع، وقد يكون في عيني معيَّنه، ويُسمَّى تحقيق المناط. كَاختلافهم في المظلوم بالضرْب واللَّطْم ونحوِ ذلك (1) ، مما لا (2) يُمكِن فيه أن يفعل بخصمه مثل ما فعل به من كل وجه. فأيما أقربُ إلى العدل: أن يُقتَص منه، ويُعتَبر التماثل بحسب الإمكان، كما كان (3) الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة يفعلون ذلك، وهو المنقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) ؛ أو أن يُعزَّر الظالم تعزيرًا يُرَدُّ إلى اجتهاد الوالي؟ على قولين. والأول هو المنصوص عن أحمد، وهو قول جمهور السلف، والثاني قول طائفة من متأخري أصحابه، وهو المنقول عن أبي حنيفة ومالك والشافعي، قالوا: لأنه لا يمكن فيه المماثلة، والقصاص لا يكون إلاّ مع المماثلة. ونَظَرُ (5) الأول أكمل (6) ، وهم أَتبعُ للكتاب والميزان للنصّ   (1) انظر "إعلام الموقعين" (1/318 وما بعدها) ، و"السنن الكبرى" للبيهقي (8/65- 66) . (2) "لا" ساقطة من س. (3) س: "قال". (4) أخرجه البخاري (6894 ومواضع أخرى) ومسلم (1675) عن أنس. (5) س: "نظير" تحريف. (6) انظر كلام المؤلف على هذا الموضوع في "مجموع الفتاوى" (11/547- 548، 18/168- 169، 20/564- 565، 28/379- 380، 34/162- 163، 227، 232) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 والقياس، لأن المماثلة [من كل] (1) وجهٍ متعذرة، فلو لم يبقَ إلاّ أحدُ أمرينِ: قصاصٌ قريب إلى المماثلة، أو تعزير بعيد عن المماثلة، فالأول أولى؛ لأن التعزير لا يُعتَبر فيه جنس الجناية ولا قدرُها، بل قد يُعزره بالسَّوط أو العصا، وتكون إما لَطمة بيده، وقد يزيد وينقص، وكانت العقوبة بجنس ما فعلَه،/ [161/ب] وتَحرِّيْ المماثلة (2) في ذلك بحسب الإمكان في ذلك أقربُ إلى العدل الذي أمر اللهُ به، وأنزل له الكتابَ والميزان. وكذلك تنازعً العلماءُ في المُتْلَف من المال (3) ، إذا لم يُوجَد مثلُه من كل وجهٍ، كالحيوان والآدميين والعقار والثياب والأبنية، وأكثر المعدودات والمذروعات، فمنهم من قال: لا يجب في ذلك إلاّ القيمة بنقد البلد، فيُعطَى المظلومُ الذي فُوتَ عليه حَفُه من الدراهم ما يُقاوَم به ذلك في الشُوق (4) . وقالوا: لأن المثل في الجنس متعذر. ثمَ مِن هؤلاء مَن طَردَ قياسَه، فقال: وكذلك إذا تلف صيده في الحرم والإحرام، إنما تجب قيمتُه كما لو كان مملوكًا، وقالوا: لا يجوز قَرضُ ذلك، لأن موجب القراض ردّ المثل، وهذا لا مثلَ   (1) ساقطة من النسختين، والاستدراك من "إعلام الموقعين" (1/321) . (2) "وتحري المماثلة" مطموسة في س. وفي ع: "تجري" تصحيف. (3) انظر "مجموع الفتاوى" (30/332- 333، 18/169) ، و"إعلام الموقعين" (1/322) . (4) ع: "ما يقاربه ذلك المسروق"! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 له، فلا يجوز قرضه، وهذا قول أبي حنيفة. ومنهم من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد، لدلالة الكتاب والسنة وآثار الصحابة على أن الصيد يضمن بمثله من النَّعَم (1) ، وهو مثل مُقَيَّد بحسب الإمكان، ليس مثلاً من كل وجه، وهو في النعامة بدنة، وفي بقرة الوحش بقرة، وفي الظبي (2) شاة. وهذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء يجوِّزُون (3) قرض الحيوان أيضًا (4) ، لأن السنة دلَّت عليه، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف بَكْرًا، وقضى جَملاً خِيَارًا رَبَاعِيًّا، وقال: "إن خياركم أحسنكم قضاء". ثمّ (6) من هؤلاء من قال: إن [كان] (7) القرضُ حيوانًا رد قيمته، طردا للقياس أصله في الإتلاف، فإنه قال: كما يضمن في   (1) قال تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: من الآية95] . وفي السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الضبع بكبش. وانظر، مجموع الفتاوى" (20/352- 353) . (2) س، ع: "الضبي" تحريف. (3) س: "لا يجوز" خطأ. (4) انظر "مجموع الفتاوى" (29/532) و"إعلام الموقعين" (1/322) . (5) مسلم (1600) من حديث أبي رافع. ورواه أيضًا مالك في "الموطأ" (2/680) وأحمد (6/390) والدارمي (2568) وأبو داود (3346) والترمذي (1318) والنسائي (7/291) وابن ماجه (2285) . (6) ع: "لكن". (7) زيادة على النسختين ليستقيم السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 الغصب والإتلاف بالقيمة، فكذلك (1) في القرض، إذ لا مِثْلَ له. وهذا قولٌ في مذهب أحمد وغيره، وقال الأكثرون: بل يجب المثل من الحيوان بحسب الإمكان، كما دلّت عليه السنة، وهذا هو المنصوص عن الأئمة. واختلفت (2) أقوالهم في الغَصْب والإتلاف، فتارةً يقولون: يضمن بالقيمة، وتارةً يقولون: يضمن ما سوى الحيوان بالقيمة، وتارةً يقولون: بل الجميع يضمن بالمثل بحسب الإمكان. وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد. وقد اختلف في ذلك قول (3) مالك والشافعي أيضًا، فقال الشافعي في الجدار المهدوم ظلمًا: يُعادُ مثلُه، وقال في مواضع: يضمن بالقيمة. ولم يكن مع من يوجب القيمة في الإتلافِ من النصوص إلاّ قولُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) : "من أعتقَ شِركا له في عبدٍ، وكان له من المال ما بلغَ ثمنَ العبد، فقُوِّمَ عليهِ قيمةَ عدلٍ، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وأُعْطِيَ شُركاؤُه حِصَصَهم، وعَتَقَ عليه العبدُ". قالوا: فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجبَ في نصيب الشريك القيمةَ، ولم يُوجِبْ نصفَ عبدٍ، ولو كان العبد يضمن بالمثل لأوجبَ نصف عبد.   (1) س، ع: "وكذلك". (2) س: "واختلف". (3) س: "يقول". (4) أخرجه البخاري (2521- 2525 ومواضع أخرى) ومسلم (1501 وبعد رقم 1667) عن عبد الله بن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وهذا غلطٌ على الشارع، فإن هذا ليس من باب ضمانِ المتلف، بل هو من باب تملك ملك (1) الغير بالقيمة، فإنّ نصيبَ الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه بعد ذلك، لا يتلفه قبل أن يملكه (2) ، بخلاف ما لو قتله، فإن ذلك إتلاف. والعلماء القائلون بالسراية متفقون على أنه يعتق على ملك الغير والولاء (3) دون الشريك. وتنازعوا هل يَسْرِيْ عَقِبَ الإعتاق، أو لا يُعْتَق حتى يؤدي الثمن؟ على قولين مشهورين لهم: الأول هو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، والثاني قول مالك، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل (4) ، كما قد بُسِط في موضعه (5) . وعلى هذا فإذا أدَّى هل يُعْتَق من حينِ الأداء، أو يتبيّن أنه عتق من حين الإعتاق؟ على قولين. وعلى هذا يَنْبني لو أعتقَ الشريكُ نصيبَه بعد عتق الأول، فعلى القول الذي ذكرنا أنه الصحيح يجوز عتقُه، وعلى الآخر لا يجوز. وعلى هذا يَنْبني إذا قال أحدُهما: إذا أعتقتَ نصيبَك (6) فنصيبي حر، فعلى القول الذي بينا رجحانَه يصحُّ هذا التعليقُ، ويُعْتَقُ   (1) كذا في النسختين، وفي "الإعلام" (1/324) : "ممال". (2) ع: "يملك". (3) ع: "ما لو كان". (4) ع: "في القولين". (5) انظر "مجموع الفتاوى" (13/231- 232) . (6) ع: "أعتق نصيبه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 نصيبُ الشريكِ المعلقُ من مالِه، وعلى القول الآخر لا يصحُّ التعليقُ، ويُعْتَقُ كفُه من نصيب المعتق إن كان مُوسِرَا، وإن كان المعتق مُعسِرَا صحّ وعَتَقَ عليهما على القولين. وأيضا فإنه يُفرَّق بين أن يكون المُتْلَفُ (1) عينَا كاملة أو بعضَ عينِ، فإذا كان/ [162أ] ، المتلف (2) بعضَ عينٍ فإنه إن وجب نُظِرَ ذلك الجزءُ، لكن بحسب القيمة إذا طلبها الشريكُ، فإن كان المشتركُ (3) مما ينقسم عنه، وإلّا بيْعَ إذا طلب أحدُهما ذلك، وقسمَ الثمنُ، فلو أتلفَ أحدُ الشريكينَ عينَا مشتركة تُمكِنُ قسمتُها، فالواجب جز مقسوم لا مُشاع إذا طلب أحدُهما ذلك، وإن تراضيا بالشركة وَجَبَ جزءٌ مشترك، وإن كان مما لا تُمكِن قسمتُه فإنما يَجِبُ نصفُ عينٍ إذا تراضيا بذلك، وإلّا وَجَبَ نصفُ القيمة لأجلِ وجوبِ القيمةِ. والمقصود هنا أن الذين يُوجبون في ضمان المُتْلَفِ القيمةَ ليس معهم أصلٌ يُقِيمون (4) عليه قولًهم، لا كتاب ولا سنَّة، وإنما هو رأي محض، ظَنوا أن المثلَ إنما يكون في القيمة. ثمَ مَن طَردَ منهم قياسَه ظهر تناقضُه (5) للكتاب والسنة، ومن لم يَطْرده ظهر مناقضتُه   (1) ع: "التلف" (2) ع: "التلف". (3) "فإن كان المشترك" مطموسة في س. (4) ع: "يقيسون". (5) س: "مع تناقضه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 ومخالفته لبعض النصوص أيضًا. وهذا الأصل هو الحكومةُ المذكورة في كتاب الله (1) ، التي حكَمَ فيها داودُ وسليمانُ إذ حَكَما في الحرث الذي نَفَشَتْ فيه غنَمُ القوم، والحرث هو البستان، وقد روي أنه كان بستانَ عنَبٍ الذي يُسمَّى الكَرْمَ، ونَفْشُ الغنمِ إنما يكون بالليل، فقضى سليمانُ بالضمان على أصحابِ الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يَعْمُروا البستانَ حتى يعودَ كما كان. وأما مُغَلُّه مِن حِيْنِ الإتلافِ إلى حينِ الكمالِ فأعْطَى أصحاب البستان ماشيةَ أولئك، ليأخذوا من نمائِها بقدر نماءِ البستانِ، وقد اعتبرَ النَّماءَيْنِ فوجدهما سواءً. كما أن داود لمّا حكمَ لأصحاب البستانِ بالغنم نفسِها قد اعتبر قيمتَها، فوجدَها بقدر ما أُتْلِف (2) من البسمتان، ولم يكن لهم مالٌ غيرُها، وقد رَضُوْا بأخذِها ما لم يُطالبوا بدراهم، أو تعذَّر بيعُها بدراهم. وقد تنازع علماءُ المسلمين في مثلِ هذه القضية على أربعة   (1) قال تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [سورة الأنبياء: 78- 79] . وقد تكلم المؤلف على قصة داود وسليمان هذه في "مجموع الفتاوى" (20/ 305- 306، 563- 564، 30/333) . (2) ع: "قيمة التلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 أقوال (1) : فمنهم مَن حَكَم بمثلِ حُكم (2) سليمان عليه السلام في النَفْشِ وفي المثل، وهذا هو الصواب، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد ذُكِر (3) ذلك وجهًا في مذهب الشافعي ومالك. والثاني: موافقتُه في النَّفْشِ دون المثل، وهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد. والثالث: بالعكس، وهو موافقتُه في المثل دونَ النَّفْشِ، وهو قولُ من قاله من أهل الظاهر كداود وغيره. والرابع: أن النفْشَ لا يُوجِبُ الضمانَ، ولو كان لم يكن بالمثل بل بالقيمة، وهو مذهب أبي حنيفة. وهذا من اجتهاد العلماء في القياس والتمثيل الذي اتفقوا على صحةِ أصلِه، فإنهم متفقون على ما دلَّ عليه القرآن من أن جزاءَ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها، وأن المعاقبةَ تكون بالمثل، وأنّ من اعتدى يعتدى عليه بمثل ما اعتدى (4) . فما كانت المماثلةُ فيه ظاهرةً لم يتنازعوا فيه،   (1) انظر "إعلام الموقعين" (1/326) . (2) "حكم" ساقطة من س. (3) ع: "ويذكر". (4) قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [الشورى: 40] , وقال: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [سورة النحل: 126] ، وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 كما لو أتْلَفَ مَكِيلاً أو موزونًا متماثلَ الأجزاءِ، كالدرهم والحِنْطة ونحو ذلك، فإن الواجبَ هنا المِثْلُ إذا أمكن. وكذلك يجبُ في القرضِ مِثْلُ ذلك. وكذلك لم يتنازعوا فيما ظَهرتْ فيه المماثلةُ في القصاص، كما لو قَطَعَ عُنُقَه بالسيف، فاتفقوا على أنه يُقْطَعُ عنقُه بالسيف. ولكن تنازعوا فيما إذا قتلَه بالجرحِ في غيرِ العنقِ، أو بغير القتلِ كالتحريق والتغريق (1) : هل يُفْعَل به كما فَعَل- كما يقوله مالك والشافعي وأحمد في (2) إحدى الروايات-؛ أو لا قَوَدَ إلاّ بالحديد في العُنُق- كقول أبي حنيفة واْحمد في إحدى الروايات-؛ أو يُفرق بين الجرح المُزْهِق وغير المُزْهق- كالرواية الثالثة عن أحمد-؛ أو بين المُزْهق وما كان مُوجبًا للقَوَدِ بنفسِه كقطع اليد، وبين ما ليس من هذين النوعين- كالرواية الرابعة عن أحمد-؟ فهذا من اجتهاد العلماء في (3) تحقيق القياس والعدل والتماثل الذي اتفقوا على اعتبارِه، متى (4) تعذرتِ المماثلةُ المطلقةُ من كل وجه. والذي يدكُ عليه النصُّ والاعتبار الصحيحُ هو القول الأول، وهو أن يُفعَل به كما فَعَلَ، فإن ماتَ بذلك، وإلّا قُتِل، فإن النبي   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (18/168, 20/351-352, 28/314, 381) ، و"إعلام الموقعين" (1/327) . (2) "في" ساقطة من س. (3) "في" ساقطة من س. (4) س: "حتى" تحريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ برَضْخِ رأسِ اليهوديِّ الذي رَضَخَ رأس الجارية، لما اعترفَ بأنه قتلَها (1) ، وكان/ [162ب] هذا قَتْلاً بالقصاصِ لا بِنَقْضِ العَهْدِ، إذْ لو قَتَلَه بمجرد نقضِ العهد- كما يُقْتَل الحربيُّ الأسِيْرُ- لقَتَلَه في العنق. وأيضًا فالعدلُ في أن يُفْعَلَ به كما فَعَلَ أقربُ من أن تُضْرَبَ عنقُه بالسيف، مع كونه حَرَّقَ الأولَ، أو قَطَعَ أربعتَه، أو مَثلً به. وقد أباحَ اللهُ أن نُمَثلِّ بمن مَثَلَ بنا، وإن كانت المُثْلَةُ بدون ذلك منهيًّا عنها بقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (2) ، فدلَّ على أن التمثيلَ بجَدْعِ الأنفِ والأذنِ هو من العقوبة بالمثل. وإذا قِل: هذا يُفضِي إلى أن يُؤخذ أكثر. قيل: وما ذكرتم يُفضِي غالبًا إلى (3) أن يُؤخَذَ أنْقَص من الواجب. وهذا أقربُ إلى المماثلة، فإنه يكون تارةً أكثرَ، وتارةً يكون أنقصَ، ولكن هذا أقرب إلى العدل من الذي يكون دائمًا أنقص. وإذا قيل: في غير الجرح المزهق ربما نقص منه، فيُفضي إلى جرحه مرتين.   (1) أخرجه البخاري (6876، 6884 ومواضع أخرى) ومسلم (1672) عن أنس بن مالك. (2) سورة النحل: 126. (3) "إلى" ساقطة من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 قيل: لو ضربه في العنق فلم يَمُتْ (1) ، كان له أن يضربه ثانيةً بالاتفاق، وإن كان في ذلك ضرب مرتين، لأن هذا أقربُ إلى العدل. والمقصودُ بهذا أن ننبه على أن الناسَ يتنازعون في التماثل الواجب، حيث اتفقوا على وجوب المثل، وأن الاجتهادَ في مثل هذا متفق عليه، فكذلك التماثلُ في غير هذا يتنازعون فيه، وذلك مما يدل على أن تنازعُ الناسِ في كثير من القياس لا يَمنعُ أن يكونَ أصل القياسِ- الذي يُقاس فيه الشيءُ بمثلِه وضدِّه- قياسًا صحيحًا، فاعتبارُه بمثله يُوجِب قياسَ الطَرْدِ الذي يُوجِب التسويةَ بينهما، واعتبارُه بضده يُوجب قياسَ العكس الذي يوجب تَضَاد حكمهما. كما إذا اعتبرنا دم السمكِ الذي (2) تُباح ميتتُه بدمِ ما لا تُباح ميتتُه، فقلنا: يجب أن نفرَق بين الدمين، لأن ذلك لا يُبَاحُ إلاّ بسَفْحِ دَمِه، وهذا يُبَاحُ بدون سَفْحِ دَمِه، فدل على افتراقِ حكم الدميْنِ. وكذلك الوتر لما ثبتَ بالسنة الصحيحة أنه يُصفَى على الراحلة (3) ، ثبتَ بذاك الفرقُ بينَه وبينَ الواجباتِ التي لا يجوز فعلُها على الراحلة، فعُلِم أنه مُفارِق لها لا مماثل لها. والطَرْدُ هو قياسُ الجمع، والعكسُ هو الفَرْقُ، والجمع والفرقُ   (1) س: "يرجه"، والمثبت من ع. (2) س: "التي". (3) أخرجه البخاري (999، 1000 ومواضع أخرى) ومسلم (700) عن ابن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 يكون بالأمور المعتبرة في الجمع، فيُجْمَعُ بين ما جمع الله بينه، ويكون الجمعُ والفرقُ بالأوصافِ المعتبرةِ في حكم الله ورسوله. فهذا كفُه من الميزان الذي أنزلَه (1) الله مع رسوله (2) ، كما أنزلَ اللهُ الكتابَ.   (1) س: "أنزلها". (2) ع: "رسله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 فصل وإذا تبيَّن أن الكتاب والميزان مُنْزَلاَن، فلا يجوز أن يناقض الكتاب بتناقض الميزان (1) ، ولا يتناقض الكتابُ والميزانُ، فلا تَتناقَضُ دلالةُ النصوص الصحيحة لا دلالةُ الأقيسة الصحيحة، ولا دلالةُ النص الصحيح والقياس الصحيح، وإنما يكون التناقضُ بين الحق الصحيح واالباطلِ الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح الذي كلُه حقّ فلا يتناقض، بل يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا. وقد بسطنا هذا المعنى في مواضع (2) . والمقصود هنا أن نقول : النصوصُ محيطةٌ بجميع أحكام العبادِ، فقد بيَّن الله تعالى بكتابه وسنة رسوله جميعَ ما أمر الله به وجميعَ ما نهَى عنه، وجميعَ ما أحلَّه وجميعَ ما حرَّمَه، وبهذا أكملَ الدينَ، حيث قال: (اليوم أكملت لكم دينكم) (3) . ولكن قد يَقْصُر فَهْمُ كثيرٍ من الناس عن فَهْمِ ما دلَّت عليه النصوصُ، والناسُ   (1) كذا في النسختين. وفي "إعلام الموقعين" (1/331) : "وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه". وهو أوضح في الدلالة على المقصود. (2) أشرتُ إليها في المقدمة ص 239. (3) سورة المائدة: 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 متفاوتون في الأفهام، ولذلك قال تعالى: (فَفَهَّمنَاها سليمان) (1) ، ولو كان الفهم متماثلاً لما خصَّ به. وكذلك في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري: "الفَهْمَ الفَهْمَ فيما أُدْلِيَ إليك" (2) . وفي الحديث الصحيح (3) عن علي رضي الله عنه: "إلاّ فهمًا يُؤتيْهِ اللهُ عبدًا في كتابه". وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (4) وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلَمَنا برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي الصحيح (5)   (1) سورة الأنبياء: 78. (2) كذا في س، ع. وفي عامة المصادر: "فافهم إذا أدلي إليك". أخرجه وكيع في" أخبار القضاة" (1/70، 283) والدارقطني في "السنن" (4/207) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/65، 10/115، 119، 135، 253) وابن حزم في "المحلى" (9/ 393) و"الإحكام في أصول الأحكام" (7/146) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/200) وابن عبد البر في "الاستذكار" (22/30) من طرق عن سفيان بن عيينة عن إدريس الأودي قال: أخرج إلينا. سعيد بن أبي بردة كتابًا، فقال: "هذا كتاب عمر إلى أبي موسى. قال الألباني في "الإرواء" (8/241) : قوله "هذا كتاب عمر" وجادة، وهي وجادة صحيحة من أصح الوجادات، وهي حجة. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المحلّى" (1/60) ، وقواه شيخ الإسلام في "منهاج السنة" (6/71) . وله طرق أخرى ذكرها الألباني وتكلم عليها. وشرحه ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/86 إلى 2/165) . (3) أخرجه البخاري (111، 6903، 6915 ومواضع أخرى) . ورواه أيضًا أحمد (1/79) والدارمي (2361) والنسائي (8/23) والترمذي (1412) وابن ماجه (2658) . أخرجه البخاري (466، 3654، 3904) ومسلم (2382) . أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده" (1/266، 314، 328، 335) عن= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا لابن عباسٍ رضي الله عنه فقال: "اللهم فَقَهْه في الدين وعَلمْه التأويلَ". لكن الناس صاروا هنا ثلاثةَ أقسام (1) : (1) قوم من مُثبِتَةِ القياس قالوا: إن النصوص لا تُحيط بأحكام الحوادث، وغَلاَ منهم من قال: ولا بعُشُرِ مِعْشارِ الحوادث (2) ، وقال بعضهم: إن النصوصَ متناهية، وحَوادث العبادِ غير متناهية، وإحاطة/ [163أ] المتناهي (3) بغير المتناهي ممتنع (4) . وهذا خطأ (5) ، لأن ما يتناهَى لا يَمتنعُ أن يُجْعَلَ أنواعًا،   = سعيد بن جبير عن ابن عباس. والحديث بنحوه مختصرًا عند البخاري (143 ومواضع أخرى) ومسلم (2477) عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس. (1) انظر "إعلام الموقعين" (1/333) . (2) قال الجويني في "البرهان" (2/768) : "إن تسعة أعشار الفتاوى والأقضية صادرة عن الرأى المحض والاستنباط، ولا تعلق لها بالنصوص والظواهر". وانظر ما قاله في (2/764، 1166) . (3) س: "المتناهية". (4) قال الشهرستاني في "الملل والنحل" (1/199) : "تعلم قطعاً ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعدد، ونعلم قطعَا أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نصٌ، ولا يتصور ذلك أيضًا. والنصوص إذا كانت متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلِم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار، حتى يكون في كل حادثة اجتهاد". (5) انظر "المسودة": 374، و"إعلام الموقعين" (1/333) ، و"مختصر" ابن اللحام: 151، و"شرح الكوكب المنير" (4/224) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 فيُحْكَمَ (1) لكل نوع منه بحكيم، والأفرادُ التي لا تَتناهى تدخلُ تحت (2) تلك الأنواع. هذا إن قُذَر وجودُ ذلك، مع أن أنواعَ الأفعالِ بل والأعراض كلها متناهية، ولو قُذَر أنها لا تتناهى فأفعالُ العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية. وهذا كما يُجْعَلُ الأقاربُ نوعينِ: نوعَا مباحًا، وهن بناتُ العمَ والعمَّةِ وبنات الخالِ والخالة، وما سوى ذلك حرامٌ. وكذلك يُجعَل ما يَنقُض الوضوءَ محصورًا (3) ، وما سوى ذلك لا يَنقُض الوضوءَ. وكذلك ما يُفسِد الصومَ محصورًا (4) ، وما سوى ذلك لا يُفسِدُه، وأمثال ذلك. وإذا كان (5) أهلُ المذاهب جعلوا لهم قواعدَ (6) يضبِطون بها ما يَحِلُّ ويَحْرُمُ، فاللهُ ورسولُه أقدرُ على ذلك، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُعِثتُ بجوامع الكلمِ" (7) ، فهو يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة عامةٌ وقضيةَ كلّيةٌ تَجمع أنواعَا وأشخاصَا (8) ، كقوله لما سُئِل عن أنواع الأشربة كالبِتع والمِزْرِ، وكان قد أُوتيَ جوامعَ   (1) س: "أنواعه محيطة"، والتصويب من ع. (2) س: "تحته"، وهو خطأ. (3) في النسختين: "محظورا"، والتصويب من إعلام الموقعين. (4) في النسختين: "محظورا" كالسابق. (5) س: "ولذلك كانوا"، ع: "ولذلك كان". والتصويب من إعلام الموقعين. (6) ع: "لأهل المذاهب جداول لهم وقواعد". (7) أخرجه البخاري (2977، 7013، 7273) ومسلم (523) عن أبي هريرة. (8) انظر "مجموع الفتاوى" (19/280 وما بعدها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 الكلم، فقال: "كل مُسكرِ حرام " (1) . والكتاب والسنة مَلَانُ (2) من هذا (3) ، كقوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (4) ، وقوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) (5) ، وقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (6) ، إلى غير ذلك من النصوص. (2) وقومٌ من نُفاةِ القياس نَفَوا القياسَ الجليَّ الظاهر، حتّى فَرَّقوا بين المتماثلين، وزعموا أنّ الشارعَ لم يَشرع شيئَا لحكمةِ أصلاَ، ونَفَوا تعليلَ خلقِه وأمرِه، فقالوا: إنه لا يَخلُق ولا يأمُر لحكمة ولا لنفعِ عبادِه. وهذا الأصل وإن كان قد قاله طائفةٌ من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، وخالفوا القدريةَ في إثبات القدر، فهم وإن أصابوا في إثبات القدر، وبَينُوا تناقضَ المعتزلة النفاةِ للقدر، فقد رَدُّوا أيضًا من الحق المعلوم بالشرع والعقل ما (7) صاروا به   (1) أخرجه البخاري (4343، 4344 ومواضع أخرى) ومسلم (1733 وبعد رقم 2001) عن أبي موسى الأشعري. (2) كذا في س، ع. ولعله "مليئان". (3) انظر أمثلة من هذا في "مجموع الفتاوى" (19/281- 285، 34/207- 209) و"إعلام الموقعين" (1/333- 335) . (4) سورة المائدة: 90. (5) سورة التحريم: 2. (6) سورة الشورى: 2. (7) س: "مما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 ممن رَدَّ بدعةً ببدعةٍ، وقابلوا الفاسدَ بالفاسدِ، فإنهم أنكروا حكمةَ الله تعالى في خلقه وأمره، وأنكروا رحمتَه في خلقه وأمره. وأصلُ قَولهم هو قولُ جهم بن صفوان ومن وافقه على قوله في القدر، كما قد بُسِط الكلام عليهم في غير هذا الموضع (1) ، فإنّ القدريةَ من المعتزلة ونحوهم والجهمية الجبرية تناقضوا في هذا الباب تناقضًا بيِّنًا، والسنّة وَسَط، ليست مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. وهؤلاء صاروا في القياس نوعين: قوم (2) اقروا به، كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم من الفقهاء، وقالوا: إن عِلَلَ الشرع إنما هي مجرد (3) أماراتٍ محضة وعلاماتٍ، كما قالوا ذلك في سائَر الأسباب، فقالوا: إنّ الدعاء إنما هو علامة محضة، والأعمال الصالحة إنما هي علامات، وكذلك سائر ما وجدوه من (4) الخلق والأمر مقترنًا بعضُه ببعضٍ، قالوا: أحدهما دليل على الآخر لمجرد الاقترانِ والعادةِ الموجودةِ في خَلْقِه وأمرِه، لا (5) لأنّ أحدهما سبب للآخر، ولا علة له ولا حكمة، ولا له فيه تأثير بوجهٍ من الوجوه (6) .   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (8/466 وما بعدها، 16/130- 133) . (2) س: "قوما". (3) س: "مجردات". (4) في النسختين: "في"، والتصويب من إعلام الموقعين (1/336) . (5) "لا" ساقطة من س. (6) انظر "مجموع الفتاوى" (8/485- 486) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 وأما الفقهاء المعتبرون وسلفُ الأمة وأئمتُها وجمهورُها وجمهورُ متكلميها فعلى خلاف [هذا] (1) القولِ، وإثباتِ الحكمة والرحمة في خلقِه وأمرِه، وإثباتِ لامِ كَيْ في خلقِه وأمرِه، كما دَلَّ على ذلك الكتابُ والسنةُ مع المعقول الصريح، فاتفق على ذلك الكتابُ والميزانُ والسلفُ والفقهاءُ. وجمهورُ الأئمة وأكثرُ طوائفِ الكلام يُنكِرون (2) قولَ المعتزلة المكذبين بالقدر، وقولَ هؤلاء الجهمية المكذبين بالحكمة والرحمة، فلا يقولون بقول القدرية ولا قول الجهمية. وعامةُ البدع الحادثة بالمعقول الفاسد (3) في أصول الدين هي من قول هاتين الطائفتين: الجهمية والقدرية، فالجهمية هم رءوس الجبرية الذين أنكروا حكمتَه ورحمتَه، والقدرية أنكروا قدرتَه ومشيئتَه، فأولئك أثبتوا له نوعَا من الملك بلا حَمْدِ، وهؤلاء أثبتوا له [نوعًا] (4) من الحمد بلا ملك. والصوابُ ما عليه سلفُ الأمة وأئمتها وأهلُ السنة والجماعة: أنه سبحانه/ [163ب] له الملك وله الحمد، بل له كمالُ الملك وله كمالُ الحمد. وكلتا (5) الطائفتين ناظرتِ الفلاسفةَ الدهريةَ في خَلْقِ الرب   (1) زيادة على النسختين ليستقيم السياق. (2) س، ع: "منكرون". (3) ع: "بالعقول الفاسدة". (4) الزيادة من "إعلام الموقعين" (1/336) . (5) س: "كلا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وأفعالِه وأقوالِه وحدوثِ العالم مناظرةً فاسدةً، تنبني (1) على مقدِّماتٍ مخالفةٍ للشرع والعقل، وهم يَظُنون أنهم يوافقون الشرعَ والعقلَ، ف لا للإسلام نَصَرُوا ولا للأعداء كَسَرُوا (2) ، وصار ما ابتدعوه في أصول الدين سببًا لضلال طوائفَ ممن وافقَهم وممّن خالفَهم، فإنّ المخالفَ لهم من الفلاسفةِ استطال بما ابتدعوه عليهم وعلى المسلمين، وظَنَّ أنّ ما قالوه هو الذي يقوله المسلمون، وصارت الكتبُ المصنفةُ في الكلام إنما يُذكرَ فيها قولُهم وقول الفلاسفة، ويُجعَل قولُهم هو قول المسلمين، لم يأتِ فيه كتاب ولا سنةٌ، ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين. ولهذا عَظُمَتِ الفتنةُ بالكتب (3) المصنَّفةِ في الكلام والفلسفة، حتى آل الأمرُ بالأفاضلِ من أهلها (4) إلى الحيرة والشك (5) ، إذْ (6) كان فيها من الأمور الإلهية مما يخالف المعقول الصريحَ والمنقول الصحيحَ ما يُوجبُ الحيرةَ والشك لمن لم يَعرِف الهدى إلاّ منها، كما أصاب ذلكَ كثيرًا من رؤساءِ النظار في الكلام المحدَثِ   (1) ع: "منهما" بدل "تنبني". (2) س: "به كسروا". والمؤلف يستخدم هذا الأسلوب كثيرًا، انظر "مجموع الفتاوى" (5/33، 544، 13/157) . (3) ع: "في الكتب". (4) ع: "من الخلف". (5) انظر "مجموع الفتاوى" (4/72- 73، 5/10- 11) و"درء تعارض العقل والنقل" (1/159- 160) . (6) س: "إذا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 والفلسفةِ، حتى دخل من ذلك في كلام الفقهاء وأهلِ أصول الفقه ما دخل، فتجدُ الواحدَ منهم إذا بحثَ في الفقه بحثَ فيه (1) بفطرتِه وإسلامه، مُعلِّلاً للأحكام بالعِلَلِ المناسبة، ذاكرًا أنّ اللهَ أَمَرَ بكذا لكذا، وخلقَ كذا لكذا، وفي موضع آخر يُنكِرُ هذا ويقول: لا يخلق ولا يأمر لِعِلةِ، واللام في ذلك لامُ العاقبة لا لامُ كَيْ. فهذا قولُ من أثبت القياسَ من نُفاةِ الحكمةِ والتعليلِ في خَلْقِه وأمرِه. وأما من نَفَى القياسَ فقولُه أشبهُ بهذا الأصلِ، فإنه إذا لم يأمر لحِكمةِ (2) فلا معنى لتعليلِ أمرِه ونهيِه، لكن مُثبتةَ القياس من هؤلاء قالوا: إن الحكمةَ اقترنتْ (3) بالأمر وإن لم يأمر لها، وقالوا في الأمر كما قالوا في الخلق، فقالوا: كما جرتْ عادةُ الله تعالى في خلقِه، فَخَلَقَ الشِّبَع عَقِبَ الأكل، والرِّيَّ عَقِبَ الشُّرب، والاحتراقَ عقبَ الإحراقِ، ونحو ذلك، وإن لم يكن خَلَقَ هذا لهَذا ولا لهذا، ولا جعلَ سبحانَه أحدَ هذين علَّةً للآخر عندهم. قالوا: فهكذا أمرُه، أمَرَ بقطِع السارق، لا لأجل حفظ الأموال، بل إذا قُطِعَ السارقُ حُفِظتَ الأموالُ، فاقترن هذا بهذا عادةَ، وإن لم يأمر بهذا لأجل هذا. فالمصلحة عندهم توجد عند   (1) س: "في". (2) س:"بحكمة". (3) س: "اقتربت". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 هذه الأسباب، لأنها والأفعال تَقتَرِنُ بها المصلحةُ عادةً، وإن لم تكن أسبابَا وعِلَلاَ لها عندهم. . فهذا قولهم، وهو (1) موجود في أقوال كثيرٍ (2) من المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد بن حنبل ومالك بن أنس والشافعي وغيرهم، وهي أقوال مُبتَدعة مخالِفة لنصوص الأئمة وأصولهم، ولنصوص الكتاب والسنة، وإجماعِ السلف، والعقلِ الصريح، كما قد بُسِط (3) في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن نفاةَ القياسِ لمّا سدوا على أنفسهم بابَ التمثيل والتعليل -وهو من الميزان والقسط الذي أنزل الله سبحانه- احتاجوا في معرفة الأحكام إلى مجرد الظواهر، [و] (4) صاروا معتصمين (5) بالظاهر والاستصحاب، فحيثُ فهموا (6) من النصّ حكمًا أثبتوه، وحيثُ لم يفهموه نَفَوه، وأثبتوا الأمرَ على موجب الاستصحاب. وهم وإن أحسنوا في كونهم قالوا: إن النصوص تَفِيْ بجميع الحوادث، وإن الله ورسوله بين الأحكام، وأكملَ الدين، وأغنى الناسَ عما سوى الكتاب والسنة، وأحسنوا في ردِّهم ما   (1) ع: "وهذا". (2) س: "كثيرة". (3) ع: "قد بيناه". (4) زيادة على النسختين ليستقيم السياق. (5) ع: "متصرفين". (6) ع: "لم يثبتوه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 رَدُّوْهُ (1) من الأقيسة الفاسدة- فأخطأوا من ثلاثة أوجُهٍ (2) : أحده ا: ردّ القياس الصحيح. والثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكمٍ دلَّ عليه النصُّ، فلم يفهموا دلالتَه عليه، فكانوا مقصِّرين في فهم الكتاب لما قصَّروا في معرفة الميزان. والثالث: جَزْمُهمْ بموجب الاستصحاب، لعدم علمهم بالناقل، وعدمُ العلمِ ليس علمًا بالعَدَم. وكذا تنازعَ الناسُ في استصحاب حال البراءة الأصلية (3) ، فقالت طائفة من أصحاب أبي حنيفة: يَصلُح للدفع لا للإبقاء، أي يَصِحُّ أن يُدفَع به مَن/ [164 أ] ، ادّعَى تغييرَ الحال، لإبقاءِ الأمر على ما كان، فإذا لم نَجِدْ دليلاً ناقلاً أمسكنا، لا نُثبت الحكم ولا ننفيه، بل (4) ندفع من يثبِته (5) . فيكون حالَُ المتمسكِ بالاستصحاب حالَ المعترضِ مع المستدل   (1) س: "ردوهم". (2) انظر "إعلام الموقعين" (1/338 وما بعدها) ، وفيه زيادة وجه رابع. (3) انظر "مجموع الفتاوى، (23/25) ، و"المسودة" ص 488، و"إعلام الموقعين" (1/339) ، و"المستصفى" (1/222) ، و"المحصول" (2: 3/ 225 وما بعدها) ، و"الإحكام" للآمدي (4/129) وغيرها من كتب الأصول. (4) "ولا ننفيه بل" مطموسة في س. (5) ع: "يدفعه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 يمنعُه (1) الدلالةَ حتى يثبِتَها، لا [أنه] (2) يُقيم (3) دليلًا مناقضًا له. وذهب الأكثرون من أصحاب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم إلى أنه يَصْلُح لإبقاءِ الأمرِ على ما كان عليه، فإنه إذا غَلَبَ على الظن انتفاءُ الناقل غَلَبَ على الظنّ بقاءُ الأمرِ على ما كان عليه. وهنا لنفي الحكم ثلاثُ (4) مسالك: أحدها: التمسك بالاستصحاب المحض، مثل أن يقال في مسألة وجوب الوتر أو الأضحية أو غير ذلك: الأصلُ عدمُ الوجوب، والذمةُ كانتْ بريئةً من الإيجاب، وليس في الشرع ما يُزِيل ذلك، فالأصل بقاءُ الذمةِ بريئةَ من الوجوب. وهذا مستقيم فيما لا يَجبُ ولا يَحْرُم إلاّ بالشرع، كوجوب الوتر والأضحية وسجود التلاوة، وكذلك تحريم ما لا يحرم إلاّ بالشرع، كالضب واليربوع وسِنَّورِ البر، ونحو ذلك مما اختُلِفَ في تحريمه، وكالعقودِ المتنازعَ في تحريمها، كالمساقاة والمزارعةِ وغيرِ ذلك. المسلك الثاني: أن نُبين من أدلة الشرع العامة ما ينفي الوجوبَ والحرمةَ فيما لم يُوجِبْه الشارعُ ولم يُحرً مْه، كقوله تعالى:   (1) س: "لمنعه". (2) زيادة على النسختين من إعلام الموقعين (1/339) . (3) س، ع: "نقيم" تصحيف. (4) كذا في النسختين بدون الهاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 (َقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (1) ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذرُوني ما تَركْتكم، فإنما هلكَ من كان قبلكم بكثرةِ سؤالهم واختلافِهم على أنبيائهم، فإذا نَهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم" (2) . وقوله لما قال: "إن الله كتبَ عليكم الحج"، قالوا: أَفِي كل عام؟ قال: "لا، ولو قلتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ" (3) . والمسلك الثالث أن يقال: الحكم الشرعي لا يثبت إلاّ بدليله، والدليلُ مُنتفٍ، فلا يثبت. وهذا يُسَمَى حَصْرَ المداركِ ونفيها، وهذا مضمونُه أنَ ثبوتَ الحكمِ في حَقَّنا بدون دليلٍ منتفٍ، والدليلُ منتفٍ، فيَنْتَفي الحكمُ، وإذا انتفى أحدُ النقيضين ثبتَ الآخر. والدليل وإن كان لا ينعكس، بل قد يَثبتُ الشيءُ بدون دليله، فهذا مما (4) ليس علينا معرفته. وأما الأحكام التي هي الأمر والنهي، التي علينا أن نَعرِفَها، فلا تَثبتُ بدون دليلها. وأيضًا فإنّ قولَ اللهِ ورسوله هو المثبتُ لهذه الأحكام، فإذا انتفى الموجبُ انتفى مُوجَبُه، فانتفتْ لانتفاء (5) مُوْجبها، وهو دليلُه، فإن خَطابَ الشارعِ ليس دليلاً مختصًّا، بل هو الَدليل، وهو   (1) سورة الأنعام: 119. (2) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337 وبعد رقم 2357) عن أبي هريرة. (3) في الحديث السابق عند مسلم فقط. (4) ع: "باب". (5) ع: "بانتفاء". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 المُثْبِتُ لها في نفس الأمر، ولا واجبَ إلاّ ما أوجبَه الله تعالى ورسولُه، ولا حرامَ إلاّ ما حرَّمه الله ورسولُه. هذا إذا (1) أثبتنا بموجب الخطاب، مثل أن نقول: أوجبَ اللهُ ذلك فوجبَ، وحَرَّمَه فحَرُم، فهُنا شيئان: إيجاب ووجوب، وتحريم وحرمة، فالايجاب والتحريم يعود إلى خطاب الشارع وكلامه، والوجوب والحرمة فهو صفة الفعل. والفقهاء يثبتون هذين النوعين من الأحكام (2) ، وأما المعتزلةُ فلا تُثبِت إلاّ الثاني، والجهميةُ ومن وافقَهم من الأشعرية وغيرهم لا يثبتون إلاّ الأولَ، إذ ليس عندهم للأحكام سببٌ (3) ولا حكمةٌ. والمقصود أن كل واحدٍ من النوعين لا يثبُت إلاّ بالدليل الشرعي، فإذا انتفى الدليل الشرعي، لَزِمَ انتفاءُ هذا الحكم، لكون ثبوته مستلزمًا للدليل الشرعي، وثبوت الملزوم بدون اللازم محالٌ، بخلاف المدلول الذي لا يستلزم الدليلَ. وهذا لأن الدليل لابُدَّ أن يستلزمَ مدلولَه، فيلزم من ثبوت الدليلِ ثبوتُ المدلولِ، ولولا ذلك لم يكن دليلاً عليه، إذ لو اقترنَ به المدلولُ تارةً، وتَخَلَّفَ (4) عنه أخرى (5) ، لم يكن- إذا تحقَّقَ الدليل- وجودُ المدلولِ معه بأولَى   (1) ع: "هو الذي". (2) ع: "الاجتهاد". (3) ع: "الأحكام لعله". (4) س: "تختلف" تصحيف. (5) ع: "تارة أخرى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 من عَدَمه، فلهذا كان الدليل مستلزمًا للمدلول، إمّا قطعًا (1) إن كان يقينيًّا (2) ، وإما ظنًّا (3) إن كان ظنيًّا، ولا ينعكس، فلا يلزم من عدم الدليل عدمُ المدلولِ، كما لا يلزم من عدمِ الملزوم عدمُ اللازم، لأنّ الدليل هو الملزوم، إلاّ أن تكون الملازمة من الجانبين، بحيث يكون كلّ من الأمرين لازمَا للآخر ملزومًا له، كالحكم الشرعي والدليل الشرعي، فإنه إذا ثبت الدليل الشرعي [ثبت الحكم الشرعي] (4) ، وإذا ثبت الحكم/ [164ب] الشرعي فلابدَّ له من دليلٍ شرعي. فلما كان التلازم (5) من الجانبين جاز الاستدلال بثبوت كل (6) منها على ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه، كالأبوة والبنوةِ لما تلازما جاز أن يُستَدَلَ بثبوتِ كل منهما على ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه. وكذلك إرادةُ الرب ومرادُه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأْ لم يكنْ، فإرادتُه تَستلزم (7) المرادَ وتدل عليه، فوقوعُ الكائناتِ تَستلزم إرادتَه وتدلُّ عليها، ولهذا كان الاستثناءُ في الأيمانِ مانعًا من الحِنْثِ، كما إذا قال: واللهِ لا أفعل كذا إن شاء الله، فإن   (1) ع: "يقينا". (2) س: "يقينا" خطأ. (3) س: "ظنيا". (4) ما بين المعكوفتين ساقط من النسختين، والزيادة ليستقيم السياق. (5) ع: "كانت الملازمة". (6) ع: "بكل، بدل" بثبوت كل". (7) كذا في النسختين بتأنيث الفعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 فَعَلَه (1) عُلِمَ وجودُ المشيْئة، وإن [لم] (2) يفعلْه عُلِمَ انتفاؤُها. وكذلك كل حكمٍ له سببٌ واحدٌ، كالقتل العمد العدوان المحض (3) ، فإنه مستلزم لثبوت القَوَد، وثبوتُ القود مستلزمٌ له. وكذلك القصر والسفر، فإن القصر ليس له سببٌ إلاّ السفر، فحيث كان سفرٌ كان قصرٌ، وحيث كان قصر (4) كان سفرٌ، إما سفر مقدَّرٌ عند من يقول به، وإما مطلقُ السفر عند من لا يَخُص القصرَ بسفرٍ مقدر. فنفْيُ الحكم الشرعي تارة يكون بالاستصحاب، وتارة بدليلٍ شرعي يدكُ على نفسه، وتارةً بانتفاء دليلِه وسببِه اللازمِ له، فإنه إذا انتفى اللازمُ انتفى ملزومُه. والمقصود هنا أن نُفاةَ القياس لفا سَدُوا بابَ التعليل ونَفَوا (5) التمثيل، وقَصَروا في معرفة النصوص وفهمها، ظهر من خَطَئِهم في الأحكام ما شَنَّعَ به عليهم الناسُ، وإلاّ فلو أَعْطَوا النصوصَ حقَّها من المعرفة والفهم لدلتْ على جميع الأحكام، واستغنَوا بذلك عن القياس، وإن كان القياس أيضًا دليلاً صحيحًا يوافقُ دلالةَ الظاهر.   (1) ع: "فعل ذلك". (2) ساقطة من س، ولابد فيها. وفي ع: "عدل" مكان "لم يفعله"، وهما بمعنى واحد. (3) "المحض" لا توجد في ع. (4) "وحديث كان قصر" ساقطة من س. (5) ساقطة من ع. وفي س: "قصروا" تحريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 والتعليلُ صحيحٌ (1) ، وهم مخطئون في نفي التمثيل والتعليل. كما أن مُثبتةَ القياسِ لو لم يقيسوا إلاّ قياسًا صحيحًا لَمَا خالفوا نصًا قَط، لكنَ حيث خالفوا النصوص بالقياس فلابدّ أن يكون القياسُ فاسدًا، ولكن قد يَخفَى فسادُه، كما قد تخفى صحتُه إذا دَق. فكما تَخْفَى دلالةُ النص تارةً وتظهر أخرى، وخفاءُ الدلالة وظهورُها أمرٌ نِسْبِى، فقد يَخْفى على هذا ما يَظْهر لهذا. وإلّا (2) فالذين خالفوا أحاديثَ القُرعَة (3) والقيافة (4) ، وحديثَ ذي اليدين (5) ، وحديثَ أكلِ الناسي في رمضان (6) ، وحديث الصَيد الذي يوجد ميتًا بعد المغيب ولا أثَرَ فيه إلاّ للسهْم (7) ، حديث إيجاب التسمية على الذبيحة والصيد (8) ، وحديث الشاهد   (1) ع: "الصحيح". (2) "وإلا" ساقطة من ع. (3) منها حديث عائشة الطويل الذي أخرجه البخاري (4750 ومواضع أخرى) ومسلم (2770) وحديث عمران بن حصين الذي أخرجه مسلم (1668) . (4) منها ما أخرجه البخاري (6770، 6771 ومواضع أخرى) ومسلم (1459) عن عائشة. (5) أخرجه البخاري (482، 714 ومواضع أخرى) ومسلم (573) عن أبي هريرة. (6) أخرجه البخاري (1933، 6669) ومسلم (1155) عن أبي هريرة. (7) أخرجه البخاري (5484) ومسلم (1929) عن عدي بن حاتم. (8) قرن بينهما في الرواية السابقة، وقد أخرجها أيضًا أحمد (4/256، 258، 377) وأبو داود (2824) والنسائي (7/194، 225) وابن ماجه (3177) ، وفي الباب أحاديث أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 واليمين (1) ، وأحاديث الجمع بين الصلاتين (2) ، وحديث قَطْعِ الصلاة بالكلب الأسود والمرأة والحمار (3) ، وحديث جَعْلِ الطلاقِ الثلاثِ واحد (4) ، وحديث يُعذب الميّتُ ببكاء أهلِه عليه (5) ، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة، التي ليس مع مخالفيها إلاّ ما يُظَنُّ أنه ظاهر، أو ظاهر نمن آخر، أو مُقتضَى قياس (6) ، متى تدبَّرتَ المعارضَ لذلك لم تَجدْه -ولله الحمد (7) - معارضًا صحيحًا، بل تجدُ (8) ما عارضَ بهَ الظاهرَ إما حديثٌ ضعيف، وإما   (1) أخرجه مسلم (1712) عن ابن عباس. (2) وردت عدة أحاديث في هذا الباب، انظر "صحيح البخاري" (باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، وأبواب أخرى من كتاب التقصير) و"صحيح مسلم" (باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، من كتاب صلاة المسافرين) . وأشهرها حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري (543، 562، 1174) ومسلم (755) . (3) أخرجه مسلم (510) عن أبي ذر، و (511) عن أبي هريرة. وروى البخاري (508، 514) ومسلم (512) استنكار عائشة له. (4) أخرجه مسلم (1472) عن ابن عباس. (5) وردت عدة أحاديث في هذا الباب، انظر "صحيح البخاري" (باب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، من كتاب الجنائز) و"صحيح مسلم" (باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، من كتاب الجنائز) . منها حديث عمر الذي أخرجه البخاري (1304) ومسلم (924) . (6) ع: "أنه جامع لظاهر نص آخر ويقتضي قيامه"، س: "يقتضي قياس". وكله تصحيف. (7) ع: "في واقع الأمر". (8) س: "يجد" تصحيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 حديث ظاهر لا دلالة فيه، وإمّا قياسٌ فاسد، وإمّا دعوى إجماع قد عُلِمَ انتفاؤه ووجودُ النزاعِ في تلك المسألة. وكذلك نُفاةُ القياس مع قصورهم في فهم النصوص تجدهم قد اضْطُرُّوا إلى مقالات في غاية الفساد، كأقوال في الفرائض، فإنّ المسائل التي تنازعَ فيها الصحابةُ- كالعُمَريتَيْنِ (1) والحِمَارِية التي تُسمَّى المشتركة (2) ، وأمثال ذلك- لمّا لم يدخلوا في المعاني، ولا فهموا دلالةَ النصوص على ذلك، صاروا يعملون بما يَظنونه استصحابًا للإجماع، فيقولون في مسألة الحمارية -وهي زوجٌ وأمٌّ وابنان من ولد الأم وبعض ولد الأبوين- يقولون: قد اتفقوا على توريث ولد الأمّ، وتنازعوا في توريث ولد الأبوين، ولم يَقُمْ دليلٌ على توريثهم، فيَنْتَفِي توريثُهم لانتفاءِ دليلِه. وهذا خطأ، فإن الإجماع إنما انعقد على أنهم يَرِثون بعضَ   (1) هما مسألتان: زوج وأبوان، وزوجة وأبوان. تسميان العمريتين لأن عمر بن الخطاب قضى فيهما، فأعطى الزوج النصف، والأم ثلث ما بقي، والباقي للأب. وأعطى الزوجة الربع، والأم ثلث ما بقي، والباقي للأب. انظر: "المغني" (9/23) . (2) هي كل مسألة اجتمع فيها زوج، وأم أو جدَّة، واثنان فصاعدَا من ولد الأم، وعصبة من ولد الأبوين. سميت المشتركة أو المشركة لأن بعض أهل العلم شرًك فيها بين ولد الأبوين وولد الأم في فرض ولد الأم، فقَسَمه بينهم بالسوية. وتسمى الحمارية لأنه يُروى أن عمر رضي الله عنه أسقط ولد الأبوين، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، هَبْ أن أبانا كان حماراً أليست أمُّنا واحدةً؟ فشرَّك بينهم. انظر "المغني" (9/24) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 الثلث الباقي، وتنازعوا في بعضه الآخر، هل هو لهؤلاء أو (1) هؤلاء، فإذا جعلناه لأحدهما لم يكن ذلك مجمعًا عليه، فإن كان معنا دليلٌ غيرُ الإجماع، وإلاّ فهذا قولٌ بلا دليلٍ أصلاً. وهذا بخلاف تنازُعِهم في ديّةِ الذمّي، إذا قال قائل: هي دون الثلث، لأنّ الإجماعَ انعقدَ/ [165أ] على وجوب ذلك، والذمةُ بريئةٌ مما زاد عليه، ولا بيّنةَ إلاّ بدليل، فإن هذا نَفَى الزيادة (2) باستصحاب براءة الذمة. والتمسكُ بالاستصحاب في مثل هذا وإن كان أَضْعَفَ من غيرِه -لأنه قد وُجد جناية تُوجِبُ شَغْلَ الذمةِ قطعًا، فعلمنا أن الذمة مشتغلة قطعًا (3) ، وقد وجب لهذا على هذا حق، لكن لم يُعْلَم مقدارُه- فليس هذا كالميراثِ المتنازعَ فيه، لأنه لأحد المتنازعين قطعًا، ولم يُجمِعُوا على وجوبِه لأحدِهما، ولا يُورَثُ أحدُهما دون الآخر (4) الجميع. وأما استصحابُ حال الإجماع بعد زوال المحلّ المجمع عليه، كقولهم في المصلي إذا رأى الماء: كانت صلاتُه صحيحةً بالإجماع قبل وجود الماء، والأصلُ بقاءُ ما كان على ما كان، ولم يَقُمْ دليلٌ على الفساد. وكذلك قولهم: أمُ الولدِ كان بيعُها صحيحًا قبل الاستيلاد،   (1) س: "و" خطأ. (2) ع: "نفي للزيادة". (3) في س بعدها: "ولم يجمعوا على وجوبه". ومكانها بعد سطرين كما تأتى. (4) "دون الآخر" ساقطة من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 فمن ادعى التحريم فعليه الدليل. فهذا فيه نزاع مشهور (1) ، يحتج به طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كالمزني والصيرفي وأبي إسحاق بن شاقلا وأبي عبد الله بن حامد وأبي عبد الله بن الخطيب الرازي وغيرهم. وينكره آخرون، كابي حامد والطبري والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب والحلواني وابن الزاغوني وغيرهم. والذين أنكروه قالوا: إن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع، كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة، فأما بعد الرؤية فلا إجماع، فيمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع. وهذا الذي قالوه نقيضُ الإجماع في محل النزاع، وهذا صحيح، والذين استدلوا به لم يَدعُوا الإجماع في محل النزاع، بل استصحبوا حالَ المجمع عليه. قال المنكرون: فالحكم إذا كان إنما يثبت بالإجماع، يزول الحكم لزوالِ دليله، ويبقى إثباتُ الحكمِ بعد ذلك إثباتا بغير دليل. وأما المستدِلُون فيقولون: الحكم لمّا كان ثابتًا، وعلمنا بالإجماع ثبوتَه، فالإجماعُ ليس هو علةَ ثبوته ولا سببَ ثبوته في   (1) انظر "العدّة" (1/73) ، و"التبصرة" ص 526، و"المستصفى" (1/223 وما بعدها (و) الإحكام للَامدي (4/127 وما بعدها) ، و"إعلام الموقعين" (1/341- 344) ، و"التمهيد" للكلوذاني (4/254 وما بعدها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 نفس الأمر، حتى يلزمَ من زوالِ العلَّة زوالُ المعلول، ومن زوالِ السبب زوالُ حكمه، وإنما الإجماع دليل عليه، وهو في نفس الأمر يَستند إلى نص أو معنى نص. فنحن نعلم أن الحكم المجمعَ عليه ثابتٌ في نفس الأمر، والدليل لا ينعكس، فلا يَلزمُ (1) من انتفاء الإجماع انتفاءُ الحكم، بل يجوز أن يكون نافيًا، ويجوز أن يكون منتفيًا (2) ، لكن الأصلَ بقاؤه، فإن البقاءَ لا يفتقر إلى حادث، ولكن يَفتقِرُ (3) إلى بقاءِ سببِ ثبوته. وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يُزِيْلُ الأولَ، وإلى ما يُحْدِثُ الثاني، وإلى ما يُبْقي (4) الثاني، فكان ما يَفتقِرُ إليه الحادثُ أكثر مما يفتقر الباقي، فيكون البقاءُ أولى من التغيير. وهذا مثل استصحاب حال براءةِ الذمَّةِ، فإنها كانت بريئةً قبلَ وجودِ ما يُظَن أنه شاغل (5) ، ومع هذا فالأصل البراءة. والتحقيقُ أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة، لكن لا يجوز الاستدلالُ به إلاّ بعدَ الاجتهادِ في معرفةِ المُزِيْلِ، ولا يجوز الاستدلالُ به لمن لا (6) يَعرِفُ الأدلة الناقلة، كما لا يجوز   (1) س: "ينعكس". (2) ع: "منفيا". (3) س: "مفتقر". (4) س: "يبقا"، ع: "ينفى". (5) ع: "شاغلها". (6) "لا" ساقطة من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 الاستدلال بالاستصحاب لمن لا يعرف الأدلة الناقلة. وبالجملة الاستصحابُ لا يجوز الاستدلالُ به إلاّ إذا اعتقد انتفاء الناقلِ، فإن قَطَعَ المستدلُّ بانتفاء الناقل قَطَعَ ببقاء الحكم، كما يَقْطَعُ ببقاءِ شرع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه غير منسوخ، وإن ظنّ انتفاءَ الناقلِ ظنَّ بقاءَ الحكم، فإن كان الناقلُ دليلاً تَبَيَّنَ (1) له انتفاءُ دلالتِه ظنَّ انتفاءَ النقلِ (2) ، وإن كان معنى مؤثرًا وتبينَ له عدمُ اقتضائِه، تبيَّن له بقاءُ النقل، مثل رؤية الماء في الصلاة، فلا يطمئن قلبه إلى بقاء الصلاة إن لم يتبين له أن رؤيةَ الماء في الصلاة لا تُبطِل الطهارةَ، وإلّا فمعَ تجويزِه لكونِ هذا ناقضًا للوضوء لا يَطمئن ببقاء الوضوء. وهكذا في كل من يَتَورع في انتقاضِ وضوئه ووجوب الغسل عليه، فإن الأصلَ بقاءُ طهارته، كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاساتِ من غير السبيلين، وبالخارج النادر منهما، وبمسّ النساء لشهوةٍ ولغير شهوةٍ غيرِ الجماع، ومسنَ الذكر، وأكلِ ما مسَّتْه النار، وغسل الميت، وغيرِ ذلك، لا يمكن اعتقادُ/ [165ب] استصحاب الحالِ حتى يَتبينَ له بطلانُ ما يُوجبُ الانتقالَ، وإلاّ بقي شاكًا، وإن لم يَتبينْ له صحةُ الناقل، كما لَو أخبره فاسق بخبير، فإنه مأمور بالتبين والتثبُّت، لم يُؤْثرْ (3) تصديقَه ولا تكذيبَه، فإن كلاهما ممكن   (1) في النسختين: "يبين". (2) ع: "بقاء النقل" وهو تحريف، انظر"إعلام الموقعين" (1/342) . (3) أي لم يُرجح أحدهما على الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 منه، وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال، كما كان يستدل به بدون خبره. ولهذا جُعِلَ ذلك لوثًا وشُبهة في أظهر قولي العلماء. وإذا شَهِدَ مجهولُ الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد، ويلزم منه الشك في حال المشهود به، فإذا تَبيَّنَ عدلُه تَمَّ الدليلُ، وعند شهادة المجهولين تَضعُف البراءةُ أعظمَ مما تَضْعُفُ عند شهادةِ الفاسق، فإن الشهادة قد يكون دليلاً، ولكن لم تُعْرَفْ دلالتُه، وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بذلك، لكن يمكن وجودُ المدلولِ في هذه الصورة، فإنَّ صدقَه ممكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 [فصل] (1) والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو أشكل الأشياء ليُستدل به على ما سواه، والفرائض من أشكلها، إذ نُفاة القياس عَدَلوا في كثير منها عن دلالة النصّ إلى أن أثبتوا ما ظنوه مُجْمَعًا عليه، ونفوا ما ظنوه غيرَ مُجْمَعٍ عليه، وكلاهما غلط: أما الأول: فقد بيناه. وأما الثاني: فتقديرُه عدمِ الإجماعِ إذا انتفَى دليلٌ بمعيَّن (2) ، فلابدّ من نفي سائر الأدلة الشرعية، كما ذكروه في مسألة المشرّكة (3) ، فإنه لو قُدِّرَ ثبوتُ ميراثِ أحدهما بالإجماع، فعدم الإجماع عن الآخر لا يَنفِيْ ميراثَه، إذ لم تنتفي (4) سائرُ الأدلة.   (1) زيادة من سائر النسخ. (2) س: "إنما ينتفي دليل بمضمن"، والمثبت من ع. (3) ع: "المشتركة"، وكلاهما صواب. وانظر هذه المسألة في: "الأم" (4/91- 92) و"المبسوط" (29/154) و"بداية المجتهد" (2/259) و"تفسير القرطبي" (5/79) و"المغني" (9/24- 26) و"تفسير ابن كثير" (1/ 471) . (4) كذا في النسختين بإثبات الياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 فنقول: النص والقياس- وهما الكتاب والميزان- دَلا على أن الثلثَ يختص به ولدُ الأم، كما هو قول علي (1) رضي الله عنه ومن وافقه (2) ، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وروى عنه حربٌ التشريكَ، وهو قول زيد (3) ومن وافقه (4) ، وقول مالك والشافعي. واختُلِف في ذلك عن عمر وعثمان (5) وغيرهما [من الصحابة] (6) ، حتى قيل: إنه اختُلِفَ فيها عن جميع الصحابة إلاّ علي وزيد رضي الله عنهما؟ فإن عليًّا رضي الله عنه لم يُختَلفْ عنه أنه لم يُشرِّكْ، وزيد رضي الله عنه لم يختلف [عنه] (7) أنه شرَّك (8) .   (1) أخرجه عنه عبد الرزاق في "مصنفه" (10/251) وسعيد بن منصور في "سننه" (3: 1/58) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (11/258) والدارمي في "سننه" (2886، 2887) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/257) . (2) انظر: "المغني" (9/24) والمصادر السابقة. (3) أخرجه عنه عبد الرزاق في "مصنفه" (10/251) وسعيد بن منصور في "سننه" (3: 1/59) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (11/255) والدارمي في "سننه" (2885، 2888) والحاكم في "المستدرك! (4/337) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/256) . (4) انظر المصادر السابقة و"المغني" (9/24) . (5) انظر المصادر السابقة. (6) زيادة من سائر النسخ. (7) زيادة من سائر النسخ. (8) بل رُوِي عن زيد أيضًا أنه لم يشرك، كما أخرجه عنه سعيد بن منصور (3: 1/58) والبيهقي (6/256) ؛ ورُوي عن علي أنه شرَّك، كما في "مستدرك"= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 قال العنبري (1) : القياس ما قال علي رضي الله عنه، [والاستحسان ما قال زيد. قال الخَبْري (2) : هذه وساطة مليحة، وعبارة صحيحة (3) . فيقال: النص والقياس دلا على ما قال علي] (4) . أما النص فقول الله تعالى: (فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ) . (5) والمراد به: ولد الأم، فإذا أدخلنا فيهم ولدَ الأبوين لم يشتركوا في الثلث؛ بل زاحمهم غيرهم. وإن قيل: ولد الأبوين منهم لكونه من ولد الأمِ، فهذا غلط، لأن الله تعالى قال: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) الآية (6) .   = الحاكم (4/337) . (1) هو عبد الله بن سوّار العنبري قاضي البصرة، توفى سنة 228. ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (10/434- 435) . (2) هو عبد الله بن إبراهيم الخَبْري الشافعي، انتهت إليه الإمامة في الفرائض. توفي سنة 476. انظر "سير أعلام النبلاء" (18/558- 559) . (3) نقل ابن قدامة في "المغني" (9/26) قول العنبري والخبري، وعقب عليه بقوله: وهو كما قال، إلاّ أن الاستحسان المجرد ليس بحجة في الشرع، فإنه وَضْعٌ للشرع بالرأي من غير دليل، ولا يجوز الحكم به لو انفرد عن المعارض، فكيف وهو في مسألتنا يخالف ظاهر القرآن والسنة والقياس! (4) ما بين المعكوفتين ساقط من س. (5) سورة النساء: 12. (6) من الآية المذكورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 وفي قراءة ابن مسعود (1) وسعد (2) : "من أمّ". والمراد ولد الأم بالإجماع، ودل على ذلك قوله: () فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (3) ، وولدُ الأبوين لم يُفْرَضْ لواحدٍ منهما السدسُ. وأيضًا فإنه قد ذُكِرَ حكمُ ولدِ الأبوين والأب في آية الصيف (4) في قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا) (5) . فجعل لها النصف، وله جميع المال، وهذا حكم ولد الأبوين. ثم قال: (وَإن كاَنوُا أخوَةً رجَالًا وَنسَاء فلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ اَلأُنثَيَين) (6) . وهذا حكم ولد الأبوين لا الأمَ، باتفاق المسلمين. ودلّ ذكرُه تعالى لهذا الحكم في هذه الآية، ولذلك الحكم في تلك الآية، على أن أحد الصنفين غيرُ الآخر. فلا يجوز أن يكون   (1) ذكر ذلك الحافظ في "الفتح" (4/12) . (2) ذكر ذلك الدارمي (2979) والطبري (8/62) والقرطبي (5/78) وابن كثير (1/471) وأبو حيان في "البحر المحيط " (3/190) وغيرهم. (3) سورة النساء: 12. (4) في النسختين: "النصف". والمثبت من إعلام الموقعين (1/355) ، وهو الصواب كما ورد في حديث عمر بن الخطاب الذي رواه مسلم (1617) ، وفيه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: "يا عمر! إلاّ تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟ ". وسميت بآية الصيف لأنها نزلتَ في الصيف، وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء التي في أول سورة النساء، فلذلك أحاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها. وانظر "شرح مسلم" للنووي (11/57) و"تفسير" ابن كثير (1/606) . (5) سورة النساء: 176. (6) من الآية المذكورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 ذلك الصنف هو هذا الصنف، وهذا الثاني هو ولد الأبوين والأب بالإجماع. فالأول ولد الأم كما في القراءة الأخرى التي تصلح أن تكون مفسِّرةً لقراءتنا (1) ، ولهذا ذكر ولد الأم في آية الزوجين، والزوجان (2) أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه، وكذلك ولد الأم أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه. وكلاهما لا حظَّ له في التعصيب بحالٍ (3) . بخلاف مَن ذُكِرَ في آية العمود (4) وفي آية الصَّيْف (ْ) ، فإن لجنسهم حطًا في التعصيب. ولهذا قال سبحانه في آية الشتاء: (6) (غَيْرَ مُضَارٍّ) ، ولم يذكر في آية العمود، لأن الإنسان كثيرًا ما يَقصِد ضَررَ الزوج وولدِ الأم، لأنهم ليسوا من عصبتهم، بخلافِ أولادِه وآبائِه، فإنه (7) لا يضارهم في العادة. وإذا كان النص قد أعطى ولدَ الأم الثلثَ، فمن نَقَصَهم منه فقد ظلمهم. وولد الأبوين جنسٌ آخر، هم عصبة،/ [166أ] ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَلحِقُوا الفرائضَ بأهلِها، فما بَقِيَ فَلأَوْلَى   (1) س: "لقراءتها". (2) في النسختين: "الزوجات"، والتصويب من سائر النسخ. (3) "بحال" ساقطة من ع. (4) هي الآية 11 من سورة النساء، سميت بذلك لأن فيها ذكر والد الميت وولده، وهما عمودا النسب بالنسبة إليه. (5) في النسختين: "النصف"، وقد سبق التعليق عليه. (6) ع: "النساء"، وهو تصحيف، وآية الشتاء هي الآية 12 من سورة النساء، سُميت بذلك لأنها نزلت في الشتاء. (7) س: "فإنهم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 رجل (1) ذكر" (2) . وهذا يقتضي أنه إذا لم تُبقِ الفرائضُ لم يكن للعصبة شيء، وهنا لم تُبقِ الفرائضُ شيئًا. وأما قول القائل (3) : "هَبْ أن أباهم (4) كان حمارًا، فقد اشتركوا (5) في الأم "، فقول فاسد (6) حسًّا وشرعًا. أما الحسّ فلأن الأب لو كان حمارًا لكانت (7) الأم أتانًا، ولم يكونوا من بني آدم. وإذا قيل: قُدَرَ وجودُه كعدمِه. فيقال: هذا باطل، فإن الموجود لا يكون معدومًا. وأما الشرع فلأن الله حكمَ في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم. وإذا قيل: فالأب إن لم ينفعهم لم يضرهم.   (1) س: "عصبة". والمثبت من ع ومصادر التخريج. (2) أخرجه البخاري (6732، 6735، 6737، 6746) ومسلم (1615) عن ابن عباس. (3) هو زيد بن ثابت، كما أخرجه عنه الحاكم (4/337) والبيهقي (6/256) . ويُروى أنه قال ذلك بعض أولاد الأبوين لعمر بن الخطاب. انظر "المغني" (9/24، 25) و"تفسير ابن كثير" (1/471) . (4) س: "أبانا". (5) س، ع: "اشتركا"، والمثبت من سائر النسخ. (6) س، ع: "فساد". (7) س، ع: "لكان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 قيل: بل قد يضرهم ولا ينفعهم، بدليل ما لو كان ولد الأم واحدًا وولد الأبوين كثيرين (1) ، فإن ولد الأم وحده يأخذ السدس، والباقي (2) يكون لهم كلهم، ولولا الأب لشاركوا هم وذلك الواحد في الثلث، وإذا جاز أن يكون وجود الأب ينفعهم جاز أن يَحرِمَهم، فعُلِم أنه قد يضرهم. وأيضًا فأصول الفرائض مبنية على أن القرابة المتصلة ذكر وأنثى لا تفرق أحكامها، فالأخ من الأبوين لا يكون كالأخ من أب، ولا (3) كالأخ من الأم، ولا يُعطَى بقرابة الأم وحدها، كما لا يُعطًى بقرابة الأب وحده؛ بل بالقرابة المشتركة من الأبوين. وإنما يُفْرَد بحكم إذا كان قرابةُ الأم منفردة، مثل ابنَيْ عمًّ أحدهما أخ لأم (4) ، فهنا ذهب الجمهور إلى أن للأخ من الأم السدسَ، ويشتركان في الباقي. وهو مأثور عن علي (5) رضي الله عنه. وروي عن شُرَيح (6) أنه جعل الجميعَ للأخ من الأم، كما لو كان ابن عمّ لأبوين.   (1) س، ع: "كثيرون". (2) س، ع: "والثاني"، تحريف. (3) ع: "أو". (4) انظر لهذه المسألة: "المغني" (9/30- 31) و"الفتح" (12/27- 28) . (5) أخرجه عنه عبد الرزاق (10/287) وسعيد بن منصور (3: 1/82، 83) وابن أبي شيبة (11/250- 251) والدارمي (2891، 2892) والدارقطني (4/87) والبيهقي (6/240) . (6) أخرجه عنه عبد الرزاق (10/287) وسعيد بن منصور (3: 1/83) والبيهقي (6/239) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 والجمهور يقولون: كلاهما في بنوة العم (1) سواء، هما ابنا عم من أبوين أو من أب. والأخوةُ من الأم مستقلةٌ ليست مقترنةً بأبوةٍ حتى يُجعل كابن عم لأبوينِ. ومما يُبيِّن الحكم في مسألة المشتركة: أنه لو كان فيها أخواتٌ لأب لفُرِضَ لهنَّ الثلثان، وعالت الفريضةُ، فلو كان معهن أخوهن سقطن، ويسمى "الأخ المشؤم"، فلما كنّ يصرن (2) بوجوده عصبةً صار تارةً ينفعهن، وتارةً يَضُرُّهن، ولم يُجعَلْ وجودُه كعدمِه في حال الضرار. كذلك قرابةُ الأب لما صارَ الإخوةُ بها عصبةً صار ينفعهم تارةً ويضرهم أخرى. وعَلى هذا مَجرَى العُصوبة، فإن العصبة تارةً تَحُوز المالَ، وتارةً أكثرَه، وتارةً تحوز أقلَّه، وتارةً لا يبقى لها (3) شيء، وهو إذا استغرقتِ الفرائضُ المالَ. فمن جعلَ العصبةَ تأخذ مع استغراق الفرائض المالَ فقد خرج عن الأصولِ المنصوصة في الفرائض. وقول القائل "هذا استحسان" مخالفٌ للكتاب والميزان؛ فإنه ظلم للإخوة من الأم؛ حيث يؤخذ حفُهم، فيُعطاه غيرهم. وإذا كانوا يَعقِلون عن الميّت ويُنفِقون عليه، فعاقلةُ المرأة يعقلون عنها،   (1) ع: "الأعم". (2) س: "كان يصرن". (3) س: "له". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 وميراثُها لزوجِها وولدِها، كما قضى بذلك (1) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنازعون في هذه المسألة ليس معهم حجة إلاّ أنها (2) قول زيد، وقد رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه أنه حكم بها، فعَمِلَ بذلك من عَمِلَ من أهل المدينة وغيرهم، كما عملوا بمثل ذلك في ميراث الجد والإخوة، وعملوا بقول زيد رضي الله عنه في غير ذلك من الفرائض، لاتصال العمل عندهم به تقليدًا له، وإن كان قد خالفَه من هو أفضل منه من الصحابة، وإن كان النص والقياس مع من خالفه. وبعضهم يحتجُّ لذلك بما رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أفرضُكم زيد" (3) . وهو حديث ضعيف (4) لا أصل له. ولم يكن   (1) "بذلك" ساقطة من س. (2) "أنها" ليست في ع. (3) أخرجه أحمد (3/184، 281) والترمذي (3791) والنسائي في "السنن الكبرى" (5/67، 78) وابن ماجه (154) وابن حبان (2218، 2219- موارد) والحاكم في "المستدرك" (3/422) من طرقٍ عن خالد الحذاء عن أبي قلابة من أنس. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الحافظ في "تلخيص الحبير" (3/79) : "وقد أعِل بالإرسال، وسماع أبي قلابة من أنس صحيح، إلاّ أنه قيل: لم يسمع منه هذا، وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه على أبي قلابة في العلل، ورجح هو وغيره كالبيهقي والخطيب في المدرج أن الموصول منه ذِكرُ أبي عبيدة، والباقي مرسل". وصححه الألباني في "الصحيحة" (1224) ، وذكر له شواهد، وتكلم عليها. (4) س: "حديث حديث ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 زيد رضي الله عنه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معروفًا بالفرائض. والحديث الذي رُوِي فيه ذلك قد رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، وهو ضعيف، لم يصح فيه إلا قولُه: "لكل أمةٍ أمينٌ، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراِح" (1) . ورُوِي بإسناد أضعف من هذا، وفيه: "وأقضاكم علي، وحبْر (2) هذه الأمة ابن عباس" (3) من حديث كوثر بن حكيم، وكوثر هذا يأتي عن نافع بما يُعلَم أنه باطل، ولا يحتج به باتفاق أهل العلم (4) . وكذلك اتباعُهم في "الجد" لقول زيد رضي الله عنه، مع أن جمهور الصحابة رضي الله عنهم على خلافه (5) . فجمهور الصحابة موافقون للصديق في أن الجد كالأب، يحجُب الإخوة (6) وهذا مروي عن بضعة عشر/ [166ب] من الصحابة رضي الله   (1) أخرجه البخاري (4382، 7255) ومسلم (2419) عن أنس. (2) في النسختين: "خير"، تصحيف. (3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/56) من طريق عبد الأعلى السامي، وابن حزم في "المحلى" (9/296) من طريق كوثر كلاهما عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. وانظر "السلسلة الصحيحة" للألباني (3/225) . (4) انظر "الميزان" (3/416) و"اللسان" (4/490) . (5) انظر المسألة واختلاف العلماء فيها في: "الأم" (4/85-86) و"المحلى" (9/282-299) و"المبسوط" (29/180-183) و"بداية المجتهد" (2/ 259-260) و"المغني" (9/66-69) و"تفسير القرطبي" (5/68) و"الفتح" (12/19-23) . (6) أخرجه عن أبي بكر: سعيد بن منصور (3: 1/63، 64) وابن أبي شيبة (11/288-290) والدارقطني (4/93) والبيهقي (6/246) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 عنهم (1) ، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد، واختاره أبو حفص البرمكي من الصحابة، وحكاه بعضهم روايةً عن أحمد. وأما المورثون الجدَّ مع الإخوة فهم عليّ وابن مسعود وزيد (2) رضي الله عنهم، ولكل [واحد] (3) قولٌ انفرد به. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان متوقفًا في أمره (4) . والصواب بلا ريبٍ قول الصديق، لأدلَّةٍ متعددةٍ ذكرناها في غير هذا الموضع (5) . منها: أن الذين وَرثوا الإخوةَ عمدتُهم أنهم يُدْلُون ببنوة الأب، والجدُّ يُدلي بأُبوّته، والبُنوّةُ أقوى. وهذه الحجة فاسدة، مناقضةٌ للكتاب والسنة والإجماع، فإنّ الجدَّ مقدَّم على بني الإخوة عند عامة المخالفين في هذا، وابن الابن يقوم مقامَ الابن ويُقدَّم على الجدّ، فلو كان بنوة الأب مقدَّمةً لقدِّمتْ بنوةُ الأب.   (1) انظر: "المغني" (9/66) والمصادر السابقة. (2) أخرجه عنهم: عبد الرزاق (10/269) وسعيد بن منصور (3: 1/69، 70) وابن أبي شيبة (11/293-295) والدارمي (2920-2932) والبيهقي (6/249-252) . (3) من ع. (4) انظر "المحلى" (9/282) . (5) وانظر "إعلام الموقعين" (1/374-382) ، ففيه عشرون وجهًا لتصحيح هذا القول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 ومنها: أن الجد الأعلى مقدم على العم، والعمّ ابن الجدِّ الأدنى، والجدُّ الأعلى أبوه، فالعمُّ يُدلي ببنوته، والجد الأعلى بأبوته، والجد الأعلى مقدم بالإجماع، ونسبة الجد الأعلى إلى العمّ كنسبة الأدنى إلى الأخ. ومنها: أن ما ذكروه لو كان صحيحًا لوجب تقدم (1) الإخوة، وهذا خلاف إجماع الصحابة. وقد طرد هذا القياسَ الفاسد من قال في الولاء: إنّ إخوةَ المعتق أولى من جدّه. وهذا من أضعف الأقوال، بل الصواب أن الولاء لجدّ المعتق فقط دون إخوته، كالميراث. وأيضًا فالبنوة وبنوة البنوة مقدّمةٌ على الأبوة وأبوة الأبوة، لأن هذا الجنسَ مقدم على هذا الجنس. وأما بنوة الأبوة فليست من هذا البنوة، بل الأبوة وأبوة الأبوة مقدم على بنوة الأبوة في جميع أحكام الشرع، ولم يقدَّم الأخ على الجدّ في شيء من الأحكام الشرعية، بل ولا عُدِلَ به. فمن جعلَ مقتضى القياس تقديمَه أو مساواته (2) فقد خالف الأصول الشرعية كلها. وأما العمريتان (3) فليس في القرآن ما يدل على أن للأم الثلث   (1) كذا في س، ع: وفي سائر النسخ: "تقديم". (2) س، ع: "مساويه". والتصويب من سائر النسخ. (3) راجع لهاتين المسألتين: "المحلى" (9/260-262) و" بداية المجتهد" (2/ = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 مع الأب والزوج، بل إنما أعطاها (1) الله الثلث إذا ورثتِ المالَ هي والأب، فكان القرآن قد دل على أن ما وَرِثتْه هي والأب تأخذ ثلثَه، والأب ثلثيه. واستدل بهذا أكابر الصحابة: كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد (2) رضي الله عنهم وجمهور العلماء، على أن ما يبقى بعد فرض الزوجين، يكونان فيه أثلاثًا، قياسا على جميع المال إذا اشتركا فيه، وكما يشتركان فيما يبقى بعد الدَّين والوصية. ومفهومُ القرآن ينفي أن تأخذ الأمُّ الثلثَ مطلقا، [فمن أعطاها الثلث مطلقًا] (3) حتى مع الزوجين (4) ، فقد خالفَ مفهوم القرآن. وأما الجمهور فقد عملوا بالمفهوم، فلم يجعلوا ميراثَها إذا ورثه أبوه كميراثها إذا لم يرثه، بل إن ورثه أبواه فلأمه الثلث مطلقًا، وأما إذا لم يرثه أبواه، بل ورثه مع من دون الأب: كالجد والعم والأخ، فهي بالثلث أولى، فإنها إذا أخذت الثلث مع الأب   = 257) و"المغني" (9/23-24) و"تفسير القرطبي" (5/56، 57) و"تفسير ابن كثير" (1/469) . (1) س، ع: "أعطى". والمثبت من سائر النسخ. (2) كما أخرج عنهم عبد الرزاق (10/252-254) وسعيد بن منصور (3: 1/ 54-56) والدارمي (2868-2876) والحاكم في "المستدرك" (4/335- 336) . (3) ساقطة من النسختين، والزيادة من سائر النسخ. (4) قاله ابن عباس وشريح، ويُروى عن علي أيضًا. أخرج هذه الآثار: سعيد بن منصور (3: 1/56) والدارمي (2879-2881) والبيهقي (6/228) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 فمع غيرِه من العصبة أولى. فدل القرآن على أنه إذا لم يرثه إلاّ الأم والأب، أو عصبة غير الأب سوى الابن، فللأم الثلث؛ وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. وأما الابن فإنه أقوى من الأب، فلها معه السدس. بقي إذا كان مع العصبة ذو فرضٍ، فالبنات والأخوات قد أُعطِيَ للأم معهن السدسُ. والأخت الواحدة إذا كانت هي والأم، فالأم تأخذ الثلث مع الذكر من الإخوة، فمع الأنثى أولى. وإنما تُحْجَب عن الثلث إلى السدس بالإخوة؛ والواحد ليس إخوةً. وإذا كانت تأخذ مع الأخ الواحد الثلثَ، فمع العم وغيره بطريق الأولى. وإذا كان مع أحد الزوجين عصبة غير الأب والابن، كالجد والعم وابن العم، فهؤلاء لا ينقصها دون الأب، وإنما جعل الباقي بعد نصيب الزوجة أثلاثًا، لأنها والأب في طبقة واحدة، فجعل ذلك بينهما كأصل المال، وهؤلاء ليسوا في طبقتها، فلا يُجعَلون معها، كالأب، فإنه لا واسطة بينه (1) وبين الميت، بخلاف هؤلاء، فإن بينهم وسائط، وهي لا تسقط بحالٍ، بخلاف هؤلاء، فلم يمكن أن يُعطى ثلث الباقي هنا، لما فيه من تسوية هؤلاء بالأب. ولا نزاع في ذلك إلاّ في الجد، نزاعٌ يُروَى عن ابن مسعود   (1) س، ع: "بينها". والتصويب من سائر النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 رضي الله عنه، كأنه ألحقه بالأب، فأعطاها معه ثلث الباقي. والجمهور/ [167أ] ، على أنها معه تأخذ ثلثَ المال، وهو الصواب؛ لأن الجد أبعد منها؛ وهو محجوب بالأب، فلا يحجبها عن شيء من حقها. وإذا لم يمكن أن تُعطَى ثلثَ الباقي، وامتنع أن تُعطَى السدسَ لأنه دون ذلك، تعيَّن أن تُعطَى الثلث. وكان إعطاؤها الثلثَ مع عدم الأب، سواء كان هناك أحد الزوجين أو لم يكن، وإعطاؤها ثلثَ الباقي مع أحد الزوجين، مما فهمه جماهير الصحابة والعلماء والأئمة، تارةً بالاعتبار الذي هو في معنى الأصل، وتارةً بالاعتبار الذي هو أولى وأحرى، وتارةً بالاعتبار الذي فيه إلحاق الفرع بأشبه الأصلين به. فإن قلت: فهذه دلالة نصّ أو قياس؟ قلتُ لك: القياس المحض أن الأب مع الأم، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ؛ لأنهما ذكر وأنثى، من جنس واحد، وهما عصبة. وقد أُعطِيت (1) الزوجةُ نصفَ ما يُعطاه الزوجُ؛ لأنهما (2) ذكر وأنثى من جنس واحدٍ. وإنما عُدِلَ عن هذا في ولد الأم لأنهم يُدْلُون بالأم، فلا عُصوبةَ لهم بحالٍ، بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد، فإنهم   (1) س، ع: "أعطت". والتصويب من سائر النسخ. (2) س: "لأنه"، خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 يُدلون بأنفسهم، وسائر العصبة يُدلون بذكر، كولد البنين والإخوة للأبوين أو الأب. فإعطاء الذكر مثلَ حظّ الأنثيين هو معتبر فيمن يُدلي بنفسه أو بعصبة، فإنه أهل للتعصيب. فأما من يُدلي بغير عصبةٍ فإنه ليس من أهل التعصيب، فالذكورة فيه ليست (1) كالأنوثة، وليس الذكر كالأنثى، لا في باب الزوجية، ولا في الأبوين، ولا في الأولاد والإخوة (2) للأب. فهذا اعتبار. وأما (3) دلالة الكتاب على (4) ميراث الأم؛ فإن الله تعالى يقول: (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (5) . فالله تعالى فرض لها الثلثَ بشرطين: أن لا يكون له ولد، وأن يرثه أبواه؛ فكان في هذا دلالة على أنها لا تُعطى (6) الثلثَ مطلقًا، مع عدم الولد، إذ لو كانت تُعطى الثلثَ مع عدم الولد مطلقًا لكان قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) زيادة في اللفظ ونقصٌ (7) في المعنى، وكان عديم الفائدة، وجودُه كعدمه، فإنه حينئذٍ سواء ورثه أبواه أو لم يرثه أبواه، لأمه الثلث. وهذا خلاف دلالة القرآن، وهذا مما يدل على صحة أكابر الصحابة والجمهور   (1) "ليست" ساقطة من س. (2) ع: "ولا الإخوة". (3) س، ع: "إنما". والتصويب من سائر النسخ. (4) س: "عن"، ع: "من". (5) سورة النساء: 11. (6) س، ع: "أنه لا يعطي"، خطأ. (7) كذا في النسختين بالرفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 الذين يقولون: لا تُعطَى (1) في العمريتين -زوج وأبوين؛ وزوجة وأبوين- ثلثَ جميع المال، كما قال ابن عباس رضي الله عنه وموافقوه، فإنها لو أُعطِيَتِ الثلثَ لكانت تُعطاه مع عدم الولد مطلقًا. وهو خلاف ما دل عليه القرآن. وقد روى عنه أنه قال لزيد رضي الله عنه: أين في كتاب الله ثلثُ ما بقي (2) ؛ أي ليس فيه إلاّ ثلث وسدس. فيقال: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلثَ مطلقًا، فكيف تعطيها مع أحد الزوجين الثلث؟! بل في كتاب الله ما يَمنعُ إعطاءَها الثلثَ مع الأب وأحد الزوجين، فإنه لو كان كذلك لكان يقول: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث ". فإنها على هذا التقدير تستحق الثلث مطلقًا؛ فلما خص الثلث ببعض الحال (3) عُلِمَ أنّه لا يُسْتَحَق مطلقًا. فهذا مفهوم المخالفة (4) الذي يُسمى دليل الخطاب، يدلّ على بطلان قول من أعطاها الثلث في العمريتين، ولا وجه لإعطائها السدس مع مخالفته للإجماع (5) ، لأن الله تعالى إنما أعطاها ذلك   (1) س، ع: "لايعطى". (2) أخرجه عبد الرزاق (10/254) وابن أبي شيبة (11/242- 243) والدارمي (2878) والبيهقي (6/228) من طرق عن ابن عباس. (3) س، ع: (المال) ، تحريف. (4) س، ع:"المخالف". (5) انظر: "المغني" (9/23) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 مع الولد والإخوة، وقيده بذلك، ودل ذلك على أنها لا تُعطَاه (1) مع الأخ الواحد، فعُلِم أن الثلث قد تستحقه مع الأخ الواحد، ويدل على ذلك أنها إذا أُعطِيتْه (2) مع الأب، فمع غيره من العصبات أولى وأحرى. وهذه دلائلُ بتنبيه الخطاب ومفهومِه، إما مفهوم الموافقة أو مفهوم المخالفة، فلما دل القرَآن على أنها لا تُعطَى الثلث ولا تُعطَى السدسَ، وكان قسمة ما يبقى بعد فرض الزوجة أثلاثًا، مثل قسمة أصل المال من الأبوين أثلاثا (3) ليس بينهما فرق (4) أصلاً- عُلِم بدلالة التقسيم أن الله أراد أن تُعطَى في هذه الحال هذا، وكانت هذه الدلالةُ خطابية من جهة دلالة القرآن على إبطال ما سواه، فتعينت بالضرورة، ومن جهة أنها قياسٌ في معنى الأصل، وإذا جُعِل ما في معنى الأصل (5) دلالة لفظيةً كانت خطابيةً أيضًا، كما في قوله: "من أعتق شِركًا له في عبدٍ" (6) ، وقوله: "أيما رجلٍ وجد متاعه بعينه عند رجلٍ قد أفلسَ فهو أحق به" (7) ، فإن لفظ   (1) س، ع: "أنه لا يعطاه". والتصويب من سائر النسخ. (2) س، ع:"أعطته". (3) س، ع: "إلاّ ما"، تحريف. (4) س، ع: "فرض"، تحريف. (5) "إذا جعل ما في معنى الأصل" ساقطة من س. (6) سبق تخريجه. (7) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2/249) والحميدي في "مسنده " (1035) من طريق هشام بن يحيى المخزومي عن أبي هريرة. وللحديث طرق أخرى= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 "عبد" و"رجل" يتناول في هذا الذكرَ/ [167بٍ] والأنثى في عرف الخطاب، من باب التعبير باللفظ الخاصّ عن المعنى (1) العام. وهذا بابٌ غير باب القياس، وذلك تارةً لكون اللفظ الخاصّ صارَ في العرف العامّ عامًّا، كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (2) ، وقوله: (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)) (3) ، وقوله: (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)) (4) ، وقول القائل: "والله ما أخذتُ له حبّهً، ولا شربتُ له قَطرةً، ولا أكلتُ له لقمةً"، ونحو ذلك مما صار في عرف الخطاب يدل على العام، لا يُقصَد بهَ النفي (5) الخاص. وتارةً يُعبَّر باللفظ الخاص عن المعنى العام، لكونه صار [في] (6) العرف الخاص عامًّا، ومن هذا الباب خطاب [المُطاع] (7) الواحدَ في أهلِ طاعته الذين قد استقر عندهم تماثلُهم في الحكم، فإن هذا خطاب لجمعهم، كخطاب السيِّدِ الواحدَ من عبيده بأمور يَشترِكُ فيها العبيد، وكذلك الملكِ الواحدَ من رعيته. ومن هذا   = وألفاظ مختلفة، وهو حديث متفق على صحته، أخرجه البخاري (2402) ومسلم (1559) . (1) "المعنى" ساقطة من ع. (2) سورة النساء: 40. (3) سورة فاطر: 13. (4) سورة النساء: 124. (5) ع: "المعنى". (6) زيادة من سائر النسخ. (7) زيادة من سائر النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 خطابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للواحدِ من أمته، فإن عُرِفَ بعادتِه من خطابه أن هذا حكم لمن هو مثل ذلك الشخص إلى يوم القيامة، وكذلك خطابه لمن حضره، قد عُلِم بعادته أن من غاب عنه إذا كان بمنزلتهم فإنهم يخاطَبون بمثل ذلك، لمعرفة المستمع أن حكم الشيء حكم مثله، وأن التعيين (1) هنا لا يُراد به التخصيص، بل التمثيل. وأما إذا كان أحد الزوجين مع سائر العصبة، فهنا (2) لو أُعطِيتْ ثلثَ الباقي لكان جعلاً (3) لذلك العاصب معها بمنزلة الأب، وليس الأمر كذلك، فإن الأب (4) في طبقتها، وكان حكمها معه كحكم الذكر مع طبقته من الإناث، وأما غير الأب فبعيد عنها. والقراَن لما أعطاها الثلث مع الأب دلّ على أنه مع غيره من العصبة أولى، وليس إذا أُعطِيتْ ثلث الباقي مع الأب يكون غيره من العصبة مثله، ولا أولى (5) من نقصانها، والسدس لا سبيل له لما تقدم. وقد دلّ القرآن أنها مع الواحد من الإخوة لا تُعطَى السدس، فلما بطل إعطاؤها السدسَ مع العصبة غير الأبِ وأحد الزوجين،   (1) س، ع: "التعبير"، تحريف. (2) ع: "فهذه". (3) ع: "جعله". (4) س: "الأم"، تحريف. (5) ع:"والأولى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وثلثَ الباقي، تعيَّن الثلثُ، وكان أُعطِيَتِ الثلثَ مع سائر العصبة وأحد الزوجين بمنزلة أن تُعطَاهُ مع الأب وحده، فإن الأب وحدَه يَحْجُبُ سائر العصبةِ ويأخذُ الثلثين. ومع أحد الزوجين أعطيناها ثلثَ الباقي ليأخذ الأبُ الثلثين الآخرين، إذ ليس هناك عصبة غيره، إذ هو يحجبهم، ومع غيره لو أعطيناها ثلث الباقي لكان ذلك ليأخذ ذلك العصبة الثلثين، وليس ذلك له، بل قد يكون مع الأمّ محجوبًا لا يأخذ شيئًا بحال، إذا كان معها أب أو ابن، إذا كان قد يكون محجوبا حَجْبَ حِرمانٍ، فحجبُ النقصان أولى (1) . بخلاف الأب، فإنه لا يُحجَبُ معها لا حَجْبَ حِرمانٍ ولا حَجْبَ نقصان، فكان إعطاؤها مع الأب الثلثَ إعطاءً (2) مع غير الأب في سائر الأحوال بطريق الأولى، إذ لا حالَ (3) هناك يستحق أحد معها أن يأخذَ مِثلَيْ ما تأخذ (4) ، كما يستحقُّ الأبُ ذلك. فإن قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (5) (دلّ على أن لها الثلث، والباقي للأب بقوله (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) ،فإنه لما جعل الميراث ميراثًا بينهما، ثم أخرج (6) نصيبها، دل على أن الباقي نصيبه. وإذا أُعطي   (1) ع: "أقل". (2) ع: "إعطاؤها". (3) ع: "لا رجل". (4) س، ع:"تأخذ مثلي ما يأخذ"، والتصويب من سائر النسخ. (5) سورة النساء: 11. (6) س:"إن خرج". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 [الأب] (1) الباقي معها لم يلزم أن يُعطَى غيرُه مثل ما أُعطِي. وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (2) ، وبقوله: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (3) ، وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أَبْقتِ الفرائضُ فلأولَى رجلِ ذكرِ". (4) .   (1) زيادة من سائر النسخ. (2) سورة الأنفال: 75. (3) سورة النساء: 33. (4) سبق تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 فصل وأما ميراث الأخوات مع البنات (1) ، وأنهن عصبة كما قال جمهورُ الصحابة (2) والعلماء- فقد دل عليه القرآن والسنة أيضًا، فإن قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ) (3) يدل على أن الأخت ترثُ النصفَ مع عدم الولد، وأنه هو يرث المال (4) كله مع عدم ولدها. وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك؛ إذ لو كان كذلك لكان لها النصف، سواء كان له ولد أو لم يكن، فكان ذكر الولد تدليسًا وعبثاً مُضِرّا، وكلام الله منزه عن ذلك. وليس هذا من المفهوم الذي هو تخصيص أحد النوعين   (1) انظر هذه المسألة في: (المحلى) (9/256- 258) و"بداية المجتهد" (2/ 258) و"المغني" (9/ 9- 10) و"تفسير" القرطبي (5/64، 6/28- 29) و"شرح مسلم" للنووي (11/54، 58- 59) و"تفسير" ابن كثير (1/607) و"فتح الباري" (12/24- 25) . (2) كما أخرج عنهم عبد الرزاق (10/254- 255) والدارمي (2884) والطحاوي (4/393) والحاكم (4/339) والبيهقي (6/233) . (3) سورة النساء: 176. (4) ع: "جميع المال ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 بالذكر، بل هو من باب تخصيص اللفظ العام وتقييده مع أن الحكم يتناول جميع الصور،/ [168أ] ، والتخصيص بعد التعميم ليس بمنزلة التخصيص المبتدأ، فإن ذلك قد يُقصَد به ذكر ذلك النوع دون الآخر. وأما ذكر الجنس الذي يعمهما والحاجة داعية إلى بيان الحكم العام، وليس في هذا التقييدِ مقصودٌ، فهنا يمتنع أن يُذكَر التخصيص إلاّ لاختصاصه بالحكم. ومن ذلك قوله تعالى: (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) (1) وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (2) ، وإذا عُلِم أنها مع الولد لا ترث النصفَ، فالولد إما ذكر وإما أنثى. أما الذكر فإنه يسقِطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى، بدليل قوله: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ) ، (3) [فلم يثبت له الإرث المطلق إلا إذا لم يكن لها ولد] . والإرث المطلق هو حَوْزُ جميع المال، فدل ذلك على أنه إذا كان لها ولد لم يَحُز المال؛ بل إما أن يسقط وإما أن يأخذ (4) بعضَه. فيبقى (5) إذا كان لها ولد: فإما ابنٌ، وإما بنت. فالقراَن قد بيَّن أن البنتَ إنما تأخذ النصف، فدل على أن البنت لا تمنعه النصف الآخر (6) ، إذا   (1) سورة النساء: 176. (2) سورة النساء: 11. (3) ساقطة من س، ع. والاستدراك من بقية النسخ. (4) س، ع: (تسقط) و (تأخذ) . (5) س: (فبقي) . (6) س:"الآخر النصف". ع: "لآخرين النصف". والمثبت من سائر النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 لم يكن إلاّ بنتٌ وأخٌ. ولما كان فتيا الله إنما هي في الكلالة، والكلالة من لا والد له ولا ولد (1) ، عُلِمَ أن من له ولد ووالد، ليس هذا حكمه. ولما (2) كان قد بين تعالى أن الأخ يحوز مالَ الأخت فيكون لها عصبة، كان الأب أن يكون عصبةً بطرق الأولى، وإذا كان الأب والأخ عصبة، فالابن بطريق الأولى. وقد قال تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (3) ، فإذا كان قد جعل مواليهم واحدهم مولى، وهو الذي يتولى المرء، فيكون مولىً ويرث مالَه، ويكون من أولى الأرحام الذين بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إذ كان لكل أحد قد جعل الله عصبتَه ترث مالَه مما ترك، وهم: الوالدان والأقربون. قال طائفة من المفسرين (4) : أي: من المال الذي ترك. والموالي: هم الوالدان والأقربون. والموالي يتضمن معنى ورثة، والمعنى: لكل جعلنا ورثة يرثن (5) مما ترك، هم: الوالدان   (1) انظر تفسير (الكلالة) في: "تفسير" الطبري (8/53- 54) و"تفسير" القرطبي (5/76- 78) و"تفسير" ابن كثير (1/470- 471) و"المغني" (9/8) و"شرح مسلم" للنووي (11/58) و"فتح الباري" (12/26) . (2) س، ع: "فلما". (3) سورة النساء: 33. (4) انظر: "تفسير" الطبري (8/269- 272) و"تفسير" ابن كثير (1/501) . (5) كذا في النسخ بدلاً من "يرثون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 والأقربون. وإذا كان قد جعل الوالدين والأقربين موالي، فالبنون أولى أن يكونوا موالي. ولهذا لما كانوا في أول الأمر إنما يرث الرجل ولده، فرض الله الوصية للوالدين والأقربين بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (1) . فلما فرض الوصية لهما دل ذلك على أن الميراث للولد دونهما، وكان ذلك هو الحكم قبل نزول آية الفرائض، فعلم أن الولد أولى من الأبوين والأقربين، وأن (2) الابن أولى أن يكون عصبة من الأب. وأيضا فإن الله سبحانه قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ، فأوجب الوصية للوالدين والأقربين لما كان لا يرث أحدهم إلاّ ولده، وكان ميراثُ الولد وأخذُ الأب مالَ ابنه كلَّه معروفًا عندهم في الجاهلية، ففرض الله الفرائضَ لمن سَمَّاه. وأما إرث الابن مالَ أبيه إذا لم يكن غيره، فكان من الأحكام الظاهرة (3) الواضحة التي كانوا عليها في الجاهلية، وأقرهم عليها في الإسلام، وَوَكَّد ميراث الابن، حتى وَرَّث الابنَ سواء كان صغيرا أو كبيرًا. وكذلك سائر الورثة سوى بين (4) الصغير والكبير، وكانوا في   (1) سورة البقرة: 180. (2) "الابن" ساقطة من س. (3) ع: "العامة". (4) س، ع: "سواء من"، تحريف. والتصويب من سائر النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 الجاهلية- أو من كان منهم- لا يورثون إلاّ الكبير (1) . ودلَّ أيضًا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" أن ما بقي بعد الفرائض فلا يرثه إلاّ العصبة، وقد عُلِمَ أن الابن أقرب، ثم الأب، ثم الجد، ثم الإخوة. وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ولد ابن الأم يتوارثون دون بني العلات (2) . فالأخ للأبوين أولى من الأخ للأب، وابن الابن يقوم مقام الابن (3) ، وكذلك كل بني أب هم أقرب من بني الأب الذي هو أعلى منه، وأقربُهم إلى الأب الأعلى، فهو أقرب إلى الميت. وإذا استووا في الدرجة فمن كان لأبوين أولى ممن كان لأب. فلما دل القرآن على أن للأخت النصف مع عدم الولد، وأنه مع ذكور الولد يكون الابن عاصبًا، يَحجُبُ الأختَ ما يحجب أخاها، بقي حالُ الأخت مع إناث الولد، ليمس في القرآن ما يَنفي   (1) كما روي ذلك عن سعيد بن جبير وقتادة وابن عباس، انظر "تفسير ابن كثير" (1/465، 468) . (2) أخرجه عبد الرزاق (10/249) وأحمد (1/79، 131، 144) والدارمي (2988) والترمذي (2094، 2095، 2122) وابن ماجه (2715، 2739) والدارقطني (4/86- 87) والحاكم (4/336، 342) من طريق الحارث الأعور عن علي. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلاّ من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقد تكلم بعض أهل العلم في الحارث، والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم. وانظر: "تلخيص الحبير" (3/83) . (3) س: "الأب"، تحريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 ميراثَ الأختِ في هذه الحال. وإنما ينفي أن يكون لها النصف مع الولد، كما يكون مع [عدم] (1) الولد. بقي كذا مع البنت: إما أن تسقط، وإما/ [168ب] أن يكون لها النصفُ، وإما أن تكون عصبةً: ولا وجه لسقوطها؛ فإنها لا تُزاحِمُ البنتَ، وأخوها لا يسقط، فلا تسقط هي، ولو سقطت هي لسقطت بمن هو أبعد منها من الأقارب، والبعيد لا يُسقِط القريب. ولا يكون لها النصفُ فرضًا كما يكون لها مع الزوج، لأن الله عز وجل إنما جعل لها النصف معه إذا لم يكن له ولد، ولأنها كانت تساوي البنتَ مع اجتماعها، والبنت (2) أولى منها، فلا تُساوِيها. وأيضًا فإنه لو فُرِضَ لها النصفُ لنقَصَتِ البنتُ عن النصف إذا عالت الفرائض، مثل: زوجة وبنت وأخت، فكان يكون للزوجة الثمن، ولكل منهما النصف، فتعول فتنقص البنت عن النصف. وكذلك لو كان الزوج لكان له الربع، فلو فُرِضَ للأخت النصفُ مع البنت لعالتْ، فنَقَصَت البنت عن النصف، والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرضٍ ولا تعصيبٍ؛ فإن الأولاد أولى منهم. والله تعالى إنما أعطاها النصف، إذا كان الميت كلالة لا ولد له   (1) زيادة من سائر النسخ. (2) س: "الثلث"، تحريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 ولا والد، فمن له ولد لا يُفرض لها معه النصف. فلما بطل سقوطُها وفرضُها (1) لم يبقَ إلاّ أن تكون (2) عصبة أولى من عصبة البعيد (3) ، كالعم وابن العم. [وهذا قول الجمهور] (4) ، وقد دل عليه حديث البخاري (5) عن ابن مسعود [لما ذكر له] (6) أن أبا موسى وسلمان بن ربيعة قالا في بنتٍ وبنتِ ابن وأختٍ: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائتِ ابنَ مسعودٍ فسيتابعني (7) 0 [فقال] (8) : لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي للأخت.   (1) من هنا إلى قوله "رجل ذكر، فقد تناولها الحديث … " ص (329) اضطرب ترتيب الكلام في س، ع. وقد سبقت الإشارة إليه في المقدمة. (2) س، ع: "يكون". (3) ع:"العصبة البعيدة". (4) من ع. (5) أخرجه البخاري (6736, 6242) ، وليس عنده ذكر سلمان بن ربيعة، وقد جاء ذكره في طرق أخرى لهذا الحديث عند عبد الرزاق (10/257) وسعيد بن منصور (3: 1/59) وأحمد (1/389، 428، 440، 463) والدارمي (2893) وأبي داود (2890) والترمذي (2093) والنسائي في " الكبرى" (4/ 75- 71) وابن ماجه (2721) والطحاوي (4/392) والدارقطني (4/79- 80) والحاكم (4/334) والبيهقي (2/256) . (6) من ع. (7) ع: "فإنه سيتابعنا". (8) زيادة من سائر النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 فأخبر ابن مسعود رضي الله عنه أن هذا قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل ذلك على أن الأخوات مع البنات عصبة، والأخت تكون عصبة بغيرها، وهو أخوها. فلا يمتنع أن تكون عصبة مع البنت. فإن البنت/ [169أ] أقوى من أخ الميت (1) ، ولهذا لم يعصبها، بخلاف البنت مع الابن، فإنها ليست أقوى من أخيها، فلهذا عصبها. وفي السنن (2) : أن معاذًا أَفتى في بنتٍ وأختٍ، فأعطى الأختَ النصفَ، والبنتَ النصفَ. وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجلى ذكر"، فهذا عام خص منه المعتقة والملاعنة والملتقطة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تَحُوز المرأة ثلاثَ مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه" (3) . وإذا كان عامّا مخصوصا خُصَّتْ منه هذه الصورة بما ذكر من الدلالة.   (1) ع: "ميت". (2) أخرجه عبد الرزاق (10/255، 256، 261) وسعيد بن منصور (3: 1/ 60) والدارمي (2882، 2883) وأبو داود (2893) والطحاوي (4/393، 394) وا لدارقطني (4/82- 83) والحاكم (4/337- 338، 346) . وهو عند البخاري (6734، 6741) من طريقين عن الأسود به. وانظر "فتح الباري" (12/25) . (3) أخرجه أحمد (3/490، 4/106) وأبو داود (2906) والترمذي (2115) والنسائي في الكبرى (4/78، 91) وابن ماجه (2742) والدارقطني (4/ 89- 90) والحاكم (4/341) والبيهقي (6/240، 241) عن واثلة بن الأسقع. وهو حديث ضعيف، انظر الكلام عليه في "إرواء الغليل" (6/24) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وإن قيل: قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب. قيل: فالمنازع يقدم المعتقَ على الأخت مع البنت، وليس من الأقارب، وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فلأولى رجل ذكر"، ووكّد بالذكر ليبين أن العاصب المذكور هو الذكر دون الأنثى، وأنه لم يرد بلفظة الرجل ما يتناول (1) الأنثى، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيما رجل وجد متاعه" ونحو ذلك مما (2) يذكر فيه لفظ الرجل، والحكم يعم النوعين: الذكور والإناث. وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فرائض صدقة الإبل: "فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر" (3) ، فذكر لفظ "الذكر" ليبين أن (4) مراده بابن اللبون: الذكر دون الأنثى، وأن الذكر يجزئ (5) في هذه الحال دون ما إذا كان فيها بنت مخاض، فإن الفرض بنت مخاض. ومما يبين صحةَ قول الجمهور أن قوله: (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد، والمفهوم إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلاً   (1) س، ع: "ما لا يتناول". وهو يعكس المعنى. (2) س، ع: "فيما". (3) أخرجه البخاري (1448 ومواضع أخرى) وأحمد (1/11) وأبو داود (1567) والنسائي (5/18) وابن ماجه (1800) عن أبي بكر الصديق ضمن كتاب الصدقة التي كتبها لأنس. (4) "أن" ساقطة من س، ع. (5) س: "يجري". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 للحكم في المنطوق، فإذا كان فيه تفصيل حصل بذلك مقصود المخالفة. فلا يجب أن تكون كل صورة من صور المسكوت عنه مخالفةً لكل صورة من صور المنطوق، ومن توهم ذلك في دلالة المفهوم فإنه في غاية الجهل. فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص. والحكم إذا ثبت بعلة وانتفت؛ جاز أن يَخْلُفها- في بعض الصور أو كلها- علة أخرى. وقصد (1) التخصيص يَحصُل بالتفصيل، وحينئذ فإذا نُفِي إرثها مع (2) ذكور الولد حصل المقصود بدليل الخطاب، ولم يكن في الآية نفي ميراثها مع الأنثى، فيجب أن تكون من أهل الفرائض، أو من العصبة، وهي مع كونها من أهل الفرائض، فقد تكون عصبةً، وحينئذٍ فلا تخرج (3) من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، بل هي من أهل الفرائض، لكن لها التعصيب في بعض الأحوال، كما تكون عصبة مع إخوتها. وعلى هذا التقدير فلا يكون الحديث مخصوصًا، بل عمومه محفوظ، وصار هذا كما لو كان معها إخوتها أو كان مع البنين والبنات أو الإخوة والأخوات أحد الزوجين أو الأم، فإما أن تُلحَق (4) الفرائضُ بأهلها، وما بقي لا يختص به ذكور الولد   (1) س، ع: "فصل"، تحريف. والمثبت من سائر النسخ. (2) س، ع: "فإذا بقي إرثها من". والتصويب من سائر النسخ. (3) س، ع: "يخرج". (4) ع: "يلحقوا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 والإخوة بالنص والإجماع أفإن الله تعالى يقول، (1) (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن) (2) [بعد قوله: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) . وقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ] (3) وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث) (4) . فقد جعلَ لكلٍ من الأبوين السدسَ مع الولد، والباقي للولد. وإن كانوا ذكورًا وإناثًا فللذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا متفق عليه بين المسلمين، فدلَّ ذلك على أن قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما يراد به إذا لم يكن هناك من يكون عصبة بغيره، وهو من أهل الفرائض في بعض الأحوال. ولو أخذ بما يُظَنُّ أنه ظاهر الحديث (5) , لكان الباقي بعد الفرض لذكور الإخوة دون الأخوات، والبنين دون البنات، وهذا باطل بالنص وإجماع المسلمين. فعُلِم أنها إذا كانت عصبةً بغيرها لم يكن الباقي لأولى رجل ذكر، وهي في هذه الحال عصبة   (1) من ع. (2) سورة النساء: 176. (3) من ع. ولا توجد في س. (4) سورة النساء: 11 (5) انظر الكلام على سبب التأكيد بذَكَر في "الفتح " (12/12-13) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 بغيرها (1) ، فليس الباقي لأولى رجل ذكر. ومعلوم أن أخاها أقرب من العم وابن العم، فإذا كان لا يسقطها، بل تكون عصبة معه، فَلأنْ لا يُسقِطها العمُ وابنُه بطريق الأولى والأحرى، وإذا لم يُسْقِطها ورثت دونه، لأنه أبعد منها بخلاف أختها. وحينئذٍ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها" إن أريد به من له فرضٌ في تلك المسألة، فقوله: "فما بقي فلأولى رجل ذكر" خص منه من الأقارب من يكون عصبة بغيرها، والبنت في هذه الصورة عصبة بغيرها، فتُخَصُ منه. ولو أريد بالفرائض من هو من أهل الفرائض في الجملة، سواء كان لا يرث إلاّ بفرض، كالزوجين والأم وولد الأم؛ أو كان يرث بفرضٍ تارةً وبتعصيبٍ أخرى، كالأب والبنات والأخوات، فيراد بتقديم هذا الضرب، وما بقي بعدُ فلأولى رجلٍ ذكر، فقد تناولها الحديث. فإن الورثة أقسام: ذوو فرضٍ محض: كالزوجين، وولد الأم، والأم. وذوو تعصيبٍ محض: كالبنين، والإخوة. ومن يكون ذا فرضٍ بنفسه، وتعصيب بنفسه: كالأب والجد. ومن يكون ذا فرضٍ وعصبة بغيره: كالبنات والأخوات.   (1) س، ع: "لغيرها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 [ومعلوم أن قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" لم يرد به سقوط البنات والأخوات] (1) إذا كنّ عصبة بغيرهن، بل يرثن في هذه الحال بالإجماع. والأخوات مع البنات كالأخوات مع إخوتهن (2) ، فإذا لم ينفرد الرجل الذكر، وهو أخوهنّ ويسقطهن؛ فأَنْ لا ينفرد من هو أبعد منه ويسقطهن بطريق الأولى. ولهذا لم تُوجَدْ قطُّ أختا تَسقُط مع عم، وابن عم، ومن هو أبعد منها. بل لابد أن ترث إما بفرض، وإما بتعصيبٍ حصل بغيرهاِ. وحينئذٍ فإذا كنّ مع البنات وجب أن يرثن بأحد هذين، وقد تعذر به الفرضُ فتعيَّنَ التعصيبُ، كما لو كان معها أخوها. يبين ذلك أن جنس أهل الفرائض يُقدَّمون على العصبات، سواء كانوا (3) أهلَ فرض محض، أو كانوا مع ذلك لهم تعصيبٌ بأنفسهم أو بغيرهم. والأخوات من جنس أهل الفرائض، ممن يرثن في حالٍ بفرض، وفي حالي يكنّ (4) عصبة، وهم مقدَّمون على من لا   (1) من ع. (2) س: "أختهن"، تحريف. (3) س: "كان". (4) س: "يكون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 يرث (1) إلاّ بالتعصيب المحض كالعم وابن العم، فدل ذلك على أن الأخوات أولى من هؤلاء. ولا يجوز أن يستدل بهذا الحديث على حرمانهن مع البنات، كما لا يجوز أن يُستدلَّ به على حرمانهن مع إخوتهن، [بل] (2) ولا على حرمان بنات الابن مع أخيهن ومع ابن أخيهن إذا استكمل البنات الثلثين، بل أتعصب من، (3) في درجته ومن هو أعلى منه عند الجمهور (4) ، ولكن ابن مسعود (5) ومن وافقه [كأبي ثور] (6) يقولون: إنه لا يعصب إلاّ من يرث دونه، لا يعصب (7) من يسقط بدونه، ودلالة الحديث في هذه المواضع من جنس واحد. فإما أن يقال: هؤلاء كلهم من جنس أهل الفرائض فإنهن (8) ممن يفرض لهن، ليست بمنزلة العمة والخالة ونحوهما ممن ليس له فرض مقدر. / [169أ] ، وإما أن يقال: هو مخصوص. وهذا الحديث قد   (1) س، ع: "لا يرثن". (2) من ع. (3) من ع. (4) انظر: "المغني" (9/12) . (5) س، ع: "ولكن ليس ابن مسعود"، والتصويب من سائر النسخ. (6) من ع. (7) س، ع: "لا يرث". (8) س، ع: "فإنهم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 رُوِي بألفاظ، فمن جُمَل ألفاظه (1) : "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما بقي فلأولى رجل ذكر". وهذا لفظ يتناول كل من كان من أهل الفرائض في الجملة، وإن عرض له حال يكون فيها عصبة بغيره، إذا لم يكن محجوباتٍ بغيرهن، كما يحجب بنات الابن بالابن، وما بقي من بعده فلأولى رجل ذكر، ليس المراد به أنه ما بقي بعد الفرائض المقدرة لا يعطاه إلاّ رجل، ولو قدر أن اللفظ يتناول هذا فقد خص منه صور كثيرة بالنص والإجماع، فهذه الصورة أولى.   (1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (1615) وأحمد (1/313) وأبو داود (2898) والترمذي (2098) وابن ماجه (2740) والدارقطني (4/71) من طريق معمر عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وأما ميراث البنتين (1) ، فقد قال تعالى: () يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) (2) . فدل القرآن على أن البنت لها مع أخيها الذكر الثلث، ولها وحدها النصف، ولما فوق اثنتين (3) الثلثان. بقيتِ البنتان، فكان إذا كان لها مع الذكر الثلث لا الربع، فأن يكون لها مع الأنثى الثلث لا الربع أولى وأحرى؛ ولأنه قال: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ، فقيّد النصف بكونها واحدةً، فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلاّ مع هذا الوصف؛ بخلاف قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ، فإنه لما ذكر ضمير "كن" و"نساء" وذلك جمع، لم يمكن أن يقال: اثنتين؛ لأن ضمير الجمع لا يختص باثنتين؛ ولأن الحكم   (1) س، ع: "البنات"، والمثبت من سائر النسخ. والكلام هنا على ميراث البنتين، ففيه الخلاف بين العلماء، لا إذا كانت واحدة أو فوق اثنتين. وانظر لهذه المسألة: "المحلى" (9/255) و"بداية المجتهد" (2/255) و"تفسير القرطبي" (5/63) و"تفسير ابن كثير" (1/469، 607) و"فتح الباري" (12/15- 16) و"المغني" (9/11- 12) . (2) سورة النساء: 11. (3) س، ع: "اثنتان"، خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 لا يختص باثنتين، فلزم أن يقال: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ، لأنه قد عرف حكم اثنتين، وعرف حكم الواحدة. وإذا كانت واحدة فلها النصف، ولما فوق اثنتين الثلثان، امتنع أن يكون للاثنتين أكثر من الثلثين، فلا يكون لهما جميع المال لكل واحدة النصف، فإن الثلاث ليس لهن إلاّ الثلثان، فكيف بما دون الثلاثة؟ ولا يكفيهما النصف، لأنه لها بشرط أن تكون واحدة، [فلا يكون لها إذا لم تكن واحدة] (11) . وهذه الدلالة تظهر بقراءة النصب (2) : "وإن كانت واحدةً"، فإن هذا خبر كانت، تقديره: فإن كانت بنتا واحدة، أي مفردة ليس معها غيرها فلها النصف، فلا يكون لها ذلك إذا كان معها غيرها، فانتفى النصف، وانتفى الجميع، فلم يبق إلاّ الثلثان. وهذه دلالة من الآية. وأيضًا فإن الله تعالى لما قال: في الأخوات (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) (3) ، كان دليلاً على أن البنتين أولى بالثلثين من الأختين. وأيضًا فسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما أعطى ابنتيْ سعدِ بن الربيع الثلثين، وأمَّهما الثمن، والعمَ ما بقي (4) . وهذا إجماع لا يصح فيه   (1) زيادة من سائر النسخ. (2) وهي قراءة أكثر القراء، انظر "النشر" (2/247) . (3) سورة النساء: 176. (4) أخرجه أحمد (3/352) وأبو داود (2892) والترمذي (2092) وابن ماجه= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 خلاف عن ابن عباس (1) . وقال في الأخوات: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) ، لأنه لم يذكر قبل ذلك ما يدل على أن للواحدة مع أخيها (2) الثلث، وإنما ذكرِه بعد ذلك بقوله: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، بخلاف تلك الآية، فإنه ذكر أولاً أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فتضمن حكمها مع أخيها، ثم ذكر حكم العدد من النساء بعد ذلك. ودلت آية "الولد" (3) على أن حكم ما فوق الاثنتين حكم الاثنتين؟ فلذلك قال في الأخوات: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) (4) ، ولم يذكر ما فوقهما؛ فإنه إذا كانت الثنتان (5) تستحقان الثلثين، فما فوقهما بطريق الأولى والأحرى. بخلاف آية   = (2720) والطحاوي (4/395) والدارقطني (4/78- 79) والحاكم (4/ 333- 334، 342) من طرقِ عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وعند أبي داود (2891) : "بنتا ثابت بن قيس"، قال أبو داود: أخطأ بشر فيه، إنما هما ابنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. (1) قال ابن قدامة في "المغني" (9/11) : أجمع أهل العلم على أن فرض الابنتين الثلثان، إلاّ رواية شذت عن ابن عباس أن فرضها النصف، والصحيح قول الجماعة. (2) س، ع: "أختها". (3) هي الآية 11 من سورة النساء. (4) سورة النساء: 176. (5) س، ع: "البنتان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 "البنات " (1) فإنه لم يدل قوله: (لَلذَكَرِ مِثْلُ حَظِ اَلأُنثَيَين) إلاّ على أن لها الثلث مع أخيها، وإذا كن فوق اثنتين لم تستحق الثلث، فصار بيانه في كل من الآيتين من أحسن البيان. هناك لما دل الكلام الأول على ميراث البنتين دون ما زاد على ذلك، بين بعد ذلك ميراث ما زاد على الثنتين. وفي آية الصيف (2) لما دل الكلام الأول على ميراث الأختين (3) ، وكان ذلك دالاّ بطريق الأولى على ميراث الثلاثة والأربعة وما زاد، لم يُحتَجْ أن يذكر ما زاد على الأختين. فهناك (4) ذكر ما فوق البنتين دون البنتين، وفي الأخرى (5) ذكر الثنتين دون ما فوقهما، لما يقتضيه حسن البيان في كل موضع، حيث كان هناك قد بين ميراث البنتين دون ما فوقهما، وكان هنا بيان حكمهما بيانًا لما فوقهما بطريق الأولى، ولم يكن فيما تقدم بيان حكمهما، فلا يجوز (6) أن يكون للأخوات أكثر من الثلثين، لأن البنات إذا لم يكن لهن أكثر من الثلثين، فالأخوات بطريق الأولى.   (1) هي الآية 11 من سورة النساء. (2) هي الآية 176 من سورة النساء. وفي س، ع: "النصف"، وهو تحريف، وقد سبق الكلام عليه فيما مضى. (3) س: "البنتين"، خطا. (4) أي في الآية 11 من سورة النساء. (5) أي في الآية 176 منها. (6) ع: "ولا بيان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 ثم قال تعالى: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) . وأراد بذلك وإن كانوا عددًا من الإخوة من جنس / [170أ] الرجال وجنس النساء، لم يُرِد أن يكون جمع رجال وجمع نساء، فإنه لو كان رجل وامرأتان، أو امرأة ورجل، أو رجلان وامرأتان، لكان ذلك كما لو كانوا ثلاثة رجال وثلاث نساء (1) ، وهذا باتفاق الناس. ولو قيل: الإخوة ثلاثة فصاعدًا. لقيل: وكذلك الرجال والنساء، فلزم أن يكون المعنى إن كانوا ستة إخوة فصاعدًا. ولأنه لما بين حكم الأخت الواحدةِ والأخ الواحدِ وحكم الأختين فصاعدًا، بقي بيان الاثنتين فصاعدًا من الصنفين، ليكون البيان مستوعبًا للأقسام. ولفظ "الإخوة" وسائر ألفاظ الجمع قد يُعنَى به الجنس من غير قصد العدد، لقوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُم) (2) ، وقد يُعنَى به العددُ من غير قصدٍ لقدرٍ منه، فيتناول الاثنين فصاعدًا، وقد يعنى به الثلاثة فصاعدًا. وفي هذه الآية إنما عُني به العدد مطلقًا؛ لأنه بيّن الواحدة قبل ذلك؛ ولأن ما ذكره من الأحكام في الفرائض فرَّق فيه بين الواحد والعدد، وسَوىَ فيه بين   (1) س، ع: "ثلاثة نساء". (2) سورة آل عمران: 173. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 مراتب العدد: الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا مما يبين [أن قوله: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) يتناول الاثنين والثلاثة. وقد صرح بذلك في] (1) قوله تعالى: () وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ) . فقوله "كانوا" ضمير جمع، وقوله "أكثر من ذلك" أي أكثر من أخ وأخت، ثم قال: "فهم شركاء في الثلث"، فذكرهم بصيغة الجمع المضمر، وهو قوله "فهم"، والمظهر (2) ، وهو قوله "شركاء". ولم يذكر قبل ذلك إلاّ قوله: "وله أخ أو أخت "، فذكر حال انفراد الواحد لا حال اجتماعهما. فدل على أن قوله "أكثر من ذلك" أي: أكثر من أخ وأخت، وأعاد الضمير إليهم بصيغة الجمع، فدل ذلك على أن صيغة الجمع في آيات الفرائض تناولت العدد مطلقًا: الاثنين فصاعدًا؛ لقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) ، وقوله: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً) . ثم هذه الصيغة تصلح لذلك، وإن كان إنما يراد بها الثلاثة فصاعدًا في موضع آخر. وإن قيل: إن ذلك هو الأصل، فصيغة الجمع قد تختص   (1) زيادة من سائر النسخ. (2) س، ع: "المضمر"، خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 بالتثنية، فيما (1) كان مضافًا إلى مثنى وليس فيه إلاّ واحد منه، كقوله تعالى (فَقَد صغَت قُلُوبُكُمَا) (2) ، ولا يحتمل إلاّ قلبين (3) ، فهذا يختص بالاثنين، وعُدِلَ فيه عن لفظ الاثنين إلى لفظ الجمع للخفة وعدم اللبس، فإنه قد عُلِمَ أن لكل واحدٍ قلبًا، فصار استعمال لفظ الجمع في الاثنين مع البيان هو لغة القوم. ومنه قوله تعالى: (وَاَلسَّارِقُ وَاَلسَارِقَةُ فَاَقْطَعُوَا أَيدِيَهُمَا) (4) ، ولم يقل: "يديهما". فإذا كانت الصيغة تختص بالاثنين في الموضع المبين، ولم يقل أحد إنها عند الإطلاق تختص بالاثنين، فكذلك تُستعمل في الاثنين فصاعدًا في الموضع المبين، وإن كانت عند الإطلاق إنما تتناول الثلاثة فصاعدًا، وليس شيء من ذلك مجازًا؛ بل كله من الموضوع في لغتهم. وإنما غلط من ظن لفظ الجمع إنما وضع للثلاثة فصاعدًا (5) ، أو لاثنين فصاعدًا. بل وُضِع لاثنين فصاعدًا في موضع، ولثلاثة فصاعدًا في موضع، ولاثنين فقط في موضع، كله من موضوع العرب. والقرينة هنا من وضع العرب.   (1) س، ع: "فما". (2) سورة التحريم: 4. (3) س، ع: "الاثنتين". (4) سورة المائدة: 38. (5) "وليس شيء من ذلك ... فصاعدا" ساقطة من ع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وإذا كانت القرينة موضوعة كانت بمنزلة ما يقترن بالفعل من المفعول به، ومعه، وله، والظرفين، والحال، والتمييز، وما يقترن باللفظ من الصفة، وعطف البيان، وعطف النسق، والاستثناء، والشرط، والغاية، وغير ذلك مما يقيد مطلقه، ويكون مانعًا له من العموم، موجبًا لاختصاصه ببعض ما يدخل فيه عند عدم تلك القيود، فإن هذا كله مما وضعت العرب أجناسه، كما وضعت رفع الفاعل، ونصب المفعول به، وخفض المضاف إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وأما الجدة (1) فكما قال الصديق: ليس لها في كتاب الله شيء (2) ، فإن الأم المذكورة في كتاب الله مقيدة بقيود توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا، فالجدة وإن سُميَتْ أمًّا لم تدخل في لفظ الأم المذكورة في الفرائض، كما دخلت في لفظ "الأمهات" في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) (3) . ولكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاها السدس (4) ، فثبت ميراثها بسنته، ولم يُنقل عن النبي   (1) انظر لاختلاف العلماء في ميراث الجدة: "المحلى" (9/272- 274) و"المغني" (9/55) . (2) أخرج مالك في "الموطأ" (2/513) وأبو داود (2894) والترمذي (2100، 2101) والنسائي في الكبرى (4/73- 74) وابن ماجه (2724) والحاكم (4/338) عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر ... إلى آخر الحديث. قال الحافظ في "التلخيص" (3/82) : إسناده صحيح لثقة رجاله، إلاّ أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق، ولا يمكن شهوده للقصة. وانظر "إرواء الغليل" (6/124- 126) . (3) سورة النساء: 23. (4) كما في حديث بريدة الذي أخرجه أبو داود (2895) والنسائي في "السنن الكبرى" (4/73) ، قال الحافظ في "التلخيص" (3/83) : في إسناده عبيد الله العتكي مختلف فيه، وصححه ابن السكن. وانظر "إرواء الغليل" (6/ 121) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفظ عام في الجدات، بل ورَّث الجدة التي أتته، فلما جاءت الثانية إلى أبي بكر رضي الله عنه جعلها شريكة الأولى في السدس (1) . وقد تنازع الناس في الجدات (2) : فقيل: لا يرث إلاّ اثنتان: أم الأم وأم الأب، كقول مالك وأبي ثور. وقيل: لا يرث إلاّ ثلاث، هاتانِ وأم الجد؟ لما روى إبراهيم النخعي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورَثَ ثلاث جدات: جدتيك من قبل أبيك، وجدة من قبل أمك (3) . وهذا مرسل حسن، فإن مراسيل إبراهيم من أحسن المراسيل. فأخذ به أحمد. ولم يرد في النص إلاّ توريث هؤلاء. وقيل: بل يرث جنسُ الجداتِ المُدلياتِ بوارثٍ؛ وهو قول   (1) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/513) وعبد الرزاق (10/275) وسعيد بن منصور (3: 1/73) والدارقطني في (السنن) (4/90- 91) والبيهقي في "لسنن الكبرى" (6/235) عن القاسم بن محمد. قال الحافظ في "التلخيص" (3/85) : هو منقطع. وانظر: "إرواء الغليل" (6/126) . (2) انظر: (المغني) (9/55- 56) و"المحلى" (9/274- 277) و"بداية المجتهد" (2/262- 263) و"تفسير القرطبي" (5/70- 71) . (3) أخرجه عبد الرزاق (10/273) وسعيد بن منصور (3: 1/72) والدارمي (2938) والدارقطني (4/90) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/236) من طريق منصور عن إبراهيم مرسلا. وانظر: "التلخيص" (3/83) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 الأكثرين، كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وهو وجهٌ في مذهب أحمد. وهذا القول أرجح؟ لأن لفظ النص وإن لم يرد في كل جدة فالصديق لما جاءته الثانية قال لها: لم يكن السدس الذي أعطي إلاّ لغيرك؟ ولكن هو لكن، فأيتكن خَلَتْ به فهو لها. فورث الثانية،/ [170ب] ، والنص إنما كان في غيرها. ولأنه لا نزاع أن من علت بالأمومة ورثت، فترث أم أم الأب، وأم أم الأم بالاتفاق، فيبقى أم أبي الجد، أي فرق بينها وبين أم الجد؟ وأي فرق بين أم الأب وأم الجد؟ ومعلوم أن أبا الجد يقوم مقام الجد؟ بل هو جلى أعلى. وكذلك الجد كالأب؟ فأي وصف يفرق بين أم أم الجد وأمْ أبي الجد؟ فبيَّن ذلك أن أم أم الميت وأم أبيه بالنسبة إليه سواء؛ فكذلك أم أم أبيه وأم أبي أبيه بالنسبة إلى أبيه سواء (1) ، وأم أبي جده وأم جد جذه بالنسبة إلى جده سواء، وإذا كانت هاتان تشتركان في الميراث، ونسبة تينك إليه كنسبة هاتين وَجَبَ اشتراكهما في الميراث. وأيضًا فهؤلاء جعلوا أم أم الأم وإن زادت أمومتها ترث، وأم أبي الأب لا ترث، ورجحوا الجدة من جهة الأم على الجدة من جهة الأب. وهذا ضعيف فإن جدته أم أبيه إذا لم تكن مثل أم أمه،   (1) "فكذلك ... سواء" ساقطة من ع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 لم تكن أدنى منها، فإنها تُدلِي بعصبة، وبنت الابن أولى من بنت البنت، فلم تكن أم الأم أولى من أم الأب. ونظير هذا في الحضانة، فإنهم متنازعون: هل أم الأم أولى من أم الأب؟ على قولين (1) ، هما روايتان عن أحمد. وأصل الحضانة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدّم الأم على الأب (2) ، لكن قدّمها لكونها أنثى، فهي أحق بالتربية من الذكر، أو لكون جهة الأمومة أحقّ من جهة الأبوة؟ فإن كان الأول لم تقدم أم الأم بل أم الأب، لأنهما تشتركان في الأمومة، وامتازت تلك بأنها من نساء العصبة، والحضانة لرجال العصبة دون رجال الأم، فان كانت لجهة الأم قدمت أم الأم، وهذا مخالف لأصول الشرع (3) ، فإنّ أقارب الأم لم يُقذَفوا في شيء من الأحكام؛ بل أقارب الأب أولى من أقارب الأم في جميع الأحكام، فكذلك في الحضانة. وكذلك في ميراث الجدة، أم الأب إن لم تكن أولى من أم الأم لم تكن دونها. والصحيح أنها لا تسقط بابنها (4) - أي الأب- كما هو أظهر   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (34/122، 123) و"المغني" (11/422) . (2) أخرجه أحمد (2/182، 203) وأبو داود (2276) والحاكم في "المستدرك " (2/207) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/4-5) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (3) س: "الشرائع". (4) انظر لهذه المسألة: "المحلى" (9/279- 281) و"المبسوط" (29/169) = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 الروايتين عن أحمد؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه (1) ، ولأنها وإن أدلتْ به فهي لا ترث ميراثه؛ بل هي معه كولد الأم مع الأم، لما أدلوا بها ولم يرثوا ميراثها، لم يسقطوا بها. وقول من قال: من أدلى بشخص سقط به، باطل طردًا وعكسا، باطل طردًا بولد الأم مع الأم؛ وعكسًا بولد الابن مع عمهم، وولد الأخ مع عمهم، وأمثال ذلك مما فيه سقوط شخص بمن (2) لم يُدلِ به. وإنما العلة أنه يرث ميراثه، فكل من ورث ميراث شخص سقط به إذا كان أقرب منه، والجدات يقمن مقامَ الأم، فيسقطن بها وإن لم يدلين بها.   = و"بداية المجتهد ((2/263) و"المغني" (9/60- 61) و"تفسير القرطبي" (5/70) . (1) أخرجه الترمذي (2102) وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلاّ من هذا الوجه. (2) س، ع: "من". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 فصل وأما كون "بنات الابن مع البنت " لهن السدس تكملة الثلثين (1) ، وكذلك الأخت من الأب معِ أختٍ لأبوين (2) ؛ فلأن الله تعالى قال: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) (3) . وقد عُلِمَ أن الخطاب يتناول ولدَ البنين دون ولدِ البنات،. وأن قوله "أولادكم" يتناول من يُنسَب إلى الميت؛ وهم ولده وولد بنيه، فإنه يتناولهم على الترتيب: يدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب؛ لما قد عرف من أن ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر، والابن أقرب من ابن الابن، فإذا لم يكن إلاّ بنتٌ فلها النصف. وبقي من نصيب البنات السدس؛ فإذا كان هنا بنات ابن فهن استحققن الجميع لولا البنت؛ فإذا أخذت النصف فالباقي لهن. وكذلك في الأخت من الأبوين وفي أخت من الأب، أخبر ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى للبنت النصف، ولبنت   (1) انظر لهذه المسألة: "المغني" (9/14-15) و"فتح الباري" (12/18) . (2) انظر: "المحلي" (9/269) و"المغني" (9/16) و"تفسير القرطبي" (5/ 65) . (3) سورة النساء: 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 الابن السدس تكملة الثلثين (1) . وأما إذا استكمل البناتُ الثلثين لم يبق فرض؛ فان كان هناك عصبة من ولد البنين فالباقي له؛ لأنه أولى رجل ذكر؛ وإن كان معه أو فوقَه بنتٌ عَصَبها عند جمهور الصحابة والعلماء كالأئمة الأربعة وغيرهم (2) . وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه يسقطها (3) ؛ لأنها لا ترث مفردة، فلا ترث مع أخيها كالمحجوبة برِق أو كفر. والجمهور يقولون: هي وارثة في الجملة، وهي ممن تكون عصبة بأخيها، وهنا إنما سقط (4) ميراثها بالفرض لاستكمال الثلثين، وإذا سَقَطَ الفرضُ لم يلزم سقوط التعصيب مع قيام موجبه، وهو وجود أخيها، وإذا كان وجود الأخ يجعلها عصبة فيحرمها وإن ورثت بالفرض، كما في الأخ المشئوم،/ [171أ] ، فكذلك يجب أن يجعلها عصبة فيورثها (5) إذا لم ترث بالفرض. والنزاع في الأخت للأب مع أخيها (6) إذا استكملت الأخوات   (1) سبق تخريجه. (2) انظر: "بداية المجتهد" (2/255- 256) و"المغني" (9/11-13, 15) و"تفسير القرطبي" (5/62) . (3) أخرجه عنه: عبد الرزاق (10/252) والدارمي (2896، 2898) والطحاوي (4/394) والبيهقي (6/230) . ونصر ابن حزم مذهبه في المحلى (9/ 271) . وراجع "المغني" (9/12، 13) . (4) ع: "يسقط". (5) س، ع: "فيرثها". (6) انظر: "المحلى" (9/269- 271) و"بداية المجتهد" (2/259) و"المغني"= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 للأبوين الثلثين، كالنزاع في بنت الابن مع أخيها (1) إذا استكمل البنات الثلثين. فالجمهور يجعلون البنات عصبة مع إخوتهن، يقتسمون النصف الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، سواء زاد ميراثهن بالتعصيب أو نقص، وتوريثهن هنا أقوى، وقول ابن مسعود معروف في نقصانهن (2) .   = (9/16-17) . (1) "أخيها" مطموسة في س، في ع: "مع البنتين". (2) أخرجه عنه: عبد الرزاق (10/252) وسعيد منصور (3: 1/56، 57) والدارمي (2894- 2896) والطحاوي (4/394) والبيهقي (6/230) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 فصل فيمن عمي موتهم فلم يُعْرَفْ أيهم مات أولاَ، فالنزاع مشهور فيهم (1) . والأشبه بأصول الشريعة أن لا يرث بعضُهم من بعض، بل يرث كل واحد ورثته الأحياء، وهو قول الجمهور، وقولٌ في مذهب أحمد؛ لكنه خلاف المشهور في مذهبه. وذلك لأن المجهول كالمعدوم في الأصول، بدليل الملتقط، لما جهل حال المالك كان المجهول كالمعدوم، فصار مالكَا لما التقطه؛ لعدم العلم بالمالك. وكذلك "المفقود" (2) ، قد أخذ أحمد فيه بأقوال الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، فجعلوها (3) زوجة الثاني مادام الأول مجهولاً باطنًا وظاهرًا، كما في اللقطة، فإذا علم صار (4) النكاح   (1) س، ع: "بينهم". وراجع للمسألة: "المدونة" (3/85) و"المبسوط" (30/ 27 وما بعدها) و"بداية المجتهد" (2/266) و"المغني" (9/170- 173) . وآثار الصحابة والتابعين أخرجها عبد الرزاق (10/295- 298) وسعيد بن منصور (3: 1/105- 108) والدارمي (3048- 3052) والدارقطني (4/ 73، 74، 119) والبيهقي (6/222) . (2) راجع: "المغني" (9/186- 189) . (3) س: "وجعلها". (4) س، ع: "جاز". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 موقوفًا، لأنه فُرَق بينه وبين امرأته بغير إذنه، لكن تفريقًا جائزا، فصار (1) ذلك موقوفًا على إجازته ورده، فيخيّر بين امرأته والمهر. فإن اختار امرأته كانت زوجته، وبطل نكاح الثاني بنفس ظهور هذا واختياره امرأته، ولم يحتج إلى طلاقه. وإن لم يخترها بقيت زوجة الثاني، وكان للأول المطالبة بالمهر الذي هو عوض خروج بُضْعِها من ملكه بغير أمره، ولم يحتج ذلك إلى إنشاء نكاح الثاني. فلها ثلاثة أحوال: حال الجهل بالأول، فهي زوجة الثاني باطنًا وظاهرًا. وحال انقضاء نكاحه واختياره المهر، فصارت أيضًا زوجة الثاني باطنًا وظاهرًا. وحال اختيار الأول لها، فتعود زوجته باطنًا وظاهرًا. وحال ظهوره قبل اختياره، فالأمر موقوف كالنكاح الموقوف. والمقصود هنا أن أحمد اتبع الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، وهنا (2) إذا كان أحدهما قد مات قبل الآخر فذاك مجهول، والمجهول كالمعدوم، فيكون (3) تقدم أحدهما على الآخر معدومًا، فلا يرث أحدهما من صاحبه.   (1) س، ع: "فجاز". (2) س، ع: "وهو". (3) س، ع: "ويلزم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وأيضًا فالميراث جُعِلَ للحي ليكون خليفةً للميت ينتفع بماله، فإذا ماتا على هذه الحال لم يكن انتفاع أحدهما بمال الآخر أولى من العكس، وجَعْلُ كل منهما وارثًا موروثًا مناقضٌ لمقصود الإرث، فإن كونه وارثًا يوجب أن يكون حيا يخلف غيره، وكونه موروثًا يوجب أن يكون ميتًا مخلوفًا، فكيف يُحكَم بحكمين متناقضين في حال واحد؟ وكما أنهم لم يورثوه إلاّ من التلاد دون ما ورثه لئلا يلزم الدور؛ فيجب أن لا يورثوه مطلقًا لئلا يلزم الدور في نفس المورث (1) لا في عين الموروث. وأما إذا عاش أحدهما بعد الآخر، ولو لحظة، فإنه بمنزلة الطفل إذا استهل ثم مات، فثبت له حكم الحياة المعلومة، فاستحق الإرث، بخلاف من لا تعلم حياته بعد الآخر، فإن شرطَ الإرث- وهو العلم بحياته بعده- منتفٍ، فلا يجوز توريثه منه. وهذا يستفاد من جَعْلِ الله هذا وارثًا، والوارث لا يكون إلاّ من عاش بعد الموروث، وهذا غير معلوم، فلا يثبت الإرث، فإن الجهل بالشرط بمنزلة عدمه، كما قلنا [في] (2) الربويات: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، فالجهل بالتقدم كالعلم بعدم التقدم. والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم. ***   (1) ع: "الموروث". (2) زيادة على س، ع من بقية النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 الفهارس 1- فهرس المصادر والمراجع 2- فهرس موضوعات "فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد" 3- فهرس موضوعات "قاعدة في الاستحسان" 4- فهرس موضوعات "قاعدة في شمول النصوص للإحكام" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 فهرس المصادر والمراجع - الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز، لأحمد بن مبارك السجلماسي، المطبعة الأزهرية، القاهرة، 1306. - إبطال الاستحسان، للشافعي (ضمن كتاب الأم 7/267- 277) . - ابن الفارض والحب الإلهي، لمحمد مصطفى حلمي، ط. القاهرة، 1945 م. - إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، لمحمد مرتضى الزبيدي البلكرامي، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1311. - إجابة الغوث ببيان حال النقباء والنجباء والأبدال والأوتاد والغوث، لابن عابدين، (ضمن مجموعة رسائله) ط. الآستانة، 1325. - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1408. - الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1356. - الأحكام في أصول الأحكام، للاَمدي، ط. الرياض 1387. - الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، بيروت 1400. - إحكام الفصول في أحكام الأصول، للباجي، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت 1407. - أحكام القرآن، لأبي بكر ابن العربي، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة 1392. - أحكام القرآن للشافعي، جمع ورواية: البيهقي، تحقيق عبد الغني عبد الخالق، القاهرة 1371. - أخبار القضاة، لوكيع، بيروت: عالم الكتب، د. ت. - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، بيروت 1399. - الاستحسان بين المثبتين والنافين، للأستاذ حمزة زهير حافظ، رسالة ماجستير قدمت إلى كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، دون تاريخ. - الاستذكار، لابن عبد البر، ط. عبد المعطي قلعجي، القاهرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، "القاهرة" 1380. - أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير، دار الشعب، القاهرة، 1964 م. - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، لملأ علي القاري، تحقيق: محمد الصباغ، دار الأمانة، بيروت، 1391. - أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن رشيق (ضمن "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية") جمع: محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة 1420. - الإسماعيلية: تاريخ وعقائد، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، لاهور 1406. - الأشراف على مذاهب أهل العلم، لابن المنذر، تحقيق: محمد غريب سراج الدين، قطر 1414. - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، ط. القاهرة، 1358. - اصطلاحات الشيخ محيي الدين ابن عربي، (طبع ملحقًا بكتاب "التعريفات" للجرجاني) تحقيق: فلوجل، ط. ليبزيج، 1845 م. - اصطلاحات الصوفية، لعبد الرزاق القاشاني، تحقيق: سبرنجر، كلكتا (الهند) 1854 م. - الأنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف، للأمير الصنعاني، تحقيق: عبد الرزاق البدر، ط. المدينة المنورة، 1421. - الأصل، لمحمد بن الحسن، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، حيدر آباد 1386. - أصول الجصاص، [الجزء المتعلق بأبواب الاجتهاد والقياس] ، تحقيق: سعيد الله القاضي، لاهور 1981 م. - أصول السرخسي، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، القاهرة 1372. - أصول الفقه وابن تيمية، للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور، القاهرة 1405. - أصول مذهب الأمام أحمد، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الرياض 1397. - الاعتصام، للشاطبي، القاهرة: المكتبة التجارية. - الأعلام، للزرِكلي، الطبعة الخامسة، بيروت 1980 م. - إعلام الموقعين عن ربّ العالمين، لابن القيم، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1374. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 - أعيان العصر وأعوان النضَر، للصفَدي، الجزء1، نسخة عاطف أفندي برقم 1809. - الأم، للشافعي، القاهرة: دار الشعب 1388. - الأموال، لأبي عبيد، تحقيق: محمد خليل هراس، القاهرة 1396. - أنساب الأشر اف، للبلاذري، بيروت: دار الفكر 1417. - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1375. - الأولياء، لابن أبي الدنيا، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1413. - إيضاح المكنون في الذيل على كلشف الظنون، لإسماعيل باشا البغدادي، ط. إستانبول. - الإيمان، لشيخ الاسلام ابن تيمية، (ضمن مجموع الفتاوى) . - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لأحمد محمد شاكر، ط. مكتبة المعارف، الرياض، 1417. - البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، ط. مطبعة السعادة، القاهرة 1328- 1329. - البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشى، ط. الكويت 1413. - بدائع الصنائع، للكاساني، ط. القاهرة: مطبعة الإمام. - بدائع الفوائد، لابن القيم، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية. - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، ط. دار الفكر، بيروت. - البداية والنهاية، لابن كثير، ط. القاهرة 1358، وتحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، 1417. - البرهان في أصول الفقه، للجويني، تحقيق: عبد العظيم الديب، الدوحة 1399. - البناية في شرح الهداية، للعيني، ط. بيروت: دار الفكر 1400. - تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الزبيدي البلكرامى، ط. المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306- 1307. - تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق: عدنان درويش، دمشق 1994 م. - تاريخ الأمم والملوك، للطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ط. القاهرة، 1349. - تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر، ط. دار الفكر، بيروت, 1415. - التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: محمد حسن هيتو، دمشق 1400. - تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، للحافظ ابن حجر، تحقيق: محمد علي النجار وعلي محمد البجاوي، القاهرة: وزارة الثقافة. - تتمة المختصر في تاريخ البشر، لابن الوردي، بيروت: دار المعرفة 1389. - التحرير مع شرحه التيسير، لابن الهمام، القاهرة 1350. - تخريج أحاديث فضائل الشام ودمثق، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الأسلامي، بيروت، 1403. - تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم، لابن جماعة، ط. حيدر آباد. - تذكرة الموضوعات، لمحمد بن طاهر الفتني، إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، 1343. - الترغيب والترهيب، للمنذري، ط. المطبعة المنيرية، القاهرة. - التصوف: المنشأ والمصادر، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، لاهور، 1406. - التعريفات، للشريف الجرجاني، تحقيق: فلوجل، ط. ليبزيج، 1845 م. - التعقبات على الموضوعات، للسيوطي، ط. المطبع العلوي، لكنو، 1303. - تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء، لابن تيمية، تحقيق: عبد العزيز بن محمد الخليفة، الرياض 1417. - تفسير ابن أبي حاتم، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة- الرياض 1417 - تفسير الطبري (= جامع البيان في تفسير القرآن) ، ط. مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1373. وتحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1961- 1970 م. - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ط. دار طيبة، الرياض، 1418. - تقويم الأدلة، لأبي زيد الدبّوسي، نسخة مكتبة لاله لي برقم 690. - التلخيص في أصوات الفقه، للجويني، تحقيق: عبد الله جولم وشبير أحمد العمري، بيروت 1417. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، للحافظ ابن حجر، القاهرة 1964. - تلخيص الموضوعات، للذهبي، تحقيق: عبد الرحمن الفريوائي، دار الفرقان، الرياض، 1419. - التمهيد في أصول الفقه، للكلوذاني، ج 4، تحقيق: محمد بن علي بن إبراهيم، مكة المكرمة 1406. - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لابن عراق، مكتبة القاهرة، القاهرة، 1378. - تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، ط. القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية. - التوقيف على مهمات التعاريف، لعبد الرءوف المناوي، ط. عالم الكتب، المَاهرة، 1410. - تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، 1397. - جامع الأصول في الأولياء، لأحمد ضياء الدين الكمشخانلي، ط. القاهرة، 1328. - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ط. إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، 1346. - جامع الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرين، ط. البابي الحلبي، القاهرة، 1356- 1382. - الجامع الصحيح، للبخاري (بشرحه"فتح الباري") ، المكتبة السلفية، القاهرة، 1380. - الجامع الصغير في حديث البشير النذير، للسيوطي، (بشرحه "فيض القدير") . - الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، دار الكتب، القاهرة، 1360. - الجامع لشعب الإيمان، للبيهقي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت. - جامع المسانيد والسنن، لابن كثير، ط. دار الفكر، بيروت، 1415. - جواهر المعاني في فيض أبي العباس التجاني، لعلي حرازم برادة، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1963م. - حاشية ابن عابدين على الدر المختار= رد المحتار على الدر المختار، القاهرة: بولاق 1272. - الحاوي الكبير، للماوردي، بيروت: دار الكتب العلمية 1414. - حلية الأبدال، لابن عربي، ط. مطبعة الفيحاء، دمشق، 1929 م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. مكتبة الخانجي ومطبعة السعادة، القاهرة، 1932- 1938 م. - حلية العلماء، للشاشي، تحقيق: ياسين أحمد إبراهيم، بيروت 1400. - الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال (ضمن "الحاوي للفتاوي" 2/241- 255) ، للسيوطي، ط. إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، 1353. - ختم الأولياء، للحكيم الترمذي، تحقيق: عثمان إسماعيل يحيى، ط. المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1965 م. - الخراج، لأبي يوسف، تصحيح: محب الدين الخطيب، القاهرة 1352. - دائرة المعارف الإسلامية (بالإنجليزية) الطبعة الجديدة، بريل، ليدن. - درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط. جامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1399. - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد (الهند) ، 1348- 1350. - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، ط. دار الفكر، بيروت، 1403. - ذكر أخبار أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. ليدن، 1931- 1934 م. - ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1372. - ذيل القول المسدّد في الذب عن المسند للأمام أحمد، لمحمد صبغة الله المدراسي، ط. حيدر آباد، 1400. - ذيل مشتبه النسبة، لمحمد بن رافع السلامي، تحقيق: صلاح الدين المنجد، بيروت 1976. - الرسالة للشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة 1358. - رسالة في معنى القياس، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ضمن مجموع الفتاوى) . - رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، للسبكي، نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة. - رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم، لعمر بن سعيد الفوتي، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1963 م. - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للاَلوسي، إدارة الطباعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 المنيرية، القاهرة، 1345. - روض الرياحين في حكايات الصالحين، لليافعي، ط. القاهرة، 1286. - روضة التعريف بالحب الشريف، للسان الدين ابن الخطيب، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الفكر العربي، القاهرة، 1968 م. - روضة الطالبين، للنووي، بيروت 1388. - روضة الناظر بشرحه نزهة الخاطر العاطر، لابن قدامة، القاهرة 1342. - سراج المريدين، لأبي بكر ابن العربي (مخطوط) نسخة دار الكتب المصرية برقم [20348 ت] . - سلسلة الأحاديث الصحيحة (1- 6) ، لمحمد ناصر الدين الألباني، ط. مكتبة المعارف، الرياض. - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (1- 5) ، لمحمد ناصر الدين الألباني، ط. المكتب الاسلامي، بيروت؛ ومكتبة المعارف، الرياض. - سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1372. - سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، القاهرة، 1371. - سنن الدارقطني مع التعليق المغني للعظيم آبادي، القاهرة 1386. - سنن الدارمي، ط. شركة الطباعة الفنية، القاهرة. - السنن الكبرى، للبيهقي، ط. حيدر آباد (الهند) ، 1344- 1355. - السنن الكبرى، للنسائي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت. - سنن النسائي (= المجتبى) ، المطبعة المصرية، القاهرة، 1348. - السنن والآثار، لسعيد بن منصور، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الدار السلفية، بومبي. - السنة، لعبد الله بن أحمد، ط. المطبعة السلفية، مكة المكرمة، 1349. - سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق: مجموعة من المحققين، بيروت: مؤسسة الرسالة. - السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1355. وط. همام عبد الرحيم سعيد، عمان 1409. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 - السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني، لمحمد المكي بن مصطفى بن عزوز، ط. تونس، 1310. - سيف الله على من كذب على أولياء الله، لصنع الله الحلبي الحنفي، ط. دار الوطن، الرياض، 1420. - شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، للعز بن عبد السلام، تحقيق: إياد خالد الطباع، دار الطباع، دمشق، 1410. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: أحمد سعد حمدان، ط. دار طيبة، الرياض، 1409. - شرح تنقيح الفصول، للقرافي، القاهرة 1393. - شرح الخرشي على مختصر خليل، بيروت: دار صادر، د. ت. - شرح صحيح مسلم، للنووي، ط. القاهرة 1349. - الشرح الكبير على المقنع، لشمس الدين ابن قدامة، بيروت 1392. - شرح الكوكب المنير، للفتوحي، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكة المكرمة 1408. - شرح اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت 1408. - شرح مختصر الروضة، للطوفي، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت 1407. - شرح مسلم الثبوت= فواتح الرحموت، لبحر العلوم اللكنوي، القاهرة: بو لاق 1324. - شرح معاني الآثار، للطحاوي، القاهرة 1968- 1969 م. - شرح مقدمة التائية الكبرى، لداود القيصري، (مخطوط) نسخة أياصوفيا برقم [1898] . - شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، بيروت: عالم الكتب. - شرح المواهب اللدنية، للزرقاني، ط. بولاق، 1291. - شرح أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، تحقيق: محمد سعيد خطيب أوغلي، ط. أنقرة، 1971 م. - الشريعة، للاَجري، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط. مطبعة السنة المحمدية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 القاهرة، 1369. - شفاء السائل لتهذيب المسائل، لابن خلدون، تحقيق: محمد بن تاويت الطنجي، إستانبول، 1958 م. - شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور، لمرعي بن يوسف الكرمي، تحقيق: جمال بن حبيب صلاح، ط. الرياض، 1418. - صحيح ابن حبان (بترتيبه "الإحسان" لابن بلبان الفارسي) ، تحقيق: شعيب الأرناووط، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت. - صحيح ابن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، بيروت 1400. - صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1375. - الصلة بين التصوف والتشيع، لكامل مصطفى الشيبي، ط. القاهرة، 1969 م. - ضحى الإسلام، لأحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1936 م. - طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1371. - الطبقات الكبرى، لابن سعد، بيروت: دار صادر 1385. - الطبقات الكبرى (= لواقح الأنوار في طبقات الأخيار) ، لعبد الوهاب الشعراني، ط. المطبعة الشرفية، القاهرة، 1315. - طرح التثريب بشرح التقريب، للعراقي وابنه، ط. القاهرة 1353. - العُدَة في أصول الفقه، لأبي يعلى، تحقيق: أحمد بن علي سير المباركي، الرياض 1410. - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، لابن عبد الهادي، القاهرة 1356. - غاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الاَلوسي، ط. لاهور، 1403. - فتاوى ابن الصلاح، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الوعي، حلب، 1403. - الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي، ط. مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1970 م. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، القاهرة 1380. - فتح الرحيم الرحمن في شرح نصيحة الأخوان، للحلبي، ط. القاهرة، 1312. - فتح القدير للعاجز الفقير، لابن الهمام، القاهرة 1315. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 - الفتوح، لابن أعثم، بيروت: دار الكتب العلمية. - الفتوحات المكية، لابن عربي، تحقيق: عثمان يحيى، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1972 م. - فتوى فيمن يدعى أن ثمَ غوثًا وأقطاباً، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (مخطوطة) نسخة جامعة برنستون، برقم [5542] . - فردوس الأخبار، للديلمي، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، 1407. - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ضمن "مجموع الفتاوى") . - الفصول في الأصول، للجصاص الرازي، نسخة دار الكتب بالقاهرة. - فضائل الشام ودمشق، للربعي، تحقيق: صلاح الدين المنجد، المجمع العلمي العربي، دمشق، 1950 م. - الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1400. - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، للشوكاني، تحقيق: عبد الرحمن بن يحى المعلمي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1380. - فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي، الجزء الأول، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1973 م. - فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرءوف المناوي، مطبعة مصطفى محمد، القاهرة، 1356- 1357. - فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن قل عن الصواب، لعبد ربه بن سليمان القليوبي، ط. القاهرة، 1964 م. - قاعدة في الاستحسان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، قرأها وعلق عليها: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1419. - قوت القلوب في معاملة المحبوب، لأبي طالب المكي، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1310. - القول الدال على حياة الخضر ووجود الأبدال، لنوح أفندي بن مصطفى الرومي، (مخطوط) ، نسخة دار الكتب المصرية برقم [تصوف249] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 - القياس في الشرع الإسلامي، لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، القاهرة 1346. - الكامل في التاريخ، لابن الأثير، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية. - الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، ط. دار الفكر، بيروت. - كرامات الأولياء، لأبي محمد الخلال، (مخطوط) نسخة دار الكتب الظاهرية، [حديث 248] . - كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد أعلى التهانوي، ط. كللكتا (الهند) ، 1862 م. - كشاف القناع عن متن الاقناع، للبهوتي، القاهرة 1366. - كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، لعبد العزيز البخاري، استانبول 1308. - كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل العجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1401. - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، ط. إستانبول 1941م. - كشف المحجوب، لعلي بن عثمان الهجويري، دار النهضة، بيروت، 1980 م. - كشف الوجوه النز لمعاني نظم الدر، للقاشاني، ط. القاهرة، 1319- 1320. - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، لعلي المتقي البرهانفوري، ط. حلب، 1390. - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي، المطبعة التجارية الكبرى، القاهرة، 1963 م. - لسان الميزان، لابن جحر، ط. دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد، 1329- 1331. - المبسوط، للسرخسي، ط. دار المعرفة، بيروت. - مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 28/371/1953- 395. - مجلة "المسلم" (القاهرة) . - مجلة "المنار" (القاهرة) . - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1932- 1934 م. - المجموع شرح المهذب، للنووي، القاهرة: إدارة الطباعة المنبرية، د. ت. - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع: الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 قاسم وابنه محمد، ط. الرياض، 1381- 1386. - مجموعة الرسائل [الصغرى] ، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط. القاهرة، 1323. - مجموعة الرسائل الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، القاهرة 1323. - مجموعة الرسائل والمسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تصحيح: السيد محمد رشيد رضا، ط. مطبعة المنار، القاهرة، 1349. - مجموعة الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، القاهرة 1329. - المحصول في أصول الفقه، للرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، الرياض 1399. - المحلى، لابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة 1347- 1352. - مختصر ابن الحاجب بشرح العضد، القاهرة: بولاق 1316. - مختصر اختلاف العلماء، للجصاص، تحقيق: عبد الله نذير أحمد، بيروت 1416. - مختصر الخرقي، ط. دمشق 1402. - مختصر العلو للذهبي، اختصار محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1401. - مختصر الفتاوى المصرية، للبعلي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1949 م. - مختصر القدوري، ط. القاهرة 1377. - مختصر المزني بهامش كتاب الأم، القاهرة: دار الشعب 1388. - المختصر في أصول الفقه، لابن اللحام، تحقيق: محمد مظهر بقا، مكة المكرمة، 1400. - المدونة، رواية سحنون، القاهرة: مطبعة السعادة. - مرآة الأصول، لمنلا خسرو، استانبول 1272. - مرقاة المفاتح لمشكاة المصابح، لملاّ علي القاري، المطبعة الميمنية، القاهرة، 1309. - مسائل الأمام أحمد، رواية أبي داود، ط. بيروت: محمد أمين دمج، د. ت. - مسائل الأمام أحمد، رواية صالح، تحقيق: فضل الرحمن دين محمد، دلهي 1408. - المستدرك على الصحيحين، للحاكم، ط. حيدر اباد (الهند) ، 1334. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 - المستصفى، للغزالي، ط. القاهرة: بولاق 1322. - المسند، للأمام أحمد بن حنبل، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1313. وتحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1367. - مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، - مسند الحميدي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الهند، 1381. - المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، تحقيق: محمد محصي الدين عبد الحميد القاهرة 1384. - مشتبه النسبة، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، القاهرة 1962 م. - مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني، لمحمد خضر الشنقيطي، دار البشائر، عمان، 1405. - مشكاة المصابح، للتبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت. - المصباح المنير، للفيومي، القاهرة: بو لاق 1323. - مصنف ابن أبي شيبة، ط. الدار السلفية، بومبي 1399. - المصنَّف، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1392. - المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري، تحقيق: محمد حميد الله، دمشق 1385. - معجم البلدان، لياقوت الحموي، بيروت: دار صادر. - المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، ط. وزارة الأوقات، بغداد، 1398. - المعدن العدني في فضل أويس القرني، تحقبق: إبراهيم الحازمي، ط. الرياض، 1411. - المعدول به عن القياس: حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية منه، للدكتور عمر بن عبد العزيز، المدينة المنورة 1408. - المغني، لابن قدامة، ط. القاهرة 1367. وتحقيق التركي والحلو، القاهرة 1413. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للسخاوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1375. - مقدمة ابن خلدون، ط. المطبعة الأدبية، بيروت، 1900 م. - المقدمة في الأصول، لابن القصار، تحقيق: محمد السليماني، بيروت 1996 م. - ملخص إبطال الرأي والقياس والاستحسان، لابن حزم، تحقيق: سعيد الأفغاني، دمشق 1389. - الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، ط. البابي الحلبي، القاهرة 1381. - المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن القيم، تحقيق: عبد الفتاح أبي غدة، ط. مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1414. - منازل القطب، لابن عربي (ضمن "رسائل ابن عربي") ، ط. حيدر اباد، 1361- 1367. - منتخب كنز العمال، لعلي المتقي البرهانفوري، بهامش "مسند أحمد"، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1313. - المنتظم، لابن الجوزي، بيروت: دار الكتب العلمية. - المنتقى للباجي، القاهرة: مطبعة السعادة 1332. - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1406. وط. بولاق 1320- 1322. - موارد الظمآن بزوائد ابن حبان، للهيثمي، ط. المطبعة السلفية، القاهرة، د. ت. - الموافقات، للشاطبي، القاهرة 1341. - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، للقسطلاني، ط. القاهرة، 1326. - الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة، لعبد العليم البستوي، ط. المكتبة المكية، مكة المكرمة، 1420. - الموضوعات، لابن الجوزي، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة، 1965- 1968 م. - موطأ مالك، رواية يحيى بن يحيى الليثي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 القاهرة 1370. - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، ط. عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1963- 1964 م. - الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد، تحقيق: محمد بن صالح المديفر، الرياض 1418. - الناسخ والمنسوخ، للنحاس، القاهرة 1938 م. - نشر المحاسن الغالية (أو: كفاية المعتقد) ، لليافعي، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، ط. الحلبي، القاهرة، 1410. - نص النصوص، لحيدر بن علي العلوي الآملي،) مخطوط! نسخة مكتبة مجلس الأمة بطهران، [ملحق رقم 19] . - النفحات الشاذلية في شرح البردة البوصيرية، لحسن العدوي الحمزاوي، ط. بولاق، القاهرة، 1297. - نوادر الأصول، للحكيم الترمذي، ط. إستانبول، 1293. - هدية العارفين بأسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل باشا البغدادي، ط. إستانبول 1951 م. - الواضح في أصول الفقه، لابن عقيل، ج 1، نسخة دار الكتب الظاهرية بدمشق، برقم 2872 عام. وتحقيق عبد الله التركي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1420. - الوافي بالوفيات، للصفَدي، الجزء7، تحقيق: إحسان عباس، بيروت 1982. - الوصول إلى الأصول، لابن برهان، تحقيق: عبد الحميد علي أبو زنيد، الرياض 1404. - اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، لعبد الوهاب الشعراني، المطبعة الحجازية، القاهرة، 1352. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذه مجموعة ثالثة من "جامع المسائل" تحوي 28 رسالة وفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، مما لم يُنشَر ضمن "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) . وقد قمتُ باستخلاصها من مجاميع خطية مختلفة سيأتي وصفُها، ووجدتُ بعضَها ضمن مجاميع مطبوعة ولم أعرف أصولَها الخطية. فأحببت أن أضمَّها إلى المجموعة لتكون في متناول القراء والباحثين، وتُستدرَك على "مجموع الفتاوى". وهذه المجموعة مثل المجموعتين السابقتين تحتوي على رسائل وفتاوى في موضوعات مختلفة، وفي أثنائها مباحث وفوائد لا توجد في مؤلفات أخرى للشيخ، فهو يستطرد أحيانًا إلى تفسير الآيات وتحرير الأقوال الواردة فيها وترجيح بعضها على بعض، ويتوسع في الكلام على مفردات اللغة وقواعدها، وتضعيف آراء بعض اللغويين والنحاة، كما فعل -مثلاً- في حديثه عن حرف "لو" (في الرسالة التاسعة عشرة) والكلام على كلمة "الأسباط" (في الرسالة السادسة عشرة) . وفي بعضها مناقشةٌ للمتكلمين والفلاسفة وردٌّ على شبههم واعتراضاتهم (انظر رقمي 6، 7) ، ودعوة للشيعة وزوَّار القبور إلى مذهب أهل السنة والجماعة وبيان ما كان عليه السلف الصالح (رقم3) ، وغير ذلك من الفوائد والتحقيقات التي تميَّزت بها مؤلفات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 الشيخ وكتاباته، ولا تظهر إلاَّ لمن قرأها وتأمَّل فيها واستخرج ما فيها من كنوز. وأكثر رسائل هذه المجموعة لم يرد ذكرها بهذه العناوين في المصادر القديمة، لكثرة ما كتب الشيخ وأفتى، فلم يقدر أحد من تلاميذه والمترجمين له على إحصاء مؤلفاته، وقد ذكرتُ في مقدمة المجموعة الأولى (ص10-11) بعض النصوص التي تدلّ على صعوبة حصر كتبه ورسائله وفتاواه. ومن الكتب التي ورد ذكرها عند القدماء: "مؤاخذة على ابن حزم في الإجماع" (رقم20) ، فقد ذكره كل من الصفدي وابن شاكر (1) . وذكر ابن عبد الهادي (2) أن الشيخ شرح ما رُوِي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "نعم العبد صهيبٌ، لو لم يَخفِ اللهَ لم يَعصِه" وتكلّم على "لو". وهي الرسالة رقم (19) من هذه المجموعة. وهناك رسائل أخرى نجد لها عناوين مشابهة في المصادر، ولكنّا لا نستطيع أن نجزم بأنها هي أو غيرها، ومن أمثلتها: "قاعدة في التسبيح والتحميد والتهليل" التي ذكرها ابن رشيق (3) ، هل هي "قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات وبيان اقتران التهليل بالتكبير والتسبيح بالتحميد" (برقم15) ؟ وذكر ابن رشيق أيضًا (4) أنه رأى كلام الشيخ على قوله (الم (1) أيحسب الناس) هو من سورة العنكبوت، فهل هو الموجود هنا بعنوان "تفسير أول العنكبوت"؟ لا نستطيع أن نجزم بذلك، فإن الشيخ كان يكتب في موضوع واحدٍ رسائل عديدة،   (1) انظر "الجامع لسيرة شيخ الإسلام" (ص294، 317، 332) . (2) "العقود الدرية" (ص63) . (3) انظر "الجامع" (ص 242) . (4) المصدر السابق (ص 228) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 ويُفسِّر الآية في مناسبات مختلفة. ومهما يكن من أمرٍ فإن الرسائل والمسائل الموجودة في هذه المجموعة ثابتة النسبة إلى الشيخ بالمعايير التي تحدَّثتُ عنها في مقدمة المجموعة الأولى (ص11- 12) ، والتي يجب أن تُفحَص في ضوئها الكتب والرسائل التي تُنسَب إلى الشيخ، ولا يثبَت شيءٌ منها له إلاّ بعد التأكد من صحة نسبته إليه. وقد أخطأ كثير من الباحثين والمفهرسين في نسبة بعض المخطوطات والمطبوعات إلى الشيخ، وعندي أمثلة كثيرة على ذلك لا مجال لذكرها في هذه المقدمة، وإنما أقتصر على ذكر مثالٍ طريفٍ منها، وأُبيِّن كيف وقع المفهرس في الوهم. وجدتُ في فهرس مخطوطات مكتبة جامعة علي كره بالهند (2/129) ذِكرَ كتاب "عمل اليوم والليلة" ونسبتَه إلى الشيخ، وهو برقم [H.G. 2/33] ، ولما طلبتُ هذا المخطوط واطلعتُ عليه وجدتُه يبدأ بقوله: "الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، هذا جزء لطيف في عمل اليوم والليلة منتخب من الأحاديث والآثار، محرَّر معتبر، لخصتُه من كتابي "منهاج السنة" ومن "الكلم الطيب"، والله الموفق". ومن هنا ضَلَّ المفهرس وانخدع، فنسب المخطوط إلى شيخ الإسلام، لأن "منهاج السنة" و"الكلم الطيب" من أشهر مؤلفاته، فيكون هذا المخطوط أيضًا له!! ولم يتأمَّل في باقي الكتاب ومنهج المؤلف فيه، ولم يقرأ تلك الأدعية التي فيها صريح التوسل بالنبي، ولم يساوره الشكُّ في أسلوب الكتاب الذي هو أبعد ما يكون من أسلوب شيخ الإسلام. وقد نفيتُ نسبتَه إلى الشيخ، وبدأتُ أبحث عن مؤلفه الحقيقي، وبمراجعة "كشف الظنون" (2/1173) ظهر لي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 أن من بين المؤلفين في "عمل اليوم والليلة": السيوطي العالم المشهور، وله "الكلم الطيب والقول المختار في المأثور من الدعوات والأذكار" (1) ، و"منهاج السنة ومفتاح الجنة" (2) . فيكون المخطوط الذي بين أيدينا للسيوطي، وأسلوب الكتاب ملائم لأسلوبه المعروف في سائر كتبه. ثم وجدتُ الكتاب مطبوعًا بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1365 عن نسخة مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة، وفي آخره: "قال مؤلفه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي: فرغتُ من تأليفه في رجب سنة 892 هجرية، والحمد لله رب العالمين". وبهذا تأكّدتْ نسبتُه إلى السيوطي، وانتفتْ عن شيخ الإسلام. يجب علينا إذًا تحقيق نسبة الكتاب إلى المؤلف قبل التفكير في خدمته ونشره وتقديمه إلى القراء. وتشتدّ الحاجة إلى ذلك إذا أردنا نشر شيء من كتب شيخ الإسلام وغيرِه من أئمة السنة والحديث، لئلا يُنسَب إليهم من الآراء والاعتقادات ما هم بريئون منه، ولا يُجعَل ذلك ذريعة إلى القدح فيهم والنيل منهم. • وصف الأصول المعتمدة اعتمدت في نشر هذه المجموعة على أصول خطية من مكتبات مختلفة، وعلى بعض المجاميع المطبوعة التي تحوي رسائلَ للشيخ لم أهتدِ إلى مخطوطاتها في المكتبات. وفيما يلي وصف هذه الأصول:   (1) ذكره السيوطي في "التحدث بنعمة الله" (ص112، 155) ، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/1506) . (2) "التحدث بنعمة الله" (ص108) ، و"كشف الظنون" (2/1872) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 (1) "فصل في الفرق بين ما أمر الله به ورسوله من إخلاص الدين الله و ... ": هذه الرسالة والرسائل الآتية بأرقام (2، 9، 10، 12، 15، 18، 21) ضمن مجموعة خطية في مكتبة عاشر أفندي بإستانبول برقم [1154) (1) ، وهي التي نشر منها الدكتور محمد رشاد سالم عدة رسائل ضمن المجموعة الأولى من "جامع الرسائل"، ووصفها في مقدمتها (صفحة ج-هـ) . هذه المجموعة تحتوي على عدد كبير من رسائل الشيخ طبع أكثرها ضمن "مجموع الفتاوى" و"جامع الرسائل"، والبقية تتضمنها المجموعة التي بين أيدينا. وقد تصحفتُ مصورة هذه المجموعة الخطية، فوجدتُ أن عدد الرسائل التي كانت فيها (حسب الفهرس الموجود في أولها) 53 رسالة، منها 51 رسالة من مؤلفات شيخ الإسلام، ولكن الموجود منها الآن 36 رسالة فقط، ونُزِعَتْ منها الأوراق (112- 131، 151- 172، 210- 222، 268-679) ، ففُقِدتْ 15 رسالة للشيخ و"رسالة في الكلام على الاستواء على العرش" لابن عبد الهادي. ويظهر من عناوين الرسائل الضائعة أنها كانت في موضوعات التوحيد والشرك وزيارة القبور والاستغاثة والتوسل والتمذهب والتقليد واللعب بالشطرنج وحكم الحشيشة وغيرها، وكأن أحد القراء المتعصبين لم يعجبه كلام الشيخ في هذه الموضوعات، فنزع تلك الأوراق ومزَّقها لئلاّ يطلع الناس عليها. وظن أنه بفعله هذا يضيِّع ما كتبه الشيخ، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظه في نسخ أخرى، وطُبع أكثر من طبعة، واستفاد منه الناس في العالم. وقد ظهر لي   (1) انظر فهرس المكتبة (ص78) طبعة إستانبول 1306. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 بالتتبع أن معظم هذه الأوراق الضائعة والرسائل الناقصة توجد بتمامها في "مجموع الفتاوى" (ط. الرياض) ، وفيما يلي إشارة إلى بعضها: - "فصل في قوله تعالى (وَجَعَلُوْا للهِ شُرَكَاَءَ قُل سَمُّوهُمْ) [ق112- 113،] (= مجموع الفتاوى 15/196-197) . - "فصل في قوله تعالى (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ اَلْعِلْمَ دَرَجَات) [ق113-114] (= مجموع الفتاوى 16/48- 51) . - "فصل في المعاني المستنبطة من سورة الكوثر" [ق 114- 115] (= مجموع الفتاوى 16/526- 533) . - "فصل في قوله تعالى (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) [ق117- 129] (= مجموع الفتاوى 15/62-94) . - "فصل في قوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة … [ق129- 136] (= مجموع الفتاوى 14/168- 200) . - "فتوى فيمن ينزل به حاجة من أمور الدنيا والآخرة ثم يقصد بعض قبور الأنبياء والصلحاء، ثم يدعو عنده في كشف كربته، هل هو سنة أم بدعة؟ " [ق155-162] (= مجموع الفتاوى 27/151- 179) . - "رسالة جامعة في توحيد الله تعالى وإخلاص الوجه والعمل له" [ق162- 167] (= مجموع الفتاوى 1/20- 36) . - "مسألة في الاستشفاع بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " [ق210-215،) = مجموع الفتاوى 1/313- 368) . - "مسألة في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة واشتغل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 بعده بالحديث ... " [ق215-217، (= مجموع الفتاوى 20/210- 217) . - "فتوى في اللعب بالشطرنج" [ق217-218] (= مجموع الفتاوى 32/216-239) . هذه بحض تلك الرسائل والفتاوى التي فُقِدت من المجموعة، ولكنها بقيت محفوظةً بحمد الله في نسخ أخرى، ولم تنجح محاولة إخفائها وتضييعها من قبل بعض القراء. كتبت رسائل هذه المجموعة بخطوط مختلفة، بعضها في سنة 735، وبعضها في سنة 819. وأغلبها بدون تاريخ، كتبه ناسخ غير معروف بخط نسخي واضح جميل يغلب عليه الصحة، ولعله من خطوط القرن التاسع. وجميع رسائل الشيخ فيها (ما عدا "الواسطية") بهذا الخط، ومنها الرسالة الأولى من مجموعتنا هذه، وتقع بين (الورقة 148- 155) ، والموجود منها الآن إلى الورقة 151ب، ثم يبدأ الخرم الذي ذهب ببقية هذه الرسالة ورسائل أخرى تليها، كما أشرت إلى ذلك قريبًا، ولم أجد نسخة أخرى تُكمل النقص. (2) "فصل في حق الله وحقّ عبادته وتوحيده": هذه الرسالة أيضًا ضمن المجموعة السابقة (ق243ب-247ب) . (3) "رسالة إلى المنسوبين إلى التشيع وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر": توجد نسخة فريدة منها في دار الكتب المصرية برقم [2577 تصوف] (1) ، ومعها "الرسالة القبرصية" للشيخ. وهما بخط   (1) انظر الفهرس الثاني للدار (1/309) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 نسخي جميل، كتبه محمد بن سليمان بن داود ابن الجوهري الشافعي، كما هو مثبت على صفحة العنوان. (4) "مسألة في قصد المشاهد المبنية على القبور للصلاة والنذر وقراءة القرآن وغير ذلك": توجد النسخة الخطية منها في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] ضمن مجموعة في 163 ورقة تحتوي على رسائل مختلفة (1) ، وفي أولها فتاوى للشيخ (ق1-47) بعنوان "فصل من فتاوى شيخنا الشيخ الفاضل الكامل فريد دهره وحيد عصرِه الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية أمتعنا الله بحياته". وفيها 15 فتوى للشيخ في موضوعات متنوعة، نشر معظمها ضمن "مجموع الفتاوى" وغيره، ومما لم يُنشر هذه المسألة التي تقع في (الورقة 8ب-27ب) . والمجموعة بخط نسخي واضح، وليس عليها تاريخ النسخ، ولعلّها من القرن الثامن، وكتبت في حياة الشيخ كما تدل على ذلك عبارات الدعاء في أول المجموعة وفي مواضع مختلفة من الفتاوى. وقد كانت هذه المجموعة في ملك السيد محمد شريف رزاز سنة 1243، وفي ملك السيد محمد زكي سنة 1298 كما يظهر من كتابتهما على صفحة العنوان. وعليها ختم "محمد بيري" مما يدل على أنها كانت في حوزته أيضًا. (5) "فصل فيمن يعظّم المشايخ ويستغيث بهم ويزور قبورهم": توجد نسختها الخطية أيضًا في مكتبة تشستربيتي برقم [3296] ضمن مجموعة تحوي 15 رسالة (2) ، منها الفتوى المذكورة التي عُنوِنتْ   (1) انظر فهرس المكتبة -بالإنجليزية- (6/73-74) . (2) انظر فهرس المكتبة (2/19- 23) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 بـ "في السماع" في المجموعة وفي الفهرس، وهي وإن شملت الجواب عن حضور مجلس السماع أيضًا في أسطر قليلة، إلاَّ أنَّ معظمها في تعظيم المشايخ والاستغاثة بهم وزيارة قبورهم والنذر لها وما إليها. وتشغل هذه الفتوى الأوراق (7ب-11أ) ، وهي مكتوبة بخط نسخي جيد، ومقابلةٌ على الأصل المنسوخ عنه. وليس عليها تاريخ النسخ، ولعلها من مخطوطات القرن العاشر. (6) "مسألة في تأويل الآيات في المعية وإمرار أحاديث الصفات كما جاءت": أصلها ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] ، تحتوي على عدة رسائل وفتاوى للشيخ (1) ، وهي بخط علي بن حسن بن محمد الحرَّاني كما في آخر المجموع، وقد فرغ من نسخ هذه المسألة في خامس ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة. والمسألة المذكورة تبدأ بالورقة (60ب) ، ثم تضطرب اضطرابًا شديدًا، وتتداخل مع المسألة التالية في نسبة البارئ تعالى إلى العلو (الآتية برقم7) والتي تبدأ بالورقة (66أ) ، وقد تأمَّلتُ في المسألتين، ونظرتُ في الأوراق التي قبلهما وبعدهما، وقرأتُ المجموعةَ بعناية، حتى اهتديتُ إلى ترتيب الكلام فيها، وتمكنتُ من استخراج المسألتين منها، وهما في المجموعة حسب ما يلي: - "مسألة في تأويل الآيات في المعية ... " (الورقة 60ب- 63أ/ سطر12، ثم الورقة 53ب/ سطر 8-60ب/ سطر 15، ثم الورقة 72أ/ سطر 9- 74أ/ سطر 14، ثم الورقة 63أ/ سطر 12- 65ب نهاية المسألة) .   (1) انظر فهرس المكتبة (3/18- 19) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 - "مسألة في نسبة البارئ تعالى إلى العلو" (الورقة 66أ-72أ/ سطر8) . وما بعدها من المسألة السابقة، ولم أجد تتمتها ضمن هذه المجموعة. (7) "مسألة فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العلو من جميع الجهات المخلوقة": هي ضمن المجموعة السابقة كما ذكرنا، وناقصة من آخرها، ولم أجد لها نسخة ثانية تكمل النقص. (8) "مسألة في العلو": توجد منها عدة نسخ في مكتبات مختلفة: أ- نسخة في مكتبة برلين برقم [We. 1538] . (الورقة 51ب- 55أ) (1) ضمن مجموعة أولها "التدمرية"، مكتوبة سنة 1180. 2- نسخة في مكتبة ميونخ برقم [885/5] (الورقة 41-51) ، ضمن مجموعة تحتوي على رسائل مختلفة للشيخ وغيره (2) ، وهي بخط نسخي جيد. وبعض رسائل هذه المجموعة مؤرخة بسنة 731 و735 و739، والمسألة المذكورة غير مؤرخة، إلا أنها مكتوبة في القرن الثامن. 3- نسخة في مكتبة غوطا بألمانيا برقم [84/3] ذكرها بروكلمان في كتابه "تاريخ الأدب العربي" (الملحق 2/122) مع النسختين السابقتين. 4- 6 : ثلاث نسخ بعنوان "الجواب الفاصل بتمييز الحق من الباطل" في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض بالأرقام الآتية:   (1) انظر فهرسها (2/531-532) برقم 2311. (2) انظر "إطلالة على العالم الفسيح بين الشرق والغرب" للأستاذ حمد الجاسر (ص24-25) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 [1737/8م] (ص134- 136) ، وهي نسخة ناقصة الآخر، بخط نسخ معتاد، كتبت في القرن الثالث عشر تقديرًا. [2263/3م] (ص126-135) ، نسخة جيدة بخط نسخ معتاد، كتبت في القرن الثالث عشر تقديرًا. [1639/20م] (ص447-456) ، ضمن مجموع بخط نسخ معتاد، كتبه عبد الله بن إبراهيم بن محمد المعروف بالربيعي سنة 1350 (1) . 7- نسخة ناقصة في المكتبة المحمودية بالمدينة برقم [2593] (ق59ب-60ب) كتبت سنة 1184. وتوجد هذه المسألة مع اختلاف كثير ضمن "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" للألوسي (ص437-449 من طبعة المدني سنة 1401) ، ومقتطفات منها في "مجموع الفتاوى" (5/256- 261) . وقد اعتمدت في تحقيقها هنا على النسخ القديمة، واستعنت بما في "جلاء العينين" دون إثبات جميع الفروق، فإنها كثيرة وقليلة الجدوى. (9) "قاعدة شريفة في الرضا الشرعي ... ": أصلها من مجموعة عاشر أفندي الموصوفة برقم (1) ، وهي فيها (الورقة 258أ- 259ب) . (10) "فصل: الأقوال نوعان": هذا أيضًا من مجموعة عاشر أفندي (الورقة 207أ- 208أ) . (11) "قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة والإجماع أمرَ الثقلين الجن والإنس": توجد نسختها الخطية في المكتبة الأزهرية برقم [182مجاميع] 4485، وهي بخط عبد المنعم البغدادي الحنبلي   (1) انظر وصف النسخ الثلاث في فهرس مخطوطات جامعة الملك سعود (5/46-47) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 بتاريخ سادس عشر من صفر سنة 766. (12) "مسألة فيمن قال: إن عليًا أشجع من أبي بكر": أصلها ضمن مجموعة عاشر أفندي بتركيا (الورقة 179 ب- 180 ب) . (13) "تفسير أول العنكبوت": لم أعثر على نسخته الخطية، وهو ملحق بكتاب "الفوائد" لابن القيم (ص 257- 212 من الطبعة المنيرية سنة 1344) . (14) "مسألة في قوله تعالى (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله … ) : أصلها ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] (الورقة 14أ-15أ) . وقد سبق وصف هذه المجموعة برقم (4) . (15) "قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات ... ": هي من مجموعة عاشر أفندي (الورقة 182أ-187ب) . (16) "مسألة في إخوة يوسف هل كانوا أنبياء؟ ": لم أعثر على نسختها الخطية، وقد نقلها السيوطي ضمن "الحاوي للفتاوي" (1/311-312 من الطبعة المنيرية 1352) . (17) "فتوى في قراءة القرآن بما يُخرِجه عن استقامته": هي ضمن مجموعة في مكتبة جامعة برنستون برقم [4098] (الورقة 61ب- 62أ) ، كتبت في القرن التاسع تقديرًا (1) ، وهي بخط نسخي جيد. (18) "رسالة في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا دخل أحدكم على أخيه ... ": هي من مجموعة عاشر أفندي السابقة (الورقة 258ب-209أ) . (19) "جواب سؤال سائل عن حرف لو": توجد منه نسخة خطية   (1) انظر فهرس المكتبة (ص21) رقم 214 بعنوان "فتوى في قراءة القرآن". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 في دار المخطوطات الوطنية بقبرص برقم [2/1138 A] (الورقة 79ب وما بعدها) ، كتبت في القرن العاشر (1) . وقد أورده السيوطي في "الأشباه والنظائر في النحو" (3/288-292 من طبعة حيدرآباد 1361) نقلا من خطّ البرزالي. (20) "فصل في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع": توجد منه نسخة خطية ضمن مجموعة في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم [مجاميع 6454] (2) ، تحتوي على ثماني رسائل للشيخ أولها "التدمرية". وهي مكتوبة في نهاية القرن الثالث عشر. وقد طبعت مفرقةً بهامش كتاب "مراتب الإجماع" لابن حزم (طبعة القدسي سنة 1357) . وفي المطبوعة أخطاء في مواضع. (21) "رسالة في بيان الصلاة وما تألَّفت هي منه": توجد منها نسختان خطيتان، إحداهما في مجموعة عاشر أفندي السابقة (الورقة 16أ-17ب) ، والثانية في مكتبة الإسكوريال برقم [1593] (الورقة 62أ-65أ) ، وهي بخط نسخي جيد، وليس عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، ولعلها من مخطوطات القرن العاشر. والنسخة الأولى أصح من الثانية، كما ظهر لي بالمقابلة بينهما. (22) "فتوى في أمر الكنائس": لم أعثر على نسختها الخطية، وقد أوردها ابن القيم في "أحكام أهل الذمة" (2/677-686 طبعة دار العلم للملايين سنة 1961م) . (23) "مسألة فيمن يُسمِّي خميس النصارى عيدًا": توجد منها   (1) انظر فهرس المخطوطات الإسلامية في قبرص (ص382) . (2) انظر الكشاف عن مخطوطات خزائن كتب الأوقاف (ص269) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 نسختان خطيتان، إحداهما في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [2961عام] (الورقة 76ب- 78أ) ، كتبت سنة 753 (1) . والثانية في مكتبة تشستربيتي برقم [3296] . (الورقة 14ب-15أ) ، وهي نسخة مقابلة مصححة بخط نسخي جيد، كتبت في القرن العاشر تقديرًا (2) . (24) "فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر": توجد النسخة الخطية منه في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] (الورقة 42أ- 43أ) . وقد سبق وصفها برقم (6) . (25) "مسألة في تلاوة القرآن والذكر أيهما أفضل": أصلها ضمن المجموعة السابقة في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] (الورقة 40ب-41أ) . وقد أشار الشيخ في هذه المسألة إلى فتاوى أخرى له في هذا الموضوع، يُوجد بعضها في "مجموع الفتاوى" (23/56- 60، 62-63) . (26) "فتوى في السماع": توجد نسختها الخطية ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] (الورقة 30أ-ب) ، وقد سبق وصفه برقم (4) . (27) "مسألة في رجلٍ شتم شريفًا": توجد منها نسختان خطيتان، إحداهما في المجموعة السابقة في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] (الورقة 10ب-11ب) . والثانية في مكتبة المدرسة القادرية ببغداد، ضمن مجموعة من فتاوى الشيخ بخط حديث من القرن الرابع عشر بقلم محمد بن علي بن الملا أحمد.   (1) انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية [المجاميع] (2/137) . (2) انظر فهرس المكتبة -بالإنجليزية- (2/20) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 (28) "قاعدة في حضانة الولد": توجد منها نسخة خطية في المكتبة الأزهرية برقم [182 مجاميع] 4485) (الورقة 163-176) (1) ، وهي بخط عبد المنعم البغدادي الحنبلي، كتبها في شهر ربيع الأول سنة 764. والنسخة مقابلة على أصلها، فقد كتب في آخرها: "بلغ مقابلةً بحولِه ومنِّه، فصحّح حسب الطاقة في ليلة صباحُها خامس عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة الأربع والستين وسبعمائة، أحسن الله عاقبتها بمنّه وكرمه". ومنها نسخة ثانية بعنوان "حضانة الصغير" في مكتبة غوطا بألمانيا برقم [71/6] (الورقة 82- 100) ، وثالثة في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [3835] (الورقة 122-132) وهي ناقصة من آخرها. وبعد، فهذا وصف موجز للأصول المعتمدة في إخراج هذه المجموعة الثالثة من "جامع المسائل"، وقد سبق أن ذكرتُ منهج التحقيق في مقدمة المجموعة الأولى منه (ص21) ، فأكتفي بالإحالة إليها. وفي الختام أحمد الله تعالى على توفيقه، وأشكره على تيسيره، وأسأله المزيدَ من فضله والإعانةَ على إصدار بقية الكتب والرسائل، إنه نعم المولى ونعم النصير. محمد عزير شمس   (1) انظر فهرس المكتبة (2/646) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 - نماذج من النسخ الخطية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 فصل في الفرق بين ما أمر الله تعالى به ورسولُه من إخلاص الدين لله وشريعته، وبين ما نهى عنه من الإشراك والبدع في زيارة القبور ونحو ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآلِه أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فهذا فصل في الفرق بين ما أمر الله تعالى به ورسولُه من إخلاصِ الدين لله وشريعتهِ، وبين ما نهى عنه من الإشراك والبدع في زيارة القبور ونحو ذلك، فنقول: زيارة القبور جائزة، سواء كان الميِّتُ مسلمًا أو كافرًا، لكن يُفرَّق بينهما في الزيارة، فأما الكافر فيُزَار قبرُه ليُذكر الموت، ولا يجوز الاستغفارُ له ولا الدعاءُ له بالرحمة ونحو ذلك، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تُذكِّر الآخرة". وثبتَ عنه في الصحيح (2) أنه قال: "استأذنتُ ربّي في أن أزورَ قبرَ أمي فأَذِنَ لي، واستأذنتُه في أن أستغفر لها فلم يأذن لي. فزوروا القبور فإنها تُذكِّر الآخرة". وقد زار أمَّه في ألف مقنع عام فتح مكة، فبكى وأبكى من حولَه، وقد كانت أمُّه ماتتْ كافرة فيِ الجاهلية قبل أن يَبلُغَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك في الصحيح (3) أنه حَضرَ عمَّه أبا طالب حينَ موته، وعنده أبو جهلٍ وعبد الله بن أبي أمية، فقال: "يا عَمِّ! قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله"، فقالا: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: "لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك"، فأنزل الله تعالى:   (1) أخرجه مسلم (977) عن بريدة بن الحصيب. (2) مسلم (976) عن أبي هريرة. (3) البخاري (1360 ومواضع أخرى) ومسلم (24) عن المسيّب بن حزن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) (1) . وذلك أن بعض المسلمين احتِج بأن إبراهيم وعدَ أباه بالاستغفار، واستغفرَ له بقوله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (2) ، فأجاب الله عن ذلك، وأمرنا أن نتأسَّى بإبراهيم في موعده بالاستغفار لأبيه، فقال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) الآيات (3) . فذكر سبحانَه أن المؤمنين لهم أسوة حسنة في إبراهيم والمؤمنين معه إذ تبرَّءوا من المشركين وما يعبدون من دون الله، إلا في هذا القول الذي قاله إبراهيم لأبيه، فإنهم ليس لهم في ذلك أسوة. وأما زيارة قبور المؤمنين من الأنبياء والصالحين وغيرهم فإنها من جنس الصلاة على جنائزهم، قال الله تعالى في المنافقين: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)) (4) ، فنهى نبيه عن الصلاة على المنافقين وعن القيام على قبورهم لأجل أنهم كفار، وكان ذلك دليلاً على أن المؤمنين يُصلَّى عليهم ويُقامُ على قبورِهم. وهذه كانت سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في   (1) سورة التوبة: 113- 114. (2) سورة إبراهيم: 41. (3) سورة الممتحنة: 4 وما بعدها. (4) سورة التوبة: 84. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 المؤمنين، فإن الصلاة على المسلمين مشروعة بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتواترة بإجماع المؤمنين، وهي فرض على الكفاية. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلى على جنازة فله قيراطٌ، ومن اتبعها حتى يُدفَن فله قيراطانِ أدناهما مثلُ أُحُد" (1) . وكذلك بعد الدفن يُستَحبّ أن يُزارَ فيُسَلَّم عليه ويُدعَى له بالمغفرة والرحمة ونحو ذلك. ويُستحبُّ حينَ الدفنِ أن يُدعَى له أيضًا، كما ثبت في سنن أبي داود (2) عن عثمان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول إذا دفنَ الميِّتَ أصحابُه: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسأل". أي اسألوا له أن يُثبِّتَه الله بالقول الثابت، كما قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)) (3) ، وقد ثبت في الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذه الآية نزلتْ في عذاب القبر حينَ يُسأَلُ الميِّتُ: مَن ربُّك وما دينُك ومن نبيُّك؟ وأما بعد الدفن، فكما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأمر أصحابَه إذا زاروا القبورَ أن يقولوا: "سلامٌ عليكم أهلَ دارِ قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تَحرِمْنا أجرَهم ولا تَفتِنَّا بعدَهم، واغفر لنا ولهم" (5) .   (1) أخرجه البخاري (1325) ومسلم (945) عن أبي هريرة. (2) برقم (3221) . (3) سورة إبراهيم: 27. (4) البخاري (1369، 4699) ومسلم (2871) عن البراء بن عازب. (5) أخرجه مسلم (975) عن بريدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 وثبت أيضًا في الصحيح أنه كان يخرج إلى أهل البقيع، فيدعو لهم ويستغفر لهم (1) . وثبت أيضًا في الصحيح أنه خرج إلى شهداء أُحد قبل موته، فصلَّى عليهم ودعا لهم (2) . فهذان أمران مشروعان: السلام على الميت والدعاء له. وقد قال ابن عبد البر (3) : ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من رجلٍ يَمُرُّ بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا، فيُسَلِّم عليه، إلا ردّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلامَ" (4) . وفي سنن أبي داود (5) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من رجلٍ يُسَلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام". وفيه أيضًا أنه قال: "أكثروا عليَّ من الصلاة يومَ الجمعة وليلةَ الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليَّ "، فقالوا: كيف تُعرَض صلاتُنا عليك وقد أَرِمتَ؟ فقال: "إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء" (6) . وأما الدعاء حين الزيارة فمن جنس الدعاء في صلاة الجنازة، كلُّ ذلك حقّ للميت وعملٌ صالح من الحيّ، مثل الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) أخرجه أحمد (6/252) عن عائشة. وأخرجه مسلم (974) عنها مطولاً. (2) أخرجه البخاري (1344 ومواضع أخرى) ومسلم (2296) عن عقبة بن عامر. (3) في "الاستذكار" (1/234) . (4) أخرجه ابن عبد البر في المصدر السابق. وصححه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الصغرى" (1/345) و"الأحكام الوسطى" (2/152، 153) . (5) برقم (2041) . وأخرجه أيضًا أحمد (2/527) . (6) أخرجه أحمد (4/8) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/91) وابن ماجه (1085، 1636) عن أوس بن أوس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 والسلام عليه، وسؤال الله له الوسيلةَ، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة وغيرها. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)) (1) . وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من صلَّى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا". وثبت في الصحيح (3) أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكونَ أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلةَ حلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة". وثبت في الصحيح (4) عن أبي الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من رجلٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكَّلَ الله به ملَكًا كلَّما دعا لأخيه بدعوةٍ قال الملكُ به: آَمين، ولك مثل ذلك ". فأمَّا [ما] يُسمِّيه كثيرٌ من الناس زيارةً هي من جنس الإشراكِ بالله وعبادة غيرهِ، مثل السجود لبعض المقابر التي يُقال إنها من قبور الأنبياء والصالحين وأهل البيت أو غيرهم ويسمُّونها المشاهد، أو الاستعانة بالمقبور ودعائِه ومسألتِه قريبًا من قبره أو بعيدًا منه، مثل ما يفعل كثير من الناس-: فهذا كلُّه من أعظم المحرَّمات بإجماع المسلمين، وهو من جنس الإشراك بالله تعالى، فإن المسلمين (5) متفقون على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يدعوَ أحدًا ويتوكَلَ عليه ويرغبَ   (1) سورة الأحزاب: 56. (2) مسلم (408) عن أبي هريرة. (3) مسلم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (4) مسلم (2732) . (5) في الأصل: "المسلمون". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 إليه في المغفرة والرحمةِ وتفريج الكُرباتِ وإعطاءِ الطلباتِ إلا الله وحده لا شريك له، ولا يسجد لغَيرِ الله لا لحيٍّ ولا لميّتٍ، حتى إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أمتَه عن اتخاذ القبور مساجدَ لئلاّ يُفضِي ذلك إلى الشرك. ففي صحيح مسلم (1) عن جابر بن عبد الله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال قبل أن يموتَ بخمسٍ: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، إلا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي الصحيحين (2) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يُحذر ما فَعَلوا. قالت عائشة (3) : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي الصحيحين (4) أيضًا أنّ أم سلمة وأم حبيبة ذكرتَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كنيسةً رأينَها بأرض الحبشة، وذكرتَا حُسنَها وتصاويرَ فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أولئك إذا ماتَ فيهم الرجل الصالح بَنَوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصُّور، أولئك شرُّ الخلق عند الله يوم القيامة". وفي مسند الإمام أحمد (5) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنّ من شِرار الناس مَن تُدرِكهم الساعةُ وهم أحياءٌ، الذين يتخذون القبور مساجد". وعن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لَعن الله زوَّاراتِ القبور   (1) برقم (532) عن جندب بن عبد الله لا عن جابر. (2) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) . (3) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) . (4) البخاري (427، 434، 1341) ومسلم (528) عن عائشة. (5) 1/405، 435. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (789) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 والمتخذين عليها المساجد والسُّرُجَ". رواه أهل السنن (1) ، وصححه الترمذي أو حسَّنَه. فلَعَن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يتخذ القبور مساجد ويُسرج عليها سُرُجًا كالشمع والقناديل ونحو ذلك، مثل ما يفعله كثير من الناس، وهذا ما اتفقَ عليه أهلُ العلم، فلم يتنازعوا في أنَّ ذلك غيرُ مشروع، بل يُنهَى عنه، حتى قال العلماء: من نَذَر لنبي أو غيرِ نبيّ شمعًا أو زيتًا أو نحو ذلك فإنَّه نذرُ معصيةٍ لا يجوزُ الوفاءُ به، لكن منهم من يَجعلُ عليه كفَّارةَ يمينٍ، ومنهم من يقول: لا شيء. وإذا صَرَفَ ذلك إلى مسجدٍ يُعبَد الله فيه وحده لا شريك له، أو صَرَفه إلى فقراء المسلمين المؤمنين الذين يَستعينونَ به على عبادةِ الله كان حسنًا. وقد ثبت في صحيح البخاري (2) عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من نَذَر أن يُطيعَ الله فليُطِعْه، ومَن نَذَر أن يَعصِيَ اللهَ فلا يَعصِه". وأما اعتقادُ بعض الجهّال أن حاجتَه قُضِيتْ بسبب هذه النذور فهذا جهلٌ وضلالٌ، فإن نذرَ الطاعة الذي يجب الوفاءُ به لا يُفيد في قضاء الحوائج، ولا يُستَحبّ بل يُكرَه، فكيف نذرُ المعصية؟ وقد ثبتَ في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غيرِ وجهٍ أنه نَهَى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخيرٍ، وإنما يُستَخرج به من البخيل" (3) . وقال: "إنّ النذر يَرُدُّ ابنَ آدمَ إلى القدر، فيعطي على النذر ما لم يُعطه على غيره" (4) .   (1) أخرجه أبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) . وتكلم عليه الألباني في "الضعيفة" (225) . (2) برقم (6696، 6700) . (3) البخاري (6608، 6692، 6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر. (4) أخرجه البخاري (6694) ومسلم (1640) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 لكن إذا كان المنذور طاعة لله تعالى -مثل الصلاة المشروعة والصوم المشروعِ والحج المشروع والصدقة المشروعة ونحو ذلك- فهذا يجب أن يُوفَى، وإن كان عَقْدُه مكروهًا، لقولِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نَذَر أن يُطيع الله فليُطِعْه، ومن نَذَر أن يَعصِيَ الله فلا يَعْصِه" (1) . وأما إذا كان المنذورُ ليس طاعة لله فلا يجب الوفاء به، بل عليه كفّارةُ يمينٍ لتركِه عند طائفة من أهل العلم، لما ثبتَ في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كفارةُ النذر كفارةُ يمين" (2) . وفي السنن عنه أنه قال: "لا نذرَ في معصية، وكفارتُه كفارةُ يمين" (3) . وأما إذا كان المنذور معصيةً، مثل أن ينذرَ لوثنٍ من الأوثان: كالنذر للأصنام التي كانت تَعبُدها العرب، والبُدود التي تعبدها الهند والزُّطُّ (4) ، والنذر لكنيسةٍ أو بيْعةٍ، أو النذر لغير نبي أو رجلٍ صالح أو غير ذلك، فهذا كلُّه لا يجوَز الوفاءُ به بإجماعِ المسلمين. وإن كان في المنذور طاعة ومعصية أُمِرَ بفعل الطاعة ونُهِيَ عن فِعل المعصية، وإن كان الناذرُ يَعتقد أنها طاعة، كما في صحيح البخاري (5) عن ابن عباس قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، إذا هو برجلٍ قائم، فسألَ عنه، فقالوا: أبو إسرائيلَ نَذَر أن يقومَ في الشمس، فلا يقعدَّ وَلا يَستظلّ ولا يتكلَّم، ويصوم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مُرُوهُ فلْيتكلمْ   (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه مسلم (1645) عن عقبة بن عامر. (3) أخرجه أبو داود (3290- 3292) والترمذي (1524، 1525) والنسائي (7/26، 27) وابن ماجه (2125) عن عائشة. (4) في الأصل: "الخطا"، وهو تحريف. (5) برقم (6704) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 ولْيستظِلَّ ولْيقعدْ ولْيُتمَ صومَه". وهكذا حكمُ جميع العقود والعهود التي يأخذها المشايخ وغيرهم على الناس، يُوفى منها ما كان طاعةً الله عزَّوجلّ، ولا يُوفَى منها بدينٍ لم يَشرعْه الله. وكذلك لا يُشْرَعُ بإجماع المسلمين أن يَبنيَ مسجدًا على قبرٍ من القبور، بل هذا يُنْهَى عنه باتفاق المسلمين، وهو محرَّمٌ نَهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، ولَعنَ من يفعل ذلك. والمساجدُ المبنيةُ على القبور يُشرَعُ باتفاق المسلمين إزالتُها ويَجب ذلك، فإن كان المسجد قِبَلَ القبر فإنه ينبغي أن يُسَاوَى القبرُ ويُزالَ أَثَرُه، أو يُعادَ المسجدُ إلى ما كان. وإن كان المسجدُ يُبني على القبر فيُهدَم المسجدُ ويُزَال، كما هُدِمَ مسجدُ الضرار الذي قال الله تعالى فيه: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ_ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)) (1) . ولهذا كان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرون بهدمِ مثلِ ذلك، كما روى حرب الكرماني عن زيد بن ثابت أن ابنًا له ماتَ، فاشترى غلامٌ له جَضًا وآجُرًّا لِيَبنيَ على القبر، فقال له زيد: حفرتَ وكفرتَ، أتُريد أن   (1) سورة التوبة: 107- 110. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 تَبنيَ على قبرِ ابني مسجدًا؟ ونهاه عن ذلك. ولهذا لما فتح المسلمون تُسْتَر- التي يُسمونها العجمُ "شُشْتَر"- وجدوا عندها قبرًا عظيمًا قالوا: إنه قبرُ دانيال، ووجدوا عنده مصحفًا. قال أبو العالية: أنا قرأتُ ذلك المصحف، فإذا فيه أخباركم وسِيَرُكُم ولحونُ كلامكم، وشَمُّوا من القبر رائحةً طيبةً، ووجدوا الميتَ بحالِه لم يَبْلَ، فكتب في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يحفِرَ بالنهار بضعةَ عشرَ قبرًا، فإذا كان الليلُ دَفَنَه في قبرٍ من تلك القبور لِيَخفَى أثرُه، لئلا يُفتَتَنَ به الناسُ، فينزلون به ويُصلُّون عنده ويتخذونه مسجدًا (1) . وقد اتفق المسلمون على أن الصلاةَ عند القبور غيرُ مشروعة، فلا تجب ولا تُستَحبّ، ولم يَقُلْ قَطُّ أحدٌ من علماءِ المسلمين أن الصلاةَ عندْ قبرٍ أو مسجدٍ أو مشهدٍ على قبرٍ سواء كان قبرَ نبيّ أو غير نبي، أن ذلك مستحب، أو أن الصلاةَ هناك أفضل من الصلاة في غيره، فمن اعتقد ذلك أو قالَه أو عَمِلَ به فقد فارقَ إجماعَ المسلمين وخَرجَ عن سبيل المؤمنين. وقد تنازع العلماءُ في الصلاة في المقبرة، قيل: هي محرَّمة أو مكروهة أو مباحة، ولم يَقُل أحدٌ منهم: إنها مستحبة ولا واجبة. والذي عليه جماهير العلماء أنها منهيٌّ عنها نهيَ، تحريم أو نهيَ تنزيه، وكثيرٌ منهم يقول: إنها باطلةٌ. والمقبرة وإن كان قد قال بعضهم: إنها ثلاثةُ أَقْبُرٍ فصاعدًا، فلم   (1) نقل ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/376-378) خبر دنيال هذا عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق بإسنادِه إلى أبي العالية؛ ومن كتاب "أحكام القبور" لابن أبي الدنيا بإسناده إلى أبي موسى الأشعري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 يتنازعوا في أن المسجد المبني على قبرِ لا فرقَ بين أن يُبنَى على قَبرٍ أو أكثر، كالذين لعنَهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهم إنما كانوا يَبنُون المسجد على قبرٍ واحد، قبرِ نبي أو رجلٍ صالح. وإن كان بعضُ من نهَى عن الصلاة في المقبرة علَّلَه بالنجاسة، فإنه لا يُعلِّل الصلاة في المسجد المبني على قبر بالنجاسة، بل قد نَصَّ هؤلاء -كالشافعي وغيرِه- على أن العلَّة هنا خشيةُ الافتتان بالقبر التي هي الشرك. وأما الصلاة في المقبرة فالعلة الصحيحة عند محققيهم أيضاً إنما هي مُشابهتُه للمشركين وأن ذلك قد يُفضِي إلى الشرك، كما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة وقتَ طلوع الشمس ووقتَ غروبها، وقال: إنه حينئذٍ يَسجُد لها الكفَّار (1) . ولهذا نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة إلى القبور، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم (2) وغيره عن أبي مَرثد الغنوي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تُصَلُّوا إليها". فنهى أن يكون في القبلة قبر. وفي صحيح البخاري (3) عن أنس قال: كنتُ أصلِّي وهناك قبرٌ، فقال عمر بن الخطاب: القبر القبر! فظننتُه يقول: القمر، وإذا هو يقول: القبر. أو كما قال. وإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن الصلاة إلى القبر وإن لم يَقصِد العبدُ السجودَ له، فكيف بمن يسجد للقبرِ؟ فإن هذا شرك. وقد روى   (1) أخرجه مسلم (832) عن عمرو بن عبسة ضمن حديث طويل. (2) برقم (972) . وأخرجه أيضًا أحمد (4/135) وأبو داود (3229) والترمذي (1050، 1051) والنسائي (2/67) . (3) 1/523 (مع "الفتح") معلّقًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 الإمام أحمد (1) عن معاذ بن جبل أنه لما قَدِمَ الشامَ وجدَهم يسجدون لأسَاقِفَتِهم، فلما رجعَ سجدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "ما هذا يا معاذ؟ "، فقال: يا رسولَ الله! رأيتُهم يسجدون لأساقفتهم وعُظَمائهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال: "إنه لا يَصلُح السجودُ إلا الله، ولو كنتُ آمرُ أحدًا أن يَسجُد لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تَسجُدَ لزوجها، لعِظَمِ حقَه عليها". ثم قال: "يا معاذ! أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنتَ ساجدًا إليه؟ "، قال: لا، قال: "فلا تسجد لي". فمعاذٌ كان يَعلم أن السجودَ للقبور لا يجوز. قال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)) (2) . وهذا في كتاب الله كثير جدًا. وقال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)) (3) . وقال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ   (1) 4/381. وأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (2/175) . (2) سورة الأنبياء: 26-29. (3) سورة الزمر: 36- 38. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)) (1) وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: (فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)) الآيات إلى (وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)) (2) . وفي الصحيحين (3) عن عبد الله بن مسعود قال: لمَّا (4) [نزلتْ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: أيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ليس هو كما تظنّون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)) ] . كان يُظَنُّ أن السجود للحيّ مشروع، كما ذكر في قصة يوسف، وكما ذكر في قصة أهل الكهف أن أولئك اتخذوا عليهم مسجدًا، فبيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه في شريعتِنا لا يَصلُح السجودُ إلا لله، كما بيّن في الأحاديث المتقدمة أن الذين اتخذوا على أهل الكهف مسجدًا من الذين نهانا رسولُنا أن نتشبَّهَ بهم. وكذلك التمسُّح بالقبور - كاستلامِها باليد وتقبيلها بالفم- منهيٌّ عنه باتفاق المسلمين، حتى إنهم قالوا فيمن زار قبرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه لا يَستلِمُه بيدِه ولا يُقبِّله بفمِه، فلا يُشبه بيت المخلوق ببيت الخالق الذي هو الكعبة البيت الحرام، فإن الله شرعَ أن يَستَلِم الحجرَ الأسودَ   (1) سورة فاطر: 2- 3. (2) سورة الأنعام: 78- 82. (3) البخاري (32، 3360، 3428 ومواضع أخرى) ومسلم (124) . (4) سقط بعدها ذكر الحديث الوارد في تفسير آية الأنعام السابقة، فاضفناه بين معكوفتين، ولا ندري مقدار السقط بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 الذي بمنزلة يمينه في الأرض، وأن يُقبّله أيضًا، حتى إنه يُستحبُّ إذا لم يُمكِن تقبيلُه أن يُقبِّلَ اليدَ التي استلَمتْه، حتى إنه يستحبُّ استلامُه بالمِحْجَنِ والعصا ونحو ذلك إذا لم يُمكِن استلامُه باليد. وكذلك الركن اليماني يستحبُّ استلامُه. ولم يَستلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أركان البيت الأربعة إلا الركنينِ اليمانيينِ، لأنهما بُنيا على قواعدِ إبراهيم، وأما الركنانِ اللذانِ يَلِيَانِ الحِجْرَ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يَستلمْهما، ولهذا لا يستحبُّ استلامُهما عند الأئمة الأربعة وعامةِ العلماء، كما لا يُستَحبُّ أن يَستلِمَ الرجلُ جوانبَ بيتِ الله، ولا يستحبُّ تقبيلُ ذلك أيضًا. وكذلك مقام إبراهيم الذي قال الله تعالى فيه: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) (1) لم يَستلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يُقبِّلْه، ولا يُشْرَعُ ذلك فيه بل يُنهَى عنه باتفاقِ العلماء. فإذا كان مقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن لا يُشْرَع أن يَتَمسَّحَ العبدُ به فكيف سائر المقامات والمشاهد التي يُقال: إنها أثر بعضِ الأنبياء والصالحين؟. وإذا كان قبر نبينا لا يُشرَع باتفاق المسلمين بأن يُقبَّلَ أو يمَسَّح به، فكيف بقبر غيره؟ وفي سنن أبي داود (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر". وقال أيضًا (3) : "صَلُّوا عَليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني". ولهذا رأى عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب رجلاً يُكثِر الاختلاف إلى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا هذا! إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تتخذوا قبرِي عيدًا، فصَلُّوا عليَّ حيثما كنتم، فإن   (1) سورة البقرة: 125. (2) برقم (2042) عن أبي هريرة. (3) كما في المصدر السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 صلاتكم تبلغني"، فما أنتَ ورجلٌ بالأندلس فيه إلا سواء. ذكره سعيد بن منصور في سننه (1) ، ورَوى بنحو هذا المعنى علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه الحسين عن علي بن أبي طالب. ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في صحيحه (2) . ورُوِي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "اللهمَّ لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ". رواه مالك في "الموطأ" (3) ، وعن مالك مرسلاً ومسندًا. وقد كانت حجرةُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي هو الآن مدفونٌ فيها هي حجرة عائشة، وكانتْ شرقيَّ المسجد لم تكن داخلة فيه، وكان حُجَرُ أزواجِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبلي المسجد وشرقيّه، وكانت منفصلةً عن المسجد على عهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الوليد بن عبد الملك، فإنه عَمرَ المسجدَ وغيرَه، وكان عمر بن عبد العزيز نائبَه على المدينةِ، فتولَّى هو عمارةَ المسجدِ، فأدخلَ فيه حُجَرَ أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأدخلَ فيه حجرةَ عائشة، وأمر عمرُ أن يُحَرَّفَ الحجرة عن يمينِ القبلة، وأن يُسَنَّم مؤخَّرُها، لئلاَّ يُصلَّي أحدٌ إلى قبر.. (4) .   (1) وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "مصنفه" (3/577) وغيره بنحوه، انظر "تحذير الساجد" (ص141) ، ولكن في هذه المصادر أن الذي أنكر هو حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب. (2) وأخرجه أيضًا إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي" (20) . (3) 1/172 عن عطاء بن يسار مرسلاً. قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث. (4) انتهى الموجود من الأصل، وبعده خَرمٌ بفعل فاعلٍ! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 فصل في حقّ الله وحقّ عبادته وتوحيده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصل في حق الله وحق عبادته وتوحيده قد ثبت في الصحيحين (1) عن معاذ بن جبل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "يا معاذ بن جبل! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسولُه أعلم، قال: "حقُّه عليهم أن يعبدوه لا يُشرِكوا به شيئا. يا معاذ! أتدري ما حقُّ العبادِ على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسولُه أعلم، قال: "حقُّهم عليه أن لا يُعذِّبهم". وروى الطبراني في كتاب الدعاء (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله يقول: "يا عبادي! إنما هي أربعٌ: واحدٌ لي، وواحدة [لك] ، وواحدةٌ بيني وبينك، وواحدةٌ بينك وبين خلقي، فالتي هي لي: تعبدني لا تشرك بي شيئا، والتي هي لك: [عملك] أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك: منك الدعاء وعليَّ الإجابة، والتي بينك وبين خلقي: فأتِ إلى الناس ما تُحبُّ أن يأتوه إليك". وضدُّ هذا الظلم، وهو ثلاثة أنواع، كما جاء في الحديث   (1) البخاري (7373) ومسلم (30) . (2) رقم (16) عن أنس. وإسناده ضعيف لضعف صالح بن بشير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 مرفوعًا (1) وموقوفًا على بعض السلف: "الظلم ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئا، وديوانٌ لا يَعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا. فالديوان الذي لا يغفره الله هو الشرك، والديوان الذي لا يَعبأ الله به شيئا ظلم العبد فيما بينه وبين ربه، والذي لا يترك منه شيئا ظلم العباد بعضهم بعضًا. فالتوحيد ضدُّ الشرك، فإذا قام بالتوحيد الذي هو حقُّ الله، فعَبَدَه لم يُشرِك به شيئا، ومن عبادته التوكل عليه والرجاء له والخوف منه، فهذا يَخْلُصُ به العبد من الشرك. وإعطاءُ الناسِ حقوقَهم وامتناعه من العدوان عليهم يَخْلُص به العبدُ من ظلمهم، وبطاعة الله يَخْلُص من ظُلم نفسِه. وتقسيمُه في الحديث إلى قوله "واحدةٌ لي وواحدة لك" هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة (2) حيث يقول الله تعالى: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل". والعبد يَعُود عليه نفعُ الصنفين، والله تعالى يُحِبُّ الصنفين، لكن هو سبحانه يُحِبّ أن يُعبَد، وما يُعطِيه العبدَ من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك، فإنما يُحبُّه لكونه طريقًا إلى عبادته. والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولاً، وهو محتاجٌ إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يَصِل إلى العبادة. فهو يطلب ما يحتاج إليه أولاً مما يتوسَّل به إلى محبوب الربّ الذي فيه سعادتُه.   (1) أخرجه أحمد في مسنده (6/240) والحاكم في "المستدرك" (4/575-576) عن عائشة مرفوعًا. وضعفه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (5133) و"شرح الطحاوية" (ص326) . (2) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/84) ومسلم (395) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وكذلك قوله "عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه"، فإنه يحب الثواب الذي هو جزاء العمل، فإنما يعمل لنفسه، لها ما كسبتْ وعليها ما اكتسبت. ثم إذا طلب العبادة فإنما يطلبها من حيث هي نافعة له محصِّلَة لسعادته، فلا يطلب العبد قَطُّ إلا ما فيه حظٌّ له، وإن كان الربُّ يُحِبُّ ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، والربُّ تعالى يحبُّ أن يُعبَد لا يُشرَك به شيئا، ومن فعل ذلك من العباد أحبَّه وأثابَه، فيَحصُل للعبد ما يُحِبُّه من النعيم تبعًا لمحبوب الربّ، وهذا كالبائع والمشتري، البائع يريد أولاً الثمن، ومن لوازم ذلك إرادة تسليم المبيع، والمشتري يريد السلعة، ومن لوازم ذلك إرادة إعطاء الثمن. فالرب تعالى يُحبّ أن يُعبَد، ومن لوازم ذلك أن يحبّ مالا تَحصُل العبادةُ إلا به، والعبد يحبّ ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك محبته لعبادة الله تعالى. فمن عَبَد اللهَ وأحسن إلى الناس لله فهذا قائم بحقّ الله وحقّ عبادِه لأجله، ومن طلبَ منهم العوضَ ثناءً أو دعاءً أو غير ذلك لم يُحسِن إليهم لله. ومن خافَ اللهَ فيهم ولم يَخَفْهم فقد قام بحقّ الله في إخلاص الدين له، وقام بحقّهم، فإنّ خوف الله يحمله على أن يعطيهم مالهم ويَكُفَّ عن ظلمهم؛ ومن [لم] يخفِ اللهَ بل خافَ الناسَ، ولم يَرجُ الله بل رَجَا الناسَ فهذا ظالم في حق الله، حيث خافَ غيرَه ورَجَا غيرَه، وظالم للناس لأنه إذا خافهم دون الله فإنه يحتاج أن يدفعَ شرَّهم عنه، وهو إذا لم يخفِ اللهَ بنفسِه وهواه يختار العدوانَ عليهم والبغي، فإن طبع النفس ظُلم من لا يظلمها، فكيف من يظلمها؟ فتجد هذا الضربَ كثيرَ الخوف من الخلق كثير الظلم لمن يخافه بحسبه. وهذا مما يُوقع الفِتنَ بين الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وكذلك إذا رَجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلابدّ أن يُبغِضَهم فيظلمَهم إذا لم يكن خائفًا من الله. وهذا موجود كثيرًا، تجد الناسَ يخاف بعضُهم بعضًا ويرجو بعضُهم بعضًا، وكلٌّ من هؤلاء وهؤلاء يتظلَّم من الآخر ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضُهم بعضًا، ظالمون في حق الله حيث خافوا غيرَه ورَجَوا غيرَه، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التي تُعذَّب النفسُ عليها، وهو أيضًا يَجُرُّ إلى فعل المعاصي المختصَّة كالشرب والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبعَ هواه، لاسيما إذا كان طالبًا ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبةً لما تستريح به وتدفع به الغمَّ والحُزن، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح به، فتستريح بالمحرَّمات من فعل الفواحش وشرب المحرَّمات وغير ذلك. و لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى، فإن الإنسان خُلِق محتاجًا إلى جَلْبِ ما ينفعُه ودَفْع ما يَضُرُّه، ونفسُه مريدةٌ دائمًا، ولابُدَّ لها من مرادٍ يكوَن غايةَ مطلوبهَا، فتسكن إليه وتطمئنُّ به، وليس ذلك إلا الله وحدَه لا شريكَ له. فإذا لم تكن مخلصةً له الدينَ عبدتْ غيرَه، فأشركتْ به عبادَةً واستعانَةً، فتعبد غيرَه وتستعين غيرَه. وسعادتُها في أن لا تعبد إلا الله، ولا تستعين إلا الله، فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر، وبإعانته تستغني عن مُعينٍ غيرِه، وإلاّ يَبقَى مذنبًا محتاجًا. وهذا حالُ الإنسان، فإنه محتاج فقير، وهو مع ذلك مذنبٌ خَطَّاء، فلابدّ له من ربِّه الذي يَسُدُّ مَفاقِرَه، ولابُدَّ له من الاستغفار من ذنوبه. قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (1) .   (1) سورة محمد: 19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 فبالتوحيد يَقوى ويستغني، ومن سِرِّه أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله؛ وبالاستغفار له يُغفَر له. فلا يزول فقرُه وفاقتُه إلا بالتوحيد، لابدَّ له منه، وإلاّ فإذا لم يحصل له لم يزل فقيرًا محتاجًا لا يحصل مطلوبه معذَّبًا، والله تعالى لا يغفر أن يُشرَك به. وإذا حَصَل مع التوحيد الاستغفار حَصَل غناه وسعادته، وزال عنه ما يُعذَّب به، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهو مفتقر دائمًا إلى التوكل عليه والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلابدَّ أن يشهد دائمًا فقرَه إليه وحاجته في أن يكون معبودًا له وأن يكون معينًا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه. قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي يخوفكم أولياءه (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)) (1) . هذا هو الصواب الذي علمِه جمهور المفسرين (2) ، كابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والنخعي، وأهل اللغة كالفراء (3) وابن قتيبة (4) والزجاج (5) وابن الأنباري. وعبارة الفراء: يخوِّفكم بأوليائه، كما قال: (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي ببأسٍ، وقوله: (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)) أي بيوم التلاق. وعبارة الزجاج: يُخوِّفكم من أوليائه. قال أبو بكر الأنباري (6) : والذي نختاره في الآية أن المعنى يخوفكم أولياءه، يقول العرب: أعطيتُ الأموال، أي أعطيتُ القومَ الأموالَ، فيحذفون المفعول الأول، ويقتصرون على ذكر الثاني.   (1) سورة آل عمران: 175. (2) انظر تفسير الطبري (4/122) و"زاد المسير" (1/506) . (3) معاني القرآن (1/248) . (4) تفسير غريب القرآن: (ص116) . (5) معاني القرآن (1/490) . (6) نقل عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" (1/507) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 قال فهذا أشبه من ادّعاءِ "باءٍ"، وما عليها دليل ولا تدعو إليها ضرورة. قلتُ: وهذا لأن الشيطان يُخوِّف الناسَ أولياءَه تخويفًا مطلقًا، ليس له في تخويفِ ناسٍ [ضرورة] ، فحذف الأول لأنه ليس مقصودًا. وهذا يسمى حذف اقتصار، كما يقال: فلانٌ يُعطي الأموال والدراهم. وقد قال بعض المفسرين (1) : إن المراد يخوّف أولياءَه المنافقين، ونُقِل هذا عن الحسن والسدِّي. وهذا له وجهٌ سنذكره، لكن الأول أظهر، لأن الآية إنما نزلت بسبب تخويفهم من الكفار. قال الله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)) إلى أن قال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) ، ثم قال: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)) (2) . فإنما نزلت فيمن خوَّف المؤمنين من الناس، وقد قال تعالى: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) ثم قال: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) . والضمير عائد إلى أوليائه الذين قيل فيهم (فَاخشَوهُم) . وأما ذلك القول فالذي قاله فَسَّرها من جهة المعنى أن الشيطان إنما يخوِّف أولياءَه، وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يُخوِّفهم. أو أنهم أرادوا المفعول المتروك، أي يُخوِّف المنافقين أولياءَه، وإلاّ فهو يخوّف الكفار كما يخوِّف المنافقين. ولو أريد أنه يخوف أولياءه أي يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ما يعود إليه، وهو قوله (فَلا تَخَافُوهُمْ) .   (1) نقل عنهم الطبري (4/122) وابن الجوزي في "زاد المسير" (1/507) . (2) سورة آل عمران: 173- 175. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وأيضًا فهذا فيه نظرٌ، فإن الشيطان يَعِدُ أولياءَه ويمنِّيهم، كما قال تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) الآية (1) ، وقال: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (120)) (2) . ولكن الكفار يُوقع الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين، والشيطان لا يختار ذلك، قال تعالى: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) (3) ، وقال تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) الآية (4) ، وقال: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) (5) . وفي حديث قريظة (6) أن جبريل قال: إني ذاهبٌ إليهم فأُزلزِلُ بهم الحصنَ. فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابُهم هو من الله نصر للمؤمنين، ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوِّف الذين أظهروا الإسلام وهم يوالونه من العدو، فإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما قال تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)) (7) ، وقال تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) إلى قوله (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ) الآية (8) .   (1) سورة الأنفال: 48. (2) سورة النساء: 120. (3) سورة الحشر: 13. (4) سورة الأنفال: 12. (5) سورة آل عمران: 151. (6) انظر: "سيرة ابن هشام" (2/233، 234) . (7) سورة التوبة: 56. (8) سورة الأحزاب: 18- 20. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ أوليائه في الآية هو الذي يجعلهم الشيطان مخوِّفين لا خائفين، كما دلَّ عليه سياقُ الآية ولفظُها، وإذا جعلهم الشيطان مخوفين فإنما يخافهم من خوَّفَه الشيطان فجعله خائفًا. فالآية دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوِّفين، ويجعل ناسًا خائفين أولياءَه. ودلَّت الآية على أن المؤمن لا يجوز أن يخاف أولياء الشيطان، وعليه أن يخاف الله، فخوف الله أُمِرَ به وخوفُ أولياء الشيطان نُهِي عنه. وهذا كقوله في الآية الأخرى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) الآية (1) ، فنَهَى عن خشية الظالم وأَمَر بخشيته تعالى. وقال: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) (2) ، وقال: (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)) (3) . وبعض الناس يقول: يا ربِّ! أخافك وأخافُ من لا يخافك. وهذا لا يجوز، بل عليه أن يخاف الله، ولا يخاف من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله ظالمٌ من أولياء الشيطان، وهذا قد نهى الله عن أن يُخاف. وإذا قيل: قد يؤذيني، قيل: إنما يُؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد سبحانه دفعَ شرِّه عنك دَفَعَه، فالأمر لله. أنتَ إذا خفتَ الله فاتقيتَه وتوكلتَ عليه كفاكَ شرَّه، ولم يُسلِّطْه عليك، فانه تعالى قال: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (4) .   (1) سورة البقرة: 150. (2) سورة الأحزاب: 39. (3) سورة النحل: 51. (4) سورة الطلاق: 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وتسليطُه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفتَ الله وتُبتَ من ذنوبك واستغفرتَه [لم يسلِّطه عليك] ، وقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (1) . وفي الآثار: "أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتُهم عليه رحمةً، ومن عصاني جعلتُهم عليه نقمةً، فلا تشتغلوا بسبب الملوك، وأطيعوني أعطِفْ قلوبَهم عليكم". وقد قال لما سلَّط العدوَّ عليهم يوم أحد: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)) (2) ، وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)) (3) . والأكثرون يقرأون "قَاتَل معه ربيون كثير"، والربّيون الكثير عند جماهير السلف والخلف هم الجماعات الكثيرة (4) . قال ابن مسعود وابن عباس- في روايةٍ عنه- والفراء (5) : ألوف كثيرة" وقال ابن عباس -في رواية أخرى- ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدّي والربيع وابن قتيبة (6) : جماعات كثيرة. وقُرِئ   (1) سورة الأنفال: 33. (2) سورة آل عمران: 165. (3) سورة آل عمران: 146- 148. (4) انظر تفسير الطبري (4/77) و"زاد المسير" (1/472) . (5) معاني القرآن (1/237) . (6) تفسير غريب القرآن (ص113) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة الربيون الذين قاتلوا معه هم الذين ما وَهنوا وما ضعفوا وما استكانوا. وأما على قراءة أبي عمرو وابن كثير ونافع "قُتِلَ" ففيها وجهان: أحدهما يوافق معنى هذه الآية، أي قُتِل معه ربيون كثير، فالربيون مقتولون، فما وهنوا أي ما وهن من بقي منهم لقتلِ كثير منهم. والثاني أن النبي قُتِل ومعه ربّيون كثير، فما وهنوا لقتل نبيهم. وهذا يناسب كونَ يومِ أحدٍ صرخ الشيطانُ بأن محمدًا قد قُتِل. لكن هذا المعنى لا يناسب لفظ الآية، فإنه سبحانه قال: "ربيون كثير"، فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة الشاملة لهم ما وهنوا. ولو أريد أن النبي قُتِل ومعه ناس لم يخافوا لم يحتج إلى تكثيرهم، بل كان تقليلهم هو المناسب، يقول: هم مع قلتهم وقتلِ نبيهم لم يخافوا. وأما إذا كانوا كثيرين لم يكن مدحُهم بعدم الخوف فيه عبرة. وأيضًا فإذا وُصِفَ من قُتِلَ نبيُّه بكونهم كثيرين لم يكن في هذا حجة على الصحابة ولا عبرة لهم، فإنهم يوم أحد كانوا قليلين، وكان العدوّ أضعافَهم، فكانوا يقولون: أولئك كانوا ألوفًا مؤلفة فلهذا لم يَهِنُوا، ونحن قليلون. وأيضًا فقوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ) يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يُعرَف أن أنبياءَ كثيرين قُتِلُوا في الجهاد. وأيضًا فيقتضي أن المقتولين كان مع كل واحدٍ ربيون كثيرون، فيكون قد قُتِل أنبياءُ كثيرون، ومع كل واحدٍ خلقٌ عظيم، وهذا لم يُوجَد. فإن مَن قبلَ موسى من الأنبياء لم يكونوا يُقاتِلون، وموسى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وأنبياء بني إسرائيل لم يُقتَلوا في الغَزاة، والذين قبلهم بنو إسرائيل من الأنبياء لم يُقتَلوا في جهادٍ، بل لا يُعرَف نبيٌّ قُتِلَ في جهادٍ، فكيف يكون هذا كثيرًا؟ ويكون جنسُه كثيرًا ولا يُعرَف هذا في شيء من الأخبار؟!. وهو سبحانه أنكر على من ينقلب على عقبيه، سواء كان النبي مقتولاً أو ميتًا، لم يخصَّ حال القتل، فلم يذمّهم إذا مات أو قُتِل على الخوف والرعب، بل على الردَّة والانقلاب على العقبين. ولهذا تلاها الصديق يوم ماتَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكأنَّ الناس لم يسمعوها حتى تلاها (1) . ثمَّ ذكر بعدها معنى آخر، وهو أنّ من قبلكم كانوا يقاتلون، فيُقْتَل معهم خلق كثير وهم لا يَهِنُون. ويكون ذكر الكثرة مناسبًا؛ لأنه إن قُتِلَ منهم كثيرٌ فهذا يقتضي الوهنَ وما وَهَنوا، وإن كان الذين قاتلوا كثيرين وما وَهَنوا دلَّ على إيمانهم كلِّهم مع الكثرة. ولم يقل هنا: وما انقلبوا على أعقابهم، فلو كان المراد أن نبيَّهم قُتِل لقالَ: "فما انقلبوا على أعقابهم"، لأنه هو الذي أنكره إذا مات الرسولُ أو قُتِلَ، فأنكر سبحانه شيئين: الارتداد إذا مات الرسول أو قُتِل، والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو، ولهذا قال: (فَمَا وَهَنُواْ لماَ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اَستَكَانُوا) ، ولم يقل: "فما وهنوا لقتل النبي". ولو كان النبي هو المقتول وهم كلهم أحياء لذكَرَ ما يناسب ذلك ولم يقل (فَمَا وَهَنُواْ لماَ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) . ومعلومٌ أن ما يُصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قَتْلَ نبي.   (1) أخرجه البخاري (1242، 4454 ومواضع أخرى) عن ابن عباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وأيضا فكون النبي قاتل معه أو قُتِل معه ربّيون كثير لا يستلزم أن يكون معهم في الغزاة، بل كل من اتبع النبي وقاتلَ على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من قُتِل على دينه فقد قُتِل معه، وحينئذٍ تظهر كثرة هؤلاء، فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون. ويكون في هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كان النبي قد مات. والصحابة الذين كانوا يغزون في السرايا والرسولُ غائب عنهم كانوا معه وكانوا يقاتلون معه، وهم داخلون في قوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (1) ، وفي قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) (2) . فليس من شرط مَن يكون مع المطاع أن يكون رائيًا للمطاع. وقد قيل في "ربّيين" هنا: إنهم العلماء (3) ، واختاره الرمّاني والزجّاج، ورُوِي عن الحسن وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وذلك قال ابن فارس (4) : هم المتألّهون العارفون بالله. وهؤلاء جعلوا لفظ "الرِّبِّي" كلفظ "الربَّاني". وعن ابن زيد قال: هم الأتباع. كأنه جعلهم المربوبين. والمعنى الأول أصحُّ من وجوه: أحدها: أن الربانيين غيرُ الأحبار، وهم الذين يُرَبُّون الناس، وهم   (1) سورة الفتح: 29. (2) سورة الأنفال: 75. (3) انظر "زاد المسير" (1/472) . (4) "مجمل اللغة" (2/370) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 أئمتهم الذين يقتدون بهم في دينهم. ومعلوم أن هؤلاء لا يكونون إلا قليلاً، فكيف يقال: هم كثير؟. والثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختصُّ بهؤلاء، والصحابة لم يكونوا كلهم ربانيين، فيقولون: أولئك أُعطُوا علمًا منعهم [من] الخوف. الثالث: أن استعمال لفظ "الربِّي" في هذا ليس معروفًا في اللغة، بل المعروف الأول. والذين قالوا ذلك قالوا: هو نسبة إلى الربّ بلا نون، والقراءة المشهورة: "رِبِّيّ" بالكسر، وما قالوه إنما يتوجَّه على قراءة من قرأ "ربيُّون" بالفتح، وقد قُرِئَ "رُبّيُّون" بالضم. فعُلِمَ أنها لغات. الرابع: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كلَّ من يأمره بالجهاد، سواء كان من الربانيين أو لم يكن. الخامس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) (1) ، وفي مثل قوله: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) (2) ، وهناك ذكرهم بلفظ الربانيين. السادس: أن "الرباني" قيل: منسوب إلى الربّ بزيادة الألف والنون، كالرقباني واللحياني، وقيل: إنه منسوب إلى ربَّان السفينة. وهذا أصحّ، فإن الأصل عدم الزيادة في النسبة، لأنهم منسوبون إلى   (1) سورة المائدة: 63. (2) سورة آل عمران: 79. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 تربية الناس وكونهم يُرَبُّونهم، وهذه النسبة تختص بهم. وأما نسبتهم إلى الربّ فلا اختصاص لهم بذلك، بل كلُّ عبدٍ فهو منسوبٌ إليه. ولم يُسمِّ الله تعالى أولياءه المتقين ربانيين، ولا سَمَّى أنبياءه والرسلَ ربانيين، فإن الربَّانيِ من يَرُبُّ الناسَ كما يَرُبُّ الرَّبَّانُ السفينةَ. ولهذا كان الربانيون يُذمُّون تارةً ويُمدَحون أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الربّ بأنهم عرفوه وعبدوه لم يكونوا مذمومين قطُّ، وهذا هو الوجه السابع: أن نسبتهم إلى الرب إن جُعِلَتْ مدحًا فقد ذمَّ الله الربانيين في موضعٍ آخر، وإن لم تُجعَل مدحًا لم يكن لهؤلاء خاصَّةٌ يمتازون بها من جهة المدح. وإذا كان الربَّاني منسوبًا إلى ربَّان السفينة لا إلى الربّ بَطَلَ قولُ من يجعل الربَّانيَّ منسوبًا إلى الربّ، فنسبة "الربيون" إلى الرب أولى بالبطلان. الثامن: أنه إذا قُدِّر أنهم منسوبون إلى الرب فهذه النسبة لا تدلُّ على أنهم علماء، نعم تدلُّ على إيمان وعبادة وتألُّهٍ، قاله ابن فارس. وهذا يَعُمُّ جميع المؤمنين، فكلُّ من عبدَ الله وحدَه لا يُشرِك به شيئًا فهو متألِّهٌ عارفٌ بالله. والصحابة كلُّهم كانوا يعبدون الله وحدَه لا يُشركون به شيئا، وكانوا متألهين عارفين بالله، ولم يُسَمَّوا "ربيون" ولا "ربَّانيون"، وإنما جاء عن منذر الثوري قال: قال محمد بن الحنفية لما مات ابن عباس: اليوم ماتَ ربَّانيُّ هذه الأمة (1) ، لكونه كان يُؤدِّبهم بما أعطاه الله من   (1) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/540) بهذا الطريق. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/368) والبلاذري في "أنساب الأشراف" (3/54) والحاكم في "المستدرك" (5/543) من طريق آخر عن ابن الحنفية بنحوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 العلم، فيأمرهم وينهاهم. والخلفاء الراشدون كانوا ربّانيين. وقال إبراهيم: كان علقمة من الربانيين. ولهذا قال مجاهد: هم الذين يربّون الناس بصغار العلم قبلَ كبارِه. فهم أهل الأمر والنهي والأخبار، يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدَّث به، وإن لم يأمُرْ ويَنْهَ، وذلك هو المنقول عن السلف في "الربَّاني" (1) . نُقِل عن علي رضي الله عنه قال: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويُرَبُّونهم عليها، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء المعلِّمون. قلتُ: أهل الأمر والنهي [هم الفقهاء المعلمون] . وعن قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء. قال ابن قتيبة (2) : واحدهم ربَّاني، وهم العلماء المعلِّمون. وقال أبو عبيد (3) : أحسب الكلمةَ ليست بعربية، إنما هي عبرانية أو سريانية. وذلك أن أبا عبيدةَ زعم أن العرب لا تعرف الربانيين. قال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء وأهل العلم. قال: وسمعتُ رجلاً عالمًا بالكتب يقول: هم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي. قلت: هذا صحيح، واللفظة عربية منسوبة إلى ربّان السفينة، ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربَّانيون، لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل، فلهذا لم يشتهر هذا الاسم عنهم.   (1) انظر تفسير الطبري (3/233) و"زاد المسير" (1/413) و"فتح الباري" (1/160، 161) . (2) تفسير غريب القرآن: 107. نقل عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" (1/413) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 وحكى ابن الأنباري (1) عن بعض اللغويين أن الرباني منسوب إلى الرب، لأن العلم مما يُطاع الله به، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما قالوا: رجل لحياني إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية. وهذا قولٌ ضعيف كما تقدم التنبيه عليه. والله سبحانه أعلم. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.   (1) نقل عنه ابن الجوزي في المصدر السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 رسالة إلى المنسوبين إلى التشيع وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخ الإمام العالم فريد عصره، مُفتِي الفِرَق، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية -رضي الله عنه وأرضاه وأعلى درجته-: هذا الكتاب إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين، الذين يتولَّون الله ورسولَه والذين آمنوا (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)) (1) ، الذين يحبُّون الله ورسولَه ومن أحبَّه الله ورسولُه، ويَعرِفون من حقّ المتصلين برسولِ الله ما شرعه الله ورسولُه، فإنَّ من محبَّةِ الله وطاعتِه محبَّةَ رسولهِ وطاعتَه، ومن محبةِ رسوله وطاعتِه محبَّة من أحبَّه الرسول وطاعة مَن أمرَ الرسولُ بطاعتِه، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)) (2) . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاعَ أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني" (3) .   (1) سورة المائدة: 55- 56. (2) سورة النساء: 59. (3) أخرجه البخاري (2957، 7137) ومسلم (1835) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنما الطاعةُ في المعروف" (1) . وقال: "لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق" (2) . سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاتُه، فإنَّا نَحمدُ إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهلٌ وهو على كل شيء قدير، ونُصلِّي على إمام المتقين وخاتمِ النبيين محمد عبدِه ورسولِه، صلى الله عليه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فإنَّ الله سبحانه وتعالى بعثَ محمدًا بالكتاب والحكمة، ليُخرِجَ الناسَ من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صَراط العزيز الحميد (3) ، وقال الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)) (4) ، وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) (5) ، وقال لأزواج نبيِّه: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) (6) .   (1) أخرجه البخاري (4340، 7257) ومسلم (1840) . (2) أخرجه بهذا اللفظ البغوي في "شرح السنة" (15/44) عن النواس بن سمعان. وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب، والحديث صحيح رواه الحكم بن عمرو الغفاري وعمران بن حصين بنحوه، أخرجه أحمد (4/432، 5/66، 67) وغيره، انظر: "مجمع الزوائد" (5/226) و"السلسلة الصحيحة" (179، 180) . (3) إشارة إلى الآية الأولى من سورة إبراهيم. (4) سورة آل عمران: 164. (5) سورة البقرة: 231. (6) سورة الأحزاب: 34. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 والذي كان يتلوه هو ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيوت أزواجه: كتاب الله والحكمة، فكتاب الله هو القرآن، والحكمة هي ما كان يذكره من كلامه، وهي سنتُه. فعلى المسلمين أن يتعلموا هذا وهذا. وفي الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وغيره (1) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ستكونُ فتنةٌ"، قلت: فما المَخْرَجُ منها يا رسولَ الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبَأُ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدَكم، وحُكْمُ ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تَركَه من جَبَّارٍ قَصَمَهُ الله، ومن ابتغى الهُدى في غيرِه أضلَّه الله، وهو حبلُ الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيمِ، وهو الذي لا تَزِيغ به الأهواءُ، ولا تَلتَبسُ به الألْسُنُ، ولا يَخْلقُ على كثرةِ الردَّ، ولا تَنقضِيْ عجائبُه. منَ قال به صدقَ، ومن عَمِلَ به أُجِرَ، ومن حَكَمَ به عَدَل، ومن دَعَا إليه فدِيَ إلى صراطٍ مستقيم". وقال الله تعالى في كتابه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَميعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) (2) ، وقال في كتابه: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (3) . فذمَّ الذين تفرقوا فصاروا أحزابًا وشيعا، وحَمِدَ الذين اتفقوا وصاروا   (1) أخرجه الترمذي (2906) والدارمي (3334، 3335) وأحمد (1/91) من طريق الحارث الأعور عن علي، والحارث ضعيف، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب. قال الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية (ص71) : هذا حديث جميل المعنى، ولكن إسناده ضعيف. ولعل أصله موقوف على علي رضي الله عنه، فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (2) سورة آل عمران: 103. (3) سورة الأنعام: 159. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 جميعًا معتصمين بحبل الله الذي هو كتابه شيعةً واحدةً للأنبياء، كما قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)) (1) . وإبراهيم هو إمام الأنبياء، كما قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)) (2) ، وقال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)) إلى أن قال: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعلِّم أمتَه أن يقولوا إذا أصبحوا: "أصبحنا على فطرةِ الإسلام وكلمةِ الإخلاص، ودينِ نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وملَّةِ أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين" (4) . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا إني أُوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه، فلا أُلْفِيَنَّ رجلاً شبعانَ على أَرِيْكَتِه يقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلالٍ حلَّلناه، وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه. إلا إني أُوْتيتُ الكتاب ومثله معه" (5) . فهذا الحديث موافق لكتاب الله، فإن الله ذكر في كتابه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) سورة الصافات: 83. (2) سورة البقرة: 124. (3) سورة النحل: 120. (4) أخرجه أحمد (3/406، 407) والدارمي (2691) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (1، 2، 3، 343، 344، 345) عن عبد الرحمن بن أبزي. (5) أخرجه أحمد (4/130) وأبو داود (4604) والترمذي (2664) وابن ماجه (12، 3193) عن المقدام بن معدي كرب، وحسَّنه الترمذي. وله شاهد من حديث أبي رافع، أخرجه أحمد (6/8) وأبو داود (4605) والترمذي (2669) وابن ماجه (13) ، وحسَّنه الترمذي وصححه الحاكم في المستدرك (1/108، 109) والألباني في تعليقه على "المشكاة" (162) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 يتلو الكتاب والحكمة، وهي التي أُوْتِيَها مع الكتاب، وقد أمرَ في كتابه بالاعتصامٍ بحبله جميعًا، ونهى عن التفرق والاختلاف، و [أمر] أن نكون شيعة واحدةً لا شِيَعًا متفرقين. وقال الله تعالى في كتابه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)) (1) . فجعلَ المؤمنين إخوةً، وأمرَ بالإصلاحِ بينهم بالعدل مع وجود الاقتتال والبغي. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مثل المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجَسَدِ بالحُمَّى والسَّهَر" (2) . وقال: "المؤمن للمؤمن كالبُنيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضًا"، وشَبَّكَ بين أصابعِه (3) . فهذه أصولُ الإسلام التي هي الكتاب والحكمة والاعتصام بحبل الله جميعًا، على أهل الإيمانِ الاستمساكُ بها. ولا ريبَ أنّ الله قد أوجبَ فيها من حُرمةِ خُلفائِه وأهلِ بيتِه والسابقين الأولين والتابعين لهم بإحسانٍ ما أوجبَ، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)) (4) .   (1) سورة الحجرات: 9. (2) أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير. (3) أخرجه البخاري (481، 2446، 6026) ومسلم (2585) عن أبي موسى الأشعري. (4) سورة الأحزاب: 28- 29. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما (1) عن أم سلمةَ أن هذه الآيةَ لما نزلتْ أدارَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِسَاءَه على علي وفاطمةَ والحسنِ والحسينِ رضي الله عنهم، فقال: "اللهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي، فأَذْهِبْ عنهم الزَجْسَ وطَهِّرْهم تطهيرًا". وسنتُه تُفَسِّر كتابَ الله وتُبيِّنُه، وتَدُلُّ عليه وتُعبِّر عنه، فلما قال: "هؤلاء أهلُ بيتي" -مع أن سياق القرآن يدلُّ على أن الخطابَ مع أزواجه-علمنا أن أزواجَه وإن كُن من أهلِ بيتهِ كما دلَّ عليه القرآن، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهلَ بيته، لأن صلةَ النسب أقوى من صلة الصِّهر. والعرب تُطلِق هذا البيان للاختصاص بالكمال لا للاختصاص بأصل الحكم، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس المسكينُ بالطوَّاف الذي تَرُدُّه اللقمةُ واللقمتانِ، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكينُ الذي لا يَجدُ غِنىً يُغنِيه، ولا يتَفَطَّنُ له فيُتَصَدَّق عليه، ولا يسأل الناسَ إلحافًا" (2) . بيَّن بذلك أن هذا مختصٌّ بكمالِ المسكنة، بخلاف الطوَّاف فإنه لا تَكْمُل فيه المسكنةُ، لوجودِ من يُعطِيه أحيانًا، مع أنه مسكينٌ أيضًا. ويقال: هذا هو العالم، وهذا هو العدوّ، وهذا هو المسلم، لمن كَمُلَ فيه ذلك، وإنْ شاركه غيرُه في ذلك وكان دونَه. ونظيرُ هذا الحديثِ ما رواه مسلم في صحيحه (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) أخرجه الترمذي (3205، 3787) عن عطاء بن أبي رباح عن عمر بن أبي سلمة. وفي آخر الحديث: "قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبيَّ الله؟ قال: أنتِ على مكانكِ وأنتِ على خير". وأخرجه أحمد (4/107) من حديث واثلة بن الأسقع نحوه. (2) أخرجه البخاري (1476، 1479، 4539) ومسلم (1039) عن أبي هريرة. (3) برقم (1398) عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه أيضًا أحمد (3/24) . وفي الباب عن أبي بن كعب وسهل بن سعد الساعدي. انظر تفسير ابن كثير (2/404، 405) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 أنه سُئِل عن المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى، فقال: "مسجدي هذا" يعني مسجد المدينة. مع أن سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)) (1) يقتضي أنه مسجد قُباء، فإنه قد تَواتَر أنه قال لأهل قباء: "ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟ "، فقالوا: لأننا نَستنجيْ بالماء (2) . لكن مسجده أحقُّ بأن يكون مؤسَّسًا على التقوى من مسجد قُباء، وإن كان كلٌّ منهما مؤسّسًا على التقوى، وهو أحقُّ أن يقوم فيه من مسجد الضرار، فقد ثبتَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأتي قُباءَ كلَّ سَبْتٍ راكبًا وماشيًا (3) . فكان يقوم في مسجده القيامَ الجامعَ يومَ الجمعة، ثمَّ يقومُ بقُباءَ يوم السبت، وفي كلٍّ منهما قد قامَ في المسجد المؤسَّسِ على التقوى. ولمَّا بيَّن سبحانَه أنه يُريد أن يُذْهِب الرجسَ عن أهلِ ببتِه ويُطَهَّرهم تطهيرا، دعا النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأقربِ أهلِ بيتهِ وأعظمِهم اختصاصًا به، وهم: عليٌّ وفاطمةُ -رضي الله عنهَما- وسيِّدا شباب أهل الجنة، جمع الله لهم بين أن قَضى لهم بالتطهير، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان في ذلك ما دلَّنا على أنَّ إذهابَ الرجسِ عنهم وتطهيرَهم نعمةٌ من الله ليُسْبِغَها عليهم، ورحمةٌ من الله وفضلٌ لم   (1) سورة التوبة: 108. (2) أخرجه أحمد (3/422) وابن خزيمه في صحيحه (83) عن عويم بن ساعدة الأنصاري، وأخرجه أحمد (6/6) عن محمد بن عبد الله بن سلام، وأخرجه ابن ماجه (355) عن طلحة بن نافع عن أبي أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك. وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس، انظر تفسير ابن كثير (2/403، 404) . (3) أخرجه البخاري (1193) ومسلم (1399) عن ابن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 يبلغوهما لمجردِ حَوْلهم وقوتهم، إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما يَظنّ من يَظُنّ أنه قد استغنى في هدايته وطاعته عن إعانةِ الله تعالى له وهدايتهِ إيّاه. وقد ثبت أيضًا بالنقل الصحيح (1) أن هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أزواجه، وخيَّرهن كما أمره الله، فاخترنَ الله ورسولَه والدار الآخرةَ، ولذلك أقَرَّهنّ ولم يُطلِّقْهن حتى ماتَ عنهن. ولو أردن الحياة الدنيا وزينتها لكان يُمتِّعهن ويُسَرِّحهن كما أمره الله سبحانه وتعالى، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخشى الأمةِ لربه وأعلَمهُم بحدودِه. ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة للأجور ورفع الوزر بلغَنا عن الإمام علي بن الحسين زينِ العابدين وقُرَّةِ عينِ الإسلام أنه قال: إني لأرجو أن يُعطِيَ الله للمحسن منّا أجرين، وأخاف أن يجعل على المسيء منّا وِزرين. وثبت في صحيح مسلم (2) عن زيد بن أرقم أنه قال: خطبنا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغَدِيرٍ يُدعَى "خُم" بين مكة والمدينة، فقال: "وأهل بيتي، أُذكِّرُكم الله في أهل بيتي، أذكِّركم اللهَ في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: ومن أهلُ بيته؟ قال: الذين حُرِمُوا الصدقةَ: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل عباس. قيل لزيد: أكلُّ هؤلاء أهل بيته؟ قال: نعم. وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوهٍ صحاحٍ (3) أن الله لما أنزل عليه   (1) أخرجه البخاري (4785، 4786) ومسلم (1475) عن عائشة، وأخرجه مسلم (1478) عن جابر بن عبد الله. (2) برقم (2408) . (3) أخرجه البخاري (3370، 4797، 6357) ومسلم (406) عن كعب بن عجرة،= الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)) (1) سأل الصحابة كيف يُصلُّون عليه، فقال: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". وفي حديثٍ صحيح (2) : "اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وأزواجِه وذريته". وثبتَ عنه (3) أن ابنه الحسن لما تناول تمرةً من تمر الصدقة قال له: "كخذ كخ، أما علمتَ أنَّا -آلَ بيتٍ- لا تَحِلُّ لنا الصدقةُ؟ " وقال (4) : "إنَّ الصدقةَ لا تَحِل لمحمدٍ ولا لآل محمد". وهذا -والله أعلم- من التطهير الذي شرعه الله لهم، فإن الصدقةَ أوساخ الناس، فطهَّرهم الله من الأوساخ، وعوَّضَهم بما يُقِيْتُهم من خُمسِ الغنائم، ومن الفَيء الذي جُعِلَ منه رِزقُ محمدٍ، حيث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواه أحمد وغيره (5) : "بعِثتُ بالسيف بين يَدَي الساعةِ حتى   = وأخرجه البخاري (3369، 6360) ومسلم (407) عن أبي حميد الساعدي، وأخرجه البخاري (4798، 6358) عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه مسلم (405) عن أبي مسعود الأنصاري. هذا ما في الصحيحين، وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها المفسرون في تفسير الآية. (1) سورة الأحزاب: 56. (2) حديث أبي حميد الساعدي المذكور. (3) أخرجه البخاري (1485، 1491، 3072) ومسلم (1069) عن أبي هريرة. (4) أخرجه مسلم (1072) عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ضمن حديث طويل. (5) أخرجه أحمد (2/50، 92) وعبد بن حميد في مسنده (848) عن ابن عمر. وأخرج أبو داود (4031) الشطر الأخير منه فقط. والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (1269) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 يُعبَد الله وحده لا شريكَ له، وجُعِلَ رِزْقي تحتَ ظِلِّ رُمْحِي، وجُعِلَ الذلَّةُ والصَّغَارُ على من خالفَ أمري، ومن تَشبَّه بقومٍ فهو منهم". ولهذا ينبغي أن يكون اهتمامُهم بكفايةِ أهل البيت الذين حُرِّمتْ عليهم الصدقةُ أكثر من اهتمامهم بكفاية الآخرين من الصدقة، لاسيَّما إذا تعذَّر أخذُهم من الخمس والفيء، إمّا لقلَّةِ ذلك، وإمّا لظلمِ من يَستولي على حقوقِهم فيَمنعُهم إيّاها من وُلاةِ الظلم، فيُعْطَون من الصدقةِ المفروضةِ ما يكفيهم إذا لم تَحصُل كفايتُهم من الخمس والفيء. وعلى الآخذين من الفيء من ذوي القربى وغيرهم أن يتصفوا بما وصف الله به أهل الفيء في كتابه، حيث قال: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الآيات (1) . فجعل أهل الفيء ثلاثة أصناف: المهاجرين، والأنصار، (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (10)) (2) . وذلك أن الفيء إنما حصلَ بجهادِ المهاجرين والأنصار وإيمانِهم وهجرتهم ونصرتهم، فالمتأخرون إنما يتناولونه مخلفًا عن أولئك، مشبهًا بتناول الوارث ميراث أبيه، فان لم يكن مواليًا له لم يستحق الميراثَ، فلا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ، فمن لم يستغفر لأولئك بل كان مبغضًا لهم خرجَ عن الوصف الذي وصف الله به أهل الفيء، حتى يكونَ قلبه مسلمًا لهم، ولسانُه داعيًا لهم. ولو فُرِض أنه صَدَرَ من   (1) سورة الحشر: 7 وما بعدها. (2) سورة الحشر: 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 واحدٍ منهم ذنب محقَّقٌ فإنّ الله يغفره له بحسناتِه العظيمة، أو بتوبة تَصدُر منه، أوْ يَبتليه ببلاءٍ يكفِّر به سيئاتِه، أو يَقْبَل فيه شفاعةَ نبيِّه وإخوانِه المؤمنين، أو يدعو اللهَ بدعاءٍ يَستجيبُه له. وقد ثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحاح (1) من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حاطب بن أبي بلتعةَ كاتَبَ كفَّارَ مكة لمّا أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغزوهم غزوةَ الفتح، فبعث إليهم امرأةً معها كتابٌ يُخبِرهم فيه بذلك، فجاء الوحيُ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فبعثَ عليًّا والزبيرَ، فأحضَرا الكتابَ، فقال: "ما هذا يا حاطبُ؟ "، فقال: والله يا رسول الله! ما فعلتُ ذلك أذًى ولا كفرًا، ولكن كنتُ امرأ مُلْصَقًا من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من أصحابك لهم قرابات يَحمُون بها أهليهم، فأردتُ أن أتخذَ عندهم يدًا أَحْمِي بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دَعْني يا رسولَ الله أَضرِبْ عُنُقَ هذا المنافق، فقال: "إنه شَهِدَ بدرًا، وما يُدرِيك لعلَّ الله قد اطَّلعَ على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم". وأنزل الله تعالى في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) الآيات (2) . وثَبتَ في صحيح مسلمِ (3) أن غلامَ حاطب هذا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسولَ الله! واللهِ ليدخلَنَّ حاطبٌ النَّارَ، وكان حاطب يُسيءُ إلى مماليكه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كذبتَ، إنه قد شَهِدَ بدرًا والحديبيةَ".   (1) البخاري (3007 ومواضع أخرى) ومسلم (2494) . (2) سورة الممتحنة: 1 وما بعدها. (3) برقم (2495) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يدخلُ النَّارَ واحدٌ بايعَ تحتَ الشجرة" (1) . فهذا حاطبٌ قد تجسَّسَ على رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة فتح مكة التي كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكتُمها عن عدوِّه، وكتَمها عن أصحابه، وهذا من الذنوب الشديدة جدًّا. وكان يُسيء إلى مماليكه، وفي الحديث المرفوع: "لن يدخلَ الجنَّةَ سيئُ الملكة" (2) . ثم مع هذا لمَّا شَهِدَ بدرًا والحديبيةَ غفرَ الله له ورَضِيَ عنه، فإن الحسنات يُذهبن السيئات. فكيف بالذين هم أفضلُ من حاطبٍ، وأعظمُ إيمانًا وعلمًا وهجرةً وجهادًا، فلم يُدْنِبْ أحدٌ قريبًا من ذنوبه؟! ثم إن أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه روى هذا الحديثَ في خلافته، ورواه عنه كاتبُه عبيد الله بن أبي رافع (3) ، وأخبر فيه أنه هو والزبير ذهبا لطلب الكتاب من المرأة الظعينة، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهد لأهل بدرٍ بما شهد، مع علمِ أمير المؤمنين بما جرى، ليَكفَّ القلوب والألسنة عن أن تتكلم فيهم إلا بالحسنى، فلم يأتِ أحدٌ منهم بأشدَّ ما جاءَ به حاطبٌ، بل كانوا في غالِب ما يأتون به مجتهدين، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا اجتهدَ الحاكم فأصابَ فله أجران، وإذا اجتهدَ فأخطأ فله أجرٌ"، وهذا حديث صحيح مشهور (4) .   (1) أخرجه أحمد (3/350) وأبو داود (4653) والترمذي (3860) عن جابر بن عبد الله. وهو عند مسلم (2496) بلفظ: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحدٌ من الذين بايعوا تحتها". (2) أخرجه أحمد (1/7، 12) والترمذي (1946) وابن ماجه (3691) عن أبي بكر الصديق. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" (6340) . (3) كما عند البخاري (3007) ومسلم (2494) . (4) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) عن عمرو بن العاص وأبي هريرة، بلفظ: "إذا حَكَم الحاكم ... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وثبتَ عنه (1) أيضا أنه لما كان في غزوة الأحزاب فَرَدَّ الله الأحزابَ بغَيظِهم لم ينالوا خيرا، وأمر نبيَّه بقصد بني قريظة، قال لأصحابه: "لا يُصلِّيَنَّ أحدٌ منكم العصرَ إلا في بني قُريظةَ"، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فمنهم قوم قالوا: لا نصليها إلا في بني قريظةَ، ومنهم قومٌ قالوا: لم يُرِدْ منّا تفويتَ الصلاة، إنما أرادَ المسارعةَ، فصلَّوا في الطريق. فلم يُعنِّف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدةً من الطائفتين. وكانت سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه موافقةً لما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه، حيث قال: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) (2) . فأخبر سبحانه وتعالى أنه خصَّ أحد النبيَّين بفهم الحكم في تلك القضية، وأثنى على كلٍّ منهما بما آتاه الله من العلم والحكم. فهكذا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان -رضي الله عنهم ورضوا عنه-[كانوا] فيما تنازعوا فيه مجتهدين طالبين للحق. وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من يَعِشْ منكم بعدي فسَيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور، فإن كل   (1) أخرجه البخاري (946، 4119) عن ابن عمر. ورواه مسلم (1770) بلفظ: "لا يصلينّ أحدٌ الظهر إلا في بني قريظة"، وانظر كلام الحافظ عليه في "الفتح" (7/408، 409) . (2) سورة الأنبياء: 78-79. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 بدعة ضلالة" (1) . وروى عنه مولاه سَفِيْنَةُ أنه قال: "الخلافة ثلاثون سنة، ثمّ تصير ملكًا" (2) ، فكان آخر الثلاثين حين سَلَّم سِبْطُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحسن بن علي -رضي الله عنهما- الأمرَ إلى معاوية، وكان معاويةُ أوَّلَ الملوك، وفيه ملكٌ ورحمةٌ، كما رُوِيَ في الحديث: "ستكون خلافةُ نبوةٍ، ثم يكون ملكٌ ورحمة، ثمَّ يكون ملكٌ وجبرية، ثمَّ يكون ملك عَضُوض" (3) . وقد ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من وجوهٍ أنه لمّا قاتَلَ أهلَ الجمل لم يَسْبِ لهم ذُرّيّةً، ولم يَغْنَم لهم مالاً، ولا أَجْهَزَ على جَريح، ولا اتبعَ مدبرًا، ولا قَتلَ أسيرًا، وأنه صلَّى على قتلَى الطائفتين بالجمل وصفين، وقال: "إخوانُنا بَغَوا علينا" (4) ، وأخبَر أنهم ليسوا بكفَّار ولا منافقين، واتَّبعَ فيما قالَه كتابَ الله وسنةَ نبيِّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنّ الله سماهم إخوةً، وجعلَهم مؤمنين في الاقتتال والبغي، كما ذكر في قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (5) . وثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحاح (6) أنه قال: "تَمرقُ مارقةُ على   (1) أخرجه أحمد (4/126، 127) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) والدارمي (96) وابن ماجه (43، 44) من حديث العرباض بن سارية. (2) أخرجه أحمد (5/220، 221) وأبو داود (4646، 4647) والترمذى (2226) ، وتكلم عليه الألباني وصححه في "الصحيحة" (459) . (3) أخرجه أحمد (4/273) والبزَّار في مسنده (1588) بأطول منه عن النعمان بن بشير. وصححه الألباني في "الصحيحة" (5) . (4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" (15/256- 257) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/182) . (5) سورة الحجرات: 9. (6) أخرجه مسلم (1065) عن أبي سعيد الخدري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 حينِ فُرقةٍ من المسلمين، تَقتُلُهم أولى الطائفتين بالحق". وهذه المارقة هم أهل حَرُورَاءَ، الذين قتلوا أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابَه لما مَرَقُوا من الإسلام، وخرجوا عليه، فكَفَّرُوه وكَفَّروا سائرَ المسلمين، واستحلُّوا دماءَهم وأموالَهم. وقد ثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طرقٍ متواترةٍ (1) أنه وصفَهم وأمرَ بقتالِهم، فقال: "يَحقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامِهم، وقرأنه مع قرآنِهم، يَقرءون القرآنَ لا يجاوزُ حناجرَهم، يَمرُقون من الإسلام كما يَمرُق السَّهمُ من الرَّميَّةِ، لو يَعلم الذين يقتلونهم مالهم على لسانِ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنَكَلُوا عن العمل". فقتلَهم علي رضي الله عنه وأصحابُه، وسُرَّ أميرُ المؤمنين بقتلهم سرورًا شديدًا، وسَجَدَ الله شُكْرًا، لمّا ظهرَ فيهم علامتُهم، وهو المُخْدَجُ اليدِ الذي على يَدِه مثلُ البَضْعَةِ من اللحم عليها شَعَراتٌ، فاتفقَ جميعُ الصحابة على استحلالِ قتالِهم، ونَدِمَ كثير منهم -كابن عمر وغيرِه- أن لا يكونوا شهدوا قتالَهم مع أمير المؤمنين. بخلافِ ما جَرى في وقعة الجمل وصفِّين، فإنّ أمير المؤمنين كان متوجعًا لذلك القتال، مُتشكِّيًا مما جَرَى، يَتَراجِعُ هو وابنُه الحسنُ القولَ فيه، ويذكر له الحسنُ أن رأيَه أن لا يفعله. فلا يستوي ما سَرَّ قلبَ أميرِ المؤمنين وأصحابه وغَبِطَه به مَن لم يَشْهَدْه، مع ما تواتَر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه وساءَه وساَءَ قلبَ أفضلِ أهلِ بيتِه حِبِّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذي قال فيه: "اللهمَّ إني أُحِبُّه، فأحَبَّ من   (1) أخرجه البخاري (3610 ومواضع أخرى) ومسلم (1064) عن أبي سعيد الخدري من طرق كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 يُحِبُّه" (1) . وإن كان أميرُ المؤمنين هو أولى بالحق ممن قاتلَه في جميع حروبِه. ولا يستوي القَتلَى الذين صلَّى عليهم وسمَّاهم "إخواننا"، والقتلَى الذين لم يُصَلِّ عليهم، بل قيل له: مَن (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)) (2) ؟ فقال: هم أهلُ حَرُورَاءَ. فهذا الفرق بين أهل حروراء وبين غيرِهم الذي سمَّاه أميرُ المؤمنين في خلافته بقوله وفعلِه موافقًا فيه لكتاب الله وسنةِ نبيِّه-: هو الصواب الذي لا مَعدِلَ عنه لمن هُدِيَ رُشْدَه، وإن كان كثيرٌ من علماء السلف والخلف لا يهتدون لهذا الفرقان، بل يجعلون السيرةَ في الجميع واحدةً، فإمّا أن يُقصِّروا بالخوارج عمَّا يَستحِقُّونه من البُغْضِ واللَّعنةِ والعقوبةِ والقتلِ، وإمَّا أن يَزِيدوا على غيرِهم ما يَستحقُّونَه من ذلك. وسببُ ذلك قلَّةُ العلم والفهم لكتاب الله وسنةِ رسوله الثابتةِ عنه، وسيرةِ خلفائِه الراشدين المهديين، وإلاّ فمن استهدى الله واستعانَه بحثَ عن ذلك، وطلبَ الصحيحَ من المنقول، وتدبَّر كتابَ الله وسنةَ نبيِّه وسنةَ خلفائِه، لاسيَّما سيرةَ أمير المؤمنين الهادي المهدي، التي جرى فيها ما اشتبهَ على خلقٍ كثيرٍ فضَلُّو بسبب ذلك، إمَّا غُلُوًّا فيه وإمَّا جَفَاءً عنه، كما رُوِي عنه أنه قال: "يَهلِكُ فِيَّ رجلانِ: محبٌ غَالٍ يُقَرِّظُني بما ليسَ فيَّ، ومُبغِضٌ قَالٍ يَرمِيْني بما نزَّهَني اللهُ منه" (3) .   (1) أخرجه البخاري (3749) ومسلم (2422) عن البراء بن عازب، وأخرجه البخاري (2122، 5884) ومسلم (2421) عن أبي هريرة. (2) سورة الكهف: 104. (3) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (984) ، وحسَّنه الألباني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وحدُّ ذلك ومِلاكُ ذلك شيئانِ: طلبُ الهدى ومجانبةُ الهَوَى، حتى لا يكون الإنسان ضالاً وغاويًا، بل مهتديًا راشدًا. قال الله تعالى في حقّ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) (1) ، فوصفَه بأنه ليس بضال وهو الجاهل، ولا غاوٍ وهو الظالم، فإن صلاحَ العبد في أن يعلمِ الحقَّ ويَعمَلَ به، فمن لم يَعلمِ الحقَّ فهو ضالٌّ عنه، ومَن عَلِمَه فخالفَه واتبَعَ هَواه فهو غاوٍ، ومَن علمه وعَمِل به كان من أولي الأيدي عملاً ومن أولي الأبصار علمًا. وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله سبحانه في كلِ صلاة أن نقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)) (2) ، فالمغضوب عليهم: الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه كاليهود، والضالّون: الذين يعملون أعمالَ القلوب والجوارح بلا علمٍ كالنصارى. ولهذا وصف الله اليهود بالغواية في قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (3) ، ووصف العالم الذي لم يعمل بعلمه بذلك في قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ (176)) (4) . ووصف النصارى بالضلال في قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ   (1) سورة النجم: 1- 4. (2) سورة الفاتحة: 6- 7. (3) سورة الأعراف: 146. (4) سورة الأعراف: 175- 176. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)) (1) ، ووصف بذلك من يتبع هواه بغير علمٍ حيث قال: (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)) (2) ، وقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (3) . وأخبر أن من اتبع هداه المنزل فإنه لا يضل كما ضلّ الضالون، ولا يَشقَى كما شَقِيَ المغضوبُ عليهم، فقال: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) (4) . قال ابن عباس: تكفَّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه إلا يَضِلَّ في الدنيا ولا يَشقَى في الآخرة (5) . ومن تمام الهداية أن يَنظُر المستهديْ في كتاب الله، وفيما تواتَر من سنةِ نبيه وسنةِ الخلفاء، وما نقلَه الثقاتُ الأثباتُ، ويُميِّزَ بين ذلك وبين ما نقلَه مَن لا يَحفظ الحديثَ، أو يُتَّهَم فيه بكذب لغرضٍ من الأغراض، فإنّ المحدِّثَ بالباطل إمَّا أن يتعمد الكذبَ، أو يَكذِبَ خطأً لسوءِ حفظِه أو نسيانِه أو لقلَّةِ فهمِه وضبطِه. ثمَّ إذا حَصَلَتِ، المعرفةُ بذلك تدبَّر ذلك، وجَمَعَ بين المتفق منه، وتَدبَّر المختلفَ منه حتى يتبيَّنَ له أنه مُتّفق في الحقيقة وإن كان الظاهرُ مختلفًا، أو أن بعضَه راجحٌ يَجِبُ اتباعُه، والآخر مرجوحٌ ليس بدليلٍ في الحقيقة وإن كان في الظاهرِ دليلاً.   (1) سورة المائدة: 77. (2) سورة الأنعام: 119. (3) سورة القصص: 50. (4) سورة طه: 123. (5) انظر تفسير الطبري (16/163) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 أما غَلَطُ الناس فلعدمِ التمييز بين ما يُعقَلِ من النصوصِ والآثار، أو يُعقَل بمجردِ القياس والاعتبار، ثمَّ إذا خالط الظنَّ والغلط في العلم هَوَى النفوس ومُنَاها في العمل صارَ لصاحبِها نصيبٌ من قوله تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)) (1) . وهذا سبب ما خُلِقَ الإنسانُ عليه من الجهلِ في نوع العلم، والظلمِ في نوع العمل، فبجهلهِ يتبع الظن، وبظلمِه يتبع ما تَهوَى الأنفسُ. ولمّا بعثَ اللهُ رسلَه وأنزلَ كُتبه لهدى الناسِ وإرشادهم، صارَ أشدُّهم اتباعًا للرسلِ أبعدَهم عن ذلك، كما قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)) (2) . ولهذا صار ما وصفَ الله به الإنسانَ لا يَخصُّ غيرَ المسلمين دونَهم، ولا يَخصُّ طائفة من الأمة، لكن غير المسلمين أصابَهم ذلك في أصولِ الإيمان التي صارَ جهلُهم وظلمُهم فيها كفرانًا وخسرانًا مبينًا، ولذلك من ابتدعَ في أصولِ الدين بدعة جليلةً أصابَه من ذلك أشدُّ ممّا يُصيبُ مَن أخطأَ في أمرٍ دقيقٍ أو أذنبَ فيه، والنفوسُ لَهِجَة بمعرفةِ محاسنِها ومساوئ غيرِها. وأما العالم العادل فلا يقول إلا الحقَّ، ولا يتّبعُ إلا إيَّاه، ولهذا من يَتَّبع المنقولَ الثابتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه وأصحابِه وأئمةِ أهلِ   (1) سورة النجم: 23. (2) سورة البقرة: 213. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 بيتهِ -مثل الإمامِ علي بن الحسين زين العابدين، وابنِه الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر، وابنِه الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق شيخ علماء الأمة- ومثل مالك بن أنس والثوري وطبقتهما، وجدَ ذلك جميعَه متفقًا مجتمعًا في أصولِ دينهم وجماع شريعتهم، ووجدَ في ذلك ما يَشْغَلُه وما يُغْنِيْه عما أحدثَه كثيرٌ من المَتأخرين من أنواع المقالات التي تخالف ما كان عليه أولئك السلف، ممن ينتصب (1) لعداوَةِ آلِ بيتِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويَبْخَسُهم حقوقَهم ويُؤذيهم، أو ممن يَغلُو فيهم غير الحق، ويَفترِي عليهم الكذبَ، ويَبخَسُ السابقين والطائعين حقوقَهم. ورأى (2) أنَ في المأثور عن أولئك السلف في باب التوحيد والصفات، وباب العدل والقدر، وباب الإيمان والأسماء والأحكام، وباب الوعيد والثَّواب والعذاب، وبابَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، وما يتصل به من حكم الأمراَء أبرارِهم وفُجَّارِهم، وحكم الرعيَّةِ معهم، والكلام في الصحابة والقرابة-: ما يُبيِّنُ لكل عاقلٍ عادلٍ أنَّ السلفَ المذكورين لم يكن بينهم من النزاع في هذه الأبواب إلا من جنسِ النزاع الذي أقرَّهم عليه الكتاب والسنةَ كما تقدَّم ذكرُه، وأنَّ البدعَ الغليظةَ المخالفةَ للكتابِ والسنةِ واتفاقِ أولي الأمر الهداةِ المهتدين إنّما حَدَثَتْ من الأخلاف، وقد يَعزُونَ بعضَ ذلك إلى بعض الأسلاف، تارةً بنقل غيرِ ثابتٍ، وتارةً بتأويلٍ لشيءٍ من كلامهم متشابهٍ.   (1) وصف لـ "كثير من المتأخرين". (2) خبر آخر لـ "من يتبع المنقول … "، ومعطوفٌ على "وجد ذلك جميعَه متفقًا … " و"وجد في ذلك ما يشغله ... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 ثمَّ إن من رحمة الله أنه قَلَّ أن يُنقَل عنهم شيء من ذلك إلا وفيِ النقول الصحيحة الثابتة عنهم للقولِ المحكم الصريحِ ما يُبيِّنُ غلط الغالطين عليهم في النقل أو التأويل، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في المِلَل، فكمالُ الإسلام هو الوسَطُ في الأديان والمِلَل، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (1) لم ينحرفوا انحرافَ اليهود والنصارى والصابئين. فكذلك أهلُ الاستقامةِ، ولزومِ سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما عليه السلف، تمسَّكوا بالوسط، ولم ينحرفوا إلى الأطراف. فاليهود مثلاً جَفَوا في الأنبياء والصديقين حتى قتلوهم وكذَّبوهم، كما قال الله تعالى: (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)) (2) ، والنصارى. غَلَوا فيهم حتى عَبَدوهم، كما قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) الآية (3) . واليهود انحرفوا في النسخ، حتى زعموا أنه لا يقع من الله ولا يجوز عليه، كما ذكر الله عنهم إنكارَه في القرآن حيث قال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (4) ، والنصارى قابَلُوهم، فجوَّزوا للقِسّيسين والرهبان أن يُوجِبوا ما شاءوا ويُحرِّموا ما شاءوا. وكذلك تقابلهم في سائر الأمور. فهدى الله المؤمنين إلى الوسط، فاعتقدوا في الأنبياء ما يستحقونه، ووقَّروهم وعَزَّروهم وأحبُّوهم، وأطاعوهم واتبعوهم، ولم يردُّوهم   (1) سورة البقرة: 143. (2) سورة البقرة: 87. (3) سورة النساء: 171. (4) سورة البقرة: 142. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 كما فعلت اليهود" ولا أَطْرَوهم ولا غَلَوا فيهم فنزَّلوهم منزلةَ الربوبية كما فعلت النصارى. وكذلك في النسخ، جوَّزوا أن ينسخ الله، ولم يُجوِّزوا لغيره أن ينسخ، فإنّ الله له الخلق والأمر، فكما لا يَخلُق غيرُه لا يأمُر غيرُه. وهكذا أهلُ الاستقامةِ في الإسلام المعتصمون بالحكمةِ النبوية والعصمة الجماعية، متوسطون في باب التوحيد والصفات بين النفاة المعطِّلة وبين المشبِّهة الممثِّلة، وفي باب القدر والعدل والأفعال بين القدرية الجبرية والقدرية المجوسية، وفي باب الأسماء والأحكام بين من أخرجَ أهل المعاصي من الإيمان بالكلية كالخوارج وأهل المنزلة، وبين من جَعَلَ إيمان الفُسَّاق كإيمان الأنبياء والصديقين كالمرجئة والجهمية، وفي باب الوعيد والثواب والعقاب بين الوعيديين الذين لا يقولون بشفاعة نبينا لأهل الكبائر، وبين المرجئة الذين لا يقولون بنفود الوعيد، وفي باب الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الذين يُوافِقون الولاةَ على الإثم والعدوان ويَركَنون إلى الذين ظلموا، وبين الذين لا يرون أن يُعاوِنوا أحدًا على البرّ والتقوى لا على جهادٍ ولا جمعةٍ ولا أعيادٍ إلا أن يكون معصومًا، ولا يَدخُلوا فيما أمر الله به ورسولُه إلا في طاعةِ من لا وجودَ له. فالأوَّلون يدخلون في المحرَّمات، وهؤلاء يتركون واجباتِ الدين وشرائعَ الإسلام، وغُلاتُهم يتركونَها لأجل موافقةِ من يظنونه ظالمًا، وقد يكون كاملاً في علمه وعدلِه. وأهلُ الاستقامة والاعتدال يُطيعون الله ورسوله بحسب الإمكان، فيتقون اللهَ ما استطاعوا، وإذا أمرهم الرسولُ بأمرٍ أتوا منه ما استطاعوا، ولا يتركون ما أُمِروا به لفعلِ غيرِهم ما نُهِيَ عنه، بل كما قال تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (1) . ولا يُعاوِنون أحدًا على معصية، ولا يُزِيلون المنكرَ بما هو أنكرُ منه، ولا يأمرون بالمعروف إلا بالمعروف. فهم وَسَط في عامة الأمور، ولهذا وصفهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنهم الطائفة الناجية لما ذكر اختلاف أمته وافتراقهم (2) . ومن ذلك أن اليوم الذي هو يومُ عاشوراء الذي أكرمَ الله فيه سِبطَ نبيِّه وأحدَ سيِّدَي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي مَن قَتلَه من الفَجَرة الأشقياء، وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام. وقد روى الإمام أحمد وغيره (3) عن فاطمة بنت الحسين -وقد كانت قد شهدتْ مصرعَ أبيها- عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهم، عن جدِّه رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من رجل يُصابُ بمصيبةٍ فيذكُر مصيبتَه وإن قدمتْ، فيُحدِثُ لها استرجاعًا، إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يومَ أُصِيبَ بها". فقد علم الله أنّ مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدد ذكرُها مع تقادُمِ العهد، فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديثَ صاحبُ المصيبةِ والمُصَابُ به أوَّلاً، ولا ريبَ أن ذلك إنما فعلَه الله كرامةً للحسين رضي الله عنه، ورفعًا لدرجتِه ومنزلتِه عند الله، وتبليغًا له مَنازلَ الشهداء، وإلحاقًا له بأهل بيته الذين ابتُلُوا بأصنافِ البلاء. ولم يكن الحسن والحسين حصلَ لهما من الابتلاءِ ما حَصَلَ لجدِّهما   (1) سورة المائدة: 105. (2) أخرجه أحمد (4/102) والدارمي (2521) وأبو داود (4597) من حديث معاوية بن أبي سفيان. وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وغيرهما، انظر "الصحيحة" (203، 204) . (3) أخرجه أحمد (1/201) وابن ماجه (1600) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 ولأمّهما وعَمِّهما، لأنهما وُلِدا في عِزِّ الإسلام، وتَربَّيا في حُجور المؤمنين، فأتمَّ الله نعمتَه عليهما بالشهادة، أحدهما مسمومًا والآخر مقتولاً، لأنّ الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالها إلا أهلُ البلاء، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد سُئِلَ: أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ فقال: "الأنبياء ثمّ الصالحون ثمّ الأمثل فالأمثل، يُبتَلى الرجلُ على حسبِ دينه، فإن كان في دينه صَلابة زِيْدَ في بلائه، وإن كان في دينه رِقَّةٌ خُفِّف عنه، ولا يزال البلاءُ بالمؤمنِ حتى يَمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ" (1) . وشَقِيَ بقتلِه من أعانَ عليه أو رضي به. فالذي شرعَه الله للمؤمنين عند الإصابة بالمصائب وإن عظُمتْ أن يقولوا: إنّا لله وإنا إليه راجعون. وقد روى الشافعي في مسنده (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ماتَ وأصاب أهلَ بيته من المصيبة ما أصابَهم، سمعوا قائلاً يقول: يا آلَ بيتِ رسول الله! إنّ في الله عَزَاءً من كلّ مصيبةٍ، وخَلَفًا من كل هالك، ودَركًا من كل فائت، فبالله فثِقُوا وإيَّاه فارْجُوا، فإن المُصَابَ من حُرِمَ الثوابَ. فكانوا يرونه الخضر جاء يُعزِّيهم بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.   (1) أخرجه أحمد (1/172، 173، 180، 185) والدارمي (2786) والترمذي (2398) وابن ماجه (4023) عن سعد بن أبي وقاص. (2) 1/216 (من ترتيبه لمحمد عابد السندي) عن علي بن الحسين مرسلاً، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (7/268) . وأورده ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/258) من هذا الطريق ثم قال: "شيخ الشافعي القاسم العمري متروك، قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: يكذب، زاد أحمد: ويضع الحديث. ثم هو مرسل، ومثلُه لا يُعتمد عليه هاهنا، والله أعلم. وقد رُوِي من وجهٍ آخر ضعيف عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن أبيه عن علي، ولا يصحّ". وهذا أخرجه البيهقي في "الدلائل" (7/267) ، وانظر الكلام عليه في "فتح الباري" (6/435) و"الإصابة" (1/442) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 فأما اتخاذ المآتم في المصائب واتخاذ أوقاتها مآتمَ فليس من دين الإسلام، وهو أمر لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أحد من السابقين الأولين ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من عادة أهل البيت ولا غيرهم. وقد شَهِدَ مقتلَ عليٍّ أهلُ بيته، وشهدَ مقتلَ الحسين من شهدَه من أهل بيته، وقد مرَّتْ على ذلك سنون كثيرة وهم متمسكون بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا يُحدِثون مأتمًا ولا نياحةً، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسولُه، أو يفعلون مالا بأسَ به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان" (1) ، وقال: "ليس منا من لَطَم الخدودَ وشَقَّ الجيوبَ ودَعا بدعوى الجاهلية" (2) ، يعني مثل قول المصاب: يا سَنَداه! يا ناصراه! يا عَضُداه! وقال: "إن النائحةَ إذا لم تَتُبْ قبلَ موتها فإنها تُلْبَسُ يومَ القيامة دِرعًا من جَرَبٍ وسِربالاً مَن قَطِرانٍ" (3) . وقال: "لعن الله النائحةَ والمستمعةَ إليها" (4) . وقد قال في تنزيله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ   (1) أخرجه أحمد (1/237، 335) عن ابن عباس، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (47) . (2) أخرجه البخاري (1294، 1297، 1298، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود. (3) أخرجه مسلم (934) عن أبي مالك الأشعري. (4) أخرجه أحمد (3/65) وأبو داود (3128) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/63) عن أبي سعيد الخدري. وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة، وقد خرَّجها الألباني في "رواء الغليل" (3/222- 223) وضعَّفها كلَّها وبيَّن وهم من عزاها لصحيح مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)) (1) . وقد فسَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) بأنها النياحة (2) ، وتَبرَّأَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحالقة والصالقة (3) . والحالقة: التي تَحلِق شَعرَها عند المصيبة، والصالقة: التي ترفع صوتَها عند المصيبة. وقال جرير بن عبد الله (4) : كنا نعدُّ الاجتماعَ إلى أهل الميت وصَنْعَتهم الطعامَ للناس من النياحة. وإنما السنةُ أن يُصنَع لأهل الميت طعامٌ، لأنّ مصيبتَهم تَشْغَلُهم، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نُعِيَ جعفر بن أبي طالب لما استشهد بمؤتةَ فقال: "اصنَعوا لآلِ جعفرٍ طعامًا، فقد جاءهم ما يَشْغَلُهم" (5) . وهكذا ما يفعل قوم آخرون يوم عاشوراءَ من الاكتحال والاختضاب أو المصافحة والاغتسال، فهو بدعة أيضًا لا أصلَ لها، ولم يذكرها أحد من الأئمة المشهورين، وإنما رُوِي فيها حديث "من اغتسلَ يومَ عاشوراءَ لم يَمرض تلك السنةَ، ومن اكتحلَ يومَ عاشوراء لم يَرمَدْ ذلك العام" (6) ونحو ذلك، ولكن الذي ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صامَ   (1) سورة الممتحنة: 12. (2) أخرجه أحمد (5/85، 6/408) وأبو داود (1139) وابن خزيمة في صحيحه (1722، 1723) عن أمّ عطية. وانظر "الدر المنثور" (8/139 وما بعدها) . (3) أخرجه البخاري (1296) ومسلم (104) عن أبي موسى الأشعري. (4) أخرجه أحمد (2/204) وابن ماجه (1612) عنه، وصححه البوصيري في "الزوائد". (5) أخرجه أحمد (1/205) وأبو داود (3132) والترمذي (998) وابن ماجه (1610) عن عبد الله بن جعفر. وحسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم في "المستدرك" (1/372) . (6) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/201) عن أبي هريرة ضمن حديث طويل، ثم قال: هذا حديث لا يشك عاقل في وضعه. وقال السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (2/110) : موضوع، ورجاله ثقات، والظاهر أن بعض= الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 يومَ عاشوراءَ، وأمرَ بصيامه، وقال: "صومُه يُكفر سنةً،، وقرَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله أنجىَ فيه موسى وقومَه، وأغرقَ فرعونَ وقومَه (1) ، ورُوِيَ أنه كان فيه حوادث الأمم، فمن كرامة الحسين أن الله جعلَ استشهادَه فيه. وقد يجمع الله في الوقت شخصًا أو نوعًا من النعمة التي تُوجب شكرًا، أو المحنة التي تُوجِب صبرًا، كما أنّ سابعَ عشر شَهر رمضان فيه كانت وقعةُ بدرٍ، وفيه كان مقتلُ عليّ. وأبلغ من ذلك أن يوم الاثنين في ربيع الأول مولد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه هجرته، وفيه وفاته. والعبد المؤمن يُبتَلى بالحسناتِ التي تَسُرُّهُ والسيئاتِ التي تَسُوءُه في الوقت الواحد، ليكون صبَّارًا شكورًا، فكيف إذا وقعَ مثلُ ذلك في وقتين متعددين من نوع واحد؟ ويُستحب صومُ التاسع والعاشر، ولا يُستحبُّ الكحلُ، والذين يصنعونَ من الكحل من أهل الدين لا يقصدون به مناصبة أهل البيت، وإن كانوا مخطئين في فعلهم، ومَن قَصدَ منهم أهلَ البيت بذلك أو غيره، أو فرحَ أو استشفَى بمصائبهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والذي نفسي بيده لا يدخلون   =المتأخرين وضعه وركبه على هذا الإسناد. وأخرج ابن الجوزي (2/203) الشطر الثاني منه عن ابن عباس، ونقل عن الحاكم أنه قال: "أنا أبرأ إلى الله من عهدة جويبر، والاكتحال يوم عاشوراء لم يُروَ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه أثر، وهو بدعة ابتدعها قتلةُ الحسين". وحكم عليه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص403) والألباني في الضعيفة (624) بأنه موضوع. (1) انظر باب صيام يوم عاشوراء من كتاب الصوم عند البخاري ومسلم وغيرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 الجنةَ حتى يُحبّوكم من أجلي" (1) لما شَكَا إليه العباس أن بعض قريش يَجْفُون بني هاشم. وقال: "إن الله اصطفى قريشًا من بني كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشمِ" (2) . ورُوِيَ عنه أنه قال: "أَحِبُّوا الله لما يَغذُوكم به من نِعَمِه، وأحبُّوني لحبّ الله، وأَحِبُّوا أهلَ بيتي لحبّي" (3) . وهذا باب واسع يطولُ القول فيه. وكان سببُ هذه المواصلة أن بعض الإخوان قَدِمَ بورقةٍ فيها ذِكرُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذِكر سادة أهلِ البيت، وقد أُجري فيها ذِكرُ النذور لمشهد المنتظر. فخُوطِبَ من فضائل أهل البيت وحقوقِهم بما سَرَّ قلبَه وشَرحَ صَدْرَه، وكان ما ذُكِر بعضَ الواجب، فإن الكلام في هذا طويل، ولم يحتمل هذا الحامل أكثر من ذلك. وخُوطِبَ فيما يتعلق بالأنساب والنذور بما يجب في دين الله، فسألَ المكاتبةَ بذلك إلى من يذهب إليه من الإخوان، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (4) .   (1) أخرجه أحمد (1/207) من طريق عبد الله بن الحارث عن العباس، ولفظه: "والذي نفسي بيده لا يَدخلُ قَلْبَ رجل الإيمانُ حتَى يُحبَّكم لله ولرسوله". وأخرجه ابن ماجه (140) نحوه من طريق محمد بن كعب القرظي عن العباس. قال البوصيري في "الزوائد": رجال إسناده ثقات، إلا أنه قيل: رواية محمد بن كعب عن العباس مرسلة. (2) أخرجه مسلم (2276) عن واثلة بن الأسقع. (3) أخرجه الترمذي (3789) والحاكم في "المستدرك" (3/150) عن ابن عباس. قال الترمذي: حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وضعَّفه الألباني في تعليقه على "فقه السيرة" (ص20) وتكلم عليه. (4) أخرجه مسلم (55) عن تميم الداري. ورُوِي عن غيره من الصحابة، انظر "جامع العلوم والحكم" (1/215) و"مجمع الزوائد" (1/87) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 أما ورقة الأنساب والتواريخ ففيها غلطٌ في مواضع متعددة، مثل ذكرِه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي في صفر، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن عمرو بن العلاء بن هاشم، وأنّ جعفر الصادق توفي في خلافة الرشيد، وغير ذلك. فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي في شهرِ ربيع الأول شهرِ مولده وشهرِ هجرته، وأنه توفي يوم الاثنين، وفيه وُلِد وفيه أُنزِل عليه. وجدُّه هاشم بن عبد مناف، وإنما كان هاشم يُسمَّى عمرًا، ويقال له عمرو العلا، كما قال الشاعر (1) : عَمرو العُلا هَشَمَ الثَّرِيدَ لقومِه ورجالُ مكَّةَ مُسنِتُون عِجَافُ وأن جعفرًا أبا عبد الله توفي في سنة ثمانٍ وأربعين في إمارة أبي جعفر المنصور. وأما المنتظَر فقد ذكر طائفة من أهل العلم بأنسابِ أهلِ البيت أن الحسن بن علي العسكري لما توفي بعسكر سامَرَّاء لم يُعقِب ولم ينسل، وقال من أثبته: إن أباه لما توفي سنة ستين ومئتين كان عمره سنتين أو أكثر من ذلك بقليل، وأنه غاب من ذلك الوقت، وأنه من ذلك الوقت حجة الله على أهل الأرض، لا يَتِمُّ الإيمانُ إلا به، وأنه هو المهدي الذي أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه يَعلم كل ما يُفتَقر إليه في الدين. وهذا موضع ينبغي للمسلم أن يَتثبَّتَ فيه ويَستهديَ الله ويستعينَه، فإن الله قد حرَّمَ القولَ بغير علم، وذكر أن ذلك من خُطوات الشيطان،   (1) هو مطرود بن كعب الخزاعي أو ابن الزبعرى، انظر تاريخ الطبري (2/251، 252) و"البداية والنهاية" (3/356) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وحَرَّم القولَ المخالفَ للحق، ونصوص التنزيل شاهدة بذلك، ونَهى عن اتباع الهوى. فأما المهديّ الذي بَشَّرَ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد رواه أهل العلم العالمون بأخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الحافظونَ لها، الباحثون عنها وعن رُواتِها، مثل أبي داود والترمذي وغيرهما. ورواه الإمام أحمد في "مسنده" (1) . فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو لم يَبقَ من الدنيا إلا يومٌ لطَوَّل اللهُ ذلك اليومَ، حتى يَبعثَ الله فيه رجلا من أهل بيتي يُواطِئ اسمُه اسمي، واسمُ أبيه اسمَ أبي، يملأ الأرض قِسطًا وعدلاً، كما مُلِئَتْ ظلمًا وجورًا" (2) . ورُوِي هذا المعنى من حديث أم سلمة وغيرها (3) . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "المهدي من ولد ابني هذا"، وأشار إلى الحسن (4) .   (1) جمع الدكتور عبد العليم البستوي أحاديث المهدي الواردة في كتب السنة مع الكلام عليها ودراسة أسانيدها، ونشرها في كتابين: "المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة" و"الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة"، وهما أفضل الكتب المؤلفة في هذا الباب. (2) أخرجه أبو داود (4282) بإسناد حسن. وانظر الكلام عليه في "المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة" (ص269- 278) . (3) حديث أم سلمة أخرجه أحمد (6/316) وأبو داود (4286، 4287) ، وإسناده ضعيف. انظر الكلام عليه في "الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة" (ص324- 335) . (4) أخرجه أبو داود (4290) بلفظ: " ... سيخرج من صلبه رجلٌ يُسمَّى باسم نبيكم ... ". وإسناده ضعيف، انظر "الموسوعة" (ص347- 349) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يكون في آخر الزمان خليفةٌ يَحثُو المالَ حَثْوًا" (1) ، وهو حديث صحيح. فقد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن اسمه "محمد بن عبد الله" ليس "محمد بن الحسن". ومن قال: إن أبا جدِّه "الحسين"، وإن كنيةَ الحسينِ "أبو عبد الله"، فقد جعل الكنيةَ اسمَه، فما يَخفى على من يَخشى الله أن هذا تحريف الكلم عن مواضعه، وأنه من جنس تأويلات القرامطة. وقول أمير المؤمنين صريح في أنه حَسَني لا حُسَيني، لأن الحسن والحسين مُشبِهانِ من بعض الوجوه بإسماعيل وإسحاقَ، وإن لم يكونا نبيَّينِ، ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لهما: "أُعِيذُكُما بكلماتِ الله التامَّة، من كلّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومن كلِّ عين لاَمَّة" (2) ، ويقول: "إن إبراهيم كان يُعوِّذ بهما إسماعيلَ وإسحاقَ" (3) . وكان إسماعيل هو الأكبر والأحلم، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يخطب على المنبر والحسنُ معه على المنبر: "إن ابني هذا سيّد، وسيُصلح الله به بين فئتين عظيمتينِ من المسلمين" (4) . فكما أن غالبَ الأنبياء كانوا من ذرية إسحاق، فهكذا كان غالب السادة الأئمة من ذرية الحسين، وكما أن خاتم الأنبياء الذي طبَّق أمرُه مشارقَ الأرض ومغاربَها كان من ذرية إسماعيل، فكذلك الخليفة الراشد المهدي الذي هو آخر الخلفاء يكون من ذرية الحسن.   (1) أخرجه مسلم (2913) عن جابر بن عبد الله، و (2914) عن أبي سعيد الخدري. (2) أخرجه البخاري (3371) عن ابن عباس. (3) ضمن الحديث السابق. (4) أخرجه البخاري (2704، 3629، 3746، 7109) عن أبي بكرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وأيضًا فإن من كان ابنَ سنتينِ كان في حكم الكتابِ والسنةِ مستحقًا أن يُحجَر عليه في بدنِه، ويُحجَر عليه في مالِه، حتى يَبلُغَ ويُؤنَسَ منه الرُّشدُ، فإنه يتيم، وقد قال الله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (1) . فمن لم تُفَوِّض الشريعةُ إليه أمرَ نفسه كيف تُفوِّضُ إليه أمرَ الأمة؟ وكيف يجوز أن يكون إمامًا على الأمَة من لا يُرى ولا يُسمَع له خبر؟ مع أنّ الله لا يُكلِّف العبادَ بطاعةِ من لا يَقدرون على الوصولِ إليه، وله أربعمئه وأربعون سنةً ينتظره من ينتظره وهو لم يخرج، إذ لا وجودَ له. وكيف لم يظهر لخواصِّه وأصحابِه المأمونين عليه كما ظهر آباؤه؟ وما المُوجِب لهذا الاختفاء الشديد دون غيرِه من الآباء؟ وما زال العقلاءُ قديمًا وحديثًا يضحكون ممن يُثبت هذا ويُعلِّق دينَه به، حتى جعلَ الزنادقةُ هذا وأمثالَه طريقًا إلى الَقدحِ في الملَّة وتسفيهِ عقولِ أهلِ الدين إذا كانوا يعتقدون مثلَ هذا. لهذا قد اطلع أهلُ المعرفة على خلقٍ كثيرٍ منافقينَ زنادقةٍ يتستَّرون بإظهار هذا وأمثالِه، ليستميلوا قلوبَ وعقولَ الضعفاءِ وأهلِ الأهواء، ودَخلَ بسبب ذلك من الفساد ما الله به عليم، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم. والله يُصلح أمرَ هذه الأمة ويهديهم ويُرشِدهم. وكذلك ما يتعلق بالنذور والمساجد والمشاهد، فإن الله في كتابه وسنة نبيه التي نقلها السابقون والتابعون من أهل بيته وغيرهمِ قد أمرَ بعمارةِ المساجد، وإقامة الصلواتِ فيها بحسب الإمكان، ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من يفعل ذلك. قال الله تعالى:   (1) سورة النساء: 6. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)) (1) . وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) (2) . وقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)) (3) وقال: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)) (4) . وقال: (وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (5) . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتا في الجنة" (6) . وقال: "بَشِّرِ المشَّائين في ظُلَمِ الليل إلى المساجد بالنور التامّ يومَ القيامة" (7) .   (1) سورة التوبة: 18. (2) سورة البقرة: 114. (3) سورة النور: 36- 37. (4) سورة الجن: 18. (5) سورة الحج: 40. (6) أخرجه البخاري (450) ومسلم (533، وبعد رقم 2983) عن عثمان بن عفان. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. (7) أخرجه أبو داود (561) والترمذي (223) عن بريدة بن الحصيب، وأخرجه ابن ماجه (781) عن أنس، وأخرجه ابن ماجه (780) عن سهل بن سعد الساعدي. وهو بمجموعه صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وقال: "من غدا إلى المسجد أو راحَ، أعدَّ الله له نزلاً كلَّما غدا أو راح" (1) . وقال: "صلاةُ الرجل في المسجد تَفضُل على صلاتِه في بيته وسُوقهِ بخمسٍ وعشرين درجةً" (2) . وقال: "من تَطَهَّر في بيته فأحسنَ الطهورَ، وخرجَ إلى المسجد لا يُنهِزُه إلا الصلاةُ، كانتْ خطوتاه إحداهما تَرفعُ درجةً، والأخرى تَضَعُ خطيئةً" (3) . وقال: "صلاةُ الرجل مع الرجل أزكى من صلاتِه وحدَه، وصلاتُه مع الرجلين أزكى من صلاتِه مع الرجل، وما كان أكثر كان أحبَّ إلى الله" (4) . وقال: "سيكون عليكم أمراءُ يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتها، فصَلُّوا الصلاةَ لوقتها، ثمَّ اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً" (5) .   (1) أخرجه البخاري (662) ومسلم (669) عن أبي هريرة. (2) روي هذا الحديث عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب وأنس وغيرهم. وأقرب ما ورد من لفظ المؤلف أخرجه البخاري (477، 647، 2119) ومسلم (649) عن أبي هريرة. (3) ضمن حديث أبي هريرة السابق بنحوه. وأخرجه مسلم (666) من طريق آخر عن أبي هريرة بنحوه. (4) أخرجه أحمد (5/140) وأبو داود (554) وابن خزيمة (1476) والنسائي (2/104) عن أبي بن كعب. وإسناده صحيح. (5) أخرجه مسلم (648) عن أبي ذر. وفي الباب عن ابن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي أُبيّ الأنصاري وعامر بن ربيعة وشداد بن أوس عند أحمد في "مسنده". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وقال: "يصلون لكم، فإن أحسنوا فلكم، وإن أساءوا فلكم وعليهم" (1) . وهذا باب واسعٌ جدًّا. وقال أيضا: "لعنَ الله اليهودَ، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ" يُحذِّر ما فعلوا (2) . قالوا: ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرُه، ولكن كُرِهَ أن يُتَّخذَ مسجدًا (3) ، وهذا قاله في مرضه. وقال قبل موته بخمسٍ: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (4) . ولما ذكر كنيسة الحبشة قال: "أولئك إذا مات الرجلُ فيهم بَنَوا على قبرِه مسجدًا، وصَوَّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شِرارُ الخلق عند الله يوم القيامة" (5) . وكل هذه الأحاديث في الصحاح المشاهير. وقال أيضًا: "لعنَ الله زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجَد والسُّرُجَ". رواه الترمذي وغيره (6) ، وقال: حديث حسن.   (1) أخرجه البخاري (694) عن أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (435، 3453، 4443، 5815) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس. (3) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) عن عائشة. (4) أخرجه مسلم (532) عن جندب بن عبد الله البجلي. (5) أخرجه البخاري (427، 434، 1341) ومسلم (528) عن عائشة. (6) أخرجه أحمد (1/229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) من طريق أبي صالح عن ابن عباس.= الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 فإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد لعن الذين يتخذون على القبورِ المساجدَ، ويسرجون عليها الضوءَ، فكيف يَستحِلُّ مسلم أن يَجعلَ هذا طاعةً وقربةً؟ وفي صحيح مسلم (1) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بَعثَنِي رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرَني أن لا أدعَ قبرًا مُشْرِفًا إلا سوَّيتُه، ولا تِمثالاً إلا طَمستُه". وثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَد" (2) . وقال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، وصَلُّوا عَليَّ حيثُما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" (3) . فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاجتماع عند قبرِه، وأمرَ بالصلاة عليه في جميع المواضع، فإن الصلاةَ عليه تَصِل إليه من جميع المواضع. وهذه الأحاديث رواها أهل بيته، مثلُ على بن الحسين عن أبيه عن جدِّه علي، ومثل عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكانوا هم وجيرانُهم من علماء أهل المدينة يَنهون عن البدع التي عند   =قال الألباني في "الضعيفة" (225) : ضعيف بهذا السياق والتمام. أبو صالح باذام ضعيف عند جمهور النقاد، ولعن المتخذين عليها السرج ليس في الأحاديث ما يشهد له، فهذا القدر من الحديث ضعيف، وباقي الحديث ورد من طرق أخرى فهو صحيح لغيره. (1) برقم (969) . (2) أخرجه أحمد (2/246) والحميدي في "مسنده" (1025) عن أبي هريرة بسند صحيح. (3) أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي في لأفضل الصلاة على النبي" (20) وغيره عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده. انظر "تحذير الساجد" (ص140) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 قبرِه أو قبرِ غيرِه، امتثالاً لأمرِه متابعة لشريعتِه، فإن من مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين والعكوف على تماثيلهم، وإن كانت وقعت بغير ذلك. وقد ذكر الله في كتابه عن المشركين أنهم قالوا (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23 وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا)) (1) . وقد روى طائفة من علماءِ السلف أن هؤلاء كانوا قومًا صالحين، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمَّ صوَّروا تماثيلَهم (2) . وكذلك قال ابن عباس في قوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) (3) ، قال ابن عباس: كان اللات رجلاً يَلُتُّ السويقَ للحجاج، فلما ماتَ عكفوا على قبرِه (4) . ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد" (5) ، ونهى أن يُصلَّى عند قبره. ولهذا لما بنى المسلمون حُجرتَه حرَّفوا مؤخرها وسئموه، لئلا يُصلَّى إليه، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تُصلُّوا إليها"، رواه مسلم (6) . وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرجَ إلى أهل البقيع يُسلِّم عليهم ويدعو لهم (7) ،   (1) سورة نوح: 23- 24. (2) انظر صحيح البخاري (4920) وتفسير الطبري (29/62) وابن كثير (4/454، 455) . (3) سورة النجم: 19-20. (4) انظر صحيح البخاري (4859) وتفسير الطبري (27/35) وابن كثير (4/271) . (5) أخرجه أحمد (2/246) والحميدي (1025) عن أبي هريرة. (6) برقم (972) عن أبي مرثد الغنوي. (7) أخرجه أحمد (6/252) عن عائشة، وأخرجه مسلم (974) من طريق آخر عن عائشة مطولاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 وعلَّم أصحابَه أن يقولوا إذا زاروا القبور (1) : "سلامٌ عليكم أهلَ دارِ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منكًم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهمَّ اْجُرْهم ولا تَفْتِنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم". هذا مع أنّ في البقيع إبراهيم وبناته أم كلثوم ورقيَّة وسيدة نساءِ العالمين فاطمة، وكانت إحداهن دُفِنَتْ فيه قديمًا قريبًا من غزوة بدر، ومع ذلك فلم يُحدِثْ على أولئك السادة شيئًا من هذه المنكرات، بل المشروع التحيةُ لهم والدعاء بالاستغفار وغيره. وكذلك في حقّه أمر بالصلاة والسلام عليه من القرب والبعد، وقال: "أكثِروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلةَ الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليَّ". قالوا: كيف تُعرَض صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ يعني بَلِيْتَ، قال: "إنّ الله حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجسادَ الأنبياء" (2) . وقال: "ما من رجلٍ يمرُّ بقبر الرجل كان يَعرفُه في الدنيا فيُسلَّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلامَ" (3) . وكلُّ هذه الأحاديث ثابتة عند أهل المعرفة بحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،   (1) أخرجه مسلم (975) عن بريدة. (2) أخرجه أحمد (4/8) والدارمي (1580) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/91) وابن ماجه (1085، 1636) عن أوس بن أوس. وصححه الألباني في تعليقه على "فضل الصلاة على النبي" (22) . (3) أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/234) من حديث ابن عباس، وصححه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الشرعية الصغرى" (1/345) ، ونقل ذلك العراقي في "تخريج الإحياء" (4/491) والمناوي في "فيض القدير" (5/487) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 فالدعاء والاستغفار يصل إلى الميت عند قبرِه وغيرِ قبرِه، وهو الذي ينبغي للمسلم أن يعاملَ به موتى المسلمين، من الدعاء لهم بأنواع الدعاء، كما أن في حياته يدعو لهم. وهذا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمرنا أن نصلِّيَ عليه ونُسلِّم تسليمًا في حياتِه ومماتِه، وعلى آل بيتِه، وأمَرنا أن ندعو للمؤمنين والمؤمنات في محياهم ومماتهم، عند قبورهم وغير قبورِهم، ونهانا الله أن نجعل له أندادًا، أو نُشبِّه بيتَ المخلوق الذي هو قبرُه ببيتِ الله الذي هو الكعبةُ البيت الحرامُ، فإنّ الله أمرنا أن نحجّ ونُصلّي إليه ونطوفَ به، وشرعَ لنا أن نَستلم أركانَه، ونُقبِّلَ الحجرَ الأسودَ الذي جعلَه الله بمنزلة يمينه. قال ابن عباس: "الحجر الأسود يمينُ الله في الأرض، فمن استلَمه وصافحَه فكأنما صافحَ الله وقَبَّلَ يمينَه" (1) . وشرعَ كسوةَ الكعبةِ وتعليقَ الأستارِ عليها، وكان يتعلَّق من يتعلَّق بأستار الكعبة كالمتعلق بأذيال المستجار به، فلا يجوز أن تُضاهَى بيوتُ المخلوقين ببيت الخالق. ولهذا كان السلف ينهون من زَارَ قبرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُقَبِّلَه، بل يُسلِّم عليه -بأبي هو وأمي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويُصلِّي عليه، كما كان السلف يفعلون. فإذا كان السلفُ أعرفَ بدين الله وسنةِ نبيه وحقوقِه، وحقوقِ السابقين والتابعين من أهل البيت وغيرِهم، ولم يفعلوا شيئًا من هذه البدع التي تُشبِه الشركَ وعبادةَ الأوثان، لأن الله ورسوله نهاهم عن   (1) أخرجه ابن قتيبة في "غريب الحديث" (2/96) موقوفًا على ابن عباس. وروي مرفوعًا عن جابر وغيره، وهو منكر. انظر كلام الألباني عليه في "الضعيفة" (223) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 ذلك، بل يعبدون الله وحده لا شريك له، مخلصين له الدينَ كما أمر الله به ورسولُه، ويَعْمُرون بيوتَ الله بقلوبهم وجَوارحِهم من الصلاةِ والقراءةِ والذكرِ والدعاء وغير ذلك؛ فكيفَ يَحِلُّ للمسلم أن يَعدِلَ عن كتاب الله وشريعةِ رسوله وسبيلِ السابقين من المؤمنين، إلى ما أحدثَه ناسٌ آخرون، إمَّا عمدًا وإمَّا خطاً؟ فخُوطِب حاملُ هذا الكتاب بأن جميعَ هذه البدع التي على قبورِ الأنبياء والسادة من آل البيت وَالمشايخ، المخالفة للكتاب والسنة، ليس للمسلم أن يُعِين عليها، هذا إذا كانت القبورُ صحيحةً، فكيف وأكثرُ هذه القبور مطعونٌ فيها؟ وإذا كانت هذه النذورُ للقبور معصيةً قد نهى الله عنها ورسولُه والمؤمنون السابقون، فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن نَذَرَ أن يطيعَ اللهَ فليُطِعْه، ومن نَذَر أن يَعصِيَ الله فلا يَعْصِه" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كفارة النذر كفارة يمين" (2) ، وهذا الحديث في الصحاح. فإذا كان النذرُ طاعةً لله ورسوله، مثل أن ينذرَ صلاةً أو صومًا أو حجًّا أو صدقةً أو نحو ذلك، فهذا عليه أن يَفِيَ به؟ وإذا كان النذرُ معصيةً -كفرًا أو غيرَ كفرٍ- مثل أن ينذر للأصنام كالنذور التي بالهند، ومثلما كان المشركون ينذرون لآلهتهم، مثل اللات التي كانت بالطائف، والعُزَّى التي كانت بعرفةَ قريبًا من مكة، ومناة الثالثة الأخرى التي كانت لأهل المدينة. وهذه المدائن الثلاث هي مدائن أرض الحجاز، كانوا ينذرون لها النذور، ويتعبدون لها، ويتوسَّلون   (1) أخرجه البخاري (6696، 6700) عن عائشة. (2) أخرجه مسلم (1645) عن عقبة بن عامر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 بها إلى الله في حوائجهم، كما أخبر الله عنهم بقوله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (1) . ومثلما ينذر الجهَّالُ من المسلمين لعينِ ماءٍ أو بئرٍ من الآبار أو قناةِ ماءٍ أو مغارةٍ أو حجرٍ أو شجرةٍ من الأشجار أو قبرٍ من القبور -وإن كان قبرَ نبي أو رجلٍ صالح-، أو ينذرون زيتًا أو شمعًا أو كسوةً أو ذهبًا أو فضةً لبعضِ هذه الأشياء-: فإن (2) هذا كلَّه نذر معصيةٍ لا يُوفَى به. لكن من العلماء من يقول: على صاحبه كفارةُ يمين، لما روى أهلُ السنن (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا نذرَ في معصيةٍ، وكفارتُه كفارةُ يمينٍ". وفي الصحيح عنه أنه قال: "كفارة النذرِ كفارةُ يمين" (4) . وإذا صُرِفَ من ذلك المنذور شيءٌ في قُربةٍ من القُرُباتِ المشروعة كان حسنًا، مثلَ أن يَصرِف الدُّهنَ إلى تنويرِ بيوتِ الله، ويَصرِف المالَ والكسوةَ إلى من يَستحقّه من المسلمين من آل بيتِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسائرِ المؤمنين، وفي سائر المصالحِ التي أمر الله بها ورسولُه. وإذا اعتقدَ بعضُ الجهَّال أن بعضَ هذه النذور المحرَّمة قد قَضَتْ حاجتَه بجَلْبِ المنفعةِ منِ المال والعافية ونحو ذلك، أو بدَفْع المضرَّة من العدو ونحوه، فقد غَلِط في ذلك، فقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخيرٍ، ولكنّه يُستَخرجُ به من البخيل" (5) . فعدَّ   (1) سورة الزمر: 3. (2) جواب قوله فيما مضى: "وإذا كان النذر معصيةً ... ". (3) أخرجه أبو داود (3290- 3292) والترمذي (1524، 1525) والنسائي (7/26، 27) وابن ماجه (2125) عن عائشة. (4) سبق تخريجه قريبًا. (5) أخرجه البخاري (6608، 6692، 6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 النذر مكروهًا، وإن كان الوفاءُ به واجبًا إن كان المنذور طاعةً لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد أخبرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النذرَ لا يأتي بخير، وإنما يُستَخرج به من البخيل، وهذا المعنى قد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجهٍ فيما كان قُربةً محضةً لله، فكيف بنذر فيه شركٌ؟ فإنه لا يجوز نذرُه ولا الوفاءُ به. وهذا وإن كان قد غَمَرَ الإسلامَ، وكَثُرَ العكوفُ على القبور التي هي للصالحين من أهلِ البيت وغيرِهم، فعَلَى الناس أن يُطيعوا الله ورسولَه، ويتبعوا دينَ الله الذي بَعثَ به نبيَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يَشرَعُوا من الدين ما لم يأذنْ به اللهُ، فإن الله إنما أرسلَ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ ليكون الدينُ كلُّه لله، وليعبدوا الله وحدَه لا شريك له. كما قال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)) (1) . وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)) (2) . وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) (3) .   (1) سورة الزخرف: 45. (2) سورة الشورى: 13. (3) سورة النحل: 36. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وقال تعالى في حق الذين كانوا يدعون الملائكةَ والنبيين) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)) (1) . وقال: (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2) . وردَّ على من اتخذ شفعاءَ من دونه فقال: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)) (3) . وقال: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَى (31)) (4) . وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (5) . وقال تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ   (1) سورة الإسراء: 56- 57. (2) سورة آل عمران: 80. (3) سورة الزمر: 43- 46. (4) سورة التوبة: 31. (5) سورة البقرة: 255. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)) (1) . وقال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (2) . وقال: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (3) . وكُتُبُ الله من أولها إلى آخرها تأمر بإخلاص الدين لله، لاسيما الكتاب الذي بُعِثَ به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو الشريعة التي جاء بها، فإنها كملت الدين، قال تعالى: (اليَومَ أَكَملتُ لَكُم دِينَكُم) (4) ، وقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)) (5) . وقد جعل قِوامَ الأمر بالإخلاص لله والعدلِ في الأمور كلها، كما قال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) (6) . ولقد خَلَّص للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التوحيدَ من دقيقِ الشرك وجليلِه، حتى قال: "مَن حَلَفَ بغير الله فقد أشرك". رواه الترمذي وصححه (7) . وقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا   (1) سورة النجم: 26. (2) سورة الأنبياء: 28. (3) سورة سبأ: 23. (4) سورة المائدة: 3. (5) سورة الجاثية: 18. (6) سورة الأعراف: 29- 30. (7) أخرجه أحمد (2/34، 58، 60، 69، 86، 125) وأبو داود (3251) والترمذي (1535) عن ابن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 فليحلف بالله أو ليصمت". وهذا مشهور في الصحاح (1) . وقال: "لا يقولنَّ أحدُكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثمَّ شاءَ محمد" (2) . وقال له رجل: ما شاءَ الله وشِئتَ، فقال: "أجَعلتَني لله نِدًّا؟ بل ما شاء اللهُ وحدَه" (3) . ورُوِي عنه أنه قال: "الشركُ في هذه الأمة أخفَى من دبيب النمل" (4) . ورُوِيَ عنه أن الرياء شرك (5) . وقال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)) (6) . وعَلَّمَ بعضَ أصحابه أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من أن أُشرِكَ بك وأنا أعلم، وأستغفرَك لما لا أعلم" (7) . ومن هذا الباب الذين يسألون الصدقةَ أو يُعطُونها لغير الله، مثل   (1) أخرجه البخاري (6646 ومواضع أخرى) ومسلم (1646) عن ابن عمر. (2) أخرجه أحمد (5/72، 398) وابن ماجه (2118) والدارمى (2702) عن الطفيل بن سخبرة، وهو حديث حسن. (3) أخرجه أحمد (1/214، 283، 347) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (988) عن ابن عباس. (4) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/291) عن عائشة، وصححه هو والألباني في "صحيح الجامع" (3730) . (5) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/4) عن معاذ بن جبل بلفظ "اليسير من الرياء شرك"، وصححه. (6) سورة الكهف: 110. (7) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (716) عن معقل بن يسار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 من يقول: لأجلِ فلان، إما بعض الصحابة أو بعض أهل البيت، حتى يتخذَ السؤالَ بذلك ذريعةً إلى أكل أموالِ الناس بالباطل، ويَصير قومٌ ممن يَنتسِبُ إلى محبة آل البيت يُعطِي الناسَ، وآخرون ممن ينتسب إلى السنة يُعطِي الآخرين، والشيطانُ قد استحوذَ على الجميع، فإن الصدقة وسائر العبادات لا يُشْرَعُ أن تُفْعَلَ إلا لله، كما قال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)) (1) . وقال تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)) (2) . وقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) (3) . وقال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9)) (4) . وقال تعالى كلمة جامعة: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)) (5) .   (1) سورة الليل: 17- 21. (2) سورة الروم: 39. (3) سورة البقرة: 265. سورة الإنسان: 8-9. سورة البينة: 4-5. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 وعبادتُه تَجمعُ الصلاةَ وما يَدخُل فيها من الدعاء والذكر، وتَجمع الصدقةَ والزكاةَ بجميع الأنواع من الطعام واللباس والنقد وغير ذلك. والله يجعلنا وسائرَ إخواننا المؤمنين مخلصين له الدين، نعبده ولا نشرك به شيئًا، معتصمين بحبله، متمسكين بكتابه، متعلمين لما أنزل من الكتاب والحكمة، ويَصرِف عنّا شياطينَ الجن والإنس، ويُعِيذُنا أن تفرّق بنا عن سبيله، ويهدينا الصراطَ المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 مسألة في قصد المشاهد المبنية على القبور للصلاة عندها والنذر لها وقراءة القرآن وغير ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 مسألة ما يقول سيدنا الإمام العلامة تقي الدين -أيَّده الله تعالى- في مشهدٍ فيه شريف مدفون من أولاد زين العابدين، والناس يقصدونه ليصلُّوا عنده الصلواتِ الخمسَ، وينذرون له، ومنهم من يَقصِد البركة، ومنهم من يعتقد أن الصلاة عنده أفضل مما سواه من المساجد. فهل هم مصيبون أم مخطِئون؟ وهل لهم أجر أم لا؟ وهل يُثابُ من يَتصدَّق أو يَبَرُّ قَيِّمَ المشهد المذكور أو الفقراءَ الذين يقعدون عند المشهد المذكور؟ وأيضًا يَقعُد في المشهد قُرَّاء يقرأون القرآن العظيم بلا أجرةٍ من العشاء إلى بكرة، فهل يُؤجَرون على ذلك أم لا؟ وهل للميِّت أجر باستماعِه القرآن أم لا؟ والذين يقرأون القرآن في التُّرَبِ بالأجرة وفي الختم التي يعملونها، مثل الذي يسمونه الثالث والسابع وتمام الشهر وتمام الحول، ويُنشِدون الأشعارَ الفراقيات ليبكي أهل الميت، وينقطوه بالفضة، والوعاظ أيضًا والذين يقرأون القرآن في الطرقات والأسواق حتى يتصدق عليهم، فما حكمهم؟ والحديث الذي يُذكَر فيه أن الميت يُعذَّبُ ببكاء أهلِه عليه، وقول عائشة: إنما كانت يهودية، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحُزْنِ القلب، ولكن بهذا" وأشار إلى لسانه. وإذا كان أحدٌ يَتحدَّث في عليم أو صلاةٍ أو ذِكرٍ أو حديثٍ مباح، أو ينام، فهل يجوز لأحدٍ أن يجهر بالقرآن ليُشَوِّش عليهم؟ أفتونا مأجورين، رضي الله عنكم. أجاب -رضي الله عنه- الحمد لله. اتفق أئمة المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 أن المشاهد المبنية على القبور، سواء كان قبر بعض الصالحين أو بعض الصحابة أو بعض أهل البيت، أو قبر نبي من الأنبياء أو غير ذلك، سواءٌ كان عُلِمَ أنه قبر الميت المسمَّى أو عُلِمَ أنه ليس قبره أو جُهِلَ الحال-: اتفقوا كلُّهم على أن الصلاة فيها ليست أفضلَ من الصلاةِ في المساجد، بل ولا في سائر البقاع التي تجوز الصلاةُ فيها، وأنه لا يُشرَع لأحدٍ أن يَقصِدَها لأجل الصلاة عندها، لا الصلوات الخمس ولا غيرها. بل قصدُها للصلاة عندها والتبرك بالصلاة هناك خصوصًا لم يأمر الله به ولا رسولُه، وولا أحدٌ من الصحابة ولا من أئمة المسلمين، لا أهل البيت ولا غيرهم، ولا ذكروا أن في ذلك ثوابًا أو أجرًا أو قُربة. بل قد استفاضت السنن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة والتابعين بالنهي في ذلك، وصرَّح غير واحدٍ من أئمة المسلمين أن النهي عن اتخاذ المساجد على القبور نهي تحريم، كما في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزِل برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طفق يَطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفَها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنةُ اللهِ على اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد" يُحذِّر ما صنعوا. وفي الصحيحين (2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد". وفي صحيح مسلم (3) عن جُندب بن عبد الله البجلي قال: سمعتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمسٍ   (1) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) . (2) البخاري (437) ومسلم (530) . (3) برقم (532) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وهو يقول: "إني أَبْرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيمِ خليلاً، ولو كنتُ متخذًا من أمتي خليلا لاتخذتُ أبا بكير خليلاً. أَلاَ وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبورَ أنبيائهم مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك". وعن أبي مَرثد الغنوي أن رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تُصلُّوا إليها". رواه مسلم (1) . وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج. رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة أبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي (2) ، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: صحيح. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا (3) . والأحاديث والآثار في هذا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وسلفِ الأمة وأئمتِها وسائرِ علماء الدين كثيرة. فمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها فضيلة على غيرها، أو أنه ينبغي أن يُقصَد الصلاة عندها [و] أن في ذلك أجرًا ومثوبةً، فهو مخطئٌ ضالّ باتفاقِ أئمة المسلمين.   (1) برقم (972) . (2) أحمد (1/229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) . (3) سبق تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وكذلك العكوف عندها والمجاورة عندها ليس مشروعًا باتفاق المسلمين ولا واجبًا ولا مستحبًّا، بل ذلك من البدع المذمومة المنهيّ عنها. وإنما تكون البقعة التي يُشرَع العكوف فيها والمجاورة فيها: المساجد، كما قال الله تعالى: (تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (1) . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف في مسجدِه في العشر الأواخر من رمضان (2) ، واعتكف مرةً عشرين يومًا (3) ، وترك مرةًا لاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فقضاه في شوال (4) . وهذا هو المشروع للمسلمين. وزيارة القبور جائز على الوجه المأذون فيه، فإن كان الميت كافرا فيُزَار للاعتبار بالموت ولا يُدعَى له، كما في صحيح مسلم (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "استأذنتُ ربي في أن أزور قبرَ أمّي فأَذِنَ لي، واستأذنتُه في أن أستغفر لها فلم يُؤذَن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكّركم الآخرة". وإنما زار قبرَ أمّه دون أبيه لأنها كانت على طريقِه عامَ فتح مكة، فاجتاز بقبرها عند مكة فزارَها، ورُوِي أنه زارَها في ألف مقنع، فبكَى وأَبكَى مَن حولَه (6) . وأما أبوه فلم يمرّ بقبره.   (1) سورة البقرة: 187. (2) متفق عليه من حديث ابن عمر وعائشة، انظر صحيح البخاري (2025، 2026) ومسلم (1171، 1172) . (3) أخرجه البخاري (2044) عن أبي هريرة. (4) أخرجه البخاري (2033) ومسلم (1173) عن عائشة. (5) برقم (976) . (6) أخرجه أحمد (5/355، 357، 359) وابن حبان (791- موارد) والحاكم في "المستدرك" (1/376) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/76) من حديث بريدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 ولم يأذن ربُّه له في الاستغفار له لأن الاستغفار إنما يكون للمؤمنينِ، قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (1) ، ثم قال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) (2) . فإن إبراهيم استغفر لأبيه بقوله فيما ذكر الله عنه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (3) ، ووعده بذلك في قوله: (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47)) (4) . فشرع له القدوة بإبراهيم إلا في ذلك بقوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) (5) . ولما نَهى المؤمنين عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى فاحتج بعض الناس بإبراهيم، فبيَّن سبحانَه الجواب بقوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) ، فإن أباه مات كافرًا. ومن قال "إنه مات مؤمنًا" من الرافضةِ الجهّالِ أو غيرِهم فقد خالفَ الكتابَ والسنة والإجماع. وكذلك أبو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعمُّه أبو طالب، وفي صحيح مسلم (6) أن   (1) سورة التوبة: 113. (2) سورة التوبة: 114. (3) سورة إبراهيم: 41. (4) سورة مريم: 47. (5) سورة الممتحنة: 4. (6) برقم (203) عن أنس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 رجلاً قال: يا رسولَ الله! أين أبي؟ فقال: "إنّ أباك في النار". فلما أدبَر دعاه فقال: "إنّ أبي وأباك في النار". وفي الصحيحين (1) أنه لما حَضرتْ أبا طالب الوفاة دخلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه وعنده أبو جهلٍ وعبد الله بن أمية، فقال: "يا عمِّ! قل لا إله إلا الله، كلمةً أُحَاجُّ لك بها عند الله". فقالا: يا أبا طالبٍ! أترغبُ عن ملَّة عبد المطلب؟ فكان آخر شيء قاله: على ملة عبد المطلب. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك"، فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (2) . وفي الصحيح (3) أن العباس قال: يا رسولَ الله! عمُّك الشيخ الضالُّ كان يَحُوطُك ويصنع لك، فهل نَفَعْتَه بشيء؟ فقال: "وجدتُه في غمرةٍ من النار، فشَفَعتُ فيه، فجُعِلَ في ضَحضاحٍ من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"، أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذه الأحاديث الصحيحة توافق ما اتفق عليه أئمة المسلمين في أنه ماتَ كافرًا، وتُبيِّن كَذِبَ من ادَّعَى من الجهّال الرافضة وغيرِهم أنه مات مؤمنًا. ويحتج بما ذكر ابن إسحاق في "السيرة" (4) من أنه جعل يُهَمْهِمُ عند الموت، وأن العباس قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه قد قال الكلمة التي تطلبها أو نحو ذلك. فإنَّ الذي في الصحيح بيَّن أن العباس لم   (1) البخاري (4675) ومسلم (24) عن المسيب. (2) سورة التوبة: 113. (3) البخاري (3883، 6208، 6572) ومسلم (209) . (4) انظر سيرة ابن هشام (1/417) . وتكلم ابن كثير في "البداية والنهاية" (4/307 وما بعدها) على هذه الرواية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 يكن حاضرًا، وأن العباس علم أنه مات ضالاً، وأنه سألَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل نفَعَه نَصرُه لك مع كفره، فأخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك نفعَه، بشفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تخفيفِ العذاب لا في رفعِه، ولو كان قد مات على الإيمان لم يكن في العذاب، ولم يُنْهَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاستغفار له، ولقُرِنَ ذكره بذكر حمزة والعباس، ولكان قد صلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابنُه عليّ. بل الاستغفارُ للمنافقين الذين يُظهِرون الإسلامَ ويُبطِنون الكفرَ غيرُ نافع لهم ولا جائز إذا عُلِمَ حالُهم، كما قال تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (1) ، وقال تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)) (2) . وأما زيارة قبور المؤمنين فجائزة بل مستحبة، كما سنَّها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن الزيارة نوعان: شرعية وبدعية، والشرعية السلامُ على الميت والدعاء له، بمثل أن يقال (3) : "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، اللهم لا تحرمنا أجرَهم ولا تَفْتِنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم". فالزيارة المشروعة من جنس الصلاة على الجنازة، وكلاهما المقصود به الدعاء للميت، والله تعالى يرحم الميت بدعاء المسلمين، ويرحم الداعين له أيضًا، فيُثيبُ هذا وهذا كما يُثيب المصلين على الجنازة، فمن صلَّى على جنازة إيمانًا واحتسابًا كان له قيراط من الأجر، ومن شيَّعَها حتى تُدفن   (1) سورة المنافقين: 6. (2) سورة التوبة: 84. (3) سبق تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 كان له قيراطان (1) . والله تعالى يَقبل شفاعة المؤمنين ودعاءهم للميت، كما جاء في الحديث الصحيح (2) أنه إذا شفع فيه مئة من المؤمنين شفعهم الله فيه، وفي حديث آخر في الصحيح (3) : إذا شفع فيه أربعون، وفي حديث آخر (4) : إذا كانوا ثلاثة صفوف. ولهذا كانوا يستحبون أن لا تنقص صفوف الجنازة عن ثلاثة. والمؤمنون مأمورون بدعاءِ بعضهم لبعض، حتى يدعو الفاضلُ للمفضول وبالعكس، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (5) : "إذا سمعتمٍ المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صَلُّوا عليَّ، فإنه من صلَّى عليَّ مرة صلّى الله عليه عشرًا، ثمَّ سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له شفاعتي يوم القيامة". وقال: "ما من مؤمن يَدعُو لأخيه بظهر الغيب بدعوةٍ إلا وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلَّما دعا لأخيه بدعوة قال الملك: ولك بمثلٍ" (6) . وأما الزيارة البدعية فمثل التمسُّح بالقبر أو تقبيله أو قصده للصلاة عنده والدعاء وطلب الحوائج من الميت، وأمثال ذلك مما هو من   (1) كما في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري (47، 1325) ومسلم (945) . (2) مسلم (947) عن عائشة. (3) مسلم (948) عن ابن عباس. (4) أخرجه أحمد (4/79) وأبو داود (3166) والترمذي (1028) وابن ماجه (1490) عن مالك بن هبيرة. (5) أخرجه مسلم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (6) أخرجه مسلم (2732) عن أبي الدرداء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 جنس فعل المشركين والنصارى، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه مالك في الموطأ (1) : "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غَضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد". وقد ذكر غير واحدٍ من السلف (2) أن أصل عبادة الأصنام كان ذلك، فقالوا في قوله (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)) (3) : إن هذه أسماء قوم كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمّ صوَّروا تماثيلهم، وهذه الأصنام صارت إلى العرب، حتى بعث الله رسوله بأن يُعبَد الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك من عبادة الأوثان وغير ذلك، وبيَّن أن أصل الدين أن يعبد الله لا يُشرك به شيئًا. وفي الصحيح (4) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ بن جبل: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يَعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن لا يُعذِّبَهم". وفي الصحيحين (5) عنه أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو وسبعون شعبةً، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".   (1) 1/172 عن عطاء بن يسار مرسلاً. قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث. (2) انظر تفسير الطبري (29/62) وابن كثير (4/455) . (3) سورة نوح: 23. (4) البخاري (2856، 7372) ومسلم (30) . (5) مسلم (35) عن أبي هريرة. ورواه البخاري (9) مختصرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وفي الترمذي (1) عنه أنه قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله". وفي الموطأ (2) : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال: "من قال في يومٍ مئةَ مرة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، كانتْ له عِدْلَ عَشْرِ رِقابٍ، وكُتِبَ له مئةُ حسنةٍ، وحُطَّ عنه مئةُ سيئةٍ، وكانت له حِرْزًا من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسِيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا رجلٌ قال مثل ما قال أو زاد عليه. ومن قال في يوم: "سبحان الله وبحمده" مئة مرةٍ حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثلَ زبَدِ البحر". وأما النذر لها فينبغي أن يُعلَم أن أصل النذر مكروه منهيٌّ عنه بلا نزاع أعلمه بين الأئمة، لما في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرج به [من] البخيل" (4) . وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال: "إن النذر يَرُدُّ ابنَ آدم إلى القدر، فيُعطِي على النذر مالا يُعطي على غيرِه" (5) . فبيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النذر لا يَجلِب خيرًا ولا يَدفَع شرًّا، ولكن يقع مع   (1) برقم (3383) عن جابر. ورواه أيضًا النسائي في "عمل اليوم والليلة" (831) وابن ماجه (3800) . (2) 1/422 عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلاً. (3) البخاري (3293، 6403) ومسلم (2691) عن أبي هريرة. (4) سبق تخريجه. (5) سبق تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 النذر ما كان واقعًا بدون النذر، فيبقَى النذرُ عديمَ الفائدة، لكنه يَستخرِج من البخيل، فإنه يُخرِج بالنذر مالا يُخرِجه بدونه، ونهى عن النذر لأن فيه التزام شيء لم يكن لازمًا، وقد لا يَفعَلُه فيبقَى متلومًا، كما قال تعالى:) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) (1) . ولهذا يجب الوفاء بالنذر إذا كان المنذور طاعةً، وإن كان نفس النذر منهيًّا عنه، كما أن العبد منهيٌّ عن الظهار، وإذا ظَاهَرَ لزمتْه الكفارة، فالمنهي عنه إن كان فيه إيجاب أو تحريمٌ لزمَ المنهي عقوبةً له، وإن كان فيه إباحة لم تبح، لأن المنهي عنه معصية، والمعصية لا تكون سببًا للمنعة الشرعية. وفي صحيحِ البخاري (2) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من نَذر أن يُطيع الله فليُطِعه، ومن نذر أن يَعصِيَه فلا يعصِه". وعلى هذا اتفق أهلُ العلم، اتفقوا على أن المنذور إذا كان طاعةً -كالصلاة الشرعية والحج الشرعي وِالصيام الشرعي والصدقة الشرعية والعتق الشرعي ونحو ذلك- فإنه يُوفى به، وإذا كان المنذور معصيةً لم يجز الوفاء به، لكن هل عليه كفارة يمينٍ؟ على قولين للعلماء، أحدهما: لا شيء عليه، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي؟ والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كفارة   (1) سورة التوبة: 75- 77. (2) برقمي (6696، 6700) . (3) مسلم (1645) عن عقبة بن عامر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 النذر كفارة يمين". وفي السنن (1) عنه: "لا نذرَ في معصية، وكفارتُه كفارةُ يمين". وإذا كان كذلك فمن نَذَر زيتًا لقبرٍ ليُسْرَج عليه أو للعاكفين عند القبر وسَدَنةِ القبر ونحوهم فهذا نذرُ معصيةِ، فإن الإيقادَ على القبور منهيٌّ عنه، والعكوف عند القبور والمجاورةُ عندها منهي عنه، والإعانة على ذلك إعانة على الإثم والعدوان. ولا يشك أحد من العلماء أنه ليس بطاعةٍ ولا بِرٍّ، وإذا لم يكن كذلك فلا يجب الوفاء بهذا النذر باتفاق المسلمين، فإن الوفاء إنما يجب بنذر الطاعة، لا بنذر المباح ولا المكروه ولا المحرم، بل تنازع العلماء: هل يجب بنذرِ كل طاعةٍ أو نذرِ ما كان جنسه واجبًا بالشرع؟ فقال الأكثرون كمالك والشافعي وأحمد بالأول؟ وقال أبو حنيفة بالثاني، ولهذا لا يجب عنده الوفاء إذا نذرَ إتيانَ مسجدِ المدينة أو مسجدِ بيت المقدس، لأن جنس ذلك ليس واجبًا بالشرع بخلاف إتيان مكة للحج والعمرة، فإن الوفاء بذلك لا نزاعَ فيه، لأن جنس الحج والعمرة واجب بالشرع؛ وعلى قول الجمهور يُوفَى بالنذر في إتيان مسجد المدينة والمسجد الأقصى لمن يقصِد الصلاةَ هناك أو الاعتكافَ، لكن إذا أتَى الفاضلَ أغنى عن المفضول، فمن أتى في نذره ذلك المسجد الحرام أغناه عن الآخرَينِ، ومن أتَى مسجد المدينة أغناه عن الأقصى، وأما المسجد الحرام فهو أفضل المساجد، لا يقوم غيرُه مقامَه، به الطواف، وإليه الصلاة والحج.   (1) أخرجه أبو داود (3290) والترمذي (1524) والنسائي (7/26، 27) عن عائشة. قال الترمذي: هذا حديث لا يصح، لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 و لا ثوابَ على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقةٍ ولا غيرِها، لا من العوام والفقراء ولا غيرهم. ولا يَصلُح قصدُ المقابرِ للاجتماع على صلاةٍ ولا قراءةٍ ولا غيرها، فإن هذا أعظمُ من صلاة الآحاد عندها، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه أبو داود في سننه (1) : "لا تتخذوا قبري عيدًا". وهذا اتخاذ القبر عيدًا يُعادُ إليه فيجتمع عنده. ولم يقل أحدٌ من علماء المسلمين أن الاجتماع هناك لقراءة القرآن أفضلُ من الاجتماع للقراءة في المساجد والبيوت، بل اتفق المسلمون على أن الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد والبيوت أفضل من الاجتماع لقراءتهِ في مشاهد القبور. وفي الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما اجتمِع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويتدارسونه بينهم إلا غشِيَتْهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهم السكينةُ، وحفَّتْهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده". ولم يقل أحدٌ من أئمة الدين أن الميت يُؤجَر على استماعِه للقرآن، وإن قال ذلك بعض المتأخرين الذين ليسوا أئمة، فإنه ثبت في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذا ماتَ ابنُ آدمَ انقطعَ عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية أو علمٍ يُنتَفع به أو ولدٍ صالح يدعو له". فقد أخبر أن عملَه ينقطع من سوى المسمَّى، والاستماع الذي يُؤجَر عليه من الأعمال، والميت يسمع بلا ريب، كما ثبتَ ذلك بالنصوصِ واتفاقِ أهل السنة، كما في الصحيح (4) أً نه "يسمع خَفْقَ نعالِهم حتى   (1) برقم (2042) عن أبي هريرة. ورواه أيضًا أحمد (2/367) ، وإسناده حسن. (2) مسلم (2699) عن أبي هريرة. (3) مسلم (1631) عن أبي هريرة. (4) أخرجه أحمد (2/445) عن أبي هريرة بهذا اللفظ. وهو متفق عليه من حديث أنس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 يُولُّون عنه مُدبرِين"، وأنه لما خاطبَ أهلَ قليب بدرٍ قال (1) : "ما أنتم بأسمَعَ لما أقول منهم". ولهذا أمر الزائر أن يُسَلِّم على الميت، ولولا أنه يسمع السلام لم يُؤمَر بالسلام عليه. وقد قال ابن عبد البر (2) : ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من رجلٍ يَمُرُّ بقبرِ رجلٍ يعرفُه في الدنيا فيُسَلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلامَ". لكن الإدراك لا يستلزم أن يكون مما يُؤجَر عليه ويُثَابُ عليه، وإن كان الميت يَتنعَّم ببعض ما يسمعه، كما يُعذَّب بالنياحة عليه. وليس تعذيبُه عِقابًا على النياحة، لأنها ليست من عمله، وإنما هي من جنس الآلام التي تَلْحَق العبدَ من غير عملِه، كشَمِّ الروائح الخبيثة وسَمْع الأصواتِ المنكرة ورؤية الأشياء المروِّعة. ولو كان هذا الاستماع مما يُؤجر عليه لكان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين أحقَّ بعمل ذلك. ولم يكونوا يجتمعون عند القبر لختم القرآن عنده، كما يفعل ذلك بعضُ المتأخرين، بل تنازع العلماء في القراءة عند القبر: فكرهَها أبو حنيفة ومالك وأحمد في أكثر الروايات عنه، ورخَّص فيها في الرواية الأخرى لما بلغَه عن ابن عمر أنه وصَّى أن يُقرأ عند دفنِه بفواتح البقرةِ وخواتمها. والرخصة إمّا مطلقًا وإمّا حالَ الدفنِ خاصةً، ولكن اتخاذ ذلك سنةً راتبةً لم يذهب إليه أحد من أئمة المسلمين. فإذا كان هذا حال من يقرأ القرآن محتسبًا فكيف من يقرؤه بالكراء، فإن العلماء قد تنازعوا في جواز الاستئجار على تعليم القرآن والفقه والحديث والإمامة في الصلاة والأذان والحج عن الغير، فقيل: يجوز ذلك، كما هو في مذهب الشافعي ومالك قريب منه، وقيل: لا يجوز،   (1) البخاري (3976) ومسلم (2874، 2875) عن أبي طلحة. (2) في "الاستذكار" (1/234) . وقد سبق ذكر الحديث والكلام عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أشهر الروايتين عن أحمد. وفيها قول ثالث في مذهب أحمد وغيره: إنه يجوز مع الحاجة دون الغِنَي، كما في وليّ اليتيم (وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (1) . ومنشأ النزاع أن الأعمال التي يختصّ فاعلها أن يكون من أهل القربة هل يجوز إيقاعُها على غير وجهِ التقرب؟ فمن قال: لا يجوز ذلك، لم يُجوِّز الإجارة، لأنها بالعوض تقعُ غيرَ قربةٍ، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والله لا يَقبل من العمل إلا ما أريد به وجهُه. ومن جوَّز الإجارة جوَّز إيقاعَها على غير وجه التقرب، ولا تصح الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر، فأما الاستئجار للتلاوة فليس من هذا الباب. والعلماء متفقون على أنَّ الصدقةَ تَصِل إلى الميت، وكذلك العتق ونحوه من العبادات المالية. وأما العبادات البدنية كالقراءة والصيام والصلاة فلهم فيها قولان مشهوران، ومن جوَّز إلا هذا فلابدّ أن يكون ثواب عمل صالح، وهو ما أُرِيد به وجهُ الله، فإذا وقعت العبادةُ لمجرّد العوض -مثل أن يعطيه عوضًا على صلاته أو صيامه أو قراءته- لم تقع قُربةً، فلا ثوابَ ولا إهداءَ، ولكن نفس حفظ القرآن ودراسته وتعلّمه وتعليمه من الأعمال المقصودة، وإنفاق المال فيها من القربات والطاعات، كإعانة المسلمين على الجهاد والصيام وغيرهما. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فطَّر صائمًا فله مثل أجره" (2) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من   (1) سورة النساء: 6. (2) أخرجه أحمد (4/114، 116) والترمذي (807) وابن ماجه (1746) عن زيد ابن خالد الجهني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 جَهَّزَ غازيًا فقد غَزَا، ومن خَلَفَه في أهلِه بخير فقد غزا" (1) . فإعانة المسلمين على تلاوة القرآن وتبليغِه بالمال ونحوه حسن مشروع. ولهذا لمّا تغيَّر الناس وصاروا يفعلون بدعةً ويتركون شِرعةً، وفي البدعة مصلحةٌ مّا إن تركوها ذهبتِ المصلحةُ ولم يأتوا بالمشروع، صار الواجبُ أمرَهم بالمشروع المصلح لتلك المصلحة مع النهي عن البدعة، وإن لم يمكن ذلك فعِلَ ما يمكن وقُدِّم الراجح. فإذا كانت مصلحةُ الفعل أهمَّ لم يُنْهَ عنه لما فيه من المفسدة إلا مع تحصيل المصلحة، وإن كانت مفسدتُه أهمَّ نُهِي عنه. وهذه الوقوف التي على التُّرَب فيها من المصلحة بقاءُ حفظ القرآن وتلاوته، وكون هذه الأموال معونةً على ذلك وخاصةً عليه، إذ قد يَدرُسُ حفظُ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسدُ أُخَر: من حصولِ القراءة لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءتِه على غير الوجه المشروع، واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة، فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون بذلك فالواجب النهيُ عن ذلك والمنع منه وإبطالُه، وإن ظنّ حصول مفسدةٍ أكثر من ذلك لم يدفع أدنى الفسادَيْنِ باحتمال أعلاهما. لهذا جاء الوعيد في حق الشيخ الزاني والملك الكذاب والفقير المستكبر، كما في الصحيح (2) : "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ وملكٌ كذّا وعائلٌ مستكبر". وذلك لضعف الموجب لهذه المعاصي في حقّهم.   (1) أخرجه البخاري (2843) ومسلم (1895) عن زيد بن خالد. (2) مسلم (107) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 فينبغي للمؤمن الذي يَقصِد وجهَ الله إذا أراد اللهَ يُثيبُه ويَرحمُ ميتَه أن يتصدق عنه، ويقصد بذلك من ينتفع بالمال على مصلحةٍ عامة من أهل القرآن ونحوهم، ولا يشترط عليهم إهداء القرآن إلى الميت ولا قراءته عند القبر ونحو ذلك مما يُخرِج العمل عن أن يكون خالصًا لله أو أن يكون غير مشروع، فإن في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ أمّي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمتْ تصدَّقَتْ، فهلْ لها أجرٌ إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم. وفي البخاري (2) عن ابن عباس أن سعد بن عبادة توفيتْ أمُّه وهو غائبٌ عنها، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسولَ الله! إن أمّي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أُشهِدك أنّ حائطِي المخراف صدقة عنها. وأما الاجتماع يومَ الثالث والسابع وتمام الشهر والحول ونحو ذلك على ما ذكره فهو بدعة مكروهة من وجوه، أحدها: أن إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة، وكذلك كلُّ ما فيه تهييج المصيبة، وكذلك الذين يتسمون الوعّاظ، وإنما هم نوَّاحون. وإذا كان النساء قد نُهِينَ عن ذلك مع ضعفِ قلوبهن فكيف بالرجال؟ مع أن النساء يُباحُ لهنّ من الغناء وضرب الدفّ مالا يباح للرجال، إلا ترى أنه رخّص فيما لا يمكن دفعُه من دمع العين وحُزنِ القلب، والنساءُ نُهِينَ عن الأسباب المهيجة للنياحة من اتباع الجنائز وزيارة القبور سدًّا للذريعة، بخلاف الرجال، فإنهم لقوة قلوبهم لم يُنهَوا عن ذلك.   (1) البخاري (2760) ومسلم (1004) . (2) بأرقام (2756، 2762، 2770) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 فتبيَّن أن الرجال أحق بالنهي عن النياحة، لأنهم أقلُّ عذرًا في ذلك من النساء، فهو بمنزلة من ينوح في المصيبة الصغيرة، فهو أحقُّ ممن ناح في مصيبةٍ كبيرة. وفي صحيح مسلم (1) عن أبي مالك الأشعري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهنّ: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقال (2) : "النائحة إذا لمِ تَتُبْ قبلَ موتها تُقامُ يومَ القيامة وعليها سِربالٌ من قَطِرانٍ ودِرع من جرَبٍ". والبكاء المرخَّصُ فيه هو ما كان من دمع العين وحزن القلب، ومع ذلك فلا يصلح استدعاؤه حزنًا، بخلاف البكاء للرحمة، وما كان من اللسان واليد فمنهيُّ عنه، فكيف بالإعانة عليه؟! ففي الصحيحين (3) عن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعودُه مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وحدَه في غاشيةٍ -وفي لفظ مسلم: في غشية- فقال: "قد قضَى؟ " قالوا: لا يا رسولَ الله، فبكى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رأى القوم بكاءَه بَكَوا، فقال: "إلا تسمعون؟ إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يَرحَم". وعن ابن عباس قال: لمّا ماتت زينب بنت رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبكت النساء، فجعلَ عمر يَضرِبهن بسوطِه (4) ، فأخذ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده   (1) برقم (934) . (2) ضمن الحديث السابق. (3) البخاري (1304) ومسلم (924) . (4) في الأصل: "بصوته"، وهو تحريف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 فقال: "مهلاً يا عمر"، ثم قال: "إياكنّ ونَعيقَ الشيطان"، ثم قال؟ "مهما كان من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان" (1) . وعن جابر بن عبد الله قال: أخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجدَه يَجُود بنفسِه، فأخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضعَه في حجرِه، فبكَى، فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أَوَ لم تكن نَهيتَ عن البكاءِ؟ قال: "لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقينِ فاجرين: صوتٍ عند مصيبة خمش وجوهٍ وشَقّ جيوب ورنّة". رواه الترمذي (2) وقال: حديث حسن، وذكر غيرُه (3) تمامَ الحديث: "وصوتٍ عند نغمة لهوٍ ولعب ومزامير الشيطان". وفي الصحيحين (4) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس منّا مَن ضَرَب الخدود وشَقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". وأما قراءة القرآن في الأسواق والجِبايةُ على ذلك فهذا منهيّ عنه من وجهين: أحدهما: من جهة قراءته لمسألةِ الناسِ، ففي الحديث: "اقرأوا القرآن واسألوا به اللهَ قبل أن يجيء أقوامٌ يقرأونه يسألون به الناسَ" (5) .   (1) أخرجه أحمد (1/237- 238، 335) والطيالسي في "مسنده" (2694) . وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان ويوسف بن مهران. (2) برقم (1005) . (3) أخرجه أبو يعلى والبزار كما في "مجمع الزوائد" (3/17) ، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ، وبقية رجاله ثقات. (4) البخاري (1297 ومواضع أخرى) ومسلم (103) . (5) أخرجه أحمد (4/432-433، 436، 439، 445) والترمذي (2917) عن= الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 والثاني: من جهة ما في ذلك من ابتذال القرآن بقراءته لمن لا يستمع إليه ولا يُصغِي إليه. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إن الميت يُعذب ببكاء أهلِه، ومن نِيْحَ عليه يُعذب بما يناحُ عليه" فهذا حديث صحيح ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عمر بن الخطاب وابنِه والمغيرة بن شعبة وغيرهم (1) ، ولكن أَشْكَلَ معناه على طوائف حتى تفرَّقوا فيه: فمنهم من طعن فيه؛ وظَنَّ أن راويَه لم يحفظْه، كما قالت عائشة ومن معها، كالشافعي في كتاب "مختلف الحديث" (2) . ثم روت عائشة لفظين: أحدهما مناسبٌ معناه، وهو قوله: "إن الله يزيد الكافر ببكاء أهله عليه"، وجعلوا الموجبَ لضَعْفِه قولَه تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (3) . وأما جماهير السلف والخلف فعلموا أن مثل هذا التأويل لا يَصلُح أن يُرَدَّ به أحاديثُ ثابتةٌ عن رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كانوا من صغار الصحابة كجابر وأبي سعيد، فكيف بما يرويه عمر ونحوه؟ وذلك أن قوله (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) إنما فيه أن المذنب لا يَحمِلُ ذنبَه غيرُه، وهذا حق لا يخالف معنى الحديث، فإن الحديث ليس فيه أن الميت يحمل ذنب الحيّ، بل الحيُّ النائحُ يُعاقَبُ على نياحتِه عقوبةً لا يحملُها عنه الميّتُ، كما دلَّ على ذلك القرآن. وأما كون الميّت يتألَّم   =عمران بن حصين. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وانظر "الصحيحة" للألباني (257) . (1) انظر صحيح البخاري (1286- 1292) ومسلم (927- 933) . (2) ص 649. (3) سورة الأنعام: 164. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 بعمل غيرِه فهذا شيء آخر، كما أنه يَنْعَم بعمل غيرِه لشيء آخر لا ينافي قولَه (وَأَن ليَس لِلإِنسَانِ إلا مَا سَعَى) (1) . ومن الناس من تأوَّل على ما إذا لم يَنْهَ عنه مع اعتيادهم له، فيكون ذلك إقرارًا للمنكَر يُعذَّب عليه. وهؤلاء ظنُّوا أنّ عذابَ الميت عقوبةٌ، والعقوبة لا تكون إلا على ذنب، فاحتاجوا أن يجعلوا للميت ذنبًا يُعاقَب عليه، وليس كذلك، بل العذاب قد يكون عقابًا على ذنب، وقد لا يكون. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السفر قطعةٌ من العذاب" (2) . والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل: إنه يعاقب، بل يُعذَّب. وقد جاء ذلك مفسرًا، كما رواه البخاري في صحيحه (3) عن النعمان بن بشير قال: أُغْمِيَ على عبد الله بن رواحة، فجعلتْ أختُه تبكي واجبلاه! واكذا واكذا! تعدّ عليه، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئًا إلا وقد قيل لي: أنت كذلك؟ فلما مات لم تَبْكِ عليه. وعن أبي موسى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنّ الميتَ يُعذَّب ببكاء الحيّ، إذا قالت النائحةُ: واعَضُداه! واناصراه! واكاسياه! جُبذَ الميتُ وقيل له: أنت عضدها؟ أنتَ ناصرُها؟ أنت كاسيها؟ ". رواه الإمامَ أحمد في المسند (4) . وروى الترمذي (5) عن أبي موسى أن رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من   (1) سورة النجم: 39. (2) أخرجه البخاري (1804، 3001، 5429) ومسلم (1927) عن أبي هريرة. (3) برقم (4267) . (4) 4/414. وأخرجه أيضًا الحاكم في "المستدرك" (2/471) . وفي إسناده زهير ابن محمد، هو أبو المنذر الخراساني الشامي، وهو ضعيف. ولكن تابعه عبد العزيز الدراوردي عند ابن ماجه (1594) . (5) برقم (1003) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 ميِّتٍ يموتُ فيقومُ باكيهم فيقول: واجَبَلاه! واسنداه! أو نحو ذلك إلا وُكِّلَ به ملكان يَلْهَزَانِه أهكذا أنت؟ ". قال الترمذي: حديث حسن غريب. وفي سنن أبي داود (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لنسوةٍ في جنازةٍ: "ارجعنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ، فإنكنّ تَفْتِنَّ الحيَّ وتُؤذِيْنَ الميتَ". فهذا ونحوه هو تعذيب الميت بالنياحة. والحيُّ في الدنيا قد يُعذَّب بما يراه ويسمعه ويَشَمُّه من أمورٍ منفصلةٍ عنه، وهو التعذيب الذي يلحق من جنس سائر ما يلحقه من هولِ الفتنة والضغطة وهول القيامة وغير ذلك من أنواع الآلام. والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع (2) . وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم" (3) وأشار إلى لسانه، فهذا أيضًا حق، وهذا كقوله: "ما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، وما كان من العين والقلب فمن الله" (4) . والميت إنما يعذّب بما نُهِيَ عنه لا بما أبيح له، ولهذا جاء مفسَّرًا أنه النياحة، وهو البكاء بالمدّ، فإن من الناس من يقول: البكاء بالمدّ هو الصوت، وأما بالقصر فهو الدمع، زيادة اللفظ كزيادة المعنى، ويُنشدون:   (1) لم أجده فيه، وقد أخرجه ابن ماجه (1578) والبيهقي (3/77) من حديث علي، وهو ضعيف. انظر الكلام عليه في "الضعيفة" (2742) . (2) انظر "مجموع الفتاوى" (24/369- 378) . (3) سبق تخريجه. (4) سبق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكَاهَا وما يُغنِي البُكاءُ ولا العَوِيلُ (1) وأما من يكون في المسجد من مُصَلٍّ وقارئ ومحدِّث ومُفتٍ ونحوهم من يفعل في المسجد ما بُنِيَ له المسجد، فليس لبعضهم أن يُؤذي بعضًا، ففي السنن (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرج على أصحابه وهم يُصلُّون ويجهرون بالقرآن، فقال: "أيها الناسُ! كلكم يُناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة". فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المصلِّين أن يجهر بعضُهم على بعضٍ بالقراءة. ومن هذا أن يكون القوم قد صَلَّوا وهم يذكرون الله بعد صلاة الفجر وغيرِه، فيقوم بعضُ من يُصلي منفردًا أو مسبوقًا، فيرفع صوتَه عليهم بالقراءة حتى يَشغَلَهم. والمنفرد لا يُستحبُّ له الجهر عند كثير من العلماء، كأحمد في المشهور عنه وغيره، فإن الجهر إنما يُشْرَع للإمام الذي يُسمِع المأمونين، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإذا قرأ فأنصتوا" (3) . ومن استحبَّ الجهر للمنفرد فإنه ينهاه عن جهرٍ يرفعُ به صوتَه على غيرِه كما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل يَجهر جهرًا خفيًّا أو يَدَعُه، لما فيه من إيذاء الغير الذي يُنهَى عن إيذائهم. ألا ترى أن استلامَ الحجر وتقبيله مستحب، فإذا كان هناك زحمة وفي ذلك إيذاءٌ للناس فإنه يُنهَى عنه، كما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) البيت نُسِب لكعب بن مالك في "لسان العرب" (بكا) ولعبد الله بن رواحة في "تاج العروس" (بكى) ولحسان بن ثابت في "جمهرة اللغة" (ص1027) . وانظر الخلاف في نسبته في "شرح شواهد شرح الشافية" (ص66) . (2) لأبي داود (1332) من حديث أبي سعيد. (3) أخرجه أحمد (2/420) وأبو داود (604) وابن ماجه (846) من حديث أبي هريرة. قال أبو داود: "وهذه الزيادة (وإذا قرأ فأنصتوا) ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد!. ومنهم من صحح هذه الزيادة، والكلام في هذا الحديث طويل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 عمر عن ذلك، ففي المسند (1) عن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "يا عمر! إنك رجل قوي، لا تُزاحِم على الحجر فتُؤذي الضعيف، إن وجدتَ خلوةً فاستلمْه، وإلاّ فاستقبلْه وهَلِّلْ وكبِّرْ". وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين فرغنا من الطواف بالبيت: "كيف صنعتَ يا أبا محمد في استلامِ الركن؟ "، قلت: استلمتُ وتركتُ، قال: "أصبتَ" رواه أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه (2) والطبراني في معجمه (3) . وهذا كما أن رفع الصوت بالتلبية والأذان ونحو ذلك سنة، ثم لما كان رفعُ المرأةِ صوتَها مفسدةً نُهِيَ عَمَّا فيه المفسدة، وجُعِلَ جهرُها بالتلبية بقدرِ ما تَسْمَع رفيقتُها. وأمثال ذلك في الشريعة كثير، والله أعلم. قاله أحمد بن تيمية أيّده الله تعالى.   (1) 1/28. (2) كما في "موارد الظمآن" (999) . (3) لم أجده في المطبوع منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 فتوى فيمن يُعظِّم المشايخ ويستغيث بهم ويزور قبورَهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في قومٍ يُعظِّمون المشايخ، بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرَّعون إليهم، ويزورون قبورَهم ويُقبِّلونها ويتبرَّكون بترابها، ويُوقِدون المصابيح طولَ الليل، ويتخذون لها مواسم يقدمون عليها من البعد يسمونها ليلةَ المَحْيَا، فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها النذور، ويُصلُّون عندها. فهل يَحِلُّ لهؤلاء القوم هذا الفعلُ أم يَحرُم عليهم أم يُكْرَه؟ وهل يجوز للمشايخ تقريرُهم على ذلك أم يجب عليهم منعُهم من ذلك وزَجْرُهم عنه؟ وما يجب على المشايخ من تعليم المريدين وما يُوصُونهم به؟ وهل يجوز لهم أن يكتبوا لهم إجازاتٍ بالمشيخة على بلادٍ أخرى؟ وهل يجوز تقريرهم على أخذ الحيّات والنار وغير ذلك أم لا؟ وماذا يجب على أئمةِ مساجدَ يحضرون سَماعَهم ويوافقونهم على هذه الأشياء؟ وما يجب على وليّ الأمر في أمرِهم هذا؟ أفتونا مأجورين. أجاب الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام بقيةُ السلف طِرازُ الخَلَف بحرُ العلوم ناصرُ الشريعة قامعُ البدعة تاجُ العارفين إمام المحققين العارف الرباني الناسك النوراني علاَّمة الوقت مفتي الفِرق تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرَّاني الحنبلي -رضي الله عنه وأرضاه، ورَزَقَه ما رَزَقَ أولياءَه-، قال: الحمد لله رب العالمين. من استغاث بميِّتٍ أو غائب من البشر بحيثُ يدعوهُ في الشدائدِ والكُرُبات، ويَطلُب منه قضاءَ الحوائج، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 فيقول: يا سيِّدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجِوارِك؟ أو يقول عند هجوم العدوِّ عليه: يا سيِّدي فلان! يَستوحِيْه ويَستغيثُ به؟ أو يقول ذلك عند مرضِه وفقرِه وغيرِ ذلك من حاجاتِه-: فإن هذا ضالٌّ جاهلٌ مشركٌ عاصٍ لله باتفاقِ المسلمين، فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعَى ولا يُطلَب منه شيء، سواءٌ كان نبيًّا أو شيخًا أو غيرَ ذلك. ولكن إذا كان حيًّا حاضرًا، وطلب منه ما يَقدِرُ عليه من الدعاء ونحو ذلك، جاز، كما كان أصحاب رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطلبون منه في حياته، وكما يُطلَب منه الخيرُ يومَ القيامة. وهذا هو التوسُّلُ به والاستغاثة التي جاءت به الشريعة، كما ثبت في صحيح البخاري (1) وغيرِه عن أنس بن مالك: أن الناس لمَّا أَجْدَبُوا استسقَى عمرُ بالعبّاس، فقال: "اللهمَّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبْنا نتوسَّلُ إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسَّل إليك بِعَمِّ نبيِّنا فَاسْقِنا"، قال: فيُسْقَون. فكان توسُّلُهم بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته هو توسُّلهم بدعائه وشفاعتِه، فلما ماتَ توسَّلُوا بدعاءِ عمِّه العباس وشفاعتِه، لقُربِه منه، ولم يتوسَّلُوا حينئذٍ برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا استغاثوا به، ولا ذهبوا إلى قبرِه يدعون عنده. فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد سَدَّ الذريعة في هذا الباب، حتى قال: "لا تتخذوا قبرِي عيدًا، وصَلُّوا عليَّ حيثُما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني" (2) . وقال: "اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد" (3) . وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ" يُحذِّر ما فَعَلُوا (4) . وقال: "إن من كان قبلكم كانوا   (1) برقمي (1010 و3710) . ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1421) . (2) سبق تخريجه. (3) سبق تخريجه. (4) سبق تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 يتخذون القبور مساجدَ، إلا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك" (1) . فلهذا قال العلماء -رضي الله عنهم-: إنه يَحرُمُ بناءُ المساجد على القبور. فإذا كان قبورُ الأنبياء والصالحين لم تُتَّخذْ مساجدَ، والصلاةُ عندها لله تعالى قد نهى عنها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئلا تكون ذريعةً إلى الشرك، فكيف إذا كان صاحبُ القبر يُدعَى ويُسْأَل ويُقْسَم على الله به ويُسْجَد لقبرِه أو يُتَمسَّح به؟ فإنّ هذا شركٌ صريح. وقد قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (2) . وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)) (3) . وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والنبيين كالمسيح وعُزَير، فقال الله تعالى: إنّ هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويتقربون إليَّ كما تتقربون إليَّ، ويخافوني كما تخافوني. وقد قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ   (1) سبق تخريجه. (2) سورة سبأ: 22- 23. (3) سورة الإسراء: 56- 57. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (1) . فبيَّن سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفرٌ، وهذا إنما كان بدعائهم من دون الله، لا بأنهم اعتقدوا أنهم شاركوه في خلق السماوات والأرض، فإنّ هذا لم يَقُلْه أحدٌ. ولهذا قال عن النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (2) . فبيَّن أن النصارى مشركون من حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيحَ ابن مريم، ولم يقل أحد من النصارى أن الأحبار والرهبان شاركتِ الله في خلق السماوات والأرض. فإذا كان الداعي المستغيث بمن مات من الأنبياء مشركًا فكيف من دَعا ميّتًا غيرَ الأنبياء واستغاث به؟! ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين: زيارة بدعية، وزيارة شرعية. ف الزيارة الشرعية مقصودُها الدعاءُ للميت كما يُصلَّى على جنازته، فيقال فيها (3) : "السلامُ عليكم دارَ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهمَّ لا تَحْرِمْنا أجرَهم، ولا تَفْتِنَّا بعدَهم، واغفر لنا ولهم". فهذا من جنس الصلاة على الميت.   (1) سورة آل عمران: 79- 80. (2) سورة التوبة: 31. (3) أخرجه مسلم (975) عن بريدة، دون الجزء الأخير، فهو من الدعاء في صلاة الجنازة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وأما الزيارة البدعية فهي من جنس الشرك به من جنس النصارى، مثل: دعاءِ الميِّت والاستغاثة به، والإقسام به على الله تعالى، وتقبيل قبره والتسمح به، والسجود له، وتعفير الخدِّ عنده، ونحو ذلك ممَّا يتضمن طلب الحاجات منه أو بسببه. فليس شيء من هذا من جنس دين المسلمين، ولم يَشرعْ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئًا من هذا، ولا فَعَلَه أصحابُه، ولا استحبَّ ذلك أحدٌ من أئمة المسلمين، بل قد نَهَوْا عنه. حتى قد اتفق أئمةُ المسلمين على أنّ قبرَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يُقَبَّل ولا يُتمسَّحُ به ولا يُسْجَد عنده. فإذا كان هذا قبره فكيف يكون قبرُ غيرِه؟ وهو أفضل الخلق وأكرمهم على الله، وأقربهم إليه وسيلةً، وأعظمهم عنده جاهًا. والحديث الذي يرويه بعض الناس عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي" حديث موضوع (1) ، لم يَروِه أحدٌ من أهل العلم، ولا ذُكِرَ في شيء من كتب المسلمين المعروفة. وكذلك إيقادُ المصابيح وتعليقُ الستورِ على قبور الأنبياء والصالحين من أهلِ البيت وغيرِهم ليس شيءٌ من ذلك مشروعًا باتفاق المسلمين جميعًا، ولم يفعل ذلك أحدٌ من الأمَّة ولا أئمتُها، ولا استحبَّه أحدٌ من أئمة الدين. بل في السنن (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لعنَ الله زوّاراتِ القبور والمتخذين عليها السُّرُجَ والمساجدَ". قال الترمذي: حديث حسن.   (1) تكلم عليه المؤلف في مواضع من "مجموع الفتاوى" (1/319، 346، 24/335، 27/126) ، وذكر أنه لا أصل له. (2) لأبي داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) عن ابن عباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 ومن نَذَر لقبرٍ زيتًا أو شمعًا أو قناديلَ أو سِتْرًا أو نحو ذلك لم يكن هذا نَذْرَ طاعةٍ، ولم يكن على أحدٍ أن يوفيَ به، وما أعلمُ في هذا نزاعًا بين العلماء. ولكن هل عليه كفّارة يمينٍ أم لا؟ فيه قولان. وكذلك الاجتماع عند قبرٍ من القبور لقراءةِ ختمةٍ أو دعاءٍ أو ذكرٍ أو عَملِ سَماع أو غيرِ ذلك هو من البدع المنهيِّ عنها؟ فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تتخذوا قبري عِيدًا"، رواه أهلَ السنن كأبي داود وغيره (1) . فإذا كان قد نُهِيَ عن اتخاذِ قبرِه عيدًا، فقَبْرُ غيرِه أولى بالنهي عن ذلك. والمكان الذي يتخذ عيدًا هو أن يعتاد الناسُ للاجتماع فيه في وقتٍ معيَّنٍ، كما يعتادون الاجتماع فيه بعرفةَ ومزدلفةَ ومِنَى، وكذلك الزمان الذي يُتَّخذ عِيدًا هو الزمان الذي يعتادون الاجتماع فيه، كيومَي الفِطر والنحر. والمشركون الذين كفَّرهم رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقاتَلَهم واستباحَ دماءَهم وأموالَهم من العرب لم يكونوا يقولون: إنَّ آلهتَهم شاركتِ اللهَ في خلق السماوات والأرض والعالم، بل كانوا يُقِرُّون بأن الله وحدَه خالق السماوات والأرض والعالم، كما قال الله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ) (2) ، وقال تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (3) الآيات إلى قوله (تُسْحَرُونَ (89)) وقد قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)) (4) .   (1) سبق تخريجه. (2) سورة لقمان: 25 وسورة الزمر: 38. (3) سورة المؤمنين: 84- 89. (4) سورة يوسف: 106. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 قال طائفة من السلف: يسألهم مَن خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم يعبدون غيره. وإنما كانت عبادتهم إيَّاهم أنهم يدعونهم ويتخذونهم وسائطَ ووسائلَ وشُفعاءَ لهم، فمن سلكَ هذا السبيلَ فهو مشرك بحسب ما فيه من الشرك. وهذا الشركُ إذا قامت على الإنسان الحجةُ فيه ولم يَنتهِ، وَجَبَ قتلُه كقتلِ أمثالِه من المشركين، ولم يُدفَنْ في مقابرِ المسلمين، ولم يُصَلَّ عليه. وإمَّا إذا كان جاهلاً لم يَبلُغْه العلمُ، ولم يَعرِف حقيقةَ الشرك الذي قاتلَ عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين، فإنه لا يُحكَم بكُفْرِه، ولاسِيَّما وقد كَثُر هذا الشركُ في المنتسبين إلى الإسلام، ومن اعتقدَ مثلَ هذا قُربةً وطاعةً فإنه ضَالٌّ باتفاقِ المسلمين، وهو بعد قيامِ الحجة كافر. والواجبُ على المسلمين عمومًا وعلى وُلاةِ الأمور خصوصًا النهيُ عن هذه الأمور، والزَّجْرُ عنها بكلِّ طريق، وعقوبةُ مَن لم ينتهِ عن ذلك العقوبةَ الشرعيةَ، والله أعلم. فصل والواجب على المشايخ أن يأمروا أتباعَهم بطاعةِ الله ورسوله، فيفعلوا ما أمر الله ورسولُه به، ويتركوا ما نَهى الله ورسولُه عنه، ويَتَبعوا كتابَ الله وسنةَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن المقصود بذلك دعوتهم إلى عبادة الله وحدَه لا شريك له وطاعة رسوله. والشيوخُ يبلِّغون عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر به أمته من الدين الذي أمر الله به، ويتبعون لخلفائه الراشدين، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه من يَعِشْ منكم فسَيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، تَمسَّكوا بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ بدعةٍ ضلالة" (1) . والوصية الجامعة من وصية الله التي وَصَّى بها عبادَه حيث قال. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) (2) . ولما بعثَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذًا إلى اليمن وصَّاه ثلاثَ وَصايا، فقال: "اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأَتْبعِ السَّيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالقِ الناسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ" (3) . وأما كتابة الإجازات فهي بمنزلة الشهادة للرجلِ أنه أهلُ المَشْيَخةِ، وبمنزلةِ أمرِ الناس بمتابعتِه وطاعتِه، وليس لأحدٍ أن يَفعلَ هذا إلا أن يكونَ عالمًا بمن يَصْلُح للقدوة والاتباع، ومن لا يَصْلُح أن يكون عدلاً فيما يقوله ويأمُر به. فمن كان جاهلاً بطريقِ الله الذي بَعثَ به رسولَه، أو كان صاحبَ غرضٍ يكتب الإجازةَ لمن يُعطِيه مالاً ويَخدِمُه، إن لم يكن مستحقًّا لذلك لم يكن لمثل هذا أن يكتب إجازة، ولا حرمةَ لمن كتبَ له مثلُ هذا إجازة، لاسيَّما إذا كان مضمون الإجازة أن يُعطوه أموالَهم. فهذه إجازةُ الشحَّاذين والسُّوَّال،   (1) أخرجه أحمد (4/126) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (43-44) عن العرباض بن سارية. (2) سورة النساء: 131. (3) اختلفت الروايات في أنّ هذه الوصايا وصَى بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا ذر أو معاذًا، وقد أخرجها أحمد (5/153، 158، 177) والدارمي (2794) والترمذي (1987) . قال وكيع: وقال سفيان مرةَ "عن معاذ"، فوجدتُ في كتابي "عن أبي ذر" وهو السماع الأول. قال أحمد: وكان حدثنا به وكيع عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ، ثم رجع. وقال محمود بن غيلان بعدما رواه من حديث معاذ: والصحيح حديث أبي ذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وليس هذا من حكم طريق الله. ومن قَبَضَ أموالَ الناسِ على أن يُعطِيَها مستحقَّها فلابُدَّ أن يكون هذا عالمًا بالمستحقين عدلاً يُعطي المالَ لمستحقِّيْه. وأما إذا أخذ أموالَ الناسِ يُطعِم بها مَن يُعاوِنُه على أغراضِه، ويأمر بغير ما أمر الله به، وينهى عن شرع الله ودينِه، فهذا من الآكلين أموالَ الناسِ بالباطلِ والصَّادِّيْنَ عن سبيل الله. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (1) . وإنما الشيوخ الذين يَستحقُّون أن يَكُونوا قدوةً متبعين هم الذين يدعون الناسَ إلى طريقِ الله، وهو شرع الله ودينُه الذي بُعِثَ به رسولُه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويَصرِفون الأموالَ في مَصارفِها الشرعية التي يُحِبُّها الله ورسولُه، فيكونون داعينَ إلى الله مُنفِقين الأموالَ في سبيل الله. وكلُّ من أظهرَ هذه الإشاراتِ البدعية التي هي فُشاراتٌ، مثل إشارة الدم واللاذن والسكر وماء الورد والحيَّة والنّار، فهم أهلُ باطلٍ وضلالٍ وكذب ومحالٍ، مستحقُّون التعزيرَ البليغَ والنَّكال، وهم إمَّا صاحبُ حالٍ شيطاني، وإمَّا صاحبُ حالٍ بُهتاني، فهؤلاء جمهورُهم، وأولئك خواصُّهم. وهؤلاء يجب عليهم أن يتوبوا من هذه البدع والمنكرات، ويَلْزَموا طريقَ الله الذي بعث به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليس لهم أن يكونوا قدوةً للمسلمين، وليس لأحدٍ أن يَقتدِيَ بهم. ومن كَثَّر جَمْعَهم الباطلَ، وحَضَر سَماعاتِهم التي يفعلونها في   (1) سورة التوبة: 34. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 المساجد وغيرِها، أو حَسَّنَ حَالَهم، أو قَرَّرَ مُحالَهم من أئمة المساجد ونحوهم، فإنه مستحقّ التعزيرَ البليغَ الذي يَستحِقُّه أمثالُه. وأقلُّ تعزيرِه أن يُعزَل مثلُ هذا عن إمامة المسلمين، فإن هذا مُعِيْنٌ لأئمة الضلالة، أو هو منهم، فلا يَصلُح أن يكون إمامًا لأهلِ الهدى والفلاح. قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى اَلِبرِّ وَاَلتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنوُاْ عَلَى الإثمِ وَالعُدوَانِ) (1) ، وقال تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)) إلى آخرها (2) . وقال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)) (3) . والله تعالى أعلم.   (1) سورة المائدة: 2. (2) سورة العصر: 1-3. (3) سورة آل عمران: 104. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 مسألة في تأويل الآيات وإمرار أحاديث الصفات كما جاءت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 مسألة سُئِل عنها الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد الورع أوحدُ أهلِ زمانِه شيخُ الإسلام تقي الدين أبو العباس (1) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني -رضي الله عنه وأرضاه- وهو بالديار المصرية، في قوله تعالى (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) الآية (2) ، وقوله (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (3) ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ينزل ربنا كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا (4) ... " الحديث (5) . وقد تأوَّل طائفةٌ هذه الآيات وأمثالَها من آياتِ الصفاتِ التي أنزلَها الله تعالى، ولم يتأوَّلوا هذا الحديثَ ولا أمثاله من أحاديثِ الصفات. وقد قال طائفة: إذا تأولنا هذه الآيات احتملَتْ هذه الأحاديثُ أيضًا التأويلَ. فما الحجة في تأويل الآيات وإمرارِ الأحاديث كما جاءت؟ بَيِّنوا لنا الصواب في ذلك. أجاب رضي الله عنه الحمد لله. الجواب عن هذا من وجوه: أحدها أن يقال: يجب اتباعُ طريقةِ السلف من السابقين الأولين من   (1) في الأصل: "أبي العباس". (2) سورة المجادلة: 7. (3) سورة الحديد: 4. (4) في الأصل: "الدنى". (5) أخرجه البخاري (1145، 6321، 7494) ومسلم (758) عن أبي هريرة. وفي الباب عن غيره من الصحابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ، فإنّ إجماعَهم حجةً قاطعة، وليس لأحد أن يخالفَهم فيما أجمعوا عليه، لا في الأصول ولا في الفروع. وحكى غيرُ واحدٍ من أهل العلم بآثارهم وأقوالِهم قالوا في قوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) (1) ونحوه: إنه بعِلمِه (2) ، وحَكَوا إجماعَهم على إمرارِ [آيات] الصفات وأحاديثها وإنكارَهم على المحرِّفين لها. ولهذا لا يَقدِر أحد أن يَحكِيَ عن أحدٍ من الصحابة والتابعين وغيرهم من سلف الأمَّة بنقلٍ صحيح أنه تأوَّلَ الاستواءَ بالاستيلاءِ أو نحوِه من معاني أهل التحريف، بل ينقل عنهم أنهم فسروا الآية بما يَقتضي أنه سبحانَه فوقَ عرشِه، ويُمكِنُه أن ينقلِ بالإسناد الصحيح أنهم قالوا في قوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) أنهم قالوا: بعلمه. قال أبو عمر ابن عبد البر في كتاب "التمهيد في شرح الموطأ" (3) لمَّا شَرحَ حديث النزول، قال: هذا حديث لم يختلفْ أهلُ العلم في صحتِه، وفيه دليل [على] أن الله في السماء على العرش كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة. وهذا أشهرُ عند العامة والخاصة، وأَعرَفُ من أن يحتاجَ إلى أكثر من حكايتِه، لأنه اضطرارٌ، لم يُؤَنِّبْهم (4) عليه أحدٌ ولا أنكرَه عليهم مسلمٌ.   (1) سورة المجادلة: 7. (2) انظر: تفسير الطبري (28/10) و"السنة" لعبد الله بن أحمد (ص71-72) و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي (3/400- 402) و"الشريعة" للآجري (ص289) . (3) 7/128، 129، 134. (4) في الأصل: "يوقفهم"، والتصويب من التمهيد. وينظر تمام السياق هناك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 وقال أبو عمر أيضًا (1) : أجمعَ علماءُ الصحابة والتابعين الذين حُمِلَ عنهم التأويلُ قالوا في تأويل قوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) : هو على العرش، وعِلمُه في كل مكان. وما خالفهم في ذلك أحدٌ يُحتَجُّ بقوله. وقال أيضًا (2) : أهل السنة مُجمِعون على الإقرارِ بالصفاتِ الواردة في الكتاب والسنة، وحَمْلِها على الحقيقةِ لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكَيِّفون شيئًا من ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلُّهم يُنكِرها، ولا يَحمِلُ شيئًا منها على الحقيقة، ويزعم أنّ من أقرَّ بها مُشبِّه، وهم عند مَن أقرَّ بها نَافُونَ للمعبود. وقال الشيخ أبو بكر الآجُرِّي في كتاب "الشريعة" (3) في باب التحذير من مذهب الحلولية: الذي يذهب إليه أهلُ العلم أن الله على عرشِه فوقَ سماواتِه، وعِلمُه محيط بكل شيء، قد أحاطَ بجميع ما خلقَ في السموات العلي، وبجميع ما في سبع أرضين، يُرفَع إليه أعمالُ العباد. فإن قال قائل: فما معنى (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) الآية التي يحتجون بها؟ قيل له: علمُه، والله على عرشِه، وعلمُه يُحيط بهم. هكذا فسَّره أهلُ العلم، والآية يدكُ أوَّلُها وآخرُها على أنه العلم وهو على عرشه. هذا قول المسلمين.   (1) 7/138، 139. (2) 7/145. (3) ص288. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وقال الشيخ أبو عبد الله بن بَطَّة في كتاب "الإبانة" (1) : باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقِه، وعِلمُه محيط بخلقه: أجمعَ المسلمون من الصحابة والتابعين أن الله على عرشِه فوقَ سماواته بائنٌ من خلقهِ. فأما قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) فهو كما قالت العلماء: عِلْمُه. وأما قوله (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) (2) معناه أنه هو الله في السماوات وهو الله في الأرض، وتصديقُه في كتاب الله: (وَهُوَ الَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِى الأَرضِ إِلَهٌ) (3) . واحتجَّ الجهمي [بقول الله تعالى] (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) ، فقال: إن الله معنا وفينا. وقد فسَّر العلماءُ أن ذلك علمه. ثم قال في آخرها (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)) (4) . فهؤلاء وأمثالُهم الذين هم من أعلم الناس بأقوال السلف من الصحابة والتابعين، وكلٌّ منهم له من المصنَّفات المشهورة ما فيه العلم بأقوال السلف وآثارِهم، ما يعلم أنهم أعلم بذلك من غيرهم، وقد حَكَوا إجماعَ السلف كما ترى. الوجه الثاني أن يقال: الكلام في الآيات والأحاديث كلِّها على طريقةٍ واحدة، والتأويل الذي ذمَّه السلفُ والأئمة هو تحريف الكلام عن مواضعه، وإخراجُ كلامِ الله ورسوله عما دَلَّ عليه وبيَّنه الله به. وقد حَدَّه طائفةٌ   (1) انظر "المختار من الإبانة" (تتمة الرد على الجهمية) 3/136، 143، 144. (2) سورة الأنعام: 3. (3) سورة الزخرف: 84. (4) سورة المجادلة: 7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 بأنه صَرْفُ الكلام عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير دليل. فقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ونحوها من الآيات ليس ظاهرُها ولا مدلولُها ولا مقتضاها ولا معناها أن يكون الله مختلطًا بالمخلوقين ممتزجًا بهم، ولا إلى جانبهم متيامنًا أو متياسرًا، ونحو ذلك، لوجوه: أحدها: أنه لم يَقُل أحد من أهل اللغة إنَّ المعيَّةَ تقتضي الممازجةَ والمخالطةَ، ولا تُوجبُ التيامنَ ولا التياسُرَ (1) ونحو ذلك من المعاني المنفيَّةِ عن الله مع خَلْقِه، وإنما تقتضي المصاحبة والمقارنةَ المطلقةَ. الثاني: أنه حيث ذُكِر في القرآن لفظ المعيّة فإنه لم يَدُلَّ على الممازجة والمخالطة، كما في قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (2) ، فليس معنى ذلك أن ذاتَ المؤمنين ممتزجةٌ بذاته. وكذلك قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) (3) ، والمجاهد معهم ليست ذاتُه ممتزجةً بذواتهم ولا مماسَّةً لذواتِهم. وقال تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)) (4) ، وليس المراد أن ذاتَه تمتزجُ بذواتهم ولا مماسَّة لها. وقال تعالى: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)) (5) ، وقال تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)) (6) .   (1) ما بعده في الأصل غير متصل بما قبله. وقد وجدتُ ما يُكمله في الورقة (53 ب/ سطر8) . (2) سورة الفتح: 29. (3) سورة الأنفال: 75. (4) سورة التوبة: 119. (5) سورة هود: 40. (6) سورة الشعراء: 119. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وهذا كثير في كتاب الله، وليس في شيء من ذلك أن معنى المعيَّة أن يكون أحدهما حالاً في الآخر ولا ممتزجًا به ولا مختلطًا به، فمن قال: إن ظاهرَ قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) ونحو ذلك أن يكون الله مختلطًا بالمخلوقين وممتزجًا بهم وحالاً فيهم أو مماسًّا لهم ونحو ذلك، فقد افترى على القرآن وعلى لغة العرب، وادَّعى أن هذا الكفر هو ظاهر القرآن، وهو كَذِبٌ على الله ورسوله بلا حجة ولا برهانٍ. وغاية ما يُقال: أن لفظ "مع" ظرفٌ أو ظرفُ مكانٍ، فيقتضي أن يكون المتعلق بهذا الظرف مكانًا (1) من المضاف إليه، كما في قول القائل: هذا فوقَ هذا، فإن "فوق" من ظروف المكان، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون المكان عن يمين المضاف إليه أو عن شمالِه، ولا يقتضي أن يكون عن يمينه وشمالِه جميعًا، بل أكثرُ ما يَقتضي مطلقُ المكان، فإذا قُذِّر أنه (2) فوقَ المضاف إليه لم يكن هذا مخالفًا لظاهر المعية. ومن قال: إنه لابُدَّ في المعية من أن يكون ما مع الشيء متيامنًا أو متياسرًا أو إلى جانبه ونحو ذلك، فقد غَلِطَ غَلَطًا بيِّنًا. وهذا كما أن قوله (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ليس ظاهرُه أن ذاتَه في السماوات والأرض، بل ظاهرُه أنه إله أهلِ السماءِ وإله أهل الأرض، فأهلُ السماء يَألَهُونَه، وأهلُ الأرض يألهونَه. وكذلك قوله (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) ليس ظاهره أن نفس الله في السماوات والأرض، فإنه لم يقل: "هو في السماوات والأرض"، بل   (1) في الأصل: "مكان". (2) في الأصل: "أن". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 قال: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) ، فالظرفُ مذكورٌ بعدَ جملةٍ لا بعدَ مفردٍ، فهو متعلق بما في اسم "الله" من معنى الفعل، هو الله في السماوات: أي المعبود الإله في السماوات، والإله المعبود في الأرض، كقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ، بخلاف قوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) (1) وقوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً) (2) ، فإنه لم يذكر ما يتعلق به قوله "في السماء" غير نفسِه. وكذلك الأثر الذي يُروَى عن ابن عباس أنه قال: "الحجر الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرض، فمن صافحَه واستلَمه فكأنما صافحَ اللهَ وقَبَّلَ يمينَه" (3) ، فمن قال: إن هذا يحتاج إلى تأويل فقد أخطأ، فإنه ليس ظاهر هذا أن الحجر هو صفةُ الله، فإنه قال: "يمين الله في الأرض"، فقيَّده بكونه "في الأرض"، وهذا بيَّن أنه ليس هو صفةَ اللهِ. ثم قال: "فمن صافحَه وقَبَّلَه فكأنما صافحَ الله وقَبَّل يمينَه"، والمشبَّه غيرُ المشبَّه به، فقد صرَّح بأن المستلم له لم يصافحِ الله، وإنما هو مشبَّهٌ بذلك. الوجه الثالث أن يقال : إخبارُ الله في القرآن أنه مع عبادِه جاءَ عامّا وخاصًّا، فالعام كقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)) (4) ، وقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى   (1) سورة الملك: 16. (2) سورة الملك: 17. (3) سبق تخريجه. وتكلم عليه المؤلف في "مجموع الفتاوى" (6/397 وما بعدها) . (4) سورة المجادلة: 7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) (1) . ففَتَحَ الكلامَ بالعلم وخَتَمه بالعلم. وأما الخاصّ فكقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (2) ، فهذا بيّن أنه ليس مع الفجّار والظّالمين، ولو كان بذاتِه في كل مكان لكان مخالفاً لهذه الآية. وكذلك قوله لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)) (3) ، فهو مع موسى وهارون دون فرعون وقومه. وكقوله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (4) ، فهو مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبه، لا مع الكفّار كأبي جهل وأمثالِه. فلو كانت المعيَّةُ معناها الاختلاط والامتزاج، وكان في كل مكانٍ بذاته، لم يَجُزْ أن يكون في المعيَّةِ تخصيصٌ. فمن زَعَم أن معناها الامتزاج والاختلاط وأن ظاهرها أن يكون في كل مكانٍ فقد أخطأ، ولكن المعية وإن دلَّت على المصاحبة والمقارنة فهي في كل مكانٍ بحسب ما دلَّ عليه السياقُ. فلما كان في تلك (5) الآيتين قد افتتح الآية بالعلم وختمَها بالعلم، دَلَّ ذلك على أن من حكم المعية أنه   (1) سورة الحديد: 4. (2) سورة النحل: 128. (3) سورة طه: 46. (4) سورة التوبة: 40. (5) كذا في الأصل بالإفراد، والأولى "تَينك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 عليم بكل شيء. وهنا لمَّا كان السياقُ يدلُّ على أن المقصودَ الإعانةُ والنصر دل على أن من حكم المعيَّة النصر والمعونة، فقول القائل "أنا معك" معناه: أني مصاحبك ومقارِنُك، وإذا كان كذلك اقتضَى أنّي أعلم حالك، وقد يقتضِي إذًا أنِّي أُعِينك وأنصرك على أعدائك. وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: "اللهم أنتَ الصاحبُ في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، اللهم اصحَبْنا في سفرِنا واخْلُفْنا في أهلنا" (1) . وهذا وأمثالُه بيَّن أن لفظ المعية في القرآن ليس فيه هذا التأويل المتنازع فيه، وهو صَرْفُ اللفظ عن الاحتمال (2) الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليلٍ يَقترِن بذلك، فإن هذا إنما يكون إذا كان ظاهرُ قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) يقتضي أن يكون الله ممتزجًا بنا حَالاًّ في أجوافِنا، أو أن يكون إلى جوانبنا، وليس هذا مدلولَ لفظ المعية أصلاً، فبطل ما قال. بل يُقال: الجواب الثاني وهو أن قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) يَدُلُّ على نقيض قولِ الجهمية، فإنه ذكر نفسه وذكر أنه معهم، ولفظ الخطاب -إذا قيل: هم وأنتم ومعكم ونحو ذلك- يتناول ما يتناوله الاسمُ الظاهر، واسمهُم يتناول جميعَ ذاتهم وصفاتِهم فأبعاضهم، وذلك يمتنع (3) أن يكون في أحدهم شيءٌ من غيره. فإذا كان هو معهم دلَّ ذلك على أنه منفصل عنهم بائن منهم خارج عنهم، كما في نظائرِه. بل قوله "رب الناس" "ملك   (1) أخرجه مسلم (1342) عن ابن عمر. (2) في الأصل: "احتمال". (3) كذا في الأصل، والأولى "يمنع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 الناس" و"رب العالمين" ونحو ذلك يقتضي أنه مغايرٌ للناس مباين لهم، لأنَ الربَّ مُغايرٌ للمربوب، فإذا قيل: "هو معهم أنه اقتضى أنه مغايرٌ لهم، ولمسمَّى "مع" الذي هو معنى الظرف اللفظي، فإنه إذا قيل: "هذا فوق هذا" اقتضى أنه مغايرٌ مباينٌ لما هو فوقه ولنفس المسمَّى بلفظ فوقه، ولفظُ "مع" هو من هذا الجنس ظرفٌ من الظروف، فيقتضي ذلك أن يكون المتعلق بهذا الظرف مغايرًا مباينًا له ولما أضيف إليه الظرف، ولا نزاع أن الشيء إذا كان فوق الشيء جاز أن يقال: هو معه، وقد يُجعَل الأعلى مع الأسفل، كما يقال: "هذا الحِمْلُ معي"، وقد يُجعَل الأسفل مع الأعلى، كما يقال: "هذا المركوب معي"، وقد يقال لما هو مباينٌ منفصلٌ عنه، كما يقال: "هذه الغاشية (1) معي"، وقد يقال: "سِرْنا البارحةَ والقمرُ معنا"، وأمثال ذلك مما يقتضي المباينة والانفصال. فعُلِم بذلك أن كونه (وَهُوَ مَعَكُمْ) لا ينفي أن يكون الربّ مباينًا لهم، ولا يقتضي أن يكون على جوانبهم، بل غايتُه أن يكون بحيث هو مضافٌ إليه مما يُسمِّيه النحاةُ ظرفًا كالفوق ونحوه، فلا يكون بين قوله "فوقهم" وقوله "معهم" منافاة، بل يكون لفظ "المعية" دلَّ على مطلق أنه حيث يضاف إليهم، ولفظ "الفوقية" دلَّ على خصوص ذلك ولو معية هي فوقية، ليست تيامنًا ولا تياسُرًا. وحقيقة الأمر أن لفظ "مع" في الأصل معناه واحدٌ، وهو المصاحبة والمقارنة والمشاركة في مسمى "مع" الذي هو معنى الظرف، وهو ظرف إضافي. فقوله "هذا معه" بمنزلة قوله "هذا مصاحبٌ له مفارقٌ له"، وهو يقتضي مطلقَ المصاحبة والمقارنة لا نوعًا منهم إلا بتفصيل وتخصيص.   (1) أي الزوَّار والأصدقاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 وكذلك إذا قيل: هو يقتضي مطلق الموافقة أو المشاركة فيما قد يُسمَّى مكانًا ونحو ذلك من الأسماء، فإنه لا يدلُّ إلا على مطلق هذه الموافقة، لكن قد يكون من لوازم ذلك موالاة أحدهما للآخر محبةً ونصرةً، كما يقال: فلان معي وفلان علىَّ، إذ كان من شأن المتحابين قربُ كلٍّ منهما إلى الآخر حتى يتفقا في محل واحد، وقد يكون من لوازم ذلك معرفة كل منهما بالآخر أو معاونته، إذ من شأن المجتمعين من الآدميين في محل [أن] يعرف أحدهما الآخر ومعاونته له. وهذا كما أن لفظ "العلم" في الأصل إنما يقتضي معرفة المعلوم، ثم قد يكون من لوازم ذلك ما يقتضيه العلم من محاسبة الشخص ومجازاته ونحو ذلك، كما في قوله (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)) (1) ، وكما في قوله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) (2) ، وقوله تعالى (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً) إلى قوله (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (14)) (3) . وكذلك "السمع" و"البصر"، مثل قوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (4) ، وقوله: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)) (5) ، وقوله:   (1) سورة النساء: 108. (2) سورة الإسراء: 47. (3) سورة النور: 63- 64. (4) سورة آل عمران: 181. (5) سورة الشعراء: 218- 219. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عملَكمْ ورَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ) (1) . فهذا ونحوه وإن ذُكِر فيه لفظ "السمع" و"الرؤية" فالمقصود لوازم ذلك، من إحصاء ذلك والجزاء عليه بالثواب والعقاب، وقد يكون المقصود بذلك قبول الدعاء، كقول الخليل: (إِنَ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)) (2) ، وقول المصلي "سمع الله لمن حمده"، كما يُعنَى بالنظر نظر الرحمة والمحبة، كقوله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) (3) . فهذه الأمور لما كانت من لوازم العلم والسمع والبصر، [و] من شأنه إحصاء الأعمال والجزاء عليها ونحو ذلك، صارت متضمنة لهذا المعنى. وكذلك المصاحبة لما كان لها لوازم -مثل معرفة الصاحب بحال صاحبه، وموالاته له، وموافقته له- دخلت هذه المعاني فيها حيث دلَّ عليه السياق. ولفظ "مع" في الأصل يدل على المصاحبة، ويدل على لوازم هذا المعنى: من العلم الذي يتضمن الإحصاءَ والجزاء على الأعمال عمومًا، ومن الموالاة والمعونة والنصر الذي يختص المؤمنين ونحو ذلك، فقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) (4) ذكر بعد أن أخبر بخلق السماوات والأرض واستوائِه على العرش أنه يعلم ما يدخل في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعد فيها، وأنه مع الخلق أينما كانوا، وأنه بكل شيء عليم. فدلّ هذا السياق على   (1) سورة التوبة: 105. (2) سورة إبراهيم: 39. (3) سورة آل عمران: 77. (4) سورة الحديد: 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 أنه مع كونه استوى على العرش يعلم باطن الخلق وظاهرهم، وهو معهم لا يغيب عنه شيء من أمرهم. وكذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث العباس بن عبد المطلب لما ذكر السماوات والعرش قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" (1) . وكذلك قال عبد الله بن مسعود: "ما بين السماء إلى السماء كذا وكذا" إلى أن قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" (2) . وكذلك ما ذكره في سورة المجادلة (3) من قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)) ، فافتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم. ومثل هذا قوله: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) (4) . وأما قوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)) (5) ، وقوله لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)) (6) ، وقوله   (1) أخرجه أحمد (1/206، 257) وأبو داود (4723- 4725) والترمذي (3310) وابن ماجه (193) . (2) أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على بثر المريسي" (ص105) وفي "الردّ على الجهمية" (ص21) وابن خزيمة في "التوحيد" (ص105، 106) والطبراني في "المعجم الكبير" (9/228) وأبو الشيخ في "العظمة" (2/688، 689) مطولاً ومختصراً. (3) الآية 7. (4) سورة النساء: 108. (5) سورة النحل: 128. (6) سورة طه: 46. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 عن الرسول: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (1) ، فقد عُلِمَ أن حكم المعية هنا ومقصودها ليس عامًا لجميع المخلوقات كالعلم والقدرة، بل مختصًّا بالمتقين المحسنين (2) دون الفجار الظالمين، وبموسى وهارون دون فرعون وقومه، وبالنبي وصديقه دونَ مشركي قومِه. فهذه الأمور التي فيها خصوصٌ وعمومٌ تضمَّنها لفظ المعية ودلَّ عليها، كما دلَّ لفظ العلم والسمع والبصر على ما تقدم، وهي في نفسها تقتضي من المصاحبة والمقارنة ما هو معناها في الأصل، ولا تقتضي ممازجة ولا مخالطة ولا تيامنًا ولا تياسرًا. بل إذا قيل: إنها تتضمن قُربَه من خلقِه، فقربُه ثابت بنصوصٍ صريحة أصرح من لفظ المعية، كقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (3) ، وقو له تعالى: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)) (4) . وفي الصحيح (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأصحابه لما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير: "أيها الناس! ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". وهو سبحانه قريب في عُلُوِّه عليٌ في دُنُوِّه. وقد تكلمنا على قربه من خلقه وقربِ عبادِه منه بكلام مبسوط،   (1) سورة التوبة: 40. (2) في الأصل: "المسبحين". والتصويب من السياق. (3) سورة البقرة: 186. (4) سورة سبأ: 50. (5) البخاري (6384 ومواضع أخرى) ومسلم (2704) عن أبي موسى الأشعري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وذكرنا أقوال الناس كلهم في ذلك في غير هذا الموضع (1) ، وبَيَّنَّا أن قربَه لا يُنافِي عُلُوَّه. الجواب الثالث أن لفظ "التأويل" فيه اصطلاحات متعددة، فالتأويل الذي يتنازع فيه مُثبتة الصفات ونفاتُها المرادُ به صرفُ اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاَحتمال المرجوح، وذلك لا يجوز إلا بدليلٍ يُوجِب ذلك. وقد يُراد بلفظ التأويل تفسير اللفظ، وإن كان التفسير يوافق ظاهره. وهذا اصطلاح ابن جرير الطبري في تفسيره وابن عبد البر ونحوهما. وقد يُراد بلفظ التأويل ما يَؤُوْلُ إليه اللفظ، وهو الحقيقة الموجودة في الخارج التي دلَّ الكلام عليها، وبهذه اللغة جاء القرآن، كقوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (2) ، وقوله تعالي: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (3) ، وأمثال ذلك. إذا عُرِف ذلك فنقول (4) : أما التأويل بالمعنى الثالث والثاني فلا نزاعَ فيه بين الناس. وأما التأويل بالمعنى الأول فيقال: هو صرف اللفظ عن ظاهرِه إلى ما يخالف ظاهرَه، أو عن حقيقته أو عن   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (5/226 وما بعدها) . (2) سورة الأعراف: 53. (3) سورة آل عمران: 7. (4) انظر الكلام على معنى التأويل عند المؤلف في "مجموع الفتاوى" (13/288- 294، 17/364 وما بعدها، 5/35- 37، 3/55- 57، 4/68- 70) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 الاحتمال الراجح، وحينئذٍ فالظهور والبطون من الأمور الإضافية، فإن كان الإنسان يظهر له من نصوص الصفات أن صفاتِ الخالق مماثِلةٌ لصفاتِ المخلوقات -مثل أن يظنّ أن استواءَه على العرش كاستواء الإنسان على بعيرِه أو على الفُلكِ، أو أن معيته مع الخلق تَقتضي دخولَه فيهم، أو أن قوله "الحجر الأسود يمين الله في الأرض" ظاهرُه أن صفة الله حلَّت في الأرض، وأن ذلك الحجر صفة للرب، وأنّ قوله (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (1) يقتضي أن يكون الله في جوف الأفلاك، ونحو ذلك- فمن ظنَّ أن هذه المعاني الفاسدة هي ظاهر القرآن، وأن مسماها ظاهره وحقيقته، فيجب على مثل هذا أن يعتقدَ التأويل في ذلك كلِّه، ويعلمَ أن هذه النصوص مصروفةٌ عن هذا المعنى الذي ظنَّه هو الاحتمالَ الراجحَ إلى ما يخالف ذلك المعنى. لكن عليه أن يعتقد ويعلم أن السلف والأئمة الأربعة الذين منعوا من التأويل لم يعتقدوا أن هذا المعنى الفاسد ظاهرُ هذه النصوص، ولا أنها تَدُلُّ على ذلك. بل من فَهِم منها هذا المعنى الفاسد بَيَّنُوا له أنها لا تدلّ على هذا المعنى الفاسد، وفي كلام الله ورسوله ما ينفي عن الله هذا المعنى الفاسد. فمن ادَّعى أن هذه المعاني الفاسدة قد دلَّ عليها القرآن كان ما في القرآن من التصريح بنفي ذلك مُثبتًا لنفي هذه المعاني الفاسدة، فإنه قد أخبر في القرآن أنه استوى على العرش، وأن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأن الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، وأخبر بعُلُوِّه في غير موضع من الكتاب. وهذه كلها نصوصٌ تنفي أن تكونَ صفاته تُشبِه صفاتًِ خلقِه (2) ، أو يكونَ حالاً   (1) سورة الملك: 16. (2) هنا انقطع الكلام في الأصل، وتتمته بعد 11 ورقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 في المخلوقات. وأخبر بقوله ليَس (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (1) وبقوله (وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) (2) ونحو ذلك أن يُماثِلَه العبادُ في صفاتهم، فتكون صفاته كصفاتِ خلقه. فهذه النصوص المفسَّرة تُبيِّن أن تلك المعاني الفاسدة ليست مرادةً، سواء سَمَّى المسمِّي ذلك تأويلاً أو لم يُسمِّه. فقول القائل "إذا تأولنا هذه الآيات احتملت هذه الأحاديث أيضًا التأويل" حقيقته أنا إذا نفينا عن النصوص أن يُراد بها معنى فاسدٌ بيَّن الله تنزُّهَهُ عنه في موضع آخر، وجب [أن] ننفيَ عن نصوصِ أخرى معاني ونفسِّرها بأمور من غير أن يدل القرآن والسنة لا على نفي هذا ولا على إرادة هذا، ومعلومٌ أن هذا باطلٌ سواء سمَّاه تأويلاً أو لم يُسَمِّه، لوجوه: أحدها: أن ما نفي من المعاني الفاسدة هناك نفاه القرآن، فإن بينوا في بقية (3) النصوص معنى فاسدًا نفاه القرآن وجب نفيُه أيضًا. الثاني: أن ما فسَّروا به تلك النصوص هو تفسيرٌ يوافق سائر النصوص، لتفسيرهم لها بان الله إله من في السماء وإله من في الأرض، وأنه بكل شيء عليم، ونحو ذلك. وأما تأويلات الجهمية فهي متناقضة، منها قولهم (4) : "استوى" بمعنى استولى، فإن هذا فاسد من قريب عشرين وجهًا مذكورة في غير هذا الموضع (5) .   (1) سورة الشورى: 11. (2) سورة الإخلاص: 4. (3) في الأصل: "نفيه"، وهو تصحيف. (4) في الأصل: "كقولهما". (5) انظر "مجموع الفتاوى" (5/144-149) ففيه ذكر اثني عثر وجهًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وقولهم "يَنزِلُ أمرُه أو مَلَكٌ"، فان هذا فاسدٌ من وجوهٍ كثيرة، فكيف يُقاس تأويلٌ فاسدٌ على تأويل صحيح. وهذا كله إذا تنزلنا وسَمَّينا ذلك تأويلاً بحسب فهم هذا الفاهم، وإلاّ فالصواب هو: الوجه الثالث؟ وهو أن يقال: إذا فهم بعضُ الناس من كلام الله معنىً فاسدًا -مثل فهمهم كونَ المعية تَقتضي المخالطةَ، وأن الحجر صفة الله، وزعم أنه ظاهره- رُدَّ عليه هذا الفهمُ، وقيل له: هذا خطأ في فهمك، وإلاّ فالنصُّ لم يدلَّ على ذلك، ولا هذا ظاهر النصّ. وظاهرُ الخطاب الذي هو مدلولُه ومعناه يُعلَم تارةً بمفرداتِ ألفاظِه وموضوعِها، وتَارةً بالتركيب وبما اقترن بالمفردات من التركيب الذي يُبيِّن المراد ويُظهِر معنى الخطاب، وتارةً بالسياق الذي سِيْقَ له الكلام. وإذا كان كذلك لم نُسلِّم أن هذا تأويل، فإن أَصَرَّ على تسمية هذا تأويلاً كان نزاعًا لفظيًّا، وقيل له: ذلك تأويل يوافق مدلولَ النصّ ومقتضاه، وهذا تأويل يخالف مدلولَه ومقتضاه، وكل تأويل كان من القسم الأول نقول به، وإنما نردُّ التأويل الذي يخالف مدلولَ كلامِ الله ومقتضاه. الجواب الرابع أن الناس متفقون على أنه لا يَسُوغُ كل تأويل، من التأويلات ما هو مردود، مثال ذلك أن الأشعري يردّ تأويل المعتزلي لعلمِ الله وقدرتِه وسمعِه وبَصَرِه وتكليمِه ومشيئتِه، ويثبتُ هذه الصفاتِ حقيقةً؟ والمعتزلي يَردُّ تأويل المتفلسفِ في معاد الأبَدانِ والأكل والشرب في الجنة؟ والفيلسوف يردّ تأويل القِرمطيِّ في الصلاة والزكاة والصوم والحج؟ والقِرمطي يردّ تأويلات الجمهور الذين (1) ينازعونه فيها.   (1) في الأصل: "الذي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وإذا كان كذلك قيل لكل من هؤلاء: بأيّ شيء رددتَ بعضَ التأويلات وقَبلتَ بعضَها؟ فلا يذكر شيئًا إلا عُورِضَ حتى يُبيَّن له تناقُضُه وفسادُ أصَلِه. فمن كان من المتأولين (1) يتأوَّل المحبّة والرضا والغضب ونحو ذلك، ويُقرِّر الإرادة ونحوها، قِيْل له: ما الفرقُ بين ما قرَّرتَه وبين ما تأوَّلتَه؟ فإن قال: لأن الغضب هو غَلَيَانُ دمِ القلب لطلبِ الانتقام، وذلك لا يليق بالله. قيل له: هذا غَضَبُنا، وغضبُ الله ليس مثل غَضَبنا، بل يقال له: هذا هو مقتضى الغضب فينا أو موجبه، ليس هو نفس الغضب، والله تعالى لا يوصف بما نحتاج إليه نحن في ثبوت الصفات، فإنه عليم، ولا يحتاج في علمه إلى النظر والاستدلال الذي يُحصِّلُ لنا العلمَ، وهو قدير ولا يحتاج إلى مزاج وعلاج يُحصَّل له القوة، وهو بصير ولا يحتاج إلى شحمة، وهو متكلم ولا يحتاج إلى لسانٍ وشفتين. فكذلك غضبُه لا يَفتقِرُ إلى ما يفتقر إليه غَضبُنا. فإن قال: أنا لا أعرِفُ الغضبَ إلا هكذا. قيل له: فتأوَّلِ الإرادةَ، فإن الإرادة فينا هي مَيلُ القلب إلى جَلْب ما ينفعُه أو دفعِ ما يَضرُّه، والله تعالى لا يُوصَف بذلك. فإن قال: إرادتُه ليست كإرادتنا. قيل له: فقُلْ في الغضب كذلك، وهكذا في سائر الصفات.   (1) في الأصل: "المستادين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 فإن قال المعتزلي: أنا أتأوَّلُ الإرادة والكلام، وأجعلُ كلامَه ما خَلَقَه في غيرِه، وإرادتَه ما خَلَقَه في المفعولات والأصوات، أو عَرَضًا خَلَقَه قائمًا بنفسِه. قيل له: فتأوَّلْ أسماءَه الحسنى، وهو الحيُّ العليم القدير، ولا تُثبتْ له حقائقَ هذه الأسماء كما يفعل القِرمطيُّ، قال: لأنّ ثبوتَ هذَه الأسماء يقتضي هذه المشابهة بينَه وبينَ خلقِه، ويقتضي أنه جسمٌ، إذ لا يُسمَّى بهذه الأسماء إلا جسمٌ. فإذا قال: أنا أُثْبِتُ هذه الأسماءَ له مع الفرق بين المسمَّى والمسمَّى. قيل له: فكذلك أَثْبِت الصفاتِ، وفَرِّقْ بين الموصوف والموصوف. فإن قال: الصفات تقتضي التجسيمَ. قيل له: والأسماءُ تَقتضي التجسيم. فإن قال: التجسيم (1) إنما يلزم إذا قلتُ: هو حيٌّ بحياة عليمٌ بعلمٍ قديرٌ بقدرةٍ، وأنا أقول: حيٌّ بلا حياةٍ عليمٌ بلا عليمٍ. قيل له: هذا باطل من ثلاثة أوجه: أحدُها: أن التجسيم الذي تزعُمُه يَلزم في هذا كما يلزم في هذا. الثاني: أن إثباتَك حيًّا بلا حياة عليمًا بلا عليم قديرًا بلا قدرة مخالفٌ لصريحِ العقل أكثر من مخالفة ما فَرَرْتَ منه. الثالث: أن خصومك من النُّفاةِ [و] المُثبتة يخالفونك في هذا الفرق، فالمثبتة للصفات يقولون: ليس في الجميع تجسيم، أو   (1) انقطع الكلام هنا في الأصل، وتتمته قبل 12 ورقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 التجسيم الذي نفيتَه ليس بمنتفٍ، والنفاةُ القرامطةُ يقولون: التجسيمُ في إثباتِ الأسماء كالتجسيم في إثبات الصفات. فإن قال المتفلسف: أنا أتأوَّل هذا كفَه، وأتأوَّل ما وردَ في معادِ الأبدان. قيل له: فتأوَّلْ ما وردَ في معادِ الرُّوح ونعيمها، وما ورد في إثباتِ واجب الوجود وعنايتِه وإبداعِه وعلمِه الكلّي ونحو ذلك، فالخطاب الوارد فيما نفيتَه أصرحُ من الخطاب الوارد فيما أثبتَه. فإن قال: ما نفيتُه يَستلزِمُ تركيبَ واجب الوجود. قيل له: وكذلك ما أثبتَّه، ولا فرق، فإن الوجود والوجوب والعناية والعقل وأمثالَ ذلك مَعانٍ متميزة في العقل كتميُّزِ ما أثبتته الصفاتيةُ. وقيل له: فتأوَّل العباداتِ كما تأوَّلَها القِرمطي. فإن قال: العبادات قد عُلِمَ بالاضطرار أن الرسولَ أوجَبَها، أو ليس فيها ما يُنافي العقلَ. قيل له: منازعون من النفاةِ والمثبتةِ يقولون لك ذلك، فالمعتزلة وغيرهم يقولون: إن معادَ الأبدان قد عُلِمَ بالاضطرار أن الرسولَ قد أخبرَ به، والصفاتية يقولون: إن إثباتَ الصفات مما عُلِمَ بالاضطرار أن الرسول أخبرَ به، ويقولون لك: ليس في العقل منافاة لما أثبته من هذه الجزئيات، كما ليس في العقل منافاة لما أثبتَه من العلميات (1) . والقرامطة ينازعونك فيما أثبتَه حتى في النفس، فيقولون: لا يُقال هو   (1) كذا في الأصل، ولعلها "الكليات"، لتقابل "الجزئيات". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 لا موجودٌ ولا معدومٌ، لأن في هذا تشبيهًا له بالموجودات والمعدومات. فان قال (1) : هذا خروج عن النقيضَيْن، وهذا خروج عن العقل، وهو مخالفٌ لما عُلِمَ بالاضطرار من السمع. قيل له: وهكذا حال جميع النفاة، فإنهم لابُدَّ أن يجمعوا بين النقيضَيْن أو يَسْلُبوا النقيضَيْن كالقِرمطي، فمن قال: لا هو مباين ولا مُحايِثٌ ولا داخل ولا خارج، كان بمنزلة من يقول: لا قائم بنفسِه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدَث، ولا موجود ولا معدوم، ومن قال: إنه وجود مطلق ليس له حقيقة وراء الوجود المطلق. وقد تقرر في المنطق أن المطلق بشرطِ إطلاقِه لا يُوجَد في الخارج بل في الذهن، كالجسم المطلق والحيوان المطلق، فإن جَعلَ المطلقِ بشرطِ الإطلاقِ يَثبُتُ في الخارج جَمْع بين النقيضين. وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع، وبَيَّنا أن هؤلاء أهل التأويلات المبتدعة الذين ينفون الصفات ليس لأحدٍ منهم قانونٌ مستقيم في التأويل، بل يتناقضون. فيقال لهم: إذا تأوَّلتم هذا فتأوَّلوا هذا، أو لا تتأوَّلوا شيئًا. فإن قالوا: ما دلَّ العقلُ على إثباتِه لم نَتأوَّلْه كالإرادة، بخلاف ما لم يَدُلَّ على إثباته كالغضب. كان الجوابُ من وجوهٍ: أحدها أن يقال: عَدَمُ الدليلِ ليس دليلاً على العَدَم، فهَبْ أنكم لم تعلموا بالعقلِ ثبوتَ صفةٍ أُخرى، فمن أين لكم نفيُها بلا دليلٍ   (1) في الأصل: "قلت" وأثبتنا ما يناسب "قيل له" آلاتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 والسمعُ قد دلَّ عليها؟! الثاني أن يقال: فهذا عَزْلٌ للرسول عن الإخبار بصفاتِ مُرسِلِه، فإنكم لم تُثبتُوا إلا ما علمتم بعقولكم، وما لم تُثبته عقولكم نفيتُموه، فبَقِي كلامُ الَرسولِ عديمَ الفائدةِ في باب أسماءِ الله وصفاتِه. الثالث: أن يُبيَّن لهم أن العقلَ يدلُّ على ما نَفَيتُموه نظيرَ دَلالتِه على ما أثبتموه، وأن ما في الوجود من الإحسان يدلُّ على الرحمة، كما أن ما فيه من التخصيصات يدل على الإرادة، وما فيه من العقوبات للمكذبين يدلُّ على الغضب، كما قد بُسِطَ في غيرِ هذا الموضع. فإن قال: إنما نتأوَّلُ (1) ما عُلِمَ نفيُه بدليلٍ قَطعي من العقل أو النقل. قيل له: ونحن نُسلم لك أن ما عُلِمَ نَفْيُه بصريحِ المعقول أو صحيح المنقول فإنه يجب نفيُه عن الله، لكن دعواكم أن هذا المنصوصَ يدلُّ على ما يُخالِفُ صريحَ المعقولِ وصحيحَ المنقولِ قولٌ غير مقبولٍ. الجواب الخامس أن يقال: التأويل الذي هو صرفُ اللفظِ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، للمُثبِتةِ فيه ثلاثةُ مسالكَ: أحدُها: أن يَنفُوه مطلقًا، ويقولوا: لا حاجةَ إليه، وتمام ذلك بان يثبِتوا تَنزُّهَ القرآنِ والحديث عن الدلالةِ على المعاني الفاسدة. المسلك الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليلٌ شرعي، مثل أن يكون نفيُ ذلك المعنى قد بَيَّنَه الشارع في موضع آخر، فيكون هو   (1) في الأصل: "تأويل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 قد بيَّن كلامَه بكلامِه، فلا يكون كلامُ الله ورسوله محتاجًا في البيان إلى ما يُحدِثُه المُحدِثون. المسلك الثالث: أن يُسلَّموا أن كل تأويل قام عليه دليلٌ سمعي أو عقليٌّ فإنه يجب قبولُه، لكن يطالبون منازعيهم بالدلائل القطعية فيما إذا [كانت] حاجةٌ إلى التأويل، ويُثبتون أن ذلك لم يُخالِفْ دليلاً قطعيًّا، لا عقليًّا ولا سمعيًّا، بل يُبيَّن أن العقل الصريح يُقرِّر ما أثبتَه السمعُ، وأن العقل الصريح لا يخالف النقلَ الصحيح أصلاً، كما يُبيَّن أن ما دلَّ عليه القرآنُ من أن اللهَ مُباينٌ لمخلوقاتِه (1) قد دلَّ عليه العقلُ، وأنّ العقلَ يُثبتُ مباينتَه للمخلوقات، والسمعُ زادَ على ذلك وأثبتَ الاستواءَ علىَ العرش، وذلك لا يُعلَم بالعقل، فالسمعُ أثبتَ ما عَلِمَ العقل وزادَ عليه وفَضَلَه، لأن الرُّسُلَ بُعِثَتْ بتكميلِ الفطرة وتقريرِها، لا بتحويلِ الفطرةِ وتغييرها. والله أعلم. (تمت بحمد الله وعونِه وحُسنِ توفيقه، وصلواته على سيّدنا محمدٍ خيرِ خلقِه محمد (2) وآلِه وصحبِه وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا، بتاريخ خامس شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبعمئةٍ) .   (1) بعده في الأصل: "اذ هو بدو العلم"، وهي عبارة غامضة، والسياق واضح بدونها. (2) كذا في الأصل بتكرار اسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 مسألة فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العلوّ من جميع الجهات المخلوقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 مسألة سُئِل عنها سيِّدُنا وشيخنا وإمامُنا الشيخ الإمام العالم العامل الناسك البارع المجتهد السالك المحقّق المدقّق مُفتِي الفِرق ناصرُ السنن قامعُ البدع فريدُ عصرِه وواسطةُ عِقْدِ دِهرِه، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس (1) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحرَّاني -متَعَنا الله بعلومه الفاخرة، وأسبغَ عليه نِعَمَه باطنةً وظاهرة، وأثابَه في الدنيا والآخرة- بالديار المصرية، فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العُلُوَّ من جميع الجهات المخلوقة، وأنه يُدعَى من أعلَى لا من أسفلَ، وأنه بائنٌ من خلقِه، لا يُتصوَّر ذلك في الذهن إلا إذا فرضنا أن ذاتَ الحقِّ فلكيَّةٌ محيطةٌ بالفلك؟ إذ الفلك مستديرٌ محيطٌ بالخلق. فهذا التصوُّر حقٌّ أم لا؟ وإذا لم يكن حق (2) فما الدليلُ الخاصم بحجته بما يقبله العقل الصحيح؟ أفتونا مأجورين رضي الله عنكم أجمعين. أجاب -رضي الله عنه- الحمد لله. بل هذا التصور باطلٌ، وأما بيانُ بطلانِه فله طرقٌ كثيرة، وذلك أنَّ هذا القائل يقول: لو كان البارئ سبحانَه فوقَ المخلوقات وهو بائن من مخلوقاتِه، لَوجبَ أن يكونَ فلكًا محيطًا بالأفلاك، لأنَّ الفلك التاسع مستديرٌ، وهو محيطٌ بسائرِ الأفلاكِ وما في جَوفِها، والمحدّد للجهات هو سَطْحُ الفلك التاسع، فلو قدَّرنا   (1) في الأصل: "أبي العباس". (2) كذا في الأصل بالرفع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 شيئًا فوقَه لَلَزِم أن يكون فلكًا تاسعًا، وهو مبني على أن الأفلاك مستديرةٌ، وهذا ثابت بالسمع والعقل. وربما قال بعضهم: إنّ الأفلاك هي تحت الأرض، فلو كان فوق العالم للزم أن يكون تحت هذه الأرض … (1) تحت بعض الناس. فهذا حقيقةُ كلامِه، وأما بيانُ بطلانِه فمن وجوهٍ: أحدها أن يقال: لا يخلو إمّا أن يكون الخالقُ تعالى مباينًا للمخلوقات، وإما أن يكون محايثاً لها، وإما أن لا يكون لا مباينًا ولا محايثًا لها" وإن شئتَ قلتَ: إمَّا أن يكون داخلَ العالمِ، وإما أن يكون خارجَه، وإما أن لا يكون لا داخلَ العالم ولا خارجَه؛ وإن شئت قلت: هو سبحانه لما خلقَ العالم إما أن يكون دخلَ فيه أو أدخلَه في نفسِه (2) ، أو لا دَخَل (3) فيه ولا أدخله في نفسه. فإن قال: إنه داخلَ العالم مُحايثٌ له أي هو يحيث العالم، والعالم أجسامٌ قام بها أعراض هي اَلصفات، فالذي هو داخلٌ فيه محايثٌ له: إمَّا عَرَضٌ قائمٌ بأجسامه وإما بعضُ أجسامِه، وعلى القول بكون سطح الفلك محيطًا به فالقول بكون الفلك محيطًا به أبعد عن العقل والدين من كونه محيطًا بالفلك. فإن قال: يُمكِن في العقل أن يكون داخلَ العالم ولا يكون جسمًا من أجسام العالم ولا عرضًا قائمًا به. قيل له: فإن كان هذا جائزًا في العقل فكونُه خارجًا عن العالم   (1) هنا في الأصل كلمتان مطموستان. (2) في الأصل: "نفسًا"، وأثبتنا ما يقتضيه السياق. (3) في الأصل: "ولا داخل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 مباينًا له وكونُه عينَ الفلكِ أقربُ في العقل من كونِه فيه والعالمُ لا يحيط به. وهذا بيِّنٌ واضح. فإن أثبت أنه في العالم ولا يحيط به العالم كان القول بأنه خارجَ العالم وليس بفلكٍ أولى في العقل. وإن قال: إنه فيه، والعالم يُحيط به، وذلك ممكن، كان القول بأنه هو المحيط بالعالم أولى في العقل أن يكون ممكنًا (1) . فتبيَّن أنه على التقديرين أيُّ محذورٍ لَزِمَه في كونِه خارجَ العالم مباينًا له كان المحذور في كونه داخلَه محايثًا له أعظم وأقوى، فلا يجوز إثبات الأبعد عن العقل والدين بنفي الأقرب إلى العقل والدين. وأما إن قال: إنه لا داخلَ العالم ولا خارجَه، ولا مباين له ولا محايث له. قيل له: فهل يُعقَل موجودانِ قائمانِ بأنفسهما لا يكون أحدُهما داخلَ الآخر ولا خارجَه؟ وهل يُعقَل إثباتُ خالقٍ للعالم ليس في العالم ولا مباينًا للعالم؟ وهل يُعقَل أن يكون خلقَ العالم لا في نفسِه ولا خارجًا (2) عن نفسِه؟ فإن قال: هذا معقولٌ ممكنٌ متصوَّرٌ. قيل: فتصوُّرُ موجودٍ قائمٍ في هذا الباب يُستَعمل لثلاث معانٍ: أحدها: أن يُراد بالمباينة المخالفة التي هي ضدُّ المماثلة، وهي بهذا الاعتبار متفقٌ عليها بين الناس، إذ لا نزاعَ بينهم أن الخالق سبحانَه   (1) في الأصل: "متمكنا". (2) في الأصل: "خارج". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 مباين لمخلوقاتِه بهذا المعنى، لكن هذه المباينة تَثبُت لصفاتِ الموصوف القائمةِ بمحل واحدٍ، وهي الأعراض القائمة بالجسم، كالطعم واللون والرِّيْح والحركة والسكون القائمة بالساحة مثلاً، فإن هذه الصفات تُبايِنُ بعضُها بعضًا بهذا المعنى، فإن كلَّ واحدةٍ من هذه الصفات التي تُسَمَّى أعراضًا ليست مثلَ الآخر. والمعنى الثاني في المباينة: حدّ المحايثة، وهو أن يكون أحدُ الشيئين ليس هو محايثًا له، سواء كان ملاصقًا له مباينًا أو لم يكن كذلك، فكل شيءٍ قائمٍ بنفسِه مباينٍ لكل شيء قائم بنفسه بهذا الاعتبار، سواء مَاسَّه أو لم يُماسَّه. وهذه المباينة المذكورة في السؤال، وهي التي أرادها السلف والأئمة كعبد الله بن المبارك وغيره، حيث قالوا: نَعرِف ربَّنا بأنه فوق سماواته على عرشِه بائن من خلقِه. وكان المتكلمة الصفاتية الذين سَلكَ مسلكَهم الأشعريُّ -كعبد الله بن سعيد بن كُلاَّب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وغيرهم- يُثبِتون هذه المباينةَ، لاعتقادِهم أنَّ الله فوقَ خلقِه وأنه مستوٍ على عرشِه، وإنكارهم على الجهمية الذين لا يُفرِّقون بين العرش وغيرِه. وكذلك ذكر الأشعري ذلك عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه هو قولُه (1) ، ورَدَّ على الجهمية في (2) كُتبه المعروفة "كالموجز" و"الإبانة" و"المقالات" وغير ذلك من كتبه. والمعنى الثالث من معاني المباينة: ما يُضادُّ المماسَّة والملاصقة، وهذه المباينة المعروفة عند الناس، وهي أخصُّ معانيها. وليس   (1) انظر "مقالات الإسلاميين" (ص290، 297) . (2) في الأصل: "من". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 المقصود هنا ذِكرُ هذه لا نفيًا ولا إثباتًا، فإن القائم بنفسِه لا يجب أن يكون مباينًا لكل قائم بنفسه بهذا الاعتبار، وكل مباينةٍ يجب للمخلوق مع المخلوق فالخالقُ أحقُ بها سبحانه وتعالى. فلمَّا وجب أن يكون المخلوق مباينًا للمخلوق بالمعنى الأول والثاني كان الخالق أحق بذلك وزيادة، لامتناع مماثلتِه للمخلوق ومحايثتِه له، فإن المماثلة والمحايثةَ ممتنعانِ عليه لامتناع مساواته لخلقِه أو احتياجِه إليهم، والمماثلة والمحايثةُ تُوجِب ذلك. والله سبحانَه له المثلُ الأعلى، كما قال تعالى: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (1) ، فكلُّ ما يُفْهَم للمخلوق من صفات كمالٍ فالخالقُ أحقُّ بها وأكمل في اقتضائه، كالعلم والقدرة والحياة والكلام ونحو ذلك. وكلُّ ما نُزِّه عنه شيء من المخلوقات من صفات النقص فالخالقُ أحق بأن يُنزَّه عن ذلك. فإذا كان أهل الجنة لا ينامون ولا يموتون، فالحيُّ القيوم أحقُّ بأن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم. وهو الغنى المطلق عمّا سِواه، فكل ما سواه يَفتقِر إليه، وهو غنيٌّ عن كل ما سواه. وهو سبحانه مع أنه مستوٍ على عرشِه عالٍ على خلقِه فهو الذي يُمسِك السماوات والأرض أن تزولا، وَسِعَ كرسيُّه السماوات والأرض، ولا يَؤُودُه حفظُهما. فالعرش وحَمَلَتُه هو الذي يُمسِكهم بقوتِه ومشيئتِه، بل قد جاء في الأثر (2) أن الله لما خَلَقَ العرش وأَمَر الملائكةَ بحملِه   (1) سورة النحل: 60. (2) يُروى عن وهب بن منبه بإسناد ضعيف، أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (3/956، 958) مطوَّلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 قالوا: ربَّنا! من يُطِيْق حملَ عَرْشِك وعليك عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، فبذلك أطاقوا حملَ العرش. والله سبحانه قد جَعَلَ الأعلى من المخلوقاتِ مستغنيًا عن الأسفل، فالسماوات فوق الأرض وليست محتاجةً إلى الأرض ولا مفتقرة إلى أن تحملها، فالخالق العليُّ الأعلى كيف يَفتقر إلى العرشِ أو حَمَلَتِه فوقَ العرشِ أو إلى غيرِه من المخلوقاتِ؟ فلو كان مُحايثاً لخلقِه لكان وجودُه مشروطًا بوجود ذلك المحايث، بل كانت ذاتُه مفتقرةً إلى محايثٍ، سواء كان محايَثته من جنس محايثةِ العَرَض للعرض أو جنس محايثة العرض للجسم، أو من جنس ما يدَّعيه من يقول بمحايثة الصورة الجوهرية للمادة الجوهرية. وهذا هو المعقول من المحايثات، ولهذا كان القائلون بحلوله في المخلوقات أو اتحادِه بها من الجهمية تَعُود مقالتُهم إلى مثل هذا، فآخِرَ أمرِهم يجعلونه مع المخلوقات كالمادة مع الصورة، أو كالعرض مع الجسم، حتى قالوا: وجودُه وجودُ المخلوقات، إذ قالوا: إن الماهيات ثابتة بدونه، كما يقوله ابن عَرَبي صاحب "الفصوص" الموافق للمعتزلة في قولهم: إن المعدوم شيء، فإما أن يجعلوا الوجود صفةً للإنسان أو قائمًا بنفسِه مع الأعيان. وكلام ابن سبعين يَرجع إلى هذا، فإنه كان متفلسفًا، فيجعله مع المخلوق بمنزلة المادة والصورة. ومن جَعَلَه الوجودَ المطلقَ، والأعيان لها التعين، فإن جعل للأعيان ماهيات ثابتة في الخارج -كما يقوله من يقوله من المتفلسفة- فقد جَعَلُوه مشروطًا بتلك الماهيات، وهو معها إمَّا كالجوهر مع الجوهر أو كالجوهر مع العرض. وإن لم يجعل للأعيان ماهيات ثابتة، فالمطلق لا يكون في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 الخارج إلا عينَ المشخَّص، فافتقارُه إلى الأعيان المخلوقة أعظم وأعظم، بل على هذا التقدير ليس مغايرًا لها البتَّةَ. وقول التلمساني -وهو أَحْذَقهم في مقالتهم التي هي وحدة الوجود- يرجع إلى هذا. وعلى كلّ وجهٍ يُفْرَض من وجوه المحايثات فإنه يكون مشروطًا بوجود المخلوقات، لا يتحقق ذاتُه بدون المخلوقات، وما كان كذلك لم يكن خالقًا للمخلوقات، بل ولا يجوز أن يكون علَّةً لها، فضلاً عن أن يكون خالقًا لها؛ لأن العلَّة متقدمة بالذات على المعلول، والمشروط بالشيء لا يكون متقدمًا عليه، إذْ وجودُ المشروط المستلزم لشرطِه قبل شرطه الملازم للإيجاب، فيمتنع أن يكون علَّة. بل ولا يكون واجبَ الوجود بنفسِه، لأن نفسه لا تستغني في وجودِها، بل لابُدَّ لتحقُّقها من ذلك الشرط اللازم لها المقرون بها، فيكون وجودُها مفتقرًا إلى وجود ذلك الشرط. ولأن محايثةَ القائم بنفسه محالٌ، وما يذكره المتفلسفة من محايثةِ الصورة للمادة هو بناءً منهم على أن تصوُّرَ الأجسامِ موادَّ هي جواهرُ قائمةٌ بنفسها. وهذا باطلٌ لا حقيقةَ له. وكذلك من قال: إن الجواهر الموجودة ماهيّاتٌ قائمةٌ بأنفسها غيرُ الموجود المعروف، فقوله باطل بما يذكرونه من الماهياتِ الثابتةِ المغايرةِ للوجودِ المحسوسِ، ومن الموادِّ القائمةِ بنفسها المغايرةِ للجسمِ المحسوس، فهو حادث في الأذهان، لا حقيقةَ لها في الأعيان، سواءً قالوا باستغناء الموادِّ عن الصُّوَر واستغناء الماهيات عن وجودِها -كما يُذكَر عن أفلاطُن وشيعتِه-، أو قالوا بافتقار المادة إلى الصورة، والماهيات إلى الوجود -كما يقوله أرسطو وشيعته-. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. فلم يبقَ إذًا محايثةُ العرض للجسم ومحايثة الصفة للموصوف، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 وهذا ممتنعٌ لوجهين: أحدهما: أن الموجودات القائمة بأنفسها لا تُحايثُها الأعراض، والعرض مفتقرٌ إليها محتاجٌ إليها، والعرض يمتنعَ أن يكون هذا الفاعل المبدع العلَّة لمحالِّه أو غيرِ محالِّه، وهذا معلوم ببديهة العقل وضرورته، وأدلَّتُه كثيرة، فإن الأعراض ذواتُها مفتقر [ةٌ] إلى ذواتِ محالِّها، فلا تكون واجبة الوجود ودون محالِّها، والواجب مستغنٍ عمن دونه، فلو لم تكن واجبة الوجود امتنع أن تكون مُبدِعةً لها فاعلةً لها أو محالها. الوجه الثاني: أن كلاًّ من المتحايثَين يمتنع وجودُه دون محايث، فإن العرض لا يوجد دون الجسم، والجسم أيضًا يمتنع خُلوُّه عن جميع الأعراض، فانه لابُدَّ له من شكلٍ، والأبدانُ تكون متحركًا أو ساكنًا. ومن ظنَّ جواز خُلوِّ الأجسام عن الأعراض (1) ، وإذا كان كذلك فكلُّ محايثٍ لمخلوقٍ يمتنع وجودُه بدون وجود المخلوق، ويكون مشروطًا بوجود المخلوق، ومفتقرًا في وجودِه إلى وجود المخلوق، فيمتنع حينئذٍ أن يكون هذا المبدع الفاعل له، لوجوب تقدم المبدع مع امتناع تقدم المحايث، فيجب أن يكونا (2) مفعولين لفاعلٍ ثالث، فيكون الخالق مخلوقًا والواجبُ ممكنًا، أو يكون كلٌّ منهما واجبَ الوجود بنفسه، فيمتنع جعلُ أحدِهما خالقًا والآخر مخلوقًا، فلا يكون من العالم شيء مخلوق ولا مُحدَث ولا ممكنٌ، وهذا خلاف الحسّ، فإنّا نشهد الحدوث والعَدَم يَعتقبانِ على ما شاء الله من   (1) كذا في الأصل دون ذكر جواب "مَن". (2) في الأصل: "يكون". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 العالم، وما وُجد بعدَ عدَمِه وعُدِم بعد وجودِه يمتنع أن يكون واجئا بغيره مطلقًا، فضَلاً عن أن يكون واجبًا بنفسه. ومن تدبَّر هذه المعاني وما يُشبِهها تَبيَّن له أن كل من جعلَه مُحايِثًا للمخلوقات امتنع أن يكون عنده خالفا لها أو مُبدِعًا أو عِلَّةً أو يكون غنيًّا عنها، بل يجب على قوله أن يكون مفتقرًا إليها كافتقارِها إليها، كما يُصرِّح بذلك صاحب "الفصوص" وأمثالُه من القائلين بوحدة الوجود. ومن المعلوم أن ذلك ينافي وجوبَه بنفسه وإمكان غيره، وقد عُلِم بالضرورة أن الوجود فيه من موجود واجب مستغنٍ بنفسه، ومن موجودٍ مفتقرٍ إلى غيرِه، بل فيه موجودٌ حادثٌ بعد أن لم يكن، والحادثُ لا يُحدِث نفسَه ولا يَحدُثُ بلا مُحدِثٍ، بل لابدَّ للحادث من مُحدِثٍ، فهذا هذا. الطريق الثاني في الجواب عن السؤال المذكور أن يقال: المخلوق [يجوز] أن يكون فوق المخلوق ولا يكون فلكًا محيطًا به، والأفلاك يجوز أن يكون فوقَها شيءٌ آخر غير الأفلاك ولا يكون فلكًا محيطًا بها، مع كونه أكبرَ منها تارةً وأصغرَ منها أخرى، فكيف يَجبُ في الخالق إذا كان فوقَها أن يكون فلكًا مستديرًا؟ وذلك أن الشمس والقمر والكواكب التي هي في الفلك الرابع أو الثامن أو نحو ذلك هي فوقَ ما تحتها من الأفلاك، فالشمس التي هي في الفلك الرابع تحقيقًا أو تقديرًا لا ريبَ أنها فوقَ بقية الأفلاك، وهي فوق الأرض، ولا تزال فوقَ الأرض، وهي قدرَ الأرض أكثر من مئة وستين مرَّةً، ومع هذا فليست فلكًا محيطًا بالأرض. والقمرُ فوقَ الأرض، ويقال: إن الأرض بقدره أربعين مرة، ومع هذا فليس هو فَلكًا مستديرًا. والكواكب الثابتة منها ما يقال: إنه أكثر من مئة مرة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 ومنها ما هو دون ذلك. والكواكب الموجودة ستة أقدارٍ، يُقال: إنّ أصغرَها بقدر الأرض ثماني عشرَ [ةَ] مرة. وهذا الكلام على نمط من تكلَّم باستدارةِ الأفلاك، فإنّ ذلك لما كان من علم الحساب كان هذا من توابعِه، فلهذا ذكرناه، وإن كان استدارة الأفلاك قد يُعلَم بالسمع وهذا لا يُعلَم بالسمع فلا ريبَ أنه ممكن، وليس في السمع ما يدفعُه، ولنا عنه غُنْيَةٌ، فنقول: كلُّ كوكبٍ مَرْئيّ في السماء هو فوق الأرض مطلقًا، مع العلم أنه ليس فلكًا محيطًا بها، سواءٌ لا قدَّرنا أنه أكبر من الأرض أو أصغر منها، وهذا لأن العالي على الشيء الذي هو فوقَه لا يجب أن يكون مُسَامِتًا لجميع أجزائه، بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، بل هو فوقَه. وعليه سواء كانَ أكبر منه كالسماء على الأرض … (1) .   (1) ما بعده في الأصل غير متصل بما قبله، بل هو من رسالة أخرى. ولم نجد بقية الكلام في موضع آخر من المجموع، ولم نعثر على نسخة أخرى من هذه الفتوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 مسألة في العلوّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني -رضي الله عنه وأرضاه-: ما تقول في رجلين اختلفا في الاعتقاد، فقال أحدهما: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضالٌّ، وقال الآخر: إنّ الله سبحانه لا ينحصر في مكان، وهما شافعيان. فبيِّنوا لنا ما نتبعه من عقيدة الشافعي رضي الله عنه، وما الصواب فيه؟ فأجاب الحمد لله. اعتقاد الشافعي رضي الله عنه هو اعتقاد سلف أئمة الإسلام، كمالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدَى بهم، كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين. وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقادُ هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة. قال الشافعي في أول خطبة "الرسالة" (1) : "الحمد لله الذي هو كما وصفَ به نفسَه، وفوقَ ما يَصِفُه به خلقُه". فبيَّن رحمه الله أن الله موصوف بما وصفَ به نفسَه في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك قال أحمد بن حنبل: لا يُوصَف الله إلا بما وصفَ به نفسَه أو وصفَه به رسولُه، لاْ يتجاوَز القرآن والحديث.   (1) ص 8. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 وهكذا مذهب سائرهم أنهم يصفون الله بما وصف به نفسَه وبما وصفَه به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يُثبتون له ما أثبتَه لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العُلَي، ويعلمون أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإنه كما أن ذاتَه ليست كالذوات المخلوقة فصفاتُه ليست كالصفات المخلوقة. بل هو سبحانه موصوفٌ بصفات الكمال منزَّهٌ عن كلّ نقصٍ وعيب. وهو سبحانه في صفات الكمال لا يُماثِله شيء، فهو حيٌّ قيُّومٌ سميعٌ بصير عليم قدير رؤوف رحيم، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وهو الذي كلَّم موسى تكليما، وتجلَّى للجبل فجعلَه دَكًّا. ولا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمِه علمُ أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمةُ أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمعُ أحدٍ ولا بصرُه، ولا كتكليمه تكليمُ أحد، ولا كتجلّيه تجلِّي أحدٍ. والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن في الجنة لحمًا ولبنًا وعسلاً وماءً وحريرًا وذهبًا، وقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء (1) . فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه المخلوقات المشاهَدة مع اتفاقهما في الأسماء، فالخالق أعظمُ علوًّا ومباينةً لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق وإن اتفقت الأسماء. وقد سمَّى نفسَه حيّا عليمًا سميعًا بصيرًا ملكًا رءوفًا رحيمًا،   (1) أخرجه هنّاد بن السري في "الزهد" (3، 8) وغيره، انظر "الدر المنثور" (1/96) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وسمَّى أيضًا بعض مخلوقاتِه حيًّا، وبعضَها عليمًا، وبعضها سميعًا بصيرًا، وبعضَها رءوفًا رحيمًا، وليس الحي كالحيّ، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. قال الله تعالى (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (1) ، وقال الله تعالى: (وَهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ (2)) (2) ، وقال: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)) (3) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)) (4) ، وقال: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)) (5) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (143)) (6) ، وقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (128)) (7) . وهو سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي لسَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)) (8) . وثبت في الصحيح (9) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للجارية: "أين الله؟ "، قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ "، قالت: أنت رسول الله. قال: "أَعتِقْها فإنها مؤمنة". وهذا الحديث   (1) سورة البقرة: 255. (2) سورة التحريم: 2. (3) سورة الذاريات: 28. (4) سورة النساء:58. (5) سورة الإنسان: 2. (6) سورة البقرة: 143. (7) التوبة: 128. (8) الملك: 16-17. (9) مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 رواه مالك (1) والشافعي (2) وأحمد بن حنبل (3) ومسلم في صحيحه وغيرهم. لكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السماوات تَحصُره وتَحوِيه، فإن هذا لم يَقُلْه أحدٌ من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاتِه شيء من مخلوقاته. وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعِلمُه في كلّ مكان (4) . وقالوا لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربَّنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا (5) . وقال الشافعي: خلافة أبي بكر حقّ قضاها الله في سمائه، فأجمعَ عليها قلوب أوليائه. وقال الأوزاعي (6) : كنّا والتابعون متوافرون نُقِرُّ بأن الله فوقَ عرشِه، ونُؤمن بما وردت به السنة من صفاته. فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور مُحاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش أو غيرِ العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه= فهو ضال مبتدع جاهل.   (1) في "الموطأ" (2/777) . (2) في "الأم" (5/280) و"الرسالة" (فقرة 242) . (3) في "المسند" (5/447، 448) . (4) أخرجه عنه عبد الله بن أحمد في "السنة" (ص5) وأبو داود في "مسائل الإمام أحمد" (ص263) والآجري في "الشريعة" (ص289) وغيرهم. (5) أخرجه عثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص50) و"الرد على بشر المريسي" (ص24، 103) وعبد الله بن أحمد في "السنة" (ص7، 25، 35، 72) . وانظر "درء التعارض" (2/34) . (6) أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص408) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يُعبَد، ولا على العرش ربٌّ يُصلَّى له ويُسجَد، وأن محمداً لم يُعرَج به إلى ربه، ولا نزلَ القرآن من عنده= فهو معطِّلٌ فرعوني ضالٌّ مبتاع؛ فإن فرعون كذَّب موسى في أن ربه فوق السماوات، وقال: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً) (1) . ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدَّق موسى في أن ربَّه في السماوات، فلمّا كان ليلة المعراج وعُرِجَ به إلى الله تعالى وفرضَ عليه ربُّه خمسين صلاةً، ذكر أنه لما رجَع إلى موسى قال له: ارجعْ إلى ربك فاسألْه التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تُطيق ذلك، فرجع إلى ربه فخفَّف عنه عشرًا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجعْ إلى ربّك فاسألْه التخفيفَ لأمتك. وهذا الحديث في الصحاح (2) . فمن وافقَ فرعونَ وخالفَ موسى ومحمدًا فهو ضالٌ، ومن مَثَّل اللهَ بخلقِه فهو ضالٌّ. قال نعيم بن حماد: من شبَّه الله بخلقِه فقد كَفر، ومن جَحَد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس ما وصف الله به نفسَه ولا رسولُه تشبيهًا. وقد قال الله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (3) ، وقال: (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) (4) ، وقال: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) (5) ،   (1) سورة غافر: 36-37. (2) متفق عليه، أخرجه البخاري (349، 3342) ومسلم (163) عن أبي ذر، وأخرجه البخاري (3207، 3887) ومسلم (164) عن مالك بن صعصعة، وأخرجه مسلم (162) عن أنس. (3) سورة فاطر: 15. (4) سورة آل عمران: 55. (5) سورة النساء: 158. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وقال: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) (1) ، وقال: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)) (2) ، وقال تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19)) (3) . فدلَّ ذلك على أن الذين عنده هم قريبون إليه، وإن كانت المخلوقات كلها تحت قدرته. والقائل الذي قال: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، إن أراد بذلك من لا يعتقد أن الله في جوف السماء بحيث تَحصُره وتُحيط به، فقد أخطأ. وإن أراد بذلك من لم يعتقد ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلفُ الأمة وأئمتُها من أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فقد أصاب. فإنه من لم يعتقد ذلك يكون مكذبًا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متبعًا لغير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطِّلاً لربِّه نافيًا له، فلا يكون له في الحقيقة إلهٌ يَعبدُه، ولا ربّ يسألُه ويَقصِدُه. وهذا قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون المعطل. والله قد فَطَر العباد عَرَبَهم وعَجَمَهم على أنهم إذا دَعَوا الله توجهتْ قلوبهم إلى العلوّ، لا يقصدونَه تحت أرجلهم. ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارفٌ قَطُّ "يا الله" إلاّ وجد في قلبه قبلَ أن يتحرك لسانه معنىً يطلب العلوَّ، ولا يلتفت يَمنة ولا يَسْرةً. والقائل الذي قال: إن الله لا ينحصر في مكانٍ، إن أراد به أنَّ الله لا ينحصر في جوف المخلوقات أو أنه لا يحتاج إلى شيء منها= فقد   (1) سورة الأنعام: 114. (2) سورة الزمر: 1. (3) سورة الأنبياء: 19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 أصاب. وإن أراد أن الله ليس فوقَ السماوات، ولا هو على العرش، وليس هناك إله يُعبَد، ومحمدٌ لم يُعرَجْ به إلى الله= فهذا جهمي فرعوني معطِّل. و منشأ الضلال أن يظنّ أن صفاتِ الربّ كصفاتِ خلقِه، فيظنّ أن الله سبحانه على عرشه كالملك المخلوق على سريره، فهذا تمثيل وضلال. وذلك أن الملك مفتقر إلى سريره، ولو زال سريرُه لسقَط، والله غني عن العرشِ وعن كلِّ شيء، والعرشُ وكلُّ ما سواه فقير إلى الله، وهو حامل العرش وحملة العرش، وعلوُّه عليه لا يُوجب افتقارَه إليه، فإنّ الله قد جَعَلَ المخلوقاتِ عاليًا وسافلاً، وجَعَلَ اَلعاليَ غنيًّا عن السافل، كما جعل الهواء فوق الأرض، وليس هو مفتقرًا إليها، وجعل السماء فوق الهواء، وليست محتاجةً إليه. فالعليُّ الأعلى ربُّ السماوات والأرض وما بينهما أولى أن يكون غنيًّا عن العرشِ وسائرِ المخلوقات وإن كان عاليًا عليها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. والأصلُ في هذا الباب أنَّ كل ما ثبت في كتاب الله أو سنة رسوله وجبَ التصديقُ به، مثل عُلوِّ الربّ واستوائه على عرشه ونحو ذلك. وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات مثل قول القائل: هو في جهة أو ليس هو في جهة، وهو متحيز أو ليس بمتحيز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نصٌّ، لا عن الرسول ولا عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين، فإن هؤلاء لم يقل أحدٌ منهم: إنّ الله في جهة، ولا قال: ليس هو في جهة؟ ولا قال: هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز؟ ولا قال: هو جسم أو جوهرٌ، ولا قال: ليس بجسم ولا جوهر. فهذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا في السنة ولا الإجماع. والناطقون بها قد يُرِيدون معنى صحيحًا، وقد يريدون معنًى فاسدًا، فمن أراد معنًى صحيحًا يوافق الكتابَ والسنة كان ذلك المعنى مقبولاً منه، وإن أراد معنًى فاسدًا يخالفُ الكتابَ والسنة كان ذلك المعنى مردودًا عليه. فإذا قال القائل: إن الله في جهةٍ، قيل له: ما تُريد بذلك؟ أتريدُ بذلك أنه في جهة موجودة تحصرُه وتُحِيط به، مثل أن يكون في جوف السماء؟ أم تريد الجهةَ أمرًا عدميًّا؟ وهو ما فوق العالم، فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات. فإن أردتَ الجهةَ الوجوديةَ وجعلتَ اللهَ محصورًا في المخلوقات فهذا باطل، وإن أردتَ الجهةَ العدمية وأردتَ أن الله وحدَه فوقَ المخلوقات بائن منها فهذا حق، وليس في ذلك شيء من المخلوقات حَصرَه ولا أحاطَ به ولا عَلاَ عليه، بل هو العالي عليها المحيط بها، وقد قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)) (1) . وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله يقبض الأرض يومَ القيامة، ويطوي السماوات بيمينه ثم يُهزهِز، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ". وقال ابن عباس (3) : ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بيتهن في يد الرحمن إلا كخردلةٍ في يد أحدكم. وفي حديث آخر: أنه يرميها كما يَرمي الصبيانُ الكرةَ. فمن يكون   (1) سورة الزمر: 67. (2) البخاري (4812، 6519، 7382) ومسلم (2787) عن أبي هريرة. (3) أخرجه الطبري في "تفسيره" (24/17) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى في هذا الصغر والحقارة كيف تُحيط به وتَحصُره؟ ومن قال: إنَّ الله ليس في جهة، قيل له: ما تُريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السماوات ربٌّ يُعبَد، ولا على العرش إلهٌ، ومحمدٌ لم يُعرَج به إلى الله تعالى، والأيدي لا تُرفَع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوبُ إليه= فهذا فرعوني معطِّلٌ جاحدٌ لربِّ العالمين. وإن كان معتقدًا أنَّه مُقِرٌّ به، فهو جاهل متناقضٌ في كلامه. ومن هنا دَخَل أهل الحلول والاتحاد كابن عربي، وقالوا: إنّ الله بذاته في كل مكان، وأن وجود المخلوقات هو وجودُ الخالق. وإن قال: مرادي بقولي "ليس في جهة" أنه لا تُحيط به المخلوقات، بل هو بائن عن المخلوقات= فقد أصاب في هذا المعنى. وكذلك من قال: إن الله متحيز، أو قال: ليس بمتحيز، إن أراد بقوله "متحيز" أن المخلوقات تَحُوزُه وتُحِيط به فقد أخطأ. وإن أراد أنه منحازٌ عن المخلوقات لا تَحوِيه فقد أصاب. وإن أراد: ليس ببائنٍ عنها، بل هو لا داخلٌ فيها ولا خارجٌ عنها فقد أخطأ. و الناس في ذلك ثلاثة أصنافٍ: أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة. فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كلِّ مكانٍ، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة، فيقولون: وجود المخلوقات وجودُ الخالق، كما هو مذهب ابن عربي صاحب "الفصوص" وابن سبعين ونحوهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخلَ العالم ولا خارج عنه، ولا مباينٌ له ولا حَالٌّ فيه، ولا فوقَ العالم ولا فيه، ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقربُ إليه شيء، ولا يدنو منه شيء، ولا يتجلى لشيء ولا يراه أحد، ونحو ذلك. وهذا قول متكلمة الجهمية، كما أن الأول قول عُبَّاد الجهمية. فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كلَّ شيء، وكلاهما مرجعُهم إلى التعطيل والجحود الذي هو قول فرعون. وقد عُلِم أن الله كان قبل أن يخلق السماوات والأرض، ثم خلقها، فإمَّا أن يكون دخل فيهما، وهذا حلولٌ باطلٌ وإما أن يكونَا دخَلاَ فيه، وهو أبطلُ وأبطلُ؛ وإما أن يكون بائنًا عنهما لم يدخل فيهما ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة. ولأهل الحلول والتعطيل في هذا الباب شُبُهاتٌ يُعارِضون بها كتابَ الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما أجمعَ عليه سلفُ الأمة وأئمتُها، وما فَطَر الله عليه عبادَه، وما دلَّتْ عليه الدلائل العقلية الصحيحة. فإن هذه الأدلة كلّها متفقة على أن الله فوقَ مخلوقاتِه عالٍ عليها، قد فَطَر الله على ذلك العجائزَ والأعرابَ والصبيان في الكُتَاب، كما فَطَرهم على الإقرار بالخالق. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1) : "كل مولودِ يُولَد على الفطرة، فأبَواه يُهوِّدانِه أو يُنضِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتَج البهيمة بهيمةَ جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدعاءَ؟ "يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (فِطرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبدِيلَ لِخَلْقِ الله) .   (1) البخاري (1358، 1359، 1385، 4775، 6599) ومسلم (2658) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتّاب، عليك بما فطره الله عليه. فإن الله فَطَر عبادَه على الحق، والرسل بُعِثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها. وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية فيريدون أن يُغيِّروا فطرةَ الله، ويُورِدون على الناس شبهاتٍ بكلماتٍ مشتبهاتٍ لا يفهم كثير من الناس مقصودَهم بها، ولا يُحسِن أن يُجيبهم. وقد بُسِط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. وأصلُ ضلالهم تكلُّمهم بكلماتٍ مجملةٍ لا أصلَ لها في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قالَها أحد من أئمة المسلمين، كلفظ التحيُّز والجسم والجهة ونحو ذلك، فمن كان عارفًا بحلِّ شبهاتهم بيَّنها، ومن لم يكن عارفًا بذلك فليُعرِض عن كلامهم، َ ولا يَقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، كما قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (1) . ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة فهو من الخائضين في آيات الله بالباطل. وكثيرٌ من هؤلاء يَنسُب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة من الاعتقادات ما لم يقولوه، ويقولون لمن اتبعهم: هذا اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طُولبُوا بالنقل الصحيح عن الأئمة تبيَّنَ كذبُهم في ذلك، كما يتبيَّن كذبُهم فيما ينقلونه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كثير من البدع والأقوال الباطلة. ومنهم من إذا طُولبَ بتحقيقِ نقلِه يقول: هذا القول قاله العقلاءُ، والإمام الفلاني لا يخالف العقلاءَ. ويكون أولئك العقلاءُ طائفة من   (1) سورة الأنعام: 68. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 أهل الكلام الذين ذمَّهم الأئمة. فقد قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتابَ والسنة وأقبلَ على الكلام! فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمُه فيمن عارضهما بغيرهما؟. وكذلك قال أبو يوسف القاضي: مَن طلبَ الدين بالكلام تزندقَ. وكذلك قال أحمد بن حنبل: ما ارتدَى أحد بالكلام فأفلح. وقال: علماء الكلام زنادقة. وكثير من هؤلاء قرأوا كتبًا من كتب الكلام فيها شبهات أضلَّتهم، ولم يهتدوا لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله فوقَ الخلق للزمَ التجسيم والتحيُّز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ وما أراد بها أصحابُها. فإن ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاتِه بدعة، لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالَها أحد من سلفِ الأمة وأئمتها، لم يقل أحد منهم: إن الله جسم، ولا إن الله ليس بجسم، ولا إن الله جوهر، ولا إن الله ليس بجوهر. ولفظ "الجسم" لفظٌ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن، ومن قال: إنّ الله مثل بدن الإنسان فهو مفترٍ على الله، ومن قال: إنّ الله يُماثِله شيء من المخلوقات فهو مفترٍ على الله. ومن قال: إن الله ليس بجسمٍ، وأراد بذلك أنه لا يُماثِله شيء من المخلوقات، فالمعنى صحيح وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال: إنَّ الله ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يُرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، بل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 القرآن العربي مخلوقٌ أو تصنيفُ جبريل ونحو ذلك= فهذا مفترٍ على الله فيما نفاه عنه. وهذا أصلُ ضلالِ الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يُظهرون للناس التنزيهَ، وحقيقةُ كلامهِم التعطيل، فيقولون: نحن لا نُجسِّم، بل نقول: إن الله ليس بجسم، ومرادُهم بذلك نفيُ حقيقة أسمائه وصفاتِه، فيقولون: ليس لله علمٌ ولا حياةٌ ولا قدرةٌ ولا كلام ولا سمعٌ ولا بصرٌ، ولا يُرى في الآخرة، ولا عُرِجَ بالنبي إليه، ولا يَنزِل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتجلى لشيء، ولا يقرب إلى شيء، ولا يقرب منه شيء. ويقولون: إنه لم يتكلم بالقراَن، بل القرآن مخلوق، أو هو كلام جبريل، وأمثال ذلك من مقالات المعطّلة الفرعونية الجهمية. والله تعالى يقول في كتابه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) (1) أي لا تُحيط به، فكما أنه يُعلَم ولا يُحاطُ به علمًا، فكذلك سبحانه يُرَى ولا يُحاطُ به رؤيةً. فهو سبحانه نفى الإدراك، ولم يَنفِ الرؤية، ونَفْي الإدراك يَدُلُّ على عظمته، وأنه من عظمته لا يُحاطُ به. وأما نفي الرؤية فلا مدحَ فيه، فإن المعدومات لا تُرى، ولا مدحَ لشيء من المعدومات، بل المدحُ إنما يكون بالأمور الثبوتيه لا بالأمور العدمية، وإنما يَحصل المدحُ بالعدم إذا تضمَّن ثبوتًا، كقوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (2) ، فنزَّه نفسه عن السِّنَة والنوم، لأن ذلك يتضمن كمال حياتِه وقيوميته،   (1) سورة الأنعام: 103. (2) سورة البقرة: 255. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 كما قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (1) ، فهو سبحانه حيّ لا يموتُ، قيومٌ لا ينامُ. وكذلك قوله تعالي: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)) (2) ، فنزَّه نفسَه المقدسة عن مسَّ اللغوب -وهو الإعياء والتعب- ليتبيَّن كمال قدرته. فهو سبحانه موصوفٌ بصفات الكمال منزَّهٌ عن كل نقصٍ وعيبٍ، موصوف بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، منزَّهٌ عن الموت والجهل والعجز والصَّمَم والعمى والبكَم، وهو سبحانَه لا مِثلَ له في شيء من صفاتِ الكمال، وهو منزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، فإنه قدُّوس سَلامٌ يمتنع عليه النقائصُ والعيوب بوجهٍ من الوجوه، وهو سبحانه لا مثلَ له في شيء من صفاتِ كمالِه، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحدٌ. ولهذا كان مذهب سلفِ الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصفَ به نفسه وبما وصفَ به رسولُه، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيل، فيُثبِتون له ما أثبتَه لنفسِه من الأسماء والصفات، ويُنزِّهونه عمَّا نزَّه عنه نفسَه من مماثلة المخلوقات، إثباتٌ بلا تمثيل، وتنزيهٌ بلا تعطيل. قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) (3) ، فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) رد على الممثِّلة، وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) رد على المعطِّلة. قال بعض العلماء: المعطِّلُ يَعبُد عَدَمًا، والممثل يعبد صنمًا،   (1) سورة الفرقان: 58. (2) سورة ق: 38. (3) سورة الشورى: 11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 المعطِّل أعمى، والممثل أعشى، ودينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وقد قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (1) . والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فأهل السنة وسطٌ في الصفات بين أهل التمثيل وأهل التعطيل، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم بفضله ورحمته، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.   (1) سورة البقرة: 143. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 قاعدة شريفة في الرضا الشرعي وما يحبّه الله من الرضا، وبيان أن الله لا يرضى بالكفر ولا يحبُّه ولا يشرعه، ولا يرضى بالمعاصي ولا يحبُّها ولا يُثيب فاعلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل فيما يحبّه الله ويرضاه من رِضا العبدِ، وما لا يحبّه من ذلك ويرضاه، فإن هذا الباب مما كثُر فيه اضطراب كثيرٍ من المتأخرين، فإنهم سمعوا لفظ الرضا بالقضاء وأن ذلك محمودٌ من العبد يُثَابُ عليه بل يؤمن به، وأنه من أعلى مقامات اليقين وأحوال الصديقين، وظنّوا أن المراد بذلك أن كلّ ما كان مخلوقًا للربّ فينبغي أن يُرضىَ ذلك المخلوقُ. ثم صاروا حِزبَيْن: حِزبًا قالوا إذا كان القضاء والرضا متلازمين، فمعلومٌ إلا مأمورون ببغض ما نهى الله ورسولُه عنه وسخطه، فلا يكون بقضاءٍ وقدر. وحزبًا قالوا: إذا كانا متلازمين، وقد دُعِينا إلى الرضا، فنحن نرضى بكل ما يقع من الكفر والفسوق والعصيان. وكلٌّ من هذين الحزبين مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمَّة وأئمتها، فالحزب الأول علموا أن الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان، قالوا: فلم يَخْلُق ذلك ولم يقدرْه ولم يَقتضِه، بل ذلك واقعٌ في الوجود بغير مشيئتِه ولا قدرتِه ولا خَلْقِه، ومنهم من قال: ولا عَلِمَه قبل أن يقع. وهؤلاء القدرية المكذِّبون بقدر الله من المعتزلة وغيرهم. ومن أعظم حُجَجهم على ذلك أن قالوا: الرضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 بالقضاء من أعظم المقامات، وربّما ادَّعوا إجماع المسلمين على أن الرضا بالقضاء من أفضل المقامات، فلو كانت المعاصي بقضائه لكان ينبغي أن يُرضَى بها. والرضا بالكفر والفسوق والعصيان لا يجوز باتفاق المسلمين، فعُلِم أن هذه ليست بقضائه. ولما أوردوا هذه الحجة أجابهم أهلُ الإثبات للقدر، كل طائفة بجوابٍ بحسب أصولهم، فإن من يقول: إن رِضاه هو إرادتُه، وإنّ كلَّ ما قدَّره فقد رضيه وأحبَّه وأرادَه، كما يقول ذلك الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام والتصوف وغيرهم، فله جواب على أصله. وهؤلاء يقولون: أراد الكفر قبيحًا مُعاقَبًا عليه، وكذلك رَضِيَه وأحبَّه قبيحًا مُعاقَبًا عليه. ومعنى "قبيحًا" عندهم أي منهيًّا عنه، فهم يقولون: أرادَه ورضيه وأحبَّه ومع ذلك نَهى عنه ونهانا أن نَرضَى به، فحقيقة قولهم أن الله يحبّ أمورًا ويرضاها مع نهيه لنا عنها أن نُحبَّها ونرضاها. ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد. فمن هؤلاء من قال: إنما نرضى بقضائه الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به. وهذا جواب طائفة كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما. وقد يقولون: نرضى بالقضاء على الجملة، ولا نُطلِقه على التفصيل. هذا حكاية لفظهم. ومنهم من قال ما ذكره أبو حامد والرازي وغيرهما، قالوا: نَرضَى بالقضاء ولا نرضَى بالمقضي. قالت الطائفة الأولى كالقاضيين -وهذا لفظ أبي بكر، فإنه الأسبق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 إلى هذا الجواب، قال (1) -: فإن قال: أفترضون بقضاء الله وقدره؟ قيل له: نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه، الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به، ولا نتقدم بين يدي الله ولا نعترض على حكمه. وجواب آخر، وهو أنا نقول: نرضَى بقضاء الله في الجملة على كل حال. فإن قال: أفترضَون الكفر والمعاصيَ التي هي من قضاء الله؟ قيل له: نحن نطلق الرضا بالقضاء في الجملة، ولا نطلقه على التفصيل لموضع الإبهام، كما يقول المسلمون كافةً: الأشياءُ لله، ولا يقولون في التفصيل: الولد والصاحبة والشريك لله، وكما يقولون: الخلق يَفنَون ويبيدون، ولا يقولون: حجج الله تفنَى وتَبيد، في نظائر لهذا من القول الذي يُطلَق من وجهٍ ويُمنَع من وجهٍ. ثم يقال لهم: أَوَ ليس قد قَضَى بموتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعَجْزِ المسلمين عن دفع الكفار، والاستيلاء على ثغورهم وسَبْي نسائهم، وقَضَى إعانةَ الفراعنة والشياطين وسائر الكفار، وبقاءَهم واستظهارهم على المؤمنين؟ فإذا قالوا: أجَلْ. قيل لهم: أفترضَون بذلك أجمع؟   (1) "التمهيد" للباقلاني (ص368- 369) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 فإن قالوا: نعم. قيل لهم مثله فيما سألونا عنه، وخرقوا الإجماع في ركوب هذا الإطلاق. وإن قالوا: لا. قيل لهم مثله فيما طالبونا به (1) . قلت: وقد بسطوا هذا القول أكثر، فقالوا -واللفظ للقاضي أبي يعلى-: قلتُ: أما تفصيل القول في الرضا بأن بعضَ المخلوق نرضى به وبعضَه لا نرضى به فصوابٌ، لكن لم يثبتوا ما هو الذي نرضِى به، فإن قولهم "الذي أمرنا أن نريده ونرضاه" إن كان مرادهم نرضى بما أمرنا أن نفعله وهو الذي أمرنا بإرادته، فالرضا أعم من ذلك، فإنه ينبغي الرضا بأمورٍ غير أفعالنا التي أمرنا بها؟ وإن كان مقصودهم بكل ما أمرنا أن نريده ونرضاه وإن لم يكن من فعلنا. قلتُ: فهذا جواب حسن، لكن لا يستقيم على أصل أتباع أبي الحسن في قوله الذي خالف به المتقدمين واتبع فيه الجهمية والقدرية، حيث قال معهم: إن المحبة والرضا هي الإرادة، وفرَّعوا على ذلك أن الله لا يجوز أن يُحَبّ ذاتُه، كما لا يجوز أن تُراد ذاتُه، فإن الإرادة إنما تتعلق بالمتجدد، وهو ما كان معدومًا فأريد حدوثُه. قال أبو المعالي: ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه ومَنْع إطلاقه: المحبة والرضا، فصار المتقدمون إلى أنه سبحانه لا يحبّ الكفر ولا يرضاه، وكذلك كل معصية. وقال شيخنا أبو الحسن: المحبَّة هي   (1) هذا آخر كلام الباقلاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 الإرادة نفسُها، وكذلك الرضا والاصطفاء، فيقول: إنه سبحانه يريد الكفر ويرضاه كفرًا قبيحًا مُعاقَبًا عليه، ويحبّ أن يكون على ما هو عليه. وليس معنى قوله "إنه يحبه ويرضاه" أنه يراه حسنًا أو يُثنِي على صاحبه بفعلِه، بل يذمُّه بفعلِه ويلعنُه ويعاقبُه عليه. قال أبو المعالي: ومن أصحابنا من قال: نأخذ هذه الإطلاقات بالشرع، فما لم يَرِد الشرعُ بإطلاقه لا نُطلِقُه، وهذا هو الأولى، وربما يقول هذا القائل: المحبَّة من الله صفة خبرية، يتبع في ذلك الخبر. قال أبو المعالي: وإذا ثبت أن المحبة هي الإرادة فيترتَّبُ على ذلك أن يُعلَم أنه سبحانه لا تتعلق به المحبة على الحقيقة، فإنها هي الإرادة، والإرادةُ لا تتعلق إلا بمتجدد. قلت: وهذا القول الذي قاله أبو الحسن هو اختيار القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى في أحد قوليه الذي يقول فيه: إن الإرادة والرضا والمحبة واحد، كما قاله في "المعتمد" (1) . وهذا خلاف المعروف عن المتقدمين من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، كأبي بكر بن عبد العزيز وغيره، فإنهم يفرِّقون بين المحبّة والرضا (2) .   (1) ص 75. (2) انتهى الكلام هنا في الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 فصل الأقوال نوعان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 الأقوال نوعان: أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقًّا، عرفَه من عرفه وجَهِله من جهله. والبحث في ذلك إنما هو عن معرفة ما أرادتْه الأنبياء بأقوالهم. ومَن طلب تفسير كلامهم وتأويلَه، ومقصودُه معرفةُ مرادِهم من الوجه الذي به يُعرَف مرادُهم فقد سلكَ طريقَ الهدى؟ ومن كان مقصودُه أن يجعل ما قالوه تبعًا له، فإن وافقَه قَبلَه وإلاَّ ردَّه، وتكلَّف له من التحريف ما يُسمِّيه تأويلاً، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرًا من ذلك أو أكثره لم تُرِدْه الأنبياءُ= فهذا مُحرَّفٌ للكلم عن مواضعه، لا طالبٌ لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم. والنوع الثاني: ما ليس منقولاً عن الأنبياء، فقد عُلِم أن مَن سِواهم ليس بمعصوم، وحينئذٍ فلا يُقبَل كلامُه ولا يُرَدُّ إلا بعد تصورِ مرادِه ومعرفةِ صلاحِه من فسادِه، فمن قال من أهل الكلام والجدل: إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، وإنه لا يجعل في الأعيان صفاتٍ وطبائعَ وخواصَّ يُميَّز بها بين موصوف وموصوف، وباعتبارها يحصل ما يحصل من آثارها الموجودة في العالم، ولا خصَّ الأفعال المأمور بها بما لأجله كانت حسنةً مأمورًا بها، ولا المنهيَّ عنها بما لأجله كانت سيئاتٍ منهيًّا عنها، وإنه ليس لشيء من القُوَى والقُدَر التي في الحيوان والإنسان وغيره وفي النبات والمعادن والعناصر الأربعةِ تأثيرٌ في شيء، بل لا فرقَ بين الماء والنار، تُخلق الحرارة عند ملاقاتها لا بقوة فيها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 والماء يُخلَق الريُّ عنده لا بسبب عذوبةٍ وقوةٍ فيه، وأمثال ذلك= فهذا مخالفٌ لنصوصِ القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة. ولم يقل هذا القول أحدٌ من سلف الأمة وأئمتها، وأول من قال هذا القول في الإسلام الجهم بن صفوان الذي أجمع الأمة على ضلالته، فهو أول من أنكر الأسباب والطبائع، كما أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات وخلق كلام الله وإنكار رؤيته وغير ذلك، ونصوص الكتاب والسنة وكلام السلف في إبطال هذا الأصل كثيرة جدا، مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1) لأشجِّ عبد القيس: "إن فيك لخُلُقينِ يحبُّهما الله: الحلم والأناة"، فقال: أخُلُقَينِ جُبلتُ عليهما أمِ تخلَّقتُ بهما؟ فقال: "بل جُبلتَ عليهما"، فقال: الحمدَ لله الذي جَبَلني على ما يُحِبُّ. وقال تعالىَ: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)) (2) . ومما يدلُّ على ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)) (3) ، فسَلَبَ النارَ طبيعةَ الحرارة التي بها تَسخُن، وجعلَها بردًا وسلامًا، ولو كان ما يَحصُل عند ملاقاتِها لا أثرَ لها فيه لم يحتج إلى ذلك، بل كان يكفي أن لا يخلق الأثر عند الملاقاة. بل قوله "بردًا وسلامًا" يَقضِي أنه جعل فيها ما تُوجِب برودتَه   (1) أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" (28) وفي "الأدب المفرد" (975) وأبو داود (5225) عن زارع العبدي. وأخرجه أحمد (4/205) والبخاري في "الأدب المفرد" (584) وفي "خلق أفعال العباد" (27) عن الأشج نفسه. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وابن عباس. (2) سورة المعارج: 19- 21. (3) سورة الأنبياء: 69. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وسلامتَه. والأدلة في ذلك كثيرة تُخبِر أنه يخلق الأسباب والحكم، كقوله عز وجل: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16)) (1) ، وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبَادِ) الآية (2) . وقال تعالى: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) الآية (3) . وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا ... ) (4) ، فذكر أن الرياح تُقِلُ السحابَ أي تَحمِلُه، فجعلَ هذا الجماد فاعلاً بطبعه. وقال تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1)) الآيات (5) . وقال: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)) (6) ، وقال: (وَتَرَى اَلأَرض هَامِدَةً) الآية (7) . وقال تعالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) (8) . وقال تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (9) . وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) (10) ، فوصف السرابيل بأنها تقي الحرَّ والبأس. وقال تعالى: (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)) (11) ،   (1) صورة النبأ: 14- 16. (2) سورة ق: 9- 11. (3) سورة البقرة: 164. (4) صورة الأعراف: 57. (5) سورة الذاريات: 1 وما بعدها. (6) سورة الزلزلة: 2. (7) سورة الحج: 5. (8) سورة الإنعام: 99. (9) سورة الكهف: 33. (10) سورة النحل: 81. (11) سورة الواقعة: 69. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 أخبر أنه أنزل الماء من المزن، وهو السحاب، كما أخبر أنه أنزله من المعصرات، وهو المراد بقوله (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ) في مواضع أخر (1) ، وبيَّن أنه لو شاء لجعله أجاجا، كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) (2) ، وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) (3) ، فبيَّن أن كلاّ من البحرين جعل فيه صفة قائمة به، عذوبة هذا وملوحة هذا، وامتنّ على عباده بذلك، وأنه لو شاء لجعل العذب أجاجًا، فدلَّ على أن المياه المشروبة مخصوصة بصفة جعلَها بها تُشرب، وأنه لو جعلَه أُجاجًا لما شرِب، وبيَّن أن أحد الجسمين يختصه بصفة يَحصُل بها الانتفاع ويختص أحدهما بقوة يكون بها الفعل. وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16)) (4) ، وقال تعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48)) (5) (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (6) ، وقال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)) (7) ، وقال تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)) (8) أي صنف كريم، وهو الكثير المنفعة.   (1) سورة المؤمنون: 18، سورة الفرقان: 48، سورة لقمان: 10. (2) سورة الفرقان: 53. (3) سورة فاطر: 12. (4) سورة النبأ: 13- 16. (5) سورة الفرقان: 48. (6) سورة الحديد: 25. (7) سورة آل عمران: 138. (8) سورة لقمان: 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 فمن قال من أهل الجدل والكلام: إنه يحدث النبات عند المطر لا به، فقد خالف نصَّ الرسول، مع مخالفته صريح المعقول، وكذلك في سائر ما يقوله، كقولهم: يحدث الشبع عند الأكل إلا، به، والزهوق عند القتل لا به، والهدى عند سماع القرآن لا به، فهذا النفي مخالف للكتاب والسنة والميزان للشرع، قال تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (1) ، وقال تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (2) ، وقال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) (3) ، وقال: (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) (4) . وكما أخبر أنه يخلق الأشياء من موادِّها، في مثل قوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (5) ، وقوله تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)) (6) ، وقال: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (18)) (7) . وأخبر سبحانه أنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يضع شيئا في غير موضع، ولا يُسويّ بين مختلفين ولا يُفرِّق بين متماثلين، فقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (8) الآية. وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا   (1) سورة المائدة: 16. (2) سورة البقرة: 26. (3) سورة التوبة: 14. (4) سورة التوبة: 52. (5) سورة الأنبياء: 30. (6) سورة الرحمن: 14- 15. (7) سورة نوح: 17- 18. (8) سورة الجاثية: 21. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)) (1) ، وقال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)) (2) الآية. وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20)) (3) الآية. وقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ) (4) الآية. فدلَّ في هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به هو معروف في نفسه تعرفه القلوب، فهو مناسب لها مُصْلِحٌ لفسادِها، ليس معنى كونه معروفًا أنه مأمور به، إذْ هذا قدر مشترك بينه وبين كل آمرٍ حتى الشيطان، فإنه يأمر بما يأمر به، فعُلِم أنّ ما يأمر به الرسول مختصٌّ بأنه معروف، وما ينهى عنه مختصٌ بأنه منكر، وما يُحِلّه مختصٌّ بأنه طيب، وما يُحزَمه مختصٌّ بأنه خبيث. ومثل هذا كثير في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور. والله سبحانه أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما.   (1) سورة ص: 28. (2) سورة القلم: 35. (3) سورة فاطر: 19- 20. (4) سورة الأعراف: 157. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة والإجماع أمرَ الثقلَين الجنِّ والإنسِ، وما يتعلق بهم من الخطاب وغيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 قال سيدنا وشيخنا شيخُ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني رحمه الله: قاعدة شريفة ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أمرُ الثقلين: الجن والإنس، كما أخبر به في سورة الأنعام في قولهَ تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (1) ، وبقوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (2) . وثبتَ أن محمدًا رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولٌ إلى الثّقَلين جميعًا، كما أخبر به في سورة الرحمن (3) ، وقل أوحي (4) ، والأحقاف (5) ، وكما في الأحاديث المشهورة، مثل حديث ابن مسعود (6) وغيره. وثبت بالسنة والإجماع مع ما دلَّ عليه القرآن أنَّ القلمَ مرفوعٌ عن الصبيِّ حتى يَبْلُغَ، وعن المجنون حتى يُفِيقَ، وعن النائم حتى يَستيقظ، كما في حديث علي بن أبي طالب وعائشة وغيرهما: "رُفِعِ القلمُ عن ثلاث" (7) ، مع قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ   (1) الآية 130. (2) سورة هود: 119. (3) الآيات 31- 39. (4) هي سورة الجن: 1 وما بعدها. (5) الآيات 28- 32. (6) أخرجه مسلم (450) . (7) حديث علي أخرجه أحمد (1/154، 158) وأبو داود (4401، 4402) وابن خزيمة (1003، 3048) وغيرهم. وحديث عائشة أخرجه أحمد (6/100، 101، 144) وأبو داود (4398) والنسائي (6/156) وابن ماجه (2041) وغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) إلى قوله (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (1) ، وقوله: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (2) ، وقوله: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) في غير موضع (3) ، مع ما ثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نهيِه عن قتل النساء والصبيان، وأنه استعرضَ قريظةَ فمن أَنبتَ قَتَلَه، ومَن لم يُنبت لم يَقْتُله. وما رُوِي من الأحاديث التي فيها: "ثلاثة كلهم يُدلي عَلى الله بحجته" (4) . فأما قوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)) (5) ونحو ذلك، فإنما يتناول من لا يَعقِل من الأطفال والمجانين، فأما الصبي المميِّز فتكليفُه ممكنٌ في الجملة، ولهذا يصحح أكثر الفقهاء تصرفاتِه تارةً مستقلاًّ كإيمانِه، وتارةً بالإذن كمعاوضاتِه الكبيرة. واختلفوا في وجوب الصلاة على ابن عشرٍ، وفي وجوب الصوم على من أطاقَه. والخلاف فيه معروفٌ في مذهب أحمد، حتى اختُلِف في صحة شهادته وأمانه وإمامتِه وولايتِه في النكاح وعتقِه. وهنا مسائل:   (1) سورة النور: 58- 59. (2) سورة النساء: 6. (3) سورة الأنعام: 152؛ سورة الإسراء: 34. (4) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (404) عن أبي هريرة بلفظ: "أربعة ... ". ورواه أحمد (4/24) عن الأسود بن سريع بنحوه. وانظر "الصحيحة" (1434) . (5) سورة الإسراء: 15. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 المسألة الأولى أن من نتائج التكليف: العقاب والثواب، عقاب العاصي وثواب المطيع. فأما العقاب: فما علمتُ أحدًا من أهلِ القبلةِ خالفَ في أن الكافر مُعذَّبٌ في الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيل عذابه. ونصوصُ القرآن متظاهرة بعذاب الكافرين، وكذلك الذي عليه عامة المسلمين من جميع الطوائف عقوبةُ فُجَّارِ أهل القبلة في الجملة: إمّا في الدنيا بالمصائب والحدود؟ وإما في الآخرة. وأما غلاة المرجئة فرُوِيَ عنها أنها نَفَتْ ذلك، كما أن الخوارج والمعتزلة جَزَمتْ بوقوع ذلك على جميع الفاسقين وخلودِهم في النار. وأما الثواب: فاتفقت الأمة على ثواب الإنس على طاعتهم. واختلفوا في الجن هل يُثَابُون أو لا ثوابَ لهم إلا النجاة من العذاب؟ على قولين: الأول قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنبلية وأبي يوسف ومحمد وغيرهم. والثاني مأثورٌ عن طائفة، منهم أبو حنيفة. وقد اختُلِف في أصولِ الفقه: هل من شرطِ الوجوب العقابُ على الترك؟ على قولين. وأما الثواب على الفعل فهو واجب، إمّا بالسمع، وإما بمجرد الإيجاب. المسألة الثانية أن مَن لا تكليفَ عليه هل يُبعَثُ يومَ القيامة؟ فأما الإنس والجن فيُبعَثون جميعًا باتفاق الأمة، ولم يختلفوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 -فيما علمتُ- إلا فيمن لم يُنفَخْ فيه الروحُ: هل يُبعَث؟ على قولين. وبَعْثُه اختيارُ القاضي وكثير من الفقهاء، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه. وأما البهائم فهي مبعوثةٌ بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)) (1) ، وقال تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (2) ، والحديثُ في قول الكافر (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)) (3) معروف (4) . وما أعلمُ فيه خلافًا. لكن اختلف بنو آدم في مَعَاد الآدميين على أربعة أقوال: أحدها -وهو قولُ جماهير من المسلمين أهل السنة والجماعة، وجماهير متكلميهم، وجماهير اليهود والنصارى والمجوس وجمهور غيرهم- أن المعاد للروح والبدن، وأنهما يُنَعَّمان ويُعذَّبان. والثاني -وهو قول طائفة من متكلمي المسلمين من الأشعرية وغيرهم- أن المعاد للبدن، وأن الروح لا معنى لها إلا حياة البدن، فيحيا البدن ويُنعَّم ويُعذَّب. وأما معادُ روع قائمةٍ بنفسِها ونعيمها وعذابها فينكرونه. والثالث: ضدّ هذا، وهو قول الإلهيين من الفلاسفة وطائفة ممن يُبطِن مذهبهم من بعض متكلمي أهل القبلة ومتصوفتهم، أنّ المعاد للروح دون البدن.   (1) سورة الأنعام: 38. (2) سورة التكوير: 5. (3) سورة النبأ: 40. (4) انظر تفسير الطبري (30/17- 18) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 الرابع: أنه لا معادَ أصلاً، لا لروع ولا لبدنٍ، وهو قولُ أكثر مشركي العرب، وكثيرٍ من الطبائعيين والمنجِّمين وبعض الإلهيين من الفلاسفة. فعلى هذين القولين يُنكَر حَشْرُ البهائم، وعلى القول الأول يقبل الخلاف. المسألة الثالثة أن من لا تكليفَ عليه -بل قد رُفِع عنه القلم- هل يُعذب في الآخرة؟ وهنا مسألة أطفال المشركين، فمن قال من أصحابنا وغيرِهم: إنهم يُعذَّبون تبعًا لآبائهم، قال بعذاب غيرِ المكلَّف تبعًا؟ ومن قال: يدخلون الجنة من أصحابنا وغيرهم، قَال بتنعيمهم. والصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُعذَّبون جميعُهم ولا يُنعَّمُون جميعُهم، بل فريق منهم في الجنة وفريقٌ في السعير كالبُلَّغ. وهذا مقتضى نصوص أحمد، فإن أكثر نصوصِه على الوقف فيهم، بمعنى أنه لا يُحكَم لأحدٍ منهم لا بجنة ولا بنارٍ، فدلَّ على جواز الأمرين عنده في حقّ المعيَّن منهم. وأما تجويز الأمرين في حقّ مجموعهم فلا يلزمه، وهذا قول الأشعري وغيره. وبهذا أجاب رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سُئِل عنهم فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" (1) ، فبيَّن أن الأمرَ مردودٌ إلى علمِ الله بما كانوا يعملون لو بلغوا.   (1) متفق عليه من حديث أبي هريرة وابن عباس، انظر: البخاري (6597، 6598) ومسلم (2659، 2660) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 وقد ثبتَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البخاري (1) أنه رأى حول إبراهيم عند الجنّةِ أطفال المسلمين والمشركين. وثبت عنه في صحيح مسلم (2) أن الغلام الذي قتله الخضر طُبعَ يومَ طُبعَ كافرًا، مع أنه قُتِلَ قبل الاحتلام. قال ابن عباس لنَجْدَةَ الحَروري لما سأله عن قتل الغلمان، فقال: إن كنتَ تَعلَم منهم ما علمه الخضر من الغلام الذي قتلَه فاقتُلْهم، وإلاّ فلا تقتلهم. هذا مع أن أبويه كانا مؤمنين. وفي الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سُئِل عن أهل الدار من المشركين يُبَيَّتون لِيُصاب من صبيانهم، فقال: "هم منهم". ويجوز قتل الصبي إذا قاتلَ، وإذا صالَ ولم تندفعْ صولتُه إلاّ بالقتل، وكذلك المجنون والبهيمة. فقد يجوز قتلُ الصبي في بعض المواضع. وحديث عائشة في قولها: عصفورٌ من عصافير الجنة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أو غيرَ ذلك يا عائشة؟! فإن الله خَلَق للجنة أهلاً، خَلَقَها لهم وهم في أصلابِ آبائهم، وخَلَقَ للنار أهلاً، خَلَقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم" (4) . ولهذا قال أصحابنا: لا يُشهَد لأحدٍ بعينِه من أطفالِ المؤمنين أنه في الجنة، ولكن يُطلَق القولُ: إن أطفال المؤمنين في الجنة. وقد رُوِي بأحاديثَ حسانٍ (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من لم يُكلّف في   (1) برقم (7047) عن سمرة بن جندب. (2) برقم (2661) عن أبي بن كعب. (3) البخاري (3012) ومسلم (1745) عن الصعب بن جثامة. (4) أخرجه مسلم (2662) . (5) أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ ابن جبل، انظر "فتح الباري" (3/246) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 الدنيا من الصبيان والمجانين، ومن مات في الفترة- يُمتَحنون يومَ القيامة، فمن أطاعَ دخلَ الجنة، ومن عَصَى دخلَ النار. وهذا التفصيل هو الصواب، فإن الله قال في القرآن (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) (1) ، فأقسم سبحانَه أنه لابدّ أن يملأ جهنم من إبليسَ وأتباعِه، وأتباعُه هم العصاةُ، ولا معصيةَ إلا بعد التكليف، فلو دخلَها الصبي والمجنون لدخَلَها مَن هو من غير أتباعِه، فلم تَمتلئْ منهم. وأيضًا فقد قال سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (65)) (2) ، وقال سبحانه: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (3) ، وقال سبحانه: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) الآية (4) ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن الله لا يُعذب إلا من جاءه نذير وأتاه رسولٌ، والطفلُ والمجنون ليسا كذلك كالبهائم. وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) إلى قوله (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (5) . فأخبر سبحانه أنه استخرج ذرياتهم، وأشهدَهم على أنفسِهم، لئلاّ يقولوا: أتُهلِكنا بما فعل المبطلون، فعُلِم أنه لا يُعاقِبُهم بذنبِ غيرِهم. وأما البهائم فعامةُ المسلمين على أنه لا عقابَ عليها، إلا ما يُحكَى عن التناسخية بأنهم مكلَّفون، فيستحقون العقابَ، وهذا نظيرُ قولِ من يقول: لا تُحشَر. لكن هنا:   (1) سورة ص: 85. (2) سورة الإسراء: 15. (3) سورة النساء: 158. (4) سورة الملك: 8- 9. (5) سورة الأعراف: 172- 173. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 المسألة الرابعة وهو ما يُشرَع في الدنيا من عقوبة الصبيان والمجانين والبهائم على الذنوب، مثل ضرب الصبي على ترك الصلاة لعشرٍ، وما يفعلُه من قبيح؛ وكذلك ضرب المجنونِ لكَفِّ عدوانِه؛ وضرب البهائم حضا على الانتفاع بها كالسَّوْق، ودفعًا لمضرَّتها كقتلِ صائلِها، وما جاء في الحديث (1) أنه يُقتَصُّ في الآخرة للجمَّاءِ من القَرناءِ. فهذه الأمورُ عقوبات لغير المكلفين، وهي نوعان: أحدهما ما كان عقوبةً في الدنيا لمصلحة، والثاني ما كان لأجل حق غيرِه. فأما النوع الأول فمشروعٌ في حق الصبي والمجنون، فإنه يُضرَب الصبي على ترك الصلاة ليفعلها ويَعتادَها، ويُضرَب المجنونُ إذا أَخَذَ يُؤذِيْ نفسَه، ليَكُفَّ عن إيذاءِ نفسِه. ويجوز أيضًا مثلُ هذا في حق البهائم: أن تُضرَب لمصلحتها، وهذا غير الضرب لحقّ الغير، وذلك أن العقوبة لمنفعة المعاقب هي بمنزلة سَقْي الدواءِ للمريض، فإن المطلوبَ دفعُ ما هو أعظمُ مَضَرَّةً من الدواء. النوع الثاني: العقوبة لأجل حق الغير، وهذا قسمان: قسم لاستيفاءِ المنفعةِ المباحةِ منه، كذَبْحِ البهائم للأكل وضَربِها للمشي، فإن مالا يَتمُّ المباحُ إلا به فهو مباحٌ. والقسم الثاني: العقوبة لأجل العدوان على الغير، مثل قَتْل الصائل من المحاربين والبهائم، وضرب المجانين والصبيان والبهائم إذا اعتدى بعضهم على بعض، أو اعتدوا على العقلاء في أنفسهم وأموالِهم.   (1) أخرجه أحمد (2/363) من حديث أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 فهذا النوع إن كان لدفع ضررهم جاز بلا خلاف، مثل قتل الصائل لدفع صوله، وقَتْل الكلب العَقُور الذي يُخَافُ من ضَررِه في المستقبل، وقَتْل الفواسقِ الخمس في الحِل والحرم. وأما إن كان على وجه الاقتصاص، مثل أن يَظلم صبيٌّ صبيًّا، أو مجنون مجنونًا، أو بهيمةٌ بهيمة، فيُقتَصّ للمظلوم من الظالم. وإن لم يكن في ذلك زجرٌ عن المستقبل، لكن لاستيفاءِ المظلوم وأخذِ حقَّه، فهذا الذي جاء فيه حديثُ الاقتصاص للجمّاء من القرناء، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَتُؤَدَّى الحقوقُ إلى أهلها حتى يُستَوفَى للجَمَّاءِ من القَرْنَاءِ" (1) . وهذا موافق لأصول الشريعة، فإن القصاصَ بين غير المكلفين ثابتٌ في الأموال باتفاق المسلمين، فمن أتلفَ منهم مالاً أو غَصَبَ مالاً أُخِذَ من مالِه مثلُه، سواءٌ في ذلك الصبي والمجنون، والناسي والمخطئ. وكذلك في النفوس، فإن الله تعالى أوجبَ دية الخطأ، وهي من أنواع القصاص بحسب الإمكان، فإن القَوَدَ لم يُمكِن إيجابُه، لأنه لا يكون إلا ممن فَعَلَ المحرَّم، وهؤلاء ليسوا مكلفين، ولا يُخاطَبون بالتحريم، بخلاف ما كان من باب دفع الظلم وأخذِ الحقّ، فإنه لا يُشتَرط فيه الإثمُ. ولهذا تُقَاتَلُ البُغَاةُ وإن كانوا متأوّلين مغفورًا لهم، ويُجلَد شاربُ النبيذ وإن كان متأوِّلاً مغفورًا له. فتبيَّنَ بذلك أن الظلْم والعدوان يُؤدِّى فيه حقُّ المظلومِ، مع الإثم والتكليف ومع عدمِ ذلك، فإنه من باب العدل الذي كتبه الله تعالى على نفسِه، وحَرَّمَ الظلمَ على نفسِه وجَعَلَه محرَّمًا بين عباده.   (1) سبق تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 المسألة الخامسة دار التكليف فالدنيا دارُ تكليفٍ بلا خلافٍ، وكذلك البرزخُ وعَرصةُ القيامة، وإنما ينقطع التكليف بدخولِ دار الجزاء، وهي الجنة أو النار، كما صَرَّح بذلك مَن صَرَّح من أصحابنا وغيرِهم، مستدلِّين بامتحانِ منكرٍ ونكرٍ للناس في قبورِهم وفتنتهِم إيَّاهم؟ وبأنّ الناسَ يوم القيامة يُدعَون إلى السجود، فمنهم من يستطيع، ومنهم من لا يستطيع؟ وبأن من لم يُكلّف في الدنيا يُكلَّفُ في عرصاتِ القيامة. وهذا ظاهر المناسبة، فإن دار الجزاء لا امتحانَ فيها، وأما الامتحان قبل دار الجزاء فممكن لا محذورَ فيه، والامتحان في البرزخ لمن كان مكلَّفًا في الدنيا، إلا النبيين، ففيهم قولان لأصحابنا وغيرهم. وأما امتحانُ غيرِ المكلفينَ في الدنيا -كالصبيان والمجانين- ففيهم قولان لأصحابنا وغيرهم: أحدهما: لا يُمتَحنون، وعلى هذا فلا يُلَقَّنون. وهذا قول القاضي وابن عقيل. والثاني: يُمتَحنون في قبورِهم ويُلَقَّنون. وهو قول أكثرِهم، حكاه ابن عبدوس" عن الأصحاب، وذكره أبو حكيمِ وغيره، وهو أصحُّ، كما ثبتَ عن أبي هريرة، ورُوِي مرفوعًا أنه صفى على طفلٍ لم يَعملْ خطيئةً قَطُّ، فقال: "اللهمَّ قِهِ عذابَ القبر وفتنةَ القبر" (1) .   (1) أخرجه أحمد (3/491) وأبو داود (3202) وابن ماجه (1499) عن واثلة بن الأسقع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 وهذا الاختلاف في امتحانهم في البرزخ يُشبه الاختلاف في امتحانهم في العرصة، وقولُ من يقول بامتحانهم أقرَبُ إلى النصوص والقياس من قولِ مَن يقول: يُعاقَبون بلا امتحان. المسألة السادسة أن غير المكلَّف قد يُرحَم، فإن أطفالَ المؤمنين مع آبائهم في الجنة، كما دلَّ عليه قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) الآية (1) ، وكما في الصحيحين (2) من حديث أبي هريرة وأنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "احتجَّت الجنَّةُ والنارُ، فقالتِ الجنةُ: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين؛ وقالت النار: يدخلني الجبّارون المتكبرون. فقال الله للجنة: إنما أنتِ رحمتي أرحمُ بكِ مَن شِئتُ، وقال للنار: إنما أنتِ عذابي أعذِّبُ بكِ من شِئتُ، ولكلِّ واحدة منكما مِلْؤُها". فأما النار فلا يزال يُلقَى فيها وتقول: "هل من مزيد"، حتى يضع ربُّ العزَّة فيها -وفي روايةٍ: عليها- قَدَمَه، فيَنزوي بعضُها إلى بعضٍ وتقولُ: قَط! قَط. وأما الجنَّة فيَفضُل فيها فَضْلٌ، فيُنشِئُ اللهُ لها خلفا آخر". فهذا الحديث المستفيض المتلقَّى بالقبولِ نصٌّ في أنَّ الجنَّة يُنْشَأُ لها في الدار الآخرة خَلْق يدخلونَها بلا عمل، وأنّ النارَ لا يدخلُها أحدٌ بلا عملٍ. وقد غَلِطَ في هذا الحديث المعطلةُ الذين أوَّلوا قوله "قدمه" بنوع من الخلق، كما قالوا: الذين تقدَّم في علمِه أنهم أهل النار. حتى قالوا   (1) سورة الطور: 21. (2) البخاري (4850، 7449) ومسلم (2846) عن أبي هريرة. أما حديث أنس فبغير هذا اللفظ، أخرجه البخاري (4848، 6661، 7384) ومسلم (2848) . ويوافق حديثَ أبي هريرة حديثُ أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم (2847) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 في قوله "رجله": كما يقال: رِجْل من جَرادٍ. وغَلَطُهم من وجوهٍ: فإنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "حتى يضع"، ولم يقل: حتى يُلقي، كما قال في قوله: "لا يَزَال يُلقَى فيها". الثاني: أن قوله "قدمه" لا يُفْهَم منه هذا، لا حقيقةً ولا مجازًا، كما تَدُلُّ عليه الإضافة. الثالث: أن أولئك المؤخرين إن كانوا من أصاغر المعذَّبين فلا وجهَ لانزوائِها واكتفائها بهم، فإنّ ذلك إنما يكون بأمرٍ عظيمٍ، وإن كانوا من أكابر المجرمين فهم في الدرك الأسفلِ، وفي أوّلِ المعذَّبين لا في أواخرِهم. الرابع: أن قوله "فينزوي بعضُها إلى بعض" دليلٌ على أنها تَنضمُّ على من فيها، فتضيقُ بهم من غيرِ أن يُلقَى فيها شيء. الخامس: أن قوله "لا يزال يُلقَى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يَضَعَ فيها قدمَه" جَعَلَ الوضعَ الغايةَ التي إليها ينتهي الإلقاءُ، ويكون عندها الانزواءُ، فيقتضي ذلك أن تكون الغايةُ أعظمَ مما قبلَها. وليس في قول المعطِّلةِ معنًى للفظ "قدمه" إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر، والأوّل أحقُّ به من الآخر. وقد يَغْلَط في الحديث قومٌ آخرون مُمثِّلةٌ أو غيرُهم، فيتوهَّمون أن "قَدمَ الربِّ" تَدخُلُ جَهنَّم. وقد توهَّم ذلك على أهل الإثبات قومٌ من المعطِّلة، حتى قالوا: كيف يَدخُل بعضُ الربِّ النَّارَ واللهُ تعالى يقول: (لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا) (1) ؟.   (1) سورة الأنبياء: 99. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وهذا جهل ممن توهَّمه أو نَقَلَه عن أهل السنة والحديث، فإنّ الحديث: "حتى يضع ربُّ العزّة عليها -وفي رواية: فيها-، فينزوي بعضُها إلى بعضٍ، وتقول: قط قط وعزَّتِك"، فدلَّ ذلك على أنها تضايقت على من كان فيها فامتلأتْ بهم، كما أقسم على نفسه إنّه ليملأنَّها من الجثة والناس أجمعين، فكيف تمتلئ بشيء غيرِ ذلك من خالقٍ أو مَخلوق؟. وإنما المعنى أنه تُوضَع القدمُ المضافُ إلى الربِّ تعالى، فتَنزوي وتَضِيقُ بمن فيها. والواحدُ من الخلق قد يَركُضُ متحركًا من الأجسام فيسكن، أو ساكنًا فيتحرك، ويَركضُ جبلاً فيتفجَّر منه ماءٌ، كما قال تعالى: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)) (1) ، وقد يضع يَدَه على المريض فيبرأ، وعلى الغضبان فيرضى. المسألة السابعة أنَّ التكليفَ بالأمر والنهي ثابت بالشرع باتفاق المسلمين، وفي ثبوته بالعقل اختلافٌ بين العلماء من أصحابنا وغيرِهم، والمسألة مشهورة، مسألة التحسين والتقبيح ووجوب الواجبات وتحريم المحرمات، هل ثبتتْ بالعقل؟ ومسألة وجوب معرفة الله وشكره، ومسألة الأعيان قبل السَّمع. وفي المسألة تفصيل كتبته في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا النكت المستغربة. وأما الثواب والعقاب فمعلوم بالسمع بلا خلافي بين المسلمين، وهل يُعلَم بالعقل؟ مبنيٌّ على المعاد، فإنّ المعادَ معلوم بالسمع بلا ريب، وهل يُعلَم بالعقل؟ قد اختُلِفَ فيه: فذهب كثير من أهل الكلام وذهب أكثر الناس إلى أن المعاد من   (1) سورة ص: 42. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 الأمور السمعية التي لا تُعلَم إلاَّ بالسمع، وهو قول كثير من أصحابنا والأشعرية وغيرهم. وذهبَ طوائفُ إلى أنه يُعلَم بالعقل، ثُمَّ تنوعت مسالكُهم: منهم من بناه على وجوب العدل، وأن ذلك يَقتضي معادًا غيرَ هذه الدار، يُجزَى فيها الظالموَن بظلمهم، أو يُعَوَّض المعذَّبون على عذابهم. وهذا مسلك كثير من المعتزلة وغيرهم. ومنهم من بناه على أن الروح غير البدن، وأنها باقيةٌ بعده، وأن لها من النعيم والعذاب الروحانيينِ ما لا يُفارِقُها. وهذا مسلك كثير من المتفلسفة ومن نحا نحوَهم، ومن هؤلاء من يثبِتُ معادَ الأرواح العالمةِ دون الجاهلة، وفيهم من يُنكِر المعادَيْنِ. والصواب أنَّ معرفتَه بالسمع واجبةٌ، وأمَّا بالعقل فقد تُعرَف وقد لا تُعرَف، فليست معرفتُه بالعقل ممتنعةً، ولا هي أيضًا واجبةٌ. وأما المتفلسفةُ فتُثبتُ المعادَ بالعقلِ، وتُثبِت التكليفَ العقلي، وأما ما جاء به السَّمع من المعاد والشرائع فلها فيه تأويلاتٌ محرَّفةٌ. فصارت الأقسام في الإيمان باليوم الآخر وفي العمل الصالح: هل هو معلومٌ بالشرع وحدَه أو بالعقل وحدَه أو يُعلَمُ بكل منهما؟ فيه هذا الخلاف بين أهل الأرض. وإن كان الصواب أن ذلك معلومٌ جميعُه بالشرعِ قطعًا، وقد يُعلَم بعضه [بالعقل] . بل مثل هذا الخلاف ثابتٌ في معرفة الله تعالى، لكن التجاء المتكلمين هناك إلى العقل أكثر. وكثير من المتكلمين -كأكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية- لا يُعلَم عندهم وجودُ الربِّ وصفاته إلا بالعقل، كما يزعمه الفلاسفة، مع اضطراب هؤلاء وآخرين في مقابلتهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وقد كتبتُ تفاصيلَ أقوالِ الناس وبَيَّنتُ مذهبَ أئمة السنَّة والحديث في هذا الأصل في "قاعدة نفي التشبيه ومسألة الجسم"، وإنما الغرض هنا التكليف وتوابعُه. وإنما قَرنتُ بين الأصول الثلاثة التي قال الله تعالى فيها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (1) ، فأشرتُ إلى طرق الناس في معرفتها. والحمد لله وحده أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، حمدًا كثيرًا مباركًا دائمًا بدوامِه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. (فرغتُ يوم الثلاثاء سادسَ عشرَ من شهر صفر سنة ست وستين وسبع مئة. علَّقَها العبد الفقير إلى رحمةِ ربه الغفور، وعفوِه وصفحه وجودِه وكرمِه وسترِه وبزه ومَنِّه: عبد المنعم البغدادي الحنبلي، عفا الله عنه بمنّه وكرمِه وعن جميع المسلمين) .   (1) سورة البقرة: 62. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 مسألة فيمن قال: إن عليًّا أشجعُ من أبي بكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 مسألة في رجلين تكلما فقال أحدهما: إن عليًّا أشجع من أبي بكر، وقال آخر: [إن] أبا بكر أشجع الصحابة. الجواب الحمد لله. الذي عليه سلف الأمة وأئمتُها أن أبا بكر الصديق أعلم الصحابة وأدينُ الصحابة وأشجعُ الصحابة وأكرمُ الصحابة، وقد بُسِط هذا في الكتب الكبار وبُيِّن ذلك بالدلائل الواضحة. وذلك أن الشجاعةَ ليستْ [عند] أهلِ العلم بها كثرةَ القتل باليد ولا قوةَ البدن، فإن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشجع الخلق، كما قال علي بن أبي طالب (1) : كُنّا إذا احمرَّ البأسُ ولَقِيَ القومُ القومَ كُنَّا نتّقي برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يكون أقربَ إلى القوم منا. وقد انهزمَ أصحابُه يومَ حُنَين وهو على بَغْلِه يسوقُها نحو العدوّ، ويتسمَّى بحيث لا يُخفِي نفسَه، ويقول: أنا النبيّ لا كَذِبْ أنا ابنُ عبد المطلبْ (2) ومع هذا فلم يَقتُل بيده إلا واحدًا، وهو أُبيّ بن خلف، قتلَه يومَ أُحُد. وكان في الصحابة من هو أكثر قتلاً من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وإن كان لا يفضل عليهم في الشجاعة، مثل البراء بن مالك أخي أنس بن مالك، فإنه قتلَ مئةَ رجلٍ مبارزةً غيرَ مَن شركَ في دَمِه.   (1) أخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (ص58) ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (13/257) . وهو في "المسند" (2/228، 343 طبعة المعارف) بنحوه. (2) أخرجه مسلم (1775) عن البراء بن عازب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 ولم يقتل أحد من الخلفاء على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا العدد، بل ولا حمزةُ سيّدُ الشهداء -الذي يُقال: إنه أسدُ الله ورسولِه- لم يَقتلُ هذا العدد، وهو في الشجاعة إلى الغاية. وكذلك الزبير بن العوَّام هو في الشجاعة إلى الغاية، حتى قال فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح: "إن لكل نبيٍّ حواريًا، وحَوارِي الزبيرُ" (1) ، ولم يَقتُل في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا العددَ. وغزواتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسراياه مضبوطة عند أهل العلم بالسيرةِ والحديث، والله تعالى كان يُبارِك لنبيّه وأصحابه في مغازيهم، فمع العمل القليل يَظهرُ الإسلام وتفشو الدعوة ويدخلون في دين الله أفواجًا. ومجموعُ من قَتَلَ الصحابةُ كلُّهم مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يَبلُغون ألفَ نفسٍ، بل أقلّ من ذلك، ومع هذا ببركة الإيمان فُتِحتْ أرضُ العرب كلُّها في حياتِه. وكان القتلُ يومَ بدرٍ، وهي أول مغازي القتال، وأسروا منها سبعين أو نحوها. وأما يومَ أحد فقُتِلَ الكفّارُ قليلاً جدًّا، وكذلك يومَ الخندق ويومَ فتح مكة، والقتلى في خيبر وحنين ليسوا بالكثير. وأعظمُ عددًا قُتِلوا جميعًا قَتْلَى قُريظةَ، فإنهم بلغوا ثلاث مئة أو أربع مئة قتلهم جميعًا. وجملةُ مغازي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضغٌ وعشرون غزاةً، وكان القتال فيها في تسعٍ: مغازي بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وقريظة (2) وخيبر والفتح وحنين والطائف، وأعظم ما كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ تبوك بَلَغوا عشراتِ ألوفٍ، ولكن لم يكن في تبوك قِتالٌ، بل أقامَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبوكَ عشرين يومًا يَقْصُر الصلاةَ، وكان قد جاء لقتالِ النصارى من الروم والعرب وغيرهم، فلم يُقدِمُوا على قتاله.   (1) أخرجه البخاري (2846 ومواضع أخرى) ومسلم (2415) عن جابر بن عبد الله. (2) في الأصل رسم كلمة غير واضحة، والمقصود ما أثبتُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 وأما هذه المحاربات التي يذكرها الكذّابون، وكثرة القتلى التي يذكرها أهل الفِرية، فكذبُها معروفٌ عند كل عالمٍ. وإذا كان القتلى نحوًا ممن ذكروا [و] المُقاتِلةُ في الصحابة كثيرون من المهاجرين والأنصار، مثل عمر وعلي وحمزة والزبير والمقداد وأمثالهم، ومثل أبي أيوب وأبي طلحة وأبي قتادة وأبي دُجانة، ثم مثل خالد بن الوليد وأمثاله، وقَتْلُ الواحدِ من هؤلاء يُقارِبُ قتلَ عمر وعلي وغيرهما، ينقص عنه أو يزيد عنه، ولهذا لما جاء علي رضي الله عنه أخذ بسيفِه إلى فاطمة وقال: اغسليه عن دمهم، قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن تكن أحسنتَ فقد أحسنَ فلان وفلان" (1) وسمَّى طائفة من المسلمين-: عُلِمَ (2) أنه لم يمتنع أن يكون أحد من الخلفاء قَتَلَ مئة من الكفار مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأما خالد بن الوليد والبراء بن مالك وأمثالهما فهؤلاء قتلَ الواحدُ منهم مئةً وأكثر، لمغازيهم بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهم لما غَزَوا أهلَ الردَّة وفارس والروم كان القتلى من الكفّار كثيرًا جدًّا لكثرة الجموع. والخلفاء الراشدون لم يَغزُ أحدٌ منهم بعد موتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا باشرَ بنفسه قتال الكفّار بعده، وإنما كانوا هم أولي الأمر، فكان أبو بكر يُشاوِر عمر وعثمان وعليا وغيرهم، وكذلك عمر كان يُشاوِر هؤلاء وغيرهم، وهم عنده. ولكن الزبير بن العوَّام شَهِدَ فتح مصرَ، وسعد ابن أبي وقاص فتح العراق، وأبو عبيدة بن الجراح فتح الشام. وإذا تبيَّن هذا فالشجاعة هي ثباتُ القلب وقوتُه، وقوَّةُ الإقدامِ   (1) كما في سيرة ابن هشام (3/106) عن ابن إسحاق، و"دلائل النبوة" للبيهقي (3/215) عن موسى بن عقبة. وأورد ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/449، 450) روايات أخرى في هذا الباب. وانظر "منهاج السنة" (4/481، 8/94) . (2) جواب "إذا كان القتلى ... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 على العدوِّ، والبعدُ عن الجزع والخوف، فهي صفة تتعلق بالقلب، وإلاَّ فالرجل قد يكون بدنُه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي، وهو ضعيف القلب جَبَان، وهذا عاجزٌ. وقد يكون الرجل يَقتُل بيده خلقًا كثيرًا، وإذا دَهَمَتْه الأمور الكبار مالتْ عليه الأعداءُ، فيضعُف عنهم أو يَخاف. وأبو بكر الصديق كان أقوى الصحابة قلبًا وأربطَهم جَأْشًا وأعظمهم ثباتًا وأشدَّهم إقدامًا وأبعدَهم عن الجزع والضعف والجبن، ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْحَبُه وحدَه في المواضع التي يكون أخوف ما يكون فيها، كما صحبه في الهجرة، وكان معه في الغار، والأعداء يطلبهما ويَبذل ديتهما لمن يأتي بهما، وكان معه في العريش يومَ بدرٍ وحدَه والكفَّارُ قاصدون الرسولَ خصوصًا. ولهذا لما مات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظهر من شجاعتِه وبَسَالتِه وصبرِه وثباتِه وسياستِه وتدبيرِه وإمامتِه للدين وقَمْعِه للمرتدّين ومعونتِه للمؤمنين وسَدِّ ظهورهم ما لا تَتَّسَح هذه الورقة. وكل من له بالشجاعةِ أدنى خبرة يَعلَم أَنه لم يكن منهم من يُقارِبُه في الشجاعة فضلاً أن يُشَارِيَه. وكذلك كان عمر، كان أشجعهم بعده، كما أن أبا بكر كان أعلمهم، كما ذكر الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني إجماع العلماء على أن أبا بكر أعلمُ الأمة بعد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو مبسوط في غير هذا الموضع (1) . والله أعلم.   (1) انظر "منهاج السنة" (8/82- 89) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 تفسير أول سورة العنكبوت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 قال شيخ الإسلام بحر العلوم مفتي الفرق أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله: فصل قال الله تعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)) (1) . وقال الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)) (2) . وقال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) (3) قال بعد ذلك:   (1) سورة العنكبوت: 1-11. (2) سورة البقرة: 214. (3) سورة النحل: 106. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)) (1) . فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إمّا أن يقول أحدهم: آمنّا، وإما أن لا يقول: آمنّا، بل يستمر على عمل السيئات. فمن قال "آمنّا" امتحنه الرب عزّ وجل وابتلاه، وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل "آمنّا" فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته، فإنَّ أحدًا لن يُعجز الله تعالى. هذه سنته تعالى، يُرسل الرسل إلى الخلق، فيكذبهم الناس ويؤذونهم، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ) (2) ، وقال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (3) ، وقال تعالى: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) (4) . ومن آمن بالرسل وأطاعهم عَادَوه وآذَوه، فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم عُوقِب، فحصَلَ ما يؤلمه أعظم وأدوم. ف لابد من حصول الألم لكل نفسٍ سواءً آمنت أم كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة. والكافر تحصل له النعمة ابتداءً، ثم يصير في الألم. سأل رجل الشافعيَّ فقال: يا أبا عبد الله! أيما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يُبتلَى؟ فقال الشافعي: لا يمكَّن حتى يُبتلَى، فان الله ابتلى   (1) سورة النحل: 110. (2) سورة الأنعام: 112. (3) سورة الذاريات: 52. (4) سورة فصلت: 43. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامُه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنَهم، فلا يظن أحدٌ أن يخلص من الألم البتَّهَ. وهذا أصلٌ عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان مدنيّ الطبع، لابدَّ له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذَّبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم. ومن اختبر أحوالَه وأحوالَ الناس وجدَ من هذا شيئًا كثيرًا، كقومٍ يريدون الفواحش والظلم، ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك، فهم مرتكبون بعض ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)) (1) . وهم في مكان مشترك، كدارٍ جامعة أو خانٍ أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة فيها غيرهم، وهم لا يتمكنون مما يريدون إلا بموافقة أولئك، أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم، فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت، فإن وافقوهم أو سكتوا سَلِمُوا من شرهم في الابتلاء، ثمَّ قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يُهِينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافونه ابتداءً، كمن يطلب منه شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل، إما في الخبر، وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم، فإن لم يُجِبهم آذَوه وعَادَوه، وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيُهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه، وإلاّ عذب بغيرهم.   (1) سورة الأعراف: 33. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 فالواجب ما في حديث عائشة الذي بَعَثَتْ به إلى معاوية، ويُروى موقوفًا ومرفوعًا (1) : "من أرضى اللهَ بسخط الناسِ كفاه الله مؤونةَ الناس -وفي لفظ: رضي الله عنه وأرضى عنه الناس-، ومن أرضى الناسَ بسخط الله لم يُغْنُوا عنه من الله شيئًا -وفي لفظٍ: عاد حامدُه من الناس ذامًّا-". وهذا يجرى فيمن يُعِين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يُعِين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم. فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعلِ المحرم وصبَر على أذاهم وعداوتهم، ثمَّ تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم، مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعُبَّادِها وتُجَّارِها ووُلاتِها. وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطانُ المخالفة، كالمُكْرَه على الكفر، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا أنه لابدّ من الابتلاء بما يؤذي الناس، فلا خلاصَ لأحدٍ ممّا يؤذيه البتَّة. ولهذا ذكر الله تعالى في غير موضع أنه لابدّ أن يبتلي الناس، والابتلاء يكون بالسرَّاء والضرَّاء، ولابدَّ أن يَبتليَ الإنسانَ بما يَسُرُّه ويسوؤه، فهو محتاج إلى أن يكون صابرًا شكورًا، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)) (2) ، وقال تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)) (3) ، وقال تعالى:   (1) أخرجه بالوجهين الترمذي (2414) . وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (ص66) وأحمد في "الزهد" (ص165) والحميدي في "مسنده" (1/129) وعبد بن حميد في "مسنده" (1524) من طرق مختلفة بألفاظ متقاربة. (2) سورة الكهف: 7. (3) سورة الأعراف: 168. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)) (1) ، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)) . هذا في آل عمران (2) ، وقد قال قبل ذلك في البقرة، فإن البقرة نزل أكثرها قبل آل عمران: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)) (3) . وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء، كالذهب الذي لا يخلص جيَّدُه من رديئه حتى يُفْتَنَ في كِيْرِ الامتحان، إذ كانت النفس جاهلة ظالمةً، وهي مَنْشأ كلِّ شرٍّ يَحصُل للعبد، فلا يحصل له شرّ إلا منها، قال تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (4) ، وقال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (5) ، وقال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)) (6) ، وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (7) ، (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)) (8) .   (1) سورة طه: 123- 124. (2) الآية 142. (3) سورة البقرة: 214. (4) سورة النساء: 79. (5) سورة آل عمران: 165. (6) سورة الشورى: 30. (7) سورة الأنفال: 53. (8) سورة الرعد: 11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت، وفي كلِّ ذلك يقول: إنهم ظلموا أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون، وأول من اعترف بذلك أبواهم، قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)) (1) ، وقال لإبليس: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) (2) ، وإبليس إنما تبعه الغواة منهم، كما قال: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (3) ، وقال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (4) . والغيّ: اتباع هوى النفس. وما زال السلف معترفين بذلك كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود (5) : أقول فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. وفي الحديثِ الإلهي حديثِ أبي ذر (6) الذي يرويه الرسول عن ربّه عزّ وجلّ: "يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". وفي الحديث الصحيح (7) حديث سيد الاستغفار أن يقول العبدُ:   (1) سورة الأعراف: 23. (2) سورة ص: 85. (3) سورة الحجر: 39- 40. (4) سورة الحجر: 42. (5) انظر "جامع بيان العلم" (2/830، 852، 911) و"الإحكام" لابن حزم (6/50) و"تلخيص الحبير" (4/195) . (6) أخرجه مسلم (2577) . ولشيخ الإسلام شرح عليه، انظرا "مجموع الفتاوى" (18/136- 209) . (7) أخرجه البخاري (6306، 6323) عن شدّاد بن أوس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". من قالها إذا أصبح موقنًا بها فماتَ من يومِه دخلَ الجنَّة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنَّة". وفي حديث أبي بكر الصديق (1) من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمرو أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علَّمه ما يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعَه: "اللهم فاطرَ السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ربّ كلّ شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنتَ، أعوذ بك من شرِّ نفسي وشرِّ الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجرّه إلى مسلم". قُلْه إذا أصبحت وإذا أمسيتَ وإذا أخذتَ مضجعَك. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في خطبته (2) : "الحمد لله، نستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا". وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني آخذ بحُجزكم عن النار وأنتم تتهافتون تهافُتَ الفَراشِ" (3) . شبَّهَهم بالفراش لجهله وخفّة حركته، وهي صغيرة النفس، فإنها جاهلة سريعة الحركة.   (1) أخرجه أحمد (2/196) والبخاري في "الأدب المفرد" (1204) والترمذي (3529) من طريق أبي راشد الحبراني عن عبد الله بن عمرٍ وفي صحيفته. وأخرجه أحمد (1/14) من طريق مجاهد عن أبي بكر. وأخرجه أبو داود (5083) من طريق شريح عن أبي مالك الأشعري. (2) أخرجه أحمد (1/392، 432) وأبو داود (2118) والنسائي (3/104) من طريق أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود. وله طرق أخرى عن ابن مسعود وشواهد جمعها الشيخ الألباني وتكلم عليها في رسالة مفردة. (3) أخرجه البخاري (6483) ومسلم (2284) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 وفي الحديث: "مثل القلب مثل ريشةٍ مُلْقَاةٍ بأرض فلاةٍ" (1) . وفي حديث آخر: "لَلقلبُ أشدُّ تقلُّبًا من القِدرِ إذا استجمعتْ غَلَيانًا" (2) . ومعلوم سرعة حركة الريشة والقدر مع الجهل. ولهذا يقال لمن أطاع من يُغويه: إنه استخفَّه. قال عن فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (3) . وقال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)) (4) ، فإن الخفيف لا يثبت بل يَطِيشُ، صاحب اليقين ثابت. يقال: أيقنَ، إذا كان مستقرًا، واليقين: استقرار الإيمان في القلب علمًا وعملاً، فقد يكون علم العبد جيّدًا، لكن نفسه لا تصبر عند المصائب بل تطيش. قال الحسن البصري: إذا شئت أن ترى بصيرًا لا صبرَ له رأيتَه، وإذا شئتَ أن ترى صابرًا لا بصيرةَ له رأيتَه، فإذا رأيتَ بصيرًا صابرًا فذاك. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ (24)) (5) . ولهذا تُشبَّه النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادِها، وغضبُها وشهوتُها من النار، والشيطان من النار. وفي السنن (6) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، وإنما تُطفَأ النّارُ بالماء، فإذا غَضِبَ أحدُكم فليتوضأ". وفي الحديث الآخر (7) :   (1) أخرجه أحمد (4/419) وابن ماجه (88) من حديث أبي موسى الأشعري. (2) أخرجه أحمد (6/4) عن المقداد بن الأسود. (3) سورة الزخرف: 54. (4) سورة الروم: 60. (5) سورة السجدة: 24. (6) أخرجه أبو داود (4784) وأحمد (4/226) عن محمد بن عطية السعدي عن أبيه مرفوعًا. وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" (ص475) . (7) أخرجه أحمد (3/19، 61) والترمذي (2191) عن أبي سعيد الخدري.= الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 "الغضب جمر تُوقَد في جوف ابن آدم، إلا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجِه"، وهو غليان دم القلب لطلب الانتقام. وفي الحديث المتفق على صحته (1) : "الشيطان يجري من اَبن آدم مجرى الدم". وفي الصحيحين (2) أن رجلين استبَّا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اشتدَّ غضبُ أحدهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لأعلم كلمةً لو قالَها لذهبَ عنه ما يجدُ، لو قال: أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم". وقد قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (39)) (3) ، وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)) (4) ، وقال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)) (5) .   =وضعفه العراقي في "تخريج الإحياء" (3/167) . (1) أخرجه البخاري (2035، 2038 ومواضع أخرى) ومسلم (2175) عن صفية بنت حيي. (2) أخرجه البخاري (3282) ومسلم (2610) عن سليمان بن صُرَد. (3) سورة فصلت: 34- 36. (4) سورة الأعراف: 199- 200. (5) سورة المؤمنون: 96- 98. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 مسألة في قوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ … ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 مسألة في قوله عز وجل (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)) الآية (1) . الجواب الحمد لله. المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، كما في قوله تعالى (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (2) ، وقال تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) (3) ، (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ) (4) ، وقال تعالى عن قوم فرعون: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) (5) . وهذه الآية نزلت في سياق الأمر بالجهاد وذمّ المنافقين، فقال تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)) (6) . كانوا إذا أصابهم نصرٌ ورزقٌ ونحو ذلك قالوا: هذا، من الله، وإذا أصابهم خوفٌ وقحطٌ ونحو ذلك قالوا: هذا من   (1) سورة النساء: 78. (2) سورة الأعراف: 168. (3) سورة آل عمران: 120. (4) سورة التوبة: 50. (5) سورة الأعراف: 131. (6) سورة النساء: 78. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 محمدٍ بسبب الدين الذي جاء به، كما قال قوم فرعون في حق موسى، فقال الله تعالى: (فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)) ، فإن محمدًا إنَّما جاءهم بالهدى والحق، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر. ثم قال (1) : (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) من نصرِ ورزقٍ ونحو (فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) من خوفِ وجَدْبِ وغير ذلك (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي بذنوبك، وكان ذلك بقضاء الله وقدره، ولكن القدر نؤمن به ولا نحتج به، فليس للعبد على الله حجة، بل لله الحجة البالغة. ونظير هذا قوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)) (2) ، وقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)) (3) وقوله: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (4) . وفي الصحيح (5) : "إن الله يقول: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ أوفيكم إياها، فمن وَجَد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه". وفي سيد الاستغفار أن يقول العبد: "اللهُمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتَني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أَبُوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأَبُوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". مَن قال ذلك إذا أصبحَ موقنًا به فماتَ من يومِه دخل الجنة، ومن قاله إذا   (1) سورة النساء: 79. (2) سورة الشورى: 30. (3) سورة الروم: 36. (4) سورة آل عمران: 165. (5) مسلم (2577) عن أبي ذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 أمسى موقنًا به فماتَ من ليلتِه دخل الجنة. رواه البخاري (1) . وقوله "أبوءُ لك بنعمتك عليَّ" أي أَعترِف وأُقِرُّ بنعمتك، وأعترف وأُدرُّ بذنوبي. فمن قال: إنه لا يُؤاخَذ، أو إنه لم يُذنِب ولم يُخطِئْ، أو إنّ من شَهِدَ الحقيقةَ سقطَ الأمرُ والنهيُ والعقابُ والثوابُ-: فهو مشركٌ أكفر من اليهود والنصارى، ومن قال: إن الله لم يُقدِّرْ ذلك ولم يَقضِه، فهو من مجوس هذه الأمة القدرية. ومن آمنَ بأن كلَّ شيء بقضاءِ الله وقدره، وعَلِمَ أن القدرَ يُؤمَن به ولا يُحتَجُّ به على الله، وأنه ليس للعبد على ربّه حُجَّة، بل لله الحجة البالغة، فإذا عَمِلَ حسنةً شكَرَ الله عليها، وإذا عَمِلَ سيئةً استغفر الله منها-: فهو موحِّد. ومن قال: إن الحسنات والسيئات في هذه الآية المراد بها الطاعات والمعاصي، كما في قوله (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) (2) فهو مخطئٌ غالط، فإنّ هذا يَلزم منه تناقضُ القرآن، فإنه قد أخبرَ أن كُلاًّ من عند الله، وأخبر أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك. وأيضًا فإنه قال "ما أصابك"، ولم يقل "ما أصبتَ"، فلو أراد أفعالَ العباد لقال: "ما أصبت" أو "ما كسبتَ" أو "ما فعلتَ" ونحو ذلك. ولكن أرادَ النِّعَم والمصائب، وهي جميعُها من عند الله، لكن النعم من إنعامه وإحسانه، والمصائب بسبب ذنوب العباد، ولهذا قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (3) . والله أعلم. أجاب به أحمد بن تيمية أيَّده الله تعالى.   (1) برقمي (6306، 6323) عن شداد بن أوس. (2) سورة الأنعام: 160. (3) سورة الأنفال: 33. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات وبيان اقتران التهليل بالتكبير والتسبيح بالتحميد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرا دائما إلى يوم الدين. فصل في الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربعٌ وهنَّ من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر". وقد ذكرنا ما يتعلق بمعانيها في مواضع (2) ، والمقصود هنا أن نقول : التسبيح مقرون بالتحميد، والتهليل مقرون بالتكبيرِ، فإن الله تعالى يذكر في غير موضع التسبيحَ بحمده، كقول الملائكة: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) (3) ، وقوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (4) ، وقوله تعالى: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (5) ، وقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (6) ، وقو له: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)) (7) . ولا ريبَ أن الصلاة الشرعية تتضمن ما أمر به من التسبيح بحمده، كما قد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في مثل حديث جرير المتفق عليه (8) أنه   (1) مسلم (2137) عن سمرة بن جندب. (2) انظر "مجموع الفتاوى" (24/231 وما بعدها) . (3) سورة البقرة: 30. (4) سورة غافر: 7. (5) سورة البقرة: 30. (6) سورة طه: 130. (7) سورة الطور: 48. (8) البخاري (7434، 7435، 7436 ومواضع أخرى) ومسلم (633) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 نظر إلى القمر فقال: "إنكم سترون ربَّكمِ كما ترون هذا القمر لا تُضَامُّون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)) (1) . وأيضًا ففي صحيح مسلم (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سُئِل أيُّ الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده". وفي الصحيحين (3) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". وأما التكبير فهو مقرونٌ بالتهليل في الأذان، فإن المؤذن يكبّر ويهلّل، وفي تكبير الإشراف: كان إذا عَلاَ نشزًا كبَّر ثلاثًا وقال: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعدَه، ونصَر عبدَه وأعزَ جندَه، وهزم الأحزاب وحده". وهو في الصحيحين (4) . وكذلك على الصفا والمروة، وكذلك إذا ركب دابة، وكذلك في تكبير الأعياد. والتكبير مشروعٌ في الأماكن العالية، والتسبيح عند الانخفاض، كما في السنن عن جابر (5) قال: كنا مع رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عَلَونا   (1) سورة ق: 39. (2) برقم (2731) عن أبي ذر. (3) البخاري (7563 ومواضع أخرى) ومسلم (2694) . (4) البخاري (1797 ومواضع أخرى) ومسلم (1344) عن ابن عمر. (5) أخرجه أيضًا البخاري (2993، 2994) والنسائي في "السنن الكبرى" (6/139) والدارمي (2677) وابن خزيمة (2562) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 كبّرنا، وإذا هبطنا سبَّحنا". فوُضِعت الصلاة على ذلك، والمصلي في ركوعه وسجوده يُسبِّح، ويكبِّر في الخفض والرفع، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بمثل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن اقتران التهليل بالتكبير قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعدي بن حاتم: "يا عديّ! ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم مِن إلهٍ إلا الله؟ ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ". رواه أحمد والترمذي (1) وغيرهما. فنقول : التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات، نَفْي المعائب وإثبات المحامد، وذلك يتضمن التعظيم، ولهذا قال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) (2) ، وقال: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)) (3) . وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اجعلوا هذه في ركوعكم، وهذه في سجودكم" (4) . وقال: "أما الركوع فعظِّموا فيه الرب" (5) . فالتسبيح يتضمن التنزيه المستلزم للتعظيم، والحمد يتضمن إثبات المحامد المتضمن لنفي نقائصها. وأما التهليل والتكبير فالتهليل يتضمن اختصاصَه بالإلهية، وما يستلزم الإلهيةَ فهذا لا يكون لغيره، بل هو مختصّ به، والتكبير   (1) أخرجه أحمد (4/378) والترمذي (2953، 2954) من طريق سماك بن حرب عن عبَّاد بن حبيش عن عديّ. (2) سورة الأعلى: 1. (3) سورة الواقعة: 74، 96 وسورة الحاقة: 52. (4) أخرجه أحمد (4/155) وأبو داود (869) وابن ماجه (887) عن عقبة بن عامر الجهني. (5) أخرجه مسلم (479) عن ابن عباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 يتضمن أنه أكبر من كل شيء، فما يَحصُلُ لغيره من نوع صفات الكمال -فإنّ المخلوقَ متصفٌ بأنه موجود وأنه حيٌّ وأنه عليم قدير سميع بصير إلى غير ذلك- فهو سبحانَه أكبر من كل شيء، فلا يساويه شيء في شيء من صفات الكمال، بل هي نوعان: نوع يختصُّ به ويمتنع ثبوته لغيره، مثل كونه ربّ العالمين، وإله الخلق أجمعين، الأول الآخر الظاهر الباطن القديم الأزلي الرحمن الرحيم مالك الملك عالم الغيب والشهادة، فهذا كله هو مختصٌّ به، وهو مستلزم لاختصاصه بالإلهية، فلا إله إلا هو، ولا يجوز أن يُعبَد إلا هو، ولا يُتوكل إلاّ عليه، ولا يُرغَب إلا إليه، ولا يُخشَى إلا هو. فهذا كلُّه من تحقيق "لا إله إلا الله". وأما "الله أكبر" فكل اسم يتضمن تفضيله على غيره، مثل قوله: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)) (1) ، وقوله: (فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)) (2) ، وقوله: (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)) (3) و (وَأَنتَ خَيرُ الغَافِرينَ (155)) (4) ، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعديّ بن حاتم: "أيُفِرُّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ". وأما قول بعض النحاة إن "أكبر" بمعنى كبير، فهذا غلط مخالفٌ لنصّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولمعنى الاسم المنقول بالتواتر. وكذلك قول بعض الناس إنه أكبرُ مما يُعلَم ويُوصَف ويُقَال، جَعَلوا معنى "أكبر" أنه أكبر مما في القلوب والألسنة من معرفته ونَعْته، أي هو فوق معرفةِ   (1) سورة العلق: 3. (2) سورة المؤمنون: 14. (3) سورة الأعراف: 151، وسورة الأنبياء: 83. (4) سورة الأعراف: 155. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 العارفين، وهذا المعنى صحيح، لكن ليس بطائل، فإن الأنبياء والرسل والملائكة والجنة والنار وما شاء الله من مخلوقاته هي أكبر مما يعرفه الناس، قال الله تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ، وقال تعالى: "أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خَطَر على قلبِ بشر" (2) . فبعض مخلوقاته هي أكبر في معرفة الخلق من البعض، بخلاف ما إذا قيل إنه أكبر من كل شيء، فهذا لا يشركه فيه غيرُه. وبذلك فَسَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الكلمة في مخاطبته لعدي بن حاتم حيث قال: "أيُفِرّك أن يقال الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ". وعلى هذا فعِلمُه أكبر من كل علم، وقدرتُه أكبر من كل قدرة، وهكذا سائر صفاته، كما قال تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (3) . فشهادته أكبر الشهادات. فهذه الكلمة تقتضي تفضيلَه على كل شيء مما تُوصف به الأشياء من أمور الكمالات التي جعلَها هو سبحانه لها. وأما التهليل فيتضمن تخصيصَه بالإلهية، ليس هناك أحد يتصف بها حتى يقال إنه أكبر منه فيها، بل لا إله إلا الله. وهذه تضمنت معنى نفي الإلهية عمّا سواه وإثباتها له، وتلك تضمنت أنه أكبر مطلقًا، فهذه تخصيص وهذه تفضيل لما تضمنه التسبيح والتحميد من النفي والإثبات، فإنّ كل ذلك إما أن يكون مختصًّا به، أو ليس كمثله أحدٌ فيه.   (1) سورة السجدة: 17. (2) أخرجه البخاري (4780) ومسلم (2824) عن أبي هريرة. (3) سورة الأنعام: 19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 ولهذا كان التكبير مشروعًا على مشاهدة ماله نوع من العظمة في المخلوقات، كالأماكن العالية، والشياطين تهرب عند سماع الأذان، والحريقُ يُطفَأ بالتكبير، فإن مَرَدَة الإنس والجن يستكبرون عن عبادته ويَعلُون عليه ويُحادُّونه، كما قال عن موسى وجاءهم رسول كريم: (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)) (1) . فالنفوس المتكبرة تَذِلُّ عند تكبيره سبحانه. و التهليل يمنع أن يُعبَد غيرُه، أو يُرجَى أو يُخَاف أو يُدعَى، وذلك يتضمن أنه أكبر من كل شيء، وأنه مستحقٌّ لصفات الكمال التي لا يستحقها غيرُه، فهي أفضل الكلمات، كما في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبةً أو ستون، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (2) . وفي حديث "الموطأ" (3) : "أفضل ما قُلتُ أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". وفي سنن ابن ماجه (4) وكتاب ابن أبي الدنيا (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله". وهذه الكلمة هي أساس الدين، وهي الفارقة بين أهل الجنة   (1) سورة الدخان: 19. (2) أخرجه البخاري (9) ومسلم (35) عن أبي هريرة. (3) 1/422، 423 عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلاً. وصححه الألباني لشواهده في "الصحيحة" (1503) . (4) برقم (3800) عن جابر. وأخرجه أيضًا الترمذي (3383) والنسائي في الكبرى (6/208) . (5) كتاب الشكر (102) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 وأهل النار، كما في صحيح مسلم (1) عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الموجبتان: من مات لا يُشرِك بالله شيئا دخلَ الجنَّة، ومن مات يُشرك بالله شيئًا دخل النار". وفي الصحيح (2) عنه: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وفي الصحيح (3) أيضًا: "لَقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله". وهي الكلمة الطيبة التي ضربها الله مثلاً كشجرةٍ طيبة، وهيِ بُعِث بها جميعُ الرسل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)) (4) ، (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)) (5) . وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم في عَقِبه: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)) (6) . وهي دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ) (7) ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) (8) . وكل خطبة لا تكون فيها شهادة فهي جَذْماء، كما في سنن الترمذي (9) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كل خطبة ليس فيها تشهُّدٌ فهي   (1) برقم (93) . (2) مسلم (26) عن عثمان. (3) مسلم (916) عن أبي سعيد الخدري. (4) سورة الأنبياء: 25. (5) سورة الزخرف: 45. (6) سورة الزخرف: 28. (7) سورة آل عمران: 19. (8) سورة آل عمران: 85. (9) برقم (1106) . وأخرجه أيضًا أحمد (2/302، 343) وأبو داود (4841) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 كاليد الجذماء". و الحمد مفتاح الكلام، كما في سنن أبي داود (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بالحمد فهو أجذم". ولهذا كانت السنة في الخُطَب أن تُفتَتح بالحمد، ويُختَم ذكرُ الله بالتشهد، ثم يتكلم الإنسان بحاجته، وبها جاء التشهد في الصلاة أوّله: "التحيات لله"، وآخره: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه". وفاتحة الكتاب نصفان: نصفٌ لله، ونصفٌ للعبد، ونصفُ الربّ أوله حمد وآخره توحيد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، ونصف العبد هو دعاء، وأوله توحيد (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) . والتكبير والتهليل والتسبيح مقدمة التحميد، فالمؤذن يقول: "الله أكبر الله أكبر"، ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، ويختم الأذان بقوله: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله". وكذلك تكبيرات الإشراف والأعياد تُفتَتح والتكبير وتُختَم بالتوحيد، فالتكبير بساط. وكذلك التسبيح مع التحميد "سبحان الله وبحمده"، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، لأن التسبيح يتضمن نفي النقائص والعيوب، والتحميد يتضمن إثبات صفات الكمال التي يُحمَد عليها. فصل وهو في نفس الأمر لا إله غيره، وهو أكبر من كل شيء، وهو المستحق للتحميد والتنزيه، هو متصف بذلك كلّه في نفس الأمر. فالعباد لا يثبتون له بكلامهم شيئًا لم يكن ثابتًا له، بل المقصود بكلامهم تحقيق ذلك في أنفسهم، فإنهم يَسْعَدون السعادة التامة، إذا   (1) برقم (4840) عن أبي هريرة. وأخرجه أيضًا أحمد (2/359) وابن ماجه (1894) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 صار أحدهم ليس في نفسه إله إلا الله خَلَصَ من شرك المشركين، فإن أكثر بني آدم كما قال تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)) (1) ، فهم يُقِرُّون أنه ربّ العالمين لا ربّ غيرُه، ومع هذا يُشرِكون به في الحبِّ أو التوكُل أو الخوف أو غير ذلك من أنواع الشرك. وأما التوحيد أن يكون الله أحبَّ إليه من كلّ ما سواه، فلا يُحِبّ شيئًا مثل ما يُحبّ الله، ولا يخافه كما يخاف الله، ولا يرجوه كما يرجوه، ولا يُجلُّه ويُكرِمه مثل ما يُجلّ الله ويُكرمُه، ومن سَوَى بينه وبين غيره في أمَر من الأمور فهو مشركَ، إذ كان المشركون لا يُسَوُّون بينه وبين غيره في كل [شيء] ، فان هذا لم يقله أحدٌ من بني آدم، وهو ممتنع لذاتِه امتناعًا معلومًا لبني آدم، لكن منهم من جَحَده وفَضَّلَ عليه غيرَه في العبادة والطاعة، لكن مع هذا لم يثبِتْه ويُسوِّ بينه وبين غيرِه في كل شيء، بل في كثير من الأشياء. فمن سوَّى بينه وبين غيرِه في أمرٍ من الأمور فهو مشركٌ، قال الله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)) (2) أي يعدلون به غيره، يقال: عَدَلَ به أي جعله عديلاً لكذا ومثلاً له. وقال تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)) إلى قوله: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)) (3) وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) (4) .   (1) سورة يوسف: 106. (2) سورة الأنعام: 1. (3) سورة الشعراء: 91- 98. (4) سورة البقرة: 165. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 فلا إله إلا هو سبحانه، وما سواه ليس بإلهٍ، لكن المشركون عبدوا معه آلهةً، وهي أسماءٌ سَمَّوها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، كما يُسمِّي الإنسانُ الجاهلَ عالمًا، والكاذبَ صادقًا، ويكون ذلك عنده لا في نفس الأمر. وهؤلاء آلهة في نفوس المشركين بهم ليسوا آلهةً في نفس الأمر. ولهذا كان ما في قلوبهم من الشرك هو إفكًا، قال الله تعالى عن إبراهيم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)) (1) ، وقال أيضًا: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (2) ، وقال: (هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (3) ، وقال هود لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)) (4) . والموحِّد صادق في قوله "لا إله إلا الله"، وكلَّما كرَّر ذلك تحقَّق قلبه بالتوحيد والإخلاص، وكذلك قوله "الله أكبر"، فإنه تعالى كل ما يخطر بنفس العباد من التعظيم فهو أكبر منه، الملائكة والجن والإنس، فإنه أيّ شيء قُدّر في الأنفس من التعظيم كان دون الذي هو متصف به، كما أنه سبحانه فوق ما يُثنِي عليه العباد، كما قال أعلمُ الناس به: "لا أحصِي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك" (5) . فكلَّما قال العبد "الله أكبر" تحقَّق قلبُه بأن يكون الله في قلبه أكبر   (1) سورة الصافات: 85- 86. (2) سورة العنكبوت: 17. (3) سورة الكهف: 15. (4) سورة هود: 50. (5) أخرجه مسلم (486) عن عائشة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 من كل شيء، فلا يبقى لمخلوقِ على القلب ربَّانية تُساوِي ربَّانيةَ الرب، فضلاً عن أن يكون مثلَها، وهذا داخل في التوحيد لا إله إلا الله، فلا يكون في قلبه لمخلوقِ شيء من التألُّه لا قليل ولا كثير، بل التألُّه كلُّه لله، ولكن المخلوق عنده نوع من القدر والمنزلة والمحبة، وليست كقدر الخالق، والمحبّة المأمور بها هي الحبّ لله، كحبّ الأنبياء والصالحين، فهو يحبُّهم لأنّ الله أمر بحبِّهم، فهذا هو الحبّ الله. فأما من أحبَّهم مع الله فهذا مشرك، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) (1) . فالحبُّ في الله إيمان، والحبُّ مع الله شرك. وكذلك إذا قال "سبحان الله والحمد لله" فقد نزَّه الربَّ، فنزَّه قلبَه أن يصف الربَّ بما لا ينبغي له، فكلَّما سبَّح الربَّ تنزَّهت نفسُه عن أن يصف الربَّ بشيء من السوء، كما قال سبحانه: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)) (2) ، وقال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43)) (3) . فهو سبحانَه سبَّح نفسَه عما يَصِفه المفترون والمشركون، فإذا سبّح الربّ كان قد زكى نفسَه. وقد سمَّى الله الأعمال الصالحة زكاة وتزكيةَ في مثل قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (4) . قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (وَيُزَكِّيهِمْ) قال: يعني بالزكاة   (1) سورة البقرة: 165. (2) سورة الصافات: 180. (3) سورة الإسراء: 43. (4) سورة فصلت: 6- 7. (5) سورة البقرة: 129. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 طاعةَ الله والإخلاص (1) ، فجمعَ بين التزكية من الكفر والذنوب. وقال مقاتل بن حيّان: "يزكيكم": يُطهّركم من الذنوب. هكذا قال في آية البقرة (2) ، وقال في آية الصيف (3) : يطهّرهم من الذنوب والكفر. وقال ابن جريج: يطهرهم من الشرك ويخلِّصهم منه. وقال السدّي: يأخذ زكاة أموالهم (4) . ففسّروا الآية بما يعمُّ زكاةَ الأموال وغيرها من الأعمال والأفعال، فالإخلاص والطاعة وتزكيتهم من الذنوب والكفر أعظم مقصود الآية. والمشركون نجس، والصدقة من تمام التطهر والزكاة، كما قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (5) . وكذلك قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (6) قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله (7) . ورُوي عن عكرمة نحو ذلك. وقال قتادة: لا يُقِرُّون بها ولا يؤمنون بها. وكذلك قال السدّي: لا يدينون بها، ولو زكَّوا وهم مشركون لم ينفعهم. وقال معاوية بن قرَّة: ليسوا من أهلها. وقد قال موسى لفرعون: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)) (8) ، وقال عن الأعمى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)) (9) ،   (1) أخرجه الطبري في تفسيره (3/88) . (2) برقم 151. (3) هي في سورة آل عمران: 164. (4) انظر هذه الأقوال في تفسير الطبري (3/88) و"زاد المسير" (1/146) . (5) سورة التوبة: 103. (6) سورة فصلت: 6- 7. (7) أخرجه الطبري (24/60) ، وكذلك روى الآثار التي ذكرها المؤلف هنا. (8) سورة النازعات: 18- 19. (9) سورة عبس: 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (1) ، وقال: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى) إلى قوله: (وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (2) . وكذلك الحمد، كلَّما حَمِدَ العبدُ ربَّه تحققَ حمدُه في قلبه معرفةً بمحامدِه ومحبةً له وشكرًا له. والألف واللام في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فيها قولان (3) ، قيل: هي للجنس، كما ذكره بعض المفسرين من المعتزلة، وتَبعَه عليه بعض المنتسبين إلى السنة. والثاني -وهو الصحيح-: أنها للاستغراق، فالحمد كلُّه لله، كما جاء في الأثر: "لك الحمد كله، ولك الملك كلُّه". فله الحمد حمد مستقل، وله الملك ملك مستقل، ولكن هو سبحانه يُؤتي الملك من يشاء، والذي يُؤتيه هو من ملكه، وكلُّ ما تصرَّف فيه العبد فهو من ملك الربّ، وهو مستقل بالملك، ليس هذا لغيره، كذلك الحمد هو مستقل بالحمد كلِّه، فله الحمد كلُّه وله الملك كلُّه، وكلُّ ما جاء به الإذن من موجود فله الحمد عليه، وكلُّ ما يجعله للعباد مما يُحمَدون عليه فله الحمد عليه، وإذا ألهمهم الحمدَ فهو الذي جعلهم حامدين. والمعتزلة لا يُقِرُّون بأنه جعلَ الحامدَ حامدًا والمصلّيَ مصليًا والمسلمَ مسلمًا، بل يُثبِتُون وجود الأعمال الصالحة من العبد لا من الله، فلا يستحق الحمد على تلك الأعمال على أصلهم، إذ كان ما أعطاهم من القدرة والتمكين وإزاحة العلل قد أعطَى الكفار مثله، لكن المؤمنون استقلوا بفعل الحسنات، كالأب الذي يُعطي ابنَيه   (1) سورة الشمس: 9- 10. (2) سورة طه: 74- 76. (3) انظر الكشاف (1/8) والمحرر الوجيز (1/63) والانتصاف (1/8) والقرطبي (1/133) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 مالاً، فهذا يُنفِقه في الطاعة، وهذا يُنفِقه في المعصية. فهو عندهم لا يُمدَح على إنفاق هذا الابن، كما لا يُذَمُّ على إنفاق الآخر. وأما أهل السنة فيقولون كما أخبر الله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) (1) ، وقال أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (2) الآية. وقال الخليل: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) (3) ، وقال هو وابنه إسماعيل: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (4) . ويَحمدون الله حمدَ النعمة وحمدَ العبادة، كما قد بُسِط هذا في الكلام في الشكر. وهو سبحانه جعل مَن شاء من عبادِه محمودًا، ومحمدًا سيد المحمودين، ومحمدٌ تكون صفاتُه المحمودة أكثر، وأحمدُ يكون أحمدَ من غيره، فهذا أفضل، وذاك أكثر. وهو سبحانه جعلَه محمدًا وأحمدَ. فهو المحمود على ذلك، وحمدُ أهل السماوات والأرض جزء من حمده، فإن حمدَ المصنوع حمدُ صانعِه، كما أن كلَّ ملكٍ هو جزءٌ من ملكه، فله الملك وله الحمد. والحمد إنما يتم بالتوحيد، وهو مناط التوحيد ومقدمة له، ولهذا يُفتَح به الكلامُ، ويُثنَّى بالتشهد. وكلُّ كلام لا يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكل خطبة ليس فيها تشهُّدٌ فهي كاليد الجذماء. وإذا كان الحمد كله له .... (5) بخلاف ما إذا أثبت جنس الحمد من غير   (1) سورة الحجرات: 7. (2) سورة الأعراف: 43. (3) سورة إبراهيم: 40. (4) سورة البقرة: 128. (5) هنا بياض في الأصل بقدر كلمتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 استغراق، فان هذا لا يثبت خصائص الربّ التي بها يمتاز عن غيره، فإن الحمد إذا كان للجنس أوجب أن يكون لغيره أفرادٌ من أفراد هذا الجنس، كما تقوله القدرية. وأما أهل السنة فيقولون: الحمد لله كلُّه، وإنما للعبد حمدٌ مقيَّدٌ، لكون الله تعالى أنعمَ عليه، كما للعبد ملكٌ مقيَّدٌ. وأما الملك المستقل والحمد المستقل والملك العام والحمد العام فهو لله رب العالمين، لا إله إلا هو، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير. وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال إذا أصبحَ: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدَك، لا شريك لك، فلك الحمد -فقد أدَّى شكر ذلك اليوم، ومن قال مثل ذلك إذا أمسى فقد أدَّى شكر تلك الليلة". وقال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) (2) . وقال تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)) (3) أي تجعلون شكركم على نعمة الله أنكم تضيفونها إلى غيره بقولكمِ "مُطِرنا بنَوءِ كذا وكذا". وقال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) (4) الآية. وقال: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)) (5) . وفي حديث آخر (6) : "من قال إذا أصبح الحمد لله ربي لا أشرك   (1) أخرجه أبو داود (5073) والنسائي في الكبرى (5/6) عن عبد الله بن غنَّام. (2) سورة النحل: 53- 54. (3) سورة الواقعة: 82. (4) سورة الروم: 33. (5) سورة غافر: 65. (6) أخرجه البزار (كما في "كشف الأستار" 4/24) وابن السني في عمل اليوم= الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 به شيئًا، أشهد أن لا إله إلا الله، ظلَّ تغفر له ذنوبه حتى يُمسِيَ، وإن قالها حين يُمسِيْ ظلَّ تُغفَر له ذنوبه حتى يُصبح". رواه أبان المحاربي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال سعيد بن جبير: إذا قرأتَ (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)) فقل "لا إله إلا الله"، وقل على أثرها: "الحمد لله رب العالمين". ثم قرأ هذه الآية (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . وقد روي نحو ذلك عن ابن عباس. وقد ثبت في الصحيحين (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دبر الصلاة: "لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". وهذا قد ذكره في أوائل هذه السورة، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إلى قوله (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)) (2) . وفي السنن نوعان من الدعاء يقال في كلّ منهما لمن دعا به أنه دعا اللهَ باسمه الأعظم، أحدهما (3) : "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام". والآخر (4) : "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم   =والليلة" (59) من حديث أبان المحاربي. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/116) : فيه أبان بن أبي عياش، وهو متروك. (1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (594) فقط عن عبد الله بن الزبير. (2) سورة غافر: 10- 14. (3) أخرجه أحمد (3/120) وأبو داود (1495) والترمذي (3544) وابن ماجه (3858) عن أنس. (4) أخرجه أحمد (5/349، 350، 360) وأبو داود (1493) والترمذي (3475) وابن ماجه (3857) عن بريدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد". والأول سؤال بأنه المحمود، والثاني سؤال بأنه الأحد، فذاك سؤالٌ بكونه محمودًا، وهذا سؤال بوحدانيته المقتضية توحيدًا، وهو في نفسه محمود يستحق الحمد، معبود يستحقُّ العبادة. والنصف الأول من الفاتحة الذي هو نصف الربّ، أوله تحميد وآخرُه تعبيد، وقد بُسِط مثلُ هذا في مواضع، وبُيِّن أن التحميد والتوحيد مقرونانِ، ولابدَّ منهما في كل خطبة، فكلّ أمرٍ ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكلُّ خطبةٍ ليس فيها تشهُّد فهي كاليد الجذماء. والحمد مقرون بالتسبيح، ولا إله إلا الله مقرون بالتكبير، كذاك تحميدُه وهذا توحيدُه. قال تعالى: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)) (1) ، ففي أحدهما إثباتُ المحامد له، وذلك يتضمن جميعَ صفاتِ الكمال ومنع النقائص، وفي الآخر إثبات وحدانيته في ذلك، وأنه ليس له كُفُوٌ في ذلك. وقد بيَّنّا في غير هذا الموضع أن هذين الأصلين يجمعان جميع أنواع التنزيه، فإثباتُ المحامد المتضمنة لصفات الكمال تستلزم نَفيَ النقص، وإثباتُ وحدانيته وأنه ليس له كفوٌ في ذلك يَقتضِي أنه لا مثلَ له في شيء من صفات الكمال، فهو منزَّهٌ عن النقائص ومنزَّهٌ أن يماثلَه شي بلا في صفات الكمال، كما دل على هذين الأصلين قولُه تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) (2) .   (1) سورة غافر: 65. (2) سورة الإخلاص: 1- 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 واسمُه "الله" تضمَّن جميع المحامد، فإنه يتضمن الإلهيةَ المستلزمةَ لذلك، فإذا قيل "لا إله إلا الله" تضمنت هذه الكلمة إثباتَ جميع المحامد، وأنه ليس له فيها نظير، إذ هو إلهٌ لا إله إلا هو. والشرك كلُّه إثباتُ نظيرٍ لله عز وجلِّ، ولهذا يُسبِّح نفسَه ويُعاليها عن الشرك في مثل قوله (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)) (1) . وقال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)) (2) . فان الشرك قولٌ هو وصف، وعملٌ هو قصد، فنزه نفسه عما يصفون بالقول والاعتقاد وعن أن يُعبَد معه غيره. وأعظم آية في القرآن آية الكرسي، أولها: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (3) . فقوله "الله" هو اسمه المتضمن لجميع المحامد وصفات الكمال، وقوله "لا إله إلا هو" نفي للنُّظراء والأمثال. وكذلك أول الكلمات العشر التي في التوراة: "يا إسرائيل! أنا الله لا إله إلا أنا"، جمع بين الإثبات ونَفْي الشريك، فالإثبات لردّ التعطيل، والتوحيد لنفي الشرك. وهكذا التحميد والتوحيد، فالتحميد متضمن إثبات ما يستحقه من المحامد المتضمنة لصفات الكمال، وهو ردّ للتعطيل، والتوحيد ردّ للشرك، والتحميد يتضمن إثبات أسمائه الحسنى، وكلها محامد له، وهو يتضمن ذكر آياته وآلائه، فإنه محمودٌ على آلائِه كلِّها، وآياته   (1) سورة المؤمنون: 91- 92. (2) سورة الأنبياء: 21- 22. (3) سورة البقرة: 255. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 كلُّها من آلائه، كما قد بُسِط في مواضع. فهو محمود على كلّ ما خلق، له الحمد مِلْء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد ذلك، فله الحمد حمدًا يملأ جميع ما خلقه، ويملأ ما شاء خاصة بعد ذلك، إذ كان كل مخلوق هو محمود عليه، بل هو مسبِّح بحمده، كما قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)) (1) . والتوحيد يقتضي نفيَ كل نِدّ ومثلٍ ونظيرٍ، وهو كمال التحميد وتحقيقه ذاك إثباته بغاية الكمال ونفي النقص، وهذا نفيُ أن يكون له مثل أو نِدٌّ. وقوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) قد فسَّرها كثير من المفسرين أي فصَلِّ بحمد ربك والثناء عليه، لم يذكر ابن الجوزي غير هذا القول، قال (2) : وسبّح بحمد ربك أي صل له بالحمد والثناء عليه. وتفسير التسبيح بالصلاة فيها أحاديث صحيحة وآثار كثيرة، مثل حديث جرير المتقدم. وأما قوله (بِحَمْدِ رَبِّكَ) فقد فسّروه كما تقدم، أي بحمد ربك وشكر ربك وطاعة ربك وعبادة ربك، أي بذكرِك ربَّك وشكرِك ربَّك وطاعتِك ربَّك وعبادتِك ربَّك، ولا ريب أن حمد الربِّ والثناء عليه ركن في الصلاة، فإنها لا تتم إلا بالفاتحة التي نصفها الأول حمدٌ لله وثناءٌ عليه وتحميدٌ له، وقد شُرِع قبل ذلك الاستفتاح، وشُرِع الحمد عند الرفع من الركوع، وهو متضمن لحمد الله تعالى.   (1) سورة الإسراء: 44. (2) زاد المسير (5/333) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 وذكر طائفة من المفسرين كالثعلبي وغيره قولين، قالوا -واللفظ للبغوي (1) -: "وسبّح بحمد ربك" أي صَلِّ بأمر ربك، وقيل: صلِّ له بالحمد له والثناء عليه. فهذا القول الأول الذي ذكره البغوي هو مأثور عن أبي مالك أحد التابعين الذين أخذ عنهم السُّدِّي التفسيرَ من أصحاب ابن عباس. وروى ابن أبي حاتم (2) عن أسباط عن السدّي عن أبي مالك: قوله (بِحَمْدِ) أي بأمر. وتوجيه هذا أن قوله "بحمده" أي بكونه محمودًا، كما قد قيل في قول القائل "سبحان الله وبحمده"، قيل: سبحان الله ومع حمده أسبِّحه، أو أسبِّحه بحمدي له، وقيل: سبحان الله وبحمده سبَّحناه، أي هو المحمود على ذلك، كما تقول: فعلتُ هذا بحمد الله، وصلينا بحمد الله، أي بفضله وإحسانه الذي يَستحقُّ الحمدَ عليه. وهو يرجع إلى الأول، كأنه قال: بحمدِنا الله فإنه المستحق لأن نحمده على ذلك. وإذا كان ذلك بكونه المحمود على ذلك فهو المحمود على ذلك، حيث كان هو الذي أمر بذلك وشرعه، فإذا سبَّحنا سبَّحنا بحمده، كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (3) الآية. وقد يكون القائل الذي قال: "فسبح بحمد ربك" أي بأمره أراد المأمور به، أي سبّحه بما أمرك أن تُسبِّحه به، فيكون المعنى: سَبِّح التسبيحَ الذي أمركَ ربُّك به، كالصلاة التي أمرك بها. وقولنا "صليتُ بأمر الله" و"سبَّحتُ بأمر الله" يتناول هذا وهذا، يتناول أنه أمرَ بذلك ففعلتُه بأمرِه لم أبتدعْه، وأني فعلتُ بما أمرني به لم أبتدعْ.   (1) معالم التنزيل (3/236) . (2) لا يوجد النص في تفسيره المطبوع. (3) سورة آل عمران: 164. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 فأما هذه الآية (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (1) في يذكر البغوي وابن الجوزي إلا أنه الصلاة كما ذكرنا، وكذلك آية "ق"، قال ابن الجوزي (2) : "وسبّح بحمد ربك" أي صَلِّ بالثناء على ربك والتنزيه عما يقول المبطلون. فذكر الثناء والتنزيه عما يقول المبطلون تفسيرًا للحمد. فأما البغوي (3) فإنه قال: فصلِّ حمدًا لله. وهو ينقل ما يذكره الثعلبي في تفسيره في مثل هذه المواضع، والثعلبي يذكر ما قاله غيرُه، سواء قاله ذاكرًا أو آثرًا، ما يكاد هو يُنشئ من عنده عبارةً، وهذه عبارة طائفة قالوا: "سبح بحمد ربك" صَلِّ حمدًا لله، جعلَ نفسَ الصلاة حمدًا، كما يقال: افعلْ هذا حمدًا لله أي شكرًا. وهذا بنَى على قول من قال: "بحمد ربك" أي بكونه محمودًا، ثم جعل المصدر يضاف إلى المفعول. و ليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله. ولفظ التسبيح يُراد به جنس الصلاة، وقد يُراد به جنس الصلاة، وقد يُراد به النافلةُ خصوصًا، فإن الفرض لما كان له اسمٌ يخصُّه جعل هذا اللفظ للنافلة، كما في الحديث (4) : كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسبِّح على راحلته حيث توجَّهتْ به راحلتُه. وكان يُصلِّى سُبحة الضحى، ومنه ما رواه مسلم في صحيحه (5) عن حفصة قالت: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى في سبحته قاعدًا، حتى كان قبل وفاته   (1) سورة طه: 130. (2) زاد المسير (8/23) . (3) معالم التنزيل (4/226) . (4) أخرجه البخاري (1093، 1097، 1104) ومسلم (701) عن عامر بن ربيعة. (5) برقم (733) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 بعامٍ -وفي روايةٍ: أو اثنين- فكان يصلي في سبحته قاعدًا، وكان يقرأ فيها بالسورة فيُرتّلها، حتى يكون أطول من أطول منها. ومنه أيضًا ما أخرجاه في الصحيحين (1) عن عائشة قالت: ما رأيتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلِّي سبحةَ الضحى قَطُّ، وإنّي لأسبِّحها، وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيَدَعُ العمل وهو يُحِبّ أن يعمل به، خشيةَ أن يعمل به الناس فيُفرَض عليهم. لكن هذا يوجد في كلام الفصحاء، تسمية التطوع سُبْحة، خصُّوه بذلك. وأما في كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيحتاج إلى نقل عنه. ويراد بالتسبيح جنس ذكر الله تعالى، يقال: فلان يُسبِّح، إذا كان يذكر الله. ويدخل في ذلك التهليل والتحميد، ومنه سُمِّيت "السبَّاحة" للإصبع التي يشير بها، وإن كان يشير بها في التوحيد. ويراد بالتسبيح قول العبد "سبحان الله"، وهذا أخصُّ به. وفي السنن (2) : لما أنزل الله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)) قال: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) قال: "اجعلوها في سجودكم". وفي الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". وفي الصحيحين (4) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قال في يوم مئة مرة: سبحان الله وبحمده، حُطَتْ عنه خطاياه ولو كأنت مثلَ زبد البحر".   (1) البخاري (1128، 1177) ومسلم (718) . (2) أخرجه أبو داود (869) وابن ماجه (887) عن عقبة بن عامر. (3) البخاري (6406، 6682، 7563) ومسلم (2694) عن أبي هريرة. (4) البخاري (6405) ومسلم (2692) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 وقد قيل: إن الصلاة إنما سُمّيت تسبيحًا لاشتمالها على القيام والقراءة، وتسمّى ركعة وسجدة لاشتمالها على الركعة والسجدة. لكن فرق بين قوله "سبح اسم ربك الأعلى" و"العظيم" -فهذه قد فُسِّرتْ بالتسبيح المجرد قول العبد في ركوعه وسجوده: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى- وبين قوله "فسبح بحمد ربك"، فان هذا إذا قيل: إن المراد بحمدك ربّك أمر بالتسبيح وبالحمد، كقوله "سبحان الله وبحمده". والمصلي إذا حَمِدَ ربَّه في القيام، أو في القيام والقعود، وسبَّح في الركوع والسجود، فقد جمع التسبيح والحمد، فسبَّح بحمد الله. فالصلاة تسبيح بحمد ربه، كما بيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك. وقد فَسَّر طائفة من السلف قوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)) (1) بالتسبيح بالكلام (2) ، وذكروا أنواعًا: التسبيح عند افتتاح الصلاة، والتسبيح عند القيام من المجلس، فروى ابن أبي حاتم (3) عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)) قال: إذا أراد أن يقوم الرجل من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك. هكذا رواه وكيع، ورواه أبو نعيم وقبيصة فقالا: يقول سبحان الله وبحمده. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد: "حين تقوم" قال: من كلّ مجلس. وعن طلحة عن عطاء: حين تقوم من كل مجلس، إن كنتَ أحسنتَ ازددتَ خيرًا، وإن كان غير ذلك كان هذا كفارةً له. وقال طائفة: حين تقوم إلى الصلاة، وكذلك قال الضحاك: حين تقوم إلى الصلاة المفروضة، وكذلك قال ابن زيد: إذا قام إلى الصلاة من   (1) سورة الطور: 48. (2) انظر تفسير الطبري (22/27- 23) . (3) لا يوجد النص في النسخة المطبوعة. ورواه أيضًا الطبري (27/22) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 ليلى أو نهار، وفي رواية جُويبر عن الضحاك قال: هو قول الرجل إذا استفتح الصلاة "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إلهَ غيرُك". وقال أبو الجوزاء: حين تقوم من منامك من فراشك. وعلى هذا فهو أمر بالصلاة إذا قام من فراشه من قائلة النهار، فهو أمر بصلاة الظهر والعصر. و"إدبار النجوم" فسرها طائفة بركعتي الفجر (1) ، وروى ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: "وإدبار النجوم" قال ابن عباس: هو التسبيح أدبار الصلاة. قلت: لعلَّ هذا تفسير لقوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) (2) ، فإنه أنسب. وقد رُوِي عن طائفة من السلف (3) أن "أدبار السجود" الركعتان بعد المغرب، و"إدبار النجوم" ركعتا الفجر، فإحداهما تشتبه بالأخرى. فقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) ، إذا فُسِّر هذا بالتسبيح دُبُرَ الصلاة كان اللفظ دالاً على هذا. والسلف الذين فسّروها بهذا كأنهم -والله أعلم- أرادوا أن أولَ ما يُكتَب في صحيفة النهار ركعتا الفجر، وآخر ما يُرفع ركعتا المغرب، فقد رُوِي أنهما تُرفعان مع عمل النهار. قلت: ولفظ التسبيح يتناول هذا كله، منه واجب ومنه مستحب. (آخره، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا) .   (1) انظر تفسير الطبري (27/23- 24) و"الدر المنثور" (7/636) . (2) سورة ق: 40. (3) انظر تفسير الطبري (26/112- 113) وابن أبي حاتم (10/3310) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 مسألة في إخوة يوسف هل كانوا أنبياء؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 الذي يدلُّ عليه القراَنُ واللغةُ والاعتبار أن إخوةَ يوسف ليسوا بأنبياء، وليس في القرآن ولا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل ولا عن أصحابه خبرٌ بأن الله تعالى نبَّأهم. وإنما احتجّ من قال إنّهم نبِّئُوا بقوله في آيتي البقرة والنساء (وَاَلأَسْبَاطِ) (1) ، وفسّر الأسباط بأنهم أولاد يعقوب، والصواب أنه ليس المراد بهم أولادُه لصلبه بل ذُرِّيّتُه، كما يقال فيهم أيضا "بنو إسرائيل"، وكان في ذريته الأنبياء، فالأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل. قال أبو سعيد الضرير: أصل السِّبْط شجرةٌ ملتفةٌ كثيرة الأغصان (2) . فسُمُّوا الأسباطَ لكثرتهم، فكما أن الأغصان من شجرة واحدة، كذلك الأسباط كانوا من يعقوب. ومثل السبط الحافد، وكان الحسن والحسين سِبْطَي رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأسباط حفدة يعقوب ذَرارِي أبنائه الاثنَي عشر. وقال تعالى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً) (3) ، فهذا صريحٌ في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل، كلُ سِبْطٍ أمةٌ، لا أنهم بَنُوه الاثنا عشر. بل لا معنى لتسميتهم قبل أن تنتشر عنهم الأولاد أسباطًا، فالحال أن السِّبْطَ هم الجماعة من الناس. ومن قال: الأسباط أولاد يعقوب، لم يُرِد أنهم أولادُه لصلبه، بل أرادَ ذريتَه، كما يقال: بنو إسرائيل وبنو آدم. فتخصيصُ الآية ببنيه   (1) سورة البقرة: 136، وسورة النساء: 163. (2) انظر "لسان العرب" (سبط) . (3) سورة الأعراف: 159- 160. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 لصلبه غلط، لا يدلُّ عليه اللفظُ ولا المعنى، ومن ادّعاه فقط أخطأ خطأً بيِّنًا (1) . والصواب أيضًا أن كونهم أسباطًا إنما سُمُّوا به من عهد موسى للآية المتقدمة، ومن حينئذٍ كانت فيهم النبوة، فإنه لا يُعرَف أنه كان فيهم نبيّ قبلَ موسى إلا يوسف. ومما يؤيِّد هذا أنّ الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ) الآيات (2) ، فذكر يوسف ومن معه، ولم يذكر الأسباط، فلو كان إخوةُ يوسف نُبِّئوا كما نبئَ يوسف لذُكِروا معه. وأيضًا فإن الله يذكر عن الأنبياء من المحامد والثناء ما يناسب النبوة، وإن كان قبل النبوة، كما قال عن موسى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) (3) الآية، وقال في يوسف كذلك، وفي الحديث: "أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، نبيّ من نبي من نبي" (4) . فلو كانت إخوتُه أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم، وهو تعالى لما قصَّ قصَّةَ يوسف وما فعلوا معه ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم، ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة، ولا شيئا من خصائص الأنبياء، بل ولا ذكر عنهم توبةً باهرةً كما ذكر عن ذنبه دون ذنبهم، بل إنما حكى عنهم الاعتراف وطلب الاستغفار. ولا ذكر سبحانه عن أحدٍ من الأنبياء -لا قبلَ النبوة ولا بعدها- أنه فعلَ مثلَ هذه الأمورِ العظيمة، من عقوق الوالد وقطيعةِ الرحم وإرقاقِ المسلم   (1) سورة الأنعام: 84 وما بعدها. (2) انظر من قال بذلك في "الحاوي للفتاوي" للسيوطي (1/310) . (3) سورة القصص: 14. (4) أخرجه البخاري (3382، 3390، 4688) عن ابن عمر بنحوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 وبيعه إلى بلاد الكفر والكذب البيّن وغير ذلك مما حكاه عنهم، ولم يَحْكِ شيئًا يناسب الاصطفاءَ والاختصاصَ الموجب لنبوتهم، بل الذي حكاه يخالف ذلك، بخلاف ما حكاه عن يوسف. ثمّ إن القرآن يدلُّ على أنه لم يأتِ أهلَ مِصْرَ نبيٌّ قبلَ موسى سوى يوسف، لآية غافر (1) ، ولو كان من إخوة يوسف نبيٌّ لكان قد دعا أهل مصر، وظهرت أخبار نبوته، فلما لم يكن ذلك عُلِمَ أنه لم يكن منهم نبيٌّ. فهذه وجوهٌ متعددة يُقوِّي بعضُها بعضًا. وقد ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر، وهو أيضًا، وأوصىَ بنقله إلى الشام، فنقلَه موسى. والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم حَصَلَ من ظَنِّ أنهم هم الأسباط، وليس كذلك، إنما الأسباط ذرّيتهم الذين قُطِّعُوا أسباطًا من عهد موسى، كل سِبْطٍ أمة عظيمة. ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال: "ويعقوب وبنيه"، فإنه أوجز وأَبْيَنُ. واختير لفظ "الأسباط" على لفظ "بني إسرائيل" للإشارة إلى أن النبوة إنما حصلتْ فيهم من حينِ تقطيعِهم أسباطًا من عهد موسى. والله أعلم.   (1) الآية 34. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 فتوى في قراءة القرآن بما يخرجه عن استقامته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 الحمد الله رب العالمين. ما تقول أئمةُ الدين -رضي الله عنهم أجمعين، وجعلَهم عاملين بما عَلِمُوا، مخلصين مصيبين- في قراءة القرآن بما يُخرِجُه عن استقامتِه التي أجمعَ أئمةُ القراءةِ عليها، من تمطيطٍ أو ترجيعٍ بالألحان المُطْرِبة، أو ملك مُجمَعٍ على قَصْرِه، أو قَصْرٍ مُجْمَعٍ على مَدِّه، أو إظهار ما أُجْمِع على إدغامِه، أو إدْغامِ ما أُجْمِعَ على إظهارِه، أو تَشْدِيدِ ما أجمِعِ على تخفيفِه، أو تخفيفِ ما أُجمِعَ على تشديدِه، أو بما يُزِيلُ الحرف عن مَخْرجه أو صفتِه، وما أشبهَ ذلك مما يُعَانيه بعض القراء، هل تَجُوز تلك اَلقراءةُ؟ وهل يجوزُ سَماعُها أو استماعُها؟ فإن لم تَجُزْ فهل يَلزَمُ سامعَها أن يُنكِر على قارئها؟ فإن لَزِمَه وتَرَكَ فهل يأثَمُ؟ وإن أنكَر على قارئها، ولم يَقْبَل القارئُ، فهل يجب عليه شيء أم لا؟ أَفْتُونا مأجورين، رحمكم الله، والحمد لله وحده. أجابَ شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية: الحمد لله. الناسُ مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع، كما كان يقرأه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ، فإن القراءةَ سنةٌ يأخذُها الآخر عن الأول. وقد تنازع الناسُ في قراءةِ الألحانِ، منهم مَن كرهَها مطلقًا بل حَرَّمها، ومنهم من رخصَ فيها (1) ، وأعدلُ الأقوالِ فيها أنها إن كانت موافقةً لقراءة السَّلفِ كانت مشروعةً، وإن كانت من البدع المذمومة   (1) انظر تفصيل القول في ذلك في "زاد المعاد" (1/466- 475) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 نُهِيَ عنها. والسلفُ كانوا يحسِّنون القرآنَ بأصواتِهم من غيرِ أن يتكلفوا أوزانَ الغِناء، مثلَ ما كان أبو موسى الأشعري يَفعلُ، فقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لقد أُوتِيَ هذا مِزْمازا من مَزاميرِ آلِ داودَ" (1) . وقال لأبي موسى الأشعري: "مررتُ بك البارحةَ وأنتَ تقرأ، فجعلتُ أستمعُ لقراءتِك"، فقال: لو علمتُ أنك تسمعُ لَحبَّرتُه لكَ تحبيرًا (2) . أي لحسَّنْتُه لك تحسينا. وكان عمر يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى، ذَكِّرْنا ربَّنَا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون لقراءته. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "زَيِّنُوا القرآنَ بأصواتِكم" (3) . وقال: "لَلّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إلى الرجلِ الحسنِ الصوتِ بالقرآنِ من صاحبِ القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِه" (4) . وقال: "ليس منَّا من لم يَتَغَن بالقرآن" (5) . وتفسيرُه عند الأكثرين كالشاْفعي وأحمد بن حنبل وغيرهما هو تَحْسِيْن الصوتِ به. وقد فَسَّره ابن عيينة ووكيع وأبو عبيد على الاستغناء به. فإذا حَسَّنَ الرجلُ صوتَه بالقرآن كما كان السلف يفعلونه -مثل أبي موسى الأشعري وغيره- فهذا حسن. وأما ما أُحدِثَ بعدَهم من تكفُفِ القراءةِ على ألحانِ. الغناءِ فهذا   (1) أخرجه البخاري (5048) ومسلم (793) عن أبي موسى الأشعري. (2) أخرجه أبو يعلى كما في "مجمع الزوائد" (7/170) ، قال الهيثمي: فيه خالد ابن نافع الأشعري، وهو ضعيف. وانظر "فتح الباري" (9/93) . (3) أخرجه أحمد (4/283، 285، 296، 304) وأبو داود (1468) والنسائي (2/179، 180) وابن ماجه (1342) من حديث البراء بن عازب. وصححه ابن حبان والحاكم. (4) أخرجه أحمد (6/19 و20) وابن ماجه (1340) من حديث فضالة بن عبيد. (5) أخرجه البخاري (7527) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 يُنْهَى عنه عند جمهور العلماء، لأنه بدعة، ولأن ذلك فيه تشبيه القرآن بالغناء، ولأن ذلك يُورِثُ أن يَبقَى قلبُ القارئ مصروفًا إلى وزنِ اللفظ بميزان الغناءِ، لا يَتدبَّرهُ ولا يَعقِله، وأن يَبقَى المستمعون يُصغُون إليه لأجل الصوتِ الملحّن كما يُصْغَى إلى الغناء، لا لأجلِ استماعِ القرآن وفهمِه وتدبُّرِه والانتفاع به. والله سبحانه أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 رسالة في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا دَخَل أحدكم على أخيه المسلم فأطعَمه طعامًا فليأكل من طعامه ولا يسأل عنه" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين، وسلَّم تسليما. روى الإمام أحمد في "مسنده" (1) : حدثنا حسين بن محمد، ثنا مسلم -يعني ابن خالد- عن زيد بن أسلم عن سُمَيّ عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمَه طعامًا، فليأكُلْ من طعامه ولا يسأله عنه، وإن سقاه شرابًا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه". هذا حديث رواه مشهورون، ومسلم بن خالد الزنجي وثَّقه بعض الأئمة وضعَّفه بعضهم. وقد رُوِي هذا الحديث من وجهٍ آخر عن أبي هريرة، رواه ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة (2) ، وقد رُوِي موقوفًا. وقد رأيت للشيخ أبي عمر بن عبد البر رسالةً (3) أملاها حين بلغَه -وهو بشاطبةَ- أن قومًا عابوه بأكلِ طعام السلاطين وقبول جوائزهم: قُلْ لمن يُنكِر أَكْلِي لطعامِ الأمَراءِ أنتَ من جهلِك هذا في مَحل السفهاءِ لأن الاقتداء بالصالحين من الصحابة والتابعين وأئمة الدين من المسلمين والسلفِ الماضين هو ملاك الدين، فقد كان زيد بن ثابت   (1) 2/1369. وأخرجه أيضًا أبو يعلى في "مسنده" (6358) والحاكم في "المستدرك" (2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/126) من هذا الطريق. (3) لم أجد لها ذكرًا ضمن مؤلفاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 -وكان من الراسخين في العلم- يَقْبَل جوائزَ معاويةَ وابنِه يزيد، وكان ابن عمر مع ورعه وفضله يَقبل هدايا صِهْرِه المختار بن أبي عبيد، ويأكل طعامه ويأخذ جوائزه، وكان المختار غيرَ مختار. وقال عبد الله بن مسعود -وكان قد مُلِئَ علمًا من قَرنِه إلى مشاعبه- لرجلٍ سأله فقال: إن لي جارًا يعمل الربا، ولا يجتنب في مكسبهَ الحرامَ، يدعوني إلى طعامِه إذا جئتُ، فقال: لك المَهْنَأ وعليه المأثمُ ما لم تعلم الشيء بعينه حرامًا. وسئل عثمان بن عفان عن جوائز السلطان فقال: لَحمُ ظَبْيٍ ذكي. وكان الشعبي -وهو من كبار التابعين وعلمائهم- يُؤدِّب بني عبد الملك بن مروان، ويَقبل جوائزَه، ويأكل طعامَه. وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة والحسن البصري -مع زهده وورعه- وسائر علماء البصرة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبان ابن عثمان والفقهاء السبعة -حاشا سعيد بن المسيّب- يقبلون جوائز السلاطين والأمراء. وقَبِل الحسنُ والشعبي جائزة ابن هبيرة لما سألهما عن حاله مع عبد الملك. وكان سفيان الثوري مع فضله وورعه يقول: جوائزُ السلطان أحبُّ إليَّ من صِلاتِ الإخوان، لأن الإخوان يَمُنُّون والسلطان لا يَمُنُّ. ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير، وقد جمع الناس فيه أبوابًا، ولأحمد بن خالد فقيهِ الأندلس وعالِمها في ذلك كتاب حَمَلَه على جَمْعِه ووَضْعه طَعْنُ أهلُ بلادِه عليه في قبوله جوائزَ عبد الرحمن الناصر إذْ نقلَه إلى المدينة بقرطبة، وأسكَنَه دارًا من دُورِ الجامع قُرْبَه، وأَجرى عليه الرزقَ من الطعام والشراب والإدام والناضّ. وله ولمثله في بيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 المال حظٌّ، والمسئولُ عن التخليط فيه هو السلطان، كما قال عبد الله ابن مسعود: لكَ المَهْنَاُ وعليه المأثمُ لما لم تعلم الشيءَ بعيِنه حرامًا. ومعنى قولِ ابن مسعود هذا قد اجتمع عليه العلماءُ ما لم تعلم الشيءَ بعينه حرامًا مأخوذًا من غير حبِّه، كالخبزة وشِبْهها من الطعام والثوب والدائة، وما كان مثل ذلك كله من الأشياء المبيعة غصبًا أو سرقةً، أو مأخوذة بظلمٍ بَينٍ لا شبهةَ فيه، فهذا الذي لم يَختلِف أحدٌ في تحريمه وسقوطِ عدالة مستحل الحلّة وأخذه وتملكه، وما أعلمُ أحدًا من علماء التابعين تورَّع عن جوائز السلطان إلا سعيد بن المسيب بالمدينة ومحمد بن سيرين بالبصرة، وهما قد ذهبا مثلا بالورع، وسلك سبيلَهما في ذلك أحمد بن حنبل وأهلُ الزهد والورع والتقشف رحمة اللهِ عليهم أجمعين. والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل، ولا يَحِل لمن وفَقه الله تعالى وزَهِد فيها أن يُحرم ما أباحَ اللهُ منها. والعجب من أهل زماننا يعيبون الشهواتِ وهم يستحلُّون المحرماتِ والمنكرات، ومثالُهم عندي كالذين سألوا عبدَ الله بن عمر عن المُحرِم يَقتُل القُرادَ والقملة، فقال للسائلين: مِن أين أنتم؟ فقالوا: من أهل الكوفة، فقال: تسألونّي عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي؟! وروى عبد الله بن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما أتاك من غيرِ مسألة فخُذْه، وتَموَّلْه" (1) . وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناهُ (2) ،   (1) أخرجه البخاري (1473، 7163، 7164) ومسلم (1045) . (2) لم أجد حديثهما، وفي الباب عن غيرهما من الصحابة، انظر "مجمع الزوائد" (3/100-101) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 وفي حديث أحدهما: "إنما هو رزقٌ رَزَقَه الله"، وفي لفظ بعض الرواة: "فلا تَرُدَّ على اللهِ رِزقَه". وهذا كله عند أهل العلم مركَبٌ مبنيٌّ على ما أجمعوا عليه، وهو الحق فيمن عرفَ الشيءَ المحرَّم بعينه أنه لا يَحِلُّ له (1) . والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلّم تسليما.   (1) انظر في هذا الموضوع: "فتح الباري" (3/338، 13/153-154) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 جواب سؤال سائلٍ سألَ عن حرف "لو" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 الحمد لله الذي علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الباهرُ البرهان، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوِله المبعوثُ إلى الإنس والجانّ، صلى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا يَرضى به الرحمن. سألتَ -وفَقك الله- عن معنى حرف "لو"، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله عنه: "نعم العبدُ صهيبٌ، لو لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِه" (1) على معناها المعروف؟ وذكرتَ أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضبت الجواب اقتضابًا أوجبَ أن أكتب في ذلك ما حضرني الساعةَ، مع بُعدِ عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك، وإني ليس يَحضُرني الساعةَ ما أراجعه في ذلك. فأقول، والله الهادي النصير: الجواب مرتبٌ على مقدمات: إحداها: أن حرف "لو" المسئول عنها من أدوات الشرط، وأن الشرط يقتضي جملتين إحداهما شرط والأخرى جزاء وجواب، وربما سُمِّيَ المجموع شرطًا، وسُمّيَ أيضا جزاء. ويقال لهذه الأدوات أدوات الشرط وأدوات الجزاء، والعلم بهذا كلّه ضروريٌّ لمن كان له عقلٌ وعلم بلغة العرب، والاستعمال على ذلك أكثر من أن يُحصَر،   (1) لم يثبت هذا عن عمر وإن اشتهر على لسان الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية. ورُوِي معناه من حديث عمر مرفوعاً في حق سالم مولى أبي حذيفة، ونصه كما في "الحلية" (1/177) : "إن سالمًا شديد الحبّ لله عز وجل، لو كان لا يخاف الله ما عصاه". وسنده ضعيف، انظر "المقاصد الحسنة": 449، و"الدرر المنتثرة": 196. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 كقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) (1) ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)) (2) ، (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) (3) ، (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (4) ، (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً) (5) ، (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) (6) . الثانية: أن هذا الذي تسميه النحاة شرطًا هو في المعنى سببٌ لوجود الجزاء، وهو الذي تُسمِّيه الفقهاءُ علّةً ومقتضيًا ومُوجِبًا ونحو ذلك، فالشرط اللفظي سبب معنوي. فتَفطَّنْ لهذا، فإنه موضع غَلِطَ فيه كثير ممن يتكلم في الأصول والفقه، وذلك أن الشرط في عُرف الفقهاء ومن يجري مجراهم من أهل الكلام والأصول وغيرهم هو ما يتوقف تأثير السبب عليه بعد وجود المسبب، وعلامتُه أنه يلزم من عَدَمِه عدمُ المشروط، ولا يلزم من وجودِه وجودُ المشروط. ثمّ هو منقسم إلى ما عُرِف كونُه شرطًا بالشرع، كقولهم: الطهارة والاستقبال واللباس شرط لصحة الصلاة، والعقل والبلوغ شرطٌ لوجوب الصلاة، فإن وجوب الصلاة على العبد يتوقَّف على العقل والبلوغ، كما تتوقف صحة الصلاة على الطهارة والستارة واستقبال   (1) سورة النساء: 46. (2) سورة النساء: 64. (3) سورة الأنفال: 27. (4) سورة الأنعام: 28. (5) سورة التوبة: 47. (6) سورة المائدة: 81. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 القبلة، وإن كانت الطهارة والستارة أمورًا خارجةً عن حقيقة الصلاة. ولهذا يفرقون بين الشرط والركن بأن الركن جزءٌ من حقيقة العبادة أو العقد، كالركوع والسجود، وكالإيجاب والقبول؛ وبأن الشرط خارجٌ عنه، فإن الطهارة يلزم من عَدَمِها عدمُ صحةِ الصلاة، ولا يلزم من وجودِها وجودُ الصلاة. وتختلف الشروط في الأحكام باختلافها، كما يقولون في باب الجمعة، منها ما هو شرطٌ للوجوب بنفسه، ومنها ما هو شرطٌ للوجوب بغيره، ومنها ما هو شرط للإجزاء دون الصحة، ومنها ما هو شرط للصحة. وكلام الفقهاء في الشروط كثير جدًّا، لكن الفرق بين السبب والشرط وعدم المانع إنما يتم على قول من يُجوِّز تخصيصَ العلَّةِ منهم، وأما من لا يُسمِّي علةً إلا ما استلزمَ من الحكم ولَزِمَ من وجودِها وجودُه على كل حالٍ، فهؤلاء يجعلون الشرطَ وعدمَ المانع من جملة أجزاء العلة. وإلى (1) ما يُعرَفُ كونُه شرطًا بالعقل وإن دلَّ عليه دلائل أخرى، كقولهم: الحياة شرط في العلم والإرادة والسمع والبصر والكلام، والعلم شرط في الإرادة، ونحو ذلك، وكذلك جميع صفات الأجسام وطباعها لها شروط تُعرَف بالعقل أو بالتجارب أو بغير ذلك. وقد تُسمَّى هذه شروطًا عقلية، والأول شروطًا شرعية. وقد يكون من هذه الشروط ما يُعرَف اشتراطُه بالعرف، ومنه ما يُعرَف باللغة، كما يُعرَف أن شرطَ المفعول وجودُ فاعلٍ، وإن لم   (1) هذا القسم الثاني مما مضى في قول المؤلف: "هو منقسم إلى ما عُرِف كونُه شرطًا بالشرع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 يكن شرطُ الفاعل وجود مفعول، فيلزم من وجود المفعولِ المنصوبِ وجودُ فاعلٍ، ولا ينعكس. بل يلزم من وجودِ اسمٍ منصوب أو مخفوضٍ وجودُ مرفوعٍ، ولا يلزم من وجود المرفوع لا منصوبٌ ولا مخفوضٌ، إذِ الاسمُ المرفوع -مُظْهَرًا أو مُضْمَرًا- لابُدَّ منه في كل كلام عربي، سواءٌ كانت الجملة اسميَّةً أو فعليةً. فقد تبيَّن أن لفظ الشرط في هذا الاصطلاح يدلُّ عدمُه. على عدمِ المشروط ما لم يَخْلُفْه شرط آخر، ولا يدلُّ ثبوتُه من حيث هو شرط على ثبوت المشروط. وأما الشرط في الاصطلاح الذي يتكلَّم به في باب أدوات الشرط اللفظية -سواءٌ كان المتكلم [نحويًّا] أو فقيهًا وما يتبعه من متكلم وأصولي ونحو ذلك- فان وجودَ الشرط يقتضي وجودَ المشروط الذي هو الجزاء والجواب، و عدمُ الشرط هل يدلُّ على عدم المشروط؟ مبنيٌّ على أن عدم العلَّة هل يقتضي عدم المعلول؟ فيه خلاف وتفصيل قد أُومِئ إليه. الخوف (1) لو فُرِضَ عَدَمُه لكان مع هذا العدم لا يَعصي الله، لأن تركَ المعصية له قد يكون لخوف الله، وقد يكون لأمرٍ آخر: إما لنزاهة الطبع أو إجلال الله أو الحياء منه أو لعدم المقتضي إليها، كما كان يقال عن سليمان التيمي: إنه كان لا يُحسِنُ أن يَعصِيَ الله. فقد أخبرنا عنه أن عدمَ خوفِه لو فُرِضَ موجودًا لكان مستلزمًا لعدم معصية الله، لأن هذا العدم يضاف إلى أمورٍ أخرى: إمّا عدمُ مُقتَضٍ أو وجودُ مانع، مع أن هذا الخوف حاصلٌ.   (1) كذا في الأصل، ولعل قبلها سقطًا. وهذا شرحٌ لمعنى الأثر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وهذا المعنى يفهمه من الكلام كلُّ أحدٍ صحيح الفطرة، لكن لما وقع في بعض القواعد اللفظية والعقلية نوعُ توسُّع -إمّا في التعبير وإمّا في الفهم- اقتضى ذلك خَلَلاً إذا بَنى على تلك القواعد المحتاجة إلى تتميم، فإذا كان للإنسان فهمٌ صحيح رَدَّ الأشياءَ إلى أصولها، وقرَّر النظَر على معقولها، وبَيَّنَ حكمَ تلك القواعد وما وقعَ فيها من تجوُّزٍ أو توسُّع، فإن الإحاطةَ في الحدود والضوابط غير تحرير (1) . ومنشأ الإشكالِ أخذُ كلام بعض النحاة مسلَّمًا أن المنفي بعد "لو" مُثبَتٌ، والمثبتُ بعدها منفيٌّ، أو أن جواب "لو" منتفٍ أبدًا، وجواب "لولا" ثابت أبدًا، وأن "لو" حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره، و"لولا" حرفٌ يدلُّ على امتناع الشيء لوجود غيرِه مطلقًا. فإن هذه العبارات إذا قُرِنَ بها "غالبًا" كان الأمر قريبًا، وأما أن يُدَّعَى أنّ هذا مُقتضَى الحرف دائمًا فليس كذلك، بل الأمر كما ذكرناه من أن "لو" حرف شرط تدلُّ على انتفاء الشرط، فإن كان الشرط ثبوتيًّا فهي "لو" محضة، وإن كان الشرط عدميًّا مثل "لولا" و"لو لم" دَلَّتْ على انتفاء هذا العدم بثبوتِ نقيضِه، فيقتضي أن هذا الشرط العدمي مستلزم لجزائه، إنْ وجودًا وإنْ عدمًا، وأن العدمَ منتفٍ. وإذا كان عدمُ شيء سببًا في أمرٍ فقد يكون وجودُه سببًا في عدمه، وقد يكون وجودُه أيضًا سببًا في وجوده، بأن يكون الشيء لازمًا لوجود الملزوم ولعدمه، والحكم ثابت مع العلَّة المعينة، ومع انتفائها لوجود علة أخرى. وإذا عرفتَ أنَّ مفهومها اللازم لها إنما هو انتفاء الشرط، وأنَ   (1) كذا في الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 فهمَ نَفْي الجزاء منها ليس أمرًا لازمًا، وإنما يُفهَم باللزوم العقلي أو العادة الغالبة، وعَطَفْتَ على ما ذكرتُه من المقدمات زالَ الإشكالُ بالكلية. وكان يمكننا أن نقول: إن حرف "لو" دالة على انتفاء الجزاء، وقد تدلُّ أحيانا على ثبوته: إمّا بالمجاز المقرون بقرينةٍ أو بالاشتراك، لكن جَعْل اللفظ حقيقةً في القدر المشترك أقربُ إلى القياس. مع أن هذا إن قاله قائل كان سائغًا في الجملة، فإنّ الناس ما زالوا يختلفون في كثيرٍ من معاني الحروف: هل هي مَقولةٌ بالاشتراك أو بالتواطؤ أو بالحقيقة والمجاز، وإنما الذي يجب أن نعتقد بطلانَه ظَنُّ ظانٍّ ظَنَّ أنْ لا معنى لـ "لو" إلا عدمُ الجزاء والشرط، فإن هذا ليس بمستقيم البتَّةَ. والله سبحانه أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 فصل في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 هذا فصل فيما ذكره الحافظ تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية في الكلام على الإجماعات، ومن جملتها الكلام على ما ذكره الشيخ الإمام أبو محمد ابن حزم. قال أبو محمد ابن حزم في كتابه المصنَّف في مسائل الإجماع: أما بعد، فإن الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية، يُرجَع إليه ويُفزَع نحوه ويُكفَّر من خالفَه إذا قامت عليه الحجة بأنه إجماع. وإنّا أمَّلنا بعون الله أن نجمع المسائل التي صحَّ فيها الإجماع، ونفردها من سائر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء. إلى أن قال: وقد أدخَلَ قومٌ في الإجماع ما ليس فيه، فقومٌ عدُّوا قولَ الأكثر إجماعًا، وقومٌ عدُّوا مالا يعرفون فيه خلافًا، وإن لم يقطعوا على أنه لا خلاف فيه، فحكموا على أنه إجماع، وقومٌ عدُّوا قولَ الصاحب المشهور المنتشر إذا لم يعلموا له من الصحابة مخالفًا إجماعًا، وقومٌ عدُّوا اتفاقَ العصر الثاني على أحد القولين أو أكثر كانت للعصر الأول قبله إجماعًا. قال: وكلُّ هذه الآراء فاسدة. ويكفي من فسادِها أنهم يتركون في كثيرٍ من مسائلهم ما ذكروا أنه إجماعٌ. وإنما نَحَوْا في تسمية ما وصفنا إجماعًا عنادًا منهم وشغبًا عند اضطرار الحجة والبراهين لهم إلى تركِ اختياراتهم الفاسدة. قال: وأيضًا فإنهم لا يُكفِّرون من خالفَهم في هذه المعاني، ومن شرطِ الإجماع الصحيح أن يُكفَّر من خالفَه بلا اختلافٍ من أحدٍ من المسلمين في ذلك، فلو كان ما ذكروه إجماعًا لكُفِّر مخالفوهم، بل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 لكَفَّروهم لأنهم يخالفونها كثيرًا. قلت: أهلُ العلم والدين لا يُعاندون، ولكن قد يعتقد أحدهم إجماعًا ما ليس بإجماعٍ، لكون الخلاف لم يبلغه، وقد يكون هناك إجماع لم يعلمه. فهم في الاستدلال بذلك كما هم في الاستدلال بالنصوص، تارةً يكون هناك نصٌّ لم يَبلُغْ أحدَهم، وتارةً يعتقد أحدهم وجودَ نصٍّ ويكون ضعيفًا أو منسوخًا. وأيضًا فما وصفهم هو به قد اتصفَ هو به، فإنه يترك في بعض مسائله ما قد ذكر في هذا الكتاب أنه إجماع. وكذلك ما ألزمَهم إيَّاه من تكفير المخالف غيرُ لازمٍ، فإن كثيرًا من العلماء لا يُكفِّرون مخالفَ الإجماع، وقوله "إن مخالفَ الإجماع يُكفَّر بلا اختلاف من أحدٍ من المسلمين" هو من هذا الباب. فلعلَّه لم يبلغه الخلافُ في ذلك، مع أن الخلاف في ذلك مشهور مذكور في كتب متعددة. والنظَّام نفسُه المخالف في كون الإجماع حجةً لا يُكفِّره ابن حزم والناس أيضًا. فمن كفَّر مخالفَ الإجماع إنما يكفِّره إذا بلغَه الإجماع المعلوم، وكثير من الإجماعات لم تبلغ كثيرًا من الناس. وكثير من موارد النزاع بين المتأخرين يدعي أحدهما الإجماع في ذلك، إمّا أنّه ظنّي ليس بقطعي، وإما أنه لم يبلغ الآخر، وإما لاعتقادِه انتفاءَ شروطِ الإجماع. وأيضًا فقد تنازع الناس في كثير من الأنواع هل هي إجماع يُحتَجّ به؟ كالإجماع الإقراري، وإجماع الخلفاء الأربعة، وإجماع العصر الثاني على أحد القولين للعصر الأول، والإجماع الذي خالفَ فيه بعضُ أهلِه قبلَ انقراضِ عصرِهم، فإنه مبني على انقراض العصر، بل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 هو شرطٌ في الإجماع، وغير ذلك. فتنازعُهم في بعض الأنواع هل هو من الإجماع الذي يجب اتباعُهم فيه، كتنازعهم في بعض أنواع الخطاب هل هو مما يُحتَجُّ به، كالعموم المخصوص ودليل الخطاب والقياس وغير ذلك. فهذا ونحوه مما يتبيَّن به بعضُ أعذارِ العلماء. قال أبو محمد ابن حزم: وقومٌ قالوا: الإجماع هو إجماع الصحابة فقط، وقال قومٌ: إجماع كل عصرٍ إجماعٌ صحيح إذا لم يتقدم قبلَه في تلك المسألة خلافٌ. وهذا هو الصحيح لإجماع العلماء عند التفصيل عليه، واحتجاجهم به، وتركِ ما أصَّلُوه له. إلى أن قال: وصفة الإجماع ما تيقَّنَ أنه لا خلافَ فيه بين أحدٍ من علماء الإسلام، ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك، مثل أن المسلمين خرجوا من الحجاز إلى اليمن، ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، وأن بني أمية ملكوا دهرًا، ثم ملكَ بنو العباس، وأنه كانت وقعة صفِّين والحرَّة، وسائر ذلك مما يُعلَم بيقينٍ وضرورة. وقال: إنما نُدخِل في هذا الكتاب الإجماعَ التامَّ الذي لا مخالفَ فيه البتَّةَ، الذي يُعلَم كما يُعلَم أن صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان، وأنَّ شهر رمضان هو الذي بين شوال وشعبان، وأنَّ هذا الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبر أنه وحيٌ من الله إليه، وأن في خمسٍ من الإبل شاة، ونحو ذلك. وهي ضرورة تقع في نفس الباحث عن الخبر المشرف على وجوهِ نقله، إذا تتبعها المرء في نفسه في كلّ ما جرَّبه من أحوال دنياه وجدَه ثابتًا مستقرًّا في نفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 وقال أيضًا في آخر كتابه -كتاب الإجماع هذا-: كلُّ ما كتبنا فهو يقين لاشكَّ فيه، متيقّنٌ لا يحل لأحدِ خلافُه البتَّةَ. قلت: فقد اشترطَ في الإجماع ما يشترطُه كثير من أهل الكلام والفقه كما تقدم، وهو العلم بنفي الخلاف، وأن يكون العلم بالإجماع متواترًا. وجَعَلَ العلم بالإجماع من العلوم الضرورية كالعلم بعلوم الأخبار المتواترة عند الأكثرين. ومعلومٌ أنَّ كثيرًا من الإجماعات التي حكاها ليست قريبًا من هذا الوصف، فضلاً عن أن تكون منه، فكيف وفيها ما فيه خلافٌ معروف، وفيها ما هو نفسُه يُنكِر الإجماع فيه ويختار خلافَه من غير ظهورِ مخالف! وقد قال: إنما نعني بقولنا "العلماء" من حُفِظ عنه الفُتيا. وقال: وأجمعوا أنه لا يجوز التوضُّؤ بشيء من المائعات وغيرِها حاشا الماء والنبيذ. قلت: وقد ذكر العلماء عن ابن أبي ليلى -وهو من أجل من يحكي ابن حزم قوله- أنه يُجزئ الوضوء بالمعتصَر كماء الورد ونحوه، كما ذكروا ذلك عن الأصمّ، لكنّ الأصمّ ليس ممن يعدُّه ابن حزم في الإجماع. وقال: وأما الماء الجاري فاتفقوا على جواز استعماله ما لم تَظهر فيه نجاسة. قلت: الشافعي في الجديد من قولَيْه وأحد القولين في مذهب أحمد أن الجاري كالراكد في اعتبار القُلَّتين، فينجس ما دون القلتين بوقوع النجاسة فيه وإن لم تظهر فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 وقال: واتفقوا على أنّ غَسْلَ الذراعين إلى منتهى المرفقين فرض في الوضوء. قلت: وزفر يخالف في وجوب غَسْلِ المرفقين. وحُكِي ذلك عن داود وبعض المالكية، اللهمّ إلا أن يعني بمنتهى المرفقين منتهاهما من جهة الكفّ. قال: واتفقوا على أن الاستنجاء بالحجارة وبكل طاهر ما لم يكن طعامًا أو رجيعًا أو نجسًا أو جلدًا أو عظمًا أو فحمًا أو حممةً جائز. قلت: في جواز الاستجمار بغير الأحجار قولان معروفان هما روايتان عن أحمد، إحداهما لا يُجزِئ إلا بالحجر، وهي اختيار أبي بكر ابن المنذر وأبي بكر عبد العزيز. قال: واتفقوا على أن كل إناءٍ لم يكن فضةً ولا ذهبًا ولا صُفْرًا ولا رصاصًا ولا نُحاسًا ولا مغصوبًا ولا إناءَ كتابي ولا جلد ميتة ولا جلد مالا يُؤكل لحمُه وإن ذُكِّي، فإن الوضوء منه والأكل والشرب جائز كل ذلك. قلت: الآنية الثمينة التي تكون أغلى من الذهب والفضة كالياقوت ونحوه، فيها قولان للشافعي، وفي مذهب مالك قولان. قال: وأجمعوا أن الحائض وإن رأتِ الطهرَ ما لم تَغسِل فرجَها أو تتوضأ فوطؤُها حرام. قلت: أبو حنيفة يقول: إذا انقطع دمُها لأكثر الحيض أو مرَّ عليها وقتُ صلاةٍ جاز وطؤُها، وإن لم تغتسل ولم تتوضأ ولم تَغسِل فرجَها. قال: واتفقوا أن الصلاة لا تسقط ولا يَحِلُّ تأخيرها عمدًا عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 وقتها عن العاقل البالغ بعذرٍ أصلاً، وأنها تُؤدَّى على قدر طاقة المرء من جلوسٍ واضطجاع، بإيماءٍ وكيفَ أمكنه. قلت: النزاع معروف في صور، منها حالُ المسايفة، فأبو حنيفة يُوجِب التأخير، وأحمد في إحدى الروايتين يُجوِّزه. ومنها المحبوس في مصر. ومنها عادم الماء والتراب، فمذهب أبي حنيفة وأحد القولين فَّيَ مذهب مالك أنه لا يُصلِّي، رواه معنٌ عن مالك، وهو قول أصبغ، وحُكِيَ ذلك قولاً للشافعي ورواية عن أحمد. وهؤلاء في الإعادة لهم قولان هما روايتان في مذهب مالك وأحمد، والقضاء قول أبي حنيفة. قال: واتفقوا على أن المرأة لا تَؤُمُّ الرِّجالَ وهم يعلمون أنها امرأة، فإن فعلوا فصلاتُهم فاسدة لا بالإجماع. قال: ورُوِي عن أشهب أن من ائتمَّ بامرأة وهو لا يدري حتى خرج الوقت ثم عَلِم، فصلاتُه تامَّةٌ، وكذا من ائتمَّ بكافرٍ وهو لا يعلم أنه كافر. قلت: ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في المشهور عن أحمد، وفي سائر التطوع روايتان. قال: واتفقوا على أن وضع الرأس في الأرض والرجلين في السجود فرضٌ. قلت: المنقول عن أبي حنيفة أنه لا يجب السجود إلا على الوجه، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد. ويقتضي هذا أنه لو سجد على يديه ووجهِه وركبتيه أجزأه. قال: واتفقوا على أن الفكرة في أمور الدنيا لا تُفسِد الصلاةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 قلت: إذا كانت هي الأغلب ففيها نزاع معروف، والبطلان اختيار أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي. قال: واتفقوا على جواز الصلاة في كلّ مكانٍ، ما لم يكن جوف الكعبة أو الحجر أو ظهر الكعبة أو معاطن الإبل، أو مكانًا فيه نجاسة، أو حمامًا أو مقبرة أو إلى قبرٍ أو عليه، أو مكانا مغصوبًا يَقدِر على مفارقته، أو مكانًا يُستهزَأ فيه بالإسلام، أو مسجد الضرار، أو بلاد ثمود لمن لم يدخلها باكيًا. قلت: الصلاة في المجزرة والمزبلة وقارعةِ الطريق لا تصحُّ في المشهور عند كثير من أصحاب أحمد بل أكثرهم. والصلاة في الحُشّ كذلك عند جمهورِهم، وإن صلَّى في مكانٍ طاهرٍ منه. قال: واتفقوا أن صلاةَ العيدين وكسوف الشمس وقيام ليالي رمضان ليست فرضًا، وكذلك التهجد على غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت: العيدان فرضٌ على الكفاية في ظاهرِ مذهب أحمد، وحُكِي عن أبي حنيفة أنهما واجبان على الأعيان. وعن عبيدة السلماني أن قيام الليل واجب كحلب شاة، وهو قول في مذهب أحمد. قال: واتفقوا أن كلَّ صلاةٍ ما عدا الصلوات الخمس وعلى الجنائز والوتر وما نذره المرء ليست فرضًا. قلت: في وجوب ركعتي الطواف نزاعٌ معروف، وقد ذكر في وجوب المعادة مع إمام الحيّ وركعتي الفجر والكسوف. قال: واتفقوا أن من أسقط الجلسةَ الوسطى من صلاةِ الظهر والعصر والمغرب والعتمة ساهيًا، أن عليه سجدتي السهو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 قلت: الشافعي لا يُوجِب سجودَ السهو. قال: واتفقوا أنّ في كلّ مائتي درهمٍ خمسةَ دراهم، ما لم يكن حُلِيَّ امرأةٍ أو حِليةَ سيفٍ أو منطقة أو مصحفًا أو خاتمًا. قلت: النزاع في كلّ حلي مباح أو حلي الخوذة والران، وحمائل السيف كالمنطقة في مذهب أحمد وغيرِه. والذهب اليسير المتصل بالثوب كالطراز الذي لا يتجاوز أربعةَ أصابع مباحٌ في إحدى الروايتين عنه، وحلية السلاح كلّه كحلية السيف في إحدى الروايتين عنه. وللعلماء نزاع في غير ذلك من الحلية. قال: واتفقوا على أن وقت الوقوف ليس قبل الظهر في التاسع من ذي الحجة. قلت: أحد القولين -بل أشهرهما- في مذهب أحمد أنه يُجزِئ الوقوف قبل الزوال وإن أفاض قبل الزوال، لكن عليه دمٌ، كما لو أفاض قبل الغروب. وقال بعد أن ذكر من محظورات الإحرام اللباس والطيب والتغطية: واتفقوا أنه من فَعل من كل ما ذكرنا أنه يجتنبه في إحرامِه شيئًا عامدًا أو ناسيًا أنه لا يَبطُل حجُّه ولا إحرامُه. واتفقوا أن من جادلَ في الحج فإن حجَّه لا يَبطُل ولا إحرامُه. واختلفوا فيمن قَتَلَ صيدًا متعمدًا، فقال مجاهد: بَطَلَ حجُّه وعليه الهدي. قلت: وقد اختار في كتابه (1) ضدَّ هذا، وأنكرَ على من ادَّعى هذا الإجماعَ الذي حكاه هنا، فقال: الجدالُ بالباطل وفي الباطل عمدًا   (1) المحلى (7/186) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 ذاكرًا لإحرامه مُبطِلٌ لإحرامِه والحج، بقوله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1) . وقال: كلُّ نسوقٍ تعمَّده المحرمُ ذاكرًا فقد أبطل إحرامه وحجه وعمرته، لقوله تعالى:: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ) . قال: ومن عجائب الدنيا أن الآية وردت كما تلونا، فأبطلوا الحج بالرفث ولم يُبطِلوه بالفسوق. وقال: كلُّ من تعمَّد معصيةً أيَّ معصية كانت، وهو ذاكر لحجه منذ يُحرِم إلى أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ورمي جمرة العقبة، فقد بَطَل حجُّه. قال: وأعجبُ شيء دعواهم الإجماع على هذا. قلت: الإجماع فيه أظهر منه في كثير مما ذكره في كتابه. قال: واتفقوا أن كل صدقة واجبة في الحج أو إطعام، أنه إن أدَّاه بمكة أجزأه، واختلفوا فيمن أدَّى ذلك في غير مكة، حاشا جزاء الصيد، فإنهم اتفقوا أنه لا يُجزئ إلا بمكة. قلت: مذهب أبي حنيفة ومالك أنه يُجزئ الإطعام في جزاء الصيد في غير مكة. وكذلك عندهما تفرقة اللحم تُجزئ في غير الحرم، وإنما الواجب في الحرم عندهما إراقة الدم، بخلاف الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فإنهم أوجبوا ذبحه في الحرم، وأوجبوا تفرقتَه في الحرم. وكذلك الصدقة تقوم مقام ذلك. قال: واتفقوا أن من يوم النحر -وهو العاشر من ذي الحجة- إلى انسلاخ ذي الحجة وقتٌ لطواف الإفاضة ولما بقي من سنن الحج. قلت: إن أخَّره عن أيام منًى جاز في مذهب الشافعي وأحمد   (1) سورة البقرة: 197. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 والليث والأوزاعي وأبي يوسف وغيرهم، وهكذا نُقِل عن مالك. وقال أبو حنيفة وزفر والثوري في رواية: إن أخَّره إلى ثالث أيام التشريق لزمَه دمٌ -وهو قولٌ مخرَّجٌ في مذهب أحمد- وإن أخَّره إلى المحرم فلا شيء عليه إلا عند مالك، فإنه عليه دمٌ. ولفظ المدونة: إذا جاوز أيام منى وتطاول ذلك لزمَه، ولم يوقت فيه. وأما رمي الجمار فلا يجوز بعد أيام التشريق، لا نزاع نعلمه، بل على من تركَها دمٌ، ولا يُجزِئُ رميُها بعد ذلك. قال: واتفقوا على أن إيجاب الهدي فرضٌ على المُحْصَر. قلت: قد نَقل غير واحدٍ عن مالك أنه لا يجب الهدي على المحصر، وهو المشهور من مذهب مالك. قال: واتفقوا على أن من حلف لخصمِه دون أن يُحلِّفه حاكم أو مَن حكَّماه على أنفسهما، أنه لا يبرأ بتلك اليمين من الطلب. قلتُ: قد نَصَّ أحمد على أنه إذا رضي بيمين خصمِه فحلف له، لم يكن له مطالبته باليمين بعد ذلك. قال: وأجمعوا على أن كل من لزمه حق في ماله أو ذمته لأحدٍ، فرض عليه أداء الحق إلى من هو له عليه، إذا أمكنه ذلك وبقي له بعد ذلك ما يعيش به أيامًا هو ومن تلزمه نفقته. قلت: مذهب أحمد أنه يترك له من مالِه ما تدعو إليه الحاجة من مسكن وخادم وثياب، وكذلك قال إسحاق. وظاهرُ مذهب أحمد أيضًا أنه إذا لم تكن له صنعة يترك له ما يتجر به لقُوتِه وقوتِ عياله، وإن كان ذا حرفةٍ ترك له آلة حرفته. وقد نقل عنه عبد الله ابنه أنه قال: يُباعُ عليه كل شيء إلا المسكن وما يواريه من ثيابه والخادم، إن كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 شيخًا كبيرًا أو زَمِنًا وبه حاجة إليه. فلم يستثن ما يكتسب به لقول الأكثرين. قال: وأجمعوا أن المملوكة لا يجبر سيدها على إنكاحِها، ولا على أن يطأها وإن طلبت هي ذلك، ولا على بيعها من أجل منعه لها الوطء والإنكاح. قلت: مذهب أحمد المنصوص المعروف من مذهبه أن الأمة إذا طلبت الإنكاح فإن سيّدها يستمتع بها، وإلاّ لزمه إجابتها، وكذلك إذا كانت ممن لا تَحِلُّ له، وكذلك مذهبه في العبد. ومذهب الشافعي -إذا كانت ممن لا تحلّ له فهل يلزمُه إجابتُها- على وجهين. قال: واتفقوا أن التعريض للمرأة وهي في العدة حلالٌ، إذا كانت العدة في غير رجعية أو كانت من وفاةٍ. قلت: في المعتدة البائنة بالثلاث أو بما دون الثلاث كالمختلعة ثلاثةُ أوجه في مذهب أحمد، وقولان للشافعي، أحدها: يجوز التعريض بخطبتها، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. والثاني: لا يجوز، والثالث: يجوز في المعتدة بالثلاث، لأنها محرَّمة على زوجها، وكذلك كل محرَّمة، ولا يجوز في المعتدة بما دون ذلك، لإمكان عودِها إليه، وهو أحد قولي الشافعي. قال: واتفقوا أن الطلاق إلى أجل أو بصفةٍ واقعٌ إن وافقَ وقتَ طلاق، ثم اختلفوا في وقت وقوعه، فمن قائلٍ الآن، ومن قائل هو إلى أجله. واتفقوا أنه إذا كان ذلك الأجل في وقت طلاقٍ أن الطلاق قد وقع. قال: واختلفوا في الطلاق إذا خرجَ مخرجَ اليمين أيلزمُ أم لا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 قال: واتفقوا على أن ألفاظ الطلاق: "طلاق" وما تصرَّف من هجائه مما يُفهم معناه، والبائن والبتة والخلية والبرية، وأنه إن نوى بشيء من هذه الألفاظ طلقةً واحدةً سنيةً لزمتْه كما قدمنا. قال: ولا نعلم خلافًا في أن من طلق ولم يُشهِد أن الطلاق لازم، ولكنا لسنا نقطع على أنه إجماع. قلت: فقد ذكر فيما إذا كان قصده الحلف بالطلاق أيلزم أم لا؟ قولين (1) ، وذكر أن المؤجل والمعلَّق بصفةٍ -يعني إذا لم يكن في معنى اليمين- أنه يقع بالاتفاق. وقد اختار في كتابه الكبير في الفقه "شرح المجلَّى" (2) خلافَ هذا، وأنكر على من ادَّعى الإجماعَ في ذلك. وكذلك اختار (3) أن الطلاق بالكناية لا يقع، ولا يقع إلا بلفظ الطلاق. وهذان قول الرافضة، وكذلك قولهم: إن الطلاق لا يقع إلا بالإشهاد. وقد أنكر في كتابه من ادَّعى إجماعًا في هذا وهذا وهذا، كما هو عادتُه في أمثال ذلك، مع أنه قد ذكر هنا فيه الإجماع الذي اشترط فيه الشروط المتقدمة. ومعلوم أن الإجماع على هذا من أظهر ما يُدَّعَى فيه الإجماع، لكن هو في غير موضع يخالف ما هو إجماع عند عامةِ العلماء، وينكر أنه إجماع، كدعواه وجوبَ الضجعة بعد ركعتي الفجر، وبطلان صلاة من لم يركعهما (4) ، ودعواه وجوبَ الدعاء في التشهد   (1) في الأصل: "قولان". (2) أي "المحلّى" (10/213) . (3) "المحلّى" (10/186) . (4) "المحلَّى" (3/196) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 الأول (1) بقوله "اللهمَّ إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" (2) . ونحو ذلك مما يُعلم فيه الإجماع أظهر مما يُعلَم في أكثر ما حكاه. بل إذا قال القائل: إن الأمة أجمعت أن الدعاء لا يُشرَع في التشهد الأول، كان هذا من الإجماعات المقبولة، فضلاً عن أن يقول أحدٌ: إن هذا الدعاء واجبٌ فيه، وإن صلاة من لم يَدْعُ فيه باطلة. وإنما النزاع في وجوبه في التشهد الذي يسلم فيه، وكان طاووس يأمر من لم يدعُ بالإعادة، وذكر ذلك وجه في مذهب أحمد. قال: واتفقوا أن عدة الحرَّة المسلمة المطلقة التي ليست حاملاً ولا مستريبةً، وهي لم تحض أو لا تحيض، إلا أن البلوغ متوهّم منها= ثلاثة أشهر متصلة. قلت: من بلغتْ من سِن المحيض ولم تَحِضْ، ففيها عن أحمد روايتان، أشهرهما عند أصحابه أنها تعتدُّ عدَّةَ المستريبة تسعة أشهر، ثم ثلاثة أشهر، كالتي ارتفع حيضُها لا تدري ما رفعه. قال: واتفقوا على أن استقراض ما عدا الحيوان جائز، واختلفوا في جواز استقراض الرقيق والجواري والحيوان. قلت: الاتفاق إنما هو في قرض المثليات المكيل والموزون، وأما ما سوى ذلك فأبو حنيفة لا يُجوِّز قرضَه، لأن موجب القرض المثل، ولا مثلَ له عنده، فالنزاع فيه كالنزاع في الحيوان.   (1) المصدر نفسه (3/271) . (2) متفق عليه من حديث عائشة وأبي هريرة. وأخرجه مسلم (590) أيضًا من حديث ابن عباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 قال: واتفقوا أن الوصية بالمعاصي لا تجوز، وأن الوصية بالبر وبما ليس ببرّ ولا معصية ولا تضييعًا للمال جائزة. قلت: الوصية بما ليس ببر ولا معصية، والوقف على ذلك، فيه قولان في مذهب أحمد وغيرِه، والصحيح أن ذلك لا يصحّ، فإن الإنسان لا ينتفع ببذل المال بعد الموت إلا أن يصرفه إلى طاعة الله، وإلاّ فبذلُه بما ليس بطاعة ولا معصية لا ينفعه بعد الموت، بخلاف صرفِه في الحياة في المباحات كالأكل والشرب واللباس، فإنه ينتفع بذلك. وقال في الجزية: واتفقوا على أنه إن أعطَى -يعني من يُقبل منه الجزية عن نفسه وحدها- أربعة مثاقيل ذهب في كل عام، على أن يلتزموا ما ذكره من شروط الذمة، فقد حرم دمُ من وفَى بذلك ومالُه وأهله وظلُمه. قلت: للعلماء في الجزية هل هي مقدرة بالشرع أو باجتهاد الإمام أن يزيد على أربعة دنانير؟ [قولان] ، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وهي مذهب عطاء والثوري ومحمد بن الحسن وأبي عبيد وغيرهم. قال: واتفقوا أنه لا ينفَّل من ساق مغنمًا أكثر من ربعه في الدخول، ولا أكثر من ثلثه في الخروج. قلت: في جواز تنفيل ما زاد على ذلك إذا اشترطه الإمام، مثل أن يقول: من فَعَل كذا فله نصف ما يغنم، قولان هما روايتان عن أحمد. وأما تنفيل الزيادة بلا شرط فلا أعلم فيه نزاعًا، ويمكن أن يُحمل كلام أبي محمد ابن حزم على هذا، فلا يكون فيما ذكره نزاع. قال: واتفقوا أن الحر البالغ العاقل الذي ليس بسكران، إذا أمّن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 أهل الكتاب الحربيين على أداء الجزية على الشروط التي قدمنا أو على الجلاء، أو أمّن سائر الكفار على الجلاء بأنفسهم وعيالهم وذراريهم، وترك بلادهم، واللحاق بأرض حرب أخرى، لا بأرض ذمة ولا بأرض إسلام، أن ذلك لازم لأمير المؤمنين ولجميع المسلمين حيث كانوا. قلت: ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يصحُّ عقدُ الذمَّة إلا من الإمام أو نائبه. وهذا هو المشهور عند أصحاب أحمد، وفيه وجه في المذهبين أنها تصحّ من كلّ مسلم كما ذكره ابن حزم. قال: واتفقوا أن أولاد أهل الجزية ومن تناسَل منهم، فإن الحكم الذي عقده أجدادُهم -وإن بعدوا- جارٍ على هؤلاء لا يحتاج إلى تجديده مع من حدث منهم. قلت: هذا هو قول الجمهور، ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما يُستأنف له العقد، وهذا منصوص الشافعي، والثاني لا يُحتاج إلى استئناف عقد، كقول الجمهور. قال: واتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقتٍ واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، لا في مكانين ولا في مكانٍ واحد. قلتُ: النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة، كأهل الكلام والنظر، فمذهب الكرّامية وغيرِهم جواز ذلك، وأن عليَّا كان إمامًا ومعاوية كان إمامًا. وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلاَّ منهما ينفذ حكمه في أهلِ ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد. وأما جواز العقد لهما ابتداء فهذا لا يُفعل مع اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها فلم يعقد كلٌّ من الطائفتين لإمامين، ولكن كل طائفة إْمّا أن تُسالِمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 الأخرى، وإما أن تحاربها، والمسالمةُ خير من محاربةٍ يزيد ضررُها على ضرر المسألة. وهذا مما تختلف فيه الآراء والأهواء. قال: واتفقوا أنه إذا كان الإمام من ولد علي، وكان عدلاً، ولم يتقدم بيعتَه بيعةٌ أخرى لإنسانٍ حيّ، وقام عليه من دونَه، أن قتال الآخر واجبٌ. قلت: ليس للأئمة في هذه بعينها كلامٌ يُنقَل عنهم، ولا وقع هذا في الإسلام، إلا أن يكون في قصة عليّ ومعاوية. ومعلومٌ أن أكثر علماء الصحابة لم يَرَوا القتالَ مع واحدٍ منهما، وهو قول جمهور أهل السنة والحديث، وجمهور أهل المدينة والبصرة، وكثير من أهل الشام ومصر والكوفة وغيرهم من السلف والخلف. وقد قال: إنما أدخلنا هذا الاتفاقَ على جوازِه لخلاف الزيدية، هل تجوز إمامة غير علويّ أم لا؟ وإن كنا مُخَطِّئين لهم في ذلك ومعتقدين صحةَ بطلان هذا القول، وأن الإمامة لا تتعدى فِهْر بن مالك، وأنها جائزة في جميع أفخاذهم، ولكن لم يكن بذٌ في صفة الإجماع الجاري عند الكلّ مما ذكرنا. قلت: قد ذكر هو أنه لا يذكر إلا خلاف أهل الفقه والحديث دون المعتزلة والخوارج والرافضة ونحوهم. فلا معنى لإدخالِ الزيدية في الخلاف وفتحِ هذا الباب، فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل" (1) نزاعًا في ذلك، وأن طائفة ادَّعت النصَّ على العباس، وطائفة ادَّعت النصَّ على عمر. قال: واتفقوا أن من خالف الإجماع المتيقن بعد علمه بأنه إجماع فإنه كافر.   (1) "الفصل" (4/75) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 قلت: في ذلك نزاع مشهور بين الفقهاء. قال: واتفقوا أن السمن إذا وقع فيه فأر أو فأرة، فمات أو ماتت وهو مائع، أنه لا يُؤكَل. قلت: هذا فيه نزاعٌ معروف، فمذهب طائفة أنه يُلقَى ما قرب منها ويُؤكل، سواء كان جامدًا أو مائعًا. قال البخاري في صحيحه (1) : باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب. حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الزهري أخبرني عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة أنه سمع ابن عباس يحدِّث عن ميمونةَ أن فأرةً وقعتْ في سمنٍ فماتت، فسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها فقال: "ألقوها وما حولها، وكُلُوه". قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدِّثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: سمعتُ الزهريَّ يقوله عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقد سمعتُه منه مرارًا. حدثنا عبدان (2) حدثنا عبد الله -يعني ابن المبارك- عن يونس عن الزهري: عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها. قال: بلغَنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بفأرة ماتت في سمنٍ، فأمر بما قَرُبَ فطُرِحَ، ثم أكل. عن حديث عبيد الله بن عبد الله. ثم رواه من طريق مالك كما رواه من طريق ابن عيينة. وهذا الحديث رواه عن الزهري كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه. وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارةً عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وقال فيه: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن   (1) 9/667 وما بعدها (مع الفتح) . (2) في الأصل: "عبد الرزاق"، وهو خطأ، والتصويب من صحيح البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 كان مائعًا فلا تقربوه". وقيل عنه: "وإن كان مائعا فاستصحبوا به". واضطرب عن معمر فيه. وظنَّ طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ، فعملوا به، وممن ثبَّته محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري. وأما البخاري والترمذي وغيرهما فعلَّلوا حديثَ معمر وبيَّنوا غلطه، والصواب معهم (1) . فذكر البخاري هنا عن ابن عيينة أنه قال: سمعتُه من الزهري مرارًا لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلا قوله "ألقوها وما حولها وكلوا"، وكذلك رواه مالك وغيره. وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغير الجامد، فأفتى بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح. فهذه فتيا الزهري في الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث استواء حكم النوعين بالحديث، ورواه بالمعنى فقال: "وأمر أن يطرح وما قرب منها"؟. وروى صالح بن أحمد في "مسائله" (2) عن أحمد قال: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل حدثنا عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة أن ابن عباس سُئِل عن فارة ماتت في سمن، قال: تُؤخذ الفأرة وما حولَها. قلت: يا مولاي! فإن أثرها كان في السمن كلِّه، قال: عضضتَ بِهَنِ أبيك! إنما كان أثرها في السمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت. ثم قال: حدثنا أبي حدثنا وكيع حدثنا عن النضر بن عربي عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فسأله عن جَرٍّ فيه زيت وقعَ   (1) انظر الكلام على هذا الحديث في "فتح الباري" (9/668- 669) . (2) لم نجد النصوص المقتبسة منه في مطبوعته، فإنها ناقصة الأول والآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 فيه جروٌ، فقال: خذه وما حوله، فالقِه وكُلْه. ورُوِي نحو ذلك عن ابن مسعود -وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإحدى الروايتين عن مالك- أن الكثير من الطعام والشراب المائع لا يُنَجِّسه يسيرُ النَّجاسة، بل هو كالماء. قال أبو محمد: واختلفوا في بيعه والانتفاع به، واختلفوا في المائعات وفي السمن الجامد وفي كل شيء جامد. قال: واتفقوا أن من نذر معصية فإنه لا يجوز له الوفاء بها. واختلفوا أيلزمُه لذلك كفَّارة أم لا؟ واختلفوا في النذر المطلق الذي ليس معلَّقا بصفةٍ، وفي النذر الخارج مخرجَ اليمين، أيلزم أم لا؟ وأفيه كفارةٌ أم لا؟ قال: واتفقوا أن من نذر مالا طاعةَ فيه ولا معصية أنه لا شيء عليه. قلت: بل النزاع في نذر المباح هل يلزم فيه كفارة إذا تركَه كالنزاع في نذر المعصية وأوكد، وظاهر مذهب أحمد لزوم الكفَّارة في الجميع، وكذلك مذهب أكثر السلف، وهو قول أبي حنيفة وغيره، لكن قيل عنه إذا قصد بالنذر اليمين. قال: واتفقوا أن إزالة المرء عن نفسِه ظلمًا -بأن يظلم من لم يظلمه قاصدًا إلى ذلك- لا يحل، وذلك مثل أن يحلّ عدوُّ المسلمين بساحة قوم فيقول؟ أعطوني مال فلانٍ، أو أعطوني فلانًا، وهو لا حق له عنده بحًكم دين الإسلام. أو قال: أعطوني امرأة أو أمة فلان، أو افعلوا كذا لبعض ما لا يحلُّ في دين الإسلام، فإنه لا خلاف بين أحدٍ من المسلمين في أنه لا يُجابُ إلى ذلك، وإن كان في منعه اصطلام الجميع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 قلت: دعوى الإجماع في مثل هذا الأمر العام الذي يتناول أنواعًا كثيرة ليس مستنده نقلاً في هذا عن أهل الإجماع، ولكن هو بحسب ما يعتقده الناقل في أن مثل هذا ظلم محرَّم لا يُبيحه عالم. وفي بعض ما يدخل في هذا نزاعٌ وتفصيل. كما لو تَترَّس الكفارُ بأسرَى المسلمين وخِيف على جيش المسلمين إن لم يرموا، فإنه يجوز أن يرموا بقصدِ الكفار، وإن أفضَى إلى قتل هؤلاء المعصومين، لأن فساد ذلك دون فساد استيلاء الكفار على جيش المسلمين. وهذا مذهب الفقهاء المشهورين، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. ولو لو يُخشَ على جيش المسلمين ففي جواز الرمي قولان لهم: أحدهما يجوز، كقول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي؟ والثاني لا يجوز، كالمعروف من مذهب أحمد والشافعي. وكذلك لو أكرهَ رجلٌ رجلاً على إتلاف مال غيره، وإن لم يُتلِفه قَتَلَه، جاز له إتلافه بشرط الضمان. والعدوّ المحاصر إذا طلب مال شخص، وإن لم يدفعوه اصطلمهم العدوّ، فإنهم يدفعون ذلك المال، ويضمنونه لصاحبه. وأمثال ذلك كثيرة. وقد ذكر -رحمه الله تعالى- إجماعات من هذا الجنس في هذا الكتاب، ولم يكن قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عُرِف انتقاضُها، فإن هذا يزيد على ما ذكرناه. مع أن أكثر ما ذكره من الإجماع هو كما حكاه لا نعلم فيه نزاعًا، وإنما المقصود أنه مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء وتبزُّزِه في ذلك على غيرِه، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه، يظهر فيما ذكره في الإجماع نزاعات مشهورة، وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في الإجماع. وسبب ذلك دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به، ودعوى أن الإجماع الإحاطي هو الحجة لا غيره. فهاتان قضيتان لابدّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 لمن ادعاهما من التناقض إذا احتج بالإجماع، فمن ادعى الإجماع في الأمور الخفية بمعنى أنه يعلم عدمَ المنازع فقد قَفا ما ليس له به علم. وهؤلاء الذين أنكر عليهم الإمام أحمد. وأما من احتج بالإجماع بمعنى عدم العلم بالمنازع فقد اتبع سبيل الأئمة، وهذا هو الإجماع الذي كانوا يحتجون به في مثل هذه المسائل. وقد ختم الكتاب ببابٍ من الإجماع في الاعتقادات، فكفَّر من خالفه، فقال: اتفقوا أنَّ الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره، وأنه تعالى لم يزل وحده، ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلَّها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق. قلت: أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شيء فهذا حق، ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك، فان القدرية -الذين يقولون: إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله- أكثر من أن يمكن ذكرهم من حين ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ، والمعتزلة كلهم قدرية، وكثير من الشيعة بل عامة الشيعة المتأخرين وكثير من المرجئة والخوارج وطوائف من أهل الحديث والفقه نُسِبوا إلى ذلك، منهم طائفة من رجال الصحيحين، ولم يجمعوا على تكفير هؤلاء. بل هو نفسه قد ذكر في أول كتابه أنه لا يكفّر هؤلاء. والمنصوص عن مالك والشافعي وأحمد في القدرية أنهم إذا جحدوا العلم كفروا، وإذا لم يجحدوه لم يكفروا. وأيضا فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل" (1) أن الصحابة وأئمة الفتيا لا يكفرون من أخطأ في مسألة في الاعتقاد ولا فُتيا. وإن كان   (1) "الفصل" (3/144) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 أراد بقوله أتى المسلمون على هذا فهذا أبلغ. ومعلوم أن مثل هذا النقل للإجماع لم ينقله عن معرفته بأقوال الأئمة، لكن لما علم أن القرآن أخبر بأن الله خالق كل شيء، وأن هذا من أظهر الأمور عند الأمة، حكى الإجماع على هذا، ثم اعتقد أن من خالف الإجماع كفر بإجماع. فصارت حكايته لهذا الإجماع مبنية على هاتين المقدمتين اللتين ثبت النزاعُ في كل منهما. وأعجب من ذلك حكايته الإجماعَ على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحدَه ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كما شاء. ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب الله ولا تنسب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل الذي في الصحيح (1) عنه حديث عمران بن حصين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض"، وفي لفظ: "ثم خلق السماوات والأرض". ورُوِي هذا الحديث في البخاري بثلاثة ألفاظ (2) : رُوِي "كان الله ولا شيء قبله"، ورُوِي "ولا شيء غيره"، ورُوِي "ولا شيء معه" (3) ، والقصة واحدة، ومعلوم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قال واحدًا من هذه الألفاظ، والآخران رُوِيا بالمعنى. وحينئذٍ فالذي يناسب لفظ ما ثبت عنه في الحديث الآخر الصحيح (4) أنه كان يقول في دعائه: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء". فقوله   (1) البخاري (3191، 7418) . (2) بل باللفظين الأولين فقط في الموضعين. (3) هذا اللفظ في رواية غير البخاري. انظر "الفتح" (6/289) . (4) مسلم (2713) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 في هذا "أنت الأول فليس قبلك شيء" يناسب قوله "كان الله ولا شيء قبله". وقد بُسِط الكلام على هذا الحديث وغيره في غير هذا الموضع (1) . والمقصود هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات. فهذا اللفظ ليس في كتاب الله، وهذا الحديث لو كان نصًّا فيما ذكر فليس هو متواترًا، فكم من حديث صحيح ومعناه فيه نزاع كثير، فكيف ومقصود الحديث غير ما ذكر. ولا نعرف هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فكيف يُدَّعَى فيها الإجماعُ ويُدَّعَى الإجماعُ على كفر من خالف ذلك؟ ولكن الإجماع المعلوم هو ما علمت الأمة أن الله بيَّنه في القرآن، وهو أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع (2) . فإذا ادَّعى المدَّعي الإجماعَ على هذا وتكفيرِ من خالف هذا كان قولُه متوجِّهًا. وليس في خبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ما ينفي وجودَ مخلوقٍ قبلهما، ولا ينفي أنه خلقهما من مادةٍ كانت قبلهما، كما أنه أخبر أنه خلق الإنسان وخلق الجنّ، وإنما خلق الإنسان من مادَّة وهي الصلصال كالفخَّار، وخلق الجانّ من مارج من نار، فكيف وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف الذي لا يُعلَم فيه نزاع أن الله لما خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشُه على الماء قبل ذلك، فكان العرشُ موجودًا قبل ذلك، وكان الماء موجودًا قبل ذلك.   (1) للمؤلف كتاب مستقل في شرح هذا الحديث، وهو ضمن "مجموع الفتاوى" (18/210-243) . (2) في سبعة مواضع أولها في سورة الأعراف: 54. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء". وقد أخبر سبحانه أنه استوى إلى السماء الدنيا وهي دخان، فقال لها وللأرض: (ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)) (2) . وثبت عن غير واحدٍ من الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين أنه خلق السماء من بخار الماء. ونحو ذلك من النقول التي يصدِّقها ما يُخبِر به أهلُ الكتاب عن التوراة وما عندهم من العلم الموروث عن الأنبياء. وشهادة أهل الكتاب الموافقة لما في القرآن أو السنة مقبولة، كما في قوله تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)) (3) . ونظائر ذلك في القرآن. وهذا الموضع أخطأ فيه طائفتان: طائفة من أهل الكلام من اليهود والمسلمين وغيرهم ظنُّوا أن إخبار الله بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما يقتضي أنهما لم يُخلَقا من شيء، بل لم يكن قبلهما موجود إلا الله. ومعلوم أن خبر الله مخالف لذلك، والله قد أخبر أنه خلق الإنسان والجانَّ من مادَّةٍ ذكرها. والذين يثبتون الجوهر الفرد من هؤلاء وغيرهم يعتقدون أن خلق الإنسان وغيره مما يخلقه في هذا العالم ليس هو خلقًا لجوهر قائم بنفسه، بل هو إحداثُ أعراض يحول بها الجواهر المنفردة من   (1) برقم (2653) . (2) سورة فصلت: 11. (3) سورة الرعد: 43. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 حال إلى حالٍ. وهذا مخالف للشرع والعقل، كما قد بُسِط في موضعه، فإن هؤلاء يقولون: إنا لم نشهدْ خلقَ عين من الأعيان، بل الرب أبدع الجواهرَ المنفردة، ثم الخلقُ بعد ذلك إنما هو إحداث أعراضٍ قائمة بها. وطائفة أخرى أبعد عن الشرع والعقل من هؤلاء، يتأولون خلق السماوات والأرض بمعنى التولد والتعليل والإيجاب بالذات، ويقولون: إن الفلك قديم أزلي معلول للرب، وأنه يوجب بذاته لم يزل ولا يزال. وقولهم بالإيجاب هو معنى القول بالتولد، فإنَّ ما حصل عن غيره بغير اختيارٍ منه فقد تولَّد عنه، لاسيَّما إن كان حيًّا. وهؤلاء يقولون بقدم عين الفلك وأنه لم يزل ولا يزال. فهؤلاء إذا قيل: إن المسلمين أجمعوا على نقيض قولهم أو على كفرِ من قال بقولهم، كان قولاً متوجهًا، فإنه قد عُلِم بالاضطرار من دين الرسول أنه أخبر بخلق السماوات والأرض بعد أن لم تكن مخلوقة، بخلاف من ادَّعى أن الصانعَ لم يزل معطَّلا، والفعل والكلام عليه ممتنعًا بغير سبب حدث أوجب انتقاله من الامتناع إلى الإمكان، وأوجب أن يصير الربّ قادرًا على الفعل أو الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرًا على ذلك. فهذه الدعوى وأمثالها عند جمهور العقلاء معلومة الفساد بالعقل مع فسادها في الشرع، ومعلومٌ عند من له معرفة بالكتاب والسنة والإجماع أن الشرع لم يرد بها ولا بما يدل عليها قط. ولكن ظنّ من ظن من أهل الكلام أن هذا دين أهل الملل، واستدلُّوا على ذلك بالكلام الذي أنكره السلف والأئمة عليهم من أن مالا يخلو من الحوادث فهو حادث، وكان الذي أنكره السلف والأئمة عليهم الكلام الباطل الذي خالفوا فيه الشرع والعقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 وقد بُسِط الكلام على هذا في غير هذا الموضع (1) ، وذُكِر منشأ غلط الطائفتين حيث لم يُفرِّقوا بين النوع والعين، وذُكِر قول السلف والأئمة: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وإنه لا نهاية لكلمات الله، وإن وجود مالا نهاية له من كلمات الله في الماضي، كما ثبت في المستقبل وجود مالا نهاية له أيضًا، وإن كل ما سوى الله مخلوقٌ كائنٌ بعدَ أن لم يكن، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ذلك ممتنع عقلاً باطل شرعًا؛ فإن الله أخبر أنه خالق كل شيء. والقول بأن الخالق علَّة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها باطلٌ عقلاً وشرعًا، وموجبةٌ أنه يمتنع ضرورة وجود علة تامة يقارنها حدوث شيء من العالم، فإن الحوادث بعد أن لم تكن يمتنع مقارنةُ معلولها بها، بل قد بُيِّن أن القول بأن الفاعل يكون علة تامة مستلزمة للمفعول باطلٌ، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث شيء. لكن فرق بين حدوث الشيء المعين وبين حدوث الحوادث شيئا بعد شيء. وقد ثبت بالدلائل اليقينية أن الرب فاعل باختياره وقدرته، وأنه إذا قيل: هو موجب بالذات، فإن أريد بذلك أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما شاءه= فهذا لا ينافي فعلَه بمشيئته وقدرته؛ وإن أريد بذلك ما يقوله دهرية الفلاسفة كابن سينا ونحوه من أن ذاتًا مجرَّدة عن الصفات أوجبت العالم بما فيه من الأمور المختلفة الحادثة= فهذا من أفسد الأقوال عقلاً وسمعًا، فإنّ إثباتَ ذاتٍ مجردةٍ عن الصفات أو إثباتَ وجودٍ مجردٍ عن جميع القيود أو مقيدٍ بالسلوب لا يختص بأمر وجودي مما لا يمكن تحقُّقه في الخارج، وإنما يقدِّره الذهن كما يقدِّر سائرَ   (1) انظر "شرح حديث عمران بن حصين" الذي سبق ذكره، وانظر "منهاج السنة" (1/360 وما بعدها) و"درء التعارض" (8/287- 290) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 الممتنعات. ودعوى أن الصفة هي الموصوف، وأن إحدى الصفتين هي الأخرى كما يقوله هؤلاء المتفلسفة: إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد، واللذة واللذيذ والملتذّ شيء واحد، وأن العلم والقدرة والإرادة شيء واحد، والقدرة هي القادر، والعلم هو العالم، ونحو ذلك من أقوالهم التي قد بُسِط الكلام على فسادِها وتناقضها في غير هذا الموضع= هي دعاوٍ باطلة. والمقصود هنا الإشارة إلى ما قد يتوهمه بعضُ الناس من الإجماع لنوع من الاشتباه، فيظنُّ أمورًا داخلةً في الإجماع ولا تكون كذلك، كما يظنّ أمورًا خارجةً عنه ولا تكون كذلك، كما يصيب بعض الناس فيما يُدخلونه في نصوص الكتاب والسنة وفيما يُخرِجونه، ولهذا يذكر هؤلاء أمورًا مختلفةً فيها، وإذا نُظِر إلى مستندهم في الخلاف وُجد فيه من الخطأ أمور أخرى كذلك، إما نقل ضعيف، وإما لفظٌ مجمل، وإما غير ذلك مما قد يقع الغلط في صحته تارة وفي فهمه تارةً، كما يقع مثل ذلك فيما ينقلونه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الغلط، ويكون قد نشأ من الإسناد تارةً ومن فَهْمِ المتن تارةً. والله سبحانه أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 رسالة في بيان الصلاة وما تألَّفتْ منه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 فصل قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: اعلم أن الصلاة مؤلفة من أقوالٍ وأفعالٍ، ف أعظم أقوالها القرآن، وأعظمُ أفعالِها الركوعُ والسجودُ. وأول ما أنزله الله من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (19)) (1) ، وختمها بقوله (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (1)) (2) ، فافتتحها بالأمر بالقراءة، وختمها بالأمر بالسجود، وكل منهما يكون عبادةً مستقلَّةً، فالقراءة في نفسها عبادةٌ مطلقًا إلا في مواضع، والسجود عبادة بسبب السهو والتلاوة وسجود الشكر وعند الآيات على قولٍ. فالتلاوة الخاصة سبب السجود. وقد ذكر الله الركوعَ والسجودَ في مواضع، فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (3) ، فهذا أمرٌ بهما. وقال تعالى: (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) (4) ، فهذا ثناء عليهم بهما، وإن كان ذكرهما منتظمًا لبقية أفعال الصلاة، كما في القراءة والقيام والتسبيح والسجود المجرد، وهو من باب التعبير بالبعضِ عن الجميع، وهو دليلٌ على وجوبه فيه. وقال تعالى لبني إسرائيل: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) (5) ، فأفرد الركوع بالتخصيص بعد الأمر بإقامة الصلاة، ويُشبِهُ -والله أعلمُ- أن يكون فيه معنيان:   (1) سورة العلق: 1. (2) الآية 19. (3) سورة الحج: 77. (4) سورة الفتح: 29. (5) سورة البقرة: 43. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 أحدهما: أنهم لا يركعون في صلاتهم، فأمرهم بالركوع، إذ كانوا لا يفهمون ذلك من نفس الصلاة. الثاني: أن قوله (مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) أمرٌ بصلاة الجماعة، ودَل بذلك على وجوبها، وأمر بالركوع معهم لأنه بالركوع يكون مدركًا للركعة، فإذا ركعَ معهم فقد فعلَ بقيةَ الأفعال معهم، وما قبلَ الركوع من القيام لا يجب فعلُه معهم، فما بعده لازم. بخلاف مالو قال "قوموا" أو "اسجدوا" لم يدلَّ على ذلك. وقال لمريم: (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) (1) قد يكون أمرًا لها بصلاةِ الجماعة -وإن كانت امرأةً- لأنها كانت محرَّرةً منذورةً لله عاكفةً في المسجد. وقال تعالى: (وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) (2) ، قد قيل: إنه السجود. وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48)) (3) . وذكر السجود والقيام في قوله: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (4) ، وفي قوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً (64)) (5) . وذكر السجود في قوله: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (6) ، وفي قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)) (7) ، وقوله: (وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ   (1) سورة آل عمران: 43. (2) سورة ص: 24. (3) سورة المرسلات: 48. (4) سورة الفرقان: 64. (5) سورة الزمر: 9. (6) سورة العلق: 19. (7) سورة القلم: 42-43. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 سُجَّداً) (1) ، وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)) (2) ، وقوله: (فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) (3) ، وقوله: (فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ) (4) .. وآيات سجود التلاوة كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)) (5) ، وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)) (6) ، وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) (7) ، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (107)) (8) الآية، وقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)) (9) ، وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ) (10) الآية، وقوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (11) ، وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ   (1) سورة النساء: 154. (2) سورة الحجر: 98. (3) سورة ق: 40. (4) سورة النساء: 102. (5) سورة الأعراف: 206. (6) سورة الرعد: 15. (7) سورة النحل: 49- 50. (8) سورة الإسراء: 107. (9) سورة مريم: 58. (10) سورة الحج: 18. (11) سورة الحج: 77. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 نُفُوراً (60)) (1) ، وقوله: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)) (2) ، وقوله: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (3) ، وقوله: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) (4) الآية. وقوله: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)) (5) ، وقوله: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)) (6) ، وقوله: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (7) . فآية الأعراف والرعد والنحل والحج فيها الخبر عن سجود المخلوقات، لكن في الأعراف سجودُ الملائكة، وفي الرعد سجود المخلوقات طوعًا وكرهًا، وفي النحل المخلوقات والملائكة، وفي الحج سجود المخلوقات الطوعية، ولهذا لم يَعُمَّ بني آدم. وسجود الكائناتِ مطلقًا ليس بمقيَّدٍ بركوع، فشرع السجود عند ذكره، لأن المؤمن داخل في ذلك أو متشبِّه بصاحبه. وقوله (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) (8) الآية وقوله (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ) (9) خبرٌ عن سجودٍ بسبب التلاوة، فأمرٌ بالسجود عند التلاوة. ونظيره (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)) (10) ، وقوله   (1) سورة الفرقان: 60. (2) سورة النمل: 25. (3) سورة السجدة: 15. (4) سورة فصلت: 37. (5) سورة النجم: 62. (6) سورة الانشقاق: 21. (7) سورة العلق: 19. (8) سورة الإسراء: 107. (9) سورة مريم: 58. (10) سورة الانشقاق: 21. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (1) ، وقوله (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (2) نهيٌ عن السجود لغير الله مطلقًا وأمرٌ بالسجود له، فشرع السجود المقابل للمنهيّ عنه. وقوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً (60)) (3) ، فأخبر عن امتناع الكافر عن السجود مطلقًا، فيشرع السجود المقابل له، وهو مطلق السجود هناك في مقابلة المعبود الباطل، وهنا في مقابلة الكافر الممتنع عن الحق. وأما قوله (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (4) فلا ريبَ أنّ هذا أمر بسجود الصلاة، فلذلك جرى فيه النزاعُ، فقيل: هو أمر به، كما في قوله (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) (5) ، وقيل: هذا لا يمنع أن يكون أمرًا به وبالسجود عنه بسماعه. وقوله (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)) (6) وقوله (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (7) ، وذلك سجود الصلاة، فقيل: هو مختصّ به، وقيل: ذلك لا يمنع أن يكون سببًا، كما أن آيات التلاوة والسجود تتضمن السجود في الصلاة عقب سماع القرآن. فصل ولما كَثُر ذِكر السجود في القرآن، تارةً أمرًا به، وتارةً ذمًّا لمن   (1) سورة النمل: 24. (2) سورة فصلت: 37. (3) سورة الفرقان: 60. (6) سورة الحج: 77. (7) سورة آل عمران: 43. (8) سورة النجم: 62. (9) سورة العلق: 19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 يتركه، وتارة ثناء على فاعله، وتارة إخبارًا عن سجود عُظماء الخليقة وعمومهم، كان ذلك دليلاً على فضيلة السجود. وهذا ظاهر، فإن السجود فيه غاية الخضوع والتواضع، وهو أفضل أركان الصلاة الفعلية وأكثرها، حتى إن مواضعَ الصلاة سُمِّيتْ به، فقيل "مسجد"، ولم يُقَل "مقام" ولا "مركع"، لوجهين: أحدهما: أنه أفضل وأشرف وأكثر. والثاني: أن نصيب الأرض منه أكثر من نصيبها من جميع الأفعال، فإن العبد يسجد على سبعة أعضاء، وإنما يقوم على رِجلين. وأما الركوع فسِيَّانِ نسبةُ الأرض إليه وإلى القيام، فلهذا قيل "مسجد"، وهو موضع السجود دون موضع الركوع. والركوع نصف سجود، والسجود شرِعَ مَثنَى مَثنَى، في كل ركعة سجدتان، ولم يُشرَع من الأركان مثنى إلا هو، حتى سجود الجبران جُعِل أيضًا مثنى، وهو سجدتا السهو. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسميهما "المرغمتين"، وقال في الشك: "إن كانت صلاتُه وِترًا شَفَعَتَا له صلاته، وإن كانت تامَّة كانتا ترغيمًا للشيطان" (1) . فأقام السجدتين مقام ركعة في تكميل الصلاة، لأن الركن الأعظم من كل ركعة هما السجدتان. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعَك الله بها درجةً، وحَطَّ عنك بها خطيئةً" (2) . وقال: "أَعنِّي على نفسك بكثرة السجود" (3) . وقال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (4) .   (1) أخرجه مسلم (571) عن أبي سعيد الخدري. (2) أخرجه مسلم (488) عن ثوبان. (3) أخرجه مسلم (489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي. (4) أخرجه مسلم (482) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 ولمّا كانت الصلاة مثنى مثنى جعل في كل ركعةٍ السجود مثنى مثنى، فكل سجدتين معقودتان بركعةٍ، فتصير وترًا، سجدتان وركوع، والركوع مقدمة أمامهما كتقدمة الوقوف على طواف الزيارة. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:إ إذا أدركتمونا ونحن سجود فاسجدوا، ولا تَعدُّوها شيئا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك" (1) ، كما قال: "الحج عرفة" (2) ، فمن أدرك عرفةَ فقد أدرك الحج، ومن فاتَه التعريفُ فإنه يفعل الطواف والسعي ولكن لا يكون مدركًا للحج، لكن يكون متحللاً بعمرةٍ أو عَمِلَ عمرةً. ولهذا قيل: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) (3) ، ف الركوع مع السجود تقدمةٌ وتوطئةٌ وبابٌ إليه، وهو مشترك بين القيام والسجود وبرزخٌ بينهما، فالقيام قيام القراءة قبله، وأما القيام بعده فهو -والله أعلم- لأجل السجود بعده، ليكون السجودُ عن قيامٍ، وهو السجود الكامل، فالرفع منه تكميل للركوع، والخفضُ من القيام تكميل للسجود. ولهذا هو ركنٌ تامٌّ كما جاءت به السنة، وليس معادلتُه لبقيَّةِ الأركان -كما كان يفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "لا يقبل الله صلاةَ من لا يُقيمُ صلبَه في الركوع والسجود" (4) - لعدم تكميلها، فإنه أيضًا إذا لم يُقِم صلبه بين السجدتين لا يكون قد أكمل الأولى برفعِها ولا الثانية بخفضِها. فالسجود إذًا شُرع في الانحناء وهو قاعد، أما إذا كان وجهه قريبًا من   (1) أخرجه أبو داود (893) عن أبي هريرة، ورواه أيضًا ابن خزيمة (3/57- 58) والدارقطني (1/346- 347) والبيهقي (2/89) وضعفاه. (2) أخرجه أبو داود (1949) والترمذي (889، 890) والنسائي (5/256) وابن ماجه (3015) عن عبد الرحمن بن يعمر الديلى. (3) سورة البقرة: 43. (4) أخرجه أحمد (4/119، 122) وأبو داود (855) والترمذي (265) والنسائي (2/183) وابن ماجه (870) عن أبي مسعود الأنصاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 الأرض وأَلْصَقَه فليس هذا بسجود. ومن هنا غَلِطَ من غلط وقال: إن الاعتدالين ليسا بركنينِ طويلينِ، لما ظنّوا أن المقصود مجرَّد الفضل، والصواب ما جاءت به السنّةُ إيجابًا للاعتدال واستحبابًا لإتمامه وتسويته بسائر الأركان، لأن هذا القيام والقعود وإن كانا تابعًا (1) من بعض الوجوه فالقعودُ في آخر الصلاة أيضًا تابعٌ من بعض الوجوه للسجود، وإنما المقصود المحض: القيامُ المشتمل على القراءة المقصودة، والسجودُ الذي هو غاية الخضوع، كما قال: (سَاجِداً وَقَائِماً) (2) . فإذا كان بعضُ أركان الصلاة الفعلية أفضلَ من بعضٍ وأبلغَ في كونه مقصودًا لم يمنع إيجاب التابع المفضول، كالركعتين الأخْريَين مع الأوليين، وكإيجاب الطمأنينة. وحرف المسألة أنّ إتمامَ الأركان فرضٌ، ولا يَتمُّ إلا بذلك، وإتمامُ الصلاة من إقامتها، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، فإن قوله في الخوف والسفر (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (3) -فالخوف يُبيح قَصْرَ الأفعال والسفرُ قَصْرَ الأعداد- دليلٌ على وجوب الإتمام في الأمن والطمأنينة في الطمأنينة، لقوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (4) ، وإتمامُها من إقامتها كما جاءت به السنة، حيث قال للمسيىء في صلاته: "ارجِعْ فصَلِّ، فإنك لم تُصلِّ"، وقال: "فإذا فعلتَ هذا فقد تمت صلاتك" (5) ، فجعلَ من لم يُتمها لم يُصلِّ. والله سبحانه أعلم.   (1) كذا في الأصل بالإفراد. (2) سورة الزمر: 9. (3) سورة النساء: 101. (4) سورة النساء: 103. (5) أخرجه البخاري (757، 793) ومسلم (397) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 فتوى في أمر الكنائس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 ورد على شيخنا استفتاءٌ في أمر الكنائس صورتُه: ما يقول السادة العلماء -وفّقهم الله- في إقليمٍ توافقَ أهلُ الفتوى في هذا الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوةً من غير صلحٍ ولا أمان، فهل ملك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك؟ وهل يكون الملك شاملاً لما فيه من أموالِ الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيَع والكنائس والقلايات والديورة ونحو ذلك، أو يختصّ الملك بما عدا متَعبَّداتِ أهل الشرك؟ فإن ملكَ جميعَ ما فيه فهل يجوز للإمام أن يَعقِدَ لأهل الشرك من النصارى واليهود -بذلك الإقليم أو غيره- الذمةَ على أن يَبقَى ما بالإقليم المذكور من البِيَعِ والكنائس والديورة ونحوها متعبَّدًا لهم، وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا؟ فإن لم يجز -لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه- فهلِ يكون حكم الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يَتصرَّف فيه الإمام تصرُّفه في الغنائم أم لا؟ وإن جاز للإمام أن يَعقِد الذمَّةَ بشرطِ بقاء الكنائس ونحوها فهل يَملِك من عُقِدتْ له الذمّةُ بهذا العقد رِقابَ البيَع والكنائس والديورة ونحوها، ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذاَ العقد أم لا؟ لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع. وإذا لم يملكوا ذلك وبَقُوا على الانتفاع بذلك، وانتقضَ عهدُهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 بسبب يقتضي انتقاضه، إمَّا بموتِ من وقع عقد الذمة معه ولم يُعقِبوا، أو أعقبوا، فإن قلنا: إن أولادهم يُستأنَفُ معهم عَقْدُ الذمةِ -كما نصَّ عليه الشافعي فيما حكاه ابن الصبّاغ، وصححه العراقيون، واختاره ابن أبي عصرون في "المرشد"- فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقِدُ لكم الذمة إلا بشرطِ أن لا تُدخِلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد، فتكون كالأموال التي جُهِلَ مستحقوها وأُيسَ من معرفتها، أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذمة، بلَ يجب عليه إدخالها في عقد الذمة؟ فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس والديورة التي تَحقَّق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين، ولا يجب عليه ذلك عند التردّد في أن ذلك كان موجودًا عند الفتح، أو حدثَ بعد الفتح، أو يجب عليه مطلقًا فيما تحقق أنه كان موجودًا قبل الفتح أو شك فيه؟ وإذا لم يجب في حالة الشك فهل يكون ما وقع الشكُّ في أنه كان قبل الفتح، وجُهلَ الحالُ فيمن أحدثه لمن هو؟ لبيت المال أم لا؟ وإذا قلنا: إن من بلغ من أولاد من عُقِدتْ معهم الذمة -وإن سلفوا- ومن غيرهم لا يحتاجون أن تُعقَد لهم الذمةُ، بل يجري عليهم حكمُ من سلفَ إذا تحقَّقَ أنه من أولادهم، يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم، أم يحتاج إلى تجديد عقدٍ وذمَّة؟ وإذا قلنا: إنهم يحتاجون إلى تجديد عقدٍ عند البلوغ، فهل تحتاج [كنائسهم] وبيعهم إليه أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فُتِحتْ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكعامَّة أرض الشام وبعض مدنها، وكسواد العراق إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 مواضع قليلةً فُتِحتْ صلحًا، وكأرض مصر، فإن هذه الأقاليم فُتِحتْ عنوةً على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد رُوِي في أرضِ مصر أنها فُتِحتْ صلحًا، ورُوي أنها فُتِحتْ عنوة، وكلا الأمرين صحيح على ما ذكره العلماء المتأمِّلون للروايات الصحيحة في هذا الباب (1) ، فإنها فتحت أوّلاً صلحًا، ثمَّ نقضَ أهلُها العهدَ، فبعثَ عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستمدُّه، فأمدَّه بجيشٍ كثير فيهم الزبير بن العوَّام، ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوةً. ولهذا رُوِي من وجوهٍ كثيرة (2) أن الزبير سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلالٌ قَسْم الشام (3) ، فشاورَ الصحابةَ في ذلك، فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئًا للمسلمين ينتفع بفائدتها أولُ المسلمين وآخرهم. ثمَّ وافق عمر على ذلك بعض من كان خالفَه، ومات بعضهم، فاستقر الأمر على ذلك. فما فتحه المسلمون عنوةً فقد ملّكَهم الله إياه كما ملّكهم ما استولَوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار. ويدخلُ في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعُهم وسائرُ منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد. وليس لمعابد الكفار خاصَّةٌ تقتضي خروجَها عن ملك المسلمين، فإن ما يُقَال فيها من الأقوال ويُفعَل فيها من العبادات إما أن يكون مبدلاً أو مُحدَثًا لم   (1) انظر "فتوح البلدان" ص298 وما بعدها، و"الأموال" لأبي عبيد: 186. (2) فتوح البلدان: 300، 301. (3) انظر "الخراج" لأبي يوسف: 23 وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 يَشرعْه الله قَطُّ، أو يكون الله قد نهى عنه بعدما شرعَه. [و] قد أوجبَ الله على أهل دينه جهادَ أهل الكفر حتى يكون الدينُ كله لله، وتكونَ كلمةُ الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بَعثَ الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ويُعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون. ولهذا لما استولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم -كبني قَينقاع والنضير وقُريظة- كانت معابدُهم مما استولى عليه المسلمون، ودخلتْ في قوله (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) (1) ، وفي قوله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) (2) و (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (3) . لكن وإن ملكَ المسلمون ذلك فحكم الملك متنوِّع، كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدبَّر وأمّ الولد والعبد، وكما يختلف حكمه في المقاتلين الذين يُؤسَرون، وفي النساء والصبيان الذين يُسْبَون، كذلك يختلف حكمُه في المملوك نفسه والعقار والأرض والمنقول. وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام مختصة بها لا تُقاس بسائر الأموال المشتركة. ولهذا لما فتح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر أقرَّ أهلها ذمة للمسلمين في مساكنهم، وكانت المزارع ملكًا للمسلمين عاملَهم عليها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه في   (1) سورة الأحزاب: 27. (2) سورة الحشر: 6. (3) سورة الحشر: 7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 خلافته، واسترجع المسلمون ما كانوا أقرُّوهم فيه من المساكن والمعابد. فصل وأما أنه هل يجوز للإمام عَقْدُ الذمة مع إبقاء المعابد بأيديهم؟ فهذا فيه خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة، منهم من يقول: لا يجوز تركُها لهم، لأنه إخراجُ ملكِ المسلمين عنها وإقرارُ الكفر بلا عهد قديم. ومنهم من يقول بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهلَ خيبر فيها، وكما أقرَّ الخلفاء الراشدون الكفَّارَ على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم. فمن قال بالأول قال: حكمُ الكنائس حكمُ غيرِها من العقار، منهم من يُوجب إبقاءَه، كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية؛ ومنهم من يُخَبِّر الإمامَ فيه بين الأمرين بحسب المصلحة، وهذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعليه دلَّت سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حيث قَسَم نصفَ خيبر وتركَ نصفها لمصالح المسلمين. ومن قال: "يجوز إقرارها بأيديهم" فقولُه أوجهُ وأظهر، فإنهم لا يملكون بهذا الإقرار رِقابَ المعابد كما يملك الرجل مالَه، كما أنهم لا يملكون ما ترك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، كما لم يملك أهل خيبر ما أقرَّهم فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المساكن والمعابد. ومجرَّدُ إقرارِهم ينتفعون بها ليس تمليكًا، كما لو أقطع المسلم بعض عقار بيت المال ينتفع بغلَّته، أو سُلِّم إليه مسجدٌ أو رباطٌ ينتفع به لم يكن ذلك تمليكا له، بل ما أُقِرُّوا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعُها منهم إذا اقتضت المصلحةُ ذلك، كما انتزعها أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 من أهل خيبر بأمره بعد إقرارِهم فيها. وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارجَ دمشق، فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد، وأقرَّ ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم، فإن المسلمين لما أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه، وكانت من كنائس الصلح، لم يكن لهم أخذُها قهرًا، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عوضًا عن كنيسة الصلح التي لم يكن لهم أخذُها عنوةً. فصل و متى انتقض عهدُهم جاز أخذُ كنائس الصلح منهم فضلاً عن كنائس العنوة، كما أخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان لقريظة والنضير لمّا نقضوا العهد، فإن ناقضَ العهد أسوأ حالاً من المحارب الأصلي، كما أن ناقضَ الإيمان بالردَّة أسوأ حالاً من الكافر الأصلي. ولذلك لو انقرض أهلُ مصرٍ من الأمصار، ولم يبقَ من دخلَ في عهدهم، فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئًا. فإذا عُقِدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ، وكان لم يعقد لهم الذمة أن يُقرَّهم في المعابد، وله أن لا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء، فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدمَ ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدمه، وإنما اختلفوا في جواز بقائه. وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئًا للمسلمين. أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قَسْمَ العقار فظاهر. وأما على قول من يوجب قَسمهْ سمه فلأن عين المستحق غير معروف، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 كسائر الأموال التي لا يُعرَف لها مالك معين. وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقديرٌ لا حقيقةَ له، فإن إيجاب إعطائهم معابد العنوة لا وجهَ له، ولا أعلم به قائلاً، فلا يُفرَّع عليه، وإنما الخلاف في الجواز. نعم، قد يقال في الأبناء إذا لم نَقُل بدخولهم في عهد آبائهم، لأن لهم شبهة الأمان والعهد، بخلاف الناقضين، فلو وجب لمِ يجب إلا ما تحقق أنه كان له، فإن صاحب الحق لا يجب أن يُعطى إلا ما عُرِف أنه حقُّه، وما وقع الشك فيه على هذا التقدير فهو لبيتِ المال. وأما الموجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقضُ عهدٍ فهم على الذمة، فإن الصبي يتبع أباه في الذمة، وأهل داره من أهل الذمة، كما يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين، لأن الصبي لما لم يكن مستقلاً بنفسه جُعِل تابعًا لغيرِه في الإيمان والأمان. وعلى هذا جرت سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه والمسلمين في إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقدٍ آخر. وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديمًا قبل فتح المسلمين، أما ما أُحدِث بعد ذلك فانه يجب إزالتُه، ولا يُمكِّنون من إحداث البيع والكنائس، كما شَرطَ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه (1) : "إلاَّ يُجدِّدوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولَها كنيسة ولا صومعة ولا دَيرًا ولا قلايةً"، امتثالاً لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تكون قبلتان ببلدٍ واحدٍ". رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد (2) ، ولما   (1) ذكرها ابن القيم وشرحها في "أحكام أهل الذمة" (2/657 وما بعدها) . (2) أخرجه أحمد (1/223، 285) وأبو داود (3032) والترمذي (633، 634) من حديث ابن عباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا كنيسة في الإسلام" (1) . وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى. وما زال من يُوفّقه الله من ولاة أمور المسلمين يُنقذ ذلك ويعمل به، مثل عمر بن عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى، فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمَها بصنعاء وغيرها. وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: "من السنة أن تُهدَم الكنائس التي في الأمصار، القديمة والحديثة" (2) . وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد، وكذلك المتوكل لما ألزمَ أهلَ الكتاب بشروطِ عمر استفتى علماءَ وقتِه في هدم الكنائس والبيع، فأجابوه، فبعثَ بأجوبتهم إلى الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سوادِ العراق، وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين، فمما ذكره ما رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (3) : أيما مصرٍ مصَّرتْه العرب -يعني المسلمين-، فليس للعجم -يعني أهل الذمة- أن يبنوا فيه كنيسة، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا. وأيما مصرٍ مصَّرتْه العجم ففتحه الله على العرب، فإن للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلِّفوهم فوقَ طاقتهم.   (1) أخرجه أبو عبيد في "الأموال": 123. (2) انظر "أحكام أهل الذمة": 676. (3) أخرجه أبو عبيد في "الأموال": 126. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 مسألة فيمن يسمِّي الخميس عيدًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 مسألة ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- فيمن يُسمِّي الخميسَ المعروفَ بعيد النصارى عيدًا؟ وفيمن يَعتقد أن مريم ابنةَ عمران -عليها السلام- تَجُرُّ ذيلَها ذلك اليوم على الزرع، فيَنْمو ويلحق اللقيس بالبكير، ويُخرِجون في ذلك اليوم ثيابَهم وحُلِيَّ النساء يَرجون البركةَ من ذلك اليوم وكثرةَ الخير، ويُكَحِّلون الصبيانَ، ويَمْغَرون الدوابَّ والشجرَ لأجل البركة، ويَصبغون البَيْضَ ويُقامِرون به ويعتقدون حِلَّه، ويَدُفُّون البخورَ ويتبخَّرون به قصدَ البركةِ. أفتونا مأجورين. الجواب قال الشيخ الإمام العالم العامل مفتي الفِرَق، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني الحنبلي -رحمه الله ورضي عنه-: الحمد لله وحدَه. كلُّ ما يُفعَل في أعياد الكُفار من الخصائص التي يعظّم بها فليس للمسلم أن يفعل شيئًا منها، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تَشبَّهَ بقومٍ فهو منهم" (1) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس منَّا من تَشبَّه بغيرنا" (2) . وقد شارط عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه أهلَ الكتاب أن لا يُظهِروا   (1) أخرجه أحمد (2/50، 92) وأبو داود (4031) من حديث ابن عمر. (2) أخرجه الترمذي (2695) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: هذا حديث إسناده ضعيف. وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 شيئًا من شعائرهم بين المسلمين، ولا شيئًا من شعائر الكفار لا الأعياد ولا غيرها، واتفق المسلمون على نهيهم عن ذلك كما شَرَطَه عليهم أمير المؤمنين. وسواء قَصَد المسلمُ التشبُّهَ بهم أو لم يَقصِد ذلك بحكم العادة التي تعوَّدَها فليس له أن يَفعلَ ما هو من خصائصهم، وكل ما فيه تخصيصُ عيدِهم (1) بلباسِ وطعام ونحو ذلك فهو من خصائص أعيادهم، وليس ذلك من دين المسلَمين. ومن قال: إن مريم تَجُرُّ ذيلَها على الزرع فينمو، فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلاَّ قُتِل، فإذا هذا اعتقاد الكفّار النصارى، وهو من أفسد الاعتقادات، فإنَّ من هو أفضل من مريم من الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- لا سَعْيَ لهم في إنبات النباتِ وإنزالِ القَطْر من السماوات، فكيف يكون ذلك من مريم عليها السلام؟ وإنما هذا اعتقاد النصارى فيها وفي شيوخهم القِسِّيسين أنهم ينفعونهم أو يَضُرّونهم، وهذا من شركِهم الذي ذمَّهم الله تعالى به، كما قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (2) ، وقال تعالى (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) (3) . فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا هو كافرٌ، فكيف مَن اتخذ مريمَ أو غيرَها من الشيوخ؟   (1) في الأصل: "عندهم" تصحيف. (2) سورة التوبة: 31. (3) سورة آل عمران: 79-80. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)) (1) . قال طائفة من السلف: كان قومٌ يدعون العُزَير والمسيح والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء الأنبياء والملائكة الذين تدعونهم يرجون رحمتي ويخافون عذابي، كما ترجون رحمتي وتخافون عذابي، ويتقرَّبون إليَّ كما تتقرَّبون إليَّ، وأخبر أنهم لا يملكون كشفَ الضرَّ عنهم ولا تحويلاً. فإذا كان هذا في الملائكة والنبيين فكيف بمن دونهم؟ كمريم وغيرها من الصالحين الرجال والنساء. فمن دعا غيرَ الله تعالى أو عَبَدَه فهو مشركٌ بالله العظيم، وإن كان ذلك رجلاً صالحًا (2) أو امرأةً صالحة. وكذلك التزيُّن يومَ عيد النصارى من المنكرات، وصنعة الطعام الزائد عن العادة، وتكحيل الصبيان، وتحمير الدوابِّ. والشجر بالمغرة وغيرها، وعمل الولائم وجمع الناس على الطعام في عيدهم. ومن فعلَ هذه الأمور يتقرب بها إلى الله تعالى راجيًا بركتَها فإنه يُستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل، فإن هذا من إخوان النصارى. كما لو عَظَّمَ الرجلُ الصليبَ، وصَلَّى إلى المشرق، وتَعَمَّد بالمعمودية، فإنّ من فعلَ هذا فهو كافر مرتدٌّ يجبُ قتلُه شرعًا وإن أظهرَ مع ذلك الإسلامَ. وكذلك صَبْغ البيض فيه. وأما القمار فيه فإنه حرامٌ في كل وقتٍ، فيه وفي غيره. وكذلك البخور فيه ونحو ذلك. وبالجملة ف ليس ليومِ عيدِهم مزيةٌ على غيرِه، ولا يُفعَل فيه شيء   (1) سورة الإسراء: 56- 57. (2) في الأصل: "رجل صالح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 مما يُميِّزونه هم به. ولكن لو صامَه الرجلُ قصدًا لمخالفتهم فقد كرهه كثيرٌ من العلماء، كما رُوِي عن أنس بن مالك والحسن البصري وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي الله عنهم، لأنَّ في (1) تخصيصِ أعيادِ الكفار بالصومِ نوعَ تعظيمٍ لها، وإن كانوا هم لا يصومونه، فكيف إذا كان التعظيم من جنس ما يفعلونه؟ إلا ترى أن اليهود كانوا يتخذون يومَ عاشوراءَ عيدًا، فيصومونَه ويُظهِرون السرورَ فيه، وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصيامِه مرَّةً واحدةً قبلَ أن يُفرَض رمضان، فلما فُرِض رمضانُ سَقَطَ وجوبُه (2) وبَقِيَ صومُه مستحبًّا. ثمَّ إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قيل له: إن اليهود والنصارى يتخذونه عيدًا قال: "لئنْ عِشْتُ إلى قابلٍ لأصومَنَّ التاسعَ" (3) . فقال أكثر أهل العلم: مرادُه صوم التاسع والعاشر، لئلا يُخَصَّ يومُ عاشوراء بالصوم، كما نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم (4) ، وكان يقول: "صوموا يومًا قبلَه أو يومًا بعدَه" (5) . وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ هذا في عاشوراءَ بعد أن كان أمرَ بصيامه ليُخالِفَ اليهودَ، ولا يشارِكهم في إفرادِ تعظيمه. هذا مع أن عاشوراء لم يُشرَع فيه غيرُ الصوم باتفاقِ علماء المسلمين، فكل ما يُفعَل فيه غيرُ ذلك من الاختضاب والكحل والتزين والاغتسال والتوسُّع على العيال غير العادة فيه من حبوب أو غيرها هو من البدع المحدثة في الدين، لم يستحبَّها أحدٌ من العلماء   (1) في الأصل: "من". (2) أخرجه البخاري (2001، 2002 ومواضع أخرى) ومسلم (1125) عن عائشة. (3) أخرجه مسلم (1134) عن ابن عباس. (4) أخرجه البخاري (1984) ومسلم (1143) عن جابر بن عبد الله. (5) أخرجه البخاري (1985) ومسلم (1144) عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 ولا السلف، بل كلُّ ما رُوِي فيها من الأحاديث المرفوعة فهي أحاديث موضوعة. فإذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِه نوعًا من التشبُّه بهم في عاشوراء، فكيف بالمياليد والشعانين والخميس وغير ذلك من أعياد الكافرين؟ وقد ذهب طائفة مِن العلماء إلى كفرِ من يفعل خصائصَ عيدِهم، وقال بعضهم: مَنْ ذبَح فيه بطِّيخةً فكأنما ذَبَحَ خِنزيرًا. فالواجب على ولاةِ الأمور نهيُ الناس عن هذه المنكرات المحرَّمة، وأَمْرُهم بملازمة شعائر الإسلام الذي لا يَقبل الله غيرَه، فـ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ) (1) ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) (2) . آخرها، والله سبحانه وتعالى أعلم. (والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمدِ وآله وصحبه وسلَّم) .   (1) سورة آل عمران: 19. (2) سورة آل عمران: 85. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 فصل. في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 فصل قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)) (1) . قال بعض السلف: هم خير أمة إذا قاموا بهذا الشرط، فمن لم يقم بهذا الشرط فليس من خير أمة. قال: واتفق أئمة الدين على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرٌ واجبٌ على الناس، لكنه فرضٌ على الكفاية كالجهاد وتعلُّم العلم ونحو ذلك، فإذا قام به من يُستكفَى به سقطَ عن الناس، وكان الأجر والدرجة لمن قام به. ومن كان عاجزًا عمّا أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأَرَاد أن يقوم به وجبَ على غيره أن يعاونَه، حتى يحصل المقصود الذي أمر الله به ورسولُه، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (2) . فكلُّ رسولٍ أرسلَه الله وكلُّ كتابٍ أنزلَه الله يتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعروف اسمَ جامع لكل ما يحبُّه الله ويرضاه، والمنكر اسم جامع لكل ما يكرهه ويَسخَطُه. وتَركُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لعقوبة الدنيا قبل الآخرة، فلا يَظُن الظانُ أنها تُصيبُ الظالمَ الفاعلَ للمعصية دونَه مع سكوتِه عن الأمر والنهي، بل تعمُّ الجميعَ.   (1) سورة آل عمران: 110. (2) سورة المائدة: 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 وينبغي أن يكون الآمر فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حكيمًا فيما ينهى عنه، رفيقًا عالمًا قبل الأمر والنهي، رفيقًا حين الأمر والنهي، حليمًا صبورًا بعد الأمر والنهي، كما قال تعالى في قصة لقمان: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)) (1) ، فإن الآمر إنما هو مجاهد في سبيل الله، إذ (2) … … … … … … أن يفعل ذلك عبادةً لله، وطاعةً لله ورسوله، وطلبًا للنجاة من عقاب الله، ونصحًا لعباد الله، لا يفعله لطلب العلوّ والرئاسة على الناس، ولا لعداوة أو حقد في نفسه على المأمور والمنهي، ولا لغرضٍ ينالُه بذلك، يكون أمره بالمعروف معروفًا غيرَ منكرٍ، ونهيُه أيضًا معروف غيرُ منكرٍ. وإلاّ فمتى أراد أن يُزِيلَ منكرًا بمنكرٍ كان كمن يريد غَسْلَ الخمر بالبول، ومن فعل ذلك فقد يكون خسرانُه أكثر من ربحه، وقد يكون أقلَّ أو أكثر. والله أعلم.   (1) سورة لقمان: 17. (2) ما بعدها لم يظهر في التصوير عن الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 مسألة في تلاوة القرآن والذكر، أيهما أفضل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 الحمد لله. سُئِلتُ أيُّ الأمرين أفضلُ: تلاوة القرآن أو الذكر؟ فأجبتُ قائلاً: الظاهر أن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال، فإن كان الشخص ممن أُوتيَ فهمًا في كتاب الله تعالى، إذا تلا متدبِّرًا لآياته ازداد في الحِكَم والأحكام، وتجلَّت له معانٍ وحقائق في أصولِ الدين وفروع الحلال والحرام، كانت التلاوة في حقّه أفضل، كيف وتلاوة القرآن من أفضل الأذكار، والنظر في أحكام الله تعالى من أفضل أعمال الأبرار. وكان عطاءٌ لا رحمه الله تعالى يقول: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تبيع وتشتري وتصلي وتصوم وتحج وتطلق ونحو ذلك. وإن لم يكن الرجل ممن له أهلية الفهم عن كلام الله تعالى، وكان الذكر أجمع لهمته وأصفى لخاطره، كان اشتغاله بالذكر أفضل والحالة هذه. وينبغي للسالك وطالب الزيادة من الخير أن لا يترك حطه منهما، فيذكر الله تعالى إلى أن يجد عنده سأَمةً مَّا، فينتقل إلى الذكر بتلاوة القرآن متدبِّرًّا بترتيل وتفكُّرٍ، وتعظيمٍ عند آيات التوحيد والتنزيه، وسؤالِ عند آيات الوعد والرجاء، وتضرُّع واستعاذة عند آيات الخوف والوعيد، واعتبارٍ عند آيات القصص. فإن القرآن الكريم لا يَسأمُ قارئه، لاختلاف المعاني الواردة فيه. وعند اشتغاله بالذكر ينبغي أن لا يفوته دقيقة نبَّه عليها بعض المحققين، وهي أن يقصد مثلاً عند ذكر "لا إله إلا الله" تلاوةَ قوله تعالى في سورة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) (1) لتُثْمِرَ له هذه   (1) سورة محمد: 19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 الكلمة المباركة ثمرة الذكر والتلاوة، فيكون جامعًا بين الفضيلتين. ولكلٍّ من التلاوة والذكر آدابٌ وشروط ذكرها العلماء، فينبغي له أن يتحرى في المحافظة عليها، وإن كان له شيخ يُرَبِّيه ألقَى زِمامَ أمرِه إليه، ليشير بما هو الأولى له عليه. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 فتوى في السماع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- هل السماع بالقضيب على المخادّ (1) مباح وحلالٌ أو حرام؟ لأنه عُدِل به عن الدفّ والشبابة، وما هو ذلك؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله تعالى. أجاب سيدنا وشيخنا الشيخ تقي الدين ابن، تيمية- أطال الله في عمره-: الضرب بالقضيب على المخاد هو التغبير الذي قال فيه الشافعي: خلفتُ ببغداد شيئًا أحدثتْه الزنادقة يُسمونَه التغبيرَ يَصُدُّون به الناس عن القرآن. ويذكر فيه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، ونهوا الناس عن الحضور معهم. وكان الذين يحضرونه أهل زهد وعبادة ودين، يحضرونه لما فيه من التزهيد والترقيق وتحريك القلوب بالحبّ والحزن والخوف ونحو ذلك، فعدَّه الأئمة من البدع المحدثة في الإسلام، لأن الله إنما شرع للمسلمين سماعَ القرآن، فهو سماعُ النبيين والعالِمين والعارفين والمؤمنين، كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه. ولم يَحضُر هذا التغبيرَ أعيانُ الشيوخ المعروفين، كالفُضيل بن عِياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسرِيّ السقطى، بل ولا الشيخ العارف عبد القادر الكيلاني ولا الشيخ عديّ والشيخ أبي مَدْيَن والشيخ أبي البيان والشيخ حيا، وأمثال هؤلاء من شيوخ المسلمين، والله سبحانه أعلم. وكتبه أحمد ابن تيمية عفا الله عنه.   (1) جمع مخدَّة: حديدة تُشَق بها الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 مسألة في رجلٍ شتَم شريفًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 مسألة في رجلٍ من أهل العلم شَتَمه شريفٌ وقال له: يا جاهل! فقال هو للشريفِ: الجاهلُ جَدُّك، ولم يعلم أنه شريف، فقال له الشريف: كَفَرتَ لأنك شَتمتَ جَدِّي رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجواب لا يَحِلُّ تكفيرُ المسلم بمثلِ ذلك، ومَن عُرِفَ إيمانُه لا يَقصِد بمثل هذا اللفظ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن ادَّعى على معروفٍ بالخير والدين أنه قصدَ بذلك رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه يُعزَّر هذا المفتري على أهل الخير والدين، كما لو ادعى على أحدٍ أنه سَرَق مالَه أو قَطَعَ الطريقَ عليه ونحو ذلك من دعاوي التُّهَم التي يعلم براءة المتَّهم فيها، فإنه يُعزَّر في قولَي العلماء من يفتري على أهل الخير بمثل ذلك. وسواء كان المتكلم بهذا يعلم أن المخاطبَ شريفٌ أو لم يكن يعلم لا يُحمل ذلك على مرادِه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا أن تكون هناك قرينة تدلُّ على ذلك، مثل أن يكون القائل معروفًا بالنفاق والاستهزاء بالرسالة والقرآن ودينِ الإسلام ونحو ذلك، فمتى ظهرتْ هذه الكلمة ممن هو معروف بالنفاق كان ذلك قرينةً تُقَوِّي إرادتَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيُحبَس حينئذ المتَّهَم، ويُكشَف عن بقية أحوالِه، ويُعاقَب إما بالقتل وإما بدونه، لئلاّ يجترئ أهل النفاق والزندقة على انتهاكِ حرمة الرسالة. والجدّ المطلق يتناول أبا الأب، وقد يتناول من هو أعلى منه بقرينة، ومن الأشراف العالم والجاهل والبرُّ والفاجر والصادق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 والكاذب، ويجب عليهم طاعةُ اللهِ ورسوله كما يجب على سائر الأمة، ويجب أن تُقامَ عليهم الحدود كما تُقامُ على غيرِهم، فإن في الصحيحين (1) أن امرأةً كانت ذاتَ شَرَفٍ سَرَقت على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع يدِهما، فشقَّ ذلك على أهلها، وقالوا: من يُكلِّم فيها رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامةَ بن زيد، فكلَّمه فيها أسامةُ، فغَضِبَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "يا أسامة! أتَشفَعُ في حدٍّ من حدود الله تعالى؟ إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريف تركوه، وإذا سَرَق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ. والذي نفسُ محمدٍ بيده لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدها". و ليس لأحدٍ أن يعتدي على أحدٍ سواء كان شريفًا أو لم يكن، ومتى اعتدى الشريف أو غيره على الناس كان لهم أن يعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليهم، فإن قال لمسلم: يا كلب يا خنزير! كان له أن يقول له: يا كلب يا خنزير!، ولو قال له: لعنَك الله، كان له أن يقول له: لعنك الله، وإن ضربَه بغير حق ضَرَبَ كما ضَربه، وإن أَخذ ماله بغير حق أَخذ من ماله بقدر ما أخذ من ماله. فإن المسلمين متفقون على أن القصاص ثابت بين الشريف وغير الشريف في الدماء ونحوها. ولو قذفَ الشريفُ رجلاً محصنًا أقيم عليه حدُّ القذف كما يقام على غيره. وليس لأحدٍ أن يَسُبَّ من لا يَسبَّ، سواء كان شريفًا أو لم يكن، بل له أن يعاقب من ظلمه ولا يتعدى إلى غيره. وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من أكبر الكبائر أن يَسُبَّ الرجل والدَيْه"،   (1) البخاري (3475) ومسلم (1688) عن عائشة. (2) البخاري (5973) ومسلم (90) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 قالوا: وكيف يَسُبُّ والديه؟ قال: "يَسُبُّ أبا الرجلِ فيسبُّ أباه، ويَسُبُّ أمَّه فيسبّ أمّه". ومن يسبَّ من لم يَسُبَّه من الأشراف أو غيرِهم عُزِّر. ولا يُقتَل أحدٌ إلا بسَبّ نبيّ من الأنبياء، فمن يسَبَّ نبيًّا من الأنبياء وجبَ قتلُه. وفي الرافضة الذين يَسُبُّون الصحابةَ تفصيل ونزاعٌ. والله أعلم. (هذا جواب الشيخ تقي الدين أحمد ابن تيمية، أثابه الله ورضي عنه، وجزاه عن هذه الأمة كل خير في الدنيا والآخرة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 قاعدة في حضانة الولد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحرَّاني رضي الله عنه: الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليما. فصل في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز: هل هو للأب أو للأم؟ أو يُخير بينهما؟. فإن عامة كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذا بلغ سبعَ سنين خُيِّر بين أبويه، أما الجارية فالأب أحقُّ بها، وأكثرهم لم يذكروا في ذلك نزاعًا. وهؤلاء الذين ذكروا هذا بلغهم بعضُ نصوص أحمد في هذه المسألة، ولم يبلغهم سائرُ نصوصِه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدًّا، وقَلَّ من يَضبط جميعَ نصوصه في كثير من المسائل، لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرةِ من كان يأخذ عنه العلم. فأبو بكر الخلاّل قد طاف بالبلاد، وجمع من نصوصِه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدًا (1) ، وفاتَه أمورٌ كثيرة ليست في كتبه. وأما ما جَمعه من نصوصه في أصولِ   (1) ذكر الذهبي في "السير" (14/297) وابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/28) أنها في عشرين مجلدًا أو أكثر. ولم يصل إلينا منها إلا مجلدان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 الدين مثل: "كتاب السنة" نحو ثلاث مجلدات، ومن أصول الفقه والحديث مثل: "كتاب العلم" الذي جمعه، ومن الكلام على علل الأحاديث مثل "كتاب العلل" الذي جمعه، ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والآداب، ومن كلامه في الرجال والتاريخ= فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه. والمقصود هنا أن النزاع عنه موجود في المسألتين كلتاهما: في مسألة البنت، وفي مسألة الابن. وفي مذهبه في المسألتين ثلاثة أقوال: هل تكون مع الأم أو مع الأب أو تُخيَّر؟ لكن في الابن ثلاث روايات. وأما البنت فالمنقول عنه روايتان: هل هي للأم أو للأب؟ وأما التخيير فهو وجهٌ مخرَّجٌ في مذهبه (1) . فعنه في الابن ثلاث روايات معروفة، وممن ذكرهن أبو البركات في "محرَّره" (2) . وعنه في الجارية روايتان، وممن ذكرهما أبو عبد الله ابن تيمية في كتابه "التلخيص" و"ترغيب القاصد" (3) . والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها في عدة كتب. وممن ذكر هذه الروايات القاضي أبو يعلى في "تعليقه"، نقل عن أحمد في الغلام: أمُّه أحقُّ به حتى يَستغني عنها، ثم الأب أحقُّ به. قال في رواية الفضل بن زياد: إذا عَقَلَ الغلامُ واستغنى عن الأم   (1) انظر "زاد المعاد" (5/417- 418) . (2) 2/120. (3) لم يصلا إلينا. ومختصره الوجيز "بلغة الساغب" مطبوع نصفُه تقريبًا، بالاعتماد على نسخة ناقصة من أثناء كتاب الفرائض (ص337) إلى الباب السادس من كتاب الشهادات، فلا يحتوي على أبواب النكاح والطلاق والنفقات والرضاع وغيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 فالأب أحقُّ به. وقال في رواية أبي طالب: والأب أحقُّ بالغلام إذا عَقَلَ واستغنى عن الأم. وهذا يُشبه الذي نقله القاضي أبو يعلى والشاشي وغيرهما عن أبي حنيفة، قَال: إذا أكل وحدَه ولَبِسَ وحدَه وتوضَّأ وحدَه فالأب أحقُّ به. ونقلَ ابن المنذر أنه يُخيّر حينئذٍ بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور. والأول هو مذهب أبي حنيفة الموجود في كتب أصحابه. وهو إحدى الروايتين عن مالك، فإنه نَقَلَ عنه ابنُ وهب: الأمُّ أحقُّ به حتَى يثْغِر. ولكن المشهور عنه: أن الأم أحقُّ به ما لم يبلُغ. وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد. والرواية الثالثة عن أحمد أن الأم أحق بالغلام مطلقًا، كمذهب مالك. قال في رواية حنبل: في الرجل يطلِّق امرأتَه وله منها أولاد صغار، فالأمُّ أعطفُ عليهم مقدار ما يعقل الأدب، فيكون الأبُّ أحقَّ بهم ما لم تتزوَّج، فإذا تزوجت فالأب أحقُّ بولده غلافا كان أو جارية. قال الشيخ أبو البركات (1) : فهذه الرواية تدلُّ على أنه إذا كبر وصار يعقل الأدب فإنه يكون مقره أيضًا عند الأمّ، لكن في وقت الأدب -وهو النهار- يكون عند الأب. وهذا مذهب مالك بعينه الذي حكيناه. فصار في المسألة ثلاث روايات. ومذهب مالك في "المدونة" (2) أن الأمَّ أحقُّ به ما لم يبلغ،   (1) المحرر (2/120) . (2) 2/244. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 وللأب تعاهدُه عندها وأدبُه وبعثُه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم. قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقَّه على مذهب أبي حنيفة، ثم اجتهد في مسائل كثيرة رجَّح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك المسائل أحمدَ وغيرَه، وشرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام دمشق. وأما الذين كانوا يسألونه مطلقًا -مثل الأثرم وعبد الله وصالح وغيرهم- فكثيرون. وأما حضانة البنت إذا صارتْ مميَّزةً فوجدنا عنه روايتين منصوصتين، وقد نقلهما غيرُ واحدٍ من أصحابه، كأبي عبد الله ابن تيمية وغيرِه: إحداهما: أن الأب أحقُّ بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه. والثانية: أن الأمَّ أحق بها. قال في رواية إسحاق بن منصور: يُقضَى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحقُّ بها. وقال في رواية مهنّا بن يحيى: الأمّ والجدَّة أحق بالجارية حتى يتزوَّج الأب. قال أبو عبد الله في "ترغيب القاصد": وإن كانت جارية فالأب أحقُّ بها بغير تخيير، وعنه: الأمّ أحقُّ بها حتى تحيض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة في ذلك. ففي "المدونة" (1) : مذهب مالك أن الأم أحق بالولد ما لم يبلغ، سواء كان ذكرًا أو أنثى. فإذا بلغَ وهو أنثى نُظِرتْ، فإن كانت الأم في حِرزٍ ومنعةٍ وتحصينٍ فهي أحق بها أبدًا ما لم تنكح وإن بلغتْ أربعين سنة؟ وإن لم تكن في موضع حرزٍ وتحصين أو كانت غير مرضية في نفسها، فللأب أخذها منها. وكذلك الأولياء والوصي كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصين. ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحقُّ بالجارية حتى تبلغ، فإن كانت الأم غير مرضية في نفسها وأدبها لولدها أُخِذَتْ منها إذا بلغتْ، إلا أن تكون صغيرة لا يُخافُ عليها. وأما أبو حنيفة فقال: الأم والجدَّة أحق بالجارية حتى تحيض، ومَن سِوَى الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حدًّا تشتهي. هذا هو المشهور، ولفظ الطحاوي (2) : "حتى تستغني" كما في الغلام مطلقًا. ولهذا قيل فيها كما قيل في الغلام: حتى تأكلَ وحدَها وتلبسَ وحدَها وتتوضأ وحدَها، ثم تكون مع الأب. وأبو حنيفة أيضا يجعل الأب أحقَّ بها بعد التمييز، كما يقول مثل ذلك في الابن، لكن يستثني الأم والجدة خاصة. وأما المشهور عن أحمد -وهو تخيير الغلام بين أبويه- فهو مذهب الشافعي وإسحاق بن راهويه. وموافقتُه للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبهُ منها بأصول غيرهما. وكان يثنِي عليهما ويُعظِّمهما ويُرجح أصولَ مذاهبهما على من ليست أصولُ   (1) 2/244. (2) "مختصره" (ص226، 227) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 مذاهبه كأصول مذاهبهما. وعندهم أصول فقهاء الحديث أصحُّ من أصول غيرِهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث. وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة رباع مكة، والقصة مشهورة (1) . وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاقَ بالحَجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في موضع؛ فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحاق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها. وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولاً لا عن أحمد ولا عن إسحاق، كما ونُقِل عنهما التخيير في الغلام. ولكن نُقِل عن الحسن بن حيّ أنها تُخيَّر إذا كانت كاعبًا. والتخيير في الغلام هو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وإسحاق، للحديث الوارد في ذلك، حيث خيَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلامًا بين أبويه (2) ، وهي قضية معينة، ولم يرد عنه نصّ عام في تخيير الولد مطلقًا. والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف (3) مخالفٌ لإجماعهم.   (1) انظر مناقب الشافعي للبيهقي (1/213 وما بعدها) ومعجم الأدباء (17/293- 298) وطبقات الشافعية للسبكي (2/89- 90) . (2) أخرجه أحمد (2/246، 447) وأبو داود (2277) والترمذي (1357) والنسائي (6/185) وابن ماجه (2351) من حديث أبي هريرة، وحسَّنه الترمذي وصححه ابن حبان. وانظر: "تلخيص الحبير" (4/12) . (3) أخرجه أحمد (5/446) وأبو داود (2244) والنسائي في الكبرى كما في "تحفة الأشراف" (3594) من طريق عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رافع بن سنان. وفي سنده اختلاف كثير وألفاظ مختلفة، قال ابن المنذر: لا يُثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال. انظر: "تلخيص الحبير" (4/11) . وسيأتي الكلام على الحديث في آخر هذه الرسالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة، لا تخيير رأي ومصلحة، كتخيير من يتصرف لغيره، كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خُيّر في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمنّ والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين، ثم قد يُصيب ذلك الأصلح للمسلمين، فيكون مصيبًا في اجتهاده حاكمًا بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يُصيبه، فيثاب على استفراغ وُسعِه، ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة. كالذي ينزل أهل حصنٍ على حكمه، كما نزل بنو قريظة على حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل قال: "ألا تَرضَون أن أجعل الأمرَ إلى سيدكم سعد بن معاذ؟! فرَضُوا بذلك، وطمع من كان يحب استبقاءَهم أن سعدًا يُحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من الموالاة. فلما أتى سعا حكمَ فيهم أن تُقتَل مقاتلتُهم، وتُسبَى ذراريهم، وتُغنَم أموالُهم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات" (1) . وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكمًا لله في نفس الأمر، وإن كان لابدَّ من إنفاذه. ومثل هذا ما ثبت في صحيح مسلم (2) وغيره من حديث بُريدة المشهور، قال فيه: "وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فسألوك أن تُنزِلَهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أَنزِلْهم على حكمك وحكم أصحابك".   (1) انظر: سيرة ابن هشام (2/239، 240) . وأخرجه البخاري (3043، 3804، 4121، 6262) ومسلم (1768) بنحوه مختصرًا من حديث أبي سعيد الخدري. (2) برقم (1731) وأخرجه أيضًا أحمد (5/352، 358) وأبو داود (6212، 6213) والترمذي (1408، 1617) والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (1929) وابن ماجه (2858) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصرَ الإمامُ حصنًا، فنزلوا على حكم حاكمٍ، جاز إذا كان رجلاً مسلمًا حرًّا عدلاً، من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظٌّ للإسلام من قتلٍ أو رِقّ أو فداء. وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن، فأباه الإمام، هل يلزم حكمه أو لا يلزم؟ أو يُفرَّق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال. وإنما تنازعوا في ذلك لظنّ المنازع أن المنَّ لا حظَّ فيه للمسلمين. والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي مصلحة، بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأيّ الدليلين كان أرجح اتبعَه. ولكن معنى قولنا "يُخيَّر" أنه لا يتعين فعلُ واحدٍ من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعلُ هذا تارةً وفعلُ هذا تارةً. وقولُ الله في القرآن (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) (1) يقتضي فعلَ أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تَعيُّنَ هذا في حالٍ وهذا في حالٍ، كما في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) (2) . فتربُّصُ أحد الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عينٍ علينا بعض الأوقات، فحينئذٍ يصيبهم الله بعذابٍ بأيدينا، كما في قوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) (3) . ولهذا كان عند جميع العلماء قولُه تعالى في المحاربين: (إِنَّمَا   (1) سورة محمد: 4. (2) سورة التوبة: 52. (3) سورة التوبة: 14- 15. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1) لا يقتضي أن الإمام يُخيّر تخيير مشيئة، فيفعل أيَّ هذه الأربعة شاء، بل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال وهذا في حال. ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنصّ، فإن قَتَلوا تعيَّن قتلُهم، وإن أخذوا المالَ ولم يقتلوا تعيَّن قطعُ أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد (2) ، وروي في ذلك حديث مرفوع (3) . ومنهم من يقول: بل التعيين باجتهاد الإمام، كقول مالك، فإن رأى أن القتل هو المصلحة قتل، وإن لم يكن قد قَتل. ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعْلِها فيئًا وجَعْلِها غنيمةً، كما هو قول الأكثرين كأبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وأحمد في المشهور عنه، فإنهم قالوا: إن رأى المصلحةَ في جَعْلِها غنيمةً قَسمها بين الغانمين، كما قَسَمَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر؛ وإن رأى أن لا يَقسِمها جاز، كما لم يَقْسِم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكةَ مع أنه فتحها عنوةً، كما شهدتْ بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة، وكما قاله جمهور العلماء. ولأن خلفاءه بعدَه أبا بكر وعمر وعثمان   (1) سورة المائدة: 33. (2) انظر "المغني" (12/475 وما بعدها) . (3) يُروى مرفوعاً وموقوفًا على ابن عباس، أخرجه أبو يوسف في كتاب "الخراج" (ص177) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/283) . وانظر "الدر المنثور" (3/68) . وفي "المغني" (1/4772) : "قيل إنه رواه أبو داود". ولا يوجد عنده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 فتحوا ما فتحوه من أرض المغرب والروم وفارس، كالعراق والشام ومصر وخراسان، ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئًا من العقار المغنوم بين الغانمين، لا السواد ولا غير السواد، بل جعلوا العقار فيئًا للمسلمين داخلاً في قوله (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) الآية (1) . ولم يستأذنوا في ذلك الغانمين، بل طلبَ أكابرُ الغانمين قسمةَ العقار، فلم يُجيبوهم إلى ذلك، كما طلبَ بلالٌ من عمر أن يَقسِمَ أرضَ الشام، وطلب منه الزبير أن يقسم أرض مصر، فلم يجيبوهم إلى ذلك. ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدًا من الغانمين في ذلك، فضلاً عن أن يستطيبَ أنفُسَ جميع الغانمين. وهذا مما احتَجَّ به مَن جعلَ الأرضَ فيئًا بنفس الفتح، ومن نَصَرَ مذهبَه كإسماعيل بن إسحاق وغيره، وقالوا: الأرض ليست داخلةً في الغنيمة؛ فإن الله حرَّم على بني إسرائيل المغانمَ ومَلَّكَهم العقارَ، فعُلِمَ أنه ليس من المغانم. وهذا القول يُذكَر رواية عن أحمد، كما ذُكِر عنه روايةٌ ثالثةٌ كقول الشافعي: أنه يجب قسمة العقار والمنقول، لأن الجميع مغنومٌ. وقال الشافعي: إن مكة لم تُفتَح عنوةً بل صُلحًا، فلا يكون فيها حجة. ومن حَكَى عنه أنه قال: إنها فتِحتْ عنوةً -كصاحب "الوسيط" (2) وفروعه- فقد غَلِطَ عليه. وقال في السواد: لا أدري ما أقول فيه، إلا أني أظنُّ فيه ظنًّا مقرونًا بعلمٍ وظنّ أن عمر استطابَ أنفسَ الغانمين، لما رُوِي من قصة المثنى بن حارثة. وبَسْطُ هذا له موضع آخر.   (1) سورة الحشر: 7. (2) 7/42. وردَّ عليه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" (2/127ب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 وقول الجمهور أعدلُ الأقاويل، وأشبهُها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: يُخيَّر الإمام بين الأمرين تخييرَ رأي ومصلحة، لا تخيير شهوة ومشيئةٍ، وهكذا سائر ما يُخيَّر فيه وُلاةُ الأمر ومن تصرَّفَ لغيرِه بولاية، كناظر الوقف ووصيِّ اليتيم والوكيل المطلق، لا يُخيَّرون تخييرَ مشيئةٍ وشهوةٍ، بل تخييرَ اجتهاد ونظر وطلبٍ، ويُجزى للأصلح. كالرجل المبتَلَى بعدوَّين، وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما، فيبتدئ بماله نفع. وكالإمام في تولية من ولاَّه الحربَ والحكمَ والمالَ يختارُ الأصلح فالأصلح. فمن وَلَّى رجلاً على عصابةٍ، وهو يجد فيهم من هو أرضى لله منه، فقد خانَ الله وخانَ رسولَه وخانَ المؤمنين. وهذا بخلاف من خُيِّر بين شيئين وله أن يفعل أيَّهما شاءَ، كالمكفِّر إذا خُير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحدُ الخصال أفضلَ فيجوز له فعل المفضول. وكذلك لابسُ الخفّ إذا خُيِّر بين المسح وبين الغَسل، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك المصلي إذا خُيِّر بين الصلاة في أول الوقت وآخره، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة، وإن كان نفس الأكل والشرب واجبًا عند الضرورة، حتى إذا تعين المأكول وجبَ أكلُه وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلُها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم. وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يُخيِّرون الثلاثة. وتخيير المسافر بين الفطر والصوم عند الجمهور. وأما من يقول: لا يجوز أن يحج إلاّ متمتعا، وأنه يتعين الفطر في السفر، كما يقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة، فلا يجيء هذا على أصلهم. وكذلك القصر عند الجمهور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ليس له أن يصلي أربعًا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُصل في السفر قط إلا ركعتين، ولا أحد من أصحابه في حياته. وحديث عائشة التي تذكر فيه أنه أو أنها صلَّتْ في حياته في السفر أربعًا كذبٌ عند حُدَّاق أهل العلم بالحديث، كما قد بُسِطَ في موضعه (1) . إذ المقصود هنا أن التخيير في الشرع نوعان، فمن خُيِّر فيما يفعله لغيرِه بولايته عليه، أو بوكالةٍ مطلقة، لم يُبَحْ له فيها فعلُ ما شاء، فعليه أن يختار الأصلح. وأما من تصرَّف لنفسه، فتارةً يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الآراء بل وأصلح الأحكام في نفس الأمر. وتارةً يُبيح له ما شاء من الأنواع التي خيّر بينهما، كما تقدم. هذا إذا كان مكلفًا. وأما الصبي المميِّز فيُخيَّر تخييرَ شهوةٍ، حيث كان كلٌّ من الأبوين نظيرَ الآخر، ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للمميِّز من الأم، ولا كلُّ أم فهي أصلح له من الأب. بل قد يكون بعضُ الآباء أصلح، وبعضُ الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال. فلم يمكن أن يعتبر أحدهما في هذا. بخلاف الصغير، فإن الأم أصلح له من الأب، لأن النساء أوثقُ بالصغير وأخبَرُ بتغذيته وحملِه وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك وأرحم به، فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر في هذا الموضع. فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع. ولكن بقي تنقيحُ المناط: هل عيَّنهن الشارعُ لكون قرابة الأم   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (22/78-81؛ 24/144-156، 8، 10، 19) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 مقدمةً على قرابة الأب في الحضانة أو لكون النساء أقومَ بمقصودِ الحضانة من الرجال؟ وهذا فيه قولان للعلماء، يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم، مثل: أمّ الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل: العمة والخالة، ونحو ذلك. هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد. وأرجح القولين في الحجة تقديم نساء العصبة، فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم. وهو الذي ذكره الخرقي في "مختصره" (1) وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب. وعلَّل ذلك من علَّله -كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة الأم، فإن قرابتها فيها رَحِم وتعصيبٌ، بخلاف قرابة الأم، فإنَّ فيها رَحِمًا بلا تعصيب. فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من الأب مقدمة على الأخت من الأم، والعمة مقدمة على الخالة. كما يُقدَّم أقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعمُّ أولى من الخال. بل قد قيل: إنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وإن الحضانة لا تثبت إلا لرجلٍ من العصبة أو لامرأةٍ وارثةٍ، أو مُدْلِيةٍ بعصبةٍ أو وارثٍ، فإن عدموا فالحاكم. وعلى الوجه الثاني فلا حضانة للرجال في أقارب الأم. وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد. فلو كانت جهة الأمومة راجحةً لترجح رجالُها ونساؤها، فلما لم يترجح رجالُها بالاتفاق فكذلك نساؤها.   (1) انظر "المغني" (11/423، 424) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 وأيضًا فمجموع أصول الشرع إنما يُقدّم أقاربَ الأب في الميراث والعقل والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، لم يقدِّم الشارعُ قرابةَ الأم في حكم من الأحكام، فمن قدَّمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة. ولكن قدّموا الأمّ لكونها امرأةً، وجنسُ النساء مقدماتٌ في الحضانة على الرجال. وهذا يقتضي تقديم الجدَّةِ أمِّ الأب على الجدّ، كما قُدّمت الأمُّ على الأب، وتقديم أخواتِه على إخوته، وعمّاتِه على أعمامِه، وخالاتِه على أخوالِه. هذا هو القياس والاعتبار الصحيح. وأما تقديم جنس نساء الأم على جنس نساء الأب فمخالفٌ للأصول والمعقول، ولهذا كان من قال هذا في موضعٍ يتناقض، ولا يطرد أصله. ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصودَه في ذلك أقوالاً متناقضة، حتى يوجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من هذا الجنس. فمنهم من يقدّم أم الأم على أم الأب، كأحد القولين في مذهب أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة. ثم من هؤلاء من يقدِّم الأخت من الأب على الأخت من الأم، ثم يُقدّم الخالة على العمة، كقول الشافعي في الجديد وطائفةٍ من أصحاب أحمد. وبَنَوا قولَهم على أن الخالات مقدمات على العمّات لكونهن من جهة الأم، ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات: من كانت لأبوين أولى، ثمّ من كانت لأب، ثم من كانت لأم. وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضُمَّ هذا إلى قولهم بتقديم قرائب الأم ظهر التناقضُ. وهم أيضًا قالوا بتقديم أمهاتِ الأب والجدّ على الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع؛ لكنه يناقض هذا الأصل، ولهذا قالوا في القول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 الآخر: إن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب، كقول الشافعي القديم. وهذا أَطردُ لأصلهم، لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع. وطائفة أخرى طردتْ أصلَها، فقدَّمتْ من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب، كقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج. وبالغ بعضُ هؤلاء في طرد قياسِه، حتى قدَّم الخالةَ على الأخت من الأب، كقول زفر وروايةٍ عن أبي حنيفة، ووافقهم ابن سُرَيج. ولكن أبو يوسف استشنعَ ذلك، فقدَّم الأختَ للأب، ورواه عن أبي حنيفة. ورُوِيَ عن زفر أنه أمعنَ في طرد قياسِه، حتى قال: إنّ الخالةَ أولى من الجدّة أمِّ الأب. وقد رُوِي عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام. وكان يقول في القياس: قياسُ زفر أقبحُ من البولِ في المسجد. وزفر كان معروفًا بالإمعان في طرد قياسِه، لكن الشأن في الأصل الذي قاس عليه وفي علة الحكم في الأصل، وهو جواب سؤال المطالبة، فمن أحكم هذا الأصل استقامَ قياسُه. وهذا كما أن زفر اعتقد أن النكاح إلى أجل يَبطُلُ فيه التوقيتُ، ويصحّ النكاح لازمًا. وخرَّجَ بعضُهم ذلك قولاً في مذهب أحمد. فكان مضمون هذا القول أن نكاح المتعة يَصخُ لازمًا غيرَ موقتٍ، وهو خلاف النصوص وخلافُ إجماع السلف. والأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين، لم يكن لمن بعدهم إحداثُ قولي يناقضُ القولين، ويتضمنُ إجماعَ السلف على الخطأ والعدول عن الصواب. وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنه باطلٌ، أو يَصِخُ مؤجَّلاً، فالقولُ بلزومِه مطلقًا خلافُ الإجماع. وسبب هذا القول اعتقادُهم أن كل شرط فاسدٍ في النكاح فإنه يَبطُل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 وينعقد النكاح لازمًا بدون حصولِ غرض المشترط. فألزموه ما لم يلتزمْه ولا ألزمَه به الشارع، ولهذا صحح من قال ذلك نكاحَ الشغار ونحوه مما شُرِطَ فيه نفيُ المهر، وصححوا نكاح التحليل لازمًا مع إبطال شرط التحليل، وأمثال ذلك. وقد ثبت في الصحيحين (1) عن عقبة بن عامر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنّ أحقَّ الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفروج". فدكَ النصُّ على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يَبطُل العقدُ، وإما أن يثبت الخيارُ لمن فاتَ غرضُه بالاشتراط إذا بطلَ الشرط، فكيف بالشروط في النكاح؟. وأصلُ عمدتهم كون النكاح يصحُّ بدون تقدير الصداق، كما ثبتَ بالكتاب والسنة والإجماع. فقاسوا النكاح الذي شُرِطَ فيه نفيُ المهر على النكاح الذي تُرِكَ تقديرُ الصداقِ فيه، كما فَعَل أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد. ثم طَرَد أبو حنيفة قياسَه، فصحَّح نكاحَ الشغار بناءً على أن لا مُوجبَ لفسادِه إلا إشغاره عن المهر، وهذا ليس مفسدًا. وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلَّفوا الفرق بين الشغار وغيره، بأن فيه تشريكًا في البُضْع أو تعليقًا للعقد أو غير ذلك، مما قد بُسِطَ في غير هذا الموضع (2) ، وبُيِّن فيه أنّ كلَّ هذه فروق غيرُ مؤثّرة، وأن الصواب مذهب أهلِ المدينة مالكٍ وغيرِه،   (1) البخاري (2721، 5151) ومسلم (1418) . (2) انظر "مجموع الفتاوى" (20/379) و"نظرية العقد" (ص175 وما بعدها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، وعليه أكثر قدماء أصحابه: أن العلة في إفسادِه هي شرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفي المهر أو مهر فاسد. فإنَّ الله فرضَ فيه المهرَ، فلم يُحِلَّ لغير الرسولِ النكاحَ بلا مهرٍ. فمن تزوج بشرط أن لا يجب مهر فلم يعقد النكاح الذي أذن الله فيه، فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بماله محصنًا غير مسافح، كما قال تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) (1) . فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحلَّ الله. وهذا بخلاف من اعتقد أنه لابد من مهرٍ لكن لم يقدره، كما قال تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) إلى قوله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية (2) . فهذا نكاح المهر المعروف، وهو مهر المثل. قالوا: فهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل -وهو السعر- أو الإجارة بثمن المثل لا يصح، بخلاف النكاح. وقد سلَّم لهم هذا الأصلَ الذي قاسوا عليه الشافعيُّ وكثير من أصحاب أحمد في البيع. وأما في الإجارة فأصحابُ أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: إنه يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه في مثل ذلك، كمن دخل حمام حمامي يدخلها الناس بالكراء، أو سكن في خانٍ أو حجرةٍ جرت عادتهم بذلك، أو دفع طعامه أو خبزَه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو ثيابه إلى من يغسل بالأجرة، أو   (1) سورة النساء: 24. (2) سورة البقرة: 236- 237. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 ركب دابة مكارئ يُكارِي بالأجرة، أو سفينة ملاّحٍ يركب الناس بالأجرة. فإن هذه إجارة عرفية عند جمهور العلماء، وتجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ذلك. فهذه إجارة بأجرة المثل. وكذلك لو ابتاع طعامًا بمثل ما ينقطع به السعر، أو بسعر ما يبيع الناس، أو بما اشتراه به من بلده أو برقمه، فهذا يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره. وقد نصَّ أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير موضع، وإن كان كثير من متأخري أصحابه لا يُوجَد في كتبهم إلا القول الآخر بفسادِ هذه العقود، كقول الشافعي وغيره. وبسطُ هذه المسائل في مواضع أخر. والمقصود هنا كان مسائل الحضانة، وأن الذين اعتقدوا أن الأمَّ قُدّمت لتقدم قرابة الأمّ لمّا كان أصلُهم ضعيفًا كانت فروعُهم اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، وفسادُ اللازم يستلزم فسادَ الملزوم. بل الصواب بلا ريب أنها قُدّمت لكونها أنثى، فتكون المرأة أحقَّ بحضانة الصغير من الرجل، فتُقدَّم الأمّ على الأب، والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم. وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجلٌ قريب، فهذا لبسطِه موضع آخر، إذ المقصود هنا ذكر مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصبية والصبي. فتخييرُ الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحد الأبوين له، ولهذا كان تعيين الأب كما قال مالك وأحمد في رواية، والتخيير تخيير شهوة. ولهذا قالوا: إذا اختار الأبَ مدةً ثم اختار الأمَّ فله ذلك. حتى قالوا: متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نُقِل إليه، وكذلك إن اختار ابتداء. وهذا قول القائلين بالتخيير: الحسن بن صالح والشافعي وأحمد بن حنبل. وقالوا: إذا اختار الأم كان عندها ليلاً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 وأما بالنهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه. هذا مذهب الشافعي وأحمد، وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، للأب تعاهدُه عندها وأدبُه وبعثُه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأمّ. قال أصحاب الشافعي وأحمد: وإن اختار الأب كان عنده ليلاً ونهارًا، ولم يُمنَع من زيارة أمّه، ولا تُمنَع الأمّ من تمريضه إذا اعتلَّ. فأما البنت إذا خُيِّرتْ -فكانت عند الأم تارةً وعند الأب تارةً- أفضَى ذلك إلى كثرة مرورِها وتبرجها وانتقالِها من مكان إلى مكانٍ، ولا يبقى الأب موكلاً بحفظها ولا الأمّ موكلةً بحفظها، وقد عُرِف بالعادة أن ما تناوبَ الناسُ على حفظِه ضاعَ. ومن الأمثال السائرة: لا تصلح القِدرُ بين طبَّاختَيْن. وأيضًا فاختيارُ أحدهما يُضعِف رغبةَ الآخر في الإحسان والصيانة، فلا يبقى الأبُ تامَّ الرغبة في حفظها، ولا الأمّ تامةَ الرغبة في حفظها. وليس الذكر كالأنثى، كما قالت امرأة عمران (1) (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) إلى قوله (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) إلى قوله (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) . فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها، حتى اقترعوا على كفالتها، فكيف بمن سواها من النساء؟ وهذا أمرٌ يُعرَف بالتجربة: أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا يحتاج إليه الصبي، وكل ما كان أسترَ لها وأصونَ كان أصلحَ لها.   (1) سورة آل عمران: 35- 44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 ولهذا كان لباسُها المشروعُ لباسًا لما يسترها، ولعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يلبس منهن لباسَ الرجال (1) ، وقال لأم سلمة في عصابتها: "ليَّةً لا ليَّتَين"، رواه أبو داود وغيره (2) . وقال في الحديث الصحيح (3) : "صنفانِ من أهل النار من أمتي لم أرهما بعدُ: نساءٌ كاسيات عاريات مائلات مُمِيلات، على رؤوسهن مثلُ أسنمة البُخْت، لا يدخلن الجنةَ ولا يجدن ريحَها؛ ورجالٌ معهم سياطٌ مثل أذنابِ البقر يَضرِبون بها عبادَ الله". وأيضًا فأمُرت المرأةُ في الصلاة أن تتجمع ولا تجافي بين أعضائها، وفي الإحرام أن لا ترفعَ صوتَها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا تَرقَى فوق الصفا والمروة، كلُّ ذلك لتحقيق سترِها وصيانتها. ونُهِيَتْ أن تُسافر إلا مع زوج أو ذِي محرم، لحاجتها في حفظها إلى الرجال مع كبرِها ومعرفتها. فكيف إذا كانت صغيرةً مميزةً، وقد بلغتْ سنَّ ثورانِ الشهوة فيها، وهي قابلةٌ للانخداع؟ وفي الحديث: "النساء لحمٌ على وَضَمٍ إلا ما ذُبّ عنه" (4) . فهذا مما يُبيِّن أن مثل هذه الصبية المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها، وتردُّدُها بين الأبوين مما يُخِلُّ بذلك، من جهة أنها هي لا يجتمع قلبُها على مكانٍ معيَّن، ولا يجتمع قلبُ أحد الأبوين   (1) أخرجه أحمد (2/325) وأبو داود (4098) عن أبي هريرة. (2) أخرجه أبو داود (4115) وأحمد (6/294، 296، 306) . (3) أخرجه مسلم (2128 وبعد رقم 2856) عن أبي هريرة. (4) رُوِي هذا عن عمر بن الخطاب، انظر "الغريبين" (6/167) و"النهاية" (15/98) . ومعنى ذلك أنهن في الضعف مثل ذلك اللحم الذي لا يمتنع من أحد إلاَّ أن يُذَبَّ عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 على حفظها، ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارةً وهذا تارةً يُخِلُّ بكمالِ حفظها، وهو ذريعة إلى ظهورها ومرورِها، فكان الأصلح لها أن تُجعَلَ عند أحد الأبوين مطلقًا، ولا تُمكَّنَ من التخيير، كما قال ذلك جمهور علماء المسلمين مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم. وليس في تخييرها نصٌّ صريح ولا قياسٌ صحيح. والفرق ظاهرٌ بين تخييرها وتخيير الابن، لاسيَّما والذكر محبوبٌ مرغوبٌ فيه، فلو اختار أحدَهما كانت محبةُ الآخر له تدعوه إلى مراعاته. والبنتُ مزهودٌ فيها، فأحدُ الوالدين قد يَزهَد فيها مع رغبتها فيه، فكيف مع زهدِها فيه؟ فالأصلح لها لزومُ أحدِهما لا التردُّد بينهما. ثمَّ هنا يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما. فمن عيَّن الأم -كمالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين- لابدّ أن يُراعوا مع ذلك صيانةَ الأمّ لها، ولهذا قالوا ما ذكره مالك والليث وغيرهما: إذا لم تكن الأم في موضع حرزٍ وتحصينٍ أو كانت غيرَ مرضيَّةٍ فللأب أخذها منها. وهذا هو الذي راعاه أحمد في الرواية التي اشتهرت عند أصحابه، حتى لم يذكر أكثرهم في ذلك نزاعًا، وقد علَّلوا ذلك بحاجتها إلى الحفظ والتزويج، والأب أقوم لذلك من الأم، فإنه إذا كان لابدّ من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظةً لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد. والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم. وأحمد وأصحابُه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضررٌ، فلو قُدِّر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها، أو يُهمل حفظها لاشتغالِه عنها أو لقلَّة دينه، والأمُّ قائمة بحفظها وصيانتها، فإنه تُقدَّم الأمّ في هذه الحال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 فكلُّ ما قدَّمناه من الأبوين إنما نقدِّمه إذا حَصَلَ به مصلحتُها واندفعت به مفسدتُها، فأما مع وجود فسادِ أمرِها مع أحدهما فالآخر أولى به بلا ريب. حتى الصغير إذا اختار أحدَ أبويه وقدَّمناه إنما نقدِّمه بشرط حصول مصلحته وزوالِ مفسدته، فلو قدرنا أن الأب أقرب لكن لا يصونُه والأمُّ تصونُه لم يُلتَفتْ إلى اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل، قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي قصدُه الفجور ومعاشرة الفجّار، وتركُ ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يَحصُل له معه ما يهواه، والآخر يَذُودُه ويُصلِحه. ومتى كان كذلك فلا ريبَ أنه لا يُمكَّن ممن يفسد معه حاله. ولهذا قال أصحاب الشافعي وأحمد: إنه لا حضانةَ لفاسقٍ، وكذلك قال الحسن بن حيٍّ. وقال مالك: كلُّ من له الحضانةُ من أبٍ أو ذاتِ رَحِمٍ أو عصبةٍ ليس له كفاية، ولا موضعُه بحرزٍ، ولا يُؤمَن في نفسه= فلا حضانةَ له. والحضانة لمن فيه ذلك وإن بَعُد، ويُنظَر للولد في ذلك بالذي هو أكفأ وأحرز، فرُبَّ والدٍ يُضيِّع ولدَه. وكذلك قالوا -وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في "خلافه"-: إنما يكون التخييرُ بين أبوين مأمونَين عليه، يُعلَم أنه لا ضررَ عليه من كونه عند واحدٍ منهما. فأما من لا يقوم بأمرِه ويُخليه للعب فلا يثبت التخيير في حقه. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مُروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع" (1) . فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك،   (1) أخرجه أحمد (2/180، 187) وأبو داود (495، 496) عن عبد الله بن عمرو ابن العاص. وإسناده حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 والآخر لا يأمره، كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر، لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاصٍ الله ورسوله. فلا يُقدَّم من يَعصي اللهَ فيه على من يُطيع الله فيه، بل يجب إذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسولُه، ويترك ما حرَّم الله ورسولُه، والآخر لا يفعل معه الواجب، أو يفعل معه الحرام= قُدِّمَ من يفعل الواجبَ ولو اختار الصبيُّ غيرَه، بل ذلك العاصي لا ولايةَ له عليه بحالٍ. بل كلُّ من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولايةَ له، بل إمّا أن يُرفَع يدُه عن الولاية ويُقام من يفعل الواجب؛ وإمَّا أن يُضمَّ إليه من يقوم معه بالواجب. فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين يَحصُل طاعةُ الله ورسوله لاحقُه، ومع حصوله عند الآخر لا يَحصُل له= قُدِّم الأوَّلُ قطعًا. وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يَحصُل بالرحم والنكاح والولاء، وإن كان الوارث حاضرًا وعاجزًا، بل هو من جنس الولاية ولاية النكاح والمال التي لابدَّ فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الإمكان. وإذا قُدِّر أن الأب تَزوَّج بضَرَّةٍ، وهو يتركُها عند ضرَّة أفها، لا تَعمل مصلحتَها بل تُؤذِيها أو تُقَصِّر في مصلحتها، وأمُّها تَعملُ مصلحتَها ولا تُؤذيها، فالحضانة هنا للأم قطعًا، ولو قُدِّر أن التخيير مشروع وأنها اختارت الأمَّ، فكيف إذا لم يكن كذلك؟ ومما ينبغي أن يُعلَم أن الشارع ليس له نصٌّ عام على تقديم أحد الأبوين مطلقًا، ولا تخيير أحد الأبوين مطلقًا. والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدُهما مطلقًا، بل مع العدوان والتفريط والفساد والضرر لا يُقدَّم من يكون كذلك على البَرِّ العادل المحسن القائمِ بالواجب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 وقد علَّلُوا أيضًا تقديم الأب بعلةٍ ثانية: بأنها إذا صارت مميزةً صارت ممن تُخطَب وتُزوَّج، واحتاجت إلى تجهيزها. فإذا كانت عند الأب كان أنظرَ لها وأحرصَ على تجهيزها وتزويجها مما إذا كانت عند الأم. وأبو حنيفة يوافق أحمد على أن الأب أحق بها من الخالة والأخت والعمة وسائر النساء، بخلاف ما قاله في الصبي، فإنه جعل الأب أحقَّ به مطلقًا. لكن قال: الأمُّ والجدةُ أحق من الأب. فكلاهما قدَّم الأب وغيرَه من العصبة على النساء، لكن أحمد طردَ القياسَ، فقدَّمَه على جميع النساء، وأبو حنيفة فرَّق بين عمودِ النسب وغيرِه. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال: "الخالة أم" (1) . فإذا قُدِّم الأبُ على النساء اللائي يُقدَّمن عليه في حالِ صغرِها دلَّ ذلك على أن الأب أقوم بمصلحة ابنته من النساء. وتبيَّن أن أصل هذا القول ليس في مفردات أحمد، بل هو طرد فيه قياسَه. وبكلِّ حالٍ فهو قولٌ قويٌّ متوجِّه، ليس بأضعفَ من غيرِه من الأقوال المقولة في الحضانة، وليس قول من رَجَّح الأمَّ مطلقًا بأقوى منه. ومما يُقوِّي هذا القول أن الولد مطلقًا إذا تعيَّن أن يكون في مدينة أحد الأبوين دون الآخر، وكان الأب ساكنًا في مصير والأمُّ ساكنة في مصرٍ آخر، فالأب أحقُّ به مطلقًا، سواء كان ذاكرًا أو أنثى عند عامة العلماء، كشريح القاضي وكمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، حتى قالوا: إنّ الأب إذا أراد سفرَ نُقلةٍ لغير الضرار إلى مكانٍ بعيد فهو أحقُّ به، لأن كونه مع الأب أصلح له، لحفظِ نسبِه وكمالِ تربيته   (1) أخرجه البخاري (2699، 4251) عن البراء بن عازب بلفظ: "الخالة بمنزلة الأم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 وتعليمه وتأديبه، وأنه مع الأم تَضِيع مصلحتُه. ولا يُختر الغلامُ هنا عند أحدهما لا يخرج إلى الأحقّ، فالأب أيضًا أحق، لأن كونه عند الأب أصلحُ له. وهذا المعنى منتفٍ في الابن، لأنه يختر، ولأن تردُّدَ الابن بينهما لا مضرَّةَ عليه فيه، بخلاف البنت. واتفقوا كلهم على أن الأم لو أرادتْ أن تسافرَ بالذكر أو الأنثى من المصر الذي فيه عُقِد النكاحُ فالأب أحق به، فلم يُرجِّح أحدٌ منهم الأمّ مطلقًا. فدلَّ ذلك على أن ترجيحها في حضانة الولد مطلقًا -ذكرًا كان أو أنثى- مخالفٌ لهذا الأصل الذي اتفقوا عليه. وعُلِمَ أنهم متفقون على ترجيح جانب الأب عند تعذُّر الجمع بينهما، وهذا ثابت في الولد وإن كان طفلاً يكون في بلد أبيه، بخلاف ما إذا كان الأبوان في مصرٍ واحدٍ، فهاهنا هو مع الصغر للأم، لأن في ذلك جمعًا بين المصلحتين. ومما يُقوِّيْه أيضًا أن الغلام إذا بلغَ معتوهًا كانت حضانتُه للأم كالصغير، وإن كان عاقلاً كان أمره إلى نفسه، ليسكن حيث شاءَ إذا كان مأمونًا على نفسِه، عند الأئمة الأربعة وغيرهم. فإن كان غير مأمونٍ على نفسِه فلم يَجعَل أحدٌ الولايةَ عليه للأم، بل قالوا: للأب ضمُّه إليه وتأديبُه، والأب يمنعه من السلفة. وأما الجارية إذا بلغت فنُقِل عن مالك: الوالد أحق بضمَّها إليه حتى تُزوَّج ويدخل بها الزوج، ثم هي أحقُّ بنفسها، وتسكن حيث شاءت، إلا أن يخاف منها هوى أو ضيعة أو سوء موضع، فيمنعها الأب بضمّها إليه. وقد تقدَّم في "المدونة" (1) : أن الأم أحق بها ما لم تنكح، وإن   (1) 2/244. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 بلغت أربعين سنة. وكذلك قال أبو حنيفة في البكر، قال: الأب أحقُّ بها مأمونةً كانت أو غير مأمونة، والثيِّبُ هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة. وقال الشافعي: هي أحقُّ بنفسها إذا كانت مأمونة، بكرًا كانت أو ثيِّبًا. وفي مذهب أحمد ثلاثة أقوال ذكرها في "المحرر" (1) روايتين ووجهًا: أحدها: أنها تكون عند الأب حتى تتزوَّج ويدخل بها الزوج. وهذا هو الذي نصره القاضي وغيرُه في كتبهم، وقالوا: إن الجارية إذا بلغت وكانت بكرًا فعليها أن تكون مع أبيها، حتى تتزوج ويدخل بها الزوج. ولم يذكروا فيه نزاعًا. والرواية الثانية عن أحمد: تكون عند الأم. وهذه الرواية إنما أخذها الشيخ أبو البركات من الرواية المتقدمة أن حضانتها تكون للأم ما لم تتزوج، فإنه على هذه الرواية نَقل عن أحمد فيها روايتين، فإن أحمد قال في تلك الرواية: الأم والجدة أحقُّ بالجارية ما لم تتزوج. فجعلَها أحقَّ بها ما لم تتزوَّج في رواية مهنّا. وقال في رواية ابن منصور: يُقضَى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحقُّ بها. فهنا قال عند الحاجة إلى التزويج للأب، وإن كانت لم تتزوج بعدُ، وهذا يكون بالبلوغ. وأما القول الثالث في مذهبه وهو أنها إذا بلغت تكون حيث شاءت كالغلام، فهذا يجيء على قول من يُخيِّرها كما يُخيِّر الغلام. فمن خيَّر الغلام قبلَ بلوغه كان أمرُه بعد البلوغ إلى نفسه، كما قاله   (1) 2/121. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 الشافعي وأحمد وغيرهما. لكن أبو البركات حكى هذه الأقوال الثلاثة في "محرره" (1) في البالغة، وهي مطابقة للأقوال الثلاثة التي ذكرناها في غير البالغة، فإنه على المشهور عند أصحاب أحمد أنها إذا كانت قبل البلوغ عند الأب فهي بعد البلوغ أولى أن تكون عند الأب منها عند الأم، فإن أبا حنيفة وأحمد في رواية ومالكًا يجعلونها قبل البلوغ للأم، وبعد البلوغ جعلوها عند الأب. وهذا يدلُّ على أن الأب أحفظُ لها وأصونُ وأنظرُ في مصلحتها، فإذا كان كذلك فلا فرقَ بين ما قبل البلوغ وما بعده في ذلك. فتبيَّن أن هذا القول -وهو جعلُ البنت المميزة عند الأب- أرجح من غيره. والله أعلم. فصل والتخيير قد جاء فيه حديثان. وأما تقديم الأمّ على الأب في حقّ الصغير فمتفقٌ عليه، وقد جاء فيه حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إن ابني هذا كان بطني له وِعاءً، وحِجْري له حواءً، وثديي له سقاءً، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال: "أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي". رواه أحمد (2) وأبو داود (3) ، لكن في لفظه: "وأن أباه طلقني وزعمَ أنه ينتزعه مني". وقال ابن المنذر: أجمع كلُّ من يُحفَظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا افترقَا ولهما ولدٌ طفلٌ أن الأمّ أحقُّ به ما لم تنكح، وممن حفظنا عنه ذلك: يحيى الأنصاري والزهري ومالك والثوري   (1) 2/121. (2) 2/182، 203. (3) برقم (2276) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه نقول. وقد روينا عن أبي بكر الصديق أنه حكم على عمر به، وبصبيٍّ لعاصم لأمِّه أمِّ عاصم، وقال: حجرُها وريحُها ومَسُّها خيرٌ له منك حتى يَشِبَّ فيختار. وأما التخيير: فعن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيَّر غلامًا بين أبيه وأمِّه. رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه (1) ، ورواه أبو داود (2) وقال فيه: "إن امرأةً جاءت فقالت: يا رسولَ الله! إن زوجي يُريد أن يَذهَب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عِنَبَة، وقد نفعني. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اسْتَهِما عليه". قال زوجُها: من يُحاقِقني في ولدي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا أبوك وهذه أمك، فخُذْ بيد أيِّهما شِئتَ". فأخذَ بيد أمّه، فانطلقت به. ورواه النسائي (3) كذلك، ولم يذكر "استهما عليه". ورواه أحمد (4) كذلك أيضًا، لكنه قال فيه: "جاءت امرأة قد طلَّقها زوجُها"، ولم يذكر فيه قولها "قد سقاني ونفعني". وقد رُوِي تخييرُ الغلام بين أبويه عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة، فروى سعيد بن منصور وغيره (5) أن عمر بن الخطاب خيَّر غلامًا بين أبيه وأمه. وعن عمارة الجَرْمي أنه قال: خيَّرني عليٌّ بين عمِّي وأمِّي وكنتُ ابنَ سبعٍ أو ثمانٍ (6) . ورُوِي نحو ذلك عن   (1) سبق تخريجه. (2) برقم (2277) . (3) 6/185. (4) 2/447. (5) أخرجه الشافعي بإسناده كما في "السنن الكبرى" للبيهقي (8/4) و"زاد المعاد" (6) أخرجه الشافعي ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/4) ، وعبد الرزاق في "المصنّف" (12609) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 أبي هريرة (1) ، ولم يُعرَف لهم مخالفٌ، مع أنها في مظنة الاشتهار وأما الحديث الثاني فرواه عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جدِّه أن جدَّه أسلمَ وأبتْ امرأتُه أن تُسلِم، فجاء بابنٍ له صغيرٍ لم يبلغ، قال: فأجلسَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأبَ هاهنا والأُمَّ هاهنا، ثم خيَّره وقال: "اللهمَّ اهدِه"، فذهبَ إلى أبيه. هكذا رواه أحمد والنسائي (2) . ورواه أبو داود (3) عن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن جدّي رافع بن سِنَان أنه أسلم وأبتْ امرأتُه أن تُسلِم، فأتَتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ابنتي وهي فَطيم أو شبيهه، وقال رافع: ابنتي. فقال له رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقعُدْ ناحيةً"، وقال لها: "اقعُدي ناحية"، وأَقْعَدَ الصبيةَ بينهما، ثم قال: "ادعُواها"، فمالتْ إلى أمّها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهمَّ اهدِها"، فمالت إلى أبيها فأخذها. وعبد الحميد هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن سنان الأنصاري. وهذا الحديث قد ضعفه بعضهم، فقال ابن المنذر: في إسناده مقال، وقال غيرُه: هذا الحديث لا يثبته أهلُ النقل، وقد رُوِيَ على غيرِ هذا الوجه، وقد اضطُرِب فيه هل كَان المخيَّر ذكرًا أم أنثى؟ ومن روى أنه كان أنثى قال فيه: "إنها فَطِيم" أي مفطومة. وفَعِيل بمعنى مفعول إذا كان صفةً يستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال: عينٌ كَحِيل، وكفٌّ خضيب، فيقال للصغير "فطيم" وللصغيرة "فطيم". ولفظ "الفطيم" إنما يُطلَق على قريب العهد بالفطم، فيكون له نحو ثلاث سنين، ومثل هذا لا يُخيَّر باتفاق العلماء.   (1) رواه أبو خيثمة، كما نقل عنه ابن القيم في "الزاد" (5/416) . (2) سبق تخريجه في أول هذه الرسالة. (3) برقم (2244) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 وأيضًا فإنه خيَّر بين مسلمٍ وكافر، وهذا لا يجوز عند الأئمة الأربعة وغيرهم، فإن القائلين بالتخيير لا يُخيِّرون بين مسلم وكافر، كالشافعي وأحمد. وأما القائلون بأن الكافرة لها حضانة كأبي حنيفة وابن القاسم فلا يُخيِّرون. لكن أبو ثور يقول بالتخيير، فيما حكاه عنه ابن المنذر. والجمهور على أنه لا حضانة لكافر، وهو مذهب مالك والشافعي والبصريين كسوَّار وعبد الله بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو ثور وابن القاسم صاحب مالك: الذمية في ذلك كالمسلمة، وهي أحق بولدها من أبيه المسلم، وهو قول الإصطخري من أصحاب الشافعي. وقد قيَّد ذلك أبو حنيفة فقال: هي أحقّ بولدها ما لم يعقل الأديان، ويخاف أن يألف الكفر. والأب إذا كان مسلما كان الولد مسلمًا باتفاقهم. وكذلك إن كانت الأم مسلمة عند الجمهور، كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة، فإنه يتبع عند الجمهور في الدنيا خيرَهما دينًا، وأما في النسب والولاء فهو يتبع الأب بالاتفاق، وفي الحرية أو الرقّ يتبع الأم بالاتفاق. وقد حمل بعضهم هذا الحديث على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنها تختار الأبَ بدعائه، فكان ذلك خاصًّا في حقّه. وأيضًا فهذه القصة قضية في عين، والأشبه أنها كانت في أول زمن الهجرة، فإن الأب كان من الأنصار فأسلم، والأمّ لم تسلم. وفي آخر الأمر أسلم جميع نساء الأنصار، فلم يكن فيهم إلا مسلمة، حتى قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهمّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولنساء الأنصار" (1) .   (1) أخرجه البخاري (4906) ومسلم (2507) عن أنس بن مالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 ولمّا قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينةَ لم يُكرِه أحدًا على الإسلام، ولا ضربَ الجزية على أحد، ولكن هادنَ اليهودَ مهادنةً. وأما الأنصار ففشا فيهم الإسلام، وكان فيهم من لم يُسلِم، بل كان مُظهِرًا لكفرِه، فلم يكونوا ملتزمين لحكم الإسلام. وكذلك كان عبد الله بن أبي ابن سَلول وغيره قبل أن يُظهِروا الإسلام. وقد ثبت في الصحيحين (1) من حديث أسامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذهب يعود سعدَ بن عبادة، فمرَّ بمجلسٍ من الأنصار ... الحديث. ففي، هذا الحديث وغيره من الأحاديث ما يبين أنهم كانوا قبل غزوة بدر متظاهرين بالكفر من غير إسلام ولا ذمة، فلم يكن الكفار ملتزمين لحكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ التزامُ حكمِه إنما يكون بالإسلام أو بالعهد الذي التزموا فيه ذلك، ولم يكن المشركون كذلك. فلهذا لم يلزم المرأة بحكم الإسلام، بل دعا الله أن يهدي الصغيرَ، فاستجاب الله. ودعاؤه له أن يهديه دليلٌ على أنه كان طالبًا مريدًا لهداه، وهداه أن يكون عند المسلم لا عند الكافر. لكن لم يمكنه ذلك بالحكم الظاهر، لعدم دخول الكافرة تحت حكمه، فطلبه بدعائه المقبول. وهذا يدل على أنه متى أمكن أن يُجعَل مع المسلم لا يُجعَل مع الكافر. وكان هذا حكم الله ورسوله بأهل الذمة الملتزمين جريانَ حكم الله ورسوله عليهم، يُحكَم بينهم بذلك. نعم لو كان النزاع بين من هو مسلم ومن هو من أهل الحرب والهدنة الذين لم يلتزموا جريانَ حكم الله ورسوله عليهم، فهنا لا يمكن الحكم فيهم بحكم الإسلام بدون رضاهم، فيسعى حينئذٍ في تغليب الإسلام بالدعاء كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ كان الاجتهاد في ظهور الإسلام ودعاؤه واجباً بحسب الإمكان. وعلى هذا فالحديث إن كان ثابتاً دليل على التخيير في الجملة. لكن قد اختُلف في المخيَّر: هل كان صبيًّا أو صبيّة؟ فلم يتبيّن أحدهما، فلا يبقى فيه حجةٌ على تخيير الأنثى، لا سيما والمخيَّرةُ كانت فطيماً، وهذه لا تُخيَّر باتفاقهم، وإنما كان تخييرُ هذه إن صحَّ الحديث من جنس آخر. (آخر ما وُجد، والحمد لله وحده، وصلي الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وكتب في شهر ربيع الأول من شهود سنة أربع وستين وسبعمئة، أحسن الله عاقبتها بمنّه وكرمه، آمين يا رب العالمين. وكتبها أضعف العباد عبد المنعم البغدادي الحنبلي عفا الله عنه بمنّه وكرمه) .   (1) البخاري (4566، 5663، 6207) ومسلم (1798) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، يسرُّني أن أقدِّم إلى القراء المجموعة الرابعة من "جامع المسائل"، التي تحتوي على مسائل وفتاوى كثيرة لم تُنشَر من قبل، ومعظمها مما كتبه شيخ الإسلام مدةَ إقامته في مصر في السنوات (705-712) . وقد كانت الفتاوى المصرية جُمِعتْ بواسطة بعض تلاميذ الشيخ فبلغت ستةَ مجلدات أو سبعة. يقول ابن القيم في نونيته (1) : وكذاك أجوبة له مصريَّة في ستّ أسفارٍ كُتِبْنَ سِمَانِ ويذكر ابن رجب أن الفتاوى المصرية سبع مجلدات (2) . أما ابن عبد الهادي (3) فلم يحدد عدد المجلدات، بل قال: "وقد جمع بعض أصحابه قطعة كبيرة من فتاويه الفروعية، وبوبَّها على أبواب الفقه في مجلدات كثيرة، تُعرَف بالفتاوى المصرية، سماها بعضهم الدرر المضية من فتاوى ابن تيمية". وذكر بعض المترجمين له   (1) "الكافية الشافية" (ص 164) . (2) "ذيل طبقات الحنابلة" (2/403) . (3) "العقود الدرية" (ص 38) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 - مثل الصفدي (1) وابن شاكر (2) - أن بعض الناس جمع فتاويه بالديار المصرية مدة سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدة. ولعلّ هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف النسخ، فبعضها كانت في ستّة مجلدات، وأخرى في سبعة، وأخرى في ثلاثين جزءًا من الأجزاء الصغار. أو أن الثلاثين كانت تحتوي على الفتاوى التي أفتى بها في مصر وفي غيرها، فالمجلدات الستة أو السبعة كانت قسمًا من عامة مجلدات فتاواه التي جُمِعَتْ. ومما يؤيد هذا الرأي أن ابن القيم ذكر أن الأجوبة المصرية في ست أسفار، ثم ذكر بعد أبيات (3) : وكذا فتاواه، فأخبرني الذي أضحَى عليها دائم الطَّوفان بلغَ الذي ألفاه منها عدةَ الْ أيَّام من شهر بلا نقصان سِفر يقابل كل يوم، والذي قد فاتني منها بلا حُسْبَانِ يَقصِد أن ما وُجِد من عامة فتاواه كان ثلاثين مجلدًا، أما ما لم يُوجَد منها أو لم يُجمَع بل تفرقَ في البلدان فهذا لا يُعدُّ ولا يُحصَى. ومهما يكن من شيء فإن مجموعة الفتاوى المصرية للشيخ كانت مرتبةً على الأبواب، وكانت تسمى "الدرر المضية". ومما يؤسف له أنها أصبحتْ شَذَرَ مَذَرَ، ولم تُوجد كاملةً حتى الآن،   (1) "أعيان العصر" (1/245) ؛ "الوافي بالوفيات" (7/29) . (2) "فوات الوفيات" (1/80) . (3) "الكافية الشافية" (ص165) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 وبعد البحث الشديد والتتبع الطويل في مكتبات المخطوطات وفهارسها وقفتُ على أربعة مجلدات منها، وبقي مجلدان أو ثلاثة لازلتُ في البحث عنها، ولعل الله يُيسِّر الحصولَ عليها في المستقبل. وقد تَمَّ نَشْرُ كثيرٍ من الفتاوى المصرية المتفرقة ضمن بعض المجلدات من "مجموعة الفتاوى الكبرى" (طبعة مصر) و"مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) ، ولكن دون تمييز بين الفتاوى المصرية وغير المصرية، ولا يمكن معرفتها إلا بالرجوع إلى الأصول أو مقابلتها مع "مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي (ت 777) ، وهو مطبوع، مرتَب على الأبواب كالأصل (1) ، وفيه اختصار شديد للفتاوى، اقتصَر فيه المختصِر على النكت والفوائد والمسائل المستغربة من كلام الشيخ، واقتبسَ أحيانًا سطرًا أو سطرين أو أسطرًا قليلة من الفتاوى الطويلة. ومن أمثلة ذلك: الفتوى رقم (9) ضمن "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/8-23) ، نجد منها في "المختصر" (ص 14- 15) ستة أسطر فقط، والفتوى رقم (17) من "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/39-42) ، اقتُبس منها في "المختصِر" (ص 27) نصفُ سطرٍ. وهكذا في كثير مَن الفتاوى والمسائل. ولذا أرى أن هذا المختصر وإن كان "فيه من الفوائد ما لم يوجد في غيره من المطولات" - كما قال الحافظ ابن حجر (2) - ونافعًا لمعرفة آراء   (1) أخطأ ناشر "المختصر" فظن أن التبويب من البعلي!! والصواب أنه تابع الأصل في الاختصار والتهذيب. (2) "الدرر الكامنة" (4/84) ، وذكر أن البعلي سمَى هذا المختصر "السهيل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 شيخ الإسلام في المسائل التي سُئِل عنها، فإنه لا يُغنِي عن الرجوع إلى أصل كلامه الذي أورد فيه الحجج، وناقش أصحاب الأقوال المرجوحة، وفصَّل القول في بعض المسائل، واستطرد إلى مباحث وفوائد أخرى مهمة، كما يظهر ذلك بالمقارنة بين الأصل والمختصر. عثرت على مجلد من الأصل في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية برقم [1402] ، وهو الجزء الثاني منه، عدد أوراقه 207 ورقة. وقد كتب الناسخ في آخره: "وكان الفراغ من هذا الجزء الثاني من كتاب الدرر فتاوى الشيخ رحمه الله ورضي عنه على يد أبي بكر بن أحمد بن عبد الله ابن عبد الغني بن أبي بكر بن أبي القاسم البعلي - عفا الله عنه - في خامس شهر جمادى الآخر (كذا) سنة اثنتين وأربعين وسبعمئة ببعلبك". والنسخة بخط نسخي جيد، والأخطاء فيها قليلة، وهي مقابلة على الأصل المنسوخ منه كما يظهر من الدوائر المنقوطة ومن الإلحاقات والتصحيحات على هوامشها. وهذا الجزء يحتوي على قسمٍ من باب الأدعية والأذكار، وباب الكسوف، وباب الاستسقاء، وباب الحكم في ترك الصلاة، وكتاب الجنائز. وعدد المسائل والفتاوى الموجودة فيه مئة مسألة. وقد أفردتُ منها تلك المسائل التي لم تُنشَر ضمن "مجموع الفتاوى"، فكان عددها 54 مسألة، بعضها طويلة جدًّا، مثل المسألة الأولى في شرح حديث أبي بكر "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ... "، والمسألة الثانية والتسعين في إهداء الثواب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد ورد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 ذكر المسألتين في بعض المصادر القديمة، فقد ذكر الأولى ابن رشيق (1) بعنوان "شرح دعاء أبي بكر"، وابن عبد الهادي (2) بعنوان " [شرح] حديث الدعاء الذي علَّمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر الصديق "اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلما كثيرا"". والمسألة الأخرى ورد ذكرها بعنوان "رسالة في إهداء الثواب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " عند ابن رشيق (3) . وهناك مسائل أخرى كثيرة في حكم تارك الصلاة وغير ذلك تُنشَر في هذه المجموعة لأول مرة. ووجدتُ 13 مسألةً من الفتاوى المصرية ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم ٍ [3537] (الورقة 89 أ-97ب) مكتوبة في سنة 756 بخط علي بن حسن بن محمد الحرانى كما هو مثبت في آخرها. فضممتُها إلى ما استخلصتُها من المجموعة السابقة. أما المسائل الأخرى التي تلي الفتاوى المصرية في هذه المجموعة فهي مأخوذة من نسخةٍ حديثة الخط من فتاوى الشيخ، محفوظةٍ في المكتبة القادرية ببغداد برقم [491] ، عدد أوراقها 193 ورقة، وهي بخط نسخي معتاد، كتبها محمد بن علي بن الملا أحمد سبته، وفرغ منها في 21 من شعبان سنة 1306. وهذه النسخة تحتوي على "مسائل وردت من الصلت" ومسائل أخرى لم تُنشر ضمن "مجموع الفتاوى". وقد ذكر ابن عبد الهادي (4) "أجوبة   (1) انظر "الجامع لسيرة شيخ الإسلام" (ص 249) . (2) "العقود الدرية" (ص 61) . (3) "الجامع" (ص 244) . (4) "العقود الدرية" (ص 57) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 كثيرة عن مسائل وردت من الصلت"، وذكرها ابن رشيق (1) بعنوان "أجوبة مسائل الصلط"، وذكرها الصفدي وابن شاكر (2) بعنوان "جواب مسائل وردت من الصلت". وكانت هذه المسائل في حكم المفقود، حتى وفقني الله للعثور عليها في هذه النسخة، فالحمد لله على ذلك. وأجوبة هذه المسائل مختصرة موجزة في أسطرٍ قليلة، اقتصر فيها الشيخ على ذكر الحكم في المسألة دون الخوض في التفاصيل والحجج والمناقشات. أما المسائل الأخرى في المجموع فهي على أسلوبه المعروف في الاستطراد والتفصيل، وبعد مقابلتها على "مجموع الفتاوى" حصلتُ على قدرٍ لا بأس به من المسائل التي لم تُنشَر ضمنَه، فأدخلتُها في هذه المجموعة الرابعة. والرسالة الأخيرة هنا كانت مجهولة العنوان والمؤلف ضمن مجموع من مجاميع المدرسة العمرية الموجودة في دار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع 91] ، (الورقة 137-146) ، وهذا المجموع يحتوي على كثير من رسائل شيخ الإسلام، وبعضها بخطه. وقد تأملتُ في هذه الرسالة فوجدتها مضطربةً في الترتيب، وينبغي أن يكون ترتيب أوراقها كما يلي: (146، 138-145، 137) . والرسالة بخط نسخي جيد، وقد كُتِب في أعلى الورقة (137/أ) بيد بعض المفهرسين "الكلام في الصفات"، ولما قرأتُ   (1) "الجامع" (ص 245) . (2) المصدر السابق (ص 295،318،332) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 فيها بعد ترتيب أوراقها وجدتُها في الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن حمويه (ت 652) ، ناقش فيها بعض آرائه في التصوف ووحدة الوجود، وبيَّن مصادرها، وانتقدها في ضوء الكتاب والسنة. وقد ذكر شيخُ الإسلام ابنَ حمويه في بعض مؤلفاته (1) وردَّ عليه، ولم أجد من أشار إلى مؤلَّفٍ له في هذا الموضوع، وعلى هذا فتكون لهذه الرسالة قيمة كبيرة، وتُضاف إلى جملةِ مؤلفاته في الرد على القائلين بوحدة الوجود (ابن عربي وأمثاله) . وقد بعث المؤلف هذه الرسالة إلى أحد أتباع سعد الدين بن حمويه، ولم أتمكن من تحديد اسمه لكونها ناقصة الأول والآخر في هذه النسخة التي وصلت إلينا، والتي تبدأ بأثناء نصٍّ مقتبس من كلام الشخص المذكور وتعليقِ المؤلف عليه، وكُتب في آخرها: "بياض كبير". وهذا يدل على أن الأصل المنسوخ عنه كان ناقصًا من آخره. ولم أجد نسخة أخرى من هذه الرسالة تكمِل النقص، فأبقيتُها كما هي حفاظًا على الموجود منها لِيُستفاد. وفي الختام أحمد الله على توفيقه لإخراج هذه المجموعة، وأدعوه أن يجعلها نافعة للباحثين وطلاب العلم، وأرجو منهم أن لا ينسوني في دعواتهم الصالحة. والحمد لله أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. محمد عزير شمس   (1) انظر "الصفدية" (1/248) وهذه المجموعة (ص 66) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 - نماذج من الأصول الخطية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 مسائل من الفتاوى المصرية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 بسم الله الرحمن الرحيم مسألة في شرح الحديثِ الذي ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسولَ الله! عَلِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: قل: "اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يَغفر الذنوبَ إلاّ أنتَ، فاغفِرْ لي مغفرةً من عندك وارْحَمْني، إنك أنتَ الغفور الرحيم" (1) . شرحَه الحكيم فقال (2) : هذا عبدٌ اعترفَ بالظلم، ثم التجأَ إِليه مُضطرًّا، لا يجدُ لذنبه ساترًا غيرَه، ثم سألَه مغفرةً من عنده. والأشياءُ كلُّها من عندِه، ولكن أراد شيئًا مخصوصًا ليس مما بَذَلَه للعَامَّةِ، فلله تعالى رحمة قد عَمَّتِ الخلقَ بَرَّهم وفاجرَهم، سعيدَهم وشقيَّهم، في أرزاقِهم ومعايشهم وأحوالِهم؛ ثم له رحمةٌ خَصَّ بها المؤمنين، وهي رحمة الإيمان، ثم له رحمةٌ خصَّ بها المتقين، وهي رحمةُ الطاعةِ للهِ تعالى؛ وللهِ رحمةٌ خصَّ بها الأولياءَ نالوا بها الولايةَ، وله رحمةٌ خصَّ بها الأنبياءَ نالوا بها النبوةَ. ولما ذكرَ في   (1) أخرجه البخاري (834،6326،7388) ومسلم (2705) . (2) "نوادر الأصول" (ص 232) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 تنزيلِه الأنبياءَ قال: (وَوَهبنا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا) (1) . وقال الراسخون في العلم: (وَهَبْ لَنَا مِن لًدُنكَ رَحمَةً) (2) . فإنما سألوه رحمةً من عنده. فهذا صورةُ ما شرحَه الحكيم الترمذي، ولم يذكر صفةَ الظلم وأنواعه كما ذكر صفات الرحمة. والمسئولُ شرحُ ما مفهومُ قولِ الصدّيقِ "ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا"؟ والذنبُ بين يَدَي الله تعالى لا يحتمل المجازَ، والصدّيقُ من أئمة السابقين، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَه بذلك، فسيِّدي بسط القول في ذلك مما يفهمه السائلُ، وما هو الظلم الذي نَسَبَه الصديقُ إلى نفسه كما عَلَّمه النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أجاب الحمد دلله. الدعاءُ الذي فيه اعترافُ العبدِ بظلمِ نفسِه ليس من خصائص الصدِّيقين ومَن دُونَهم، بل هو من الأدعية التي يدعو بها الأنبياءُ وهم أفضلُ الخلق، قال الله تعالى عن آدمَ وحَوَّاءَ: (قَالَا ربنا ظَلمنَاَ أَنفسَنَا وَإِن لَم تَغفِر لنا وَترحمنا لَنَكونَنَّ مِنَ اَلخَاسِرينَ (23)) (3) ، وقال موسى عليه السلام: (رَب إِنِّى ظَلَمتُ نَفسِى فَاَغفِر لىِ فَغَفَرَ لَهُ إِنه هُو   َ (1) سورة مريم: 50. (2) سورة آل عمران: 8. (3) سورة الأعراف: 23. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 اَلْغَفُوُر الرحيم (16)) (1) ، وقد دَعَا غيرُهم بنحو هذا الدعاء، كقول الخليل عليه السلام: (رَبنا اَغْفِرْلِى وَلولِدَىَّ وَلِلْمُؤمِنِينَ يَوم يَقُوم اَلْحِسَابُ (41)) (2) ، وقال: (وَاَلَذِىَ أَطمَعُ أَن يَغفِرَ لِى خطيئتِى يوم اَلدِين (82)) (3) ، وقال هو وإسماعيل: (رَبنَا تَقَبًل مِنَّا إِنكَ أَنتَ اَلسَمِيعُ العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلينَا إِنكَ أَنت التَوابُ اَلرحيم (128)) (4) ، وقال موسى عليه السلام: (أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرينَ (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنَّا هدنا إليك) (5) ، وقال نوح عليه السلام: (رَب أنى أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين (47)) (6) ، وقال يونس: (لا إله إِلَّاَ أنتَ سُبْحانكِّ إنى كنت من الظالمين (87)) (7) . وقد ثبت في الصحيح (8) من حديث علي عليه السلام عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم أنتَ الملكُ لا إله إلا أنتَ، أنتَ ربّي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، وَاهْدِني لأحسن   (1) سورة القصص: 16. (2) سورة إبراهيم: 41. (3) سورة الشعراء: 82. (4) سورة البقرة: 127-128. (5) سورة الأعراف: 155-156. (6) سورة هود: 47. (7) سورة الأنبياء: 87. (8) مسلم (771) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 الأخلاق، فإنه لا يَهدي لأحسنِها إلاَ أنتَ، واصرِفْ عنّي سَيّئَهَا، فإنه لا يَصْرِف عنّي سَيئَها إلا أنتَ، لَبيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخيرُ كلُّه بِيدَيْكَ، والشرُّ ليس إليك، أنَا بك وإليك، أَستغفرك وأتوبُ إليك". وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في سجوده: "اللهمَّ اغفرْ لي ذنبي كلَّه، دِقَّهُ وجِلَّهُ، وعَلانيتَه وسِرَّه، وأوله وآخرَه". وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول بينَ التكبير والقراءة: "اللهمَّ بَاعِدْ (3) بيني وبين خطايايَ كما باعدتَ بينَ المشرقِ والمغرب، اللهمَّ نَقِّنِيْ منَ الخطايا كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، اللهمَّ اغسِلْنِيْ من خطايايَ بالماءِ والثلج والبَرَدِ". وثبتَ أيضًا في صحيح مسلم (4) أنه كان يقول نحو هذا الدعاء إذا رفعَ رأسَه من الركوع بعد التسميع والتحميد، وبعدَ أن يقولَ: "أهلَ الثناءِ والمجدِ أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبد، لا مانعَ لما أعطيتَ ولا مُعطِيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ" (5) .   (1) مسلم (483) عن أبي هريرة. (2) البخاري (744) ومسلم (598) عن أبي هريرة. (3) في الأصل "بعد"، وهو خلاف الرواية. (4) برقم (476) عن عبد الله بن أبي أوفى. (5) ليس هذا ضمن الحديث السابق، بل رواه مسلم (477) عن آبي سعيد الخدري، و (478) عن ابن عباس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وثبت عنه في الصحيحين (1) عن أبي موسى أنه كان يقول في دعائه: "اللهمَّ اغفِرْ لي خطيئتي وجهلي، وإسْرَافي في أمري، وما أنت أعلمُ به منّي، اللهمَّ اغفِرْ لي هَزْلي وجدِّي وخَطَأي وعَمْدِي، وكل ذلك عندي، اللهمَّ اغفِرْ لي ما قَدمتُ وَما أَخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنتَ المقدِّمُ وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير". وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول في دعائه بالليل: "اللهمَ لك الحمدُ أنت رب السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ أنت نورُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ أنت قَيُّومُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحقُّ، ووعدك الحقُّ، ولِقاؤُك حقٌّ، والجنةُ حق، والنار حقّ، والنبيون حقّ، ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقّ، اللهم لك أَسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أَنَبْتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ. اللهمَّ اغفِر لي ما قَدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إلهَ إلاّ أنتَ". وثبت عنه في الصحيح (3) عن عائشة أنه كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانكَ اللهمَّ ربَّنا وبحمدِك اللهمَّ اغْفِر لي" يَتأوَّلُ القرآنَ، أي يَمتثِلُ ما أُمِرَ به في قوله: (فَسَبِّح بِحمد ربك وَاَستَغفِرهُ   (1) البخاري (6398،6399) ومسلم (2719) . (2) البخاري (1120 ومواضع أخرى) ومسلم (769) عن ابن عباس. (3) البخاري (794 ومواضع أخرى) ومسلم (484) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 إِنَّه كانَ تَوابا (3)) (1) . كما امتثل بتلك الأدعية ما أمره في قوله: (فَاَصبِر إِنَّ وَعد اللهِ حَقٌّ وَاستَغفِر لِذنبك وسبح بحمدِ رَبِّكَ بِالعَشىّ وَالإبكار (55)) (2) ، (فأعلم أَنَهُ لَاَ إِلَهَ إلا اللهُ وَاَستَغفِر لِذَنبك وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمؤمِنات) (3) . وهذا الدعاء الذي ذكرته عائشة بعد نزول قوله: (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخرَ) (4) ، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن سورة "إذا جاء نصر الله والفتح" آخر سورةٍ أُنزلتْ. وأيضًا فأبو موسى الأشعري وأبو هريرة إنما صَحِبَاه بعد نزول قوله: (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخَرَ) ، فإن هذه الآية قد ثبت في الصحيح (6) أنها نزلتْ عامَ الحديبية لما بايعَه الصحابةُ بيعةَ الرضوان تحت الشجرة وانصرفَ، وقد خالط أصحابَه كآبةٌ وحُزنٌ لرجوعهم، ولم يتِمُّوا العمرةَ التي خرجوا لها، وقد صالحوا المشركين، لما أن في ظاهره غَضاضةً عليهم، حتى كرهَه كثيرٌ منهم، وجَرتْ فيه فصولٌ، فأنزل الله سورةَ الفتح بنُصرتِه من الحديبية، وهو في الطريق قبلَ وصولهِ إلى المدينة، ثم إنه تَجهَّزَ من المدينةِ لفتح خيبر، وفي أواخر غَزاةِ   (1) سورة النصر: 3. (2) سورة غافر: 55. (3) سورة محمد: 19. (4) سورة الفتح: 2. (5) لم يروه البخاري ومسلم، وقد أخرجه النسائي والطبراني عن ابن عباس كما في تفسير ابن كثير (4/600،601) . (6) مسلم (1786) عن أنس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 خيبر قَدِمَ عليه أبو موسى والأشعريون، وفي تلك المدة أسلم أبو هريرة. ولما أنزلَ اللهُ عليه هذه الآية (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأخَّرَ) قال له الناسِ: يا رسولَ الله! هذا لك، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى (هُوَ الذي أَنزلَ اَلسكينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزدَادواْ إِيمُانا مع إيمانهم) (1) . وفي هذا ردٌّ على طائفةٍ من الناس - كبعض المصنِّفين في السِّيَر وفي مسألة العصمة - يقولون في قوله (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذَنبك) : وهو ذنبُ آدم، (وَمَا تَأَخرَ) ذنبُ أمتِه، فإن هذا القولَ وإن كان لم يَقُلْه أحدٌ من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين، ولا يقولُه من يَعقِلُ ما يقول، فقد قاله طائفة من المتأخرين (2) ، ويَظُنُّ بعضُ الجهال أن هذا معنى شريف، وهو كذب على الله وتحريفُ الكَلِم عن مواضعه، فإنه قد ثبت في الصحاح (3) في أحاديث الشفاعة أن الناسَ يومَ القيامة يأتون آدمَ يَطلبون منه الشفاعةَ، فيعتذِرُ إليهم ويقول: إني نُهِيْتُ عن الشجرة فأكلتُ منها، نفسي نفسي، ويأتون نبيًّا بعد نبي إلى أن يَأتوا المسيحَ، فيقول: ائْتُوا محمدًا فإنه عبد قد غفرَ اللهُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فلو كانت "ما تقدم" هو ذنب آدم لم يعتذر آدم.   (1) سورة الفتح: 4. (2) حكاه المفسرون عن عطاء الخرساني، انظر تفسير البغوي (4/300) و"المحرر الوجيز" (15/88) والقرطبي (16/263) والخازن (6/157) . (3) البخاري (4712 ومواضع أخرى) ومسلم (194) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 وأيضًا فلما نزلتِ الآية قالت الصحابةُ: هذا لكَ فما لنا؟ فأنزل الله: (هُوَ اَلَّذِي أَنزَلَ السكينَةَ في قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ) ، فلو كان "ما تأخر" مغفرة ذنوبهم لقال: هذه لكم. وأيضًا فقد قال تعالى: (وَاَستَغْفِر لِذَنبِك وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمؤمناتِ) (1) ، ففرَّقَ بين ما أضاف إليه وما يُضاف إلى المؤمنين والمؤمنات. وأيضًا فإضافةُ ذنبِ غيره إليه أمرٌ لا يَصْلُح في حق آحادِ الناس، فكيف في حقَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ حتى تُضَاف ذنوبُ الفُسَّاق من أمته إليه، ويُجعلَ ما جعلوه (2) من الكبائر - كالزنا والسرقة وشرب الخمر - ذَنْبًا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله يقول في كتابه: (وَلَا تزِرُ وَازِرَةٌ وزرَ أخُرَى) (3) ، ويقول في كتابه: (وَمَن يَعمَل مِنَ الصّالحاَتِ وَهُوَ مُؤمِن فَلَا يَخَافُ ظُلما ولَا هَضمًا (112)) (4) ، قالوا (5) : الظلم أن تُحْمَل عليه سيئات غيرِه، والهَضْم أن يُنْقَصَ هو من حسناتِه، وهو أفضلُ من عَمِلَ من الصالحات وهو مؤمن، فكيف تُحْمَلُ عليه سيئاتُ غيرِه وتُضَافُ إليه؟ وأيُ فرقٍ بين ذنبِ آدمَ وذنب نوح والخليل وكلُّهم آباؤه؟ وأيُّ فرق بين ذنب الإنسان وذنب غيرِه (6) حتى يُضاف إليه هذا دونَ هذا؟ والله يقول: (أَم لَم يُنبّأ بما في   (1) سورة محمد: 19. (2) كذا في الأصل، ولعلّ الصواب "فعلوه" كما يظهر من السياق. (3) سورة الأنعام: 164، سورة الإسراء: 15، سورة فاطر: 18، سورة الزمر: 7. (4) سورة طه: 112. (5) انظر تفسير الطبري (16/159) و"الدر المنثور" (5/601) . (6) في الأصل: "غيرانه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38)) (1) والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لرجل معه ابنه: "لا يَجْنِي عليك ولا تَجْنِي عليه" (2) . وأيضًا فقد قال الله في غيرِ موضع في القرآن (3) إنه ليس عليه إلاّ البلاغُ المبين، وقال: (فَإِن تَوَلواْ فَإِنَّمَا عَلَيهِ مَا حمُلَ وَعَلَيكم مَّا حُمِّلتُم) (4) . فإذا كان على أمتِه ما حُمِّلُوا وهو ليس عليه إلا البلاغ المبين كيف تكونُ ذنوبُ أمته ذنوبَه؟ ومثل هذا القول لا يخفى فسادُه على من له أدنى تدبُّرٍ، وإن كان قالَه طوائفُ من المصنِّفين في العصمة، حتى يَرَى ذلك بعضُ مَن له في السنة والفقه والحديث قَدَمٌ، لكن الغُلوَّ أوجبَ اتباعَ الجهال الضُلاَّل، فإنّ مثلَ هذه التفاسير إنما يَصْدُر في الابتداء عن أهل التحريف لكتاب الله: إما من الزنادقة المنافقين، وإمّا من المبتدعة الضالّين. وأولُ من دخلَ في الغُلوّ من أهل الأهواء هم الرافضة، فإنهم لما ادَّعَوا في علي وغيرِه أنهم معصومون حتى من الخطأ احتاجوا أن يثبِتوا ذلك للأنبياء بطريقِ الأولى والأحْرى، ولما نزَهُوا عليًّا ومن هو دون علي من أن يكون له ذنبٌ يُسْتَغفَر منه كان تنزيهُهم   (1) سورة النجم: 36-38. (2) أخرجه أحمد (4/344،345،5/81) وابن ماجه (2671) عن الخشخاش العنبري. وصححه الألباني في "الصحيحة" (990) . (3) أولها سورة المائدة: 92، وقبلَها في سورة آل عمران: 20 (وَإن تَوَلًوا فَإِنَّمَا عَلَيك البَلَاغ) . (4) سورة النور: 54. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 للرسلِ أولى وأَحْرى. ثم جاءت القرامطةُ الزنادقةُ المنتسبون إلى الشيعة لمَّا ادَّعَوا عصمةَ أئمتِهم الإِسماعيليةِ العبيديةِ القرامطةِ الباطنيةِ الفلاسفةِ الدهريةِ صاروا يقولون: إنهم معصومون يعلمون الغُيُوب، وصار مَن صار منهم يَعبدُهم ويَعتقد فيهم الإلهيةَ، كما كانت الغاليةُ تَعتقدُ في عليّ وغيرِه الإلهيةَ أو النبوةَ. وأما الإمامية الاثنا عشرية الذين لا يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر بل بإمامة موسى بن جعفر، فهم [و] إن كانوا لا يقولون بإلهيةِ عليّ ولا نبوَّتِه، فهم يقولون بالعصمة حتى في المنتظر الذي دخلَ في سِردابِ سَامَرَّاءَ سنةَ ستين ومائتين وهو طفلٌ غير مميِّز، قيل: كان له سنتان، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: خمس. ويقولون: إنه إمام معصوم لا يجوزُ عليه الخطأُ، ويقولون: إنّ الإيمانَ لا يَتِمُّ إلاّ به، ومن لم يؤمن به فهو كافر. وقد عَلِمَ أهلُ العلم بالأنساب أنَّ (1) الحسن بن علي العسكري أباه لم يكن له نسل ولا عَقِبٌ، ولو كان له ولد صغير لكان تحتَ الحَجْر على ماله، وأن يَحضنَه من يستحقُّ الحَضَانَةَ، فلا يكون له ولاية لا على نفسه ولا على مالِه حتى يَبْلُغَ ويُؤنَسَ منه الرُّشدُ، فحينئذ يُسَلَّمُ إليه مالُه، فكيف يكون لمثل هذا ولاية على المسلمين؟ فضلاً عن أن يكون معصومًا، فضلا عن أن يكون اتّباعُه ركنًا في الإيمان.   (1) في الأصل: "ابن" تحريف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 ثم لما صار مثلُ هذا يُدَّعَى ادَّعَى ابنُ التومَرْتِ صاحبُ "المُرشِدة" أنه المهدي الذي بَشَّر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقال في الخطبة له: "المهدي المعلوم" و"الإمام المعصوم" حتى رُفِعَ ذلك. وصار من الغلاة في مشايخهم يعتقد أحدُهم في شيخه نحوَ ذلك، فإمّا أن يقول: هو معصوم، أو يقول: هو محفوظ، والمعنى عنده واحد، وإمّا أن يُنكِر ذلك بلسانِه ولكن يُعامله معاملةَ المعصوم. فهؤلاء إذا كان أحدهم يعتقد في بعض الرجال المؤمنين أنهم معصومون من الذنوب بل ومن الخطأ، كيف لا يعتقدون ذلك في الأنبياء؟ فغُلوُّهم فيمن غَلوا فيه من أئمتِهم أهلِ المشيخةِ أو النسبِ يُوجب عليهم أن يَغْلُوا في الأنبياء بطريقِ الأولى، فإن كان من المسلمين اعتقدوا أن الأنبياء أفضلُ منهم، وإن كانوا ممن يَعتقد في الشيخ والإمام أنه أفضل من النبي - كما يقول ذلك المتفلسفةُ والشيعةُ وغلاةُ المتصوفةِ الاتحاديةِ وغيرِ الاتحادية - فهم لابدَّ أن يُقِرُّوا الغُلُوَّ في الأنبياء حتى تُوافِقَهم الناسُ على الغُلُوَ في أئمتِهم. وهذا كلُه من شُعَب النصرانية الذين وَصفَهم الله بالغلو في القرآن، وذمَّهم عليه ونهَاهم فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)) (1) الآية، وقال تعالى: (يأهلَ اَلكتاب لَا تَغلُواْ في دِينكم غير الحق و َلَا تَتبِعُوَاْ أَهواء قوم قد ضَلواْ مِن قَبلُ وَأَضلُواْ كثيرا وَضَلُواْ عَن سَواء السَّبِيلِ (77)) (2) . وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" (3) . وقال: "إيّاكم والغُلوَّ في الدين، فإنما أهلكَ مَن كان قبلكم الغُلُوُّ في الدين" (4) . وهذا قال لهم بسبب رَمْي الجمارِ لئلاَّ يَغْلُوا فيها، فكيف فيما هو أعظم من ذلك؟ وهؤلاء أهلُ الغلوِّ النصارى ومن شابَهَهم من هذه الأمة في الغلوّ - كما ثبتَ عنه في الصحيحين (5) أنه قال: "لَتَركَبُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّةِ، حتى لو دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخلتُموه" - هم قَصَدوا تعظيمَ الأَنبياء والصالحين بالغُلوّ فيهم، فوقعوا في تكذيبهم وبُغضِهم ما جاءوا به، فإنّ المسيح قال للنصارى كما أخبر الله عنه أنه قال: (مَا قلتُ لهم إلا مَاَ أَمرَتَني بِهِ أَنِ اَعبُدُواَْ اللهَ رَبِى وَربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقِيبَ عَلَيهِم وَأَنت على كل شئ شَهِيد (117)) (6) وقال المسيح: (إِني عَبدُ   (1) سورة النساء: 171-172. (2) سورة المائدة: 77. (3) أخرجه البخاري (3445،6830) عن عمر بن الخطاب. (4) أخرجه أحمد (1/215،347) والنسائي (5/268،269) وابن ماجه (3029) عن ابن عباس. وصححه النووي في "المجموع" (8/171) والألباني في "الصحيحة" (1283) . (5) البخاري (3456،7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري. (6) سورة المائدة: 117. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)) (1) . والغُلاةُ فيه كذَّبوه وعَصَوه، فقالوا: ما هو عبدَ الله بل هو الله، وأشركوا به الشركَ الذي نهاهم عنه. وكذلك الغاليةُ في عليّ وفي غيرهم (2) من أهل العلم والإيمان، وعليٌّ عليه السلام يقول: "لا أوْتَى بأحدٍ يُفَضلُني على أبي بكرِ وعُمَرَ إلا جَلَدتُه حد المفتري" (3) . وحرَّقَ الغاليةَ فيه بالنار، ويقول ما نُقِلَ عنه من نحو ثمانين وجهًا: "خيرُ هذه الأمةِ بعدَ نبيها أبو بكر ثم عمر" (4) ، ويَذكُر ذلك لابنِه محمد بن الحنفية كما رواه البخاري في الصحيح (5) عنه، والشيعةُ تكذبُه وتُخالِفُه. فهم معه كالنصارى مع المسيح واليهودِ مع موسى. وكذلك (6) أَتباعُ الشيوخِ الصالحين المهتدين يَضِلُّون فيهم، ويتركون اتّباعَهم على الطريقة التي يُحِبها اللهُ ورسوله. و هذا بابٌ دخلَ فيه الشيطانُ على خلق كثير فأضلَّهم، حتى يجعل أحدُهم قولَ الحق تنَقُّصًا له، فإذا قيل للنصارى في المسيح:   (1) سورة مريم:30. (2) كذا في الأصل، والأولى "غيره". (3) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1/83) . وانظر "منهاج السنة" (1/ 308،6/138) . (4) انظر: "منهاج السنة" (1/308) وذكر بعضها في هامشه (1/12) . (5) برقم (3671) . (6) في الأصل: "وأولئك"، والتصويب من "مختصر الفتاوى المصرية" (ص 106) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 (مَّا اَلَمسيحُ ابن مَريَمَ إِلا رَسُول قَدْ خَلَتْ مِن قبلِهِ اَلرسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (1) قالوا: هذا تنقيصٌ بالمسيح وسوءُ أدبٍ معه، وهم مع هذا يَشتُمون الله ويَسُبونه مَسَبَّةً ما سَبَّهُ إياها أحدٌ من البشر، كما كان معاذ بن جبل يقول في النصارى: "لا تَرحموهم، فلقد سَبُّوا الله مَسَبَّةً ما سَبَّه إياها أحدٌ من البشر". وفي الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: "شَتَمَنِيْ ابنُ آدمَ وما يَنبغي له ذلك، وكَذَّبَني ابنُ آدم وما ينبغي له ذلك، فأما شتْمُه إيّايَ فقوله إن لي ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأما تكذيبُه إيّايَ فقوله لن يُعِيْدَني كما بدأني، أَوَليس أَوَّلُ الخلقِ بأهونَ عليَّ من إعادتِه؟ ". وهؤلاء الغاليةُ يَجمعُون بين شتم الربّ وتكذيبه، وهكذا الغالية المنتسبون إلى هذه الأمّة تجدُ أحدَهم يَغلُو في قُدوتِه، حتى يكرهُ أن يُوصَفَ بما هو فيه، ويُقالَ عليه الحقُّ، وهو مع هذا يقول في الله العظائمَ التي ما قالتْها فيه لا اليهودُ ولا النصارى، حتى يقول: إن الله موصوفٌ بكل ذَم وكل عيب كما هو موصوفٌ بكل حمدٍ وكل مدحٍ، وإنه هو إبليس وفرعون والأصنام، كما قالته النصارى في المسيح، والله سبحانَه عابَ على المشركين ما هو دون هذا، حيثُ قال: (وَجعلَوا للهِ مِمَا ذَرَأ َمِن الحرث والأَنعَام نَصِيبا فَقَالواْ هَذا لله بِزَعمِهِم وَهَذَا لِشرَكائنا فَمَا كانَ لشركائهم فَلَا   (1) سورة المائدة: 75. (2) البخاري (3193،4974،4975) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 يَصِلُ إلى اللهِ وَما كانَ للهِ فَهُو يَصلُ إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)) (1) ،وقال: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدوا بِغَيرِ عِلم) (2) . وهؤلاء يرِيدون أن يُقالَ في أئمتِهم الحقُّ، ويقولون على الله الباطلَ، ويَرضوْن بأن يُسَبَّ الله ويُشْتَم، ولا يَرضَوْن بأن يُسَبَّ متبوعُ أحدِهم على ما افتراه على الله ورسوله، بل لا يَرضَون أن يُقال فيه الحقُّ أو أن يُضافَ إليه خطأٌ جائزٌ عليه وواقعٌ منه. وقال تعالى حكايةً عن الخليل عليه السلام: (وَكيفَ أَخَافُ مَاَ أشرَكتم وَلَا تَخَافُونَ أَنّكم أَشْرَكتُم بالله ما لَمْ ينُزل بِهِ عليكم سلطانا فأي الفريقين أَحَقُّ بالأَمن إِن كنُتم تعلَمون (81)) (3) . قال تعالى: (الَذِينَ أمَنُواْ وَلَم يَلبِسُوَا إِيمَانَهُم بِظلم أُوْلئكَ لَهُمُ الأمنُ وَهُم مهْتَدُونَ (82)) (4) . كان المشركون يُخوَفون المؤمنين بآلِهَتِهم، ويقولون: إنكم إذا لم تتخذوها شُركاءَ وشُفعاءَ فإنها تَضرُكم، فأنكر الخليلُ عليه السلام وقِال: (وَكيفَ أَخَافُ مَا أَشرَكتُم وَلَا تَخَافُون أَنكّم أَشرَكتُم بالله مَا لم ينزِل بِهِ عَلَيكمْ سُلطانا) ، أي كيف أخاف ما تدعونه من دون الله؟ وهو لا يَضرُّ ولا ينفع إلا بإذن الله، وأنتم لا تخافون اللهَ حيثُ أشركتم به فجعلتم له أندادًا، فأَعدلْتموهم به، تَدعُون من دونه   (1) سورة الأنعام: 136. (2) سورة الأنعام: 108. (3) سورة الأنعام: 81. (4) سورة الأنعام: 82. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 وتخافونَهم وترجونهم، وهو لم يُنزل بذلك عليكم سلطانًا، وهو الكتاب المنزَّل من السماء، (فأيُّ اَلفَرِيقَين أَحق بالأَمنِ إِن كنُتم تَعلَمُون (81)) . وفي الصحيحين (1) عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية (الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: أَيُّنَا لم يَظْلِمْ نفسَه؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح (إِنَّ الشركَ لَظلم عظيم (13)) (2) ". وهذا بابٌ يَطول وصفُه، وإنما المقصود التنبيهُ عليه. إذا عُرِفَ هذا فقد اتفقَ سلفُ الأمة وأئمتُها وجميعُ الطوائف الذين لهم قولٌ يُعتَبر أنَّ من سِوَى الأنبياءِ ليس بمعصوم، لا من الخطأ ولا من الذنوب، سواء كان صدِّيقًا أو لم يكن، ولا فرقَ بين أن يقول: هو معصوم من ذلك، أو محفوظٌ من ذلك، أو ممنوعٌ من ذلك. قال الأئمة: كلُّ أحدٍ يُؤخَذ من قوله وْيترَك إلاّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه هو الذي أَوْجَب اللهُ على أهل الأرض الإيمانَ به وطاعتَه، بحيثُ يَجبُ عليهم أن يصدِّقوه بكل ما أخبرَ ويُطيعوه في كلِّ ما أمرَ. وقد ذكرَ اللهُ طاعتَه واتباعَه في قريبٍ من أربعينَ موضعًا في   (1) البخاري (32،3360 ومواضع أخرى) ومسلم (124) . (2) سورة لقمان: 13. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 القرآن، كما قال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (1) ، وقال: (وَمَا أَرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (2) وقال تعالى: (فَلَا وَرَبكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِمُوكَ فيمَا شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أَنفسهم حرَجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)) (3) ، وقال تعالى: (لَّا تَجْعَلُواْ دُعَاء اَلرَسُولِ بَينكم كَدُعاء بَعْضكم بَعْضا) ، إلى قوله: (فليحذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أمره أَن تُصيبَهُم فِتنَة أَؤ يُصِيبَهُم عَذَاب أَليم (63)) (4) ، وقال تعالى: (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أحق أَن يُرضوُه) (5) ، وقال تعالى: (قُل إن كنتُم تُحِبونَ اللهَ فَاَتَّبِعوني يحْببِكمُ اللهُ) (6) ،وقال تعالى: (فَإِن تَناَزعتُم في شَئ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (7) ، وقال تعالى: (وَمَن يُطِعِ الله وَالرَّسولَ فَأوْلَئكَ مع اَلَّذِينَ أَنعَمَ اللهَُ عَليهِم مِّنَ النِّبينَ وَالصِّدِيقِين وَالشُهَداءً وَالصّالِحِينَ) (8) . وطاعةُ الله والرسول هي عبادةُ اللهِ التي خُلِقَ لها الجنّ والإنس، فهي غايتُهم التي يُحِبُّها اللهُ ورسوله ويرضاها ويأمرهم بها، وإن كان قد شاءَ من بعضِهم ما هو بخلاف ذلك وخَلَقَهم له، فتلك غايةٌ   (1) سورة النساء: 80. (2) سورة النساء: 64. (3) سورة النساء: 65. (4) سورة النور: 63. (5) سورة التوبة: 62. (6) سورة آل عمران: 31. (7) سورة النساء: 59. (8) سورة النساء: 69. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 شاءَها وقَدَّرَها، وهذه غاية يُحِبها ويأمرُ بها ويرضاها. والكلامُ على هذا مبسوط في غير هذا الموضع (1) . والعبادة لله أن يجمع غاية الحب له بغايةِ الذل له، فكل خيرٍ وكلِ كمال ومقامٍ وحالٍ قَرَّبَ إليه ونحوُ ذلك مما يُحمَد من العبادِ ويُطْلب منهم ويُرضى لهم فهو داخلٌ في طاعة اللهِ ورسوله أو مستلزمٌ لذلك. ولهذا اتفقت الأمةُ على أنه معصوم فيما يُبلِّغُه عن ربه تبارك وتعالى، فإن مقصودَ الرسالة لا يَتِمُ إلاّ بذلك، وكلُّ ما دل على أنه رسولُ اللهِ من معجزة وغيرِ معجزةٍ فهو يدلُّ على ما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" فإنّي لَنْ أكذِبَ على الله" (2) . وقد اتفقوا أنه لا يُقَرُّ على خَطَأٍ في ذلك، وكذلك لا يُقَرُّ على الذنوب لا صغائرِها ولا كبائرِها، ولكن تنازعوا: هل يقع منهم بعضُ الصغائرِ مع التوبة منها أو لا يَقَعُ بحالٍ؟ فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلين وبعض متكلمي أهل الحديث: لا يَقَع منهم الصغيرةُ بحالٍ، وزادت الشيعةُ حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا غيرُ خطأٍ. وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث من أصحابِ الأشعري وغيرهم فلم يَمنَعوا الوقوعَ إذا كانَ مع التوبة، كما دَلتْ عليه نصوصُ الكتابِ والسنة،   (1) انظر مجموع الفتاوى (8/159-161، 187-190،197-200،440-442) . (2) أخرجه مسلم (2361) عن طلحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 فإن اللهَ يُحِبُّ التوَّابين ويُحِبُّ المتطهرين، وإذا ابْتَلَى بعضَ الأكابر بما يَتُوب منه فذاك لكمالِ النهاية، لا لنقصِ البدايةِ، كما قال بعضُهم: لو لم يكن التوبةُ أحبَّ الأشياءِ إليه لما ابتلَى بالذنب أكرمَ الخلق عليه. وفي الأثر (1) : "إنّ العبد لَيَعْمَل السيئةَ فيدخَلُ بها الجنةَ، وإنّ العبدَ لَيعملُ الحسنة فيدخلُ بها النارَ"، يعني أن السيئة يذكرُها ويتوبُ منها فيُدْخِلُه ذلك الجنةَ، والحسنةُ يُعْجَبُ بها ويَسْتكبرُ فيُدخِلُه ذلك النارَ. وأيضًا فالحسنات والسيئات تَتنوَّعُ بحسبِ المقامات، كما يقال: "حسنات الأبرار سيئاتُ المقرَّبِين"، فمن فَهِمَ ما تَمحُوه التوبةُ وتَرفَعُ صاحبَها إليه من الدرجات وما يَتفاوتُ الناسُ فيه من الحسنات والسيئات زالتْ عنه الشبهةُ في هذا الباب، وأقرَّ الكتابَ والسنةَ على ما فيهما (2) من الهدى والصواب. فإنّ الغُلاةَ يتوهمون أن الذنبَ إذا صدرَ من العبد كان نقصًا في حقّه لا يَنْجبرُ، حتى يجعلوا من فضلِ بعضِ الناس أنه لم يَسجدْ لصَنَم قطُّ. وهذا جهلٌ منهم، فإن المهاجرين والأنصار والذين هم أفضل هذه الأمة هم أفضلُ من أولادِهم وغيرِ أولادِهم ممن وُلِدَ على الإسلام، وإن كانوا في أولِ الأمر كانوا كُفارًا يعبدون الأصنام، بل المنتقلُ من الضلال إلى الهدى ومن السيئات إلى   (1) أخرجه أحمد في "الزهد" (ص 396،397) وابن المبارك في "الزهد" (162) عن الحسن مرسلاً، فهو ضعيف. انظر "الضعيفة" (2031) . (2) في الأصل: "فيها"، والتصويب من "مختصر الفتاوى المصرية" (ص 107) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 الحسنات يُضاعَفُ له الثوابُ، كما قال تعالى: (إِلًا مَن تَابَ وَآمَن وَعَمِلَ عملا صالِحًا فَأُوْلَئك يبَدِّلُ الله سيئاتِهِم حَسَنَات وَكاَنَ اللهُ غَفُورا رَّحِيمًا (70)) (1) . وقد ثبت في الصحيح (2) أن الله يومَ القيامة يَظهر لعبدِه فيقول: "إني قد أبدلتك مكانَ كل سيئةٍ حسنةً"، فحينئذٍ يَطلبُ كبائرَ ذُنوبِه. وقد ثبت في الصحاح (3) من غير وجهٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أخبر أن الله أشدُ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه من رجلٍ أضلَّ (4) راحلتَه بأرضٍ دَوِّيَّةٍ مَهلَكةٍ عليها طعامُه وشرابُه، فطلبَها فلم يجدْها، فنامَ تحت شجرةٍ يَنتظِرُ الموتَ، فلما استفاقَ إذا بدابَّتِه عليها طعامُه وشرابُه، فالله أشدُّ فَرَحًا بتوبة عبدِه مِن هذا براحلتِه. وهذا أمرٌ عظيمٌ إلى الغاية. فإذا كانت التوبةُ بهذه المنزلةِ كيف لا يكون صاحبُها مَعظَّمًا عند اللهِ؟ وقد قال تعالى: (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السماوات والأرض والجِبَالِ فَأَبَين أَن يحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَملَها الإنسانُ إِنَّه كانَ ظَلُوما جَهُولا (72) لِيَعُذبَ اللهُ اَلمُنافِقِينَ وَالمُناَفِقات وَالمشركين والمشركات ويتوب الله عَلَى اَلْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنات وكَاَنَ الله   (1) سورة الفرقان: 70. (2) مسلم (190) عن أبي ذر. (3) البخاري (6308) ومسلم (2744) عن ابن مسعود، والبخاري (6309) ومسلم (2747) عن أنس. ورواه مسلم أيضًا (2745،2746) عن النعمان بن بشير والبراء بن عازب. (4) في الأصل: "أظل"، وهو خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 غَفُورا رَّحيِما (73)) (1) ، فوصفَ الإنسانَ بالجهل والظلمِ، وجعلَ الفرقَ بين المؤمن والكافر والمنافق أن يتوبَ الله عليه، إذْ لم يكن له بُدٌّ من الجهل والظلم. ولهذا جاء في الحديث (2) : "كل ابنِ آدمَ خَطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابُون". واعلم أن كثيرًا من الناس يَسبقُ إلى ذهنه من ذكر الذنوب الزنا والسرقةُ ونحوُ ذلك، فيَسْتَعظمُ أن كريمًا يفَعل ذلك، ولا يعلم أن أكثر عُقَلاء بني آدم لا يَسرِقَون بل لا يزنون، حتى في جاهليتهم وكفرهم، فإن أبا بكر وغيره من الصحابة كانوا قبل الإسلام لا يَرْضَون (3) أن يفعلوا مثلَ هذه الأعمال، ولما بايعَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هندًا بنتَ عُتبةَ بن ربيعة أمَّ معاوية بيعةَ النساء على أن لا يَسرقن ولا يزنين، قالت: أوَ تَزني الحُرَّةُ؟ (4) فما كانوا في الجاهلية يعرفون الزنا إلاّ للإماء. ولهذا قولهم "حُرَّة" تُرادُ به العفيفة، لأن الحرائرَ كن عَفائِفَ. وأما اللواط فأكثر الأمم لم يكن يَعرفُه، ولم يكن هذا يُعرَفُ في العرب قطُ.   (1) سورة الأحزاب: 72-73. (2) أخرجه أحمد (3/198) والترمذى (2499) وابن ماجه (4251) عن أنس بن مالك. وحسنه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (2341) . (3) في الأصل: "لا يرضوا". (4) ذكره الطبري في "تاريخه" (3/61-62) بلاغًا ضمن قصة مشهورة. ونقل عنه ابن كثير في "البداية والنهاية" (6/616-618) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 ولكن الذنوب التي هي في باب الضلال في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما يدخل في ذلك من البدع التي هي من جنس العُلُوِّ في الأرض والفخر والخُيَلاَء والحسد والكبر والرياء ونحو ذلك، هي في الناس الذين هم متعفِّفُون عن الفواحش. وكذلك الذنوب التي هي ترك الواجبات، فإنّ الإخلاص لله والتوكل على الله والمحبة له ورجاء رحمة الله وخوف عذاب الله والصبر على حكم الله والتسليم لأمر الله= كل هذا من الواجبات، وكذلك الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك هو من فروض الكفايات، وتحقيق ما يجب من المعارف والأعمال يطول تفصيلُه في هذا السؤال، حتى يفطن هذا ثم يفتح له الباب. وقد ذكر الله الذين وعدَهم بالحسنى فلم يَنْفِ عنهم الذنوب، ولكن ذكرَ المغفرةَ والتكفيرَ فقال: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)) (1) ، وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) (2) . وقد ثبت في الصحيح (3) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لن يَدْخُلَ أحد منكم الجنةَ بعملِه"، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: "ولا أنا، إلاّ أن يَتَغَمَّدَني الله برحمته".   (1) سورة الزمر: 33-35. (2) سورة الأحقاف: 16. (3) أخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 فصل إذا ثبتَ هذا فظلمُ العبدِ نَفسَه يكون بتركِ ما ينفعُها وهي محتاجة إليه، أو بفِعْلِ ما يَضُرُها، كما أن ظلم الغير كذلك يكون إما بمَنْع حقِّه أو التعدِّي. والنفسُ إنما تَحتاجُ من العبد إلى فعل ما أمرَ اللهُ به، وإنما يضرُّها فعلُ ما نهى الله عنه، فظلمُها لا يَخْرُج عن تركِ حسنة مأمورٍ بها أو فَعْلِ سيئةٍ منهيٍّ عنها، وما يُضْطَرُّ العبدُ إليه من أكلٍ وشرب ولباس وغير ذلك هو داخلٌ في هذا، فإن جميع ذلك هو من الواجبات المأمورِ بها، حتى أكلُ الميتةِ عند الضرورة يجب في المشهورِ من مذهب الأئمة الأربعة، قال مسروق: مَنِ اضْطُرَّ إلى الميتةِ ولم يأكل حتى ماتَ دخلَ النار. وكذلك ما يَضرُّها من جنسِ العبادات، مثل الصوم الذي يزيد في مرضها أو يَقتُلها، أو الاغتسال بالماء البارد الذي يَقتُلها ونحو ذلك، هو من ظلمها المحظور، فالله تعالى أمرَ العبادَ بما ينفعُهم ونهاهم عما يَضرُّهم، كما قال قتادةُ: إن الله لم يأمر العبادَ بما أمرَهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بُخْلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادُهم، ولهذا جاء القرآن بالأمر بالصلاح والنهي عن الفساد في غيرِ موضع. والصلاح كلُّه في طاعة الله، والفسادُ كلُّه في معصيةِ الله، فالصلاح والطلاعة متلازمان، والمعصية والفساد متلازمان، كتلازُم الطيب والحِلّ، وكلُّ طيب حلال وكل حلالٍ طيّبٌ، وكل خبيثٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 حرام وكل حرام خبيثٌ. والمعروفُ ملازمٌ مع الطاعةِ والصلاحِ، والمنكرُ ملازم مع المعصية والفساد، ولكن بعض الناس قد تبيَّنَ له اتصافُ الفعلِ ببعض هذه الصفات قبلَ بعض، كما يَعلم كثيرًا من العبادات ولا يعلم ما فيها من الصلاح، وكثيرًا من المحرَمات ولا يعلم ما فيها من الفساد، وكذلك قد يَرى مصالحَ كثيرةً ولا يعلم أمرَ الشارع بها. والمؤمنُ يعلم أن الله يأمر بكل مصلحةٍ ويَنهى عن كل مفسدة، فإذا كان في بعض الأفعال رأى أنه مصلحة ولم يأمر به كان مخطئًا من أحد الوجهين: إما أن يكون في نفس الأمر مصلحة لما ترجح فيه من مفسدة لا يعلمها هو؛ وإِما أن يكون داخلاً فيما أمر الله به ولم يعلم. ولهذا تنازعَ العلماء في المصالح المرسلة التي لم يُعلَم أن الشارع اعتبرها ولا أهدرها، فقيل: يُستدَلُّ بكونها مصلحة على أن الله اعتبرها، لأنه لا يُهمِلُ المصالح، وقيل: بل يُستدَلُّ بعدم اعتبارِ الشارع لها على أنها ليست مصلحةً، بل مضرتُها راجحة إذْ لوَ كانت مصلحتها راجحةً لاعتبرها الشارعُ. وتَتَفَاوَتُ فِطَنُ الناسِ في ذلك بحيث تَعرِفها بجهةِ الاعتبارِ والإهدارِ. ومما يجب أن يُعرَف أنَ العبدَ قد يجب عليه أسبابُ أمورٍ لا تَجبُ عليه بدونها، فإن قام بها كان مصلحًا محسنًا إلى نفسِه، وإلاّ كان ظالما لنفسه، وإن لم يكن تركُها ظلمًا في حق من لم يقبل تلك الأسبابِ، مثل من وَلِيَ ولايةً، ففي "المسند" (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) 3/22،55 عن أبي سعيد الخدري. ورواه أيضًا الترمذي (1329) . وضعّفه الألباني في "الضعيفة" (1156) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 أنه قال: "أحب الخلقِ إلى الله إمام عادل، وأبغضُ الخلق إلى الله إمام جائر". وكذلك (1) مَن لغيره عليه حقوقٌ، كالزوجة والأولاد والجيران، فقد ذكر الله الحقوقَ العشرة في قوله: (*وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (2) . فبَدأ سبحانَه بحقِّه، كما في الصحيحين (3) أنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذٍ: "يا معاذُ! أتدري ما حقُّ اللهِ على عبادِه"؟ قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال: "أن يَعبدوه ولا يُشركوا به شيئا، يا معاذ! أتدري ما حق العبادِ على اللهِ إذا فعلوا ذلك"؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يُعذبَهم". فكلَّما ازدادتْ معرفةُ الإنسان بالنفوسِ ولوازمِها وتَقلُبِ القلوب، وبما عليها من الحقوق لله ولعبادِه، وبما حَدَّ لهم من الحدود= عَلِم أنه لا يخلو أحدٌ عن ترك بعضِ الحقوق أو تعدِّي بعضِ الحدود. ولهذا أمرَ الله عبادَه المؤمنين أن يَسألوه أن يَهديَهم الصراطَ المستقيم في اليوم والليلة في المكتوبةِ وحدَها سبعَ عشرة مرةً، وهو صراطُ الذين أنعم الله عليهمِ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن يطع اللهَ ورسوله فهم هؤلاء.   (1) في الأصل: "وأولئك" تحريف. (2) سورة النساء: 36. (3) البخاري (2856،5967،6267،6500،7373) ، ومسلم (30) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 فالصراط المستقيم طاعةُ الله ورسوله، وهو دين الإسلام التام، وهو اتباعُ القرآن، وهو لزومُ السنَّة والجماعة، وهو طريقُ العبودية، وهو طريق الخوف والرجاء. ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في خطبته (1) : "الحمد لله نستعينه ونستغفره" لعلمِه أنه لا يفعل خيرًا ولا يجتنب شرًّا إلا بإعانة الله له، وأنه لابُدَّ أن يفعل ما يُوجِب الاستغفارَ. وفي الحديث الصحيح (2) : "سيّدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللهمَّ أنت ربي لا إلهَ إلا أنتَ خلقتَني، وأنا عبدك وأنا علىَ عهدِك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شر ما صنعتُ، أَبوءُ لك بنعمتِك عليَّ، وأَبوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يَغفر الذنوبَ إلا أنتَ". فقوله "أَبوءُ لك بنعمتك عليَّ" يتناولُ نعمتَه عليه في إعانته على الطاعات، وقوله "أَبوءُ لك بذنبي" يُبيِّن إقرارَه بالذنوب التي تحتاج إلى الاستغفار. والله تعالى غفور شكور، يَغفر الكثيرَ من الزلل، ويَشكر اليسيرَ من العمل. وجاء عن غيرِ واحدٍ من السلف أنه كان يقول: إنّي أُصبِحُ بين نعمة وذنب، فأريد أن أُحْدِث للنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا. فقوله "الحمد لله نستعينه ونستغفره" يتناول الشكرَ والاستعانةَ والاستغفارَ، الحمد لله وأستغفر الله ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، كما   (1) أخرجه مسلم (868) عن ابن عباس. (2) البخاري (6306،6323) عن شداد بن أوس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 كان بعضُ المشايخ يَقرِن بين هذه الثلاثة، فالشكر يتناول ما مضى من إحسانه، والاستغفار لما تقدم من إساءةِ العبد، والاستعانة لما يستقبله العبد من أموره. وهذه الثلاثُ لابدَّ لكل عبد منها دائمًا، فمن قَصَّرَ في واحد منها فقد ظلمَ لنفسِه بحسب تقصيرِ العبد. وأصل الإحسان هو التصديقُ بالحقّ ومحبتُه، وأصل الشرِّ هو التكذيبُ به أو بُغْضُه، ويَتْبعُه التصديقُ بالباطل ومحبتُه. والتصديقُ بالحقّ وحبُّه هو أصلُ العلم النافع والعمل الصالح، والتكذيبُ به وبُغْضُه هو من الجهل والظلم. فالإنسان إذا لم يعلم من الحق ما يحتاج إليه أو لم يُقِرَّ به أو لم يُحِبَّه كان ظالمًا لنفسه، وإن أقرَّ بباطل أو أحبَّه واتَّبَع هواه كان ظالما لنفسه، فظلمُ النفسِ يعود إلى اتباعَّ الظن وما تهوى الأنفس، وهذا يكون في اتباع الآراء والأهواء، فأصلُ الشرِّ البدَعُ، وهو تقديمُ الرأي على النصِّ واختيارُ الهَوَى على امتثالِ الأمر، وأصلُ الخير اتباعُ الهُدَى، كما قال تعالى: (فَإِمَّا يَأتينكمِ مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبعً هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يشقى (123) وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِى فَإِنَ لهُ مَعِيشَةً ضَنكا وَنحشره يَومَ الَقيامَةِ أَعمَى (124)) (1) . قال ابن عباس (2) : تكفَّل اللهُ لمن قرأ القرآنَ وعمل بما فيه أن لا يَضل في الدنيا ولا يَشْقَى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية. والضلال والشقاء هو خلاف الهدى والفلاح الذي أخبر به عن المتقين الذين يهتدون بالكتاب، حيث قال: (ذلِكَ الكتابُ لَا رَيب   (1) سورة طه: 123-124. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/163) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 فيه هُدًى) إلى قوله (أُوْلئكَ على هُدًى مِّن رَّبهِم وَأُوْلَئكَ هُمُ المفلحون (5)) (1) . والضلال والشقاء هو أمرُ (2) الضاليِنِ والمغضوب عليهم المذكورين في قوله (غَيرِ المَغضُوبِ علًيهِم ولا الضاليَن (7)) (3) ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالّون" (4) ، فإن اليهودَ عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا الله بغير علم. ومن عرفَ الحقَّ ولم يعملْ به كان متبعًا لهواه، واتباعُ الهوى هو الغَي، ومن عَمِلَ بغير علم كان ضالاًّ. ولهذا نزَه اللهُ نبيَّه عن الضلال والغي بقوله: (والنجم إذا هوى (6) مَا ضَل صاحِبُكم وَما غَوى (2)) (5) . قال تعالى في صفة أهل الغي: (سَأَصرِفُ عَنْ آياتي الَذِينَ يتَكبَرُون فِي اَلأَرضِ بِغَيرِ الحَقّ وَإِن يرواْ كلَّ أية لا يُؤمِنُواْ بِهَا وَإن يَرَواْ سَبيلَ الرُّشدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) (6) ، وقال: (وَاَتلُ عَلَيهِم نَبَأَ اَلَذِيَ أتَيْنَاه آيتِنَا فانسَلَخَ مِنهَا فَاَتبعًهُ الشَيطاَن فَكانَ مِنَ الغَاوِيَن (175)) (7) ، وقال في الضلال: (وإنَ كثَيرا لّيُضِلُونَ بِأَهوآئهم   (1) سورة البقرة: 2-5. (2) في الأصل: "أحد" تحريف. (3) سورة الفاتحة: 7. (4) أخرجه أحمد (4/378) والترمذي (2953،2954) عن عدي بن حاتم. وفي الباب روايات أخرى أخرجها الطبري في تفسيره (1/185-188، 193-195 من طبعة دار المعارف) . (5) سورة النجم: 1-2. (6) سورة الأعراف: 146. (7) سورة الأعراف: 175. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 (بِغَيْرِ عِلْمٍ) (1) ، وقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (2) . والعبد إذا عَمِلَ بما علم ورَّثَه اللهُ عِلمَ ما لم يعلم، كما قال سبحانَه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68)) (3) ، وقال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)) (4) ، وقال: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) (5) ، وقال: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (6) . فإذا تركَ العملَ بعلمه عاقَبَه الله بأن أَضلَّه عن الهدى الذي يَعرِفه، كما قال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (7) ، وقال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (8) ، وقال: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) (9) . وفي الحديث الذي رواه الترمذي (10) وصححه عن أبي هريرة   (1) سورة الأنعام: 119. (2) سورة القصص:50. (3) سورة النساء: 66-68. (4) سورة محمد:17. (5) سورة الحديد: 28. (6) سورة المائدة: 16. (7) سورة الصف: 5. (8) سورة الأنعام: 110. (9) سورة البقرة: 10. (10) برقم (3334) . وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضًا أحمد (2/297) = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنَّ العبدَ إذا أذنب نكِتَ في قلبه نكتة سوداءُ، فإذا تاب ونَزَعَ واستغفر صُقِلَ قلبه، فإن زادَ يَزِيدُ فيها حتى يَعْلُوَ قَلْبَه، فْذلك الرَّانُ الذي قال الله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (14) (1) ". فهذه الأمور تتبيَّنُ بها أجناسُ ظلمِ العبدِ نفسَه، لكن كل إنسانٍ بحسبه وبحسبِ درجتِه، فما من صباح يُصْبِح إلاّ وللهِ على عبدِه حقوقٌ لنفسِه ولخلقِه عليه أن يفعلَها، وحدود عليه أن يحفظَها، ومحارمُ عليه أن يجتنبَها، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله فرضَ فرائضَ فلا تُضيعُوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها، وحرَّمَ محارمَ فلا تَنتهِكُوها" (2) . فإن أجناسَ الأعمال ثلاثةٌ: مأمور به، فالواجب منه هو الفرائض؛ ومنهيٌّ عنه وهو المحارم؛ ومباح له حدٌّ يُنتَهَي إليه، فتعدِّيه تَعدٍّ لحدود الله، بل قد يكون الزائد على بعض الواجبات والمستحبات تعدٍّ (3) لحدود الله، وذلك هو الإسراف، كما قال المؤمنون قبلنا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) (4) . والذنوب   = والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (418) وابن ماجه (4244) . (1) سورة المطففين: 14. (2) أخرجه الطبراني في الكبير (22/رقم 589) والدارقطني في السنن (4/ 183،184) وأبو نعيم في الحلية (9/17) والبيهقي في السنن الكبرى (2/110-13) عن أبي ثعلبة الخشني، وصححه الحاكم وحسَّنَه النووي، وانظر الكلام عليه في "جامع العلوم والحكم" (2/150 وما بعدها) . (3) كذا في الأصل، والصواب أن يكون "تعدّيًا". (4) سورة آل عمران: 147. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 تتناولُ جنسَ الذنوب، وأما الإسراف فهو تعدِّي الحدودِ، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (1) . فالإثم جنسُ المنهي عنه، والعدوانُ تعدِّي الحدِّ في المأذون فيه، والبِرُّ جنسُ المأمور به، والتقوى حفظُ الحدود، بل يُفعَل المأمورُ به ويترَكُ المنهيُّ عنه، ويُفعَل المباحُ من غير تعدِّي الحدودِ في ذلك. إذا تبيَّن هذا الأصل فقولُ السائل: "ما مفهوم قول الصديق: "ظلمت نفسي ظلمًا كثيرا"، والدعاء بين يَدَي الله لا يحتمل المجاز، والصدِّيق من أئمة السابقين، والرسول أمرَه بذلك" يتضمن شُبهةً في هذا الدعاء، ومَثَارُ الشبهةِ أن يُقال: الصدّيقُ أجلُّ قدرًا من أن تكون له ذنوب تكون ظلمًا كثيرًا، فإنّ ذلك ينافي مرتبةَ الصدِّيقيةِ. وهذه الشبهة تزول بوجهين: أحدهما: أن الصديق بل والنبي والرسول إنما كَمُلَت مرتبتُه وانتهت درجتُه، وتَمَّ عُلُوُّ منزلتِه في نهايتِه لا في بدايته، وإنما قَالَ ذلك بفعلِ ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، وأفضلُ أعمالِه بل   (1) سورة المائدة: 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 أفضلُها التوبة، فإن التوبة تكون من الكفر والفسوق والعصيان، وما من صدّيقٍ إلاّ ويمكن أن يتوب من الكفر والفسوق والعصيان كالصديقين من السابقين الأولين، وما وُجِدَ قبلَ التوبة فإنه لم يَنْقُصْ صاحبَه إذا تَعقَّبتْه التوبةُ ولم يُغْضِ من منزلتِه، ولا يتصوَّر أن بَشرًا يَستَغني عن التوبة، كما في الحديث المرفوع: "كل بني آدم خَطَّاء، وخيرُ الخطائين التوابون" (1) . وفي صحيح البخاري (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرة". وفي صحيح مسلم (3) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر اللهَ في اليوم مائةَ مرةِ". فقد أَمَر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمتَه بالتوبة عمومًا، وأخبرَ أنه يَستغفر اللهَ ويتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً، بل قولُه الذي في الحديث المتفق عليه (4) : "اللهمَّ اغْفِر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنتَ أعلم به مني. اللهمَّ اغْفِر لي هَزْلي وجِدِّي، وخطأي وعَمْدي، وكل ذلك عندي، اللهمَّ اغْفِر لي ما قدَّمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي   (1) سبق تخريجه. (2) برقم (6307) عن أبي هريرة، وليس فيه الجزء الأول، وقد أخرجه مسلم (2702) عن الأغرّ المزني. (3) برقم (2702) عن الأغر المزني. (4) البخاري (6398) ومسلم (2719) عن أبي موسى الأشعري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 لا إلهَ إلا أنتَ". فهذا الدعاءُ فيه من الاعتراف أعظمُ مما في الدعاء الذي أمر به الصدّيق. و الصدِّيقون يجوز عليهم جميعُ الذنوب بإتفاق الأئمة، فقد يكون الرجل كافرًا ثم يتوب من الكفر ويصير صدِّيقًا، وقد يكون فاسقًا أو عاصيًا ثم يتوب من الفسق والمعصية ويصير صدِّيقًا. وإنما تنازع الناسُ في الأنبياء، وإن كان القولُ بعصمة الأئمة قد يقوله بعضُ من يقوله من الرافضة، حتى الإسماعيلية يقولون: إن بني عُبيد الله بن ميمون القدَّاحِ كانوا معصومين لا يجوزُ عليهم الخطأ ولا الذنوب، فهؤلاءِ زنادقةٌ مرتدون ليسوا من أهل القبلة الذين يُنْصَبُ معهم الخلافُ. والرافضة الذين يعتقدون العصمةَ في الاثنَي عشرَ أجهلُ الخلق وأضلُّهم، ليس لهم عقل ولا نقل، ويُشبِهُهم من يعتقد في شيخِه أو متبوعِه العصمةَ، لكرامة رآها منه أو لحسنِ ظنٍّ به، فهؤلاء كلُّهم من الجهال الذين ليس لقولهم أصل يُبْنَى عليه. ومع هذا فتقديرُ أن يكون أحدُ هؤلاء معصوما أو محفوظًا إنما ذاك عندهم بعد أن يَبلُغ منزلةَ الولايةِ أو الصدِّيقية، وأما قبلَ ذلك فليس بمعصوم باتفاق الناس، وإن كان الصواب الذي عليه أئمة الدين ومشايخُ الدين أن الولي والصديق لا يجب أن يكونَ معصومًا، لا من الخطأ ولا من نحوه، بل قد قال الصدّيقُ الأكبر خيرُ هذه الأمة بعده نبيِّها أبو بكر رضي الله عنه لما ولي الناسَ: "أيها الناسُ! القويُّ فيكم الضعيفُ عندي حتى آخُذَ منه الحقَّ، والضعيفُ فيكم القويُّ عندي حتى آخُذَ له الحقَّ، أطيعوني فيما أطعتُ اللهَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 فإذا عصيتُ الله فلا طاعةَ لي عليكم" (1) . وثبتَ في الصحيح (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَّ رُؤْيا رآها، فقال أبو بكر: دَعْني يا رسول الله أُعبِّرْها، فلما عَبَّرها قال: أصبتُ يا رسول الله أم أخطأتُ؟ فقال: "أصبتَ بعضًا وأخطأتَ بعضًا". وقال الصديق في الكلالة (3) : "أقولُ فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشيطان". وأفضلُ هذه الأمة بعدَ أبي بكر عمرُ، وكان محدَّثًا مُلْهَمًا، كما في الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "قد كانَ في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمرُ". وفي حديثٍ آخر: "إنَّ الله ضربَ الحقَّ على لسان عمر وقلبِه" (5) . فعمر رضي الله عنه أفضلُ المخاطَبين المحدَّثين من هذه الأمة، والصدّيق أفضلُ منه، فإنّ الصديق يتلقَّى عن الرسول لا عن قلبه،   (1) أخرجه محمد بن إسحاق من حديث الزهري عن أنس، انظر "سيرة" ابن هشام (2/660،661) . وصححه ابن كثير في "البداية والنهاية" (8/90، 9/415) . (2) البخاري (7046) ومسلم (2269) عن ابن عباس. (3) كما في تفسير الطبري (4/191-192) . (4) البخاري (3469،3689) ومسلم (2398) عن أبي هريرة. (5) أخرجه أحمد (2/53،95) والترمذي (3683) عن ابن عمر، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (2175-موارد) . وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/401) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 ولهذا سُمِّيَ صدّيقًا، وما جاء به الرسول فهو معصومٌ أن يَستقِرَّ فيه خطأٌ، فما يأخذُه الصديق فهو صِدقٌ كلُّه وحق كلُّه، وأما المحدّث الذي يأخذُ عن قلبه فقلبُه قد يُصيبُ وقد يُخطِيءُ، فيجبُ على كلِّ محدَّث ومُكاشَفٍ أن يَعرِضَ ما وَقَعَ عليه على الكتاب والسنة، فإن وَافقَ ذلك وإلاّ ردَّه، كما قال الشيخ أبو سليمان الداراني: إنه لَيَمُرُّ بقلبي النكتةُ من نكتِ القوم، فلا أقبلُها إلا بشاهدينِ اثنين: الكتابِ والسنةِ. وقال: ليس لمن أُلْهِمَ شيئًا من الخير أن يعملَه حتى يَسمَعَ فيه بأثرٍ، فإذا سَمِعَ بالأثر كان نورًا على نورٍ. وقال الجنيد بن محمد: عِلْمُنا هذا مُقيَّدٌ بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتبِ الحديثَ لا يصلحُ له أن يتكلم في علمنا. وقال سهل بن عبد الله التُّسْتَرِي: كل وَجْدٍ لا يَشهد له الكتابُ والسنة فهو باطل. وقال أبو عمرو بن نُجَيد أو غيرُه: من أَمَّر السنّةَ على نفسه قولاً وفعلاً نطقَ بالحكمة، ومن أَمَّرَ الهوى على نفسِه قولاً وفعلاً نطقَ بالبدعة، لأنّ الله يقول: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (1) . ومثلُ هذا كثير في كلام المشايخ، فما يُلقَى لأهل المكاشفات والمخاطبات من المؤمنين هو من جنس ما يكون لأهل الرأي والقياس من العلم منهم، وكلُّ ذلك فيه حق وفيه باطل، وليس أحدٌ منهم معصومًا، وكلٌّ منهم عليه أن يَزِنَ ذلكَ بالكتاب والسنة والإجماع،   (1) سورة النور: 54. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 فما خالفَ ذلك فهو باطل. و منزلةُ الصديقِ والفاروقِ دَلَّتْ على أنّ [من] يأخُذُ مِن علمِ النبوة الثابتِ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرفعُ منزلةً ممن يأخذ من أهل القلوب عن قلوبهم، فإن غاية الواحدِ من هؤلاء أن يكون مُشابهًا لعمرَ ولا يكونُ مثلَه قط، ومنزلةُ الصدّيقِ أفضلُ، ولهذا كان الصديقُ يُعلم عمرَ ومعاويةَ في غير قصةٍ، كما جرى له معه يومَ الحديبية لما قال عمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى، قال: ألستَ رسولَ الله حقًّا؟ قال: فَلِمَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ في ديننا؟ قال: إني رسول الله، وهو ناصري ولستُ أعصِيْه، قال: ألم تُحدِّثنا أنّا نأتي البيتَ ونطوفُ به؟ قال: بلى، فقلتُ لك إنكَ تأتيه في هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتٍ البيتَ ومُطَوِّفٌ به. ثم جاء عمرُ إلى أبي بكرٍ، فقال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس هو رسول اللهِ حقا؟ قال: بلى، قال: فَلِمَ نُعطَى الدِّنِيَّةَ في ديِننا؟ قال: إنه رسول اللهِ وهو ناصرُه وليس يَعصِيْه، قال: ألم يكن يُحدِّثُنا أنّا نأتي البيتَ ونطوفُ به؟ قال: بلى، أقال لكَ إنك تأتيهِ هذا العامَ؟ قال: لا، قال: فإنك آتٍ البيتَ وتطوفُ به (1) . فأبو بكر أجابَ بمثل ما أجابَ به رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من غير أن يسمعَ كلامَه في تلك القصةِ التي اضطربتْ فيها أكثرُ الصحابةِ، حتى   (1) أخرجه البخاري (2731،2732) ومسلم (1785) عن سهل بن حنيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 قال سهل بن حُنَيف - وهو من كبار المؤمنين وشهدَ مع علي صِفّينَ -: "أيها الناس! اتّهمُوا الرأيَ على الدين، فلقد رأيَتُني يومَ أبي جندلٍ، ولو أستطيعُ أن أَرُدَّ أمرَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرددتُه" رواه البخاري (1) . فإذا كان الصديق والفاروق - وهما خيرُ الخلق بعدَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهما اللذان قال فيهما: "اقتَدُوا باللذينِ من بعدي أبي بكرِ وعمرَ - هما مع الرسول كما ترى، فما الظن بغيرِهما؟ وبهذا يُعلَمً أن كل من ادَّعَى استغناءَهُ عن الرسالة بمكاشفةٍ أو مخاطبةٍ، أو عصمةَ ذلك له أو لشيخِه ونحو ذلك= فهو من أضل الناس. ومن احتَجَّ على ذلك بقصةِ الخضِر مع موسى ففي غايةِ الجهل لوجوهٍ: أحدها: أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجبُ على الخضرِ اتباعُ موسى، بل قال له موسى: إني على علمٍ من علمِ الله عَلَّمنِيهِ الله لا تَعلَمه، وأنتَ على علمٍ من علم الله عَلَّمك الله لا أعلمه، ولما سَلَّم عليه قال: وأنَّى بأرضِكَ السلامُ؟ قال: أنا موسى، قال: موِسى بني إسرائيل؟ قال: نعم (2) . فالخضر لم يعرف موسى حتى عرَّفه نفسَه. وأما محمدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو رسول الله إلى جميع الخلق، فمن لم يتبعْه كان كافرًا ضالاًّ من جميع من بَلَغتْه دعوتُه، ومن قال له كما قال الخضر لموسى كان كافرًا.   (1) برقم (4189) . ورواه مسلم أيضًا (1785) . (2) أخرجه البخاري (4725 ومواضع أخرى) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 الوجه الثاني: أن ما فعلَه الخضرُ لم يكن خارجًا عن شريعة موسى، ولهذا لما بَيَّن له الأسبابَ التي أُبِيْحَ له بها خَرْقُ السفينة وقتلُ الغلام وبناءُ الجدارِ بغير جُعْلٍ أُقرَّه على ذلك، بل كانت الأسبابُ المبيحةُ لذلك قد عَلِمَها الخِضرُ دون موسى، كما يدخل الرجلُ دارَ غيره، فيأكلُ طعامَه ويأخذ مالَه، لعلمِه بأنه مأذون له في ذلك، وقتلُ الآخرِ لعدم علمِه بالإذن قد يكون سببًا ظاهرًا وقد يكون بسبب باطن، وعلى التقديرينِ هما في الشريعة. الوجه الثالث: أن الخضرَ إن كان نبيًا فليس لغير الأنبياء أن يتشبَّه إليه، وإنْ لم يكن نبيًا - وهو قول الجمهور - فأبو بكر وعمرُ أفضلُ منه، فإنّ هذه الأمة خير أمةٍ أخرجتْ للناس، وخيارُ هذه الأمةِ القرنُ الأول من المهاجرين والأنصار، وخيرُ القرنِ الأول السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخيرُهم أبو بكر وعمر. فإذا كان أبو بكر وعمر أفضلَ من الخضر، وحالُهما مع رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الحالُ، ونحن مأمورون أن نقتديَ بهما، لا بأن نَقتديَ بالخضر، كان من ترَكَ الاقتداءَ بهما في حالِهما مع محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقتدَى بالخضرِ في حالِه مع موسى= من أضلِّ الناسِ وأجهلِهم. بل من اعتقدَ أنه يجوز له أن يَخْرُجَ عن طاعةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتصديقِه في شيء من أمورِه الباطنة أو الظاهرةِ فإنه يجب أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلاّ قُتِل كائنًا من كان. وإذا عُرِفَ أنّ التوبة تَرفعُ منزلةَ صاحبِها وإن كان فيه قبلَ ذلك ما كان، لم يكن لأحدٍ أن ينظر إلى صدّيقٍ ولا غيرِه باعتبار مَا وقعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 منه قبلَ التوبةِ والاستغفار، ومن فعلَ ذلك كان جاهلاً أو ظالما مهما أمكن أن يقعَ، إلاّ إذا كانت التوبة قد وُجِدتْ منه، فقد زال أمرُه وارتفعت بالتوبة درجتُه. فلا يُستكبَر بعد هذا أن يقع من صديق قدر ماذا عسى أن يقع، وإن كان صديقُ هذه الأمة كان من أبعد الناس عن الذنوب قبل الإسلام وبعده، حتى إنّه لم يشرب الخمر في الجاهلية ولا الإسلام، وكان معروفًا عندهم بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، لكن المقصود أن يُحسَم مادةُ مثلِ هذا السؤال، لكن مع كونه من أبعد الناس عن الذنوب فكل بني آدم يحتاجُ أن يتوبَ ويعترفَ بظلم نفسه، كما اعترف بذلك من هو أفضل من أبي بكر. وتمام ذلك بالوجه الثاني، وهو أن ظلم النفس أنواعٌ مختلفة ودرجات متفاوتة كما تقدم التنبيهُ عليه، وكل أحدٍ ظلم نفسه على قدر درجته ومنزلته، وما يمكننا أن نحصر ما فعله كل شخص من أشخاص الصديقين، فإن أحوال العباد مع الله أسرار فيما بينهم وبين الله، وإنما يمكن أن يُعرَف أنواع ذلك كما دل عليه الكتاب والسنة، ولا حاجةَ بنا إلى معرفة تفصيل ذلك، فإن هذا ليس مما يُقتدَى فيه بأحدٍ، فإن الاقتداء إنما يكون في الحسنات لا في السيئات التي يثاب فيها. والإنسان لا يَقْنَطُ من رحمة الله ولو عملَ من الذنوب ما عسى أن يعمل، كما قال تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (1) .   (1) سورة الزمر: 53. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 ونحن نعلم أن التوكلَ على الله فرض، والإخلاص له فرض، ومحبة الله ورسوله فرض، والصبر على فعل ما أمر الله وعما نهى الله عنه وعلى المصائب التي تُصِيبُه فرض، وخشية الله وحدَه دون خشيةِ الناس فرض، والرجاء لله وحدَه فرض، وأمثال ذلك من الأعمال الباطنة والظاهرة والتي يَحصُل التقصيرُ في كثيرٍ منها لعامةِ الخلقِ. وأيُّ نوع من هذه الأنواع إذا تدبَّر بعضُ الصديقين فيه حالَهُ يَجدُه قد ظلم نفسَه فيه ظلمًا كثيرًا، دَعْ ما سوى ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وكالقيام بحقوق الأهل والجيران والمؤمنين، وإكمال كلّ واجبٍ كما أمر به، وأمثال ذلك مما لا يُحصَى. وقد ذكر البخاري (1) عن ابن أبي مُليكةَ قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد كلُّهم يخاف النفاقَ على نفسِه. وفي الصحيح (2) أن حنظلةَ الكتاب لما قال: نافق حنظلة، قال أبو بكر: إنّا لَنَجد ذلك. فهؤلاء كانوا يخافون على أنفسهم النفاقَ لكمالِ علمهم وَإيمانهم، وِلهذا كان عبد الله بن مسعود وغيره من السلف يستثنون الإيمان فيَقُول أحدُهم: أنا مؤمنٌ إن شاء الله. وقد تقدم التنبيهُ على مجامع الظلم. والله سبحانَه أعلم. وأما ما ذكره أبو عبد الله الحكيم الترمذيُّ من أصناف الرحمة فلا ريبَ أن الرحمة أصنافٌ متنوعة ومتفاوتة، كما ذكره من أن له   (1) تعليقًا في صحيحه (1/109) ، وأخرجه في التاريخ الكبير (5/137) . وانظر "تغليق التعليق" (1/52) و"فتح الباري" (1/110) . (2) مسلم (2750) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 رحمةً عمَّتِ الخلقَ مؤمنَهم وكافرهم، ورحمةً خَصَّتِ المؤمنين، ثم رحمةً خصَّت خواصَّ المؤمنين على قدر درجاتهم، والحديثُ ليس فيه "رحمة من عندي"، وإنما فيه "فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني"، ولكن مقصوده أن شبه هذا بقوله: (وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً) (1) ، وهو قد جعلَ هذه المغفرةَ المسئولة من عندِه مغفرةً مخصوصة ليستْ مما تُبذل للعامة، كما أن الرحمة منها رحمة مخصوصة ليست مما تُبذَل للعامة. وهذا الكلام في بعضه نظرٌ، فالحكيم الترمذي رحمه الله في الحديث والتصوف، وتكلُّمِه على أعمال القلوب واستشهاده على ذلك بما يذكره من الآثار، وما يُبدِيه عليها (2) من المناسبات والاعتبار= هو في هذا الطريق كغيره من المصنفين في فنونِ (3) العلم كالتفسير والفقه ونحو ذلك. وكثيرًا ما يُوجَد في هذه الكتب من الآثار الضعيفة بل المُضِلَّة ما لا يجوز الالتفاتُ إليه، وكذلك الحكيم الترمذي، فإن له كتبًا (4) متعددة كنوادر الأصول والصلاة وغيرها، وفي كتبه فوائدُ ومقاصدُ مستحسنة مقبولة، وفيها أيضًا أقوالٌ لا دليلَ عليها وأقوالٌ مردودة يُعلَم فسادُها، وآثارٌ ضعيفةٌ لا يجوز الاعتماد عليها.   (1) سورة آل عمران: 8. (2) في الأصل: "على". (3) في الأصل: "صوب". (4) في الأصل: "كتب". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 ومن أضعفِ ما ذكره ما تكلَّم عليه في كتاب "ختم الولاية" (1) ، فإنه تكلم على حال من زعم أنه خاتم الأولياءِ بكلام مردودٍ ومخالفٍ لإجماع الأئمة، ويُناقِض في ذلك. وهذا كان سببَ من تكلم في ختم الأولياء وادَّعَى ذلك لنفسِه، كابن العَرَبي وابن حَمُّويَه ونحوهما، فإن الترمذي أخطأ مقدارًا من الخطأ، فزادوا على ذلك زياداتٍ كثيرة حتى خرج بهم الأمر إلى الاتحاد، وكلُّ متكلمٍ في الوجود يُوزَن كلامُه بالكتاب والسنة. وكلامه على الحديث من أوسط كلامه، وفيه نظر: أحدهما: فإنّ قوله "مغفرة من عندَك"، وقِوله (وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً) ونحو ذلك، ليس في ذلك ما يقتضي اختصاصَ هذا الشخص الداعي بهذا المطلوب المسؤول، ولو كان كذلك لما كان يَسُوغْ لغيرهِ أن يَدعُوَ بهذا الدعاء، وهذا خلافُ الإجماع. وإن قيل: مراده أن هذا المطلوب يختص من دعا هذا الدعاء. قيل له: كذلك يمكن أن يُقال في كل مطلوبٍ بدعاء، فإن ذلك المطلوب هو مختص بذلك الدعاء. وإن قال: بل غير هذا من المطلوبات قد يُنالُ بلا دعاء. قيل له: وهذا أيضًا قد يُنال بلا دعاء، فمن أين لنا أن هذه المغفرة والرحمة المطلوبة لا تُنال إلا بهذا الدعاء؟ وأن سائر ما   (1) ص 367،421-422. وانظر نقد المؤلف له في "الصفدية" (1/248) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 يُطلب من الله قد يُنال بغير الطلب. ومن المعلوم أن الدعاء والطلب سببٌ لنيل المطلوب المسؤول، فإن جاز أن يكون للمسؤول سببٌ غيرُ الدعاء في غير هذا الموضع فكذلك في هذا الموضع. وأيضًا فقوله "من عندك" ليس فيه ما يدل على اختصاصِه بالطلب ولا بالمطلوب، وتفسير اللفظ بما لا دليل عليه هو من جنس تفسير القرامطة الذين يُفسِّرون الألفاظ لما أرادوا، وأكثرُ أهلِ الإشاراتِ الذين يقعون في أشياءَ مثل قطعةِ كثيرةٍ من الحكايات المذكورة في "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي، والإشارات التي يعتمدها المشايخ العارفون، هي من جنس القياس والاعتبار. وهي كشَبَه غيرِ المنطق بالمنطق لكونه في معناه أوْ أولى بالحكم منه، كما يُفعل مثل ذلك في القياس الفقهي، كما إذا قيل في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) (1) إذا كان المصحفُ الذي كُتِب فيه طاهرًا لا يمسُّه إلاّ البدن الطاهر، فالمعاني التي هي باطنُ القرآن لا يمسُّها إلاّ القلوبُ المطهرة، وأما القلوب المنجسة لا تمسُّ حقائقَه، فهذا معنىً صحيح، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (2) . قال بعض السلف: أَمنَعُ قلوبَهم فهمَ القرآن. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أذنبَ العبدُ نكتَ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإن تابَ ونزعَ واستغفر صُقِلَ قلبُه، فإن زادَ زِيدَ فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الرانُ الذي قال الله تعالى فيه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى   (1) سورة الواقعة: 79. (2) سورة الأعراف: 146. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) (1) . فالذنوب تَرِيْنُ على القلوب حتى تَمنعها فهمَ القرآن، وإذا كان هذا المعنى صحيحًا فقياسُ طهارةِ القلب على طهارة البدن فيما يُشتَرط له الطهارةُ من مسِّ القرآن إشارةٌ حَسَنَة، فأما أن يُفسَّر (2) المرادُ للفظ بغير المراد وبما لا يدلُّ عليه اللفظ فهذا خطأ. وقد قال زكريا: (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)) (3) ، ولم تكن الذرية الطيبة مختصة به ولا بالأنبياء، بل الله يُخرِج الأنبياء من أصلاب الكفار إذا شاء، ولكن بمشيئته - والله أعلم - أنه إذا قال: "من عندك" و"من لدنك"، كان مطلوبًا فعلُ العبد، فإن ما يُعطيه الله للعبد على وجهين: منه ما يكون بسبب فعلِه، كالرزق الذي يَرزقه بكسبه، والسيئات التي تُغفَر له بالحسنات الماحية لها، والولد الذي يرزقه بالنكاح المعتاد، والعلم الذي يناله بالتعلم المعهود، والرحمة التي تصيبها بالأسباب التي يفعلها. ومنه ما يُعطيه للعبد ولا يُحوِجه إلى السبب الذي ينال به في غالب الأمر، كما أعطى زكريا الولدَ مع أن امرأته كانت عاقرًا، وكان قد بلغ من الكبر عِتِيًّا، فهذا الولد وهبه الله من لدنه لم يَهَبْه   (1) سورة المطففين: 14. والحديث سبق تخريجه. (2) في الأصل: "نفس"، وهو تحريف. (3) سورة آل عمران: 38. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 بالأسباب المعتادة، فإن العادة لا تحصل بهذا الولد، وكذلك العلم الذي علَّمه الخَضِرَ من لدنه لم يكن بالتعلم المعهود، وكذلك الرحمة الموهوبة، ولهذا قال: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)) (1) . وقوله: "مغفرة من عندك"، لم يقل فيه "من لدنك مغفرة" بل "من عندك"، ومن الناس من يُفرِّقُ بين "لدنك" و"عندك"، وهكذا قد يُفرَّق بين التقديم والتأخير، فإن لم يكن بينهما فرقٌ فقد يكون المراد: اغفر لي مغفرةً من عندك لا تَصِلُها بأسبابٍ، لا من عزائم المغفرةِ التي تغفر لصاحبها، كالحج والجهاد ونحوهما ما يُوجب المغفرةَ لصاحبه، بل اغفر لي مغفرة تَهَبُها لي وتَجُودُ بها عليَّ بلا عمل يقتضي تلك المغفرة. ومن المعلوم أن الله تعالى قد يَغفر الذنوبَ بالتوبة، وقد يغفرها بالحسنات الماحية، وقد يغفرها بالمصائب المكفرة، وقد يغفرها بمجرد استغفار العبد وسؤاله أن يغفر له، فهذه مغفرة من عنده. فهذا الوجه إذا فُسِّر به قوله: "من عندك" كان أحسنَ وأشبهَ مما ذكر من الاختصاص. وأما قوله: "والأشياء كلُّها من عندهِ"، فيقال: [إن] للأشياء وجهين: منها ما جُعِل سببًا من العبد يوفيه عليه، ومنها ما يفعله بدون ذلك السبب، بل إجابةً لسؤالِه وإحسانًا إليه. واستعمال لفظ "من عندك" في هذا المعنى هو المناسب، دون تخصيص بعض الناس دون بعض، فإن قوله "من عندك" دلالته على الأول أبين،   (1) سورة آل عمران: 8. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 ولهذا يقول الرجل لما يطلبه: "أعطنى من عندك" لما يطلبه منه بغير سبب، بخلاف ما يطلبه من الحقوق التي عليه كالدَّين والنفقة، فإنه لا يقال فيه "من عندك". والله تعالى وإن كان الخلقُ لا يُوجبون عليه شيئًا فهو قد كتبَ على نفسِه الرحمةَ، وحرَّم الظلمَ علىَ نفسه، وأوجبَ بوعدِه ما يجب لمن وعدَه إيَّاه، فهذا قد يَصير واجبًا بحكم إيجابِه ووعدِه، بخلاف ما لم يكن كذلك. فاستعمالُ لفظ "من عندك" في هذا هو شبيهٌ باستعماله فيما يَطلب من الناس من الإحسان ذو المعاوضات. وأيضًا فقوله "من عندك" يُراد به أن يكون مغفرةً تجود بها أنت عليَّ لا تُحوِجُني فيها إلى خلقِك، ولا يُحتاج إلى أحدٍ يَشْفَع فيَّ أو يَستغفر لي، واستعمال لفظة "من عندك" في مثل هذا معروف، كما في حديث توبة كعب بن مالك (1) لما جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له: "أَبْشِرْ بخيرِ يوم مرَّ عليكَ منذ وَلدتْك أمُّك"، فقلتُ: يا رسولَ الله! أمن عند الله أو من عندك؟ فقال: "بل من عند الله"، فأخبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تابَ عليه من عنده. وكلا الوجهين قول مريم عليها السلام (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)) (2) ، فلما كان الرزق لم يأتِ به بشرٌ ولم   (1) أخرجه البخاري (4418 ومواضع أخرى) ومسلم (2769) عن كعب بطوله. (2) سورة آل عمران: 37. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 يُسْعَ فيه السعيُ المعتاد قالت: "هو من عند الله". فهذه المعاني وما يناسبها هي التي يشهد لها استعمال هذا اللفظ. وإن قال قائل: كذلك كلامُ الحكيم الترمذي على مثل هذا، وإنه أراد بالتخصيص ما يناسب هذا، كان قولاً محتملاً، وقد قال عمرُ: احمِلْ كلامَ أخيك على أحسنِه حتى يأتيكَ ما يَغْلِبُك منه، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 مسألة في رجلٍ قال: إن نبيًّا من الأنبياء أكلَه القُمَّلُ، فاشتكى إلى الله، فأوحى الله إليه: لئن اختلجَ هذا في سِرِّك مرةً أخرى لأمْحُونَّكَ من ديوان الأنبياء. الجواب الحمد لله. لا يجوز لأحدٍ أن يقول مثلَ هذا القول من غيرِ بيانِ حالِه، فإن هذا ليس من المنقول الثابت، بل من النقول الباطلة، ولو كان من النقول الصحيحة لم يَجُزْ لأحدٍ من أمة محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتبعَ مثلَ هذه الحكاية ويَبِنيَ عليها طريقَه إلى الله تعالى. وذلك أن الحكايات الإسرائيليات (1) إن ثبتتْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو نُقِلتْ بالتواتر ونحو ذلك عُلِمَ صحتُها، وإذا صحَّتْ فما وافقَ الشريعةَ اتُبع، وما خالف منها شريعة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتَّبَعْ؛ فإن الله تعالى يقول: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) (2) . وفي النسائي (3) وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لو كان موسى   (1) في الأصل: "الإسرائيلات". (2) سورة المائدة: 48. (3) لم أجده عند النسائي، وقد أخرجه أحمد (3/338) والدارمي (441) من = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضلَلْتُم". وفي رواية (1) : "لو كان موسى حيًا ما وسعَه إلا اتباعي". وقد قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)) (2) . قال ابن عباس (3) : ما بعثَ الله نبيًّا إلا أخذَ عليه العهدَ والميثاقَ لئنْ بُعِثَ محمدٌ وهو حيٌّ ليؤمننَّ به ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذَ الميثاقَ على أمته لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء ليؤمنُنَّ به ولينصُرنَّه. وهذا كما يُعلَم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله بعث محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جميع أهل الأرض، عربِهم وعجمِهم، أمّيَهم وكتابيِّهم، إنسِهم وجِنِّهم. فلا يَقبل الله من أحدٍ عملاً يخالف شريعتَه وإن كان ذلك العملُ مشروعًا لبعض الأنبياء. فمن اتبعَ الشرعةَ والمنهاجَ الذي كان مشروعًا لموسى وعيسى ونُسِخ على لسانِ محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو كافرٌ باتفاق المسلمين، وإذا كان هذا فيما عُلِمَ أنه مشروعٌ للأنبياء، فكيف بما يُحكَى عنهم ولا يُعلَم صِحَّتُه؟ فلا يجوز لأحدٍ أن يثبتَ بالإسرائيلياتِ لا صحيحِها ولا ضعيفِها حكمًا يُخالِفُ شريعةً محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنقولاتُ من   = طريق مجالد عن الشعبي عن جابر، وحسَّنه الألباني في "إرواء الغليل" (1589) لشواهِده. (1) لأحمد (3/387) . (2) سورة آل عمران: 81. (3) أنظر: تفسير الطبري (3/237) ونحوه عن السدي في تفسير ابن أبي حاتم (2/694) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 الإسرائيليات تارةً يُعلَم صحتُها، وتارةً يُعلَم أنها كذبٌ، وتارةً لا يُدرَى. وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذا حدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذبوهم، فإمّا أن يحدِّثوكم بحقّ فتكذبوه، وإمّا أن يحدِّثوكم بباطلٍ فتصدِّقوه". إذا تبينَ هذا فنقول: أجمع المسلمون على أن المسلم يجوز له أن يشتكي إلى الله ما نزلَ من الضرِّ، والله سبحانَه في كتابه قد أمر بذلك، وذمَّ من لا يفعله، قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)) (2) ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)) (3) ، وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)) (4) . وفي الصحيح (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في دعائه: "اللهمَّ إني أعوذ بك من جَهْدِ البلاء، ودَرَكِ الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". وفي الصحيح (6) أيضًا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: "اللهمَّ إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّلِ عافيتك (7) ، وفجاءةِ   (1) أخرجه أحمد (4/136) وأبو داود (3644) عن أبي نملة الأنصاري، وله شاهد من حديث جابر أخرجه أحمد (3/387) . ولا يوجد بهذا السياق في الصحيحين. (2) سورة الأنعام: 42. (3) سورة المؤمنون: 76. (4) سورة الأعراف: 55. (5) البخاري (6347) ومسلم (2707) عن أبي هريرة. (6) مسلم (2739) عن ابن عمر. (7) في الأصل: "تحويل عاقبتك" تحريف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 نِقْمتِك، وجميعِ سَخَطِك". وفي الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان لا يَدعو دعاءً إلاَّ خَتَمه بقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)) . وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العباسَ وغيره أن يسأل العافيةَ في الدنيا والآخرة (2) ، وعلَّم رجلاً أن يَدعُوَ فيقول: "اللهمَّ اغفر في وارحمني واهدني وعافني وارزقني" (3) ، ومثل هذا كثير. والعبد إذا اشتكى إلى ربِّه ما نَزل به من الضِّرِّ وسألَه إزالتَه لم يكن مذمومًا على ذلك باتفاق المسلمين، و الشكوى إلى الله لا تُنافِي الصبر، بل الشكوى إلى الخلقِ قد تُنافِي الصبرَ، فإنَّ يعقوبَ عليه السلام قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (4) ، وقال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) . وكان عمر بن الخطاب يقرأ في الفجر بسورة هود ويوسف ونحو ذلك، فلما وصل إلى قوله: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) فسُمِعَ نَشِيْجُه من أواخر الصفوف. وهذا مما يدل على كَذِبَ الحكاية، فإن يعقوب عليه السلام اشتكى إلى الله ما أصابه بفراقِ ولدِه من البثّ والحُزْن، ولم يكن   (1) البخاري (4522،6389) ومسلم (2690) عن أنس. والآية من سورة البقرة: 201. (2) أخرجه أحمد (1/3،8،11) من طرق عن أبي بكر الصديق. (3) أخرجه مسلم (2697) عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه. (4) سورة يوسف: 83. (5) سورة يوسف: 86. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 مذمومًا بذلك، وكذلك أيوب عليه السلام قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)) قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)) (1) . وقد قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)) (2) . وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)) (3) . فهؤلاء الأنبياء قد اشتكَوا إلى الله، وأزالَ ما اشتكَوا منه من الضرِّ والغمِّ والحزنِ ونحوِ ذلك، فكيف يُمحَى [نبيٌّ من] الأنبياء إذا اشتكى من ضُرِّ القمل وغيره؟ أم كيف يمحوه من ديوان النبوة إذا اختلج ذلك في سِرِّه؟ وأكثر ما يُقال: إنّ العبد ينبغي له أن يَرضَى بالقضاء. لكن جواب هذا من وجوه: أحدها: أن الرضا ليس بواجب في أصح قولي العلماء بل يُستحبُّ، وإنما الواجبُ الصبرُ، والصبر لا يُنافي الشكوى. الثاني: أن الرضا لا يُنافي القضاءَ مطلقًا، بل يَرضَى في الحاضر، ويسأل الله في المستقبل أمرًا آخر، فإن الرضا إنما يكون   (1) سورة الأنبياء: 83-84. (2) سورة الأنبياء: 87-88. (3) سورة الشعراء: 75-76. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 بعد القضاء، والدعاءُ إنما يكون بطلب مستقبل أو دفعِه، فالرضا بما مضى لا يُنافي طلبَ زوالِ المستقبل. وقد يخاف العبد أنه لا يدومُ الرضا، فيسألُ اللهَ زوالَ الشدَّة التي يَخافُ معها زوالَ رضاه، فالداعي قد يكون راضيًا وغيرَ راضٍ، كما أن الراضيَ قد يكونُ داعيًا وغيرَ داع. الثالث: أن اختلاجَ المصيبةِ في السر لا يُنافي الرضا باتفاق العقلاء، ولا يدخل هذا في التكليف، فضلاً عن أن يكون ذنبًا، أو أن يستحق صاحبُه زوالَ نبوته. وبالجملة فهذه الحكايات المخالفة لشريعةِ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تخلو عن وجهين: إما أن تكون كذبًا، وإمّا أن تكونَ غيرَ مشروعةٍ لنا في دين الإسلام، فلا يحلُّ لأحدِ أن يحكيَها لمن يتبعُها، ولا أن يستحسنَ العملَ بها في ديننا، ولا يمدحَ على ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 مسألة في قوله تعالى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (1) ، هل "من" هاهنا للتبعيض؟ فيكون الحكم بالعداوة على البعض؛ أو تكون "من" زائدة؟ فيُحكَم على كلِّ واحدٍ ولدٍ وكل زوج بالعداوة. فإن قلتم: إنها للتبعيض فما حكمكُم على من يعتقد زيادتَها؟ ويزعم أنه يستدل على الحديث والقرآن بكلام العرب، وهل من دليلٍ على ذلك فيما ذكر من القرآن والحديث وكلام العرب؟ فبيِّنُوه، أم ليس الأمر كذلك؟ الجواب الحمد لله. بل "من" هُنا للتبعيض باتفاق الناس، والمعنى أن من الأزواج والأولاد عدوًّا، وليس المراد أنّ كل زوجٍ وولدٍ عدوٌّ (2) . فإنّ هذا ليس هو مدلولَ اللفظ، وهو باطل في نفسِه، فإن سبحانَه قد قال عن عباد الرحمن: إنهم يقولون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ   (1) سورة التغابن: 14. (2) في الأصل: "عدوا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (1) ، فسألوا اللهَ أن يَهَبَ لهم من أزواجهم وأولادِهم قرةَ أعين، فلو كان كل زوج وولدٍ عدوًّا (2) لم يكن فيهم قرةُ أعين، فإن العدوَّ لا يكون قرةَ عين بل سُخْنَةَ عين، وأيضًا فإنه من المعلوم أن مثلَ إسماعيل وإسحاق ابْنَي إبراهيم، ومثلَ يحيى بن زكريا وأمثالَهم ليسوا أعداءً. وقول من قال: إنها هنا زائدة، غلط لوجوه: أحدها: أن مذهب سيبويه وجمهور أئمة النحاة أنها لا تُزاد في الإثبات، وإنما تُزاد في النفي تحقيقًا لعموم النفي (3) كقوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) (4) ، وقوله (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (5) ونحو ذلك، فإنه لولا "من" لكان الكلام ظاهرًا في العموم، فإنه يجوز أن تقول: ما رأيتُ رجلاً بل رجلين، فإذا أدخلتَ "من" فقلتَ: ما رأيتُ من رجلٍ كان نصًّا في العموم، فلا يجوز أن يقال: ما رأيتُ من رجلٍ بل رجلين، مع أن النكرة في سياق النفي للعموم مطلقًا، لكن قد يكون نصًّا وقد يكون ظاهرًا، فإذا كانت ظاهرًا احتملت نفيَ الواحد من الجنس بخلاف النص، وهذا الموضعُ إثبات لا نفي، فلا تُزادُ فيه.   (1) سورة الفرقان: 74. (2) في الأصل: "عدو". (3) انظر "مغني اللبيب" (ص 358 وما بعدها) . (4) سورة المائدة: 73. (5) سورة هود: 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 الثاني: أنّ من جوَّز زيادتَها في الإثبات - كالأخفش - لا يُجوَّزه إلاّ إذا كان في الكلام ما يدلُّ عليه، وإلاّ فلو قال قائل: إن من هؤلاء القوم مسلمين، وأرادَ أنَّ جمعَهم مسلمون، لم يجزْ ذلك بالاتفاق. الثالث: أنه إذا قيل بزيادتها كان المعنى باطلاً. الرابع: الزيادة على خلاف الأصل، فلا يجوز ادّعاؤها بغير دليلٍ، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 مسألة فيمن استدل بتحويل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِداءَه في الاستسقاء، وجَعْلِ أعلاه أسفلَه، ورَفْعِ ظاهرِ كفيْه إلى السماء، وجَعْلِ باطنِها إلى الأرض= على أن الله ليس فوقَ السماوات على العرش بائن من الخلق، وأنه بذاتِه لا يختصُّ بجهةِ العُلُوّ، هل هو مصيبٌ في ذلك الاستدلال أم لا؟ وما معنى الحديث؟ وهل لقولِ طائفةٍ من الفقهاء إنه يُستحب لمن هو في شدةٍ أن يَرفعَ ظاهرَ كفَّيهِ إلى السماء دون باطنِها وجهٌ؟ ولو فُرِضَ أن الحديث يدل على ذلك ولو على بُعْدٍ، فهل مثلُ ذلك مع ما يزعمونه أدلةً عقلية دلَّتْ على استحالة ذلك يُعارِض ما ثبتَ بالكتاب والسنة من أن الله تعالى مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقِه فوقَ كل شيء وعالٍ على كل شيء أم لا؟ الجواب الحمد لله رب العالمين. استدلالُ المستدلِّ بهذا وإن سبقَه إلى نحو منه من المتجهمةِ المنتسبةِ إلى الحديث، فإنه يدلُّ على غايةِ الجهل بما فعله رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستسقاء، وغايةِ الجهلَ في الاستدلال بذلك على نفي علوِّ الله، إذْ ما فعلَه يدل على نقيضِ مطلوبِ هذا المستدلِّ الجاهل. ونحن نبيّن ذلك بالكلام على ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 فعلَه من تحويل الرداء، ومن رَفْعِ يديه في الاستسقاء. أما الفصل الأول - وهو تحويلُ الرداء - فما علمتُ أحدًا يستدلُّ به على نفي العلوِّ، ولا فيه شبهةٌ تَقتضي ذلك، وإنما المعروف عن بعضهم أنه يستدل برفع اليدين، فهذا هو الذي يَعترض به بعضُ الناس، فأما الرداء فلا، ولكن نتكلم على الفصلين. أما الأول فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل أعلاه أسفلَه كما قاله هذا المستدل، وإنما جَعلِ الأيمنَ على الأيسر والأيسَرَ على الأيمن، وقَلَبَه فجعلَ باطنَه ظاهرًا وظاهرَه باطنًا، كما جاء مفسَّرًا في الأحاديث المعروفة في الباب، فإن في الصحيحين (1) عن عبد الله بن زيد قال: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المصلَّى، فاستسقى، واستقبلَ القبلة، وقَلَبَ رداءه، وصلى ركعتين. وفي لفظ: استقبل القبلة، وحوَّل رداءه. فلفظُ الحديث جاء بلفظ القلب وبلفظ التحويل، ورواه البخاري من وجوهٍ بلفظ التحويل (2) ، وذكر عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال (3) : جعلَ اليمينَ على الشمال. ورواه أبو داود (4) من حديث عبد الله بن زيد أيضًا، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَستسقي، قال: فحوَّل رداءَه، وجعلَ عطافَه الأيمنَ   (1) البخاري (1012 ومواضع أخرى) ومسلم (894) . (2) بأرقام (1005،1012،1023،1024،1025،1028) ، وبلفظ القلب، في (1011،1026،1027،6343) . (3) برقم (1027) . (4) برقم (1163) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 على عاتقِه الأيسر، وجعلَ عطافَه الأيسرَ على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله عز وجل. ورواه مالك (1) وأحمد (2) أيضًا - واللفظ له - من حديث عبد الله ابن زيد قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين استسقى لنا أطالَ الدعاء وأكثر المسألةَ، قال: ثم تحوَّلَ إلى القبلة وحوَّلَ رِداءَه فقلبَه ظهرًا لبطنٍ. ورواه الدارقطني (3) أيضًا من حديث عبد الله بن زيد قال: خرج رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المصلَّى يستسقي، فاستقبلَ القبلةَ، فقَلَبَ رداءَه وصلَّى ركعتين. قال سفيان: جعلَ اليمينَ على الشمال والشمالَ على اليمين. ورواه أحمد (4) وأبو داود (5) أيضًا عنه قال: استسقى النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه خميصة سوداءُ، فأرادَ أن يأخذَ أسفلَها فيجعلَه أعلاها، فثَقُلتْ عليه، فَقَلَبَها الأيمنَ على الأيسر [والأيسرَ] على الأيمن. فهذا فيه أيضًا ما في سائر الأحاديث أنه قلبَ الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن، لكن فيه ذكر الراوي أنه همَّ بجَعْلِ أسفلها أعلاها، فهذا ليس فيه أنه فعلَ ذلك، وإنما فيه أن الراوي ظن أنه أراد فِعْلَه، والظن قد يُصيب وقد يُخطىء.   (1) الموطأ (1/190) . (2) 4/41. (3) 2/66. (4) 4/41. (5) برقم (1164) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 فهذه أحاديث عبد الله بن زيد، وحديثه أشهر حديثٍ في تحويل الرداء وفي صلاة الاستسقاء، وأصحُّ الأحاديث في ذلك، فيها تارةً متصلاً بالحديث وتارةً من تفسير الرواة أنه جعلَ الأيمنَ على الأيسر [والأيسرَ على الأيمن] ، وفيها تصريح بأنه لم يفعل الأعلى أسفل ولا الأسفلَ أعلى. وكذلك غيره من الحديث مثل حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد (1) وابن ماجه (2) ، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا يَستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبَنَا ودعا الله عز وجل، وحوَّلَ وجهَه نحو القبلةِ رافعًا يَدَيْه، ثم قلَبَ رداءَه، فجعلَ الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن. وكذلك رواه الدارقطني (3) من حديث ابن عباس قال: سنة الاستسقاء سنةُ الصلاة في العيدين، إلاّ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلَبَ رداءَه، فجعل يمينَه على يسارِه ويسارَه على يمينه، وذكر تمامَه. وفي إسناده مقال يَصلُح للاعتضاد (4) والاستشهاد. وتحويلُ الرداء في دعاء الاستسقاء سنةٌ عند فقهاء الحجاز وفقهاءِ الحديثِ كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قولُ صاحبَي أبي حنيفةَ   (1) 2/326. (2) برقم (1268) . (3) 2/66. (4) في الأصل: "للاقتصاد" تحريف. وفي إسناد الحديث محمد بن عبد العزيز، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 أبي يوسف ومحمد، كما أن الصلاة في الاستسقاء سنة عند هؤلاء، وأبو حنيفة لم يَبلُغْه لا الصلاةُ في الاستسقاء ولا تحويلُ الرداء في دعائه. وأما صفة التحويل فجعلُ الأيمنِ على الأيسر كما جاءت بذلك الأحاديث، عند جمهور العلماء كمالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور، وهو قول الشافعي إذْ كان بالعراق، وقال في الجديد: في الرداء المُرَاد كذلك، وفي المربع يُجعَلُ أعلاه أسفلَه، لما تقدَّم من هَمِّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحجة الجمهور أنه حوَّله من اليمين إلى اليسار، وأن الخلفاء الراشدين بعده فعلوا ذلك، كما فعلَه عثمان بحضرة الصحابة. وأما تلك الزيادةُ فلو كانت ثابتة لكانت ظنَّا من الراوي لا يتركُ لها ما ثبتَ مِنْ فعلِه المتيقنِ وفعلِ خلفائِه. وروى أبو بكر النجَّاد عن عروة بن أُذَيْنَةَ عن أبيه قال: رأيتُ عثمان يَستسقي بالمصلَّى، فرأيتُه صلى ركعتين جَهَرَ فيهما بالقراءة، ثم خطبَ الناس، ثم حوَّل وجهَه إلى القبلة، ورفع يديه، وحوَّل رداءه، جعلَ اليمينَ على اليسار واليسارَ على اليمين. فقد ظهر فسادُ استدلال الجهمي من وجوه: أحدها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل أسفلَه أعلاه، بل قلَبَه، وإن قيل (1) إنه همَّ بذلك.   (1) في الأصل: "فإن قيل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 الثاني: هَبْ أنه جعل أعلاه أسفله، أو أنّ ذلك هو المستحب - كما هو أحد قولَي الفقهاء - لكونه همَّ بذلك وتركَه للعُسْر، وأيُّ شيء في جعلِ أسفلِ الرداءِ أعلاه مما يدلّ على أن الله ليس هو العلي الأعلَى، وأنه ليس هو فوقَ العالم؟ أو أيُّ شيء في ذلك ما يُبطِل أدلةَ القائلين بذلك أو يُعارِضها؟ وهذا جواب عن هذا، وعن توجيهِ اليدين إلى الأرض إن قيل (1) : إنه فعل ذلك. وسنبيِّن حقيقةَ ما فعلَه، فإن غاية ما يُقدِّر المقدِّر أنه وجه وجهَه ويَدَيْه إلى الأرض وجعلَ أعلى ردائِه أسفلَه، فليس في بني آدم من يقول: إنه قصدَ بذلك أن الله في الأرض دون السماء، فإن هذا لا يقوله لا مؤمن ولا كافر، ولا مُثبِت ولا منافق، بل جميعُ الخلق متفقون على أنّ الأرض ليست مختصَّة به دون السماء، بل الجهمية تقول: لا فرقَ بين الأرض والسماء، ثم تارةً يقولون: إنه بذاته في الأرض والسماء كما يقوله الحلولية والاتحادية، منهم أكثرُ عُبَّادِهمٍ وعوامِّهم الذين يَدَّعون التحقيقَ والتوحيد من صوفيتهم. وتارة يقولون: بل ليس هو داخلَ العالم ولا خارجَه البتة، ولا فوقَ العرش، ولا في السماء ولا في الأرض، وهذا قول نُظَّارِهم ومتكلميهم. فإذا قُدِّرَ أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصدَ التوجهَ إلى الأرض دون السماء، لم يقل أحدٌ: إنَّ ذلك يدلّ على أن الله في الأرض دون السماء، بل غايةُ ما يقال: يَبْطُل استدلالُ من يَستدِلُّ برفع اليدين أنه فوق   (1) في الأصل: "أي قيل" تحريف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 العالم. وسنتكلم على ذلك ونبيِّن أنه لا يَبطُل هذه الدلالة، وبتقدير أن يَبْطُل هذا الدليلُ المعيَّن لا يَبْطُلُ المدلولُ عليه، فنَفْرِضُ أن رفعَ اليدين لا يدل على هذه المسألة، فأدلتها السمعية والعقلية أكثر من أن تُسَطَّر هنا، وفي القرآن نحو ثلاثمائة موضع يدل على ذلك، والأحاديث والآثار في ذلك أشهرُ وأظهرُ من أن تُذكرَ هنا مع الأدلة العقلية، كما قد بسط في غير هذا الموضع (1) . ثم يُقال: هَبْ أنه يَبْطُل الاستدلالُ برفع اليدين، فأي شيء أدخلَ تحويلَ الرداءِ في ذلك؟ فإنّا ما علمنا أحدًا استدلَّ بتحويل الرداءِ على أن الله فوقُ حتى تَبطُلَ دلالتُه، فعُلِمَ أن إدخال هذا في هذه المسألة جهالةٌ واضحة، وإنما يُعرَف عن طائفة من المتجهمةِ المنتسبين إلى الحديث أنهم يذكرون رفعَ اليدين، وأما تحويل الرداء فما علمتُ لذكره وجهًا. الوجه الثالث: أن يقال: ما ذكره المستدلُّ إن كان فيه حجة فهي عليه لا له، وذلك أنّ عَائبَنا يقولْ إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل أعلى ردائه أسفلَه، أو أنّ ذلك هو المستحب، فيقال له: إن لم يكن في هذا التحويل دليلٌ على مسألة العلوّ بنفي ولا إثباتٍ فلا حجة لك فيه، وإن كانت فيه حجةٌ فثبتَ بحجةٍ على أن الله في العلو، لأنه جعل أسفلَه أعلاه، فيكون قد قصدَ توجيهَ ردائِه إلى ما فوق كما وَجَّهَ قَلْبَه، كما سنذكره إن شاء الله، وهذا مناسب، وهو لا يُمكِنُه   (1) انظر مجموع الفتاوى (5/12،15،54-58،164-178،226-227) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 أن يقول: توجيهُه إلى أسفلَ لأن الله في العلوّ، والمثبتُ يمكنُه أن يقول: وَجهَه إلى فوق لكون اللهِ تعالى في العلو، فإن كان فيه حجة فهو للمُثْبِت لا للنافي. ولكن الصواب أنه ليس فيه حجة لا على هذا ولا على هذا، لأن المقصود بذلك تحويلُ السنَةِ من الجَدْب إلى الخِصْب، كما رواة الدارقطني (1) عن جعفر بن محمد عن أبيهَ عليهم السلام قال: استسقى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحوَّل رداءَه ليتحوَّل القحطُ. فصل وأما رفع اليدين في الاستسقاء فالأصل فيما ذُكِرَ في السؤال حديثُ أنس بن مالك، وقد أخرجاه في الصحيحين (2) عن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يَرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء، فإنه كان يرفع حتى يُرَى بياضُ إِبْطَيْه. لفظ البخاري. وله (3) عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حتى رأيتُ بياضَ إبْطَيه. ولفظ مسلم (4) : "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء   (1) 2/66. (2) البخاري (1031) ومسلم (896) . (3) البخاري (1030) . (4) برقم (896) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 حتى يُرَى بياضُ إبْطَيه". ولمسلم (1) أيضًا عن أنس بن مالك قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في الدعاء حتى يُرى بياضُ إبطيه. وفي لفظٍ لمسلم (2) : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى فأشار بظهرِ كفيه إلى السماء. وفي لفظ لأبي داود (3) عنه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستسقي هكذا، ومدَّ يَدَيْه وجعلَ بطونَهما مما يلي الأرضَ حتى رأيتُ بياضَ إبْطَيه. وفي لفظٍ لأبي داود (4) : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حذاءَ وجهِه، أعني في الاستسقاء. وعن عمير مولى آبي اللحم أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَستسقي عند أحجار البيت (5) قريبًا من الزَّوراء قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبَلَ وجهِه لا يُجاوِز بهما رأسَه. رواه أبو داود (6) والنسائي (7) . وروى الأوزاعي عن سليمان بن موسى قال: لم يُحفظْ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رفع يديه الرفعَ كلَّه إلاّ في ثلاثةِ مواطنَ: في الاستسقاء، والاستنصار، وعشيَّةَ عرفةَ، ثم كان بعدها رفعًا دون رفع فيها. رواه أبو داود في "المراسيل" (8) .   (1) برقم (895) . (2) برقم (896) . (3) برقم (1171) . (4) برقم (1175) . (5) في هامش الأصل: "صوابه الزيت، لأن الزوراء في المدينة، والبيت بمكة، فلا يَحسُن ذكر البيت هنا". وهو كما قال المعلّق، فالرواية "الزيت". (6) برقم (1168) . ورواه أيضًا أحمد (5/223) . (7) 3/158. (8) برقم (148) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 وعن ابن عباس قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو بعرفةَ بالموقفِ ويَدَاه إلى صدرِه كما يستطعم المسكين. وعن ابن عباس قال: المسألة أن تَرفع يديك حذوَ منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمدَّ يديك جميعها (1) . وفي لفظ (2) : والابتهال هكذا، ورفع يديه وجعل ظهورهما ممّا يَلي وجهَه. [و] رواه أبو داود من طريق آخر (3) عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر نحوه. إذا تبين هذا فنقول: الكلام على حديث أنس في موضعين: أحدهما: قوله "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء". والثاني: ما رُوِي في بعض ألفاظ مسلم "فأشار بظهر كفَّيه إلى السماء". فإن مِن الناس من غَلِط في كلا الموضعين، فظنَّ بعضُهم أن اليد لا تُرفع في الدعاء إلا في الاستسقاء، حتى تركوا رفعَ اليدين في سائر الأدعية، ومنهم من فرق بين دعاء الرغبة ودعاء الرهبة، فقال في دعاء الرغبة: يُجعَل باطنُ كفيه إلى السماء وظاهرهما إلى الأرض، وقال في دعاء الرهبة بالعكس، يجعل ظاهرهما إلى   (1) أخرجه أبو داود (1489) عنه مرفوعًا. (2) عند أبي داود (1490) . (3) برقم (1491) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 السماء وباطنهما إلى الأرض، وقالوا: إن الراغبَ كالمستطعم، والراهب كالمستجير المستعيذ الدافع. ونحن نتكلم في بيان السنة في صفة الرفع، ثم نبين أنه على كل تقدير لا حجة فيه للجهمية نفاة العلوّ. أما رفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء فقد تواتر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في صحيح البخاري (1) وغيره عن أبي هريرة قال: قدم الطُفيل بن عمرو الدَّوسي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله! إن دَوْسًا قد عَصَتْ وأبتْ فادعُ عليهم، فاستقبل القبلةَ ورفع، وقال: "اللهمَّ اهْدِ دَوسًا وأْتِ بهم". وفي الصحيحين (2) أيضًا عن أبي موسى قال: أُصيب أبو عامر رضي الله عنه في ركبته في غزوة أوطاس، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَّره فيها، فقال لي: اقرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلامَ وقُلْ له: استغْفِرْ لي واستخلِفْني علىَ الناس، وسكت يسيرًا ثم مات. فلما رجعتُ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبرتُه خبرَ أبي عامر وسؤالَه أن يستغفر له، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماءٍ فتوضَّأ، ثم رفع يديه وقال: "اللهمَّ اغفِرْ لعُبَيْدِك أبي عامر". وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عمر قال: بحث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خالدَ بن الوليد إلى بني جَذِيْمةَ، فدعاهم إلى الإسلام، فلم   (1) بأرقام (2937، 4392،6397) . وأخرجه أيضًا مسلم (2524) . (2) البخاري (4323 ومواضع أخرى) ومسلم (2498) . (3) برقمي (4339،7189) . وأخرجه أيضًا أحمد (2/150) والنسائي (8/ 236) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 يُحسِنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صَبَأْنا صَبَأْنا، فجعل خالدٌ يقتل ويأسِرُ، ودفعَ إلى كل رجل منا أسيرَه، حتى إذا كان يوم أمرَ خالدٌ أن يَقتل كلُّ رجل منا أسيرَه، فقلت: والله إني لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيرَه، حتى قَدِمْنَا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكرنا له، فرفع يديه فقال: "اللهمَّ إني أبرأ إليك ممَّا فعلَ خالد"، مرتين. وفي صحيح مسلم (1) عن عائشة قالت: ألا أحدِّثكم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي انقلبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعَ نعليه عند رجليه، وذكرتِ الحديثَ الطويلَ في دعائه لأهل البقيع، فرفع يديه ثلاثَ مرات وأطال القيامَ، ثم انحرف وانحرفتُ، وذكرتِ الحديثَ. وفي صحيح مسلم (2) أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلا قولَ الله عز وجل في إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)) (3) ، وقال عيسى عليه السلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)) (4) ، فرفع يديه فقال: "اللهمَّ أمتي أمتي"، قال الله: يا جبريلُ اذهبْ إلى محمد - وربك أعلم - فسَلْهُ ما يُبكيك؟ فأتاه   (1) برقم (974) . (2) برقم (202) . (3) سورة إبراهيم: 36. (4) سورة المائدة: 118. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 جبريل، فسأله، فأخبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الله: يا جبريل! اذهبْ إلى محمد فقل له: إنّا سنُرضِيك في أمتِك ولا نَسُوْءُك فيهم. وفي صحيح مسلم (1) عن عمر بن الخطاب قال: نظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابُه ثلاثمائة وبضعةَ عشرَ رجلاً، فاستقبل القبلةَ ثم مدَّ يديه وجعل يَهتِف برئه: "اللهمَّ وأَنْجزْ لي ما وعدتَني، اللهمَّ آتني ما وعدتَني، اللهمَّ إن تُهلِكْ هذه العصابَة من أهل الإسلام لا تُعْبَدْ في الأرض"، فما زال يَهتِف بربه مادًّا يديه مستقبلَ القبلة حتى سقطَ رداؤُه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءَه، فألقاه على منكبيه، والتزمَه من ورائه، وقال يا نبيَّ الله! كذاك (2) مُنا شَدَتُك ربَّك، فإنه سيُنْجزُ لك ما وعدك، فأنزلَ الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)) (3) ، فأمدَّهم الله بالملائكة. وفي سنن أبي داود (4) وغيره عن قيس بن سعد من حديث زيارة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال فيه: فرفع رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وهو يقول: "اللهمَّ اجْعَل صلَواتِك ورحمتك على آلِ سَعدِ بن عبادة".   (1) برقم (1763) . (2) هكذا وقع لجماهير رواة مسلم "كذاك" بالذال، ولبعضهم "كفاك" بالفاء. انظر "إكمال المعلم" (6/94) وشرح النووي (12/85) . (3) سورة الأنفال: 9. (4) برقم (5185) . وأخرجه أيضَا أحمد (3/421) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (325) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكَّة نُريد المدينةَ، فلما قدمنا من عَزْوَرَا نَزَل، ثمِ رفع يديه فدعا ساعة، ثم خرَّ ساجدا، قال: "إني سألتُ ربّي وشفَعْتُ لأمتي، فأعطاني ثُلُثَ أمتي، فخَررتُ ساجدًا شكرًا لربي"، وذكر تمام الحديث. وعن أم عطية قالت: بَعَثَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشًا فيهم عليٌّ، قالت: فسمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو رافع يديه يقول: "اللهمَّ لا تُمِتْنِيْ حتى تُرِيَني عليًّا". أخرجه الترمذي (2) . و [في] حديث أسامة بن زيد (3) قال: كنتُ رِدْفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرفع يَدَيه يدعو، فمالتْ به ناقتُه فسَقَطَ خِطامُها، فتناولَ الخِطامَ بإحدى يَدَيْه وهو رافع يدَه الأخرى. وقد ذكر فيمن روي عنه رواية رفع اليدين في غير الاستسقاء: أنس أيضا في حديث القنوت، قال أنس: لقد رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما صلَّى الغَداةَ رفع يدَيْه يدعو عليهم. رواه البيهقي (4) .   (1) برقم (2775) . قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (1496) : إسناده ضعيف، فيه يحيى بن الحسن بن عثمان، وهو مجهول كما في "التقريب". (2) برقم (3737) . وقال: حديث حسن غريب. قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (6090) : سنده ضعيف. (3) أخرجه أحمد (5/209) والنسائي (5/254) وابن خزيمة (2824) . وإسناده صحيح. (4) في السنن الكبرى (2/211) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 فصل إذا تبيَّن هذا فنقول : الجمعُ بين حديثِ أنسٍ وهذه الأحاديث من وجهين: أحدهما: ما قاله طوائفُ من العلماء في الجمع بين حديث أنس وغيره، وهو أنَّ أنسًا ذكرَ الرفع الشديدَ الذي يُرَى فيه بياضُ إبطيه وينحّي فيه يديه، وهذا هو الذي سماه ابن عباس الابتهالَ، وجعل المراتب ثلاثةً: الإشارة بإصبع واحدة، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشير بإصبعه في التشهد [و] على المنبر يوم الجمعة بإصبَعِه، والحديثُ متعدِّدٌ مشهور. وفي سنن أبي داود (1) عن سعد قال: مرَّ علىَّ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أدعو بإصبعَيَّ، فقال: "أَحِّدْ أَحِّدْ"، وأشار بالسبابة. والثانية: المسألة، وهو أن تجعَل يديك حَذْوَ منكبيك، كما في أكثر الأحاديث. والثالث: الابتهال، وهو أن تمدَّ يديك جميعًا، وفي لفظ: والابتهال هكذا، ورفعَ يديه وجعلَ ظهورهما مما يلي وجهه. فهذا الابتهال هو الذي ذكره أنس في الاستسقاء، ولهذا قال: كان يرفع حتى يُرى بياضُ إبْطيه، وإنما يُرَى بياضُ الإبطَيْن بالرفع   (1) برقم (1499) . وأخرجه أيضًا النسائي (3/38) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 الشديد، وهذا الرفع إذا اشتدَّ كان بطون يديه مما يلي وجهَه والأرض، وظهورُهما مما يلي السماء، وكذلك جاء مفسرًا: "رفعَ يديه حذاءَ وجهِه"، وفي لفظ: "جعلَ بطونَهما مما يلي الأرض". ولو كان المرادُ به كما يظنُّه بعضُ الغالطين حيث يجعل يديه حذوَ منكبيه ويجعل ظهورهما مما يلي الوجه والأرض، وتارة يكون الظهور مما يلي السماء، يُؤيِّد ذلك ما رواه أبو داود (1) عن أنس بن مالك نفسه قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو هكذا بباطن كفَّيه وظاهرِهما. وقد يكون أنس أراد بالرفع على المنبر يومَ الجمعة كما في صحيح مسلم (2) والسنن (3) عن حصين بن عبد الرحمن قال: رأى عُمارةُ بن رُؤَيْبَة بشرَ بن مروان وهو يدعو في يوم الجمعة، فقال عمارة: قَبَّح الله هاتين اليدين، لقد رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر ما يزيد على هذه بإصبعه المسبِّحة. وفي مسند أحمد (4) عن غُضَيف بن الحارث الثُّماليّ قال بعثَ إليَّ عبدُ الملك بن مروان أنَّا قد جمعنا الناسَ على أمرين: برفع الأيدي على المنابر يومَ الجمعة، والقَصَص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنّهما أَمثلُ بدعتِكم عندي ولَسْتُ مُجِيْبَكَ إلى شيءٍ   (1) برقم (1487) . (2) برقم (874) . (3) أبو داود (1104) والترمذي (515) والنسائي (3/108) . (4) 4/105. قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (187) : سنده ضعيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 منهما، قال: لِمَ؟ قال: لأنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما أحدثَ قوم بدعةً إلاّ رُفِعَ مثلها من السُّنَّة () . فتَمَسُّك بسنّةٍ خير من إحداثِ بدعةٍ. وعلى هذا يُحمَل الحديثُ الذي في سنن أبي داود (1) عن سهل بن سعدٍ قال: ما رأيتُ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهِرًا يَدَيه يدعو على منبرٍ ولا غيرِه، لكن رأيتُه يقول هكذا، وأشار بالسبابة وعَقَدَ الوسطى بالإبهام، وقد قيل: في إسناد هذا مقال (2) ، مع أنه ليس فيه إلا نفي الرؤية. وهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما وجهانِ في مذهب أحمد في رفع الخطيب يديه، فقيل: يُستَحبّ لعموم الأخبار الواردة في رفع الأيدي، وهذا قول ابن عقيل، وقيل: لا يستحبُّ بل يُكْرَه، وهذا أصحُّ، قال إسحاق بن راهويه: ذلك بدعة للخاطب، إنما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشير بإصبعه إذا دعا، لما تقدم من الآثار. وأمّا في الاستسقاء لما استسقَى على المنبر رفعَ يديه، كما رواه البخاري في صحيحه (3) عن أنس، قال: أتى أعرابيٌّ من أهل البدو إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ الجمعة، فقال: يا رسول الله! هلكتِ الماشيةُ وهلكَ العِيالُ وهلك الناسُ، فرفعَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْه يدعو، ورَفَعَ الناس أيديَهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مُطِرْنا.   (1) برقم (1105) . وأخرجه أيضا أحمد (5/337) وابن خزيمة (1450) . (2) قال الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة (1450) : إسناده فيه ضعف، أبو الحويرث قال الحافظ: صدوق سيىء الحفظ. (3) برقم (1029 ومواضع أخرى) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 فقد أخبر أنسٌ في هذا الحديث الصحيح أنه [لما] استسقَى بهم يومَ الجمعة على المنبر رفعَ يديه ورفعَ الناس أيديهم، وقد ثبت أنه لم يكن يرفع على المنبر في غير الاستسقاء، فيكون أنس رضي الله عنه أراد هذا المعنى، لا سيَّما وبعض بني أمية كانوا قد أحدثوا رَفْعَ الأيدي يومَ الجمعة، كما تقدم من حديث عبد الملك وبشر بن مروان، وإنكار عمارة بن رُؤَيْبَة وغُضَيْف بن الحارث عليهما مخالفةَ السنة، وأنسٌ أدرك هذا العصرَ فيكون هو أيضًا أخبر بالسنة التي أخبر بها غيرُه من أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يرفع يديه - أي على المنبر - إلاّ في الاستسقاء. وهذا الوجه يُوافق الذي قبلَه، ويُبين أن الاستسقاء مخصوصٌ بمزيدِ الرفع، وهو الابتهال الذي ذكره ابن عباس، فالأحاديث تَأتلفُ ولا تختلف. وأما الموضع الثاني فنَقُول : من ظنَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرفع المعتدل جعلَ ظهرَ كفَّيْه إلى السماء فقد أخطأ، وكذلك من ظنَ أنه قصدَ توجيهَ ظهرِ يَدَيْه إلى السماء في شيء من الدعاء، فليس في شيءٍ من الحديث ما يدلُّ على أنه قصدَ جَعْلَ كفيْه دُونَ بَطْنِهما إلى السماء، ولا على أنه في الرفع المعتدل أشار بظهرهما إلى السماء، بل الأحاديثُ المشهورة عنه تُبين أنّ سُنَّتَهُ إنما هي قصد توجيه بطن اليد إلى السماء دون ظهرها إذا قصد أحدهما. ففي سنن أبي داود (1) من حديث مالك بن يسار السَّكُوني ثم   (1) برقم (1486) . وصححه الألباني في "الصحيحة" (595) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 العَوْفي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا سألتم الله فَاسْألوه ببطونِ أَكُفكم، ولا تَسْألوه بظُهورِها". ورَوَى أيضًا (1) من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من نَظَر في كتاب أخيه بغير إذنِه فإنما ينظر في النار. سَلُوا اللهَ ببطون أكفكم، ولا تَسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم". قال أبو داود: رُوِيَ هذا الحديث من غير وجهٍ عن محمد بن كعبٍ كلُّها واهية، وهذا الطريقُ أمثلُها وهو ضعيف أيضًا. وفي سنن أبي داود (2) وغيره عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن ربكم حَيِيٌّ كريمٌ يَستحي من عبدِه إذا رفعَ يديه إليه أن يردَّهما صَفْرَاوَيْن". وفي سنن أبي داود (3) عن السائب بن يزيد عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهَه بيديه. وقد تقدم في حديث الاستسقاء من حديث عميرٍ مولى آبي اللحم أنه رأى رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أحجار البيت (4) قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبَلَ وجهِه. لكن هذا الرفع دون الرفع الذي أخبر به أنس، وذاك كان في موطن آخر، فإن ذاك الرفع جاوزَ بهما رأسَه.   (1) أبو داود برقم (1485) . (2) برقم (1488) . وأخرجه أيضًا الترمذي (3551) وابن ماجه (3865) . وصححه ابن حبان (2399-موارد) والحاكم (1/497) . (3) برقم (1492) . وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف، يروي عن حفص بن هاشم، وهو مجهول كما قال الحافظ في "التقريب". (4) في هامش الأصل: صوابه "الزيت"، وهو موضع في طيبة، وقد تقدم ذكره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 وبالجملة فهذا الرفع الذي استفاضتْ به الأحاديث، وهو الذي عليه الأئمة في دعاء الصلاة، وعليه عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى هذا التاريخ. وأما حديث أنس فقد تقدم أنه لشدة الرفع انحنَتْ يدُه، فصار كفُّه مما يلي السماءَ لشدة الرفع، لا قصدًا لذلك، كما جاء أنه رفعَها حذَاءَ وجهه. وتقدم حديث أنس نفسه أنه رأى رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو بباطنِ كفَّيه وظاهرِهما، وتقدم حديث ابن عباس: الابتهالُ هكذا، ورفعَ يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهَه. فهذه ثلاثة أنواع في هذا الرفعِ الشديد رفع الابتهال، تارةً يذكر فيه أنَّ بطونَهما مما يلي وجهَه وهذا أشد، وتارةً يذكر هذا وهذا، فتبين بذلك أنه لم يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظَهْرَ اليد ولا بَطْنَها، لأن الرفع يرتفع وتَبقَى أصابعُها نحوَ السماء مع نوع من الانحناءِ الذي يكون فيه هذا تارةً وهذا تارةً. وأما إذا قصد توجيهَ بطن اليد أو ظهرها فإنما كان توجه بطنها، وهذا في الرفع المتوسط الذي هو رفعُ المسألة. فبهذا تآلَفُ الأحاديث ويَظهر السنةُ وتبيَّنُ المعاني المتناسبة. إذا تبين هذا فنقول: الجواب عن احتجاج الجهمي من وجوه: أحدها: أن يقال: لا نُسلِّم أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصدَ توجيه ظهرِ الكفِّ دونَ بطنِه إلى السماء في شيءٍ من الدعاء، وقد تقدم بيان معنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 حديث أنس وأنه لشدة الرفع انحنَتْ يدُه. الوجه الثاني: أن يقال: لو جاء حديث واحد صحيح صريح بأنه قصدَ رفعَ ظهرِ كفَّيْه إلى السماء لكانت الأحاديث التي هي أكثر منه وأشهر مُعارضةً له في ذلك، فإن أمكنَ الجمعُ بينهما وإلاَّ كان الأكثر الأشهر أولَى بالتقديم عند التعارض. الوجه الثالث: أن يقال: هَبْ أنه قصدَ رَفْعَ كفيه إلى السماء وتوجيهَ باطنِ يديه إلى الأرض، فهذا لا يدلُّ على نفي علوّ الله سبحانَه وتعالى، فإن الناس كلهم متفقون على أن الله ليس في الأرض دون السماء، فلا يجوز أن يقال: قَصَدَ توجيهَ بطنِ يدِه إلى الله، ولم يقل هذا أحدٌ من الخلائق. الوجه الرابع: أن يقال: غايةُ ما في هذا أنه لم يَقصِدْ رفعَ يده إلى السماء، ولا ريبَ أن رفع اليدين إلى السماء في الدعاء ليس واجبًا، فغاية هذا أن يقال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرفع يديه إلى السماء في الدعاء، وهذا لا يدل على أن الله ليس في العلوّ. الوجه الخامس: أن هذا غاية ما فيه أنه يبطُل استدلالُ من يَستدِلُّ برفع اليد على أن الله في العلو، فيقول المعارض: رفع اليد إلى السماء لا يدلُّ على أنه رفعَها إلى الله، كما أن جعلَ الكفِّ إلى السماء لا يدل على أنَّ بطن اليد إلى الله، فغاية ما يقول المعترض أن رفع اليد لا يَبقى فيه دلالة على العلوّ، ومعلومٌ أن انتفاءَ الدليل المعيَّن لا يَنفي الحكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 الوجه السادس: أنه لا يَتوهَّمُ عاقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصد بذلك تعريفَ أمتِه أنَّ الله ليس في العلو، فإن هذا الفعل ليس ظاهرًا في هذا المقصود، ولهذا لم يستدل أحدٌ من الجهميَّة بذلك. والله قد أمرَ نبيَّه بالبلاغ المبين، فكيف يَتْرُك البيانَ الذي جُعِلَ عليه إلى ما لا بيانَ فيه؟ كيف والقرآن والأحاديث مملوءٌ من البيانِ الدالِّ على أن الله في العلو؟ فكيفَ يجوز أن يُقال: إنه قصدَ أن يُعرِّفَهم نفيَ العلوِّ بمثل هذا العلو الذي لا يدلُّ؟ ولا يقالُ: إنه قَصدَ تعريفهم العلوِّ بتلك الدلالات البينة الواضحة الكثيرة المتواترة؟ هذا مما يُعلَم بالاضطرار أنه من نسبَ الرسولَ إليه فهو من أكذَب الخلقِ عليه، وهو في هذا المقام من حبالة أهل السفسطة وَالقرمطة المُبطِلين للعقليات والسمعيات. الوجه السابع: أن يقال: لا ريبَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدعاء تارةً كان يُشير بإصبعه، كما ثبت مثل ذلك في الصلاة والخطبة، وأنه كان يدعو بباطن يَدَيه كما جاء في أحاديث متعددة، وقد كان يدعو أحيانًا بلا إشارة ولا رفعٍ، فيقالُ: إذا كان بعض هذه الأفعال دالاًّ على عُلوِّ الله تعالى وقد فعلَه بعضَ الأوقات حصلَ المقصود، وليس تركُ الدلالة في بعض الأوقاتِ نافيًا للمدلول بوجود الرفع دليل العلوّ، وعدمُه لا ينافيه، فلا يَضرُّ إذا كان في بعض الأدعية لم يرفع بطن يديه إلى السماء، إذ قد عُلِمَ أنه لم يَقصِد هنالك توجيهَ بطن يديه إلى غير الله. الوجه الثامن: أنه قد جاء مُصَرَّحًا بأن الإشارة والرفع إلى الله تعالى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 كما تقدم من حديث سلمان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ ربكم حَيِيٌّ كريم يَستحي من عبده إذا رفعَ يديه إليه أن يَرُدَّهما صَفْرَاوين". وفي صحيح مسلم (1) عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جلس في الصلاة وضعَ يَدَيه على ركبتيه، ورفعَ إصبعَه اليمنى التي تَلِي الإبهامَ فدَعا بها، ويدَه اليسرى على ركبتيه باسطَها. وفي لفظٍ (2) : كان إذا قعدَ في التشهد وضعَ يده اليسرى على ركبته [اليسرى] ، ووضعَ يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعَقَدَ ثلاثًا وخمسين، وأشار بالسبَّابة. وفي لفظٍ (3) : كان إذا جلس في الصلاة وضعَ كفَّه اليمنى على فخذِه اليمنى، فقبض أصابعَه كلَّها، وأشارَ بإصبعِه التي تَلِي الإبهامَ، ووضعَ كفه اليسرى على فخذِه اليسرى. وكذلك في صحيح مسلم (4) حديث عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعدَ يدعو وضعَ يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى [على فخذِه اليسرى] ، وأشار بإصبعِه السبَّابة، ووضعَ إبهامَه على إصبعِه الوسطى، ويُلْقِم كَفه اليسرى ركبتَه. وفي صحيح مسلم (5) وغيره من حديث جابر الطويل في صفة   (1) برقم (580) . (2) عند مسلم أيضًا. (3) عند مسلم في الموضع السابق. (4) برقم (579) . (5) برقم (1218) . وقد جمع الألباني طرقَه في جزء بعنوان "حجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواها عنه جابر،، فليراجَع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 حجة الوداع - وهو أتمُّ حديثٍ جاء في صفة حجَّتِه - قال: حتى إذا زاغت الشمسُ أمرَ بالقَصوَاءِ فرحلتْ له، فأتى بطنَ الوادي، فخطبَ الناس فقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألاَ كلُّ شيء من أمرِ الجاهلية تحتَ قدميَّ موضوع، ودماءُ الجاهلية موضوعة، وإن أولَ دمٍ أَضَعُ من دمائنا دمُ ابنِ ربيعةَ بن الحارث، كان مُسترضعًا في بني سعد فصَلَبَه هُذيل، وربا الجاهليةِ موضوع، وإن أول رِبًا أضعُه رِبَانَا رِبَا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلُّه. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنَ بأمانة الله، واستحللتُم فروجَهن بكلمة الله، ولكم عليهنّ ألا يوطئنَ فُرُشَكُم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضْرِبُوهن ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن عليكم رزقُهن وكسوتُهن بالمعروف، وقد تركتُ فيكم ما لم تَضِلُّوا بعدَه إن اعتصمتُم به كتابَ الله. وأنتم تُسْأَلون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فقالَ بأصبعِه السبَّابة يرفعها إلى السماء، ويَنْكُتُها إلى الناس: اللهمَّ اشْهَدْ، اللهمَّ اشْهَدْ، ثلاث مرات. ثم أذّن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقامَ فصلى العصر. فهو هنا يدعو ربَّه ويُناجيه، مشيرًا بإصبعه إلى السماء، ثم ينكتها إليهم يقول: اللهمَّ اشهَدْ أنّيْ على ما قالوا. ومن رأى هذا الفعلَ منه وسمعَ هذا الكلامَ منه على هذا الوجه عَلِمَ ضرورةً أنه أشار بإصبعه إلى الله أن يَشهدَ على أمتِه بإقرارهم بالبلاغ. ولو كان يُكابِرُ وقال: هذا لا يدل، فلا يُنازع في أنه ظاهر في ذلك، ولو نازعَ في الظهورِ لم يُنازع في أن دلالة هذا وأمثالِه على علو الله أبينُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 من دلالة تركِ رفع اليدين أو تركِ رَفْع بطونهما على عدم علوِّه، فإن ذلك لا يدلُّ بوجهٍ من الوجوه، فمن تركَ هذه الدلالاتِ المحكماتِ وتمسكَ بالمتشابهات كان من الذين في قلوبهم زيغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 مسألة في رجالٍ يَتْرُكون الصلواتِ الخمسَ تهاونًا، ويُدْعَون في كل وقتٍ إلى فعلها فلا يُجيبُون، فماذا يَجب عليهم؟ وهل إذا سلَّموا على أحدٍ أن يَرُدَّ عليهمَ السلامَ؟ وهل يُهْجَروا في الله؟ وفيهم رجلٌ قال: صليتُ بلا وضوء، وقال أيضًا: ما كتبَ الله عليَّ صلاةً، فماذا يجب عليه؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إذا لم يكونوا مُقِرِّين بوجوبِها عليهم فهم كفارٌ مرتدون (1) بإجماع المسلمين، يَجب قتلُهم كلهم إذا لم يَتُوبوا. والذي قال: ما كتبَ الله عليَّ صلاةً، فإن هذا كافر باتفاق المسلمين يجب قتله إذا لم يَتُبْ. وإذا أقَرُّوا بالوجوب وامتنعوا من الفعل فإنه يجب عند جماهير أئمة المسلمين أن يُستتابوا أيضًا، فإن لم يتوبوا ويُقيموا الصلاةَ المفروضةَ عليهم فإنه يجب قتلُهم أيضًا. وهل يُقْتَلوا (2) كفرًا أو فسقًا؟ على قولين مشهورين للعلماء، أحدهما: أنهم يُقتَلون كفرًا، وهو قول أكثرِ السلف وقول طائفة من   (1) في الأصل: "مرتدين" منصوبًا. (2) كذا في الأصل بحذف النون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 أصحاب مالك والشافعي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختاره أكثر أصحابه، كما قال النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس بينَ العبد وبين الكفر والشرك إلا تركَ الصلاة". رواه مسلم (1) ، وقال: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح. وروى الترمذي (3) عن عبد الله بن شقيق: كان أصحابُ محمد لا يَرَون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلاّ الصلاة، مَن تركَها فقد بَرِئتْ منه ذمةُ الله ورسوله. وفي صحيح البخاري (4) عن عمر أنه لما طُعِنَ قيل له: الصلاة، فقال: نعم، لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاةَ، وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (5) ، فعلَّق الأخوَّةَ في الدين على التوبة من الشرك وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة، كما علَّق تركَ القتال على ذلك بقولَه: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (6) .   (1) برقم (82) عن جابر بن عبد الله. (2) أخرجه أحمد (5/346،355) والترمذي (2621) والنسائي (1/231) وابن ماجه (1079) عن بُريدة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (3) برقم (2622) . ووصلَه الحاكم في المستدرك (1/7) عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال، وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (579) . (4) لم أجده فيه، وقد أخرجه مالك في "الموطأ" (1/39-40) عن المسور بن مَخرمة عن عمر. (5) سورة التوبة: 11. (6) سورة التوبة: 5. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وفي الصحيح (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عمن لم يَرَهُ كيف تَعرِفُهم؟ فقال: "يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ من آثارِ الوضوء". فمن لم يُصلِّ لم يكن فيه علامةُ أمةِ محمد يومَ القيامة. وفي الصحيحين (2) في حديث الشفاعة أنه ذَكَر الجهنَّميين الذين أُخرِجوا من النار بالشفاعة، قال: "فتأكُلُهم النّارُ إلاّ موضعَ السجود، فإن الله حرَّم على النار أن تأكلَ أثَرَ السجود". وأمثال ذلك كثيرة. وأما قول القائل: صلَّيتُ بلا وضوء، فإن كان مستحلاًّ لذلك أو مستهزئًا بالصلاة كَفَرَ باتفاق المسلمين، ووَجَبَ قتلُه، وإن كانَ معتقدًا لوجوب الوضوء للصلاة وأن الصلاةَ بغير وضوء حرام، ففي كفرِه قولان للفقهاء، فإن طائفة من أصحاب أبي حنيفة قالوا: يُكفَّر هذا، واتفق المسلمون على مثل هذا يَستحقُّ العقوبةَ الغليظة. والله سبحانه أعلم. وهَجْرُ هؤلاء وتركُ ردِّ السلام عليهم من أهونِ ما يُعَزَّرُون به، فإنهم يستحقونَ ما هو أغلظ من ذلك، والله أعلم.   (1) مسلم (249) عن أبي هريرة. (2) البخاري (6573) ومسلم (182) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 مسألة في رجلٍ مَضَى عليه زمنٌ لم يُصَل فيه، ثم تابَ ولازمَ الصلوات الخمس، ولم يتفرَّغ لقضاءِ ما فاتَه من الصلوات، فهل - والحالة هذه - يُطالِبُه الله بذلك أم لا؟ الجواب الحمد لله. أمَّا إن كان أوّلاً ممن لا يعتقد وجوبَ الصلاةِ ويَعزِم على فعلها فهذا في الباطن ليس بمؤمن، وإن كان في الظاهر مسلمًا، كالمنافقين الذين تجري عليهم أحكامُ الإسلام الظاهرة، وهم في الآخرة في الدَّرْك الأسفل من النار. وإن لم يكُنْ مكذِّبًا في الباطن للرسول، بل قد يكونُ مُقِرًّا في الباطن بصِدْقِه، أو مُعرِضًا عن تصديقه وتكذيبه، وهو مع ذلك مُعرِضٌ عما جاء به، لا يَخْطُر بقلبه الصلاةُ هل هي واجبة أو ليست واجبة؟ وهل يلزمُه فعلُها أو لا يلزمُه؟ وإن خَطَر ذلك بقلبه أعرضَ عنه، واشتغلَ بأمورِ دنياه وشهواتِه عن أن يعتقد الوجوبَ ويَعزِمَ على الفعل، فهؤلاء وإن صَلَّوا لم تُقْبَلْ صلاتُهم. قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142)) (1) ،   (1) سورة النساء: 142. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)) (1) . وهذا إذا تابَ فاعتقدَ الوجوبَ، وعَزَمَ على الفعل، وأقام الصلاةَ، كان بمنزلة من قد تابَ من الزكاة، وهذا على أصح قولَي العلماء وأكثرِهم لا يُوجَب عليه قضاءُ ما تركَه قبل الإسلام من صلاةٍ وغيرِها، ولهذا لم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر من تاب من المنافقين بإعادة ما فعلوه أو تركوه في حالِ نفاقهم، ولا أمرَ من تابَ من المرتدِّين بقضاءِ ما تركوه في حال الردَّة. وكذلك الصدِّيق والصحابة لما قاتلوا المرتدينَ لم يأمروهم بقضاء ما تركوه في حال الردَّة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في ظاهرِ مذهبِه أنه يَجبُ على المرتدِّ إذا أسلم أن يَقْضيَ ما تركَه حالَ الردَّة، وفي قضاءِ مَا تركَه قبل الردَّة روايتان عن أحمد، ومذهبُ أبي حنيفة ومالك أنه لا يَجب عليه قضاء شيءٍ من ذلك، ومذهب الشافعي: يَقضِي الجميعَ، وقد بَنَوا ذلك على أن الردَّة هل تُحبطُ مُطْلَقًا أو بشرطِ الموتِ عَليها؟ وفي هذا البناءِ وتقريرِ هذه المسائلِ كلام ليس هذا موضعَه، فإن المسئولَ عنه قد عُرِفَ حكمُه بالسنة المعروفة، مِع ما دلَّ عليه القرآن في قوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (2) . وقد أجمع المسلمون على أن الكافر لا يُصلِّي، سواءً كان حربيًّا أو ذميًّا، لا يجب عليه قضاءُ شيءٍ من هذه الفرائض، مع قولِ الجمهور إنه يُعاقَب على تركِها في الآخرة إذا لم يُسلِم.   (1) سورة الماعون: 4-7. (2) سورة الأنفال: 38. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 وأمّا إن كان هذا الذي فوَّتَ بعضَ الصلاة عمدًا مؤمنًا، يَعتقدُ وجوبَها ويَعزِمُ على أدائها، ولكن تكاسلَ عنها بعضَ الأوقات، فهذا يجبُ عليه عند جمهور العلماء، وعند بعضهم إذا تابَ فلا قضاءَ عليه، بخلاف ما لو نامَ عنها أو نسيَها فإن هذا عليه القضاءَ بالسنة والإجماع. ومن قالَ: العامدُ لا يَقضِي، فإن ذنبَه أكبرُ ولا ينفعُه القضاء، لكن إذا تابَ فالتوبةُ تَجُب ما قبلَها. والذين أوجبوا عليه القضاءَ أوجبوه بحسب الإمكان. وأكثرُهم يقولون: إذا كثرتِ الفوائتُ لم يَجبْ قضاؤُها على الفورِ مرتبةً، كأبي حنيفةَ وأحمد في إحدى الروَايتين، وأصحاب الشافعي في أصح الوجهين، يُوجِبون قضاءَ ما تعمَّدَ تركَه على الفور، وأحمد في الرواية الأخرى يُوجب قضاءَ الجميع على الفور مرتبًا لكن بحسب الإمكان، بحيث لاَ يَشْغَله عما لا بدَّ له منه من معيشةٍ ونحوِها، ولا يُضعِفُه عن واجبٍ أو ما لا بُدَّ منه. والكثيرُ الذي لا يجب فيه الفورُ والترتيبُ، قيل: هو صلاة يوم وليلةٍ، كما هو في مذهب أبي حنيفة ومالك. وقيل: ما لا يمكن فعلُه إلاّ بفوتِ الحاضرةِ، كما هو المنقولُ عن أحمد. والذي ينبغي لهذا التائب أن يجتهدَ في المحافظةِ على الصلاةِ فيما بقي من عمره، وإن قَصَّرَ في قضاءِ الفوائتِ فليجتهدْ في الاستكثار من النوافل، فإنه يُحاسَب بها يومَ القيامة، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "أولُ ما يُحاسَب به العبدُ   (1) أخرجه بهذا السياق أحمد (4/65،5/72،377) عن يحيى بن يعمر عن = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 صلاتُه، فإن كان أَتَمَّها كُتِبَتْ تامَّة، وإن لم يكن أَتَمَّها قال الله: انظروا هل تجدون لعبدي مِن تطوُّع فَتكمِلونَ به. فريضتَه، ثم الزكاة كذلك، ثم تُؤخَذُ الأعمالُ على حسب ذلك". وأمَّا إنْ قُدِّرَ أنه عَجَزَ عن القضاء، فلم يَتفرَّغْ حتى مات بعد التوبة، فهذا مغفورٌ له، ولا حولَ ولا قوةَ إلاّ بالله. وكذلك لو قضى البعضَ وعجَزَ عن البعضِ، ومن العَجْزِ أن يكونَ بحيثُ لو اشتغلَ بالقضاء لتَضرَّرَ في معيشتِه وما يَحتاج إليه لنفقةِ عيالِه وقضاءِ دُيونِه ونحوِ ذلك، فإنه ليس عليه أن يُواصِلَ القضاءَ مواصلةً تمنعُه عمّا لا بدَّ منه باتفاق العلماء. والله أعلم.   = رجلٍ من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرفوعًا. وله شاهدٌ من حديث تميم الداري، أخرجه أحمد (4/103) وأبو داود (866) وابن ماجه (1426) ، وشاهد آخر من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/290،4/103) وأبو داود (865) والترمذي (413) والنسائي (1/232،233) وابن ماجه (1425، 1426) من طرق عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 مسألة في رجل له عشرين (1) سنة يَشربُ الخمر، ولا يُصلِّي إلاّ بعضَ الأعياد والجمع، لكنه يتصدَّقُ ويُنْظِرُ المُعْسِر، فهل يثابُ على ذلك؟ وهل إذا تابَ يجب عليه قضاءُ ما فاته من الواجبات؟ الجواب الحمد لله. تاركُ الصلاة يجبُ أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلا عُوقِبَ عقوبة شديدة حَتَّى يصلِّي بإجماع المسلمين. وأكثرُ الأئمة كمالك والشافعي وأحمد يقولون: إنه إذا لم يُصَل فإنه يُقتَل، واختُلِفَ هل يُقتَل كافرًا أو فاسقًا على قولين. وقد ثبتَ في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس بين العبدِ وبين الكفرِ إلاّ تركُ الصلاة" (2) ، وقال: "العهد الذي بينَنا وبينَهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر" (3) . وأما إذا فعلَ شيئًا من الخير فإن الله لا يَظلِمُ، فإنّ اليهود   (1) كذا في الأصل، وهو لحن من السائل. (2) سبق تخريجه. (3) سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 والنصارى إذا فعلوا خيرًا فإنَ الله يثيبُهم عليه في الدنيا، لكن هذا لا يَدفَعُ عنه عقوبةَ تركِ الصلاة. ويَجبُ عليه المحافظةُ على الصلوات في مواقيتها. ومن تركَ الصلاةَ متَعمدًا فقد قال بعض العلماء: إن الإثم الذي عليه لا يَسقُط ولا غيرُه، ولا يُقبَل منه القضاءُ، بل يتوبُ ويَستغفر. وقال الأكثرون: بل يَقضِي ويَتُوب من التأخير، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 مسألة في رجل عنده زوجة لا تُصلِّي، فهل يجب عليه أو يُستَحبُّ له أن يأمرَها بالصلاة؟ وإذا لم تَأتَمِرْ فهل يجوز له إبْقَاؤُها زوجةً أو يَجبُ عليه أو يُستحبُّ له أن يُفارِقها؟ وماذا يَجبُ على تاركِ الصلاة؟ وهل يَكْفُر بتركِها أم لا؟ الجواب الحمد لله. بل يَجب عليه أن يأمرَها بالصلاة ويجب ذلك عليه، بل يجب عليه أن يأمرَ بذلك كلَّ من يَقدِر على أمره به إذا لم يَقُم غيرُه بذلك، وقد قال الله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (1) ، وقال تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (2) ، قال علي عليه السلام: عَلِّموهم وأَدِّبُوهم. وينبغي مع الأمر بذلك أن يَحُضُّها على ذلك بالرغبة والرهبة، كما يَحُضها على ما يَحتاج إليه، ف إن أصَرَّتْ على تركِ الصلاةِ فعليه أن يُطَلِّقها، وذلك واجبٌ في الصحيح. وتاركُ الصلاة يَستحق العقوبةَ حتى يُصَلِّي باتفاق المسلمين، على أنه إن لم يُصَلِّ قُتِلَ، وهل يُقتَلُ كافرًا أو فاسقًا؟ على قولين مشهورين، والله أعلم.   (1) سورة طه: 132. (2) سورة التحريم: 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 مسألة في رجل عمره سَبْعِيْن (1) سنةً وهو مقيمٌ في بلده مدةَ ثلاثِ سنين، ما رآه أحدٌ صَلَّى ولا زكَّى. الجواب هذا الرجل يجب أن يُستتاب لِيُقِيْمَ الصلاةَ ويُؤتيَ الزكاةَ، فإن لم يُقِم الصلاةَ وإلا قُتِلَ عند جماهير العلماء، وهل يُقْتَل كفرًا أو فسقًا على قولين. وإن لم يؤدِّ الزكاةَ وإلاَّ أُخِذَتْ منه قهرًا، فإنْ غَيَّبَ مالَه وامتنعَ من أدائها قُتِلَ أيضًا في أحدِ قولي العلماء، وفي الآخر: لا يزال يُضرَب ضربًا بعد ضرب حتى يُظْهر مالَه فَيُوخَذُ منه الزكاةُ. ومن عَرف حالَ هذا فينبغي أن يَهجُرَهُ، فلا يُسلِّمَ عليه ولا يُعاشِرَه، ويُوَبِّخه ويُغْلظ له حتى يقيمَ الصلاةَ ويؤتيَ الزكاة. قال عمر بن الخطاب: لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة. وقال ابن مسعود: ما تاركُ الزكاة بمسلم. وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (2) ، وفي الآية   (1) كذا في الأصل منصوبًا. (2) سورة التوبة: 5. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 الأخرى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (1) . وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أُمِرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يَشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فَعلوا ذلك عَصَموا منّي دِماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّها، وحسابُهم على الله". فقد بيَّن الله في كتابه وسنة رسوله أنه إنما يُكَفُّ عن قتالهم وإنما يَصيرون إخوةً في الدين إذا كانوا مع توبتهم من الكفر يُقيمون الصلاةَ ويُؤتون الزكاة، فمن لم يُقم الصلاةَ ولم يُؤتِ الزكاةَ لم يكن من هؤلاء، فيُعاقَب على ذلك باتفاق المسلمين، وإن وقعَ نزاعٌ في صفةِ العقوبة، والله أعلم.   (1) سورة التوبة: 11. (2) البخاري (25) ومسلم (22) عن ابن عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 مسألة في البنت إذا بَلَغَتْ ولم تُصَل، وإن قيل لها: صَلِّي تقول: ما أنا كَبيرة. والمرأةُ الكبيرة إذا لم تصل فماذَا يجب عليها إذا كان زوجُها حَلَفَ عليها: لا يَطأهُا ولا يُنفِقُ عليها إلاّ أن تُواظِبَ على الصلاةِ؟ هل يَحْنَث أم لا؟ الجواب الحمد لله رب العالمين. مَن بَلَغَ من الرجال والنساءِ فالصلاة فريضة عليه باتفاق المسلمين، والمرأةُ يَحصُل بلوغُها بحيضِها وبإنزالِ الماء، وكذلك الحبل يَدُلُّ على الإنزال، فمتى حاضت المرأة أو حبلتْ ولم تُقِرَّ بوجوب الصلاة عليها بعد أن تَعرِفَ أن الله أوجبَها عليها فهي كافرة باتفاق المسلمين، ولا تَحل لزوجها، ولا يَصِحُّ عقدُ النكاح عليها، فإنّها مرتدَّة، ونكاحُ المرتدَّةِ باطل عند الأئمة، ويَجبُ قتلُها عند مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، كما يجبُ قتلُ سَائرِ المرتدَّاتِ عندَهم. وإن كانت لا تُقِرُّ بوجوبها لِظَنِّها أنَ الصلاةَ إنما تَجِبُ على العجوزِ دون الشابَّةِ، فهذه لا يُحكَم بكفرِها ورِدَّتِها حتى تَعْرِفَ أنها واجبةٌ عليها، وهل على هذه إعادةُ ما تركتْه في حالِ جهلِها بوجوب الصلاة عليها؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 وكذلك المرأةُ الكبيرةُ إذا لم تُقِرَّ بوجوب الصلاة وامتنعتْ من فعلِها فإنها تُستَتاب، فإن تابتْ وإلاّ قُتِلَتْ عند مالكٍ والشافعي وأحمد وغيرهم. وإذا هَجرها وامتنعَ من وَطْئِها حتى تُصلِّيَ كان محسنًا في الهجر والامتناع، ولا نفقةَ لها هذه المدةَ، فإنَ الذي فَعَلَه واجبٌ عليه. ويَجبُ عليها أن تُطِيعَه فيه، وللزوج إلزامُ زوجتِه بتركِ المحرَّمات، وإنَ أمكنَ الوطءُ مع فعلِها، ولهَ أيضًا إلزامُها بغُسْلِ الجنابةِ وإزالةِ النجاسة، وإن أمكنَ وطؤُها مع الجنابة، وهذا وإن عُلِّلَ بأن النفسَ تَعَافُ وَطْءَ المرأةِ الجُنُب، فالتي لا تُصلِّي شرٌّ منها، وتركُ الصلاة شرٌّ مِن فِعْلِ أكثرِ المحرَّمات، إذا كانتْ تطيعُه فيما له أن يُلزِمَها به، وإن كانتْ ناشزًا فلا نفقةَ لها ما دامتْ كذلك، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 مسألة في أقوام يكونون بالمسجد، فإذا حَضَرتِ الصلاةُ قاموا، فيُدْعَون للصلاةِ فيَأبوْا (1) ، فيقالُ لهم: مَن لا يُصلِّي ما هو مسلم، فيقولون: كل من نَطق بالشهادتين هو مسلم. فبينوا لنا حُكْمَ هؤلاءِ وما يَجِبُ عليهم، ومنهم من لا يصلي إلاّ من العيد إلى العيد، ومنهم من لا يصلِّي أبدًا. الجواب الحمد لله رب العالمين، من تركَ الصلاةَ غَيْرَ مُقِرٍّ بوجوبها عليه - وهو من أهل الوجوب - فإنه كافر باتفاق الأئمة وإن كان مقرًّا بالشهادتين، وهذا يُستَتاب، َ فإن تابَ وإلاَّ قُتِلَ كافرًا مرتدًّا باتفاق الأئمة. وإن كان ممن لا يَعرِفَ الوجوبَ لحِدْثَانِ عهدِه بالإسلام أو إنشائِه بمكانِ جهلٍ فإنه يُعرَّفُ الوجوب، فإن أقرَّ به وإلاّ قُتِل كافرًا. و الصلاة واجبة على كل عاقلٍ بالغ إلاّ الحائض والنفَسَاء، تجب على الحرِّ والعبد، الذكر والأنثى، والمقيم والمسافر، والآمِن   (1) كذا في الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 والخائف، والصحيح والمريض، وأهل الأحوال وأهل خوارقِ العادات ذوي المكاشفات والتأثيرات وغيرِ أهل خوارقِ العادات، وأهل حضورِ القلب مع الله وأهل المعرفة والحقائق، وغير هؤلاء، والمتولهين الذين لهم عقل يُميِّزون وغير المتولهين، لا تَسْقُط عن العبدِ مع حضورِ عقلِه بسببٍ من هذه الأسباب. وأما من كان مجنونًا فإنه لا صلاةَ عليه حالَ جنونه، ولا قضاءَ عليه بعد الإفاقة، وإن قَصُرَ زمنُ الجنونِ عند جماهير العلماء، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفِعَ القلمُ عن المجنونِ حتى يُفِيْقَ، وعن الصبيِّ حتى يَحتلمَ، وعن النائم حتى يستيقظَ" (1) . والمجانين منهم من يكون مع جنونه له نصيبٌ من الإيمان أو الكشف ونحوه، وقد يُسمَّى هؤلاء عقلاءَ المجانين، وقد يُسمَّون المولَّهِين، فهؤلاء إذا كانوا مجانين كانوا كما قال فيهم بعض أهل العلم: هم قومٌ أعطاهم الله عقولاً وأحوالاً، سَلَبَ عقولَهم وأبقَى أحوالَهم، فأسَقَطَ ما فَرَضَ بما سَلَبَ. وأما من كان عاقلاً فلا تَسقُط عنه الصلاةُ، وإن له من الأحوال والمعارف وخوارِق العادات ما عَسَى أن يكونَ، بل إذا لم يُقِرَّ بوجوب الصلاة عليه فإنه يُسْتَتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. وكذلك من قَرَّره على ذلك واعتقدَ أنَّ الصلاةَ لا تجب على مثل هؤلاءِ لِحصولِ   (1) أخرجه أحمد (6/100،101،144) وأبو داود (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه (2041) عن عائشة. وله شاهد من حديث علي، أخرجه أحمد (1/116،118،140) وأبو داود (4403) والترمذي (1423) من طرقٍ عن علي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 مقصود الصلاة لهم ونحو ذلك، فإنه من اعتقد ذلك يُستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. ومن كان نائمًا فإنه يَقْضِي الصلاةَ إذا استيقظَ. وهذا كلُّه لا نِزاعَ فيه بين المسلمين. وأما من أُغمِيَ عليه لمرضٍ أو خوفٍ أو حالٍ وَرَدَ عليه من خشيةِ الله تعالى أو استماع القرآن ونحو ذلك، فهذا قيل: يَجِبُ عليه القضاء مطلقًا، وهو مذهب أحمد ويُروَى عن عمار بن ياسر، وقيل: لا قضاءَ عليه وهو مذهب الشافعي، وقيل: يَقْضِي صلاةَ يوم وليلةٍ، كمذهب أبي حنيفة ومالك. وإن زالَ عقلُه بسبب محرم، كالسُّكْرِ بالخمر والحشيشة وأكل البَنْجِ ونحو ذلك، أو بحال محرَّم مثل أن يستمعَ القصائد المنهيَّ عنها فيغيب عقلُه، فهذا عليه القضاءُ بلا نزاع، وإذا كان السبب محصورًا لا يكون (1) السكرانُ معذورًا. وأما أن أقر الواحدُ من هؤلاء بوجوب الصلاة وامتنع من فعلِها فهذا أيضًا يُستَتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل عند جماهير الأئمة كمالك والشافعي وأحمد، ويُقتَل في ظاهرِ مذهبهم بترك صلاةٍ واحدةٍ، فإذا مَضَى مِن وقتِ صلاة الفجر قيل له: صَلِّ، فإن لم يُصَلِّ حلَّ دمُه ولو طار في الهواء ومشى على الماء، فإن الدَّجال يأمُر السماءَ فتُمطِر والأرضَ فتُنبتُ، ويَسْتَتْبعُ معه الكنوزَ، ومع هذا فهو كافرٌ من خلق الله، يَقتُله المَسيحُ بن مريمَ على بابِ الشَّرْقيّ. ولكن لا يُقتَل   (1) في الأصل: "يكن". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 حتى يستتاب. وهل هذه الاستتابة واجبة أو مستحبة هي موَقتة ثلاثة أيام؟ هذا فيه نزاع معروف. وإذا قُتِلَ فهل يُقتَل كافرًا مرتدًا لا يُدفَن في مقابر المسلمين ولا يُغسل ولا يُصلى عليه، أو يُقتَل فاسقًا كقتلِ قاطع الطريق والزاني إذا كان مُقِرا بوجوبها؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد. وكلامُ أكثرِ السلف يدلُّ على تكفيره، وقد رجحه كثير من أصحاب أحمد وبعضُ أصحاب مالك والشافعي. وقد ثبتَ في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس بين العبد وبين الشرك إلاّ تركُ الصلاة" (1) ، وقال: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر" (2) . وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحابُ محمد لا يَرَون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلاّ الصلاة. وقال عمر بن الخطاب لما قيل: الصلاة، فقال لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة، ولم يَقُل ثلاثة أيام. وسُئل ابن مسعود وغيره عن قوله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ) (3) ، فقال: إضاعتُها تأخيرها عن وقتها، فقالوا: ما كنا نَحسب ذلك إلا تركَها، فقال: لو تركوها لكانوا كفَّارًا، وقد قال سبحانه وتعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)) (4) . وإذا كان هذا الوعيد لمن نَسِيَها عن وقتها فكيف بمن تركها؟   (1) سبق تخريجه. (2) سبق تخريجه. (3) سورة مريم: 59. (4) سورة الماعون: 4-5. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 مسألة هل يجوزُ غيبةُ تاركِ الصلاةِ أم لا؟ الجواب الحمد لله ، إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة وكان تاركَها فهذا جائز، ويَنبغي أن يُشاعَ ذلك عنه ويُهْجَر حتى يُصلي، وأمَّا مع القدرة فيجِبُ أن يُستَتابَ، فإن تابَ وإلا قُتِل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 مسألة فيمن تركَ الصلاةَ عامدًا أو غيرَ عامدٍ، ووجبتْ عليه الزكاةُ ولم يُزَك، وعاق والديه، وقَتَلَ نفسًا خطأ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن حج هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ خرجَ من ذنوبِه كيومِ وَلَدتْه أمُّه". وقد قصدَ الحج، فهل يُسْقِط هذا جميعَه ومَظالِمَ العباد؟ الجواب أجمعَ المسلمون لا يَسقُط حقوقُ العباد كالدَّيْن ونحوِ ذلك، ولا يَسقُط ما وجب عليه من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحق المقتول عليه وإن حجَّ. والصلاة التي يَجبُ عليه قضاؤُها يَجبُ قضاؤُها وإن حَج. وهذا كلُّه باتفاق العلماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 مسألة في رجلٍ ماتَ، وكان لا يُزكَي ولا يُصَلِّي إلاّ إن كان في رمضانَ، فيَجِبُ لنا أن نُصَلِّي على مثلِ هذا؟ الجواب مثلُ هذا يُستَحبُّ لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاةَ عليه عقوبةً ونكالاً لأمثالِه، كما تركَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاةَ على قاتلِ نفسِه، وعلى الغالِّ، وعلى المَدِيْنِ الذي لا وفاءَ له. وإن كان منافقَا فمَنْ عُلِمَ نِفاقُه لم يُصلَّ عليه، ومن لم يُعْلَم نِفاقُه فله أن يُصَلِّيَ عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 مسألة في أقوامٍ لم يُصلوا ولم يَصومُوا، والذي يصوم منهم لم يُصَل، ومالُهم حرام، ويأخذون أموالَ الناس، ويُكرِمون الجارَ والضيفَ، ولم يُعرَفوا لهم مذهبٌ (1) وهم مسلمون. الجواب الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إن كانوا تحت حكمِ وُلاةِ الأمور فإنهم يَجبُ أن يأمروهم بإقامة الصلاة ويُعاقِبوا على تركها باتفاق المسلمينَ، وكذلك الصيامُ. فإن أقرُّوا بوجوبِ الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة المفروضة، وإلا فمن لم يُقِرَّ بذلك فهو كافر، وإن أقرُّوا بوجوب الصلاة وامتنعوا من إقامتِها عُوقِبوا حتى يُقِيموها. ويَجبُ قتلُ كل من لم يُصَلِّ إذا كان عاقلاً بالغًا عند جماهير العلماء كَمالك والشافعي وأحمد، وكذلك يُقام عليهم الحدودُ، وإن كانوا طائفةً ممتنعةً ذاتَ شوكةٍ فإنه يَجبُ قتالهم حتى يَلتزِمُوا أداءَ الواجبات الظاهرة والمتواترة كالصلواَت والصيام والزكاة، وتركَ   (1) كذا في الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 المحرماتِ كالزنا والربا وقطع الطريق ونحو ذلك. ومن لم يُقِر بوجوبِ الصلاة والزكاة فإنه كافَرٌ يُستَتاب، فإن تاب وإلا قُتِل. ومن لم يُؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافرٌ أكفرُ من اليهود والنصارى. وعقوقُ الوالدين من الكبائر الموجِبة للنار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 مسألة فيمن قال: صلاة الجماعة ليستْ بواجبة، وإنما كانت واجبةً في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه فقط. قيل له: فقد قال بعضُ العلماء: إن من تركَ الجماعة وصلى في بيته فهو منافق، فقال: مَن قال هذا هو المنافقُ، وقال: إنه لا يُوجَد اليومَ منافق، وإنما كان النفاقُ في زمنِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكن يُقالُ اليومَ: زنديق، ولا يقال: منافق. فهل ما قاله هذا الرجلُ صحيحٌ أم لا؟ أجاب الحمد لله، أما من قال إن صلاة الجماعة كانت واجبةً في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه فقط، فهذا القولُ مخالف لأقوال الأئمة الأربعة وسائرِ أئمة الدين، بل ما نَعْلَمُ إماما قال هذا، وإنما قال هذا بعضُ العلماء في صلاة الخوف خاصةً، زعمَ أنها كانت تُصلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون غيره، وجمهورُ الأئمة على خلاف ذلك. وأما الجماعة المعروفة فالأئمة متفقون فيها على خلاف قول هذا القائل، فمنهم من يقول: هي واجبة على الأعيان على عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسائرِ الأعصار على من يُصلي خلفَه ومن يُصلّي خلفَ غيره. ومنهم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 يقول: هي واجبة على الكفاية على عصره وعصر غيره خلفَه وخلفَ غيره، ومنهم من يقول: هي سنة مؤكدة على عصره وعصر غيره خلفَه وخلفَ غيرِه. وأما وجوبُها في عصره معه فقط، فهذا قول مخالف لأقوال أئمة الإسلام، وما سمعتُ عالمًا قال هذا. وقد كانت الجماعة على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُقامُ خلفَه وخلفَ غيرِه من أئمة القبائل، وكان في كل دارٍ من دار الأنصار مسجد، أي في كلِّ قبيلةٍ من قبائل الأنصار مسجد، وكان لهم إمام راتب يُصلُّون خلفَه، كما كان معاذ بن جبل يُصلي بأهل قُباء، وكان غَسان بن مالك يُصلِّي بقومِه وكذلك غيرهما من الأئمة. وأما الجمعة فلم تكن تُقام إلا في مسجده، فمن قال: إن الصحابة كلهم كان يجب عليهم أن يُصلوا خلفَه الجماعةَ كما كان يجب عليهم أن يصلّوا خلفه الجمعةَ فقد أخطأ خطأً بينًا، وقال قولاً معلومَ الفساد بالتواتر والإجماع. وأما إطلاقُ النفاقِ على من تخلَّف عن الجماعة أو الجمعة، فهذا إنما يكون إذا كان بغير تأويلٍ شرعي، فأما من تخلَّف لعذرٍ شرعي، أو مَن اعتقد أنّ ذلك ليس بواجب عليه، فتخلَّف لأجل هذا الاعتقاد فإنه قد يكون مؤمنًا غيرَ منافق، سواء كان مصيبًا في اعتقاده أو مخطئًا. وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الله شرَعَ لنبيِّه سننَ الهدى، وإنكم لو صلَّيتم في بيوتكم كما   (1) برقم (654) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 يُصلِّي هذا المتخلفُ في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيكم لضلَلْتم، ولقد رأيتنا وما يتخلَّفُ عنها إلاّ منافقٌ معلومُ النفاق. فقد أخبر ابن مسعود أنَّ الجماعة لم يكن يتخلَّفُ عنها على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ منافق معلومُ النفاق، وهذا مما يَستدِلُّ به من يُوجبها، لأنه إذا لم يكن يَتركُها حينئذٍ إلاّ منافق معلومُ النفاق عُلِمَ أنها كانت واجبةً إذ لو كانت مستحبةً كقيام الليل وصيام يوم الاثنين والخميس وسنةِ الظهر والمغرب لكان قد يتركها المؤمن، ولم يكن في تركها يُقال: إنه منافق، فإنه قد ثبتَ في الصحيحين (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر ما فرض الله من الصلاة والصيام والزكاة ونحو ذلك لرجلٍ، فقال: والذي بعثكَ بالحق لا أزيد على هذا ولا أَنقصُ منه، فقال: "أفلحَ إن صَدَق". فإذا كان من أدَّى الفرائضَ يكون مُفلحًا وإن لم يأتِ المستحبات، وكانت الجماعة لا يتخلَّف عنها عندهم إلا منافقٌ، عُلِمَ أنها كانت عندهم من الواجبات، ولكن هذا كان لعلمِ الصحابةِ بأقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاني كلامِه، وأنه لم يكن بينهم نزاع على عهده ولا شبهة ولا اختلاف، لظهور العلم والإيمان ومعرفتهم بوجوبِها وتوكيدِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها. حتى قال: "لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقامَ، ثم أَنطلِقُ معي برجالٍ معهم حُزُمُ الحَطَب إلى قوم لا يَشهدون الصلاةَ، فأحُرِّقَ عليهم بيوتَهم بالنار" (2) .َ ومعلومٌ أنَّ التحريقَ بالنار لا يكون إلاّ عن كفرٍ أو كبيرةٍ عظيمة.   (1) البخاري (46 ومواضع أخرى) ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله. (2) أخرجه البخاري (644، 657، 2420، 7224) ومسلم (651) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 وفي رواية (1) : "لولا ما في البيوت من النساء والذزيّة"، وفي رواية لأبي داود (2) : "ثم أنطلق إلى رجالي يُصلُّون في بيوتهم، فأحرق بيوتهم بالنار". فلما عَلِمَ الصحابةُ هذا الوعيدَ والتهديدَ كان المؤمنون يطيعون الله ورسولَه، والمنافقون يتخلفون عن الجماعة، فأما اليومَ فقد قل العلمُ والإيمانُ، وكثير من العلماء يخفَى عليه بعضُ السنة فضلاً عن غيرهم، فلهذا صارَ يَتْرُكُها مَن ليس بمنافق معلومِ النفاق، لكن هؤلاء يتشبهون بالمنافقين، إذا لم يكونوا منافقين، وهم تاركونَ للسنة المؤكدة باتفاق المسلمين، وإذا أصرُّوا على ذلك رُدَّتْ شهادتُهم، بل يُقاتَلُون في أحد القولين، وهذا عند من لا يقول بوجوبها. فأما من قال بوجوبها فإنه يُقاتِلُ تاركَها، ويُفَسقُ المصرِّينَ على تركها إذا قامتْ عليهم الحجةُ التي تُبِيْحُ القتالَ والتفسيقَ، كما يُقاتَل أهلُ البغي بعد إزالةِ الشبهة ورَفْع المَظْلمة، بل العلماءُ قد يُعاقِبون مَن تركَ واجبًا أو فَعَل محرما وإن كان متأولا، كما قال مالك والشافعي وأحمد في شارب النبيذ المتأول أنه يُجلَد وإن كان متأولاً، والشافعي لا يردُّ شهادتَه بذلك، ومالك يردُّها، وعن أحمد روايتان. وكذلك البُغاةُ المتأولون إذا قاتلوا، كما قاتلَ علي بن أبي طالب لأهل الجمل وصفين، فإنهم عند الأئمة الأربعة لا يُفَسَّقون بذلك البغي، لأنهم كانوا فيه متأولين وإن قُوتلوا.   (1) لأحمد (2/367) . (2) برقم (548، 549) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 وهكذا كل ما ثبتَ تحريمُه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد خفي ذلك على بعضِ العلماء، فإنه يذكر تحريمه وما ورد فيه من التغليظ والوعيد، وإن كان المتأول المعذور من العلماء لا يَلحقُه الوعيدُ، بل يغفر الله له لأنه اجتهد فأخطأ، وقد قال تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) ، وفي الصحيح (2) أن الله تعالى قال: "قد فعلتُ". وهكذا ما يَتنازعُ فيه الأئمة من واجبات الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، إذا تركه التاركُ متأولاً مع قيامِه بالواجبات وتركه للمحرمات لم يكن بذلك فاسقًا بل ولا آثمًا، بل الله يَغفِر له خطأه. ومع هذا فمن يقول بوجوبه يُبين وجوبَه، ويَذكر ما جاء فيه من الأدلة الشرعية لبيان العلم وإظهارِ السنة، وليتبينَ خطأُ القول المخالفِ للسنة وصوابُ القول الموافق لها، وإن كان المخالفُ مجتهدًا معذورًا، بل يكون المجتهد من أولياء الله المتقين، وعبادِه الله الصالحين، ومن أئمة الدين، والله يَغفِر له خطأه ويَغفِر له ما هو فوقَ الخطأ من الذنوب، إذ لا معصومَ من أن يُقَر على خطأٍ أو ذنبٍ بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان صديقًا أو شهيدًا أو صالحًا، لكن يكونون كما قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) (3) . ووجوبُ الجماعة من هذا الباب، فإن دلائلَ وجوبِها في   (1) سورة البقرة: 286. (2) مسلم (126) عن ابن عباس. (3) سورة الأحقاف: 16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ظاهر بين، لا يَسترِيبُ فيه بعد معرفتِه ومعرفةِ ما قيل في ذلك عالم منصفٌ، ولكنّ طائفة من العلماء ظنّوا أنّ الوعيد كان في الجمعة خاصةً، والنصوصُ صريحة ثابتة بأنها كانت في الجماعة أيضًا. ومنهم من ظنَّ أن العقوبة إنما كانت للنفاقِ خاصةً لا لتركِ الجماعة، وهذا أيضًا خطأٌ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يُعاقِبُ أحدًا على ما أسرَّه من النفاقِ، وإنما يُعاقِبُه بما أظهره من ترك واجب أو فِعْلِ محرَّم. وأيضًا فإذا [كان] تركُها علامة النفاق، فالدليلُ يَستلزمُ المدلولَ، عُلِمَ أن كلَّ من تركَها كان منافقًا، وهذا دليل الوجوب. وأيضًا فإنه قد ثبتَ في الصحيح (1) أن ابنَ أم مكتوم سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُرخصَ له في تركها، فقال: "هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم. قال: "فأجَبْ". وفي روايةٍ في السنن (2) : فقال: "لا أجدُ لكَ رخصة". وابنَ أم مكتوم مؤمنٌ باتفاق المسلمين، وهو الأعمى الذي ذكره الله بقوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)) (3) ، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَستخلِفُه على المدينة، وكان يؤذِّن للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومع هذا فلم يَأذَنْ له في التخلف عن الجماعة، فعُلِمَ أنها واجبة على من عُلِمَ إيمانُه. ومن ادَّعَى أنَّ هذا الحديث منسوخ أو مخالف للإجماع فقد   (1) مسلم (653) عن أبي هريرة. (2) لأبي داود (552) عن ابن أم مكتوم. (3) سورة عبس: 1-2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 غَلِطَ، فإن العمل عليه عند من يُوجب الجماعةَ، يُوجبُها على الأعمى كما يُوجبُ عليه الجمعة، فإذَا أمكنه الخروج إليَها وَجَبَتْ عليه وإن لم يكن له قائد، إذ الأعمى قد يذهب إلى السوق وغيرِه من حوائجه بلا قائدٍ، فكذلك يذهب إلى الجماعة. فصل وأما من قال: لا يوجد اليومَ منافقٌ، إنما كان النفاقُ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا مخطىء بإجماع المسلمين، بل قد قال حذيفة بن اليمان بعد موتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن النفاق اليومَ أكثرُ منه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنافقُ هو الذي يُبْطِنُ الكفرَ ويُظهِرُ الإسلامَ، وهذا موجودٌ في سائرِ الأعصار، بل إذا كان مع رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآياتِه وسَماعِ كلامِه يكون المنافقون موجودين فبعدَه أولى وأحرى. وأما قوله: إنه يقال زنديق، ولا يقال منافق، فهذا جهلٌ منه، فإن لفظ "زنديق" لفظٌ معرَّبٌ لم يَنطِقْ به رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أصحابُه، ولكن نَطقتْ به الفُرسُ، فأخذَتْه العربُ فعرَّبَتْه. ومعنى الزنديق الذي تنازع الفقهاء في قبول توبته هو معنى المنافق الذي يُظهِر الإسلامَ ويُبطِن الكفرَ، ولهذا قال الفقهاء: إن الزنديق هو المنافق، وتنازعوا في قبول توبته. واحتجَّ الشافعي وغيرُه ممن يَرى قبولَ توبةِ الزنديق بأن المنافقين الذي كانوا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ علانيتَهم ويَكِلُ سَرائِرَهم إلى الله. وكذلك تكلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 الفقهاءُ من الطوائف الأربعة وغيرهم في أحكام الزنديق، مثل ميراثِه، ووجوب إعادة ما فعلَه من العبادات، وأمثال ذلك، وكلهم يحتجُّ على ذلك بأحكام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنافقين الذين كانوا على عهده، وذلك لعلم الأئمة أن الزنديق هو المنافق، وكل زنديق يُظهِر الإسلام ويُبْطِنُ الكفر فإنه منافق، يُسمَّى منافقًا، ويَدخُل في المنافقين المذكورين في القرآن، ومَن أنكر هذا فإنه يُستَتاب، فإن تاب وإلا قُتِلَ. واسم النفاق والكفر ونحوهما قد يُعبر به عن بعض شُعَبِ الكفر والنفاق، وهذا هو النفاق الأصغر وهو الذي خافَتْه الصحابةُ على أنفسهم، كما في صحيح مسلم (1) أن حَنْظَلَة الكاتب لَقِيَ أبا بكر الصديق فقال: نافقَ حنظلةُ، نافقَ حنظلةُ. وذكر البخاري (2) عن ابن أبي مُليكة قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد كلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه. وقد صنَّف جعفر بن محمد الفِرْيابي الحافظ كتابًا في صفة المنافق (3) ، ذكر فيه من الأحاديث والآثار ما لا يَتسِعُ له هذا الموضعُ، وقد قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)) ، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)) ، (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)) (4) ،   (1) برقم (2750) . (2) 1/109 (مع "الفتح") . (3) هو مطبوع. (4) سورة المائدة: 44، 45، 47. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 قال: كفرٌ دون كفر، وفسوقٌ دون فسوق، وظلمٌ دون ظلم (1) . وفي الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الشِّركُ في هذه الأمة أخفَى من دبيب النَّمْلِ، والرياءُ شرك" (2) وفي الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفرٌ: الطعنُ في الأنساب والاستسقاءُ بالأنواء" (3) . وفي حديث آخر: "لا تَرغَبوا عن آبائِكم، فإن كفرًا بكم أن تَرغَبوا عن آبائكم" (4) . ونظائر ذلك كثيرة، والله أعلم.   (1) انظر تفسير الطبري (6/165-166) . (2) أخرجه أحمد (4/403) عن أبي موسى الأشعري. (3) أخرجه مسلم (67) عن أبي هريرة، وفيه: "والنياحة على الميت" بدلاً من "الاستسقاء بالنجوم". (4) أخرجه البخاري (6830 ومواضع أخرى) عن عمر بن الخطاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 مسألة في رجل له دكانٌ يبيع فيها ويشتري، وهي بقُرب المسجد من غير حائلٍ بينهما، فهل يَجبُ عليه إذا أقيمتِ الصلاةُ وحضرت الجماعةُ أن يُصلِّي منفردًاَ في الدكان ويَتْرُكَ الجماعة؟ وهل يوجب (1) أن يُؤَخر الصلاةَ مع الجماعة ويُصلي في البيت ويقول: أنا أُؤَخّر الصلاةَ إلى نصف الليل وأُصلِّي في بيتي؟ الجواب لا يَجبُ عليه باتفاق المسلمين أن يُصلي منفردًا في الحانوت، بل َ هو مأمور باتفاق المسلمين أن يُصلِّي مع الجماعة، وإنما يَأمرُ بالصلاة منفردًا دون الجماعةِ أهلُ البدع المُضلَّة كالرافضة، وبعضُ ضُلاَّلِ النُسَّاك ونحوهم، وأما أهلُ السنة والجماعة فمن أعظم شعائرِهم الصلاةُ في الجمعة والجماعة. و الصلاةُ في الجماعة من أوكدِ ما شرعَه الله ورسولُه، بل هي واجبة، فقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لقد   (1) كذا في الأصل، ولعله "يجوز". (2) سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 هممتُ أن آمُرَ بالصلاة فتُقامَ، ثم أَنطلِقَ معي رجالٌ معهم حُزُمُ الحَطَب إلى قوم لا يَشهدون الصلاةَ، فأحرِّقَ بيوتَهم بالنار". وفي رواية (1) : "لولا ما في البيوت من النساء والذرية". فبيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إنما يَمنعُه من تحريقِ المتخلفين عن الجماعة أن في البيوت نساءً وذرية. وفي الصحيح (2) أن أعمى جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إنّي رجلٌ شاسعُ الدار، ولي قائد لا يُلائِمني، فهل تَجدُ لي رخصةً أن أصلّي في بيتي؟ قال: "هل تَسمع النداء"؟ قال: نعم، قال: "فأَجبْ". وفي رواية (3) : "هل تسمعُ النداء؟ " قال: نعم، قال: "لا أجد لك رخصة". وفي الصحيح (4) عن ابن مسعود أنه قال: شرعَ الله لنبيِّه سُننَ الهدى، وإنّ هذه الصلوات الخمس في المساجد التي يُؤذَّن بها من سُنن الهدى، وإنكم لو صلَّيتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتُم سنةَ نبيكم، ولو تركتُم سنةَ نبيكم لضَلَلْتُم، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاق. وإذا ظهر من الرجل [الانفرادُ] بما يجب عليه من الصلاة وواجباتها فإنه يستحق على ذلك العقوبةَ البليغة، التي تَحمِلُه وأمثالَه على أداءَ   (1) سبق تخريجها. (2) سبق تخريجه. (3) سبق تخريجها. (4) سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 الواجبات وإقامةِ شرائع الدين، ومتى ادَّعَى ما يظهر خلافه لم يُقْبَل منه، بل يُؤمَر أن يصلي مع المسلمين، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1) : "تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَرْقُبُ أحدُهم الشمسَ حتى إذا كانتْ بين قَرْنَي الشيطانِ قامَ، فَنَقَرَ أربعًا لا يذكر الله فيها إلاّ قليلا". ومن قال: إنه يُؤخر العشاءَ حتى يُصليها بعد نصف الليل، فإنه لا يُقَرُّ على ذلك، بل يُعاقَب حتى يُصلي الصلاةَ في وقتِها وقتِ الاختيار، فإن تأخيرَ العصر إلى [ما] بعد الاصفرارِ وتأخيرَ العشاءِ إلى ما بعد نصف الليل لا يَجوزُ مع القدرة، بل يجوز ذلك لمن لم تُمكِنْه الصلاةُ وقتَ الاختيار، كالحائض تطهر، والمجنون يُفيق، والنائم يستيقظ، والكافر يُسلم، ونحو ذلك، والله أعلم.   (1) مسلم (622) عن أنس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 مسألة في مسلم تاركِ الصلاة ويُصلي يومَ الجمعة، فهل يَجِبُ عليه اللعنةُ؟ الجواب الحمد لله، هذا يَستوجبُ العقوبةَ باتفاق المسلمين، والواجبُ عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد أن يُستَتابَ، فإن تاب وإلا قُتِلَ. ولعنُ تاركِ الصلاة على وجهِ العموم جائزٌ، وأما لعنةُ المعينِ فالأولى تركُها، لأنه يُمكِنُ أن يتوبَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 مسألة في رجلٍ يصوم ولا يُصلِّي ويَلْعَبُ بالنَّرْدِ. الجواب الحمد لله رب العالمين، الصلاةُ أعظم من الصيام، وتاركُ الصلاة المفروضة أعظمُ إثمًا من تاركِ الصيام. وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من فاتَتْه صلاةُ العصر حَبطَ عملُه". وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الذي تفوتُه الصَلاةُ صلاة واحدةٌ فكأنما وُترَ أَهْلُه ومالُه" أي سُلِبَ أهلُه ومالُه. فإذا كان هذا فيمن تفوتُه صلاةٌ واحدةٌ فكيف بمن يفوتُه أكثرُ من صلاة؟ فكيف بمن يترك الصلاة؟ وقد ثبتَ في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس بين العبدِ وبينَ الشركِ إلاّ تركُ الصلاة". وتاركُها مستحق للعقوبةِ البليغةِ بإجماع المسلمين، ويُستَتاب، فإن تابَ وإلا قُتِلَ. وأما لعبُ النرد فهو حرامٌ باتفاق العلماء.   (1) عند البخاري (553، 594) عن بريدة بلفظ "من تركَ صلاةَ العصر ... " ولم يروه مسلم. (2) البخَاري (552) ومسلم (626) عن ابن عمر بلفظ "الذي تفوتُه صلاةُ العصر ... ". (3) سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 مسألة فيمن عنده زوجةٌ ما تُصَفَي، هل تَحرمُ عليه؟ أو يَنْفَسِخُ العقدُ الذي عُقِدَ بينهما؟ ولها عليه صداقٌ ثقيل ولم يَقْدِرْ على شي؟ منه، ويخافُ إنْ يُفارِقْها يُطَالَبْ بشيٍ لا يَقدِرُ عليه. الجواب الحمد لله، أما إقرار الزوجةِ أو غيرِها ممن هو تحت طاعةِ الرجل على ترك الصلاة فهو حرام بإجماع المسلمين، والمُقِرُّ على ذلك مع القدرة على الإنكار آثم فاسقٌ عاص بلا نزاع، بل الأمرُ بالصلاة لمن ليسَ تحت طاعةِ الرجل فرض على الكفاية، إذا تركَه الناسُ عَصَوا وأَثِمُوا، واستحقوا جميعهم عقابَ الله، فكيف تَرْكُ الأمرِ بذلك لمن هو في طاعته؟ وقد قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (1) ، وما أمر اللهُ به نبيه فهو أمرٌ لأمته ما لم يَقُمْ دليل على التخصيص، ولا تخصيصَ هنا بالاتفاق، فيجبُ على كل مسلم أن يأمر أهلَه بالصلاة. وكذلك قال تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) (2) ، قال عليه الصلاة والسلام: عَلِّموهم وأدِّبُوهم.   (1) سورة طه: 132. (2) سورة التحريم: 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 وإذا عَلِمَ الرجلُ أن المخطوبة لا تصلي كان تزوُّجُه أشَرَّ مما إذا علِمَ أنها قَحْبةٌ أو سارقةٌ أو شاربةُ خمر، فإن تاركَ الصلاة شرٌّ من السارق والزاني باتفاق العلماء، إذْ تاركُ الصلاة سواءٌ كان رجلاً أو امرأةً يَجِبُ قتلُه عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، والسارقُ لا يَجبُ قتله، ولا يَجبُ قتلُ الزانية التي لم تُحصن باتفاق العلماء، وإنَ كانت بكرًا بالغًا عند أبوَيها وهي لا تصلي كانت شرًّا من أن تكون قد زَنَتْ عندَهم أو سَرَقَتْ، وإذا كان الناسُ كلُّهم يُنكِرون أن يتزوَّجَ الرجلُ بسارقةٍ أو زانيةٍ أو شاربةِ خمر ونحو ذلك فيجبُ أن يكون إنكارُهم لِتزوُّجِ من لا تصلِّي أعظمَ وأعظمَ باتفاق الأئمة. فإنّ التي لا تصلي شرٌّ من الزانية والسارقة وشاربة الخمر. وليس لقائل أن يقول: فالمسلمُ يَجوزُ له أن يتزوَّجَ اليهوديةَ والنصرانيةَ، فكيف بهذه؟ لأنَّ اليهودية والنصرانية تُقَرُّ على دينها، فلا تُقْتَل ولا تُضْرَب، وأما تاركُ الصلاة والسارق والشارب والزاني فلا يقر على ذلك، بل يُعاقَب إما بالقتلِ وإما بالقطع وإما بالجَلْد، وإن كان عقابُه في الآخرة أخف من عقاب الكافر، لكن لا يجوز لغيره أن يُقِرَّه على فسقِه، فمن أقرَّ فاسقًا على فسقِه ولم ينكر عليه كان عاصيًا آثمًا، ومن أقر ذميًا على دينه لم يكن آثمًا ولا عاصيًا، وقد قال تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) (1) أي النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، والنساء الطيبات للرجال الطيبين،   (1) سورة النور: 26. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 والخبيثة هي الفاجرة، فهي للرجل الخبيث الفاجر. والخُبْثُ إنْ قيلَ المرادُ به الزنا دل على أن تزوجَ الزانيةِ لا يجوزُ حتى تتوب، وهو أصحُّ قولَي العلماء، لقوله تعالى: (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) (1) ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى رجلاً أن يتزوَّج امرأة كان يزني بها اسمها عَنَاق (2) ، وأنزَل الله هذه الآية في ذلك، ولهذا كان المتزوجُ بها مذمومًا عند عامةِ العقلاء، حتى يقال: شَتَمَهُ بالزين والقاف، أي قال له: يا زوجَ القَحْبَة. والحديثُ الذي يُروَى في الرجل الذي قال: إن امرأتي لا تَردُّ كف لامسٍ، قد ضعَّفُوه (3) ، ولا شكَّ أنَّ الزانيةَ يُخافُ منها إفسادُ الفراش، وهو من هذا الوجه شرٌّ من غيرها، بخلاف مَن كان فسقُها بغير ذلك، ولهذا يقال: ما بَغَتِ امرأةُ نبى قط، لكن عقوبةَ المرأة التي تَترك الصلاةَ أعظمُ من عقوبةِ بعض البغايا فالمتزوجُ بها يكون قد أقر في بيته من المنكرات أعظمَ من أن يُقِر عنده أختَه الزانية وبنتَه الزانية. وأما انفساخ النكاح بمجرد التركِ فلا يُحكَم بذلك، لكن إذا   (1) سورة النور: 3. (2) أخرجه أبو داود (2051) والترمذي (3177) والنسائي (6/54) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الترمذي: حسن غريب. وصححه الحاكم (2/166) . (3) أخرجه أبو داود (2049) والنسائي (6/67، 169، 170) عن ابن عباس. قال النسائي: هذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 دُعِيَتْ إلى الصلاة وامتنعتْ انفسخَ نكاحُها في أحد قولَي العلماء، وفي الآخر لا ينفسخ، لكن على الرجل أن يقومَ بما يَجبُ عليه. وليس كلُّ من وجبَ عليه أن يطلِّقَها ينفسخُ نكاحُها بلاَ فعله، بل يقال له: مرْها بالصلاة وإلاّ فَارِقْها، فإن كان عاجزًا عن ذلك لِثِقَلِ صَداقِها كان مُسِيْئًا بتزوجه مَن لا تُصلِّي على هذا الوجه، فيتوبُ إلى الله من ذلك، ويَنوِيَ أنه إذا قَدَرَ على أكثر من ذلك فَعَلَه، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 مسألة فيمن لا يُصلِّي هل تُجَابُ دعوتُه إذا دعَا أحدًا؟ الجواب أما من لا يصلي فلا ينبغي أن يُسلَّم عليه، ولا تُجاب دعوتُه، بل هو مستحق للقتل، فإذا هُجِرَ فلم يُسَلم عليه ولم تُجَبْ دعوتُه كان ذلك أخفَّ ما يُعاقَبُ به. مسألة في رجل ذُكِرَ له الصلاةُ، فقال: قال الله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ) (1) ، فقيل له: اقرأ بقيةَ الآية، فقال: كلمةٌ تكفي العاقلَ، وهو يَضحكُ، فما يَجِبُ عليه؟ الجواب هذا الرجلُ مُستهزىء بآياتِ الله، يُستَتاب، فإن تَابَ وإلا قُتِلَ.   (1) سورة النساء: 43. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 مسألة في الميت وخروجه على زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهل المرور بالميت بالمقربين، وخروج النساء صحبة الميت، وخروجهم إلى القبر اليومَ الثالث، ومَن يصنع موضع غسل الميت خبزا وماء وسراجا إلى ثلاثة أيام، والقراءة على القبر ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث نسق القبر بأيديهم، والضرب بالدفوف والشبابات، هل يُكْرَه ذلك أم لا؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، كان الميتُ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخرُج به الرجال، يَحملونه إلى المقبرة ويُسرِعون به وعليهم السكينة، لا يخرج معهم النساءُ، ولا يَرفعُ الرجالُ أصواتَهم لا بقراءةٍ ولا غيرها. وهذه هي السنة باتفاق علماء المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، لا يستحبون أن يكون مع الميت شيءٌ من الأصوات المرتفعة ولو كانت بالقراءة. قال قيس بن عُبادة -وهو من كبار التابعين الذين صحبوا عليَّ بن أبي طالب-: كانوا يَستحبُّون خَفْضَ الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند التحامِ الحربِ. وذكروا أن عبد الله بن عمر سمعَ رجلاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 في جنازة يقول: استغفروا لفلان، فقال عبد الله بن عمر: لا غفر اللهُ للأبعد، قال ذلك نهيًا له عن هذه البدعة. وقال سعيد بن المسيب لما احتُضِرَ: إيايَ وحادِثكُم هذا الذي تَرَحموا على سعيد، استغفرُوا لسعيد. وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن يتبع الجنازة بصوت أو نار. وفي الصحيحين (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أَسْرِعُوا بالجنازة، فإن كانت صالحةً فخيرٌ تُعجلونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم". وفي السنن (3) : "أسرِعوا بالجنازة ولا تَدِبوا بها دَبِيْبَ اليهود". والآثار في ذلك متعددة. وخروج النساء في الجنائز منهي عنه، لا سيما إذا كان النساء يَنُحْنَ أو يَضْرِبن خدودَهن ويرفعن أصواتَهن، فإن هذا نزاع بلا ريب، سواء فَعلتْه مع الجنازة أو في حال غَيْبَتِها، لكنه معها بحضور الرجال أشدُّ. وفي الصحيحين (4) عن أتم عطية قالت: نُهِينا عن اتباع الجنائز. وفي السنن (5) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نسوةً مع جنازةٍ، فقال لهن: "هل تَحمِلْنَ مع مَن يَحمِلْن؟ " قلن: لا، قال: "هل تَحْفِرن   (1) أخرجه أبو داود (3171) وأحمد (2/528، 531) عن أبي هريرة. (2) البخاري (1315) ومسلم (944) عن أبي هريرة. (3) بل أخرجه أحمد (2/363) عن أبي هريرة. (4) البخاري (1278) ومسلم (938) . (5) أخرجه ابن ماجه (1578) والبيهقي في السنن الكبرى (3/77) عن علي. وهو حديث ضعيف، انظر "الضعيفة" للألباني (2742) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 مع من يَحفِرن؟ " قلن: لا، قال: "هل تُدلِيْن مع من يُدْلِي؟ " قلن: لا، قال: "فارجعنَ مأزورات غيرَ مأجورات، فإنكن تَفتِنَّ الحيَّ وتُؤذِينَ الميتَ". ومعنى قوله: "تُؤذِينَ الميت" أي بالنياحة، فإنه قد ثبتَ عنه في الصحيح أنه قال: "مَن نِيْحَ عليه يُعذَّبُ بما نِيْحَ عليه". وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في غير هذا الموضع (1) ، وبيَّنّا أن ما يَحصُل للألم بنياحة الحيِّ ليس عقوبة له على ذنب غيره، بل النائحةُ تُعاقَب على نياحتها، كما ثبت في صحيح مَسلم (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن النائحةَ إذا لم تَتُبْ قبل موتها فإنها تُلبَسُ يومَ القيامة دِرْعًا من جَرَب وسِربالاً من قَطِران". فالميت ما يَحملُ وِزْرَ النائحة، بل يَحصُل له بنياحتها من الألم الذي يتعذب به ما أخبر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس كلُّ ألم يَحصُل للإنسان بسبب من الأسباب يكون عقوبةً عليه، وفي الصحيحين (3) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس منا من لَطَمَ الخدودَ وشقَّ الجيوبَ ودعا بدعوى الجاهليةِ". فقد تَبرَّأ ممن لَطَم الخدود وشقَّ الجيوب، والجيبُ هو طوقُ الثوب، كما يَفعَلُه بعضُ المُصَابين حين يَشُق ثيابَه. والدعاء بدعوى الجاهلية مثل أن يقول: يا رُكْنَاه! يا عضداه! يا ناصراه! ونحو ذلك، وهذا هو الندب، لأنه يَندُب الميتَ، أي يدعوه، والميت لا يُجيب دعاءَه، ولا منفعةَ في هذا الندب لا للحيّ وللميت،   (1) انظر مجموع الفتاوى (24/369-372) . (2) برقم (934) عن أبي مالك الأشعري. (3) البخاري (1297، 1298، 1294، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 بل فيه ضرر عليهما، فإنه قد ثبت أن عبد الله بن رواحة أُغميَ عليه، فجعلتْ أختُه تندُبُ عليه، فلما أَفَاق قال: ما قلتِ فيَّ شيء إلاّ قيل لي: أنتَ كذلك؟ أنتَ كذاك؟ (1) . وفي الصحيحين (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه تبرَّأ من الحالقة والصالقة والشاقة. فالحالقة التي تَحلِق شعرَها عند المصيبة، والصالقة التي تَرفع صوتَها بالمصيبة، والشاقةُ التي تشق ثيابَها عند المصيبة. والأحاديث في ذلك كثيرة، حتى قال جرير بن عبد الله البجلي: كنا نَعُدُّ الاجتماعَ إلى أهل الميت وصُنْعَهم الطعام من النياحة، رواه أحمد (3) أي إذا اجتمعَ الناس وصَنَع أهلُ الميت للناس وليمةً، فهذا من عمل الجاهلية، وإنما السنة أن يُصنَعَ لأهل الميتِ طعامٌ لاشتغالِهم بمصيبتهم، كما قالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتاه نَعِيُّ جعفر: "اصنعَوا لآلِ جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يَشْغَلهم" (4) . وعملُ العرسِ للميت من أعظمِ البدع المنكرات، وكذلك الضرب بالدفوف في الجنائز على وجه النياحةَ منكرٌ باتفاق العلماء، لم يرخّصْ أحدٌ من أهل العلم في ضرب الدفوف في الجنائز والموت،   (1) سبق تخريجه. (2) البخاري (1296) ومسلم (104) عن أبي موسى الأشعري. (3) 2/204. ورواه أيضًا ابن ماجه (1612) ، وصححه النووي في المجموع (5/320) . (4) أخرجه أحمد (1/205) وأبو داود (3132) والترمذي (998) وابن ماجه (1610) عن عبد الله بن جعفر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 فكيف بالشبابات؟ وإنما يُضْربُ بالدَّفّ في عُرسِ النكاح ونحوه، كما جاءت به السنةُ، مع أن بعض السلف كره ذلك مطلقًا، لكن الصحيح أنه يُفَرقُ بين الضرب به في الموت أو في الفرح، وكان دَفهم ليس له صَلاصِلُ، ولهذا تنازعَ العلماء في الدف المصلصل على قولين. وأما الشبابة فلم يُرخّص فيها أحد من الأئمة الأربعة لا في عرس ولا موت. وكذلك ما يفعله بعض المُصَابين من كشف الرءوس ونَشْر الشُّعور، ولُبْسِ المسوح، ونَبْذِ الأواني والبُسُط، أو كَسْرِ بعض ذلك، أو هَلْب الخيل، أو تقليب سُرُوجها، أو تقليب الكيات التي على رءوس أتباعه، أو وضع التين في دارِه، وما أشبهَ هذه الأمور، فكل ذلك من المنكرات التي هي من جنس عمل أهل الجاهلية. وكذلك وضعُ الفواكه والمشمومات عنده، أو إلباسُ الميتةِ حُلِيها أو جميلَ ثيابها كما يُصنَع بالمرأة العروس، ونحو ذلك كله من المنكرات التي هي من جنس عمل الجاهلية، وكذلك وضعُ طعام وشراب في مُغتسلِهِ أو إِيقادُ ضوءِ في مُغتَسَلِه كل ذلك من البدع المنكرة التي لا أصل لها، وكذلك شق تراب قبره بعد ثلاثٍ، بل الاختلافُ إلى قبره صبيحةَ موته أو ثالثه وسابعهُ ورأسَ شهرِه ورأسَ حوله هو أيضًا من البدع التي لم يكن يُفعل عهدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه، وإنما قال عمرو بن العاص لما احْتُضِرَ: اجلسُوا عند قبري قدرَ ما يُنْحَر جَزُور ويُقسم لحمُها، أَستأنِسُ بكم وأَنظُر ماذا أراجِعُ به رُسُلَ ربي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 وأما الصدقة عن الميت فإنها تنفعه، كما ثبت ذلك بنص سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتفاق أئمة المسلمين، ففي الصحيح (1) أنه قال سعد: يا رسول الله! إنّ أمي افْتُلِتَتْ نفسُها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: "نعم"، وأما إخراجُ الصدقة مع الجنازةِ فبدعة مكروهةٌ، وهو يشبه الذبح عند القبر، وهذا مما نَهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في السنن (2) عنه أنه نهى عن العَقْر عند القبر. وتفسيرُ ذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات فيهم كبيرٌ عَقَروا عند قبره ناقة أو بقرة أو شاة أو نحو ذلك، فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، حتى نص بعضُ الأئمة على كراهةِ الأكل منها، لأنه يُشبهُ الذبحَ لغير الله. قال بعض العلماء: وفي معنى ذلك ما يفعلُه بعضُ الناس من إخراجِ الصدقات مع الجنازة من غنم أو خبز أو غير ذلك، وهذا فيه عدةُ مفاسدَ: منها: أن مُشَيعي الجنازة تَشتغِلُ قلوبُهم بذلك. الثاني: أنه يتبعُ الميتَ من ليس له غرض إلاّ في أخذِ ذلك. الثالث: أنهم يختصمون عليها. الرابع: أنه يأخذها الغالبُ غيرَ مستحق ويُحرَمُ المستحق.   (1) البخاري (1388، 2760) ومسلم (1004) عن عائشة. (2) أخرج أبو داود (3222) والنسائي (4/16) وأحمد (3/197) عن أنصر مرفوعًا: "لا عَقرَ في الإسلام"، قال عبد الرزاق: كانوا يَعقِرون عند القبر، يعني ببقرةِ أو بشيء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 الخامس: أنه قد يكون على الميتِ دَينٌ أو في ورثتِه صغارٌ. السادس: أنها تُصنَع رياءً. فمن أحبَّ أن ينفعَ ميّتَه بصدقةٍ عنه فليتصدقْ بما يسَّره الله تعالى على من يثيبه الله بالصدقة عليه، فإن الصدقةَ إذا وصلتْ إلى المستحقّ الذي ينتفع بها محمولةً إليه كان أعظمَ للأجر والثواب، وكان في ذلك اتباعٌ للسنة والتخلصُ من البدعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 مسألة في قوم يقرءون قُدامَ الموتى على طريقة الغناءِ، ويَقِفُون بالميت قليلاً بعد قليل لأجل النقوط، فقالت جماعةٌ: هذا حرام على المقرىء والمعطي، وقالت جماعة: مكروه، والمرادُ بيانُ ذلك. الجواب الحمد لله رب العالمين، نعم الوقوفُ بالميتِ ليقرأَ القُرّاءُ مما يُنْهَى عنه، ولو لم يكن لأجلِ تنقيطِهم، فإذا كان كذلك فهو زيادةُ شرٍّ على شرِّ، بل مجردُ الوقوف بالميت منهي عنه مطلقًا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أَسرِعُوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غيرَ ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم" (1) . وقال: "أَسرِعوا بالجنازة ولا تَدِبُّوا دبيبَ اليهود" (2) . و القراءةُ على الجنازة بدعة مكروهة باتفاق الأئمة الأربعة، فإذا وَقفوا تضاعفتِ المكروهاتُ، والإعطاءُ نقوطًا لمثل هؤلاء مما يُنْهَى عنه فاعلُه، ولا يثابُ عليه، فإنه بإعطائه أعانَ على ما يَكرهُه الله ورسولُه، والله أعلم.   (1) أخرجه البخاري (1315) ومسلم (944) عن أبي هريرة. (2) أخرجه أحمد (2/364) عن أبي هريرة بلفظ "انبسطوا بها ولا ... ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 مسألة المسئولُ أن يُبيَّنَ لنا عن هذه المشاهد، ومَن ابتدعها، وفي زيارتها، وما صحَّ من الأنبياء والصحابة في دفنِهم على ما ذكروا عند جامع بني أمية وغيره، وخالد بن الوليد ذُكِر أنه كان تُربتُه [في] حمص ورِجْله تخط الأرض. وهل يجوزُ التبرك بالمشهد أو زيارة رجل ميت؟ ومن يقول: "بحرمة فلان اقْضِ حاجتي" أو يَندُب له؟ وكيف تكون زيارةُ الرجل الصالح وما صحَّ من دَفْن الأنبياء؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذه المسائل متضمن أصلَيْنِ: أحدهما: هذه المقابر والمشاهد وما فيها من حق وباطل، فنقول : القبور ثلاثة أقسام: منها: ما هو حقّ لا ريبَ فيه، مثل قبر نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه أبي بكر وعمر، فإن هذا منقول بالتواتر، وإن كان بعضُ الرافضة تطعَن في قبرِ أبي بكر وعمر، فهؤلاء مُكابرونَ بَهَّاتُونَ، بمنزلة مَن يُنكِر قبرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 ومنها: ما هو كذب بلا ريب، مثل القبر المضاف إلى أبي بن كعب الذي شرقيَّ دمشقَ، فإن الناس متفقون على أن أبي بن كعب مات بالمدينة النبوية، وكذلك أمهاتُ المؤمنين كلُّهنّ تُوُفِّيْنَ بالمدينة، فمن قال: إنَّ بظاهرِ دمشق قبرَ أم حبيبة أو أم سلمة أو غيرهما فقد كذبَ. ولكن من الصحابيات بالشام امرأةٌ يُقال لها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن، فهذه توفيتْ بالشام، فهذه قبرُها محتملٌ. كما أن قبرَ بلال ممكنٌ فإنه دُفِنَ بباب الصغير بدمشق، فنعلم أنه دُفنَ هناك، وأما القطع بتعيُّنِ قبرِه ففيه نظر، فإنه يقال: إنّ تلك القبورَ حَدَثَتْ. وكذلك القَبرُ المضافُ إلى أُويس القرني غربيَّ دمشقَ كَذِبٌ بلا ريب، وقد روى أبو عبد الرحمن السُّلَمي حكايةً فيها أنه تُوفي بدمشق، وهي باطلة قطعا، فإن أويسًا لم يجِيءْ إلى الشام وإنما ذهبَ إلى العراق. وكذلك القبر المضاف إلى هُوْدٍ بجامع دمشق كذبٌ باتفاق أهل العلم، فإن هودًا لم يَجِىءْ إلى الشامِ، بل بُعِث باليمن وهاجرَ إلى مكة، فقيل: إنه ماتَ باليمن، وقيل: إنه مات بمكة، وإنما ذلك تلقاءَ قبرِ معاوية بن أبي سفيان، فإن خلفَ الحائطِ تابوت مكتوبٌ فيه اسمُ معاويةَ بن أبي سفيان. وأما الذي خارجَ باب الصغير الذي يُقالُ: إنه قبرُ معاوية، فإنما هو معاوية بن يزيدَ بن معاوية الذي تولى الخلافة مدةً قصيرةً ثم مات، ولم يَعهَد إلى أحد، وكان فيه دين وصلاح، ولكن لما اشتهر أنه قبر معاوية ظنّ الناسُ أنه معاوية بن أبي سفيان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وهكذا يُقالَ في قبر خالد أنه خالد بن يزيد بن معاوية أخو يزيد هذا، ولكن لما اشتهر أنه خالد والمشهور عند العامة خالد بن الوليد ظنُّوا أنه خالد بن الوليد، كان قد عزلَه عمر بن الخطاب لما تولى عن إمارةِ الشام. وقد اختُلفَ في هذا الذي بحمص هل هو قبرُه أو قبرُ خالد بن يزيد، وكذلك اختُلِف في قبر أبي مسلمٍ الخولاني الذي بداريَّا على قولين، وكذلك قبورٌ غيرُ هذه اختَلَفَ الناسُ فيها، وهذا هو القسم الثالث، وهو الذي اختلفَ فيه أهلُ النقل، فإن كان مع أحدهما ما يُرَجِّح به نقلَه تَرَجح. وأما المكذوبُ قطعًا فكثيرٌ، مثل قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناسِ ودُفِنَ بالبقيع، ويُقَالُ إن قُبةَ العباس بها قبرُه وقبرُ الحسن وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد، وفيها أيضًا رأسُ الحسين، وأما بدنُه فهو بكَرْبَلاءَ باتفاق الناسِ. والذي صحَّ ما ذكره البخاري في صحيحه (1) من أن رأسَه حُمِلَ إلى عبيد الله بن زياد، وجَعل يَنكُتُ بالقَضيب على ثناياه، وقد شهد ذلك أنس بن مالك، وفي رواية أخرى أبوَ بَرزةَ الأسلمي، وكلاهما كانا بالعراق، وقد رُوِي بإسناد منقطع أو مجهولٍ (2) أنه حُمِلَ إلى يزيدَ، وجَعل يَنكُت بالقضيبِ على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضرًا وأنكر ذلك. وهذا كذبٌ، فإن أبا برزةَ لم يكن بالشام عند يزيدَ، وإنما كان بالعراق.   (1) برقم (3748) عن أنس بن مالك. (2) انظر تاريخ الطبري (5/465) والبداية والنهاية (11/559) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 وهذا كما يرويه الكذابون أن أهل البيت سُبُوا وحُمِلوا على الجمال فنبتت لها سَنامان، فإن كل عاقل يعلم أن هذا كذب، وقد كانت البَخَاتِيُّ موجودةً في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبل ذلك، وكما يروون أن الحجاج بن يوسف قتِلَ أشرافَ بني هاشم، وهذا كذبٌ أيضًا، فإن الحجاج مع ظلمه وغشمِه صَرَفَه الله عن بني هاشم، فلم يقتل منهم أحدًا، وبذلك أمرَه خليفته عبد الملك، وقال: إياك وبني هاشم أن تتعرضَ إلى أحدٍ، فإني رأيت آل حرب لما تعرضوا للحسين أصابَهم ما أصابهم، أو كما قال. ولم يُقتَل في دولة بني مروان من الأشراف بني هاشم مَن هو معروف، لأنّ زيد بن علي بن الحسين لما صُلِبَ بالكوفة، وقد تزوَّج الحجاج ابنةَ عبد الله بن جعفر وأعظَم صداقَها، فلم يَرَوه كفؤًا لها وسَعَوا في مفارقتِه إيّاها، ولكن ذكر الناس أن الحجاج كان يَقتُل الأشراف أشرافَ الناس وهم رؤوسُ قبائل العرب، فظنَّ من ظنَّ أنهم بنو هاشم، وتخصيصُ لفظ الأشراف بهم عُرْفٌ حادثٌ، والشرف هو الرئاسة، كالحديث الذي رواه الترمذي (1) وصححه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما ذئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ بأفسَد لها مِن حرصِ المرء على المال والشرف لدينه". وفي الصحيح (2) عن عائشة أن قريشًا أهمهم شأنُ المخزومية،   (1) برقم (2733) عن كعب بن مالك. وأخرجه أيضًا أحمد (3/456، 460) والدارمي (2733) . ولابن رجب جزء في شرح هذا الحديث. (2) البخاري (6787 ومواضع أخرى) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 فقالوا: مَن يكلِّم فيها رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالوا: ومن يَجترىءُ عليه إلاّ أسامة بن زيد، فكلَّمه فيها فغضِبَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "إنما هلكَ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سَرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفس محمد بيدِه لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدَها". فهذه كانت من أشرافِ قريش، وكانت مخزوميةً. وكذلك قبرُ نوح الذي بجبلِ بَعلبكَّ كذب قطعًا، وإنما ظهر من مدّةٍ قريبةٍ، وقد بَيَّنْتُ حاله لما سألني عنه أهلُ الناحية وتبيَّن أنه لا أصلَ له. وكذلك مشهدُ الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في مقتلِ الحسين اتفقوا على أن الرأس لم يُعرَف، وأهلُ المعرفة بالنقل يعلمون أنّ هذا أيضًا كذب، وأصله أنه نُقِل من مشهدٍ بعسقلانَ، وذاك المشهدُ بنيَ قبلَ هذا بنحوٍ من ستين سنةً في أواخرِ المائة الخامسة، وهذا بنيَ في أثناء المائة السادسة بعد مقتلِ الحسين بنحوٍ من خمسمائة عام، والقاهرة بُنيَتْ بعدَ مقتلِ الحسين بنحو من ثلاثمائة عام، وهذا المشهد بُنيَ بعد بناءَ القاهرة بنحو مائتَي عام. وكذلك قبرُ علي عليه السلام الذي بباطنةِ النَّجَفِ بالكوفة، فإن المعروف عند أهل العلم أنه دُفِن بقصرِ الإمارة بالكوفة، كما دُفِن معاوية بقصر الإمارة بالشام، ودُفِنَ عمرو بقصر الإمارة بمصر، خوفًا عليهم من الخوارج أن يَنْبشوْا قبورَهم، فإن الخوارج كانوا قد تَحالَفوا على قتلِهم، فقتلَ عبدُ الرحمن بن مُلجم عليًّا عليه السلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 وهو خارج إلى صلاة الفجر بمسجد الكوفة باتفاق الناس، ومعاوية ضربَه الذي أراد قتلَه على ألْيَتِه فعُولج من ذلك وعاشَ، وعمرو بن العاص استخلفَ على الصلاة رجلا اسمه خارجة، فضربَه الخارجي فظنَّه عمرا، وقال: أردتُ عمرا وأرادَ الله خارجةَ. ومثل قبر جابر الذي بظاهر حَرانَ، فإن الناس متفقون على أن جابرًا تُوفي بالمدينة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة بها. ومثل قبر عبد الله بن عمر الذي بالجزيرة، فإن الناس متفقون على أن عبد الله بن عمر ماتَ بمكة عامَ قَتْلِ ابن الزبير، وأوصَى أن يُدفن في الحلّ لكونه من المهاجرين، فشق ذلك عليهم، فدَفنوه بأعلى مكة. وكثير من هذه الأسماء يَقع فيها الغلطُ من جهة اشتراك الأسماء، كما وقعَ في قبر معاوية وغيره بسبب اشتراك اللفظ، فلعل رجلاً اسمه جابر أو عبد الله بن عمر دُفِن هناك، فظنَّ الجهال أنه الصاحبُ لشهرتِه، ثم اشتهر ذلك. وكذلك رقية وأم كلثوم مما هو مدفون بالشام أو مصر أو غيرهما، قد يظنّ بعضُ الناس أنه قبر رقية بنت النبي أو أمّ كلثوم بنته، وقد اتفق الناس على أن رقية وأم كلثوم ماتَتَا في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة تحت عثمان بن عفان وبهما يسمَّى ذا النورين، وكذلك زينب بنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفيتْ في حياتِه، ولم يخلف من بناته إلاّ فاطمة، ولم يخرج أحدٌ من بناته إلى الشام ولا مصر ولا غيرهما من الأقاليم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 والمسجد الذي بجانب عُرَنَةَ الذي يُقال له مسجد إبراهيم، فإنّ بعض الناس يظن أنه إبراهيم الخليل، وإِنما هو من ولد العباس، والمسجد إنما بنيَ في دولة العباسية علامةً على الموضع الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهرَ والعصرَ يومَ عرفة، فإنه أقام بنَمِرَةَ إلى حينِ الزوال، ثم ركبَ فأتَى بطنَ عُرَنَةَ عند المكان الذي بُني فيه هذا المسجدُ، فخطبَ على راحلته، ثم نزلَ فصلَّى بهم هناك الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، ثم أتى الموقفَ بعرفات. وكان بحرَّان مسجدٌ يقال له مسجد إبراهيم، فيظنُّ الجهال أنه إبراهيم الخليل، وإنما هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الذي كانت دعوة الخلافة العباسية له، وحُبسَ هناك ومات في الحبس، وأوصى إِلى أخيه أبي جعفر الملقب بالَمنصور. و القبورُ المختلَفُ فيها كثيرة، منها قبر خالد بن الوليد كما تقدم، فإنّ فيه قولين ذكرهما أبو عمر ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" (1) : توفي بحمص، وقيل: توفي بالمدينة، سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأوصى إلى عمر بن الخطاب، قال: وروى يحيى بن سعيد القطّان [عن سفيان] (2) عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل قال: بلغَ عمرَ بن الخطاب أن نسوةً من نساءِ بني المغيرةِ اجتمعن في دار يَبكينَ على خالد بن الوليد، فقال عمرُ: وما عليهنّ أن يبكين على أبي سليمان   (1) 1/409. (2) زيادة من "الاستيعاب". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 ما لم يكن نَقْع أو لقلقلة. وأما قبرُ الخليل عليه السلام قالت العلماء على أنه حق، لكن كان مسدودًا بمنزلةِ حجرةِ النبي، ولم يكن عليه مسجد، ولا يصلِّي أحدٌ هناك، بل المسلمون لما فتحوا البلادَ على عهد عمر بن الخطاب بنوا لهم مسجدًا يصلُّون فيه في تلك القرية منفصلاً عن موضع الديْر، ولكن بعد ذلك نُقبتْ حائطُ المقبرةِ كما هو الآن النقبُ ظاهرٌ فيه، فيُقال: إن النّصارى لما استولَوا على البلاد نَقبوه وجَعلوه كنيسةً، ثم لما فتحَه المسلمون لم يكن المتولي لأمرِه عالمًا بالسنة حتى يَسُده ويتخذَ المسجدَ في مكانٍ آخر، فاتخذ ذلك مسجدًا وكان أهل العلم والدين العالمون بالسنة لا يُصلون هناك. فصل الأصل الثاني: أن هذه المشاهد والقبور المضافة إلى الأنبياء والصالحين إنما اضطربَ النقلُ فيها ووقعِ فيها الكذبُ والاشتباهُ لأن ضبطَها ليسَ من الدين، والله تعالى قد ضمنَ حفظَ ما نزلَه من الذكر بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) (1) ، والله قد نزل الكتابَ والحكمة، كما قال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ) (2) ، والحكمة: السنة، كما قال ذلك   (1) سورة الحجر: 9. (2) سورة البقرة: 231. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 غيرُ واحدٍ من السلف، كقتادة ويحيى بن أبي كثير والشافعي وغيرهم، بدليل قوله: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) (1) ، والذي كان يتلَى في بيوتهنّ هو القرآن والسنة، فالذكر الذيْ نزَّله الله ضمِنَ حفظَه، فلهذا كانت الشريعة محفوظةً مضبوطةً، ومن الشريعة أن هذه المشاهد والقبور لا تُتخَذُ أربابًا، بل زيارة القبور نوعان: شرعية وبدعية: فالزيارةُ الشرعية أن يُسَلم على الميتِ ويَدعو له، كما يُصلِّي على جنازته، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُعلم أصحابَه إذا زاروا القبورَ أن يقول قائلُهم: "السلامُ عليكم أهلَ الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمينَ منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافيةَ، اللهمَ لا تَحرِمْنَا أجرَهُم، ولا تَفْتِنا بعدَهم، واغفر لنا ولهم" (2) . فهذا الدعاء للميت من جنس الدعاء على جنازته إذا حضرتْ، وقد قال الله تعالى لنبيه في حق المنافقين: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (3) ، فلما نهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم دلَّ ذلك بطريقِ مفهومِ الخطابِ وتعليلِه على أن المؤمنين يُصلَّى عليهم ويُقامُ على قبورَهم، وقد فُسِّر ذلك القيامُ على قبورِهم بالدعاء لهم، فالمؤمن يُقامُ على قبره بالدعاء له، فهذا   (1) سورة الأحزاب: 34. (2) أخرجه مسلم (975) عن بريدة. (3) سورة التوبة: 84. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 هو المشروع. وأما زيارةُ المشاهد والقبور لأجل الصلاة عندها والدعاء عندها وبها، والتمسُّح بها وتقبيلها، وطلب الحوائج من الرزق والنصر والهدى عندها وبها، فهذا ليس مشروعًا باتفاق أئمة المسلمين، إذ هذا لم يفعلْه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أمرَ به، ولا رَغب فيه، ولا تعلَّمه أحدٌ من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين، بل ولا كانوا يَبْنُون مشهدًا على قبر ولا مسجدًا ولا غيرَه، وإنما حدثتْ هذه المشاهدُ بعدَ القرونِ المفضلة التي أثنى عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرنِ الذي بُعِث فيهم ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونهم، وإنما انتشرتْ في دولة بني بُوَيْه ونحوهم من أهل البدع والجهل. وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، بل لعنَ من يَفعلُه، كما في الصحيحين (1) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في مرضِه الذي مات فيه: "لَعن الله اليهودَ والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد"، يُحذرُ ما صَنَعوا. قالت عائشةُ: ولولا ذلك لأبرزَ قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا (2) . وفي صحيح مسلم (3) عن جُندَب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال قبل أن يموتَ بخمس: "إن مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجدَ، إلاّ فلا تتخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".   (1) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة. (2) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) . (3) برقم (532) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وفي موطأ مالك (1) : "اللهمَّ لا تجعلْ قبرِيْ وثنا يُعبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد". وفي المسند (2) وغيره عن ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن من شِرارِ الناس مَن تُدرِكُهم الساعةُ وهم أحياءٌ، والذين يتخذونَ القبورَ مساجدَ". رواه أبو حاتم في صحيحه (3) . ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن من سلَّم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو غيره من الأنبياء والصالحين عند قبرِه فإنه لا يتمسَّح بالقبر ولا يُقَبله، بل اتفقوا على أنه لا يُشرَع أن يَستَلِم ويُقَبِّلَ إلاّ الحجرَ الأسودَ، والركن اليماني يُستلَم ولا يُقبَّلُ على الصحيح، وإذا سلَّم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأرادَ أن يَدعوَ استقبلَ القبلة، ودعا في المسجد، ولم يَدْعُ مستقبلا للقبر، كما كان الصحابة يفعلون، وهذا ما أعلمُ فيه نزاعًا بين أَهل العلم، وإن نُقِل في ذلك [ما] يُخالف ذلك عن مالك مع المنصور فلا أصلَ لها. وإنما تنازعوا في وقت التسليم عليه: هل يُستَقبَل القبرُ أو يُستقبلُ القبلةُ؟ فقال أصحابُ أبي حنيفة: يُستقبلُ القبلة، وقال الأكثرون: بل يُستقبَل القبر. وكانت حجرتُه خارجةً عن المسجد، فلما كان زمنَ الوليد بن عبد الملك أمر أن يُزَادَ في المسجد، فاشتُرِيَتِ الحجرةُ التي شرقيَّ المسجدِ وقِبْلِيَّها من أهلها وزيدتْ في المسجد،   (1) 1/172 عن عطاء بن يسار مرسلا. (2) 1/405، 435. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (789) . (3) انظر موارد الظمآن (340) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 فبقيتْ حجرةُ عائشةَ -التي دُفِن فيها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحباه- داخلة في المسجد، ولما بَنَى عمر بن عبد العزيز والمسلمون عليها الحائط حرفوها عن سمتِ القبلة، وجعلوا ظهرَها مثلثًا لئلا يُصلِّيَ إليها أحدٌ، لما ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال: "لا تَجلسوا على القبور ولا تُصلوا إليها". كل ذلك تحقيقا للتوحيد، وهو عبادةُ الله وحدَه لا شريكَ له، فإن الله تعالى قال في كتابه عن قوم نوح: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) (2) ، قال غير واحد من السلف كابن عباس وغيره: هولاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح فلما ماتوا اتخذوا تماثيلَهم. وفي رواية: عكَفُوا على قبورهم ولم يَعبُدوها، ثم طالَ عليهم الأمدُ فعبدُوها، فكان ذلك أول عبادة الأصنام. فنبيُّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتَمُ النبيين الذي بعثه الله بالتوحيد حَسَمَ مادةَ الشرك، حتى أَمَر بما رواه مسلم في صحيحه (3) عن أبي هَيَّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: إلاّ أبعثك على ما بعثني عليه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ " إلا أدعَ قبرا مُشرِفًا إلاّ سوَّيتُه، ولا تمثالاً إلاّ طَمَسْتُه". فأمرَ بتسوية القبور وطَمْسِ التماثيل، فإن هذين كانا سببًا لعبادة الأصنام. ولو كان قصدُ المشاهد هذه التي على القبور لأجل الدعاء أو   (1) مسلم (972) عن أبي مرثد الغنوي. (2) سورة نوح: 23. (3) برقم (969) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 الصلاة عندها مشروعا لم يُكْرَه الصلاةُ فيها، بل كانت تكون الصلاة فيها أفضلَ، وقد أجمع المسلمون على أن الصلاة والدعاء في المسجد الذي ليس عليه قبرٌ لا رجل صالح ولا غيره أفضلُ من الصلاة والدعاء في المسجد المبني على قبر من المشاهد وغيره، بل صرَّح أئمة المسلمين أنَّ بناءَ المساجد عليها حرام، ونَهَوْا عن الصلاة فيها. وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لَعَنَ الله زواراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج". قال الترمذي: حديث حسن. ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه. فقد لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَن يتخذ على القبور مساجدَ وسُرُجا. ولهذا قال العلماء: إنه لا يجوز أن يُنذَر للقبور لا زيت ولا شمع ولا نفقة ولا نحو ذلك، بل هذا نذر معصية. وفي صحيح البخاري (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من نَذَر أن يُطيعَ اللهَ فليُطِعْه، ومن نَذَر أن يَعصِيَه فلا يَعْصِه". ونذرُ المعصية مثل هذا لا يجوز الوفاءُ به بالاتفاق، لكن هل عليه كفارةُ يمين؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما: لا شيءَ عليه، كقول أبي حنيفة ومالك والشافعي. والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في   (1) أخرجه أبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) . وتكلم عليه الألباني في "الضعيفة" (225) . (2) برقم (6696، 6700) عن عائشة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كفارةُ النذر كفارة يمين". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا نذرَ في معصيةِ، وكفارته كفارة يمين". وإذا نذرَ طاعة لله، مثلَ صلاة مشروعة أو صيام شرعي أو صدقة شرعية فعليه الوفاء بذلك، وإن كان أصلُ عقد النذرِ مكروهًا لما في الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرَجُ به من البخيل". فنفسُ عقد النذرِ منهيٌّ عنه باتفاق الأئمة، لكنه إذا نَذَرَ نذرًا فإن طاعةً لله وَفَى به، وإن كان معصيةً مثل نَذْرٍ للكنائس والبيَع، ونَذْرِ الزيت والشمع والكسوة والنفقة للمشاهد التي على القبَورَ، فهذا لا يجوز الوفاءُ به، وهل عليه كفارةُ يمين؟ على قولين للفقهاء. ولو سافرَ لزيارة القبور التي عليها المساجدُ فلا أعلمُ أحدًا من السلف أَذِنَ في ذلك، لكن رَخَّصَ فيه طائفةٌ من متأخري الفقهاء، ومَنَعَ منه آخرون، وقالوا: هو بدعةٌ منهيٌّ عنها، حتى قالوا: لا يجوز فيها قصرُ الصلاة، لأنه قد ثبتَ في الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُشَدُّ الرحالُ إلاّ إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا". وفي السنن (5) أن بَصْرة بن أبي بَصْرة لما   (1) مسلم (1645) عن عقبة بن عامر. (2) أخرجه أبو داود (3290-3292) والترمذي (1524، 1525) والنسائي (7/ 26، 27) وابن ماجه (5125) عن عائشة. (3) البخاري (6608، 6692، 6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر. (4) البخاري (1189) ومسلم (1397) عن أبي هريرة. (5) أخرجه أحمد (6/7) والنسائي (3/113) عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 رأى بعضَ من زار الطُّورَ -الطور الذي كلم الله عليه موسى- نهاهُ عن ذلك، وقال له: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تُشَدُّ الرحَالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد". فهذا يُبين أن الصحابة فهموا أنه نهى عن السفر لزيارة جميع البقاع إلا المساجد الثلاثة، سواء كانت تلك البقعة فيها آثارُ الأنبياء أو غير الأنبياء، وهذا هو الذي اتفق عليه أئمةُ العلماء، فإنهم لم يتنازعوا أنه لو نذرَ السفرَ إلى بُقْعةٍ بعينها غيرِ المساجد الثلاثة لم يجب الوفاءُ بنذره، ولو كان ذلك طاعةً عندهم لوجبَ الوفاءُ به، واتفَقوا على أن نذرَ الإتيانِ في المسجد الحرام يجبُ الوفاءُ به، وتنازعوا في مَن نَذر إتيانَ مسجدِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسجد الأقصى، فقال أبو حنيفة: لا يجبُ الوفاءُ بذلك، لأنّ من أصلِه أنه لا يَجِبُ بالنذر إلاَّ ما كان من جنسِه واجبًا بالشرع، وقال مالك والشافعي وأحمد: بل يجب الوفاءُ بذلك، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نذر أن يُطيعَ الله فليُطِعْه" (1) ، وهذا طاعةٌ لله بالاتفاق، فيُستحب الوفاءُ به. فإذا عُلِمَ أنَّ غيرَ المساجدِ الثلاثة لم يَقُولوا بوجوب الوفاء إذا نذر السفر إليه، عُلِمَ أن ذلك ليس بطاعةٍ، حتى مسجد قُباء، قالوا: من قَصَدَه إذا أتى المدينةَ فحسنٌ، وأما شدُّ الرحْلِ له فلا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من تطهر في بيته فأحسنَ الطهور، ثم أتى مسجد قباءَ لا يُرِيد إلاّ الصلاةَ فيه كان له كأجر عمرة" (2) . فإذا رَغبَ في إتيانِ من   (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه أحمد (3/487) والنسائي (2/37) وابن ماجه (1412) عن سهل ابن حنيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 يأتيه من بيته فيمن سَافر إليه، وكذلك للرجل أن يقصدَ مسجدَ مدينتِه وقريتِه، وليس له أن يُسافرَ إلى مسجد مدينةٍ أو قريةٍ غيرِ المساجد الثلاثة، بالاتفاق. فهكذا يَزور القبورَ الزيارةَ الشرعيةَ، فيسلِّم على الميت، ويَدعو له، إذا كان قريبًا من مدينةٍ هو فيها، أو اجتازَ به، ونحو ذلك، فأما السفر لأجل ذلك فليس بمشروع. وإنما عَظُمَتْ هذه البدعُ من أهل الأهواء الذين عَطَّلُوا المساجدَ عًن الجمعات والجماعات، وابتدعوا الإشراك الذي يَفعلونَه عند المشاهد، حتى صَنَّفُوا كتبًا فيها مناسك حج المشاهد. والله تعالى في كتابه إنما أمرَنا بالعبادة في المساجد لا في المشاهد، فقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) (1) ، ولم يقل: مشاهد الله، وقال تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (2) ، ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (3) ، ولم يقل: كل مشهد، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) إلى قوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) (4) ، ولم يقل: يعمر مشاهد الله، وقال تعالى: (أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)) ، ولم يقل: وأن المشاهد لله.   (1) سورة البقرة: 114. (2) سورة البقرة: 187. (3) سورة الاْعراف: 29. (4) سورة التوبة: 17- 18. (5) سورة الجن: 18. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "صلاة الرجل في المسجد تَفضُل على صلاتِه في بيته وسوقِه بخمس وعشرين درجة. وذلك أن الرجلَ إذا تطهَّر في بيته فأحسن الطهورَ، ثم أتى المسجدَ لا يُنْهزُه إلاّ الصلاةُ فيه، كانت خطوتاه إحداهما تَرفَعُ درجةً والأخرى تَحُطّ خطيئةً، فإذا جلسَ فإنه في صلاةٍ ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تُصفَي على أحدِكم ما دامَ في مصلاه الذي صفَى فيه: "اللهمَّ اغفرْ له، اللهُمَّ ارْحَمْه " ما لم يُحدِثْ أو يَخْرُجْ من المسجد". وأما قول السائل: "بحرمة فلانٍ الميت أن تَقْضِيَ حاجتي أو تَغفر لي " فهذا ليس بمشروع، فإن هذا لم يفعله أحدٌ من السلف، ولا استحبَّه أحدٌ من الأئمة، ولا فيه أثرٌ عمن مضى، والعبادات مبناها على الاستنان والاتباع، لا على الهوى والابتداع، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه) (2) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي تمسّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالة" (3) . ولو كان هذا مشروعًا لأحدٍ أو في حقّ أحدٍ لكان أحقُّ الناس بذلك أصحابَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه أفضلُ الخلق   (1) البخاري (647) ومسلم (بعد رقم 661) عن أبي هريرة. (2) سورة الشورى: 21. (3) أخرجه أحمد (4/126) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (43، 44) من حديث العرباض بن سارية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 وأكرمُهم على ربّه، وأقربُهم إليه وسيلةً حيًا وميتًا، وقد ثبتَ في صحيح البخاري (1) عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا أجدبَ استسقَى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهمَّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبنا نتوسَّلُ إليك بنبيِّنا فتَسقينا، وإنّا نَتَوسَّل إليك بعمِّ نبينا فاسْقِنا، فيُسقَون. فأخذوا العباسَ يتوسَّلُوا به، وجعلَ يدعو ويَدعُون معه، كما كانوا يتوسَّلون بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الاستسقاء، ولم يجيئوا إلى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيدعُوا هناك، ويَفعلون ما يفعلُه كثير من الناس عند من ليس مثلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من سؤاله أو السؤال منه وغير ذلك. ولهذا ذكر العلماءُ في الاستسقاءِ ما فعلَه الصحابةُ، ولم يذكروا ما ابتدعَه الجاهلون. فالمقصودُ بالزيارة الدعاء للميت على جنازته، والله تعالى يثيْبُ العبدَ على دعائِه له، كما يثيبُه على الصلاة عليه، وقد يكون الداعيْ أفضلَ من المدعوِّ له، وقد يكون المدعوُّ أفضلَ، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سمعتُم المؤذنَ فقولُوا مثلَ ما يقولُ، ثم صَلُّوا علي، فإنه مَن صلى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا، ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنه درجة في الجنة لا تَنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبدَ، فمن سأل اللهَ لي الوسيلةَ حَلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة". رواه مسلم (2) ، والله أعلم.   (1) برقم (1010،3710) . (2) برقم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 مسألة في امرأةٍ تُوفّيَتْ وهي حاملٌ في سبعة أشهر، فهل يُشَق بطنُها أو تَضَعُ على بطنِها شيئًا ثقيلاً أو تَسْطو عليهِ القوابلُ؟ الجواب الحمد لله ، ينبغي أن يُسعَى في خروج الجنين من فَرْجها، إما أن تَسْطُو القوابلُ عليه فيُخرِجْنَه، وإمّا أن يُفتَح فَرجُها بَالمفتاح المصنوع لذلك، فإذا اتسعَ أخرِجَ منه الولدُ، فإن تعذَّر ذلكَ ففيها قولان مشَهوران: أحدهما: لا يُشَقُّ بطنُها، لأنه مثلةٌ، والعادة أن الولد يموتُ بموتِ أمِّه، فلا يبقى حيا، فيكون تمثيل بالميِّت بلا استبقاءِ الحي، بل لو اضطُرَّ الجائعُ إلى أكل ميتٍ معصوم لم يَجزْ، لأن بقاءَ نفسِه في أحد القولين مع أن الحياة منتفية وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كَسْرُ عظم ميتٍ ككَسْرِ عظم الحي" (1) . وهذا مذهبُ مالك وأحمد وغيرهما.   (1) أخرجه أحمد (6/58،105،168،200،264) وأبو داود (3207) وابن ماجه (1616) عن عائشة. وصححه الألباني في "الإرواء" (763) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 والثاني: بل يُشَق بطنُها لإخراج الولدِ، فإن مراعاةَ حقِّ الولد الحيِّ أولى من مراعاة الميت. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وفي مذهب الشافعي وجهٌ كالأول، وفي مذهب الإمام أحمد وجهٌ كالثاني. وهذا النزاعُ إذا رُجِيَ خروجُه حيًّا، فأما إذا ظهرَ موتُه، فإنه لا يُشَقُّ بطنُها بلا خلافٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 مسألة في رجلٍ تُوفِّي إلى رحمة الله بالقاهرة، فهل يجوز الصلاةُ عليه غائبةً في مصر أو في القلعةِ؟ وكم قدرُ مدةِ البُعْدِ الذي يَجوز على الغائب فيه؟ وكم مقدارُ بُعدِ صلاة النبي على النجاشي؟ وهل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى على الغائب أو أحدٌ من الصحابة في مقدارِ بُعدِ القاهرة إلى مصر أو أحدٌ من الأئمة؟ الجواب أصل هذه المسألة هي مسألة الصلاة على الغائب، وفيها للعلماء قولان مشهوران: أحدهما: يجوز، وهو قول الشافعي وأحمد في أشهر الروايات عنه عند أكثر أصحابه. والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وذكر ابنُ أبي موسى (1) - وهو ثبت في نَقْلِ مذهبِ أحمد - رجحانَها في مذهبه.   (1) في "الإرشاد إلى سبيل الرشاد" (ص122) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 وسببُ هذا النزاع أنه قد ثبتَ بالنصوص الصحيحة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى على النجاشي وكان غائبًا، ففي الصحيحين (1) عن أبي هريرة أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَى النجاشيّ في اليوم الذي مات فيه، وخرجَ بهم إلى المصلَّى، فصفَّ بهم، وكبَّر عليه أربع تكبيرات، وقال: "استغفروا لأخيكم". وفيهما عن جابر (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى على النجاشي فكبر أربعًا، وللبخاري عنه (3) : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى على النجاشي، فكنتُ في الصف الثاني أو الثالث. وله (4) : "قد تُوفي اليومَ رجل صالح من الحبش، فهَلُمَّ فصلُّوا عليه". فصففنَا، فصلَّى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن صفوف. ولمسلم (5) : إن أخًا لكم قد ماتَ، فقوموا فصلُّوا عليه"، فقُمنا فصَفنا صفين. وروى مسلم (6) عن عمران بن حُصين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن أخًا لكم"، وفي لفظ: "إن أخَاكم قد ماتَ، فقومُوا فصلُّوا عليه"، يعني النجاشي. فهذه السنةُ ثبتَتْ، ولم يُنقَلْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلَّى على غائب غيره، إلا حديث ساقط (7) رُوِيَ فيه أنه صلى على مُعاوية بن معاوية   (1) البخاري (1245،1327) ومسلم (951) . (2) البخاري (1334) ومسلم (952) . (3) برقم (1317) . (4) برقم (1320) . (5) برقم (952) . (6) برقم (953) . (7) جمع الحافظ ابن حجر طرقه في "الإصابة" (3/436،437) ، وقوّاه بالنظر إلى مجموع الطرق في "الفتح" (3/188) . وقال ابن عبد البر في = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 الليثي في غزوة تبوك لكثرةِ قراءتِه "قل هو الله أحد"، وهوِ حديثٌ لا يُحتجُّ به. وقد ماتَ على عهده خلائقُ من أصحابه في غيبتِه فلم يُصلِّ عليهم، وكذلك لم يُصل المسلمون الغائبون عنه في مكة والطائف واليمن وغيرها، ولا صَلَّوا على أبي بكر وعمر وغيرهما في الأمصار البعيدة. ولهذا تنازعَ العلماء، فقالت طائفة: لا يُصلَّى على الغائب، إذ لو كانت سنةً لكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثرَ من ذلك، ولكان المسلمون يَعملونَ بذلك في مَحْيَاه ومماتِه، واعتذروا عن قضية النجاشي بعذرين: أحدهما: أن ذلك [كان] مختصًّا به، قالوا: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشاهدُه، أو لأنه حُمِلَ إلى بين يديه. وهذا عذرٌ ضعيفٌ، لأن ذلك لم ينقله أحدٌ، ولأن الصحابة الذين صَلَّوا خلفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُشاهِدوه، ولا فرقَ بين الإمام والمأموم، ولأن المانع عندهم هو البعد أو التكرار، وكلاهما موجودٌ شهد أو لم يشهد، ولأن مثلَ هذا قد كان ممكنًا في حق غير النجاشي، فبطلَ الاختصاصُ به. ولأن الأصلَ مشاركةُ أمتِه في الأحكام ما لم يقمْ دليلُ اختصاصِ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والعذر الثاني: قالوا: إنّ النجاشي قد كان بين قومٍ نصارى،   = "الاستيعاب" (3/395) : أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية، ولو أنها في الأحكام لم يكن في شيء منها حجة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 وكان يُخفِيْ قومَه إسلامَه حتى سَعَوا في محاربته، ولم تكن شريعة الإسلام ظهرتْ هناك حتى يكونَ عنده من يُصلِّيْ عليه، لعدم صلاة القريب عليه. وهذا العذرُ أقربُ من الأول، وبه يَظهر تخصيصُ النجاشي بالصلاة دونَ غيرِه من الموتى. ثم من قال هذا ولم يجوِّز الصلاةَ على الغائب بحالٍ نقضَ كلامَه، ومن قال هذا [و] جوَّز الصلاةَ على الغائب الذي لم يُصل عليه فقد أحسنَ فيما قال، ولعل قولَه أعدلُ الأقوال، فإن الشريعةَ استقرتْ على قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أَمَرتكَم بأمر فَأْتُوا منه ما استطعتم" (2) . فما تعذَّر من العبادات سقط بالعجزِ، وإذا كانت الصلاة على الميت مأمورًا بها ولم تكنْ إلاّ مع الغَيبةِ كانتْ هي المأمورَ به. وقالت طائفة: بل تجوز الصلاةُ على كل غائب عن البلد وإن كان قد صُلِّيَ عليه، كما ذكرناه عن أصحاب الشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد، ثم قال هولاء: يجوز على الغائب عن البلد، سواء كان فوقَ مسافةِ القصر أو دونَها، وسواءٌ كان الميتُ خلفَ المصلِّي أو أمامه. وأما الغائبُ في البلد الواحد فالأكثرون من أصحاب الإمامين مَنَعُوا الصلاةَ عليه، [و] لم يَرِدْ بها أثرٌ ولا نُقِلَ ذلك عن أحد من   (1) سورة التغابن: 16. (2) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 السلف، فالفاعلُ لها مبتدعٌ دِينًا لم يشرعْه الله، ولو ساغَ ذلك لم يكن لذلك ضابطٌ، بل كان يجوزُ أن يُصلِّي الرجل في هذه الدار أو الدَّرْبِ على من مات في هذا الدرب أو هذه الدار، ومعلومٌ أن هذا ليس من عمل المسلمين، ولو كان هذا جائزًا لكان قربةً، ولكان السلفُ يبادرون إليه، لاسيَّما ولا يزال في المسلمين من لا يُمكِنه شهودُ الجنازة من مريض ومحبوسٍ ومشغول. فلما لم يَفْعَل هذا أحدٌ من السلف عُلِمَ أنَّه غيرُ مشروع، وإنْ كانَ يُشرَعُ الدعاءُ للميتِ على كل حالٍ، بطهارة أو غير طهارة، إلى القبلة وغيرها، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، بتكبير وغير تكبيرٍ، وأما صلاةُ الجنازة فيُشتَرط لها الشروطُ الشرعية. وجوَّزَ طائفة من أصحاب الإمامين الصلاةَ على الغائب في البلد الواحد، ثم محقِّقُوهم قيَّدوا ذلك بما إذا ماتَ الميتُ في أحد جَانِبَي البلدِ الكبير، ومنهم من أطلق في أحد جانبي البلد لم يُقيِّدها بالكبيَرة، كما إذا ماتَ في أحدِ جانبي بغدادَ فَصُلِّي عليه في الجانب الآخر. وكانت هذه المسألة قد وَقعتْ في عصر أبي حامد وأبي عبد الله بن حامد، مات ميت في أحد جانبي بغدادَ، فصلَّى عليه أبو عبد الله بن حامد، وطائفة في الجانب الآخر، وأنكر ذلك أكثرُ الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كأبي حفص البرمكي وغيره، واتفق الفريقان على أنه من مات في الجانب الواحد لا يُصلَّى عليه فيه إذا كان غائبًا، كما إذا كان الرجل عاجزًا عن حضور الجنازة لمطرٍ أو مرضٍ فإنه لا يُصلِّي على الغائب وفاقًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 لكن بعض متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي أجرى الوجهين في الغائب في البلد وإن أمكن حضوره، وألحقَ ذلك بالوجهين في القضاء على الغائب عن مجلس الحكم إذا لم يمكن حضورُه، فإنّ فيه وجهًا ضعيفًا بجواز الحكم عليه، فقاس الصلاةَ عليه على القضاء عليه. وهذا إلى غاية الضعف والشذوذ، مع ما بين الصلاة والحكم، ولا يَستريب من له أدنى معرفة أن تشريعَ مثل هذا حَدَث وبدعة ظاهرةٌ. وأمثالُ هذه الوجوه تُخَرَّجُ عند ضِيْق مناظرةِ المخالف طردًا لقياسٍ واحترازًا عن نقضٍ، ولا يُدَانُ الله بها. وعلى القول المشهور في المذهبين وأنه لا يُصلَّى إلاّ على الغائب عن البلد لم يَبلُغني أنهم حَدُّوا البلدَ الواحدَ بحدٍّ شرعي، ومقتضى اللفظ أن من كان خارجَ السُّوْرِ أو خارجَ ما يُقدَّر سورًا يُصلَّى عليه، بخلاف من كان داخلَه، لكن هذا لا أصلَ له في الشريعة في المذهبين، إذ الحدود الشرعية في مثل هذا إمّا أن تكون العبادات التي تجوز في السفر الطويل والقصير، كالتطوع على الراحلة والتيمم والجمع بين الصلاتين على قول، فلابُدَّ أن يكون منفصلاً عن البلد بما يُعَدُّ الذهابُ نوع سفر. وقد قالت طائفة من أهل المذهبين كالقاضي أبي يعلى أنه يكفى خمسين خطوة. وإما أن يكون الحدُّ ما يجب فيه الجمعةُ، وهو مسافةُ فرسخ، حيث يسمع النداءَ، ويجب عليه حضور الجمعة، كان من أهل الصلاة في البلد فلا يُعدُّ غائبًا عنها، بخلاف ما إذا كان فوق ذلك فإنه بالغائب أشبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 وإما أن يُقال مسافة العدوَى في مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وهو ما لا يمكن الذاهبَ العودُ إليه في يومه، وهذا يُناسب قولَ من جعل الغائبَ عن البلد كالغائب عن مجلسِ الحكم. وفيه أيضًا من الفقه أنه إذا كان كذلك شق الحضورُ، بخلاف مَن يُمكنه العَوْد. ولكن إلحاقَ الصلاة بالصلاة أولى من إلحاق الصلاة بالحكم. فهذه هي المآخذ التي يَنْبني عليها جوابُ هذه المسألة. إذا تبيَّن ذلك فنقول: القلعة والقاهرة تشبه جانبي بغداد، فمن جوَّز الصلاةَ في أحد جانبي بغداد على من مات في الجانب الآخر كقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد، فإنه يُجوِّز أن يُصلَّى على من مات في القلعة أو القاهرة على من مات في الآخر، وعلى قول هؤلاء فصلاةُ أهل القاهرة على من مات في مصر بالعكس، وصلاةُ أهل القلعة على من مات بمصر وبالعكس أولى بالجواز، فإن القاهرة والقلعة يجمعهما سورٌ واحدٌ، ومصر خارجة عن ذلك، لأنهما بالبلد الواحد الكبير الذي له جانبانِ أشبه، لكن أكثر العلماء كأصحابِ أبي حنيفة ومالك واكثر أصحاب الشافعي وأحمد لا يُجوِّزون الصلاة في أحد جانبي البلد وإن كان كبيرًا على من مات في الجانب الآخر، حتى صرَّحوا بأن بغدادَ - مع كونها محالَّ كثيرةً، ولها جانبان بينهما دجلةُ، ومع كون الجمعة تُقامُ بها في مواضع من حين بُنيَتْ بغدادُ من زمن أبي جعفر المنصور وإلى الساعة - صَرَّحوا مع ذلك أنه لا يُصلَّى في أحد جانبيها على من مات في الجانب الآخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 ومما يُبيِّن ذلك أن أمصار المسلمين الكبار التي فيها قِطع كثيرة كبغداد كثيرة القطع، وليس من عمل المسلمين أن يُصلُّوا في هذه القطعة على من مات في القطعة، فلم يُعرَف أن المسلمين كانوا يُصلُّون في قطعةِ مصر أو دمشق أو غيرهما على من مات بالمدينة وبالعكس، ولا عُرِف أنهم كانوا يُصلُّون بمصر على من مات بالقلعة وبالعكس مع اشتمالِ هذه الأمصار على أئمةٍ من أصحاب الشافعي وأحمد، وهم أهل الترخُّصِ في هذه المسألة، وإن لم يقلْ بهذا القول. والأضعفُ الصلاةُ على الغائب جدًّا، فإنا قد علمنا أن المسلمين في جميع الأمصار لم يُصلُّوا بمنى وعرفات على من مات بمكة وبالعكس، ولا كانوا يُصلُّون بقُباءَ والعوالي على من مات بالمدينة وبالعكس، وقد ماتَ خلق كثير على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقباءَ والعوالي ونحوهما، مما هو عن المدينة مثل مصر والقاهرة، وأبعد من دمشق والصالحية، ولم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابةُ والتابعون يُصلُّون في أحدِهما على من مات في الآخر. وأما الصلاةُ بمصر على من يموتُ بالقلعة أو بالقاهرة وبالعكس على المشهور - وهو منعُ الصلاة في أحد جانبي البلد على من يموت في الآخر - فمبني على ما ذكرناه في معنى البلد الواحد، هل المراد به ما خرج عن السُّوْرِ، أو ما يجب فيه الجمعةُ، أو مسافة العدوى؟ فعلى المأخذ الأول يجوز ذلك، وعلى المأخذين الآخرين لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 يجوز، فقد تبين مما ذكرناه على أن الصلاة بالقاهرة والقلعة على من مات بمصر وبالعكس لا تجوزُ عند جمهور العلماء، وتجوز عند بعضهم في مذهب الشافعي وأحمد. وأما قول السائل: كم مقدارُ بُعْدِ النجاشي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فذلك كثير معروف، فإن النجاشي كان بالحبشة، وبينهما اليمن ثم تهامةُ، وهو مسافة كبيرة. وأما قوله: هل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أحدٌ من الصحابة أو التابعين أو الأئمة صلى على الغائب في مقدار هذا البعد؟ فالجواب أنه لم يُنقَل ذلك عن أحدٍ من هؤلاء، وغاية ما بلغَنا في مثل ذلك ما ذكرناه من النزاع في جانبي بغداد، وكان هذا بعدَ الأئمة، وأما في زمن الشافعي وأحمد بن حنبل فلم يَبْلُغْنا أن أحدًا صلَّى في أحد جانبي بغداد على من مات في الآخر، مع كثرةِ الموتى وتوفُّرِ الهِمَم والدواعي على نقل ذلك. فتبينَ أن ذلك مُحْدَث لم يفعَلْه الأئمة. وأما ما يفعلُه بعضُ الناس من أنه كل ليلة يُصلِّي على جميعِ من مات من المسلمين، فلا ريبَ أيضًا أنه بدعة لم يفعلها أحدٌ من السلف، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 مسألة في روح ابن آدم إذا خرجتْ منه وإذا نزل في قبره، هل تَعُود إليه كما كانتْ في دار الدنيا أم لا؟ وقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (1) هل هي روحُ ابن آدم أو روحُ الله؟ وهل يموت المهدي إذَا أمَّ بعيسى بن مريم قبل إتمامِ الصلاة؟ وقد رُوِي أن جنازة مرَّتْ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت عائشة: يا رسول الله! ما أحسنَ هذه! عصفورٌ من عصافير الجنة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وما يُدْريْكِ أن الله خلقَ خَلْقًا، فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي". أجاب نعم، إذا وُضِع الميتُ في قبره فإن الروحَ تَعادُ إليه، ويُسأل عن ربه ودينه ونبيه، ويَسمَعُ الميتُ خَفْقَ نعالِ المشيِّعين إذا وَلَّوا عنه مُدبِرين، وما من رجل يَمُرُّ بقبر الرجل كان يَعرِفُه في الدنيا فيسلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلام. ومع هذا فمُستَقَرُّ أرواحِ المؤمنين الجنةُ، لكن للروح شان آخر بعدَ الموت   (1) سورة الإسراء: 85. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 ليس لها نظيرٌ في هذا العالم. وأما المسيح فإنه يَنزِل على المنارةِ البيضاءِ شرقِيَّ دمشقَ، ويُدرِكُ الدجَّالَ فيقتلُه بباب لُدٍّ الشرقي، ويأمر الله تعالى بعدَ قتلِ الدجال أن يُحصن الناسَ إلى الطُّور، ويقال له: يا روحَ الله! تقدَّمْ، فصل بنا، فيقول: لا إن بعضَكم على بعضٍ أميرٌ، فيُصلِّي بالمسلمين بعضُهم، ويتمُّ الصلاةَ ولا يموت فيها. وأما الروح المسئول عنها فأكثرُ الناس على أنها روحُ ابن آدم، وهي وإن كانت من أمر اللهِ فهي موجودة مخلوقة باتفاق العلماء المعتبرين، والآدمي كلُّه عبدُ الله، جسمُه وروحه. وأما حديث عائشة فصحيح (1) ، فإنا لا نشهد لأحد بعينه أنه [من أهل الجنة] إلا ما شَهِدَ له النصُّ، أو شَهِدَ له الناسُ شهادةً عامةً على أحد القولين، فإن الله خلقَ للجنةِ أهلاً، خلقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلقَ للنار أهلاً، خلقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم، فنقولُ بطريق العموم: المؤمنون في الجنة والكافرون في النار، ولا نُعيِّن أحدًا أنه في جنة أو في نار إلا أنْ نَعلَم عاقبته. والمهدي الذي أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسمُه محمد بن عبد الله من ولد الحسن بن علي رضي الله عنه، يقوم إذا شاء الله، وهو خليفة صالح يملأ الأرضَ قسطًا وعدلاً، كما مُلِئَتْ ظلمًا وجورًا، ويَحثُو المالَ حَثْوًا. وقد جاءتْ أخبارُه في الترمذي وسنن أبي داود ومسند   (1) أخرجه مسلم (2662) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 الإمام أحمد، ووقع التنبيهُ عليه في الصحيحين (1) . وأما ما يدَّعيه الضالُّون أن الحسن بن علي العسكري المتوفى في سامرَّاء، كان له ابنٌ اسمه محمدٌ دخلَ سرداب سامرَّاء بعد موت أبيه وهو صغير، وأنه المهدي، فهذا كذبٌ باطل باتفاق علماء بني آدم وعقلائهم، وليس هو المخبر به في الأحاديث، فإن هذا حسيني وذاك حسني، وأيضًا فإن الحسن بن علي العسكري عند العارفين بالأنساب محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما لم ينسلْ ولم يُعقبْ، والذين أثبتوه زعموا أنه خليفة معصوم حجة الله على أهل الأرض، وأنه باقٍ إلى الآن، وهذا مخالفٌ للعقل والكتاب والسنة، فإن هذا لو كان حقا لكان يتيمًا يَجبُ الحَجْرُ عليه في نفسِه ومالِه، ولا يجوز أن يُوَلَى مثلُ هذا ولَايةً أصلا، ولا معصومَ بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أحدَ يَجبُ أبدًا طاعته في كل شيء إلاّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يجوز أن يُكلِّفَ الله العبادَ طاعةَ من لا سبيلَ إلى العلمِ بأمرِه، ولا وجهَ لهذه الاحتجاجاتِ. والله أعلم.   (1) سبق تخريج هذه الأحاديث في المجموعة الثالثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 مسألة في رجل ماتَ، وأوصى أن يُعمل له ختمة في أسبوعِه وتمام شهره، جائز أم لا؟ الجواب الحمد لله ، الصدقةُ عن الميتِ أفضلُ من عمل ختمةٍ من هذه الختمِ له، فإنّ الصدقة تَصِلُ إلى الميت باتفاق الأئمة، وقد ثبت في الصحيح (1) أن سعدًا قال: يا رسول الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسُها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: "نعم". وأما قراءة القرآن ففي وصوله إلى الميت نزاعٌ إذا قُرِئ لله، فأما استئجارُ من يقرأ ويُهدِي للميّتِ فهذا لم يستحبَّه أحدٌ من العلماء المشهورين، فإن المُعطِيَ لم يتصدقْ لله، لكن عاوضوا على القراءة، والقارئ قرأ للعوض، و الاستئجارُ على نفس التلاوة غيرُ جائز،   (1) البخاري (1388،2760) ومسلم (1004، وبعد رقم 1630) عن عائشة بهذا اللفظ دون ذكر اسم السائل. وهو سعد كما في حديث ابن عباس عنده البخاري (2756، 2762) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 وإنما النزاع في الاستئجار على التعليم ونحوه مما فيه منفعةٌ تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلاّ إذا كان العمل للهِ، وما وقعَ بالأجر فلا ثوابَ فيه وإن قيل: يصحُّ الاستئجار عليه، ولأن ذلك يتضمن أن يأكل الطعامَ من ليس يحتاج إليه، وأن يُقرأ القرآنُ والناسُ يتحدثون لا يسمعون، وأن القراءَ ينتهبون الطعامَ، وهذا كلُّه أمورٌ مكروهة. وإذا تصدَّق على من يَقرأ القرآن ويُعلِّمه ويَتعلَّمه كان له مثلُ أجرِ من أعانَه على القراءة، من غير أن يَنقُصَ من أجورِهم شيئًا، وينتفع الميت بذلك. وإذا وصَّى الميتُ بأن يُصرَف مالٌ في هذه الختمة، وقَصْدُه التقربُ إلى الله، فصُرِفَتْ إلى مَحاوِيجَ يقرؤون القرآنَ ختمةً وأكثرَ، كان ذلك أفضل وأحسن من جَمْع الناس على مثل هذه الختم، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 مسألة في رجل جامعَ زوجتَه ولم تغتسِلْ، ثم ماتتْ، فهل يُجزِئُها غسلُ الموت؟ الجواب الحمد لله ، يُجزِئُها غسلُ الميت عن الأمرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 مسألة في رجل غسلَ صبيًا، وأبو الصبيّ يَسكُب عليه الماءَ، والغاسلُ لا يحفظ القرآنَ، فهل يجوزُ تغسيلُه أم لا؟ وهل يجوز للذي لا يَحفظ القرآنَ أن يصلِّي عليه؟ الجواب الحمد لله، نعم يجوزُ تغسيلُه، والفرضُ في ذلك أن يعمَّ جميعَ بَدنه بالماء كلّه، وهو أخفُّ من اغتسالِ الحي، فإن الحيّ يتمضمضُ ويَستنشِقُ، والميتُ لا يُفعَلُ به ذلك، لكن يُستَحبَّ أن يَمْسَح مَنخَريْه وفمَه بالماء. والسنة أن يُنَجَّى ثم يُوَضَّأ، ثم يُفاضُ عليه الماء كالحيّ، لكن ينبغي أن يُغسل الميتُ ثلاثًا. و يجوز أن يُصلِّي على الميت إذا كان يَحفظُ الفاتحة والصلاةَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء للميت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 مسألة في سماع يسمع رجل الحادي بذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصاحَ وخرَّ ميتًا، وكان ثَمَّ فقير، فقال: هذا لا يُصلَّى عليه، ودُفِنَ ولم يُصلَّ عليه، فماذا يجب على من أفتَى بذلك؟ وهل يُصلَّى على مثل هذا؟ الجواب أما الميت ف تجوز الصلاة عليه، ويُصلَّى على قبرِه إلى شهر، بل تجبُ الصلاةُ عليه. وأما سماعُ المُكاء والتصدية فبدعة مكروهة، كان المشركون إذا اجتمعوا عند الميت يصفقُون ويصوتون، والتصفيق هو التصدية، والتصويت هو المُكَاء، فأنزل الله تعالى بذمّهم: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) (1) . وأما حبّ الله ورسوله فهو أصلُ الإيمان، لكن من تمام ذلك أن يعبدَ الله بما شَرَعَ، لا يعبد بالبدع، ولكن من اجتهد في عمل يُقَرِّبُه إلى الله متحريًا لاتباع الكتاب والسنة، وأصاب، فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطأه مغفورٌ له. والله تعالى قد غَفَر للمؤمنين خَطأَهم، فالذي عَمِلَ السماعَ مجتهدًا، والذي أنكره وتركَ الصلاةَ عليه مجتهدًا، حكمُهم ذلك إلى اللهِ. والله أعلم.   (1) سورة الأنفال: 35. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 مسألة هل صحَّ أن الأنبياءَ أحياء في قبورِهم يُصلُّون؟ وكيف كيفيةُ عرضِ أعمالِ الأمةِ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبره؟ على روحه الكريمة؟ أم تعادُ روحُه إلى جسدِه؟ وإذا صلَّى عليه أو سلَّم عليه العبدُ هل يَرُدُّ عليه السلام؟ الجواب الحمد لله ، الأنبياءُ أحياء في قبورهم، وقد يُصلُّون كما ثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مررتُ بموسى ليلةَ أُسرِيَ بي يُصلِّي في قبره" (1) . وثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من مسلم يُسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي، حتى أردَّ عليه السلام" (2) . وقال: "صلُّوا عليَّ حيثُ ما كنتم، فإنَّ صلاتكم تَبلُغُني" (3) . وقال: "أكثِرُوا من الصلاة عليّ يومَ الجمعة، فإن صلاتكم معروضةٌ عليّ"، قالوا: كيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: "إنَّ الله حَرَّم على الأرضِ   (1) أخرجه مسلم (2375) عن أنس. (2) أخرجه أحمد (2/527) وأبو داود (2041) عن أبي هريرة. (3) أخرجه أحمد (2/367) وأبو داود (2042) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 أن تأكلَ لُحومَ الأنبياء" (1) . وأما عرضُ الأعمالِ عليه فإنها تُعْرَضُ عليه، وهو حق، وأمَّا مَحَلُّ ذلك فمما لا يتعلقُ به غَرَضٌ، والله أعلم.   (1) أخرجه أحمد (4/8) وأبو داود (1047،1531) والنسائي (3/91) وابن ماجه (1085،1636) عن أوس بن أوس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 مسألة في حديث قيس يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "واعلم يا قيسُ أنه لابدَّ لك من قرين يُدفَن معك وهو حي، وتُدفَن معه وأنت ميت، فإن كان كريمًا أكرمَك، وإن كان لئيمًا أسلمَكَ، ثم لا يُحشَر إلاّ معك، ولا تُسأَل عنه، ألا وهو فعلُك أو عملُك". فهل ذلك كذلك من كون عمل الإنسان يبرز له في قبره في صورة، فإن كان صالحًا كان شابًّا حسن الوجه طيبَ الريح فيأنَسُ به، وإن كان طالحًا فبعكسِه فيستوحش منه إلى يوم القيامة أم لا؟ الجواب الحمد لله، أما هذا المعنى فقد رُوِي في أحاديثَ حسانٍ بأن العمل الصالحٍ يُصوَّر لصاحبه صورةً حسنة، والعمل السيء يُصوَّر لصاحبه صورة قبيحة، فالأولى تُنعِم صالحًا والثانية تُعذبه. وجاء أيضًا مخصوصةً بأعمال مثل قراءة القرآن وغيرها من الأعمال (1) ، وذلك في البرزخ في القبر وفي عَرَصاتِ القيامة، فأما جَرْيُ الأعمال بالعُمَّال فإن كان معناه أن عبورَهم على الصراط   (1) كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أخرجه أحمد (2/174) مرفوعًا: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ... " وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1429) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 يكون بحسب أعمالهم الصالحة، فمنهم من يَجرِي كالبرق، ومنهم من يَجرِي كالريح، ومنهم من يسعى كأجَاوِيد الخيل، ومنهم من يَسعى كركاب الإبل، ومنهم من يَعدُو عَدْوًا، ومنهم من يَمشي مشيًا، ومنهم من يَزْحَف زَحْفًا، وذلك على قدر أعمالهم الصالحة، فهذا حق (1) . وأما تصويرُ العمل لصاحبه على الصراط فهذا لم يَبلُغْني فيه شيءٌ، والله أعلم.   (1) وردت فيه عدة أحاديث، منها حديث عائشة الذي أخرجه أحمد (6/110) ، وحديث ابن مسعود الذي أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/590-592) مرفوعًا و (2/376) موقوفًا. وصححه الألباني في تعليقه على "شرح الطحاوية" (ص 415) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 مسألة فيما هو شائع بين الناس أن لله ملائكةً نقَّالةً يَنقُلون من قبورِ المسلمين إلى قبورِ اليهود والنصارى، وكذلك من قبورِهم إلى قبورِ المسلمين، هل وردَ في ذلك خبرٌ أم لا؟ الجواب الحمد لله، أما الأجساد فإنها لا تُنقَل من القبور، ولكن يُعلَم أن في بعض من يكون ظاهرُه الإسلام ممن يكون منافقًا إما يهوديًّا أو نصرانيا أو زنديقا معطِّلاً فقد يكون في الآخرة مع نُظَرائِه، كما قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) (1) أي أشباهَهم ونُظراءَهم، وقد يكون في بعض من مات وظاهرُه كافرٌ أن يكون آمنَ بالله ورسوله قبل الغَرْغَرة، ولم يكن عنده مؤمن، وكتمَ أهلَه حالَه إما لأجل ميراثٍ أو لغيرِ ذلك، فيكون مع المؤمنين وإن كان مقبورًا بين الكفار. وأما أثر في نقلِ الملائكة فما سمعتُ في ذلك بأثرٍ، والله أعلم.   (1) سورة الصافات: 22. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 مسألة فيمن يقرأ القرآن العظيم أو شيئًا منه هل الأفضلُ أن يُهدِيَ ثوابَه لوالديه ولموتى المسلمين؟ وكذلك إذا دعَا عَقِيبَ القراءةِ يقولُ: اللهم أوصِلْ ثوابَه لوالديه ولموتى المسلمين أو يجعلُ ثوابَه لنفسِه خاصةً؟ الجواب أفضلُ العبادات ما وافقَ هَدْيَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهَدْيَ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في خطبته (1) : "إن خيرَ الكلامُ كلام الله، وخيرَ الهَدْيَ هَدْيُ محمد، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة"، وقد قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (2) ، فرَضِيَ عن السابقين مطلقًا، ورَضِيَ عمن اتبعَهم بإحسان. وقد ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح (3) من غير وجه أنه قال: "خيرُ   (1) أخرجه مسلم (867) عن جابر بن عبد الله. (2) سورة التوبة: 100. (3) أخرجه البخاري (2652،3651،6429) ومسلم (2533) عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري (2651،4628،6695) ومسلم (2534) عن عمران بن حصين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 القرونِ القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم، ثمَّ الذين يَلُونَهم، ثمَّ الذين يَلُونَهم"، وقال عبد الله بن مسعود (1) : من كان منكم مُستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا يُؤمَنُ عليه الفتنة. أولئك أصحابُ محمدٍ أبرًُ هذه الأمةِ قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامِة ديِنه، فاعرِفُوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم. وقال حُذيفةُ بن اليمان (2) : يا معشرَ القُرَّاءِ! استقيموا وخُذُوا طريقَ مَن قبلَكم، فواللهِ لقد سَبَقْتُم سَبْقًا بعيدَا، ولئِنْ أَخذتُم يمينًا وشَمالاً لقد ضَلَلتم ضلالاً بعيدًا. وهذا باب واسع، والدلائل عليه كثيرة، وقد قال تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، قال الفُضيل بن عِياض: أخلصُه وأصوبُه. قالوا: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقْبَل، حتى يكون صوابا خالصًا، والخالص أن يكون لله، والصوابُ أن يكون على السنة. وهذا الذي قاله الفُضَيل من الأصولِ المتفق عليها، فإنه قد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن أحدثَ في ديننا ما   (1) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/97) من طريق قتادة عنه، فهو منقطع. ورُوي نحوه عن ابن عمر، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/305-306) . (2) أخرجه البخاري (7282) . (3) سورة هود: 7، سورة الملك: 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 ليسَ منه فهو ردٌّ" (1) ، وصحَّ عنه أنه قال: "الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرىءٍ ما نَوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصِيبُها أو امرأةٍ يتزوجُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه" (2) . وهذان الأصلان اللذان ذكرهما الفضيل، وقد أوجب الله الإخلاص له في غير موضع من كتابه، كقوله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (3) ، وقوله (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)) (4) ، وقوله: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ) (5) وغير ذلك، وقد ذَمَّ من دانَ بغير شرعِهِ في غير موضع، كقوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (6) ، وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)) (7) . فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ فالأمر الذي كان معروفا بين المسلمين في القرون الفاضلة أنهم كانوا يعبدون الله تعالى بأنواع العبادات المشروعةِ فرضِها ونَفْلِها، من الصلاة والصيام والقراءة والذكر وغير   (1) أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) عن عائشة. (2) أخرجه البخاري (1، ومواضع أخرى) ومسلم (1907) عن عمر بن الخطاب. (3) سورة البينة: 5. (4) سورة الزمر: 2. (5) سورة غافر: 14. (6) سورة الشورى: 21. (7) سورة يونس: 59. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 ذلك، وكانوا يَدْعُون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك، يَدْعُون لأحيائِهم وأمواتِهم في صلاتِهم على الجنائز وعند زيارةِ قبورِهم وغيرِ ذلك. ورُوِيَ عن طائفةٍ من السلف أن عند كل خَتْمَةٍ دعوة مجابة، فإذا دعا الرجلُ عقيبَ الختمةِ لنفسه ولوالديه ومشايخِه وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات كان هذا من الجنس المشروع، وكذلك دعاؤُه لهم في قيام الليل وغير ذلك من مواطن الإجابة، وقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمرَ بالصدقة عن الميت، وأنه أمر بأن يُصامَ عنه الصوم الذي نذره (1) ، فالصدقة عن الموتى من الأعمال الصالحة، وكذلك ما جاءت به السنةُ في الصوم عنهم ونحو ذلك. وبهذا وغيرِه احتجَّ من قال من العلماء: إنه يجوزُ إهداءُ ثوابِ العباداتِ البدنية إلى موتى المسلمين، كما هو مذهبُ أحمد وأبي حنيفة وطائفةٍ من أصحاب مالك والشافعي، فإذا أُهدِيَ لميّتٍ ثوابُ صيام أو صلاةٍ أو قراءة جازَ ذلك، و [قال] أكثر أصحاب مالك والشافعي: إنما يُشْرَع ذلك في العبادات المالية كالصدقة والعتق ونحوِ ذلك دون العبادات البدنية، بناء على أن هذه تَقْبَل النيابةَ ويجوز التوكيلُ فيها بخلاف تلك، والأولون يقولون: هذا ثوابٌ ليس من باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يَستنيبَ عنه، وله أن يُعطِيَ أجرتَه لمن شاء. وأصحابُ أبي حنيفة من أبعدِ الناسِ عن الاستنابةِ في الصيام ونحوه، وجوَّزوا مع هذا إهداءَ الثواب، والنيابةُ إنما تجوز في مواضعَ مخصوصةٍ بخلاف الإهداء.   (1) سبق ذكر الأحاديث الواردة في الباب فيما مضى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 ومن احتجَّ على منع الإهداءِ بقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (1) فهو مُبْطِلٌ لتواترِ النصوصِ واتفاقِ الأئمةِ على أن الإنسانَ قد ينتفع بعملِ غيرِه، والآيةُ إنما نَفَتِ الاستحقاقَ لسعي الغيرِ لم تنفِ الانتفاعَ بسعي الغير، والفرق بينهما بَيِّنٌ، ومع هذا فلم يكن من عادات السلفَ إذا صَلَّوا تطوعًا أو صاموا تطوعًا أو حجوا تطوعًا أو قرأوا القرآنَ أن يُهْدُوا ثوابَ ذلك إلى موتى المسلمين بل ولا بخصوصهم، بل كان من عاداتِهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يَعدِلُوا عن طريق السلف فإنه أفضلُ وأكملُ. وقد بَسطنا الجوابَ في الإهداءِ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جواب كبير (2) ، وبيَّنا أنه ليس بمشروع، وذكرنا ما يتعلق بذلك من الحِكًمِ والمعاني، والله أعلم.   (1) سورة النجم: 39. (2) سيأتي فيما بعد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 مسألة في رجل في مسجدٍ وللمسجد مَصِيْفٌ، وإن الفقير قد حَفَر فيه قبرًا وبنى فَسْقِيَّةً (1) بقصد أن يدفن فيه، وقد حصلَ من يُنازِعُه في ذلك، وهل يجوز له أن يُدْفَن فيه؟ وهل يجوزُ أن يُقَر هذا البناءُ في المكانِ أم لا؟ الجواب الحمد لله ، لا يجوز أن يُدفَن أحدٌ في المسجد، فكيف في مسجد بنيَ قبلَ موته؟ فإن دَفْنَ الميتِ في مثل هذا المسجد حرامٌ بإجماع المسلمين. ولا يجوزُ لأحدٍ أن يَبنيَ قبرًا بفَسْقِيَّةٍ ولا غيرِ فسقية في مسجد، ولا فرقَ بين سَقْفِ المسجد ومَصِيْفِه، والمساعِدُ على ذلك عاصٍ لله ورسوله آثمٌ مخطيءٌ باتفاق المسلمين، والمُنكِر لذلك الناهِيْ عنه مطيعٌ لله ورسوله، ويَجبُ على كل مسلم قادرٍ إعانتُه، ويجبُ أن يُهدَمَ ما بُنيَ في المسجَدِ من المَصِيفِ وغيرِه من فسقيةِ المقبرة باتفاق المسلمين. والسنةُ التي كان عليها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابُه والتابعون وسائر الأئمة والمشايخ أن يُدفَنوا في مقابر المسلمين، لم يأمر منهم أحدٌ   (1) الفسقية: حوض من الرخام ونحوه مستديرٌ غالبًا، تَمجُّ الماءَ فيه نافورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 أن يُدفَن في مسجدٍ، ولا دُفِنَ أحدٌ منهم في مسجدٍ، بل لعنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يفعل ذلك، كما ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال قبلَ أن يموت بخمس: "إن من كان قبلَكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك". وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: "لعنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ" يُحذِّرُ ما فعلوا، قالت عائشة (3) : ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كَرِهَ أن يتخذَ مسجدًا، وقال (4) : "إنّ من شِرارِ الناس من تُدرِكُهم الساعةُ وهم أحياءٌ، والذين يتخذون القبورَ مساجد". فهذا سيد ولد آدم يَكرهُ أن يتَّخَذَ قبرُه مسجدًا، ودَفَنوه في حُجرتِه لأن لا [يُجْعَل] قبرُه مسجدًا، وكان المسلمون يُدفَنون في مقابرهم، فالذي يَقصد أن يُدفَن في دارٍ لِيُصَلَّى عنده مقصودُه خلافُ مقصودِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ومن قصدَ ذلك فقد ضادَّ أمرَ الله ورسوله. وفي السنن (5) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لعنَ الله زَوَّاراتِ القبور   (1) مسلم (532) عن جندب بن عبد الله. (2) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة. (3) أخرجه البخاري (1330،1390،4441) ومسلم (529) عنها. (4) أخرجه أحمد (1/405،435) وابن خزيمة في صحيحه (789) عن ابن مسعود. (5) أخرجه الترمذي (320) وغيره عن ابن عباس. وقد سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 والمتخذينَ عليها المساجدَ والسُّرُجَ". فمن قَصدَ أن يُدفَن بعضُ الشيوخِ في موضع ليُنْذَرَ له ويُسْرَجَ عليه فقد لعنه الله ورسولُه، وليس لهم أن يُغيّروا المسجد بفتح شبّاكٍ لأجلِ ذلك، والله سبحانه أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 مسألة في عملِ طعام في الخَتْمِ هل هو جائز؟ ومن يتحدثُ بين الناس بكلامٍ أو حكاياتٍ مفتعلةٍ كلها كَذِبٌ هل يجوز ذلك؟ الجواب الحمد لله، أما المتحدث بأحاديثَ مُفتعلةٍ ليُضْحِكَ الناسَ أو لغرضٍ آخرَ فإنه عاصٍ لله ورسوله، وقد رَوى بَهْزُ بن حَكيم عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال (1) : "إن الذي يُحدِّثُ فيَكذِبُ لِيُضْحِكَ القومَ منهم ويلٌ له ثم ويلٌ له ثم ويل له"، وقال ابن مسعود: إنّ الكذبَ لا يَصلح في جدٍّ ولا هَزْلٍ، ولا أن يَعِدَ أحدُكم صَبيَّه شيئًا ثم لا يُنْجِزَه. وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على مسلمٍ وضررٌ في الدين فهذا أشدُّ تحريمًا من ذلك، وبكل حالٍ ففاعلُ ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تَرْدَعُه عن ذلك.   (1) أخرجه أحمد (5/2،5،7) وأبو داود (4990) والترمذي (2315) والدارمي (2705) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 وأما ما يُصْنَع للميّت فالذي يَنفع الميتَ ويَصِلُ إليه باتفاق العلماء هو الصدقةُ ونحوُها، فإذا تَصدَّق عن الميت بذلك المال لقومٍ مستحقينَ لوجهِ الله تعالى ولم يَطُلْب منهم عملا أصلاً كان ذلك نافعًا للميتِ وللحيِّ الذي يَتصدقُ عنه باتفاق العلماء، كما في الصحيحين (1) أن سعدًا قال: يا رسولَ الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسها، وأراها لو تكلمتْ تصدَّقتْ، فهل يَنفعها إن أَتصدَّقْ عنها؟ قال: نعم. و أما اكتراءُ قوم يقرأون القرآنَ ويُهْدُون ذلكَ للميتِ فهذه بدعةٌ، لم يفعلها السلفُ ولا استحبَّها الأئمة، لكن لو قرأ الإنسانُ القرآنَ لله وأهداه للميتِ وصلَ إليه الثوابُ عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما كما تَصِلُ إليه الصدقةُ، فإن هذا تصدقَ لله وهذا قرأَ لله، وذلك عمكٌ صالح ينفعُ الله به الحيَّ والميتَ، بخلاف الذي يَكْتَرِي من يقرأ، فإن القارىءَ إنما قرأ لأجلِ العوضِ، والمُعطِي إنما أَعطَى عِوضًا عما استعملَه فيه. والفقهاء تَنازعوا في الاستئجار على تعليم القرآن، فأما استئجارُ من يقرأ ويُهدِيْ فما علمتُ أحدًا من العلماء ذَكَرَ ذلك، ولكن إذا قُرِىءَ القرآنُ فاستماعُه حسن.   (1) سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وأما الأكل من الطعام فإن كان قد صَنَعَه الوارثُ من مالِه لم يَحْرُم الأكلُ منه، وإن كان قد صُنِعَ من تَرِكةِ الميتِ - وعليه ديون لم تُوْفَ، وله ورثة صغار، وفي ذلك من حقوقِهم - لم يُؤكَل منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 مسألة في رجل ماتَ وتزوج أخوه امرأتَه ثم إنها ماتتْ، فهل يَحِلُّ أن تُدفَن مع زوجها الأولِ في قبرٍ واحد؟ الجواب الحمد لله ، يُكرَه دفُن اثنين في قبرٍ واحدٍ إلاّ لحاجةٍ، سواء كان أجنبيًا أو لم يكنْ، وإذا احْتِيْجَ إلى ذلك جُعِل بينهما حاجزٌ. مسألة في الصلاةِ على الجنازةِ قُدَّامَ الإمامِ. الجواب تنازع العلماء في الصلاة قُدَّامَ الإمام في الجنازة والجمعة وغير ذلك، فقيل: يصحُّ مطلقًا كقول مالك، وقيل: لا يصحُّ مطلقًا كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه في مذهبه، وقيل: يَصحُّ عند العذر، فإذا كان زَحْمة وتَعذَّر معها الصلاةُ خلفَه صلَّى أمامَه، وذلك خير من أن يَدَعَ الصلاةَ، وإن أمكنَه الصلاةُ لم يُصَلِّ أمامَه، وهذا أعدلُ الأقوال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 مسألة فيمن يُصلِّي على جنازةٍ قُدَّامَ الإمام وقُدَّامَ الجنازةِ، فهل تَصِحُّ أم لا؟ وهل تَصِحُّ صلاتُه لمن هو لابِسٌ مَدَاسَه؟ الجواب أما صلاته قُدَّامَ الإمام في الجمعة والجنازة والصلوات الخمس وغيرِ ذلك فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: لا يجوز، وهو مذهبُ أبي حنيفة وهو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد. وقيل: يجوز، وهو قول مالك والشافعي في القديم. وقيل: إن كان للحاجة جاز، وإلاَّ فلا، مثل أن يكون قُبَالَ وجهِه ولا يُمكِنُه الصلاةُ إلا قُدَّامَ الإمام، فالصلاةُ أمامَه خيرٌ من ترك الصلاة، وأما إذا أمكنَه الصلاةُ خلفَه فلا يُصلِّي إلاّ خلفَه. وهو أعدل الأقوال وأقواها، وهذا قولٌ في مذهب أحمد وغيرِه، والأحاديث هكذا وردت بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 مسألة في رجل كلَّما ختمَ القرآنَ أو قرأ شيئًا منه يقول: اللهمَّ اجعلْ ثوابَ ما قرأتُه هديةً مني وَاصِلةً إلى رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو إلى جميعِ أهلِ الأرضِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها. فهل يجوز ذلك أو يُستحبُّ؟ وهل يَجبُ إنكارُ ذلك على فاعلِه؟ وهل فَعَلَه أحدٌ من علماء المسلمين؟ الجواب الحمد لله، هذه المسألة مبنية على أصلِ، وهو أن إهداءَ ثواب العبادات إلى الموتى هل يَصِلُ إليهم أم لا؟ فأما العباداتُ المالية كالصدقة فلا نزاع بين المسلمين أنها تَصِلُ إلى الميت، إذ قد ثبتَ في الصحيح (1) أن سعدًا قال: يا رسول الله! إني أمي افْتُلِتَتْ نفسَها، وأراها لو تكلَّمتْ لتصدقتْ، فهل يَنفعُها إن أتصدَّقْ عنها؟ قال: نعم. وأما العباداتُ البدنية كالصوم والصلاة والقراءة ففيها قولان: أحدهما: يجوز إهداءُ ثوابها إلى الميت، وهو مذهب أبي   (1) سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 حنيفة وأحمد وطائفة من أصحاب مالك والشافعي. والثاني: لا تَصِلُ، وهو المشهور عند أصحاب مالك والشافعي، وقد ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي نَذرتْ صيامَ شهرٍ، فقال: "صُومِي عن أمك". فهذه الأحاديث الصحيحة تدلُّ على أن العبادات البدنية تُفعَلُ عن الميت كالعبادات المالية، وفي الترمذي (2) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يُضَحِّيْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدَ موته، ويَذكُر أنه أَمَرَه بذلك. إذا عُرِفَ هذا فإهداءُ ثواب القرآنِ إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو إلى جميع أهل الأرض هو مثلُ إهداءِ ثوابَ الصيام التطوع والصلاة التطوع ونحوهما، ومثلُ إهداء ثواب الصدقة والعتق والحج على أحد القولين إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسائر المسلمين، ولم يَبلُغْنا أن أحدًا من السلف والصحابة والتابعين وتابعيهم كان يَفعلُ ذلك، وأقدمُ مَن بَلَغَنا أنه فعلَ شيئًا من ذلك عليُّ بن الموفَّق أحدُ الشيوخ من طبقةِ أحمد الكبار وشيوخِ الجنيد. وبعضُ الناس يُنكِر هذا لأجل كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلَى من أن أحدًا يُهدِي إليه شيئًا، وهذا الإنكارُ ليس بجيدٍ، فإنّا مأمورون أن نُصلِّيَ   (1) البخاري (1953) ومسلم (1148) عن ابن عباس. (2) برقم (1495) . قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلاّ من حديث شريك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن نُسلِّم عليه وأن نسألَ له الوسيلةَ، وقد ثبتَ عنه أنه قال (1) : "إذا سمعتم المؤذِّنَ فقولوا مثلَ ما يقول، ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكونَ ذلك العبدَ، فمن سألَ اللهَ لي الوسيلةَ حَلَّتْ عليه شفاعتي يومَ القيامة". والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: "لا تنسَنا مِن دعائِك" (2) ، ولما أخبره بأُوَيس القَرَنِيّ قال: "إن استطعتَ أن يَستغفِرَ لك فليستغفرْ لك" (3) . وكذلك الصدقة عن الميت والصوم عنه يجوز، وإن كان الميتُ أفضلَ ممن يصوم عنه ويتصدقُ عنه، فكونُ الشخصِ الميتِ أفضلَ من الحيّ أو كونُه نبيًّا أو صِدِّيقًا لا يَمنَعُ أن يُشرَعَ للحيّ الدعاءُ له، كما أنه يُصلِّي على جنازته، ولا يُمنَع أيضًا أن يُهدِيَ إليه ما يُهدِيْ إلى الميت من ثواب الأعمال الصالحة، والله تعالى بفضلِه يرحم هذا وهذا، كما قال (4) : "من صلَّى عليَّ واحدةً صلى الله عليه عشرًا". و"من سألَ لي الوسيلةَ حلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة" (5) .   (1) أخرجه مسلم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (2) أخرجه أحمد (1/29) وأبو داود (1498) والترمذي (3562) وابن ماجه (2894) عن عمر بن الخطاب. وضعَّفه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (2248) . (3) أخرجه مسلم (2542) عن عمر بن الخطاب. (4) أخرجه مسلم (408) عن أبي هريرة. (5) سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 لكن إهداء ثواب الأعمال إلى جميع الناس ما سمعتُ أحدًا فَعَلَه، ولا سمعتُ أن أحدًا كان يُهدِيْ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلاَّ ما بَلَغَني عن علي بن الموفَّق ونحوه. والاقتداءُ بالصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، فينبغي للإنسان أن يفعلَ المشروعَ من الصلاة عليه والتسليم، فهذا هو الذي أمر الله به ورسولُه. وفي السنن (1) عنه: "أَكثِرُوا على من الصلاة يومَ الجمعة وليلةَ الجمعة، فإن صلاتكُم معروضة عليَّ"، قالوا: وكيف تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: "إن الله حَرَّمَ على الأرضِ أن تأكلَ لحومَ الأنبياءِ". وقال له رجل: أَجعلُ لك ثُلُثَ صلاتي، فقال: "إذًا يكفيك الله ثُلُثَ أمرِك"، قال: أجعلُ نصفَ صلاتي، فقال: "إذًا يكفيك الله نصفَ أمرك"، قال: أجعلُ ثُلُثَيْ صلاتي، قال: "إذًا يكفيك الله ثُلُثَيْ أمرِك"، فقال: أجعلُ صلاتي كلَّها عليك، قال: "إذا يكفيك الله ما أَهَمَّك من أمرِ دنياك وآخرتك" (2) . وفي فضل الصلاة عليه - بأبي هو وأمي - من الآثار ما يَضِيْقُ هذا الموضع عن ذكره، وكذلك الدعاءُ للمؤمنين والمؤمنات والاستغفار لهم هو الذي جاء به الكتاب والسنة، قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (3) ، وفي السنن (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) أخرجه أحمد (4/8) وأبو داود (1047،1531) والنسائي (3/91) وابن ماجه (1085،1636) عن أوس بن أوس. (2) أخرجه أحمد (5/136) والترمذي (2457) عن أبي بن كعب. (3) سورة محمد: 19. (4) لم أجده فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 مر بعلي وهو يدعو فقال: "يا عليُّ! عُمَّ فإن فضلَ العموم على الخصوصِ كفضلِ السماء على الأرض"، وفي السنن (1) : "أسرعُ الدعاءِ إجابةً دعوةُ غائب لغائبٍ". وفي الصحيح (2) : "ما من رجلٍ يدعو لأخيه بظهرِ الغيب بدعوةٍ إلاّ وكَّلَ اللهُ به ملكًا، كلَّما قال الملك الموكَّلُ به آمينَ قال: ولكَ بمِثْل". فالأفعال الشرعية هي التي ينبغي للمؤمن أن يتحرَّاها، والله أَعلم.   (1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (623) وأبو داود (1535) والترمذي (1980) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وضعَّفه الترمذي لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي. (2) مسلم (2732) عن أبي الدرداء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 مسألة في الميت هل غِسْلُه طاهر أم نجس؟ وهل تُلْحِدُ المرأةُ الرجل أو الرجلُ المرأةَ؟ وهل يجب أن يَحُجَّ عن المرأةِ الرجلُ وعن الرجلِ المرأةُ؟ وما يُعطِي الحاجُّ عن الميت؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، بل غِسْلُه طاهر عند جماهير العلماء، فإن ابن عباس وغير واحد من الصحابة قال: الميتُ لا ينجس حيًّا ولا ميتًا، وثبت في الصحيح (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيَ بعضَ أصحابه في طريقٍ فاختفى منه، فذهبَ فاغتسلَ ثم جاء، فقال: "أين كنت"؟، قال: إني كنتُ جُنُبًا، قال: "سبحان الله! إنّ المؤمنَ لا يَنْجسُ". ولهذا قال جمهور العلماء على أن الماء المستعمل من غُسْلِ الجنابةِ والحيضِ والوضوءِ طاهر. وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأَ وصبَّ وَضوءَه على جابر. وأما دَفْنُ الرجلِ للمرأة فإذا كانت المرأة تُدفَن في المقابر   (1) أخرجه البخاري (283، 285) ومسلم (371) عن أبي هريرة. (2) البخاري (194 ومواضع أخرى) عن جابر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 فالسنةُ أن لا يَشهَدَ جنازتَها إلا الرجالُ لا يحضر النساء، فحينئذٍ فيَدفِنُها رجلٌ من أهل الخير، كما ثبتَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة أن يَنزِلَ في قبر ابنته (1) . وهذا وإن كان فيه مسُّ المرأة فوقَ الكفنِ فهو جائز لأجل الحاجة، لأن خروج النساء مع الجنائز منهيٌّ عنه. وأما إن قُدِّرَ أن المرأةَ تُدفَن في موضع فيه النساءُ، فإلحادُ المرأةِ لها أولى من إلحادِ الرجل إذا لم يكن في ذلك مفسدة. والرجلُ يُلْحِده الرجالُ إلاّ إذا احتِيْجَ إلى إلحادِ النساء له، فإن ذلك جائز، وإلحادُ النساءِ الرجالَ أخفُّ من تغسيلهن له، وفي جواز تغسيلِ ذواتِ محارمِه له وتغسيلِ الرجلِ لذواتِ محارمِه نزاعٌ مشهور بين العلماء، وفي إلحاد الرجلِ للمرأة أيضًا نزاعٌ، لكن الذي ذكرناه صحَّتْ به السنة. ويجوز أن يَحُجَّ الرجلُ عن المرأة باتفاق العلماء، وكذلك يجوز للمرأة عن الرجل عند الأئمة الأربعة، وخالفهم بعضُ الفقهاء لأن حجَّها أنقصُ، وليس بشيء، فإنه قد ثبتَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ امرأةً أن تَحُجَّ عن أبيها (2) ، وليس لأحدٍ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولٌ. ويُحَجُّ عن المُعتَقةِ كما يُحجُّ عن الحرَّةِ الأصل، فإن كان الحج وجبَ عليهما في حياتهما وجبَ أن يُخرَج عنهما من رأسِ المال في   (1) أخرجه البخاري (1285،1342) عن أنس. (2) أخرجه البخاري (1513 ومواضع أخرى) ومسلم (1334) عن عبد الله بن عباس. وفي بعض الروايات عندهما عن عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 مذهب الشافعي وأحمد ومن وافقهما، وأما أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما فيستحبون الإخراج عنهما، ولا يوجبونه إلاّ إذا وَصَّتْ به، ويكون من الثلث، وينبغي أن يُخرَجَ عنها حجةٌ تامةٌ من حيث أمرتْ بالحاجّ، ويخرج عنها حجة مثلها، وإذا أُخرِجَ من القاهرةِ ما ينوي الخمسَ مئة إلى الألف كان مقاربًا. وإن لم يجب الحجُّ عليها في حياتها فيُستحَبُّ أن يُحَجَّ عنها بعد موتها، والحجة تامةً أفضلُ من حجةٍ مقامية، ويُعطَى الحاجُّ ما يكفيه بالمعروف. وأما إذا دَبَّرها - وهي التي يُعتِقها بعد موته - إذا ماتتْ في حياتِه فلا حَجَّ عليها بإجماع المسلمين، لكن إن أُخرِجَ عنها حجُّ التطوع كان ذلك حسنًا، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 مسألة في حديث في مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تَعُدُّون الرَّقُوبَ فيكم؟ "، قال؟ قلنا يا رسول الله! الذي لا يُولَد له، قال: "ليس ذلك بالرقوب، ولكنه الرجلُ الذي لم يُقدِّمْ من ولدِه شيئًا"، الجواب عن الرقوب ما هو؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، الرَّقُوبُ في اللغة هو الذي لا وَلدَ له أو الذي لا يَعيش له ولد، وهو مشتق من الرُّقْبَى، والرقبى أن يَرقُبَ كل واحدٍ من الشخصين موتَ الآخر، كما أن المفلس في اللغة هو الذي لا وفاءَ لِدَينه، والمسكين في اللغة هو الطوَّاف، فقوله عن الرقوب مثل قوله (2) : "ما تَعُدُّونَ المفلسَ فيكم؟ "، قالوا: من ليس له درهم ولا دينار، قال: "لا، ولكن المفلسَ من يجيء يومَ القيامة بحسناتٍ أمثالِ الجبال، قد ظَلَمَ هذا وشَتَم هذا وأخذَ مالَ هذا، فيأخذُ هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإذا لم يَبْقَ له حسنةٌ أُخِذَ من سيئاتِهم فألُقِيَتْ عليه، ثم يُلْقَى في النار".   (1) برقم (2608) . (2) أخرجه مسلم (2581) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيَّن لهم أن المفلسَ الحقيقي هو من أفلسَ في الآخرة، والرقوب الحقيقي الذي ليس له ولدٌ يُؤجَر عليه، ومن لم يُقدِّم من ولده شيئًا لم يُؤجَرْ على الولد، والإنسان إنما يطلب بولده وماله النفعَ، ويَعُدُّ عَدَمَ ذلك مصيبة، فبين لهم أن النفع الحقيقي والمصيبة الحقيقية التي ينبغي للعاقل أن يَعُدَّها منفعةً ومصيبةً هو حالُ من نَظَرَ في عواقب الأمور ونهاياتِها لا في أوائلِها وبداياتِها، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 مسألة في رجل عَزَمَ على حَفْرِ قبرِه في حال حياته، فماذا يُستحبُّ أن يَفعلَ مع ذلك من الأجر الموجب لثواب الله سبحانه والأفضل فيه؟ عَرِّفُونا مبسوطًا. الجواب لا يُستحبُّ للرجل أن يَحفِرَ قبرَه قبل أن يموت، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعلِ ذلك هو ولا أصحابُه، وأيضًا فإن الله تعالى يقول: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (1) ، والعبد لا يدري أين يموت، وكم مَن أعدَّ له قبرًا وبني عليه بناءً وقُتِلَ أو ماتَ في بلدٍ آخر، وإذا كان مقصودُ الرجل الاستعدادَ للموت فهذا يكون بالعمل الصالح، فإن العبد إنما يُؤنسُه في قبره عملُه الصالح، فكلَّما أكثر من الأعمال الصالحة - كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كان ذلك هو الذي ينفعه في قبره، لا ينفعه بناءُ القبر ولا توسيعُه ولا ترتيبُه، بل قد ثبتَ في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن يُجصَّصَ القبرُ وأن   (1) سورة لقمان: 34. (2) مسلم (970) عن جابر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 يُبنَى عليه، فكيف بمن يَبني القبور كأنها قصور؟ فهذا من أعظم ما يُنكَر من الأمور، وهو باتفاق المسلمين لا يَنفع الميّتَ شيئًا، وإنما ينفعه العملُ الصالح، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الكيِّسُ من دَانَ نفسَه وعَمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزُ من أَتْبَعَ نفسَه هَواها وتَمنَّى على اللهِ الأماني" (1) . ف من ظنَّ أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمَه وتحسينَه ينفعُه فقد تمنَّى على الله الأماني الكاذبةَ، وإنما يكون في قبره بحسب ما في قلبه، وكلَّما كان الإيمانُ في قلبه أعظم كان في قبره أسرَّ وأنعمَ، قال الله تعالى:) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)) (2) ، فجمعَ سبحانَه بين ما في القبور وما في الصدور، وفي الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للمشركين عامَ الخندق: "ملأَ الله قبورَهمِ وأجوافَهم نارًا كما شَغَلُونا عن الصلاةِ الوسطى صلاة العصر حتى غرَبتِ الشمسُ". وهذا باب واسعٌ لا يتسعُ له هذا الموضع، والله أعلم.   (1) أخرجه أحمد (4/124) والترمذي (2459) وابن ماجه (4260) عن شداد بن أوس. (2) سورة العاديات: 9-11. (3) البخاري (2931، 4111، 4533،6396) ومسلم (627) عن علي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 مسألة في أطفال المؤمنين الذين يموتون دون الثلاث، هل لهم صحائفُ أعمال يُكتَب فيها ما يُهدَى لهم من قرآنٍ وصدقة أم لا؟ وهل يُسأَلون في قبورهم ويُحاسَبون أم لا؟ وهل يَدُومون على حالتهم التي ماتوا عليها في القيامة أم يَكبرون ويتزوجون إذا دخلوا الجنة؟ والبنات اللاتي يُدفَنَّ أبكارًا هل يُزَوَّجْنَ في الجنة؟ وهل في الجنة حَبل وولادة في الناسِ كلِّهم أم ناس دون ناس؟ وهل ذلك صحيح؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، أما ما يُهدَى إلى الأطفال من صدقة ونحوها من العبادات المالية فتَصلُ إليه بلا نزاع، وفي العبادات البدنية قولان مشهوران، لكن مذهب أحمد وأصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي أنها تَصِلُ أيضًا كما تصل المالية وهو الصحيح، والمُهدَى إلى الصغارِ والكبارِ سواء في باب كتابتِه، فلا يقال إنَ ما يُهدَى إلى الكبارِ يُكتَب دون ما يُهدَى إلى الصغارِ، بل حكمُ النوعين واحد. وأما سؤالهم في القبر ففيه قولان مشهوران لأصحاب أحمد وغيرهم من أهل السنة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 أحدهما: أنهم لا يُسأَلون، وهذا قول القاضي وابن عقيل وغيرهما، قالوا: لأن السؤال في القبر إنما يكون لمن كان مكلفًا في الدنيا، والصبي والمجنون ليس بمكلف فلا يُسأَل. والقول الثاني: وهو قول أبي حكيم النهرواني، وهو الذي نقله أبو الحسن علي بن عبدوس عن أصحاب أحمد أنهم يُسأَلون، لما في "الموطأ" (1) أن أبا هريرة صلَّى على صغير لم يعمل خطيئة قط فقال: اللهمَّ قِهِ عذابَ القبرِ وضيقةَ القبر. وهذا قد ينبني على امتحانِهم في عرصاتِ القيامة، وقد جاءت بذلك أحاديث (2) . وأما حالهم في الآخرة فإنهم إذا دخلوا الجنةَ دخلوها كما يدخلها الكبارُ على صورةِ أبيهم آدمَ، طولُ أحدِهم ستونَ ذراعًا في عَرْضِ سبعةِ أَذرعُ، ويتزوجون كما يتزوج الكبار، ومن مات من النساء ولم تتزوجْ فإنها تتزوجُ في الآخرة، وكذلك من مات من الرجال فإنه يتزوج في الآخرة.   (1) 1/228. (2) سبق ذكرها في المجموعة الثالثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 مسألة في مقبرة للمسلمين، وأهلُ الذمة يُدفَنون فيها، هل يَجبُ على ولي الأمرِ منعُهم أم لا؟ الجواب الحمد لله ، ليس لأهل الذمة دَفْنُ موتاهم في شيء من مقابرٍ المسلمين لا الشهداءِ ولا غيرِهم، بل لابدَّ أن تكون مقابرُهم متميزة عن مقابرِ المسلمين تميزًا ظاهرًا، بحيث لا يختلطون بهم ولا يشتبه قبورُ المسلمين بقبور الكفار، وهذا أوكدُ من التمييز بينهم حالَ الحياة بلُبْسِ الغِيار ونحوه، فإن مقابر المسلمين فيها الرحمةُ، ومقابر الكفار فيها العذابُ، بل ينبغي مباعدةُ مقابرِهم عن المسلمين، وكلَّما بَعُدَتْ عنها كان أصلحَ، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 مسألة في الخلائقِ إذا حُشِروا يومَ القيامة هل يُحشَرون جميعُهم عَرَايَا، أو بعضُهم عُراةً وبعضُهم بأكفانِهم؟ وقول أبي سفيان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بَالِغُوا في أكفانِ موتاكم، فإن أمتي تُحشَر بأكفانها، وسائرُ الأمم عراة" كما ذكره الغزالي. وهل يموتُ إدريسُ من الصَّعْقَة؟ الجواب الذي في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الميت يُبعَث في ثيابه التي قُبِض فيها". أخرجه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه (1) وغيرُه. وقد رُوِي أن أبا سعيد لما حضرتْه الوفاةُ دَعَا بثيابٍ جُدُدٍ، فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الميتُ يُبعَث في ثيابه التي يموتُ فيها" (2) . فأبو سعيد على هذا حملَ الحديثَ على أن الثياب التي يموتُ   (1) بر قم (2575- موارد) . (2) أخرجه أبو داود (3114) والحاكم في "المستدرك" (1/340) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/384) . وصححه الألباني في "الصحيحة" (1671) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 فيها العبدُ يُبعَث فيها، ولم يقل: إنه يُبعَث في أكفانه، فإن الكفن غير الثياب التي يموتُ فيها، فإن عامة الموتى لا يُكفَّنون في ثيابهم التي يُقبَضون فيها، لا سيما والكفن الذي كُفِّن فيه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيه مما يُمسى فيه، فإنها لم يكن فيها قميصٌ ولا عمامةٌ، فإنه إذا عُرِفَ أن الحديث المأثور إنما هو أنه يُبعَث في ثيابه التي قُبض فيها، فقيل: يُبعَث في نفس الثوب الطاهر. وقال طوائف من أهل العلم - كأبي حاتم وغيرِه -: إن المراد بذلك أنه يُبعث على ما مات عليه من العمل، سواء كان صالحًا أو سيئًا، كما قال أكثر المفسرين في قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)) (1) أن المراد به إصلاح العمل وتطهير النفس من الرذائل (2) . ومثل هذا كثير في كلامهم، كما قيل: ثِيابُ بني عوفٍ طَهارَى نقية (3) ويقال: "فلانٌ طاهر الثياب". يؤيد هذا شيئان: أحدهما: أن الذي جاء في الحديث أنه يُبعَث على ما مات عليه من خيرٍ وشرٍّ، كما جاء، فما خُتِم له به يُبعَث عليه، كما في حديث جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يُبعَث كل عبدٍ على ما مات عليه".   (1) سورة المدثر: 4. (2) انظر تفسير الطبري (29/91،92) وابن كثير (4/470) . (3) عجزه: وأوجههُم عند المشاهدِ غُرَّانُ. والبيت لامرىء القيس في ديوانه: 83. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 رواه أبو حاتم في صحيحه (1) . الثاني: أن الأحاديث الصحيحة تُبين أنهم يُحشَرون عُراةً، كما في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُحشَر الناسُ يوم القيامة حُفاةً عُرَاةً غُرْلاً"، ثم قرأ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (3) . وفي لفظٍ في الصحيح (4) : "أوّلُ من يُكسَى إبراهيم الخليل". وفي الصحيح (5) أيضًا عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يُحشَر الناسُ يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرلاً"، قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضُهم إلى بعض! قال: "يا عائشة! الأمرُ أشدُّ من أن يَنظُر بعضُهم إلى بعضٍ". فهذا وأمثالُه أحاديث صحيحة لا يجوز أن تُعَارَضَ بمثل ذلك اللفظ المجمل. وأيضًا فإن بَعْثَه على ما مات عليه من خيرٍ وشرٍّ ظاهر، فإن الأعمال بالخواتيم، وقد ثبت في الصحيح (6) "أن العبد ليعملُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيَسبِق عليه الكتابُ، فيعملُ بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن العبد ليعملُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيَسبِق عليه الكتابُ،   (1) 9/210 (ط. الحوت) . وأخرجه أيضًا مسلم (2878) وأحمد (3/314، 331،366) . (2) البخاري (6527) ومسلم (2759) عن عائشة. (3) سورة الأنبياء: 104. (4) البخاري (6526) ومسلم (2860) عن ابن عباس. (5) هو الحديث الذي مضى آنفًا. (6) البخاري (3208 ومواضع أخرى) ومسلم (2643) عن ابن مسعود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 فيعملُ بعمل [أهل] الجنة فيدخلُ الجنة". فهذا وأمثاله تُبين أنه في الآخرة يُحشَر على ما ماتَ عليه. وأما ثوبُه الذي كان عليه وقتَ الموت فلا مناسبةَ في بَعْثِه فيه، فقد تموتُ الأنبياء والصالحون (1) في الثياب الرَّثَّةِ، وقد يموتُ الكفار والمنافقون في ثياب حسنةٍ، فهل يكون قيامُ الكفّار والمنافقين من قبورهم أجملَ وأبهَى من قيام الأنبياء والمؤمنين؟ ولو كان صحيحًا لكان تكفينُه في ثيابه التي مات فيها ويُبْعَثُ فيها أولى من تكفينه في غيرِها، وليس الأمر كذلك، بل قد يختلف الحكم في ذلك. وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذا كَفنَ أحدُكم أخاه فليُحسِنْ كَفنه". وقد رُوِي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ بشَدِّ الفخذِ في بعض الجنائز، وقال: "إن هذا لا يُغنِيْ شيئًا، وإنما تَطِيب نفسُ الحيِّ" (3) ، ولو كان الميتُ يُبْعَث في ثياب موته لوردت السنة بتجميلها. وأما الأكفانُ فلا أصلَ لكونه يُبعَث فيها بحالٍ. و أما إدريس فقد رُوِي أنه ماتَ في السماء (4) ، فلا يحتاج إلى موتٍ ثانٍ، والله سبحانه قد أخبرَ بصَعَقِ من في السماوات ومن في   (1) في الأصل: "الصالحين". (2) مسلم (943) عن جابر. (3) لم أجده فيما بين يديّ من المصادر. (4) أخرجه الطبري في تفسيره (16/72) عن كعب الأحبار. انظر "البداية والنهاية" (1/234-236) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 الأرض إلاّ من شاء الله (1) ، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ذكر "أن الناس يَصعَقون يومَ القيامة فأكونُ أوَّلَ مَن أفيقُ، فأجدُ موسى باطش بساقِ العرش، لا أدري هل أفاقَ قبلي أم كان ممّا استثنى الله" (2) . فإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد توقَّف في مثل هذا فكيف يَجْزِمُ أحدنا بما لا علمَ له به؟ والله أعلم.   (1) سورة الزمر: 68. (2) أخرجه البخاري (6517 ومواضع أخرى) ومسلم (2373) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 مسألة في معنى قوله "من قُتِل دونَ مالِه فهو شهيد" (1) ، وهل يجب على الشخص أن يَبذُل ثُلُثَ مالِه قبلَ القتال - كما هو متعارفٌ بين الناس - أم يجوز ذلك؟ وهل الواجب عليه الدفعُ عن نفسه وأهلِه ومالِه دون البذل؟ الجواب قد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن قُتِل دونَ مالِه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دمِه فهو شهيد، ومَن قُتِلَ دونَ حُرمتِه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دينه فهو شهيد" (2) . واتفق العلماءُ على أن قُطَاعَ الطريق إذا تعرَّضوا لأبناءِ السبيل يُريدون أموالَهم فإن لهم أن يقاتلوهم دفعًا عن أموالِهم، إذا لم يندفعوا إلاّ بالقتال، ولا يجب عليهم أن يبذلوا لهم من المال لا قليلاً ولا كثيرًا، لا الثلث ولا غير الثلث، لكن إن أحبُّوا هم أن   (1) أخرجه البخاري (2480) ومسلم (141) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (2) أخرجه أحمد (1/190) وأبو داود (4772) والترمذي (1421) والنسائي (7/116) عن سعيد بن زيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 يبذلوا ذلك ويتركوا القتال فلهم ذلك، وليس بواجب عليهم، إلاّ أن يكونوا عاجزين عن القتال، فحينئذ يُصالِحونهم بما أمكن، ولا يُقاتِلون قتالاً تذهبُ فيه أنفسُهم وأموالُهم. وأما الوجوب فلا يجب عليهم الدفعُ عن أموالِهم، بل لهم أن يقاتلوا عنها ولهم أن يبذلوها، لأنّ إعطاء المال لهم جائز، وإمساكه عنهم جائز، والعبد يَفعَلُ أصلحَ الأمرينِ عنده. وأما الدفعُ عن الحرمة مثل أن يريد الظالمُ أن يَفجُر بامرأةِ الإنسان أو ذاتِ محرمِه أو بنفسِه أو بولدِه ونحو ذلك، فهذا يجب عليه الدفعُ، لأن التمكينَ من فعلِ الفاحشة لا يجوز، كما لا يجوز بذل المال، فيجب عليه أن يدفع ذلك بحسب إمكانه، وإذا لم يندفع إلاّ بالقتال وهو قادرٌ عليه قاتَلَ. وأما دفعُه عن دمِه فهو جائز أيضًا، لكن في وجوبِه قولانِ للعلماء هما روايتان عن أحمدَ: أحدهما: لا يجب، لأن ابن آدم المظلوم لما أراد أخوه قَتْلَه لم يَدفعْ عن نفسِه، وقال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)) (1) . وكذلك أمير المؤمنين عثمان لما طلب الخوارجُ قتلَه لم يدفع   (1) سورة المائدة: 28-29. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 عن نفسه، وأمرَ الذين جاءوا ليقاتلوا عنه - كغلمانِه وأقاربِه والحسن ابن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهم - أن لا يقاتلوا، وكان ذلك من مناقبه رضي الله عنه. والقول الثاني: يجب الدفعُ عن نفسه، لأن قتلَه بغير حقٍّ محرَّمٌ، فلا يجوز له التمكين من محرَّمٍ. وهذا إذا لم تكن فتنة، وأما إذا كانت فتنة بين المسلمين، مثل أن يقتتل رجلانِ أو طائفتان على مُلْكِ أو رئاسةِ أو على أهواء بينهم، كأهواءِ القبائل والموالي الذين ينتسب كل طائفة إلى رئيسٍ أعتقَهم، فيقاتِلون على رئاسةِ سيدهم، وأهواءِ أهل المدائن الذين يتعصَّبُ كل طائفة لأهلِ مدينتهم، وأهواء أهل المذاهب والطرائق كالفقهاء الذين يتعصَّب كل قومِ لحزبهم ويقتتلون، كما كانَ يَجري في بلادِ الأعاجم، ونحو ذلك، فهذا قتال الفتنة يُنهَى عنه هؤلاء وهؤلاء، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا التقى المسلمانِ بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أرادَ قتلَ صاحبِه" (1) . وفي الصحيح (2) أنه قال: "مَن قُتِل تحتَ رايةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبةٍ ويدعو لِعَصَبةِ فليس منا - أو قال: - هو في النار". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ستكون فتنةٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من   (1) أخرجه البخاري (31،6875) ومسلم (2888) عن أبي بكرة. (2) مسلم (1848) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خيرٌ من المرجِع" (1) . والأحاديث الصحيحة كثيرة في نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القتال في الفتنة، بل عند التداعي بسعارِها، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سمعتموه يتعزَّى بعَزَاءِ الجاهلية فأعِضوهُ هَنَ أبيه ولا تكنُوا" (2) ، يعني: إذا قال الداعي: يا لفُلان! أو يا للطائفة الفلانية! فقولوا له: اغْضَضْ ذَكَرَ أبيك. وفي الصحيحين (3) عنه أن المسلمين كانوا معه في سفرٍ، فاقتتل - يعني - رجلٌ من المهاجرين ورجلٌ من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أبدعوى الجاهلية وأنا بينَ أظهرِكم؟ دَعُوها فإنها مُنْتِنَةٌ". وقال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (4) ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ   (1) أخرجه البخاري (3601،7081،7082) ومسلم (2886) عن أبي هريرة. (2) أخرجه أحمد (5/136) والبخاري في "الأدب المفرد" (963) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (975،976) عن أبي بن كعب. وانظر كلام الألباني عليه وتصحيحه في "الصحيحة" (269) . (3) البخاري (4905) ومسلم (2584) عن جابر. (4) سورة البقرة: 193. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (1) . قال ابن عباس: تَبيَضُّ وجوهُ أهل السنة والجماعة، وتَسودُّ وجوهُ أهل البدعة والضلالة. وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (2) . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إلا فضلَ لعربيّ على عجمي، ولا لعجميّ على عربي، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلاّ بالتقوى، الناسُ من آدمَ وآدمُ من تراب" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالحمَّى والسَّهَر" (4) . فالله قد جعل المؤمنين إخوةً مع الاقتتال، وأَمَر بالعدل بينهم، فقال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ   (1) سورة آل عمران: 102-106. (2) سورة الحجرات: 13. (3) أخرجه أحمد (5/411) عن أبي نضرة عمن سمع خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/100) عن أبي نضرة عن جابر، وفي إسناده بعض من يُجهل. وانظر "الصحيحة" (2700) . (4) أخرجه البخاري (6430) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (1) . فجعلنا إخوةً مع الاقتتال والبغي، وأمر بالعدل بينهم. فيجب على كلِّ أحدٍ أن يُعَظِّمَ أهلَ التقوى والحق ويكونَ معهم، سواء كانوا من طائفته أو لم يكونوا، ويَقصِدَ أن يكونَ الدينُ لله لا لمخلوقٍ، فإذا فُضِّل هؤلاء على هؤلاء لم يكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل يَسعَى بينهم بالعدل والإصلاح. فإذا طُلِب قتلُ الرجلِ في هذه الحال وهو لا يُريد أن يُقاتِلَ أحدًا، فهل له أن يَدفعَ عن نفسِه في هذه الحال؟ على قولين للعلماء هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا يَدفَعُ عن نفسه وإن قُتِل، حتى لا يكون مقاتلاً في الفتنة، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للسائل لما سأله عن ذلك: "دَعْهُ حتى يَبُوْءَ بإثمِه وإثْمِك" (2) . والثاني: يجوز لعموم الحديث، والأحاديث الخاصة تُبين أنه نهَى عن القتال في الفتنة وإن قُتِل مظلومًا، ولهذا لم يقاتل عثمان رضي الله عنه، لأنه رأى أن ذلك يُفضِي إلى الفتنة. والله أعلم.   (1) سورة الحجرات: 9-10. (2) أخرجه مسلم (2887) عن أبي بكرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 مسألة سؤال منكر ونكير، الميتُ إذا ماتَ تدخل الروح في جسده ويجلس ويُجاوِب منكر ونكير، فيحتاج موتًا ثانيًا؟ الجواب عودُ الروح في بدن الميت في القبر ليس مثل عَودِها إليه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان ذاك قد يكون أكملَ من بعض الوجوه، كما أن النشأة الآخرة ليست مثلَ هذه النشأة وإن كانت أكملَ منها، بل كل موطنٍ في هذه الدار وفي البرزخ والقيامة له حكم يَخُضُّه. ولهذا أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الميت يُوَسَّع له في قبرِه ويُسْألَ ونحو ذلك، وإن كان التراب قد لا يتغير. فالروح تُعادُ إلى بدن الميت وتُفارِقُه، وهل يُسَمَّى ذلك موتًا؟ فيه قولان: قيل: يُسمَّى ذلك موتًا، وتأوَّلوا على ذلك قولَه (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (1) . قيل: إن الحياة الأولى في هذه الدنيا، والحياة الثانية في القبر، والموتة الثانية في القبر.   (1) سورة غافر: 11. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 والصحيح أن هذه الآية كقوله (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (1) . فالموتة الأولى قبل هذه الحياة، والموتة الثانية بعد هذه الحياة، وقوله (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد الموت. قال: (*مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)) (2) ، وقال: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)) (3) . فالروح تتصل بالبدن متى شاء الله، وتُفارقه متى شاء الله، لا يتوقَّتُ ذلك بمرّةٍ ولا مرَّتين، والنومُ أخو الموت، ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول إذا أَوَى إلى فراشِه: "باسمك اللهمَّ أموتُ وأحيَا". وكان إذا استيقظ يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النُّشُور" (4) . فقد سمَّى النومَ موتًا والاستيقاظَ حياةً. وقد قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)) (5) ، فبيَّن أنه يتوفَّى الأنفسَ على نوعين، فيتوفاها حينَ الموت، ويتوفّى الأنفس التي لم تَمُتْ بالنوم، ثمَّ إذا ناموا فمن مات في منامِه أمسكَ نفسَه، ومن لم يَمُتْ   (1) سورة البقرة: 28. (2) سورة طه: 55. (3) سورة الأعراف: 25. (4) أخرجه البخاري (6312،6314،6324،7394) عن حذيفة. وأخرجه البخاري (6325،7395) عن أبي ذر. (5) سورة الزمر: 42. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 أرسلَ نفسَه. ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أَوَى إلى فراشِه قال: "باسمك ربّي وضعتُ جَنْبي، وبك أرفعُه، فإن أمسكتَ نفسي فارحمْها، وإن أرسلتَها فاحفظْها بما تحفَظُ به عبادك الصالحين" (1) . والنائمُ يَحصُلُ له في منامِه لذّةٌ وألمٌ، وذلك يحصلُ للروح والبدن، حتى إنه يحصلُ له في منامِه من يَضْرِبُه، فيُصبِحُ والوجَعُ في بدنِه، ويَرى في منامِه أنه أطعِمَ شيئًا طيبًا، فيُصْبِحُ وطَعْمُه في فمِه، وهذا موجود، فإذا كان النائم يَحْصُل لروحِه وبدنِه من النعيم والعذاب ما يُحِسُّ به والذي إلى جَنْبِه لا يُحِسُّ به، حتى قد يَصِيح النائمُ من شِدَّةِ الألم والفزع الذي يحصُل له ويسمع اليقظان صياحَه، وقد يتكلَّم إمّا بقراَن وإمّا بذكرٍ وإمّا بجواب، واليقظان يسمع ذلك وهو نائم عينُه مُغْمَضَة، ولو خُوطِب لم يَستَمعْ، فكيف يُنكَرُ حالُ المقبور الذي أخبرَ الرسولُ بأنه يَسمعُ قرعَ نعالِهم، وقال: "ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم" (2) . والقلبُ يُشبَّه بالقبر، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فاتته صلاةُ العصر يومَ الخندق: "مَلأَ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا" (3) ، وفي لفظ: "قلوبهم وقبورهم نارًا"، وفرّق بينها في قوله: (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)) (4) .   (1) أخرجه البخاري (6320،7393) ومسلم (2714) عن أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (1370،3980،4026) عن ابن عمر. (3) سبق تخريجه. (4) سورة العاديات: 9-10. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 وهذا تقريب وتقرير لإمكان ذلك، ولا يجوز أن يقال: ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب مثلُ ما يجده النائمُ في منامِه، بل ذلك النعيم والعذاب أكملُ وأبلغُ وأتمُّ، وهو نعيمٌ حقيقي وعذابٌ حقيقي، ولكن يُذكَر هذا المثل لبيان إمكانِ ذلك إذا قال السائل: الميتُ لا يتحرك في قبرِه، أو الترابُ لا يتغير، ونحو ذلك. مع أن هذه المسألة لها بسط يطولُ وشرح لا يحتمل هذه الورقة. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 مسألة الميت في أيام مَرَضِه أدركَه شهرُ رمضانَ، ولم يكن يَقدِر على الصيام، وتوفي وعليه صيام شهر رمضان، وكذلك الصلاة مدةَ مرضِه، ووالداه بالحياة، فهل تَسقُط الصلاة والصيام عنه إذا صامَا عنه وصلَّيَا إذا وَصَّى أو لم يُوص؟ الجواب إذا اتصلَ به المرضُ ولم يُمكِنْه القضاءُ فليس على ورثته الاطعام عنه. وأما الصلاة المكتوبة فلا يُصلَّى عن أحدٍ، ولكن إذا صلَّى عن الميت واحدٌ منهما تطوُّعًا وأهداه له، أو صامَ عنه تطوعًا وأهداه له، نفعَه ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 مسألة في الشهداء، هل يَشفَع الشهيدُ منهم في أربعين من أهلِ بيته أم لا؟ وهل هم سبعةٌ أو تسعة؟ وهل يشفعون جميعهم أم لا؟ وهل إذا كان الشهيد عاصيًا يكون منهم أم لا؟ وإذا كان الشهيد عليه دَيْن أو مَظلمةٌ يُطالَبُ بها أم لا؟ الجواب الحمد لله، أما الشهيد المقتول في الجهاد في سبيل الله - وهو الذي يُقتَل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غيرَ مُدبرٍ، ويكون قتالُه لتكون كلمةُ الله هي العليا، لا حميَّةً ولا لدُنْيا ولا غير ذلك - فهذا جاء فيه أنه يُشَفع في اثنين وسبعين من أهل بيته (1) . وأما سائر الشهداء فهم أكثر من ذلك، وقد جاء أنهم سبعةٌ (2) :   (1) وردت فيه عدة أحاديث، منها حديث المقدام بن معدي كرب الذي أخرجه أحمد (4/131) والترمذي (1663) وابن ماجه (2799) . وفيه "سبعين". (2) أخرجه مالك في الموطأ (1/233،234) وأحمد (5/446) وأبو داود (3111) والنسائي (4/13،14) وابن ماجه (2803) عن جابر بن عتيك. وصححه ابن حبان (1616- موارد) والحاكم في المستدرك (1/352) . وهو صحيح بشواهده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 المبطون شهيد، والغريق شهيد، والذي يموت تحت الرَّدْمِ شهيد، وصاحب ذاتِ الجنب شهيد، والمرأة التي تموت بالطَّلق شهيد. وإن كان أحدهم مذنبًا يُرجَى أنَّ الشهادة يُغفَر له بها، لكن حقوق الآدميين دَيْنٌ عليه لابدَّ لصاحبها من استيفائها. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 مسألة في أقوامٍ لهم تُربةٌ، وهي في مكانٍ منقطع، وقُتِل فيها قَتيلٌ، وقد بَنَوا لهم تُربةً أخرى، هل يجوز نَقْلُ موتاهم إلى التربة المستجدَّة أم لا؟ الجواب لا يُنْبَش الميتُ لأجل ما ذُكِر. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 مسألة فيمن يَحُضُّ الناسَ من أهل الإيمان على أن يصوموا ويُصلُّوا ويتصدقوا، ويقرأوا القرآن، ويهللوا ويسبحوا، ويسألوا الله أن يتقبلَ منهم، ويُوصِلَ أجورَ ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى أزواجه وأولاده، فَسُئِل عن ذلك، فقال: لأنه كان يُحِبُّ الهدية، ويأمر بها للتحابب، فقيل له: ذلك في الدنيا، فقال: إن الإمام علي رضي الله عنه كان يُضحِّيْ عنه بعد موته، وإن أبي بن كعب قال: إني أُكثِرُ الصلاةَ عليك، فكم أجعلُ لك من صلاتي؟ قال: "ما شِئْتَ"، قال الربع؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: النصف؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: الثلثين؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: يا رسول الله! فاجعلُ لك كلَّها، قال: "إذًا تكفَى هَمَّك، ويُغفَر ذنبُك". فما هذه الصلاة المقسَّمةُ بالربع والنصف والثلثين والكل؟ فإن كانت الصلاةُ عليه فكلُّها له، وللمصلي أجرها، وكانت الزيادة فيها تكون بالأعداد من واحد إلى عشرة، إلى مائة، إلى ألف، فأكثر من ذلك، فانصرفَ المفهومُ أنها صلاةُ نوافلِه وتطوعاتِه، وأنْ يَجعَلَ له ربعَها ونصفها وثلثيها وكلَّها، فهل أصابَ فيما أمرَ به وحَضَّ عليه؟ وبَنَى على ما رواه الدارقطني: أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، كان لي أبوانِ، وكنتُ أبرُّهما حالَ حياتهما، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 فكيفَ لي بالبرِّ بعد موتهما؟ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من البر بعد البرّ أن تُصَلِّي لهما مع صلاتك، وأن تصومَ لهما مع صيامِك، وأن تَصَدَّقَ لهما مع صدقتِك". فقيل: إن عمل الولد من الخير ملحقٌ بالوالدين، لوجوبِ حقِّهما. فقال: حقُّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجبُ، وحق أزواجه أمهاتِ المؤمنين أوجبُ من أمهاتِ الأولاد. فقيل له: فهلاَّ فعلَ أبو بكر ذلك؟ قال: وما يُدرِيْك؟ قد فعلَه عليٌّ رضي الله عنه حين ضَحَّى عنه. فقيل: إن النبي دعا الناسَ إلى الهدَى والخيرِ كلِّه، وله أجرُ كلِّ من تَبِعَه. فقال: إن الواحديَّهَ حقٌّ لله في الأزل والأبد لا يُزِيلُها إنكارُ منكرٍ لها، ويثابُ المقر بها طوعًا راضيًا مختاراً، والكون وما فيه مُلْكُه ثانيًا لا يُزِيلُه ملكُ مالكٍ، ونحن نتقرَّبُ منه بِشِقِّ تمرةٍ. فما الحكم في ذلك مع صحة القصد وما ذهب إليه من التأويلات؟ أفتونا مأجورين. أجاب رضي الله عنه أما ما ذهب إليه هذا المسئول عنه مِن إهداءِ ثواب القُرباتِ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد ذهب إليه طائفة من المتأخرين من الفقَهاء والعُبَّاد، ولكن لم يسلكوا هذا الطريقَ التي ذكرتَ عنه، ولكن بَنَوا ذلك على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 إن إهداء ثواب القُرَب إلى موتى المؤمنين جائز، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل المؤمنين، ولاَ ريبَ أن الصدقة عن الميت جائزة باتفاق العلماء، وكذلك سائر العبادات المالية، هان تنازع الأئمة في العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقراءة، فمنهم من سَوَّى بين النوعين كأحمد، وهو المذكور في كتب الحنفية، وذهب إليه طائفة مِن أصحاب مالك والشافعي، ولكن أكثر أصحاب مالك والشافعي فرَّقوا بين العبادات البدنية والمالية، لأن المالية يدخلها النيابة والتوكيل، فيجوز للرجل أن يَستنيبَ في صدقتِه، ولا يجوز له أن يستنيبَ في صلاته وصيامه. والأولون أجابوا عن هذا من وجهين: أحدهما: أن النيابة في العبادات البدنية تجوز للحاجة، كما ثبتَ في الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من مات وعليه صيامٌ صامَ عنه ولله"، ولكن فرض الصلاة لا نيابة فيه، لأن الإنسان لا يَعجز عما وجب من الصلاة، فلا عذرَ له في (2) ، والصوم له بَدَلٌ وهو الإطعام، كما قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (3) ، فلما نُسِخَ ذلك وتعيَّنَ الصيامُ على القادر بقي العاجزُ كالشيخِ الذي لا يُرجَى قدرتُه والمريضِ المأيوسِ من بُزْيه، فإنه يُفطِر باتفاق العلماء، وأكثرهم   (1) البخاري (1952) ومسلم (1147) عن عائشة. (2) هنا كلمة مطموسة في الأصل. (3) سورة البقرة: 184. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 يوجبون عليه الفِدْيةَ، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، أما مالك فلا يُوجِب عليه فديةً. وأما الصوم عن الميت فقيل: لا يُصام عنه بحالٍ، كقول أبي حنيفة ومالك والشافعي في الجديد، لكن الشافعي وطائفة يقولون: يُطعَم عنه إذ الإطعامُ هو البدل، وقيل: بل يُصام عنه الفرضُ والنذرُ، وهو قول للشافعي، وقيل: يُصام عنه النذر، وأما الفرض يُطعَم عنه، وهو مذهب أحمد وغيره اتباعًا لابن عباس في تفريقه بينهما، وهو الذي روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من مات وعليه صيامٌ صام عنه وليّه" (1) ، ورَوَتْه عائشة أيضًا (2) ، وكلا الحديثين في الصحيح، وقد جاء حديث ابن عباس مفسّرًا في النذر كما في الصحيحين (3) عنه: "أن امرأة قالت: يا رسولَ الله! إن أمي ماتتْ وعليها صومُ نذرِ، أفأصومُ عنها؟ قال: "أرأيتِ لو كان على أمّكِ دَيْنٌ فقضيتِه أكان يُؤدِّي ذلك عنها؟ "، قالت: نعم، قال: "فصُومي عن أمكِ". وفرقوا بين الفرض والنذر بأن الله قد جعل لما فرضه بدلاً، وهو الإطعام من مال من وجب عليه، كما جعل في الكفارة من عجز من صوم الشهرين المتتابعين أطعم ستين مسكينًا، والبدل من ماله أولى من بدن غيره، والله لا يوجب على عباده ما يَعجِزون   (1) سيأتي لفظه برواية ابن عباس. (2) سبق تخريجه. (3) البخاري (1953) ومسلم (1148) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 عنه، ولهذا لو استمر به المرض المرجوُّ إلى ما بعدَ رمضانَ ولم يتمكنْ من القضاء فلا إطعامَ عنه ولا قضاءَ باتفاق الأئمة، بخلاف ما أوجبه العبد على نفسِه فإنه قد يُوجب ما يَعجِزُ عنه، كما يَستدينُ ما لا يُطِيق وفاءَه، فيكون فعلُ الغيرِ عنه كقضاءِ الذَينِ عنه، وذلك جائز. وحقيقة هذا القول أن من عَجَز عن الصيام والفدية فلا شيء عليه، فلا يحتاج أن يصوم عنه، ومن قَدَر على أحدِهما فلا بد له من أحدهما. والمقصود هنا أن الشارع سَوغ الصومَ عن الميت كما سَوغ الحج عنه في الجملة، فلا يجوز أق يقال: لا تدخله النيابة بحالٍ. والوجه الثاني: أنهم قالوا: إهداء ثواب العمل إلى الميت ليس نيابةً عنه، وإنما العامل عَمِلَ لنفسِه لا عن الميت، والإنسان ليس له إلاّ ما سعى، فهذا السعي للحى لا للميتِ، لكن الميت استحق عليه أجرًا من الله، فتبرعَ به للميت كما يتبرع الأجيرُ بأجرتِه لغيره، وإن كان عمله في الإجارة لنفسِه لا للغير، ولهذا يفرق في الإجارة بين من يعمل لغيره وبين من يعمل لنفسه، ويُعطِي الأجرة لغيره، فالأول كالأجير المشترك الذي التزمَ العملَ في ذمته، إذا أعطاه لبعض الناس ليعمل عنه كان ذلك عملاً بطريق النيابة عمَن وجب عليه العمل، وهو نظير قضاء الدين. والثاني كالأجير الخاصّ أو المشترك الذى عَمِلَ ما عليه، وأَخذَ أجرتَه فأعطاها لغيره، ولهذا كان أصحاب أبي حنيفة لا يُجوزون النيابة في العبادات البدنية، ويُجوزون إهداءَ ثوابها، وكذلك أصحاب أحمد يُجوِّزون إهداء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 ثواب العبادة حيث لا يُجوِّزون النيابةَ، حتى يُجوِّزون إهداءها إلىَ الحي في أصح الوجهين، وهو المنصوص عن أحمد، وفي إهداء ثواب الفريضة لهم وجهان. وبعض الناس يَحتجُّ على أنَّ إهداء ثواب القُرَب لا يَصِلُ إلى الميت بقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (1) . واَحتجاجُه بهذه الآية حجة باطلة بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، فإن القرآن قد دلّ على الاستغفار للمؤمنين، كما في استغفار الملائكة والأنبياء لهم، وذلك ليس من سَعْيِهم، قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)) (2) الآية، وقال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (3) ، وقال تعالى عن نوح: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (4) ، وقال عن إبراهيم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (5) . وقد اتفق المسلمون على سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الصلاة على الميت والدعاء له والشفاعة فيه، واتفقت الأمة على أن الصدقة تنفع   (1) سورة النجم: 39. (2) سورة غافر: 7. (3) سورة محمد: 19. (4) سورة نوح: 28. (5) سورة إبراهيم: 41. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 الميتَ كما ثبت في الصحيحين (1) : أن سعدًا قال: يا رسول الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسَها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدقْ عنها؟ قال: "نعم ". فما كان جوابُ هذا المحتجّ عن الدعاء والصدقة عن الميت كان جوابًا لغيره عن الصيامِ عنه ونحوِ ذلك من العبادات. وقد ذكر الناس عن الآية أجوبةَ متعدد (2) ، على أنها منسوخةٌ، وقيل: مخصوصة، وقيل: مختصة بشرعِ مَن قبلنا، وقيل: سببه الإيمان الذي هو شرط وصول الثواب من سَعْيِه. والآية لا تحتاج إلى شيء من هذا، فإن الله أخبرَ عما في الصحف أنه (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (3) ، ولم يقل: لا يَنتفعُ إلاّ بما سعى، وأنَ الإنسان فيما ينتفع به في الدنيا قد ينتفع بما يَملِكه وبما لا يَملِكه، فلا يلزم من نَفْيِ الملكِ نَفْي الانتفاع، لكن هو يستحقُّ الثوابَ على سَعْيِه لأنه حفُه، فلا يَخاف منه ظلمًا ولا هَضْمَا، وأما سعيُ غيرِه فهو لذلك الغير، فإن سعَى له ذلك الغيرُ أثابَ الله ذلك الساعيَ على سَعْيه، ونفعَ هذا مِن سَعْيِ ذلك بما شاء، كما يثيبُ الداعيَ على دعَائِه لغيره وينتفع المدعوُّ له. كما ثبت في الصحيح (4) أنه قال: "ما من رجلٍ يدعو لأخيه بظهرِ الغيبِ   (1) سبق تخريجه. (2) انظر تفسير القرطبي (17/114-115) . (3) سورة النجم: 39. (4) سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 بدعوة إلاّ وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلما دعا لأخيه بدعوةٍ قال الملكُ الموكَلُ به: آمين، ولك بمثلٍ ". ومن ذلك: الصلاة على الميت، فقد ثبتَ عنه أنه قال: "من صلَّى على جنازةٍ فله قيراط" (1) ، وثبت عنه: أن الله يقبل شفاعة مائةٍ (2) ، ورُوِيَ أربعين (3) ، ورُوى ثلاثة صفوف (4) . فهو يثيب الداعيَ وينفع المدعوَّ له، وكذلك المتصدّق عن الميت بما يصل إليه من ثواب الصدقة. ومن هذا الباب الصلاةُ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطلبُ الوسيلة، كما ثبت عنه في الصحيح (5) أنه قال: "من صلى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا"، وقال: "ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبدَ، فمن سأل اللهَ لي الوسيلةَ حَفَتْ عليه شفاعتي يومَ القيامة". فهذا هو الأصل الذي ينبني عليه فِعلُ القرَبِ عن الأموات مطلقًا، وبعضُ الناس يعارض هذا بما ليس بدليل شرعي، بمثل أن   (1) البخاري (47، 1325) ومسلم (945) عن أبي هريرة. (2) مسلم (947) عن عائشة. (3) مسلم (948) عن ابن عباس. (4) أخرجه أحمد (4/79) وأبو داود (3166) والترمذي (1028) وابن ماجه (1490) عن مالك بن هبيرة السكوني. وحسَّنه الترمذي والنووي في "المجموع" (5/212) . (5) سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 يقول عن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيره من النبيين أو الصديقين: هذا أجل مِن أن يُهدَى له ثوابٌ أو أن يُفْعَلَ عنه قُربةٌ، ويرى أن هذا من باب الخَفْضِ من منزلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه من باب حاجتِه إلى هذا الفاعلِ. وهذا الكلام ليس بشيء، فإن الله أمرنا أن نصلِّيَ عليه ونسلِّمَ تسليمًا، والصلاة عليه من أفضل العبادات مع الدعاء في الصلاة وغيرها، حتى قال عمر بن الخطاب: "إن الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض، لا يَصْعَدُ منه شيءٌ حتى تُصلِّيَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "، رواه الترمذي (1) وقال: حديث حسن. وثبت عنه في صحيح مسلم (2) وغيره أنه قال: "إذا سمعتم المؤذّنَ فقولوا بمثل ما يقول، ثم صَلُّوا على، فإنه من صَلّى عليَّ مرةً صلَّى الله عليه عشرًا، ثم سلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبدٍ من عبادِ الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبدَ، فمن سألَ الله لي الوسيلةَ حلَّت عليه شفاعتي يومَ القيامة". وفي السنن (3) : "ثم سَلْ تُعْطَه ". فهذه أربعُ سننٍ أُمِرَ بها عند استماع الأذان: أن يقول كما يقول المؤذن، وقد جاء مفسَّرًا بالأمر بذلك في الحَيْعَلَة والحوقَلَة، لأنه دعاء للَادميين لا ذِكْرٌ، فيقالُ ما يُستَعان به على فعلِ ما دُعِيَ العبدُ إليه. ثم أن يصلِّيَ عليه، ثم أن يسألَ له الوسيلةَ، ثم قال: "سَلْ تُعْطَه"، فإن هذا ليس بِمَظَان إجابةِ الدعاء.   (1) برقم (486) . (2) سبق. (3) أبو داود (524) عن عبد الله بن عمرو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلّوا على فإن صلاتكم تَبلُغني حيثُ ما كنتم ". وعن أبي ليلى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن المَلَكَ جاءني فقال: يا محمد! إن اللهَ يقول لك: أما ترضى إلاّ يُصلِّي عليك عبدٌ من عبادي إلاّ صلَّيتُ عليه عشرا؟ ولا يُسلِّم عليك تسليمةً إلاّ سلَّمتُ عليه عشرًا؟ قلت: بلى أيْ رَب". رواه النسائي (2) وأبو حاتم وغيره. وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من أفضل أيامِكم يومَ الجمعة، فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُدخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرِجَ منها، فأَكثِروا فيه من الصلاة عليَّ، فإن صلاتكم معروضة"، قالوا: وكيف تُعرَضُ عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: "إنّ الله حَرَّم على الأرضِ أن تَأكلَ أجسادَ الأنبياء". رواه أبو داود والنسائي وأبو حاتم في صحيحه (3) .   (1) سبق تخريجه. (2) 3/445. وأخرجه أيضًا أحمد (4/29، 30) والدارمي (2276) وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" (915) والحاكم في "المستدرك" (2/420) ، كلهم من حديث أبي طلحة الأنصاري، لا أبي ليلى. (3) أخرجه أبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/91، 92) وابن ماجه (1585، 1636) وأحمد (4/8) وابن حبان في "صحيحه " (555) والحاكم في "المستدرك " (1/278) .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 وفي سنن أبي داود (1) عنه قال: "ما من مسلم يُسلَم على إلاّ رَدَّ الله عليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام ". وفي النسائي وأبي حاتم (2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لته ملائكةً سيَّاحينَ في الأرضِ يُبلَغونّي عن أمتي السلامَ". والأحاديث في ذلك كثيرة، وهذا مما أجمع عليه المسلمون، والصلاة والسلام [عليه]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي من هذا الباب من باب الدعاء، و الدعاء مشروع من الأدنى للأعلى، ومن الأعلى للأدنى، والداعي إذا دعا لغيره أثابَ الله الداعيَ على دعائِه، ونفعَ المدعوَ له بالدعاء، فلم يكن لأحدٍ عليه مِنَّة بصلاتِه عليه وسلامه، إذ كان الله يُصقَي على المصلِّي عليه عشرًا، ويُسلِّم على المسلَمِ عليه عشرًا، فيُعطِيه بالحسنةِ عَشْرَ أمثالها، فللهِ المِنَّةُ على من استعمله في الصلاة عليه والسلام، ولله المنةُ على رسوله وعلى جميع عباده إذ نَصَبَ أسبابًا يَرحمُهم بها، والخلقُ كلُّهم فقراءُ إلى الله تعالى، والله يرحم عباده بما شاء من الأسباب، فمن جَعلَ أحدًا من الأنبياء أو غيرهم مستغنيًا عن مزيد الرحمة والرضوان وعُلوَ الدرجاتِ فهو جاهل بالته، ومن ظنَّ أن دعاء الداعي للأنبياء وصلاته عليهم بل صلاته على المؤمنين منه مِنة عليهم فهو جاهل بذلك، فإن الله يُثيبه   (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (1114، 9204) وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" (914) وأحمد (1/387، 441، 452) وا لدارمي (2777) والحاكم في "المستدرك" (2/421) وغيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 على عملِه ولا يظلمه، والمنةُ لله على هذا وعلى هذا. ومن هذا الباب دعاء الملائكة للمؤمنين وسائر الأسباب، بل من هذا الباب جميع ما يعمله العباد من القُرَب والطاعات، فإن للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثلَ أجورهم من غير أن يَنْقُص من أجَورهم شيئًا، كما ثبت عنه في الصحيحَ (1) أنه قال: "من دعا إلى هُدً ى كان له من الأجر مثلُ أجور من اتبعَه، من غيرِ أن يَنْقُصَ من أجورهم شيئًا، ومن دَعَا إلى ضلالة كان له من الوِزْرِ مثلُ أوزارِ من اتبعَه من غير أن يَنقُص من أوزارِهم شيئًا". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) : "من سَن سنةً حسنةً كان له أجرُها وأجرُ من عَمِلَ بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا". وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد سن سُنَنَ الهدى جميعَها لأمته. ومن هذا الباب يَبيْنَ جوابُ المسألة، فإن القائل يقول: إذا كان إهداءُ القُرَب إلى الموَتى مشروعا وإن كانوا فضلاء، فما بالُ السلف لم يكونوا يفَعلون القربَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن الخلفاء الراشدين؟ بل ولا عن شيوخهم معلّميْهم ومؤدّبيهم الذين علَّموهم العلمَ والإيمان؟ والسلفُ كانوا أحرصَ على الخير منا، فلا يمكن أن يقال: تركوه جهلا به ولا رغبة عنه، وهذا هو الذي يَظهر به إشكالُ المسألة، فإن ما تقدم يَحتبئُ به من يستحب إهداءَ ثواب القرباتِ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء والعبّادَ من أصحاب أحمد وغيرهم، وأقدمُ من بَلغَنا ذلك عنه علي بن الموفق أحد   (1) مسلم (2674) عن أبي هريرة. (2) مسلم (1017، وقبل رقم 2674) عن جرير بن عبد الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 الشيوخ المشهِورين، كان أقدمَ من الجُنيد وطبقتِه، وقد أدرك أحمدَ وعصرَه وعاش بعده. ومن لا يَستحبُّ بل يراه بدعةً -وهو الصواب المقطوعُ به- يحتجُّ بأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك وهم أعلم بالخير وأرغبُ، وليس فعلُ [المذكورِ] وأمثالِه ولا قولُ طائفة من متأخري الفقهاء مما يُعارَضُ به أقوالُ السلف. وأما احتجاج المحتجَّ بتضحية علي رضي الله عنه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقال له: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي (1) من حديث حَنَش الصنعاني، قال: رأيتُ عليًّا عليه السلام يُضحِّيْ بكَبْشَين، فقلتُ له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصاني أن أضحِّيَ عنه، فأنا أُضحِّيْ عنه". وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شَرِيك. ومثل هذا الإسناد قد يقال: لا تقومُ به سنة، فإن حنشًا تكلم فيه غير واحد، قال أبو حاتم: كان كثير الوهم، وشَرِيك بن عبد الله القاضي في حديثه لين. وإن صح هذا الحديث فإنه إنما ضحَّى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإذنه، وهذا جائز ولو لم يردْ هذا الحديث، فإن الميت إذا أوصى أن يُضحَّى عنه كان كما لو أوصى أن يُحجَّ عنه، فإن الأضحية عبادة بدنية مالية كالحج عنه، ولو وصَّى بالصدقة عنه جارْ بإجماع المسلمين، بل   (1) أبو داود (2790) والترمذي (1495) وأحمد (1/107) وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (1/149، 150) من الطريق المذكور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 هذا الحديث إن صح فقد يُستدل به على أنهم لم يكونوا يفعلون عنه عبادة إلا بإذنه، ولو كان مشْروعًا عندهم التضحيةُ عنه بدون إذنه لما أُنكِر ذلك على عليّ، ولبيّن عليٌّ أنه يُشرَع هذا وغيره من الأعمال عنه بغير إذنه. وأما احتجاجه بحديث أبي بن كعب الذي فيه "أجعل صلاتي كلَّها لك، قال: إذًا تُكفَى همَّك ويُغفَر ذنبك"، فيقال له: ليس حَمْلُك هذا الحديثَ على صلاتِه المتطوعة بأولى من حَمْلِ غيرك له على الدعاء، إذ قد سلّمتَ أنه ليس المراد به الصلاة الواجبة ذات الركوع والسجود، فيقال له: كما لم يدخل هذه الصلاة فلا يدخل ما كان من جنسها وهو التطوع، فإنهما من جنس واحد، ولم يُعرَف أن في السنة أن يكون جميع ما يتطوع به العبد من الصلاة لغيره، كما لم يُعرَف مثل ذلك في الصيام والحج. فإن قيل: يحصل له من أجر الإهداء أكثرُ من ثواب التطوع، قيل: فسَوُّوا ذلك في الفريضة، واجعلوا من المسنون أن يُهدِيَ الرجلُ ثوابَ فرائضه لبعض الموتى، ويكون ما يحصل من ثواب ذلك أعظمَ من أجر الفريضة مع أن ذمته بريئة. وقد تقدم أن في إهداء ثواب الفريضة قولين في مذهب أحمد وغيره. والذين جوزوا ذلك قالوا: الفرضُ له مقصودان: براءة الذمة باندفاع العقاب، وحصول الأجر والثواب، فأما براءة الذمة وهو الذي امتاز به عن النافلة فلا يمكن إهداؤُهُ، وأما الأجر وهو المشترك بينهما فيمكن إهداؤُهُ، ولا ريبَ أن الحديث لا يمكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 حَمْلُه على الصلاة عليه كما ذكر السائل. بَقِيَ المفهومُ الثالث وهو الدعاء، فإن الصلاة من أهل اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) (1) ، فيكون هذا السائل له دعاء يدعو به لنفسه، فيمكن أن يجعل ثُلثَه دعاءً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالصلاة عليه صلاة، ويمكن أن له شَطْرَه، ويمكن أن يكون جميعُ دعائِه دعاءً للنبي، مثل أن يُصلِّي عليه بدلَ دعائه. وقد ثبتَ (2) أنه من صلَّى عليه مرة صلَّى الله عليه عشراً، فيكون أجر صلاته كافيا له، ولهذا قال: "يَكفِيْ همَّك ويَغفِر ذنبَك"، أي إنك إنما تطلب زوالَ سبب الضرر الذي يُعقِب الهمَّ ويُوجب الذنب، فإذا صليتَ على بدل دعائك حصل مقصودك، وهذا معنى مناسب، فإنه قد ثبت (3) أن من دعا لأخيه بظهر الغيب بدعوةٍ قال الملَكُ الموكَّلُ به: آمينَ، ولك بمثلٍ. وثبت عنه (4) أنه قال: "واللهُ في عونِ العبد ما كان العبدُ في عون أخيه"، فإذا كان بدلَ دعائِه لنفسه يدعو للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حصلَ له أعظمُ مما كان يطلب لنفسه. واحتجاجه بحديث الدارقطني يقال له: إنما في الحديث فعل العبادات عن الوالدين، وهذا في العبادات المالية متفق عليه بين الأئمة، وإنما تنازعوا في النذر، وقد ذكر مسلم في صحيحه (5) عن   (1) سورة التوبة: 103. (2) سبق تخريجه. (3) سبق. (4) مسلم (2699) عن أبي هريرة. (5) 1/16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 أبي إسحاق الطالقاني قال: قلت لعبد الله بن المبارك: الحديث الذي جاء في البر بعد البر أن تُصلِّيَ لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، قال فقال عبد الله: يا أبا إسحاق! عمن هذا؟ قلت له من حديث شهاب بن خِراشٍ، قال ثقة، قال: عمن؟ قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة، عمن؟ قلت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: يا أبا إسحاق! إنَّ بين الحجاج بن دينار ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفاوزَ تَنقطعُ فيها أعناق المَطِيِّ. وليس في الصدقة خلاف. ولو احتجّ في هذا الباب بحديث عمرو لكان أقوى، كما في مسند أحمد (1) عن عبد الله بن عمرو أنَّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بَدَنةٍ، وأن هشام بن العاص نحرَ حصتَه خمسين، وأن عمرًا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: "أما أبوك فلو أقرَّ بالتوحيد فصمتَ أو تصدقتَ عنه نفعه ذلك". وقد رواه أبو داود (2) ، ولفظه: "لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه نفعَه ذلك". وهذا اللفظ إنما فيه الأعمال المالية. وقد احتجّ بعض المتأخرين من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما بأحاديثَ رُوِيتْ فيمن مرَّ على القبور فقرأ كذا وكذا، و ليس فيها ما يُعتمَد عليها في إثبات الأحكام الشرعية. وقد قدَّمنا أنه ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارضَ لها أن الوليَّ يصومُ عن الميتِ الصومَ الذي نذره كما يحجُّ عنه، وقد جاء ذكرهما في حديث صحيح   (1) 2/181. (2) برقم (2883) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 رواه مسلم (1) وغيره عن بُريدةَ بن الحُصَيب أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفيُجزئ أو يقضي أن أصوم عنها؟ قال: "نعم"، وفي رواية: وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: "صومي عنها"، قالت: يا رسول الله! إنها لم تحجَّ، فقال؟ "حُجِّي عنها". ولا يقال: هذا مختصّ بالولد، ففي الصحيحين (2) عن ابن عباس: أن امرأة جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين، قال: "أرأيتِ لو كان على أختِكِ دَين أكنتِ تقضيه؟ " قالت: نعم، قال: "فحقُّ الله أحقُّ". وفي رواية (3) : أن امرأة ركبتْ في البحر، فنذرتْ إن نَجَّاها الله أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرتْ ذلك، فقال: "صومي عنها". وأيضًا فقوله في الحديث الصحيح: "صام عنه وليُّه" يتناول الولد وغيره ممن يكون وليا للميت، فلا يجوز أن يقال: الحكم مختص بالولد. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (4) : "إذا مات ابن آدم   (1) برقم (1149) . وأخرجه أيضًا أحمد (5/349، 351، 359، 361) وأبو داود (1656، 2877، 3309) والترمذي (667، 929) وابن ماجه (1759، 2394) . (2) البخاري (1953) ومسلم (1148) . (3) لأحمد (1/216) . (4) مسلم (1631) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 انقطع عملُه إلاّ من ثلاثٍ: صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له". فهنا خصّ الولد بالذكر لأنه استثناه من عمل الميت، وولُده من كَسْبِه، كما قال تعالى: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)) (1) وإن ولده من كَسْبه. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل الذي قال له: إن أبي أراد أن يجتاحَ مالي، فقال: "أنت ومالك لأبيك" (2) . وقد قال تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)) (3) ، فَجعل الولد موهوباً للوالد، فجعل بيت الولد بيت الرجل في قوله تعالى: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) (4) ولم يذكر بيوت الأولاد، لأن بيت ولدك بيتك، وهذا الحكم مختص بالأب فإنه المولود له، كما قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (5) . فلما كان الولد من كسب الوالد استثناه من عملِه المنقطع، كما استثنى ما ينفق من الصدقة والعلم النافع، وهذا مما احتج به من يقول: إن مال الابن للوالد بمنزلة المباح، فيُهْلِكُ منه ما لا يضرُّ بولده. وهذا الحديث لا يدل على أن غير الولد لا ينفع دعاؤه   (1) سورة المسد: 2. (2) أخرجه، ماجه (2291) عن جابر بن عبد الله، وفي الباب عن جماعة من الصحابة خرَّج أحاديثهم وتكلَّم عليها الألباني في "إرواء الغليل" (838) وصحَّحها. (3) سورة الشورى: 49. (4) سورة النور: 61. (5) سورة البقرة: 233. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 للميت، فإن هذا خلاف إجماع المسلمين. إذ هم متفقون على أن الدعاء والصلاة على الميت ينتفع بها، سواء كانت من ولده أو من غير ولده، فهذا بيان أن الحكم لا يختص بالولد أن ذلك لوجوب حقهما، فلا حاجةَ إلى تعليل ذلك بوجوب حقهما. وأما جوابه لمن قال له: "النبيُّ قد دعا إلى كل خير، فله أجر من اتبعه " بأنّ الواحديَّهَ لله حق ثابت، وكل شيء له، ونحن نتقرب إليه بشِقِّ تمرة -فهذا مثلٌ ضعيف، وذلك أن الأشياء كلها لته ملكٌ له، إذ هو خالقها وربّها ومليكها، وله أسلمَ من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا، وهذا الملك لا يتعلق به ثوابُ العباد ولا عقابُهم ولا وعدُهم ولا وعيدُهم، فإن هذا حكم ربوبيته الشاملة وقدرته الكاملة، التي تتناول المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، وأما تقربُ العباد إليه فهو بالفعل الذي يحبه ويرضاه لهم، وهذا مما افترقوا فيه. فبعض العباد آمنَ به وعبدَه وأطاعَه وفعلَ ما يحبه ويرضاه، وبعضهم كفرَ به وفسقَ وعصى، وكلاهما يتناوله حكم ربوبيته وقضائِه وقدرِه، والذي يتقرب إليه بشقِّ تمرة إذا أقرضَه قرضًا حسنًا لم يدخل في ملكه ما لم يكن فيه، بل جميع ما بذله بل هو وفعله وقدرته داخل في ملك الرّب وقدرته، سواء كان المبذول من رضاه أو سخطه، لكن بِبذلِه في الجهة التي يُحِبُّها ويرضاها صار العبد مستوجبًا لما وعده في تلك الجهة، كما أن حركات بدنه هي مخلوقة له على كل حال، فإن كانت حركة يحبها ويرضاها أثابه عليها، وإن كانت حركة يكرهها ويسخطها عاقبه عليها، وهذا يتعلق بحكم إلهيته وأمره الديني الشرعي الذي هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 الفارق بين أوليائه وأعدائه. قال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)) (1) ، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)) (2) ، وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)) (3) . والأول يتعلق بحكم ربوبيته وأمره الكوني الشامل لوليه وعدوه، كما قال: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)) (4) . وقد بسطنا الكلام على هذا المقام الذي ضلَّت فيه أممٌ من الأنام، وبينا الفرقَ بين كلماته الدينية والكونية، وإرادته الكونية والدينية، وإذنه الكوني والديني، وكذلك حكمه، وأمره، وتحريمه، وبعثه، وإرساله، والفرق بين الحقيقة الكونية التي يُقِرُّ بها المشركون وهي الحقيقة القدرية، وبين الحقيقة الدينية الحَي يختص بها المؤمنون، وكيف اشتبه على كثير من الخائضين في الحقيقة هذا الباب بهذا الباب، حتى لم يفرقوا بين الهدى والضلال، والرشاد والغي، والخطأ والصواب، بل آل الأمر بكثير منهم إلى أنهم لم يفرقوا بين الخالق والمخلوق، حتى دخلوا في الحلول والاتحاد الذي هو من أعظم الكفر وأكبر الالحاد، فالأشياء   (1) سورة القلم: 35. (2) سورة الجاثية: 21. (3) سورة ص: 28. (4) سورة هود: 56. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 التي هي لله إذا جعلناها له وتقربنا بها إليه بحكم ربوبيته، فليست هذه الإضافة تلك الإضافة، فإن تلك الإضافة إضافتهٌ بحكم ربوبيته، وهذه إضافة إليه بحكم ألوهيته، كما أن لفظ العبد يعني به المعبَّد، فجميع الخلق عباد الله بهذا الاعتبار حتى الكفار والفجار، قال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)) (1) ، وقد يعني به العابد، فيَختص به المؤمنين الأبرار، كما قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) (2) ، وقال الشيطان: (وَلَأُغْوِيَنَهُم أَجمعِينَ (39) إِلَّا عبادَكَ مِنهُمُ اَلمُخلَصِينَ (40)) (3) ، وقال: (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) (4) ، وقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (5) ، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (6) ، وقال: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) (7) . وبهذا يظهر الفرق بين قوله: (وَطَهِّر بَيتِيَ) (8) وقوله: (نَاقَةَ الله وَسُقياهَا (13)) (9) ، وبين سائر البيوت والنُّوقِ، فإن سائر البيوت   (1) سورة مريم: 93. (2) سورة الحجر: 42. (3) سورة الحجر: 39-40. (4) سورة الإنسان: 6. (5) سورة الفرقان: 63. (6) سورة الإسراء: 1. (7) سورة النجم: 10. (8) سورة الحج: 26. (9) سورة الشمس: 13. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 والنوق وإن كانت ملكًا لله لكن ليست محلَّ عبادتِه وطاعته والصلاة عليه، كالمساجد التي هي بيوت عبادته، لا سيما المسجد الحرام الذي هو بيت الطواف ببيته والعكوف وتضعيف [الأجر فيه] ، فالإضافة العامة بحكم الربوبية الخلقية، وهذه الإضافة الخاصة بحكم الألوهية الأمرية. وكذلك الناقة التي جعلها آية له وجعلها من شعائره وحرماته التي يجب تعظيمها، فالفرق بين هذا البيت وبيت الكنيسة مثلاً كالفرق بين المؤمن الذي هو عبد الله والكافر الذي هو خلقه، وهو معبَّدٌ له وإن كان لا يعبده، وكذلك قوله عز وجل: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (1) ، وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (2) ، فإضافةُ الأنفال والخمس إليه كالإضافة العامة الثابتة لكل مخلوق، كقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (3) . بل هذه الإضافةُ بحكم أمره ودينِه الذي بعث به رسوله، ولهذا قَرنَ هذا بالرسول، فإنّ أمْرَه الذي أمرَ به ما يُحبُّه ويَرضاه هو ما جاء به الرسول، وهذه الأموال الشرعية التي يحكم بها بأمر الله ورسوله ليست كالأموال التي ملكها لعباده. ولهم أن يفعلوا فيها ما أحبوا إذا لم يكن محرمًا، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسمٌ أَضَع حيثُ أُمِرْتُ" (4) .   (1) سورة الأنفال: 1. (2) سورة الأنفال: 41. (3) في مواضع كثيرة من القرآن. (4) أخرجه البخاري (71 ومواضع أخرى) ومسلم (1037) عن معاوية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 وهذا باب قد نبهنا على أصله، وبينا الفرقَ بين النوعين، وإذا كان كذلك ظهر ضعف القياس الذي قاسَه، وتبين أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عمل المؤمن من أمته عملاً فله مثل أجره، فإذا أهدى له ثوابه فإنما أهدى له مثل ما حصل للرسول سواء بسواء، وهما من جنس واحد ومقدار واحد، وإنما ملكه الرب لعباده إذا أنفقوه في طاعته، فليس كونه أنفق حيث يحبه ويرضاه مثل كونه مملوكًا ملكًا قدره وقضاه. يُبيِّن هذا أن الله سبحانه هو يملك الأموالَ المحرمة في الشريعة، فالظالم والغاضب إذا أخذ مالاً فالله هو أيضًا مالكه، وقد ملَّكَه إياه قدرًا لا شرعًا ودينًا، ولو أنفقَ منه لم يتقبل الله منه، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله لا يتقبل صلاةً بغير طهورٍ ولا صدقةً من غلولٍ" رواه مسلم (1) وغيره، فالنفقة المقبولة لابد أن تكون من مال أُذِنَ في إنفاقه شرعًا، لا يكفي الإذن القدري الكوني، واسم الرزق في كتاب الله يُرادُ به ما مُلِكَ شرعًا ويراد به ما يتنعَّم به الحيُّ، فالأول يختص بالحلال، والثاني يتناول كل ما ينتفع به الحيوان وإن [كان] مما لا يملك كالبهائم، وإن كان حرامًا، فالأول كقوله (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)) (2) ، والثاني كقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (3) . والقدرية منعوا أن يكون الحرام مرزوقًا   (1) برقم (224) عن ابن عمر. وأخرجه أيضًا أحمد (2/19، 39، 51، 57، 73) والترمذي (1) وابن ماجه (272) . (2) سورة البقرة: 3. (3) سورة هود: 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 بناءً على أصلهم في أن الله لم يخلق أفعال العباد، فتناول العبد له ليس عندهم مقدورًا لله، ولا هو ملكه إياه، وهو قول باطل. فإن قيل ما ذكره المعترض عليه -من كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له مثل أجور أمته، فلا حاجةَ إلى الإهداء- ضعيف من وجهين: أحدهما: أن الابن من كَسْبِ أبيه، ودعاؤه مستثنى من عمله المنقطع، ومع هذا فالابن يتصدق عن أبيه بالسنة والإجماع، وكذلك يحج عنه، بل ويصوم عنه، بالسنة الصحيحة. الثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا حصل له مثل أجر العالم من أبيه أمكن أن يحصل له مثل ذلك أيضًا بطريق الإهداء إليه، فلا منافاةَ بين الأمرين. قيل عن الأول من وجهين: أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل للأب مثلَ عملِ جميع أمته، ولا يعلم دليلاً على ذلك، وإنما جعل ما يدعوه الابن له من عمله الذي لا ينقطع، بخلاف الداعي إلى هدى كان له، حصل له مثل أجر المدعوّ، وهذا الفرق ظاهر، وهو أن الداعي إلى هدى أراد إرادة جازمة فعلَ ذلك الهدى بحسب قدرته، وهو لم يقدر إلا على الأمر به والدعاء إليه، ومن أراد عملاً إرادةً جازمة وعمل منه ما يقدر عليه كان بمنزلة العامل له، كما قد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع، وبينا فصلَ الخطاب فيما تنازع الناس فيه من الإرادة ونحوها من أعمال القلوب إذا لم يدربه من عمل الجوارح، هل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 يترتب عليه عقاب أم لا؟ فمن الناس من جزم بالأول، ومنهم من جزم بالثاني، وقد يحكى ذلك إجماعًا. واحتجّ هؤلاء بأحاديث الهمِّ (1) ونحوها، وهؤلاء بقوله؟ "إنه أراد قتلَ صاحبه" (2) ، وقوله: "فهما في الأجر سواءٌ" (3) ونحوهما. وقد بينا أن الإرادة الجازمة لابد أن يدربها من عمل الجوارح ما يَقدر عليه العبد، وحينئذٍ فيترتب عليها العقاب، كالذي يَهُمُّ بالذي يتمنى وينظر، ويفعل بعض المحرمات ويترك الباقي عجزًا، كالذي أراد قتل أخيه بذل مقدوره في قتله حتى قتل، بخلاف من هَمَّ ولم يفعل مقدورَه كالذي همَّ بسيئةٍ ولم يفعلها أصلاً، فهذا لا تكون إرادته جازمةً. وكذلك قوله: "فهما في الأجر سواء، وهما في الوزر سواء"، لأن كلاًّ منهما قال بلسانه: لو أن لي مثلَ ما لفلانٍ لفعلتُ فيه مثلَ ما فعل، فلما أراد إرادة جازمة وفعل مقدوره صار كالفاعل. والله تعالى في كتابه ذكر الفعلَ، وذكر ما يتولَّد عنه، وجعله من عملِ العبد، كما في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ   (1) منها حديثا أبي هريرة وابن عباس في الصحيحين، انظر صحيح البخاري (42، 6491) وصحيح مسلم (128- 131) . (2) أخرجه البخاري (31، 6875، 7983) ومسلم (2888) عن أبي بكرة. (3) أخرجه أحمد (4/230، 231) والترمذي (2325) وابن ماجه (4228) عن أبي كبشة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (1) ، فهذه الأمور لم يفعلوها، ثم قال: (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ) (2) ، فالإنفاقُ وقطع الوادي نفس عملهم، فكتب، وما تقدم أثر عملهم الصالح، فكتب لهم به عمل صالح، كدعاء الولد فإنه أثر عمل الوالد، وإن كان الوالد لم يقصد دعاءه، كما لم يقصد هؤلاء ما حصل من الظمأ والمخمصة والنصب، وأما الداعي إلى الهدى فهو قصد هدى المدعوين ولم يفعلوا ما أمرهم به، وبذل مقدوره في فعلهم، فصار قاصدًا للفعل عاملاً ما يقدر عليه في حصوله، فله أجر الفاعل، وكذلك من سَنَّ سنةً حسنةً ومن سَنَّ سنة سيئةً، والبيان للفعل الذي هو رَسَمَه ليُحتَذَى، فهو يقصد أن يُتَّبع فيه. فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُقتَل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أول من سنَّ القتلَ". وهو لم يقصد أن يقتل كل قاتل. قيل: هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل هنا إنَّ عليه مثلَ ألمِ كل قاتل، بل قال: "عليه كِفلٌ من دمها"، لأن ذلك من أثر فعلِه، كما كتب ابتداءً بهذا الفعل، وقد قال تعالى في حق أئمة الكفر: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ   (1) سورة التوبة: 120. (2) سورة التوبة: 121. (3) البخاري (3335، 6867، 7321) ومسلم (1677) عن ابن مسعود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)) (1) ، وقال: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (2) . فما تولد عن فعل العبد يحصل له منه ثواب وعقاب وإن لم يقصده، ولكن حصول مثل أجر العامل فرع أخص من ذلك. الجواب الثاني، وهو من الوجه الثاني بأن يقال: إذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحصل له مثل أجر العامل، فأهدى له العامل عملاً، فلابدَّ أن يُثابَ العاملُ على إهدائه، فيكون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل إهداء الثواب أيضًا، فإهداءُ هذا الثواب إن جُوِّزَ لزم التسلسلُ، وإن لم يُجوَّزْ فما الفرق بين عمل وعمل؟ بَخلاف الولد إذا بَرَّ والدَه بدعاءٍ أو صدقةٍ عنه أو نحو ذلك، فإن الله يُثيب الولدَ على ذلك، ولا يلزم أن يحصل للوالد مثل أجر الابن وإحسانه إلى أبيه، لأن الأب لم يدعه إلى هذا الإحسان. ولا يلزم من صلَّى منا أو سلَّم عليه بأن الله يصلّي على المصلِّي عشرًا، ويُسلِّم على المسلم عشرًا، ويحصلُ للرسول مثلُ ذلك لدعائه إلى هذا الهدى، ولا يُفضِي إلى هذا التسلسل، فإن هذا الأجر ليس من عمل المصلي، بخلاف ما إذا أهدى الثواب، فإن إهداء الثواب عمل فيلزم أن يحصل له مثلُه، فإن جوزنا أن يهدى ثواب الإهداء لزم التسلسل. فنحن بين أمرين: إما أن نقول: يُهدَى إليه عملٌ، فيلزم أن يُهدَى إليه ثواب الإهداء،   (1) سورة العنكبوت: 12. (2) سورة النحل: 25. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 وهلم جرًّا، [وهذا] يلزم التسلسل. أو نقول: لا يُهدى إليه، بل ما حصل له من الأجر المساوي لأجر العامل هو غاية المقصود، وعلى هذا لا يحصل التسلسل. وعلى هذا فيقال: لا يُهدى إلى من له مثل ثواب العامل كالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكالمعلم للخير من الشيوخ ونحو ذلك، وهذا موافق لطريقة السلف في كونهم لم يكونوا يُهدُون لمثل هؤلاء لا ثواب العباداتِ البدنية ولا المالية. وأما تضحية علي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن صحَّ ذلك فإنه كان بإذنه، كما لو وصَّى بصدقة وغيرها فإنها تنفذُ باتفاق المسلمين، فإن الوصي بمنزلة الوكيل في ذلك، والمُوصِيْ هو العامل لذلك في الحقيقة، كالمستنيب في إيتاء الزكاة وفي ذبح الأضحية وغير ذلك، فليس هذا من هذا، وإنما كانوا يدعون لهم. ولكن يقال: هَبْ أن هذا مستقيم فيما يعمله الإنسان لنفسه من الفرائض والنوافل، فإذا أنشأ عملاً آخر ليجعل ثوابه لهم فما المانع من ذلك من العبادات البدنية والمالية؟ وهلاَّ كان السلف يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويذبحون عن أئمتهم الذين علّموهم الدين؟ وسيد هؤلاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن الصدقة عن الموتى ونحوها تصل إليهم باتفاق المسلمين. فيقال: الجواب عن هذا هو الجواب عن الأول، وذلك أنهم إذا أَهْدَوا لهم ثوابَ عملٍ وجب أن يكون لهؤلاء أجرٌ على هذا الإهداء، وأن يكون لمن دعاهم إلى هذا الخير وعلَّمهم إياه مثل أجرهم كلى ذلك، وهذا الداعي إلى الخير عَنَى أن يهدى إليه ثواب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 العمل، فلم يبق في الإهداء فائدة، بل فيه إخراج العامل الثوابَ عن نفسه من غير فائدة تحصل لغيره، إذِ العامل يثيبه الله على عمله، ويعطي من دعاه إليه مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئًا، فإذا أهداه وبَذَل ثوابه لغيره فإن لم يثب على هذا الإهداء بمثل ثواب العمل كان ذلك ضررًا في حقه، من غير منفعة حصلت للمهدى إليه، لأن هذا العامل فاته ثواب العمل أو كمال الثواب، وذلك المهدى إليه كان قد حصل له مثل هذا الثواب، فلم يحتج إليه. ولو قدرنا أنه يحصل له ثوابه مرتين فلا ثواب يبقى لهذا، فالله تعالى لا يأمر بمثل هذا ولا يشرعه، ولا يأمر أحدًا أن ينفع غيره في الآخرة بغير منفعةٍ تحصل له لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل الله تعالى إنما يأمر بالإحسان لأنه يجزي المحسنين على إحسانهم، والجزاء من جنس العمل، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1) : "من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كُرَبِ الدنيا نفّس الله عنه كربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومن يَسَّر على مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سَتَر مسلمًا سَتَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، وقال (2) : "من صلى عليّ مرةً صلى الله عليه عشرا"، وقال (3) : "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلاّ وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلَّما دعا لأخيه بدعوة قال   (1) أخرجه مسلم (2699) عن أبي هريرة. (2) أخرجه مسلم (408) عن أبي هريرة. (3) أخرجه مسلم (2732) عن أبي الدرداء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 الملك الموكل: آمين، ولك بمثل". والأحاديث في ذلك كثيرة. وإن قيل: إنه يثَاب على هذا الإهداء مثل ثواب العمل لزم أن يكون لمعلمه مثل ذلك ولزم التسلسل، فصار الأمر دائرًا بين ضرر العامل -والله لا يأمر به- وبين التسلسل في الجزاء على العمل الواحد، وهو ممتنع، فلهذا لم يشرع مثل ذلك. فإن قيل: فهذا ينقض بدعائه لمن دعاه وعلَّمه ونحو ذلك. قيل: هذا ونحوه من باب المكافأة، كما في الحديث (1) : "من أَسْدَى إليكم معروفًا فكافِئُوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه". وقد قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ (60)) (2) . وهم إذا كافأوا المحسنَ بالدعاء انتفع بدعائهم له، وحصل لهم ثوابُ المكافأة، فحصل له مثل ثوابهم على المكافأة التي دعاهم إليها فلم يتضرر، وإن لم يتسلسل الأمر بل يكون فعلهم المكافأة له لفعله المكافأة لغيره وسائر ما يعملونه من العدل والإحسان الذي دعاهم إليه. ولهذا جاءت الشريعة في حق نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة عليه والتسليم وسؤال الوسيلة له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليما، فنحن إذا صلينا عليه أُثِبْنَا على صلاتنا عليه، وله مثل ذلك الأجر لكونه هدانا إلى ذلك، وذلك من   (1) أخرجه أحمد (2/68، 99، 127) والبخاري في الأدب المفرد (216) وأبو داود (1672، 5109) والنسائي (5/82) عن ابن عمر. (2) سورة الرحمن: 60. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 المنفعة التي حصلت له بالدعاء. وبهذا تزول شبه تعرض في هذا الموضع، فإن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلى عليّ مرة صلّى الله عليه عشرا" يوهم أنه يحصل للمصلي أكثر ما يحصل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثلها، من جهة كونه دعاه إلى هذا الخير لا من جهة صلاة العبد، ويحصل بصلاة العبد أيضًا ما جعله الله لذلك. فقد ظهر الفرق بين هذا وبين إهدائه لوالديه ونحوهم، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعد بن عبادة بالصدقة عن أمه ولم يكن واجبًا عليها، إذًا ثبت بالسنة أنه يفعل عن الوالد الواجب وغير الواجب، فقد ظهر الفرق من وجهين: أحدهما: أنه لم يثبت أن كل عمل يعمله الولد يكون لأمه أو لأبيه مثل أجره، وإنما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا ماتَ ابنُ آدم انقطع عملُه إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفَع به، أو ولد صالح يدعو له" (1) . وفي الحديث الآخر: "إن الرجل إذا قرأ القرآن فإنه يُكسَى والداهُ من حُلَلِ الجنة" (2) ، ويقال: بأخْذِ ولدِكما القرآن"، ونحو ذلك مما فيه أن الوالد يحصل له نفع وثواب بعمل ولده، لكن لا يجب أن يكون مثله، ولو كان لكل والد من عمل أولاده لكان لآدم   (1) أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة. (2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (20/72، 73) والبيهقي في "الشعب" (4/ 556، 557) عن معاذ بن جبل. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 160) : فيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك، وأثنى عليه هشيم خيرًا، وبقية رجاله ثقات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 من أعمال الأنبياء من ذريته، وكذلك نوح وغيره، وليس كذلك، بخلاف الداعي إلى الخير كنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن له مثل أعمال أمته التي دعاهم إليها، فأجر المعلم الداعي للخير مثل أجر المدعوِّ العامِل، بخلاف الوالد والولد، ولهذا حقّ النبي وخلفائه في دعوته على المدعوين والمعلمين أعظم من حقوق الآباء، كما قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (1) ، وفي القراءة الأخرى: "وهو أب لهم" (2) . وقد تكلم الناس في هذا المقام بكلام كثير، قالوا: هذا هو الأب الروحاني، وهذا هو الأب الجثماني، وهذا هو سببٌ للسعادة الأبدية من الدار الآخرة، وهذا سببٌ لوجوده في الدنيا. وبالجملة فالداعي إلى الخير قصد أن يعمل المدعوُّ ذلك الخير، وسعى في ذلك بحسب وُسْعِه، فهو قد قصد العمل الصالح الذي فعله المدعو، أو قصد نفع المدعو، وأما الوالد فقد يقصد هذا وقد لا يقصدهُ، ولو قصده بالدعوة إلى حصول المدعو أقرب من نفس وجود الولد إلى حصول سعادته، فإنها هي السبب القريب ووجود السبب البعيد، ومعلوم أن الإنسان يجب عليه إن يطع معلِّمَه الذي يدعوه إلى الخير ويأمره بما أمره الله به ورسوله، ولا يجوز له أن يطيع أباه في مخالفة هذا الداعي، بل طاعة هذا الداعي طاعة لله ورسوله، وطاعة الوالد لمخالفة هذا الداعي طاعة   (1) سورة الأحزاب: 6. (2) انظر تفسير القرطبي (14/123) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 للشيطان، قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (1) ، فوصاه سبحانه بوالديه، ثم نهاه عن طاعتهما إذا جَاهَداه على الشرك، فكان في هذا بيان أنهما لا يطاعان في ذلك وإن جاهداه، وأمرَ مع ذلك فصاحِبْهما في الدنيا معروفًا، وأمره باتباع سبيل من أناب إليه، وسبيلُ أهل الإنابة هي سبيل المؤمنين المتقين، أهل طاعة الله ورسوله. فالداعي إلى هذا السبيل هو أمر بما أمره الله به، فيجب عليه طاعته، فإذا أطاعه كان للداعي بمثل أجره. أما الوالد فيصاحبه في الدنيا معروفًا ويُحسِن إليه، وإن من يجب عليك طاعته إلي من تؤمر بمعاشرته بالمعروف والإحسان إليه وتُنهى عن طاعته إذا خالف الأول، فهذا المعلم فأجره أعظم وطاعته أوجب. وأما الوالد فلا يستحق مثل أجر الولد إذا لم يدعه إلى ما عمله، فيكون في الإهداء إليه تحصيل أجر لم يحصل له مثله. وظهر الفرق الثاني، وهو أنه إذا لم يستحق مثل أجره أمكن أن يهدي إليه الثواب، ويثاب الولد على بِرِّهما بذلك، فيكون له مثل أجر بره لهما، فلا يُفضِي ذلك إلى التسلسل في ثواب العمل الواحد، ولا إلى تضرُّرِ الولد، فلهذا كان مشروعًا مسنونًا، ولو قُدِّر أن المعلم كان والدًا، وعلَّم ولدَه الخيرَ كلَّه، كان له مثلُ أجر عمل   (1) سورة لقمان: 14. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 الولد من حيث هو معلم، وله أجر بعمله الصالح، وإن لم يكن مثل أجر الوالد، والولد إذا تصدّق عن هذا من حيث هو والده كان هذا أيضًا مشروعًا لما تقدم. وتبين بهذا الجوابُ عن الوجه الثاني، وهو قوله "يمكن حصول الثواب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين" بوجهين أيضًا، أحدهما: أن ذلك يُفضِيْ إلى التسلسل، إذا كان للعامل بإهدائه مثل أجره وإن لم يكن له أجر، فقد تبين بما ذكرناه ما يعلم به جواب السؤال. وقول القائل "حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب من حق الوالد" كلام صحيح، إذ حقه بوجوب طاعته، فله بمثل أجرها بخلاف الوالد كما تقدم. وأما أزواجه أمهات المؤمنين فلهن من الاحترام ما ليس لأم الوالدة، ويحرم نكاحهن كما يحرم نكاح أم الولادة، لكن أم الولادة ذات محرم يجوز الخلوة بها والنظر إليها والسفر معها، كما يجوز لسائر ذوات المحارم. وأما أمهات المؤمنين فلا يجوز ذلك في حقهن إذ هن أمهات في الحرمة لا في المحرمية. وأما قول القائل: "هلا فعل ذلك أبو بكر وعمر" فكلام صحيح، وأما قول الآخر "وما يُدرِيك قد فعلَه عليٌّ حينَ ضحَّى عنه" فليس بجواب صحيح، فإنا نعلم أنه لم يكن يفعل ذلك لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وتضحية عليّ إن صحَّ الحديثُ فيها فإنما فعله بإذنه كما تقدم، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه من باب النيابة عن الوصي، وقد تقدم أن نفس حديث التضحية ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 يدل على أنه لا يفعل هذا وأمثاله بغير إذنه، فإن في الحديث أن حنش الصنعاني قال: رأيتُ عليًّا يضحِّي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه. فسؤال حنش لعلي دليل على أنه لم يكن من المعروف عندهم أن تُفعَل العباداتُ البدنيةُ أو الماليةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجوابُ علي له بقوله "إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاني أن أضحِّي عنه" دليل على أنه إنما فعل ذلك لأجل الوصية، وأنه لو لم يُوصِّه لم يفعل ذلك. ولو كان هذا ونحوه مما يُفعَل بوصية وبغير وصية لكان عليّ يجيب بهذا الجواب أيضًا، فإنه يكون أعم فائدة وأقطع لسؤال السائل، لأنه هو الذي نقل أنه وصاه، وأما كون ذلك يفعل عنه فدليل هذا يشترك فيه عليٌّ غيرَه، ثم كان ينتفع بذلك في جميع العبادات أو في العبادات المالية. وأما قول القائل: "إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد دعا الناس إلى الهدى والخير كله، وله أجر كل من اتبعه" فكلام صحيح كما تقدم، لكن قد تقدم فساد هذا القياس وبطلان هذا، وتبين أن كونه سبحانه وتعالى مالكًا لكل شيء وربّه وخالقه لا يستلزم وجود الإيمان والعمل الصالح من العبد إلا بأمره بذلك وبهديه إليه، فإنه سبحانه رب المؤمن والكافر والبر والفاجر، وله الدنيا والآخرة، وهذه الربوبية العامة الشاملة لكل شيء يشترك فيها أولياؤه وأعداؤه، وأهل جنته وناره، وإنما يفترقون في توحيد إلهيته، وهي عبادته وحده لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله، فمن قام بهذا التوحيد والطاعة كان مؤمنًا سعيدًا، ومن لم يقم بها كان كافرًا شقيا، وأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 ربُّ هذا وهذا: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)) (1) . وقد بسطنا الكلام على هذا الأصل العظيم في مواضع كثيرة، وبيّنا ما وقع من غلط الغالطين الذين لم يفرقوا بين الحقائق الكونية المتعلقة بمشيئته، وبين الحقائق الدينية المتعلقة برضاه ومحبته وإلهيته، فإن الحقيقة الكونية أقرَّ بها اليهود والنصارى بل المشركونِ عُبَّادُ الأصنام، كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (2) ، وقال تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (85) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)) (3) . وكثير من أهل السلوك يشهدون هذه الحقيقة وتوحيد الربوبية، فيظنون أنهم وصلوا إلى الغاية المطلوبة من أهل التحقيق والمعرفة والتوحيد، حتى إن منهم من يكون في الباطن من المعاونين للكفار والفسَّاق بحاله، ويظن أنه متصرف بأمر لمشاهدته الحقيقة الكونية،   (1) سورة الإسراء: 18-20. (2) سورة لقمان: 25، سورة الزمر: 38. (3) سورة المؤمنون: 84- 89. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 ومنهم من يظن أنه من وصل إلى مشاهدة هذه الحقيقة سقط عنه الأمر والنهي الشرعيان، ومنهم من قد يتوهم أن وجود الخالق هو المخلوق فيقع في وحدة الوجود، فيكون في أول أمره يقول (1) : الربُّ حقّ والعبد حقّ يا ليتَ شِعْرِيْ مَنِ المكلَّفْ إن قلتُ عبدٌ فذاك ربٌّ أو قلت ربّ أنَّى يُكَلَّفْ وفي آخر أمره يقول: فالآمر الخالق المخلوق، والآمر المخلوق الخالق، والعلم والعالم هويته وصورته، وهو الموصوف بكل مدح وذم وكل جمال وكل نقص، وأمثال ذلك مما قد عُرِفَ من كلام هؤلاء الملحدين الذين يقولون من الكفر ما لم يقله اليهود ولا النصارى ولا عُبَّاد الأصنام، ويدَّعون أن هذا تحقيق وعرفان وتوحيد. وأصل ذلك عدم الفرق بين ما يحبه ويرضاه وما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان قد قدَّره وقضاه، فيجعلون المخلوقات متساوية، ثم يسوُّون بين الخالق والمخلوق، ويجعلونه إياه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، ولهذا يُفرق بين عباد الله: بين العبد الذي عبد الله بقدرته ومشيئته وربوبيته، وبين العابد الذي عبد الله فعبده وحده لا يشرك به شيئا، وأطاع أمره الشرعي الديني، فالأول كقوله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)   (1) انظر الكلام على البيتين وبيان ما فيهما من الإلحاد في "مجموع الفتاوى" (2/111-120) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94)) (1) ، والثاني كقوله: (إِنَ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلْطَان) (2) ، وقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (3) ، وقوله: (عَينًا يشرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)) (4) ، وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (5) ، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) (6) ، (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) (7) ، (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) (8) . وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام في الفرق بين الإرادة الكونية والدينية، كقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (9) ، وقوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (10) ، وبين الأمر الكوني والديني، والإذن الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني، وكذلك القضاء والحكم والكتاب والتحريم وغير ذلك مما يفرق به بين الحقائق الدينية الإيمانية   (1) سورة مريم: 93- 94. (2) سورة الحجر: 42، سورة الإسراء: 65. (3) سورة الفرقان: 63. (4) سورة الإنسان: 6. (5) سورة الإسراء: 1. (6) سورة الجن: 19. (7) سورة البقرة: 23. (8) سورة النجم:10. (9) سورة البقرة: 185. (10) سورة الأنعام: 125. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 القرآنية النبوية الشرعية الإلهية الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، والحقائق الكونية الوجودية الخلقية القدرية الملكية. فإذا عُرِف هذا فتَقرُّبُ العباد بفعلِ ما أمرهم من صلاة وصدقة وغير ذلك مما يحصل لهم من الإيمان والعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه ما يحصل ويستحقون به الثواب في الدنيا والآخرة، وليس بحاصل من مجرد كون الأشياء مخلوقة له، بل إنما يحصل من جهةِ أمره لما يحبه ويرضاه، وإرساله الرسل بذلك وإنزاله الكتب، ودعوتهم للعباد إلى ذلك، ثم هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم. والتقرب إلى الله بالأعمال وطاعته منها ليس من جنس طاعة المخلوق المملوك لمالكه من وجوه كثيرة، أحدها أن الأمر كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجةً إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً به، وإنما أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وأما السيد والملك فهو يأمر عبده وجنوده بما هو محتاج إليه. وفي الحديث الصحيح الإلهي (1) يقول الله: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني". وفيه: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسَه". وقد قال سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (2) ،   (1) أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر. (2) سورة فصلت: 46، سورة الجاثية: 15. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (1) ، قال لقمان: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (2) ، وقال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (3) . فهو سبحانه يبين غناه عن أعمال خلقه، وأنهم إنما يعملون لأنفسهم، وإنما هو سبحانه لكمال إحسانه وإنعامه على عباده المؤمنين أمرهم بالجهاد، وأمرهم بالصدقة، وأخبر أن ذلك نَصْرٌ له، وإقراضٌ منه، فقال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (4) ، وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) (5) ، وهم إنما يجاهدون ويتصدقون بإعانته لهم، وهو المحسن بالأمر إليهم، وهو المحسن بالإعانة لهم، وهو المحسن بالجزاء لهم، وقد قال تعالى (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (6) . وكذلك لو شاء أن يغني الفقراء فلا يقترض لهم من الأغنياء ما يثابون عليه إذا أعطوه لهم، وهذا النصر له والقرض بحكم إلهيته المتضمنة لعبادته وحده لا شريك له وطاعته طاعة رسوله، ثم الذي هو يخلق ذلك ويُبَشِّره بحكم ربوبيته، فله الحمد في الأولى   (1) سورة الإسراء: 7. (2) سورة لقمان: 12. (3) سورة آل عمران: 97. (4) سورة محمد: 7. (5) سورة البقرة: 245، سورة الحديد: 11. (6) سورة محمد: 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 والآخرة، وله الحكم وإليه يرجعون. لا رب غيره ولا إله إلا هو، كما أنه هو المنعم بالنعمة، والمنعم بالشكر عليها، والمنعم بجزاء الشاكرين. ولهذا التوحيد أسرار علويةٌ مذكورة في غير هذا الموضع، تتعلق بتحقيق مسائل الصفات والشرع والقدر ليس هذا موضعها، قد نبهنا إليها في غير هذا الموضع. فمن سوى بين ... (1) كان من جنس الذين قال فيهم (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (2) ، فإن هؤلاء المجادلين جعلوا اقتراضه كاقتراض المخلوق من المخلوق لحاجته، وكيف يقترض من هو خالق المقترض والمقرض وخالق أعيان ذلك وصفاته وأفعاله، فمن جهة الربوبية العامة الشاملة للبر والفاجر جمع المقرض، ولكن تصح من جهة الألوهية التي أقر بها أهل التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا هو، وأنه المستحق للعبادة والطاعة دون من سواه، فيكونون عابدين له بالجهاد، ولهذا كان الكفار رحمة في حق المؤمنين الذين جاهدوهم فنالوا بجهادهم أعلى الدرجات، وكذلك وجود الفجار في حق من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حتى ينال أعلى الدرجات. وكذلك وجود الفقراء في حق الأغنياء الذين بهم حصل لهم ثواب الصدقات، والله قد ابتلى بعضنا ببعض، فمن أعانه على أن أطاعه في الابتلاء كان الابتلاء رحمة في   (1) بياض في الأصل بقدر كلمة. (2) سورة آل عمران: 181. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 حقه، بخلاف من خذله فعصاه. ويشهد لهذا الحديثُ الذي في صحيح مسلم (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن بقضاءٍ إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سَرَّاء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء فصبر كان خيرًا له". فالمؤمن الذي منّ الله عليه بالشكر والصبر يكون جميع القضاء خيرًا له، بخلاف من لم يشكر ولم يصبر. الوجه الثاني من الفرق: أن الله إذا أمر العباد بأمر فهو الذي يعينهم على طاعته فيه، فهو الآمر، وهو الخالق للمأمور والمأمور به لذاته وصفاته وأفعاله، فله الحمد في خلقه وأمره، والعبد إذا أمر العبد كأمر السيد عبده فهو محتاج إلى ما أمره به، وليس هو خالق أفعاله، بل إنما يفعله العبد بإعانة الله له، ولكن على السيد نفقته وكسوته بالمعروف، فالأمر بينهما فيه معاوضة. وكذلك معاملة المخلوق للمخلوق فيها معاوضة من الطرفين، هذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، وهذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، حتى تتم مصلحتها في الدنيا والآخرة، والخالق تعالى هو المعين للجميع، الخالق المحسن إلى الجميع، وأعظم نعمته عليهم أن أمرهم بالإيمان وهداهم إليه، فهؤلاء همِ أهل النعمة المطلقة المذكوريِن في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (7)) (2) ، كما قال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ   (1) برقم (2999) عن صهيب، مع اختلاف في اللفظ. (2) سورة الفاتحة: 6- 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (1) . الوجه الثالث: أن الله سبحانه منَّ عليهم بالثواب على العمل وينعم عليهم بذلك، والعبد إذا عمل لسيده لم ينتظر ثوابًا غير ما يستحقه من النفقة عليه. فهذا القائل الذي قال: "الكون كله له، ونحن نتقرب إليه منه بشق تمرة"، وقاس على هذا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون له مثل أجرنا ويهدي إليه من ذلك ما يهديه، غالطٌ غلطًا عظيمًا. بل حقيقة هذا القول يؤدي إلى الكفر العظيم. وإن كان هذا الذي قاله لم يَفْطَنْ لما يؤدي إليه، حيث جعل حصول الثواب المُهدَى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنزلة الصدقة التي يتقبلها الله، فجعل وصول ثواب الأعمال إلى المخلوق بمنزلة ما يتقرب به إلى الخالق من صدقة وغيرها، وأين هذا من هذا ؟ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه، والحاجة والفقر للمخلوق وصف لازم، لا يفارقه لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل العبد محتاج إلى الله من جهة ألوهيته ومن جهة ربوبيته، فهو محتاج إلى أن يعبد الله لا يعبد غيره، ومحتاج إلى أن يستعيِن بالله لا يستعين بغيره، كما قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) (2) ، فإن لم يعبده بل عبدَ غيرَه أو أعرضَ عن العبادة خَسِرَ الدنيا والآخرة، وإذا وجبه سبحانه على عبادته لكان مخذولاً لا يقدر لعبده، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،   (1) سورة النساء: 69. (2) سورة الفاتحة: 5. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجأ إلا إليه. ولهذا قيل: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جعل سرَّها في الكتب الأربعة، وجعل سرّ الأربعة في القرآن، وسرّ القرآن في المغصل، وسرِّ المفصل في الفاتحة، وسرّ الفاتحة في (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . وهذه هي التي نصفها للرب ونصفها للعبد، فإن العبادة حقّ لله، كما قال في الصحيحين (1) : إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يعذِّبَهم". والكلام في استحقاقه العبادة لها أسرار ليس هذا موضع بسطه، وإذا كان العباد كلهم فقراء إلى الله، والله يرحمهم بما يشاء من الأسباب، ومن ذلك دعاء بعضهم لبعض، وإحسان بعضهم إلى بعض، وإن كان هو سبحانه يثيب الداعي والمحسن، والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، وليس في هذا غضاضة بالأعلى، فإن الله هو الذي أمر الأدنى بالدعاء كما أمرنا بالصلاة والسلام على خير الخلق، وهو الذي يثيبنا على ذلك بالحسنة عشرا للأمة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل لله عليه أكمل المنة والنعم، ونعمة الله عليه أعظم نعمة أنعم بها على مخلوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما منَّ به علينا من الثواب على الصلاة عليه وسائر أعمالنا فقد منَّ عليه بمثله، لدعائه   (1) البخاري (2856، 5967، 6267) ومسلم (30) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 لنا إلى ذلك، مضافا إلى ما منّ به عليه من أجر عمله. والخالق سبحانه إذا تقربنا إليه بأن نتصدق على العباد بشق تمرة فذاك إحسان منا إلى أنفسنا، وهو الذي أعاننا على ذلك، وإذا كان هو يحب ذلك ويرضاه بل يفرح بتوبة التائبين كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، فحبه ورضاه وفرحه لمخلوق عليه منه منة، فإنه الذي خلق ذلك كله، بل له النعمة على المخلوق الذي أنعم عليه بذلك. كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عقيب الصلاة (1) : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". ف على العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام، قال تعالى: (فادعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين) (2) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)) (3) فالخالق سبحانه ليس محتاجًا إلى المخلوق بوجه من الوجوه، بل هو الغني عنه، وما أحبه ورضيه وفرح به من أعمال العباد فهو الذي خلقه سواء كان صدقة أو غير صدقة، والمخلوق سواء كان نبيًّا أو غير نبي هو محتاج إلى الخيرات، والله هو الذي يعينه بأسباب يُيَسِّرها، وإذا ساق إليه خيرًا على يدي العباد أثاب العباد على ذلك، فما يسوقه على يَدَيِ العباد من النفع بصلاتهم عليه وسلامهم   (1) أخرجه مسلم (594) عن ابن الزبير. (2) سورة غافر: 65. (3) سورة الفاتحة: 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 عليه ومسألتهم له الوسيلةَ ونحو ذلك هو خالقه، وهو مُجازِي العباد، والله غني عن كل ما سواه، وهو الخالق لكل ما يحبه ويرضاه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ ف من شبه الله بخلقه فقد كفر. ومثل ذلك مثل المشركين والنصارى ومن ضاهاهم من ضُلاَّل هذه الأمة الذين يجعلون التقرب إلى الله بمنزلة التقرب إلى الملوك، ويقولون إذا كان المتقرب إلى الملوك يحتاج إلى وسائلَ ووسائطَ وشُفعاءَ من خواصِّ الملك، فكذلك المتقرب إلى الله، على هذا بَنَتِ الصابئةُ والنصارى وغيرهم دينَهم الفاسد، وهذا أصل عظيم، فإن العباد إنما يحتاجون إلى الوسائط في تبليغ أمر الله ونهيه وخبره، وهو سبحانه قد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وأما وجود الأعمال منهم والثواب على الأعمال فالله خالق ذلك، لا يحتاج فيه إلى رسول، لكنه قد خلقه بأسباب وهو يخلق الأسباب، فالرسل ليسوا أسبابًا في خلق ذلك، وإنما هم أسباب في تبليغ الرسالة. ولهذا قيل لأفضل الرسل: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)) (1) ، وقال: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) (2) ، وقال تعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (3) ،   (1) سورة القصص: 56. (2) سورة النحل: 37. (3) سورة الأنعام: 50. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) (1) ، وأنواع ذلك مما يحقق فيه أنه عبد الله، مطيع لربه، مبلِّغ لرسالته، وأن الله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويهدي ويضل. كما كان يقول في دبر الصلوات: "اللهمّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ" (2) . وكان ما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو أكمل المقامات، وأعلى الدرجات، وهو بذلك سيد ولد آدم، وخير الخلق، وأكرمهم على الله، إذ ليس بين الخالق والمخلوق إلا نسبة العبودية، فمن كانت عبوديته لله أكمل كان عند الله أفضل، (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)) (3) ، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (4) . فبين أن المخلوق ليس له ملك، ولا شريك في الملك ولا ظهير يعين الملك، بل غايته الشفاعة عند الله، ولكن الشفاعة لا   (1) سورة الأعراف: 188. (2) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593) عن المغيرة بن شعبة. (3) سورة النساء: 172. (4) سورة سبأ: 22- 23. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 تنفع إلا لمن أذن له، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) ، (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (28)) (1) . ولهذا كان سيد الشفعاء - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاء الخلائق يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم فيعتذر، ثم يطلبونها من نوح، ومن إبراهيم، ثم موسى، ثم من عيسى، فيقول: اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: فأذهب إلى ربي، فإذا رأيت ربي خررتُ ساجدا، فأحمد ربي بمحامدَ يفتحها عليّ لا أُحسِنُها الآن، فيقول: أي محمد، ارفعْ رأسَك، قُلْ تُسمعْ، وسَلْ تُعطَه، فأشفع" (2) . فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه. إذا أتى ربه لا يشفع حتى يؤذن له، بل يبدأ بالسجود لله، والثناء عليه، فيأذن له ربه في الشفاعة. وهذا باب واسع. فإنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، وشبهوا المخلوق بالخالق، فجعلوا إهداء الهدية إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنزلة الهدية إلى الله، وكأنهم يتقربون إلى النبي كما يتقربون إلى الله، فجعلوا المخلوق كأنه الرب الغني عنهم المجازي لهم على أعمالهم،   (1) سورة الأنبياء: 26- 28. (2) متفق عليه من حديث أنس وأبي هريرة ضمن حديث الشفاعة الطويل. انظر صحيح البخاري (4712، 7510 ومواضع أخرى) وصحيح مسلم (193، 194) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 وجعلوا الربً محتاجًا إلى عباداتهم، مفتقرًا إلى صدقاتهم، وإنهم يبغون ضره ونفعه، وهذا دين المشركين والنصارى، بل المؤمن يعلم أن كل ما يعمله من الخير مع أنبياء الله وأوليائه فإنما يطلب أجره من الله لا منهم، والمؤمنون الذين أولهم أبو بكر الصديق إنما يطلب أجر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم وصدقاتهم من الله لا من - مخلوق، ولله يعملون لا لمخلوق، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق عليه (1) : "إن أَمنَّ الناسِ عَليَّ في صحبته وذاتِ يدِه أبو بكر، ولو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلا". قال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)) (2) . وهذه الآية نزلت في الصديق (3) ، وإن كانت متناولة لغيره، فإنه قد يُرادُ بها قطعًا، وهي مما استدل به أهل السنة على أنه الأتقى، فيكون أكرم الخلق من هذه الأمة، كقوله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (4) ، قالوا: ولا يجوز أن تكون نزلت في على دونه، لأن عليًّا عليه السلام كان فقيرًا في كفالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَفَلَه لمَّا وقعتْ بمكة المجاعةُ، فبعث الله نبيه وعليٌّ عنده صغير في كفالته، فآمن به كما آمنت به خديجة، ولم يكن له مالٌ ينفقه عليه.   (1) البخاري (3954) ومسلم (2382) عن أبي سعيد الخدري. (2) سورة الليل: 17- 20. (3) انظر تفسير الطبري (30/146) وابن كثير (4/556) . (4) سورة الحجرات: 13. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 وأما أبو بكر فكان رجلاً بالغًا مُوْسرًا، فأعانه بنفسه وبماله، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أمنَّ الناسِ علينا في صحبته وذاتِ يده أبو بكر" (1) ، وإن كانت نفقة أبي بكر في سبيل الله، لم تكن في مؤنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مستغنيًا في نفقة نفسه عن أبي بكر وغيره، ولكن أعانه بالنفقة في سبيل الله، حيث اشترى سبعةً يعذَّبون في الله منهم بلال وغيره، وفعلَ غير ذلك. والمقصود هنا أن الأعمال لا تُعمَل إلا لله، ولا يُطلب أجرُها إلا من الله، وإن وصل بها نفع عظيم إلى الأنبياء وغيرهم، فالله هو المعبود، والرسل دعوا إلى عبادة الله وطاعتهم، وبينوا أن الجزاء على الله لا عليهم، قال تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)) (2) ، وقال تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)) (3) ، وقال: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)) إلى قوله (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)) (4) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم وأموالَهم إلاّ بحقها، وحسابُهم على الله" (5) .   (1) سبق تخريجه. (2) سورة الرعد: 40. (3) سورة يونس: 46. (4) سورة الغاشية: 21- 26. (5) البخاري (2946) ومسلم (21) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 وكثير من أهل الجهل والضلال يطلبون جزاء أعمالهم من أولياء الله أو أنبيائه، كأنهم يعبدونهم أو كأنهم عملوا لأجلهم، وإنما هم لهم دعاة وهداة ومرشدون ومعلمون، ومعينون لهم على الخير بحسب ما يمكنهم من دعاء وغير دعاء، يطلبون أجرهم من الله لا ممن دعوه وأعانوه، ولهذا كان كل من الرسل يقول: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)) (1) وقال:) (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)) (2) ، وهذا الاستثناء منقطع، وكذلك الاستثناء في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (3) . كما قد فسر ذلك ابن عباس، وحديثه في الصحيحين (4) . وكذلك من عمل صالحًا ينتفعون به من ذكر وأنثى فإنما يطلب أجره من الله، فنحن كل خير نفعله هو ببركة دعوة الرسول لنا إلى الخير، وأجرنا في ذلك على الله لا على غيره، وله مثل أجورنا من الله لا منا، ولهذا أمرنا عند زيارة القبور أن نسلِّم عليهم وندعو لهم كما نصلي على جنائزهم، ويكون أجرنا في ذلك على الله، لا من صلينا على جنازته ولا على من زرنا قبره، ويكون رغبتنا إلى الله، كما قال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) (5) .   (1) سورة الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180. (2) سورة الفرقان: 57. (3) سورة الشورى: 23. (4) رواه البخاري (4818) ، ولم أجده عند مسلم. (5) سورة الشرح: 7- 8. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 ولكن كثير من أهل الضلال صار يُشبه النصارى، فيُنزل المخلوق بعد موته بمنزلةِ الخالقِ، يطلب منه ماَ يطلب من الخالق، ويتقرب إليه بالهدية وغيرها، يَطْلُب الثوابَ منه كما يطلب من الخالق، وهذا إنما يفعل بالأنبياء والأولياء بعد موتهم، لأنهم في حياتهمِ لا يمكنون أحدًا من الإشراك بهم، كما قال المسيح: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)) (1) ، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2) ، فمن اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر. ولهذا كان خاتم الرسل المبعوث بملة إبراهيم قد أقام الملَّة الحنيفية كما نعت ذلك في الكتب المتقدمة، وثبت ذلك في الصحيح (3) : "إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لستَ بفظّ ولا غليظٍ ولا صخّاب بالأسواق، ولا تَجزِيْ بالسيئة السيئةَ، ولكن تَجزِي بالسيئة الحسنةَ والعفوَ، ولن أقبضه حتى أُقيمَ به الملةَ العوجاء، فأفتح به أعينًا عُمْيًا وآذانًا صفا وقلوبًا غُلْفًا، بأن يقولوا: لا إله إلا الله".   (1) سورة المائدة: 117. (2) سورة آل عمران: 79-80. (3) البخاري (4838) عن عبد الله بن عمرو بن العاص نقلاً عمَّا في التوراة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 وفي الصحيح (1) أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تُطروني كما أَطْرَتِ النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله". وفي الصحيح (2) أيضًا: أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما فعلوا، قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا". وفي الصحيح (3) أنه قال قبل أن يموت بخمسٍ: "إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ [مساجدَ] ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي السنن (4) عنه أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تتخذوا قبري عيدا، وصلُوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم". وقد ثبت عنه في الصحيحين (5) أنه قال: "لتركبِن سَنَنَ من كان قبلكم حذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ ". وقد شرحنا هذا الحديث وتكلمنا على جمل ما وقع في ذلك من مخالفة الصراط المستقيم في غير هذا الموضع (6) . والمقصود   (1) البخاري (3445، 6830) عن عمر بن الخطاب. (2) سبق تخريجه. (3) سبق. (4) سبق. (5) البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري. (6) يشير إلى كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 هنا أن النصارى فيهم إشراكٌ وغلوّ وابتداع، قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (1) ، وقال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّه) (2) ، وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (3) ، وقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)) (4) . فصار في كثير من الضلال في هذه الأمة إشراكٌ وغلو وابتداع، كما أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهؤلاء الذين يعملون العبادات ويهدونها إلى الأنبياء والأولياء بعد موتهم طالبين الأجر من أولئك الذين يهدونها إليهم، كما يطلبون الأجر من الله فيما يتقربون به إليه من الصدقة وغيرها من الأعمال، فيهم إشراك وابتداع وغلو، أما إشراكهم فقد ضَاهَوا المخلوق بالخالق، وأما ابتداعهم فإن هذا العمل لم يَسُنَّه لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا خلفاؤه الراشدون.   (1) سورة التوبة: 31. (2) سورة الحديد: 27. (3) سورة النساء: 171. (4) سورة المائدة: 77. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 وقد ثبت عنه في الصحيحين (1) أنه قال: "من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ". وقال (2) : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". والغلو حيث جعلوا في البشر شَوبًا من الربوبية والإلهية والغِنَى عن صاحبه إلى زيادة النفع مضاهاة للنصرانية، وهم في تقربهم إلى غير الله بالعبادات والأعمال يشبهون المتوكلين على غير الله المستعينين بغير الله. والله تعالى له حقوق لا يشركه فيها غيرُه، ولرسله حقوق لا يشركهم فيها غيرُهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض حقوق، كما قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)) (3) ، فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، والتسبيح بكرةً وأصيلاً لله وحده، وقال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) (4) ، فالطاعة لله والرسول، والخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)) (5) ، فالإيتاء لله والرسول. كما قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا   (1) البخاري (2697) ومسلم (1718) عن عائشة، واللفظ لمسلم. (2) سبق. (3) سورة الفتح: 8-9. (4) سورة النور: 52. (5) سورة التوبة: 59. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1) ، فإن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، ويأذن فيما أذن الله. قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (2) ، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (3) . وأما التوكل فعلى الله وحده، فلهذا قالوا: حسبنا الله، ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، كما قالوا: سيؤتينا الله من فضله ورسوله، فإن الحسيب هو الكافي، والله وحده كافي عبادِه، كما قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (4) ، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)) (5) ، أي الله كافيك وكافي المؤمنين المتقين، [هذا] الذي اتفق عليه السلف. ومن ظن أنه معناه "أن الله والمؤمنين يكفونك" فقد غلط غلطًا عظيما من وجوه كثيرة في اللغة والتفسير والمعنى، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع، وهذه القواعد كلها مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا أن الإشراك أن يُجعَل لله نِدٌّ فيما يختص به من العبادة أو التوكل، ومن البدعة أن يُعبَدَ الله بعبادة لم يَدُلَّ عليها دليلٌ شرعي. ومن الغلو أن يُرفع المخلوقُ إلى درجةِ الخالق.   (1) سورة الحشر: 7. (2) سورة النساء: 80. (3) سورة النساء: 64. (4) سورة الزمر: 36. (5) سورة الأنفال: 64. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 وأصل الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع. كما قال الفضيل ابن عياض في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (1) قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، فهذه العبادات التي فيها شركٌ وغلو ولم تثبت بدليل شرعي، لا هي خالصة لله ولا هي على موافقة السنة، فهي منهي عنها من هذين الوجهين. وهؤلاء الذين ابتدعوا إهداءَ العبادات إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجتمع فيهم هذا وهذا، وإن تخلَّصوا من الإشراك والغلو لم يتخلَّصوا عن الابتداع، فإن هذا عمل مبتدع لمِ يقم على استحبابه دليل شرعي. وقد بيَّنا فسادَ ما احتجّ به من سَوَّغه، وإنا لم نعلم أحدًا من القرون الثلاثة المفضلة فعلَ مثلَ هذا. والمجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر، لكن إذا تبين الحق وجبَ اتباعُه. والله أعلم.   (1) سورة هود: 7، سورة الملك: 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 مسألة فيمن قال: إن إبليس أودعَ وَلَدَه لآدم عليه السلام، وأنّ آدم طرده مرتين، وبعد الثالثةِ ذَبَحَه وسَلَقَه، وأكله، فلهذا يَجري الشيطان في ابن آدم مجرى الدم. وهل عُرِضَ على إبليسَ أن يسجد عند قبرِ آدمَ أو يُعْرَضُ عليه في القيامة؟ وفي قوله تعالى (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40)) (1) هل هذا القولُ عن الكافر خاصَّةً -وهو إبليس- أو عن الكفّار؟ الجواب أما الحديث المذكور عن آدم عليه السلام فمن أقبح الكذب والبهتان، لا يقولُه أحدٌ من العقلاء فضلاً عن أهل العلم والإيمان. ولم يذكر هذا أحدٌ من أهل العلم والدين، وإنما يَروِي هذا أو يُصدِّقُه أجهلُ العالمين. وأكلُ الشيطان إذا كان من الممكنات هو من أعظم المحرَّمات، فإن الله تعالى قد حرَّم الخبائث من الحيوان -كالخنزير وغيره- على آدم وذريته، كما حرَّم علينا مع ذلك كلَّ ذِي نابٍ من السباع، لأنَّ   (1) سورة النبأ: 40. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 هذه البهائم فيها البغيُ والعدوان الذي هو وصف الشيطان، فنهَى الله تعالى عن أكلِها لئلا يَصِيرَ في أخلاق المسلمين البغيُ والعدوانُ الذي هو بعض أوصاف الشيطان. فكيف يأكل الشيطان الذي هو جامعٌ لكل خبيث؟ ولو كان الشيطان مما يُؤكَل فهل في كل الشيطان إلاّ شيطان؟ وبالجملة فمثلُ هذا الكلام يَستحقُّ من يقولُه أو من يُصدِّقُه العقوبة البليغة التي تَردَعُه وأمثالَه. وأما عَرضُ السجودِ لقبرِ آدم عليه السلام على إبليس فهذا قد ذكره بعضُ الناس، لكن ليس له إسناد يُعتَمد عليه. وأما عرضُ السجود له على إبليسَ في الآخرة فلم يذكره أحدٌ مما علمتُه. وكلاهما باطل وإن قاله من قاله؛ فإن الله تعالى قد أخبرَ عن إبليسَ بما أخبرَ به من إنظارِه وإغوائِه الذرّيّة، وقوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) (1) ، وأخبر أنه عدوّ لهم بقوله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (2) ، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)) (3) . وأخبرَ بما يكون من الشيطان يوم القيامة حيث قال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي   (1) سورة ص: 85. (2) سورة الكهف: 50. (3) سورة يس: 60-61. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (1) . وهذا وأمثالُه مما يُبيّن أن الشيطان حَقَّتْ عليه كلمةُ العذاب، وقد ظهر ذلك للخلق، ولا يُحتاجُ إلى إعادةِ ذلك الأمر كما لا يحتاج إعادة الأمر. وأما قوله: (وَيَؤمَ يَعَضُّ الظَالِمُ عَلَى يَدَيه) (2) ، (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40)) (3) ، فالكافر اسم جنس، ليس كافرًا بعييه، بل قد جاء في الحديثِ: "إن البهائمَ يُقتَصُّ بعضُها من بعضٍ، ثم يقال لها: كوني ترابًا" (4) ، فأعيدت البهائم إلى أصلها. وأما إبليس فهو مخلوقٌ من مارجٍ من نارٍ، وذلك لا يناسب عودَه إلى التراب.   (1) سورة إبراهيم: 22. (2) سورة الفرقان: 27. (3) سورة النبأ: 40. (4) أخرجه أحمد (2/363) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 مسألة في رجل قال لزوجته: على الطلاق ما تَروحِيْ لبيتِ أبوكِ (1) لسنةٍ، فلحت عليه، قال: عليَّ الطلاق ما تروحي لبيت أبوكِ (1) لسنةٍ، فلحت عليه، قال: علي الطلاق ما تروحي لبيتِ أبوك (1) لسنة، فجاءت أمُّ الزوجة، فقالت لها: قُومِي الدار، فقالت: ما أقدِرُ أروح، فغَصَبَتْها أمُّها وأخذتْها، وراحتْ إلى دار أبيها من غيرِ رضيً منها ولا إذن الزوج، فهل تقع الثلاث أو واحدة؟ وهل يكون تَأثيرًا (2) لإكراهها في الخروج بغير رضاها؟ أفتونا مأجورين. الجواب الحمد لله. إذا أخرجتْها مكرهةً ولم تقدرْ أن تمتنعَ لم يحنث الحالف، ولو قَدَرَتْ أن تمتنع، واعتقدت أن الإخراج الذي أخرجته ليس محلوف (3) عليه، فلا تكون مخالفةً له به، لم يحنث الحالف أيضًا. وأما إذا فعلَتِ المحلوفَ عليه عالمةً فإنه يحنث.   (1) كذا في الأصل بالرفع ملحونًا من السائل. (2) كذا في الأصل منصوبًا، وهو لحن من السائل، والصواب الرفع. (3) كذا في الأصل، والصواب "محلوفًا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 ثم إن كان نوى بتكرير اليمين توكيدَها لم يقع به أكثر من طلقبة، وإن كانت أيمانًا ففيه قولان: هل يقع به ثلاث أو واحدةٌ، والأظهر أنه لا يقع به إلا واحد، فإنه لو كرَّر اليمين بالله على فعلٍ واحدٍ لأجزأتْه كفارةٌ واحدة في أصحّ القولين. ولكن وقوع الثلاث هو المشهور عن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وفرَّقوا بين اليمين (1) بالله وبين الطلاق. والله أعلم.   (1) تكررت في الأصل "بين اليمين". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 فصل ما ضُمِن بالعقد الصحيح ضُمِن بالعقد الفاسد، وما لم يُضمَن بالعقد الصحيح لم يُضمَن بالعقد الفاسد. والضمانات ثلاثة ضمانات: ضمان العقد، كالنكاح والإجارة وما أشبههما. وضمان اليد، الغصب والخؤنة (1) وما أشبههما. وضمان الإتلاف. كلُّ من أتلفَ لغيرِه بمباشرةِ أو سببٍ محرم وما أشبهها. والله أعلم.   (1) كذا في الأصل، ويبدو أنها بمعنى الخيانة، ولم أجدها في المعاجم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 مسألة في رجلِ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين"، فقال له آخر: هذا ما هو صحيح. الجواب الحمد لله. ليس هذا الحديث بصحيح، وليس هو في شيء من كتب المسلمين المعروفة، وإنما الحديث المعروف عن مَيْسَرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله! متى كنتَ نبيًّا؟ وفي لفظٍ: متى كُتِبْتَ نبيًّا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" (1) . وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إني كنتُ مكتوبًا عند الله خاتمَ النبيين وإنَّ آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأوّل ذلك، دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصورُ الشام" (2) .   (1) أخرجه أحمد (5/59) وابن أبي عاصم في "السنة" (410) وأبو نعيم في "الحلية" (9/53) . وانظر "الصحيحة" (1856) . (2) أخرجه أحمد (4/128) والبزار كما في "كشف الأستار" (2365) والحاكم في المستدرك (2/600) وأبو نعيم في "الحلية" (6/89-90) . وتكلم عليه الألباني في "الضعيفة" (2085) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 ففي هذه الأحاديث المعروفة عند علماء المسلمين أن الله كتب نُبوَّتَه وأظهرها بين خلقِ آدم وبين نفخ الروح فيه، كما ثبت في الصحيح (1) عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - -وهو الصادف المصدوق- أن خَلْقَ أحدكم يُجمَع في بطن أفه أربعين صباحًا، ثم يكون عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يُبعَث إليه المَلَك، فيؤمَر بأربعِ كلمات، فيقال: اكتبْ رزقَه وأجلَه وعملَه وشقيّ أو سعيد، ثمّ يُنفخ فيه الروحُ. قال: فوالذي نفسي بيده إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراعٌ، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة. فبيّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث الصحيح أنه بعد أن يخلق الجسد وقبلَ نفخِ الروح يُكتَب رزقُ العبد وأجله وعملُه وشقيّ أم سعيد. وآدم هو أبو البشر، ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد ولد آدم، فكتب الله نبوتَه بعد خلقِ آدم وقبلَ نفخ الروحِ فيه. فأما قول القائل بين الماء والطين" فهذا الكلام باطل، فإن الماء هو بعض الطين، إذ الطين ماءٌ وترابٌ، ولم يكن آدم قطُّ بين الماء والطين، وإنما كان بين الروح والجسد، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذٍ مكتوبًا عند الله خاتم النبيين. وأما تبيّن ذاته وصفاتِه وجَعْلُ الله له نبيًّا ورسولاً فإنما كان حتى خَلَقَه، ونبّأه الله على رأس أربعين سنة، فأول ما أنزل الله عليه   (1) البخاري (3208 ومواضع أخرى) ومسلم (2643) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (1) ، فكان نبيًّا، ثم أنزل الله عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)) (2) . فكان رسولاً. ومن زعم أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل عليه به جبريل فهو ضالٌ مفترٍ بإجماع المسلمين. وما يُروى في هذا الباب من الأحاديث -مثل: أنه كان كوكبًا في السماء يُرَى قبل الخلق، أو نحو ذلك- فهي أحاديث مكذوبة باتفاق علماء المسلمين. والله أعلم.   (1) سورة العلق: 1. (2) سورة المدثر: 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 مسألة في قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (1) ، وقوله تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الآية (2) ، فمن هو في هؤلاء أعلى درجةً؟ الجواب الحمد لله. أما قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)) فهي تتناول جميع أولياء الله الفاضل والمفضول، وكلُّ من ذُكِر في غير هذه الآية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فهو صنفٌ ممن دخلَ فيها، وبعضُ هذه الأصناف أعلى من بعضٍ. ولا يقال: إن بعض هذه الأصناف أعلى ممن ذُكِر في الآية، لأن أولئك بعضُ هذه الجملة، إلاّ أن يُراد أن البعض الذي هو أعلى أصنافِها أفضلُ أهلها. ولا يقال أيضًا: إن كل من في هذه الآية أفضل ممن ذُكِر في غيرها، لكن يقال: إن مجموع المذكورين فيها أفضل من بعضهم.   (1) سورة يونس: 62. (2) سورة النور: 37. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 وأما قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) الآية، فهؤلاء ممن دَخَل في تلك الآية، وهم من أولياء الله المتقين، وهم أفضل من غيرهم، وقد يكون من له تجارة وبيعٌ لا تُلهِيْه أفضل ممن ليس كذلك، وقد يكون ذلك أفضل من هذا بحسب الإيمان والتقوى، فلذلك قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)) (1) هذا مدح لهذا الصنف. والصدق في الوفاء واجبٌ على كل مؤمن، وهؤلاء أفضل من غيرهم، وقد يكون بعض من لم يعاهد أفضل من بعض من عاهد، وقد يكون بالعكس. والله أعلم.   (1) سورة الأحزاب: 23. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 مسألة في غلام حلفَ بالطلاق الثلاث أنه لم يخدم عند إنسان، فأخذه غصبًا، واستخدمه بالضرب، فلما ضربه حلفَ يمينًا ثانيًا بالطلاق الثلاث أنه ما يخدم، فما الحكم؟ الجواب إن أمكنه الامتناعُ عن الفعل وامتنع فلا حِنْثَ عليه، وإن أُكرِهَ على فعلِ المحلوف عليه فلا حنثَ عليه. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 مسألة في رجلٍ صلَّى صلاةَ الصبح إمامًا بسورة المدثر و"لا أقسم بيوم القيامة" في الركعتين، وسبَّح في الركوع والسجود ما بين سبع تسبيحاتٍ إلى عشر، فقال بعض الناس: هذه الصلاة ليست من الشرع ولا يُصلَّى خلفه. فهل يجب على وليّ الأمر تعزيرُ من يقول هذا القول واستتابتُه؟ وما على من يُنكِر هذه الصلاة؟ أفتونا رحمكم الله أجمعين. الجواب الحمد لله. بل هذه الصلاة مشروعة باتفاق أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على أن السنة للإمام أن يقرأ في الفجر بطوال المفصّل، والمفصَّلُ من قاف. وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر ما بين الستين آية إلى المئة (1) ، وكان يقرأ فيها بقاف ونحوِها من السُّور (2) ، وهي أطول مما ذُكِر، وقرأ فيها أيضًا بالصافات (3) ،   (1) أخرجه البخاري (771) ومسلم (461) عن أبي بَرْزَة الأسلمي. (2) أخرجه مسلم (457) عن قطبة بن مالك، و (458) عن جابر بن سمرة. (3) أخرجه أحمد (2/40) عن ابن عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 و"ألم تنزيل" و"هل أتى" (1) ، وبسورة المؤمنين، لكن أدركته سَعلةٌ في أثنائها (2) ، وقد قال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلّي" (3) . وكان عمر بن الخطاب يقرأ فيها بيونس ويوسف وهود، وكان عثمان يقرأ بطِوال المفصّل، وقرأ أبو بكر الصديق مرةً فيها بسورة البقرة، فقيل له: كادتِ الشمسُ تطلعُ، فقال: لو طلعتْ لم تجدنا غافلين. ومثل هذا معروف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه الراشدين، وقد أَمَرَنا باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين فقال: "إنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة" (4) . وفي السنن (5) أن أنس بن مالك لما صلّى خلف عمر بن عبد العزيز قال: ما رأيتُ أشبهَ بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاة هذا الفتى، وكان يُسبِّح في الركوع والسجود من عشر تسبيحات. وفي الصحيحين (6) أن أنس بن مالك قال: لأصلّين بكم صلاةَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا قام من الركوع يقوم حتى يقول القائل: قد نسي،   (1) أخرجه البخاري (891، 168) ومسلم (880) عن أبي هريرة. (2) أخرجه مسلم (455) عن عبد الله بن السائب. وعلّقه البخاري (106) . (3) أخرجه البخاري (631) عن مالك بن الحويرث. (4) سبق تخريجه. (5) أخرجه أبو داود (888) والنسائي (2/224) وأحمد (3/162) . (6) البخاري (800، 821) ومسلم (472) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 وإذا قَعَدَ من السجود يقعد حتى يقول القائل مثل هذا. مع أن الركوع والسجود لا ينقص عن ذلك باتفاق المسلمين، بل يكون مثل ذلك أو أطول. وفي الصحيحين (1) عن البراء بن عازب قال: رَمقتُ الصلاةَ خلفَ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان قيامُه فركوعه فاعتدالُه في الركوع فسجودُه فجلوسُه بين السجدتين فسجودُه فجلوسُه ما بين السلام والانصراف قريبًا من السَّواء. وفي رواية: ما خلا القيام والقعود. وفي الصحيحين (2) عن أنس قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخفَّ الناس صلاةً في تمام. فهذا الذي فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو من التخفيف الذي أَمَرَ به، كما قال: "إذا أمَّ أحدُكم الناسَ فليُخَفِّفْ، فإنّ من ورائِه السقيمَ والكبيرَ وذا الحاجة" (3) . وقال لمعاذٍ: "أفَتَّان أنتَ يا معاذ؟ " (4) لما قرأ في العشاء الآخرة بسورة البقرة. فهذا التطويل الذي فعله معاذٌ يُنهَى عنه الإمام. ومن أنكرَ ما شَرَعَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنه ليس من الشرع، فإنّه يُعزَّر على ذلك تعزيرًا يُناسِبُ حالَه، زجرًا له ولأمثالِه. والله أعلم.   (1) البخاري (792، 801، 820) ومسلم (471) . (2) البخاري (706، 708) ومسلم (469) . (3) أخرجه البخاري (703) ومسلم (467) عن أبي هريرة. (4) أخرجه البخاري (705 ومواضع أخرى) ومسلم (465) عن جابر بن عبد الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 مسألة في رجلٍ إمامِ مسجدٍ: هل يجوز له أن يُكبِّر أحدٌ خلفَه من المؤتمِّين؟ أو يواضبَ (1) على السجدة في فجر كل جمعة؟ أو يَدعِيْ (2) هو والمؤتمين (3) عقب كل صلاة؟ أفتونا يرحمكم الله ويوفقكم للصواب. الجواب الحمد لله. لا يُشرَع الجهر بالتكبير خلف الإمام الذي يُسمَّى التبليغ لغير حاجةٍ باتفاق الأئمة، فإن بلالاً لم يكن يُبلِّغ خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو ولا غيره، ولم يكن يبلّغ خلف الخلفاء الراشدين، لكن لمّا مرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى بالناس مرةً وصوتُه ضعيف، فكان أبو بكر يُصلِّي إلى جنبه يُسمعُ الناسَ التكبيرَ (4) . فاستدلَّ العلماء بذلك على أنه يُشرَع التبليغ عند الحاجة، مثل ضعف صوتِ الإمام ونحو ذلك، فأما بدون الحاجة فاتفقوا على أنه مكروهٌ غيرُ مشروع.   (1) كذا في الأصل بالضاد، والصواب بالظاء. (2) كذا في الأصل بالياء. (3) كذا في الأصل منصوبًا. (4) أخرجه البخاري (712) ومسلم (418) عن عائشة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 وتنازعوا في بطلان صلاة من يفعلُه على قولين، والنزاعُ في الصحة معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، مع أنه مكروه باتفاق المذاهب كلّها. وأما في دعاء الإمام والمأمومين بعد الصلاة جميعًا رافعينَ أصواتَهم أو غيرَ رافعين، فهذا ليس من سنة الصلاة الراتبة، [و] لم يكن يفعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد استحسنه طائفة من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد في وقت صلاة الفجر وصلاة العصر، لأنه لا صلاة بعدها، وبعض الناس يستحبُّه في أدبارِ الخمس. لكنّ الصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن ذلك ليس من سنة الصلاة، ولا يُستحبُّ المداومةُ عليه، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يفعله هو ولا خلفاؤه الراشدون، ولكن كان يذكر الله عقيب الصلاة ويُرغَب في ذلك، ويجهر بالذكر عقيب الصلاة، كما ثبت في ذلك الأحاديث الصحيحة: حديث المغيرة بن شعبة (1) وعبد الله بن الزبير (2) وغير ذلك. و الناس في هذه المسألة طرفانِ ووسطٌ: منهم من لا يستحبّ ذكرًا ولا دعاءً، بل بمجرد انقضاء الصلاة يقوم هو والمأمومون كأنهم فَرُّوا من قَسْوَرة، وهذا ليس بمستحب. ومنهم من يدعو هو والمأمومون رافعين أيديهم وأصواتهم. وهذا أيضًا خلافُ السنة.   (1) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593) . (2) أخرجه مسلم (594) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 والوسَطُ هو اتباع ما جاءت به السنةُ من الذكر المشروع عقيب الصلاة، ومكث الإمام يستقبل المأمومين على الوجه المشروع. لكن إذا دعوا أحيانًا لأمرٍ عارضٍ كاستسقاءٍ أو استنصارٍ أو نحو ذلك فلا بأس بذلك، كما أنهم لو قاموا ولم يذكروا لأمرٍ عارضٍ جاز ذلك ولم يُكرَه، وكل ذلك منقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) . وقد كان في أكثر الأوقات يستقبل المأمومين بوجهه بعد أن يُسلِّم، وقبلَ أن يستقبلَهم يَستغفر ثلاثًا ويقول: "اللهمَّ أنت السلام ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام" (2) . وكان يجهر بالذكر، كقوله: "لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ" (3) . وأحيانًا كان يقوم عقيبَ السلام إذا عرض له أمر، كما قامَ مرةً يخطب خطيبًا (4) للناس، وقال: "ذكرتُ ذُهَيْبَةً كانت عندنا، فكرهت أن تبيت عندي". وأما السجدة يوم الجمعة فليست واجبةً باتفاق العلماء، ويُكرَه أن يتعمد الرجل سجدة غير "الم تنزيل". وأما قراءة "هل أتى"   (1) أخرجه البخاري (851) عن عقبة. (2) أخرجه مسلم (591) عن ثوبان. (3) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593) عن المغيرة بن شعبة. (4) كذا في الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 و"الم تنزيل" في فجر الجمعة فقد جاءت الأحاديث (1) بهذه السنة كما جاءت، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة والمنافقين (2) . لكن لا ينبغي المداومة على ذلك خشيةَ أن يَظُنَّ الناس أنها واجبة، كما لم يواظب (3) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مثل ذلك، بل كان يقرأ في الجمعة والعيدين سورًا متنوعة، لا يلازم شيئًا بعينه. والله أعلم.   (1) سبق تخريجها في أول المسألة. (2) أخرجه مسلم (879) عن ابن عباس. (3) في الأصل "يواضب" بالضاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 مسألة في رجل متمسك بأحد المذاهب الأربعة، كمذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين، وقد نزلت به نازلة في طلاقٍ أو غيرِه، فاستفتَى بعض العلماء، فأفتاه بقولِ أحد الأئمة المذكورين، فعارضَه آخر وقال: من استفتَى غيرَ أهلِ مذهبه فهو زنديق أو نحو هذا الكلام، فهل هذا المنكِر مصيبٌ في هذَا الإنكار أم مخطئ؟ وهل يجب عليه القتل أو غير ذلك من أنواع التعزير؟ أفتونا رحمكم الله. الجواب الحمد لله. بل هذا المنكر مُخطئ في ذلك باتفاق الأئمة، بل هو آثمٌ في ذلك مستحق للعقوبة التي تَزجُره وأمثالَه عن مثلِ ذلك، فإن كان يفهم معنى الزنديق وأنّ الزنديق الكافر، وجعلَ اتباعَ المسلم في بعض المسائل لإمامٍ غيرِ إمامِه كفرًا: فإنه يُستَتاب من هذا الكلام، فإن تاب وإلاّ قُتِل؟ وإن كان يظن أن الزنديق هو العاصي الجاهل الفاسق ونحو ذلك فإنه يُعزر على هذا الكلام. و لا يجب على أحدٍ أن يتَّبع واحدًا بعينه في كلّ ما يقوله، وإنما يجب على الناس طاعة الله ورسولِه، ومن قال: إنه يجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 على الناس طاعة شخصٍ بعينِه غيرِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو متناقض مخالف لإجماع المسلمين، فإنهم متفقون على أن كلَّ أحدٍ من الناس يُؤخَذُ من قولِه ويُترَكُ إلاّ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والأئمة الأربعة رضي الله عنهم نَهَوا الناسَ أن يُقلِّدوا واحدًا بعينِه في جميع ما يقوله وإنْ وُجدَتِ الحجة بخلافه. والذي كَرِهَه العلماء للرجل أن يكون رخيصًا يَستفتي في كلّ حادثة بما يكون له فيه رخصة. فأما أخذُه في بعض المسائل بقولِ إمام وفي بعضها بقولِ إمامٍ مع تحرِّي التقوى فهو جائز عند أئمة الإسلام. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 مسألة في رجلِ لم يؤدِّي (1) الصلوات الفرض وتوفي، وخلف ولدٌ صالح، فكان الولد بعد أن يصلي الصلاة المكتوبة عليه يصلِّي صلواتٍ دائمًا، ويحتسبها لوالدِه عن فرضِه، فهل يجوز ذلك عن والده ويحتسب له؟ أفتونا مأجورين يرحمكم الله. الجواب الحمد لله. أما الفرض فلا يَسقُط عنه بصلاة غيرِه، ولكن من مات مؤمنًا فإذا صلّى عنه وَلَدُه أو تصدَّقَ عنه أو أعتقَ عنه أو صامَ عنه نفعَه الله بذلك. وأفضل ذلك الصدقة ونحوها من النفع المتعدي، فإنها تصل إلى المؤمن باتفاق الأئمة. والله أعلم.   (1) كذا في الأصل بإثبات الياء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 مسألة في رجل أوقف زاويةً قطعةَ أرضٍ مخللة بنَخْل، بعضه طازج وبعضُه غير طازج، وشرطَ النظرَ لشخصٍ من الفقراء، فجاء الحاكم بالناحية، واَجَرَ الأرضَ مدةَ عشر سنين بدون أجرة المثل. فهل تجوز هذه الإجارة؟ وهل للحاكم أن يُؤجر مع وجودِ الناظر الذي شرط له الواقفُ النظرَ أم لا؟ أفتونا مأجورين. الجواب الحمد لله. إذا كان لها ناظر خاص قائم بالواجب فليس للحاكم أن يؤجرها، ولا يتصرف فيها بدون أمره، لكن [لو] خرج الناظر عما يجب عليه فإن الحاكم يعترض عليه، فيُلْزِمه بالواجب، أو يَستبدل به، أو يَضمُّ إليه أمينًا. وليس للناظر ولا الحاكم أن يؤجرها بدون أجرة المثل. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 مسألة متى فُرض الصوم والصلاة والزكاة؟ الجواب الحمد لله. صوم رمضان فُرِضَ من السنة الثانية من الهجرة، وأدرك رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعَ رمضانات. وأما الصلاة والزكاة فأُمِر بهما بمكةَ قبلَ الهجرة، لكن فرائض الصلاة شُرِعت بالمدينة. والله أعلم. مسألة هل يجب للحائض أن تَغسِلَ باطنَ فرجِها من الحيضِ والجنابة؟ الجواب الحمد لله. لا يجب على المرأة غَسْلُ باطن الفرج من غسل الحيض والجنابة. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 مسائل وردت من الصلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 مسألة في الكلب إذا وَلَغَ في طستِ لبنٍ أو طعام أو شراب، هل يحل أكلُه أم بيعُه أم لا؟ فأجاب -رضي الله عنه- إذا كان فيه أثرُ الولوغ أو كُشِطَ وجهُه جاز أكلُه في أحد قولَي العلماء. مسألة في الفأرة إذا وقعتْ في سمنٍ أو زيتٍ وهو مائع، هل يَحِلُّ أكلُه أم بيعُه أم لا؟ فأجاب -رضي الله عنه- إذا لم يتغير يُلقَى وما قَرُبَ منها، ويُوكَل المال ويُبَاعُ في أظهر قولَي العلماء. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 مسألة في رجلٍ يدخُل على امرأة أخيه وبناتِ عمِّه وبناتِ خالِه، هل يجوز له ذلك أم لا؟ الجواب لا يجوز له أن يخلو بها، ولكن إذا دخل مع غيره ومن غير خلوةٍ ولا ريبةٍ جاز له ذلك. والله أعلم. مسألة في التيمُّم، هل يجوز لأحدٍ أن يصلّيَ به السُّنن والرواتب والفريضة ويقتصرَ عليه إلى حين الحَدَث أم لا؟ الجواب نعم، يجوز في أظهر قولَي العلماء أن يصلي بالتيمم كما يصلي بالوضوء، فيصلّي به الفرضَ والنفلَ، ويتيمم قبل الوقت، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا يَنقُض التيممَ إلاّ ما يَنقُض الوضوءَ والقدرةُ على استعمال الماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 سئِل عن رجلِ يأمر الناسَ بالصلاة ولم يُصَلِّ، فماذا يجب عليه؟ الجواب من لم يُصلِّ فإنه يستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. والله أعلم. وسُئِل أيضًا فيمن يصلّي الفرضَ خلفَ من يُصلِّي نفلاً. الجواب يجوز ذلك في أظهر قولَي العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وسُئل أيضًا عن الماء إذا غَمَسَ الرجلُ يدَه، هل يجوز استعمالُه أم لا؟ الجواب لا ينجس بذلك، بل يجوز استعمالُه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وعنه رواية أخرى أنه يَصير مستعملاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 وسُئل أيضًا عن صلاة التراويح، هل يجوز قبل العشاء أم لا؟ الجواب السنة في التراويح أن تُصلّي بعد عشاء الآخرة. والله أعلم. وسُئل أيضًا عن الرجل يَمَسُّ المرأةَ، هل ينتقضُ الوضوء أم لا؟ الجواب إن توضأ من ذلك فحسن، وإن صلّى ولم يتوضأ صحَّتْ صلاتُه في أظهر قولَي العلماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 و سُئِل عن الرجل إذا اغتسلَ من الجنابة، ولم يتوضأ بعدَه ولا قَبلَه وصلَّى بالغُسل، فهل يجوز ذلك أم لا؟ الجواب نعم، إذا اغتسل للجنابة أجزأتْه الصلاةُ بذلك الغسل وإن لم يَنوِه عند جمهور العلماء. والله تعالى أعلم. وسُئل أيضًا عن الرجل لا يُواظِب على السُّنن الرواتب. الجواب من أَصرَّ على تركِها دَلَّ ذلك على قلَّةِ دينه، ورُدَّتْ بذلك شهادته في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما. وسُئل أيضًا فيمن يَحلِفُ بالطلاق أنه لا يفعل شيئًا، ثم أراد أن يفعلَه. الجواب يجوز أن يَفعَل ما حَلَفَ عليه ويُكفِّر عن يمينه. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 وسُئل أيضًا في الرُّعَاف هل يَنقُض الوضوءَ أم لا؟ الجواب إن توضأَ منه فهو أفضلُ، ولا يجب عليه في أظهر قولَي العلماء. والله أعلم. مسألة أيضًا في الفصاد في شهر رمضان، هل يُفسِد الصوم أم لا؟ الجواب إن أمكنَه الفصادُ بالليل أخَّرَه، وإن احتاجَ إليه لمرضٍ افتصَدَ، وعليه القضاء في أحد قولَي العلماء، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 وسُئل أيضًا في سفر يومِ رمضان، هل يجوز له أن يقصر فيه أو يُفطِر أم لا؟ الجواب هذا فيه نزاع، والأظهر أنه يجوز له القصر والفطر في رمضان، كما قصر أهلُ مكَّة خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ومزدلفة، وعرفةُ عن المسجد بَرِيدٌ. ولأن السفر مطلقٌ في الكتاب والسنة. وسُئل أيضًا عن رجلٍ معه مالٌ من حرام وحلالٍ، فهل يجوز أن يأكلَ من عيشِه أم لا؟ الجواب إذا عُرِف الحرامُ بعينِه لم يُؤكَلْ حتمًا، وإن لم يُعرَف بعينِه لم يَحرُم الأكلُ، لكن إذا كَثُر الحرامُ كان تركُ الأكلِ وَرَعًا. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 مسألة أيضًا في رجلٍ باعَ متاعًا لإنسانٍ تاجر، وكسبَ عليه، وقَسطَ عليه الثمن، والمديونُ يطلُب السفر ولم يُقِمْ له كافلاً، فهل لصاحب الدين أن يمنعَه من السفر أم لا؟ الجواب إن كان حالاً وهو قادرٌ على وفائه فله أن يمنعه من السفر قبل استيفائه، وكذلك إن كان مؤجّلاً ومَحِلُّه قبل قدوم المدين، فله أن يمنعه من السفر حتى يوثق برهنٍ يحفظ المال أو كفيل، وإن كان الدين لا يَحُلُّ إلاّ بعد قدوم المدين ففيه نزاعٌ بين العلماء. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 وسُئل أيضًا عن رجل يعمل عملاً يستوجب أن يُبنَى له قصر في الجنة ويُغرسَ له أغراس باسمه، ثم يعمل ذنوبًا يستوجب بها النار، فإذا دخل النار كيف يكون اسمه أنه في الجنّة وهو في النار؟ الجواب إن تاب من ذنوبه توبة نصوحًا فإن الله يغفر له، ولا يحرمه ما كان وعدَه، بل يُعطيه ذلك. وإن لم يَتُبْ وُزِنتْ حسناتُه وسيئاتُه، فإن رَجحتْ حسناتُه على سيئاتِه كان من أهل الثواب، وإن رجحتْ سيئاتُه على حسناتِه كان من أهل العذاب، وما أعدَّ له من الثواب يحبط حينئذٍ بالسيئات التي زادت على حسناته، كما أنه إذا عملَ سيئاتٍ استحقَّ بها النار ثم عملَ بها حسناتٍ تذهب السيئات. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 مسألة في رجلٍ استلفَ من رجلٍ دراهم إلى أجل على غلَّةٍ، بحكم أنه إذا حَلَّ الأجلُ دفع إليه الغلَّة بأنقصَ مما تساوي بخمسة دراهم، فهل يَحلُّ أن يتناول ذلك منه على هذه الصفة أم لا؟ الجواب إذا أعطاه عن البيدر كل غرارة بأنقص مما يبيعها لغيره بخمسة دراهم وتراضيَا بذلك جاز، فإن هذا ليس بقرض، ولكنه سلفٌ بناقصٍ عن السعرِ بشيء، وقدر هذا بمنزلة أن يبيعه بسعر ما يبيعه الناس أو بزيادة درهم في كل غرارة أو نقصِ درهم في كل غرارة. وقد تنازع الناس في جواز البيع بالسعر، وفيه قولان في مذهب أحمد، والأظهر في الدليل أن هذا جائز، وأنه ليس فيه حظر ولا غدر، لأنه لو أبطل مثل هذا العقد لرددناهم إلى قيمة المثل، فقيمة المثل التي تراضَوا بها أولى من قيمةٍ بمثلٍ لم يتراضَيا بها. والصواب في مثل هذا العقد أنه صحيح لازم، ولهذا كان الصحيح في النكاح الفاسد أنه يجب فيه المسمَّى لا مهرُ المثل، فإنّا إذا أوجبنا فيه مهرَ المثل أوجبنا ما يستحقُّه نظيرُها في النكاح الصحيح أولى مما يستحقُّه غيرُها في النكاح الصحيح، فإنه على التقديرين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 قد أوجب في الفاسد ما يجب في الصحيح، ولكن على أحد التقديرين قد اعتُبِر فاسدُها بصحيحها، وعلى الآخر اعتُبر فاسدُها بصحيح غيرها، والأول أولى، وهي في مسألة البيع بالسعر والإجارة بأجرة المثل. ومنهم من قال: إن ذلك لا يلزم، فإذا تراضيا به جاز. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 مسألة في رجلٍ فاتته صلاة العصر، فجاء إلى المسجد فوجدَ المغربَ قد أقيمت، فهل يصلّي الفائتةَ قَبلُ أم لا؟ الجواب بل يُصلِّي المغرب مع الإمام ثم يصلّي العصرَ باتفاق الأئمة، ولكن [هل] يعيد المغرب؟ فيه قولان: أحدهما يعيدها، وهو قول ابن عمر ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. والثاني: لا يعيد المغرب، وهو قول ابن عباس وقول الشافعي والقول الآخر في مذهب أحمد. والثاني أصحُّ، فإنّ الله لم يُوجب على العبد أن يصلّي الصلاة مرتين إذا اتقى الله ما استطاع. والله تعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 مسألة في رجل خَصَّ بعضَ بناتِه، فجهَّزها ومَلَّكَها بنحو مئتَي ألف درهم، وخَصَّ بعضهم بوقفِ بعضِ مالِه عليه، فهل لورثة الواقف فسخُ ذلك أم لا؟ الجواب الحمد لله، بل يجب عليه العدل بين أولادِه كما أمر الله ورسولُه، كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لبشير بن سعد: "اتقوا اللهَ واعدِلوا بين أولادكم"، وقال: "لا تُشهِدْني على جورٍ" (2) ، وأمره أن يَرُدَّ التفضيلَ بين أولادِه، وإذا ماتَ ولم يَعدِلْ فإنّه يُرَدُّ جَورُه في أظهر قولَي العلماء، كما أمر بذلك أبو بكر وعمر في مالِ سعد بن عبادة. ولسائر الأولاد المظلومين طلبُ حقِّهم وفَسْخ التخصيص الذي فيه ظلمُهم، وإعَانتُهم على إيصالِ حقِّهم إليهم من القُرَب التي يُثابُ فاعلُها. والله تعالى أعلم.   (1) البخاري (2587) ومسلم (1623) عن النعمان بن بشير. (2) هذه رواية لمسلم في الموضع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 مسألة في قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل هذه القبور التي يزورها الناس اليومَ -مثل قبر نوح وقبر الخليل وإسحاق ويعقوب ويوسف ويونس وإلياس واليسع وشعيب وموسى وزكريا وهو بمسجد دمشق- فهل يصحّ من تلك القبور شيء أم لا؟ الجواب الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره. وأما يونس وإلياس وشعيب وزكريا فلا يُعرَف [قبورهم] ، وقبر معاوية هو القبر الذي تقول العامة إنه قبر هود. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسِنَّور البرّ وابن آوى وجلودهم، وهل يَحِل لُبسُ جلودِ الجميع وأكلُ لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهر جلودُهم بالدباغ؟ الجواب أما لحم الضبع فإنه مباحٌ عند مالك والشافعي وأحمد، وجلْدُه يطهر بالدباغ في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك -في روَاية- وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أصحّ قولَي العلماء. وهذا إذا دُبِغ بعدَ موته، وأما إذا ذُكِّيَ ودُبغَ كان طاهرًا في مذاهب الأئمة. وأما سنّور البرّ والثعلب ففي حِلِّهما قولان، وهما روايتان عند أحمد، أحدهما: يحل، ويكون جلده طاهرًا إذا ذُكّي، وهذا مذهب مالك والشافعي. وعلى هذا القول فإذا مات ودُبغ كان طاهرًا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك. والقول الثاني: إنهما محرَّمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وعلى هذا إذا ذُكّي كان جلدُه طاهرًا عند أبي حنيفة دون أحمد، وجلده يطهر بالدباغ إذا مات عند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد، وظاهر مذهبه أنه لا يطهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 وأما ابن آوى فإنه حرام عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلده يطهر بالدباغ. وأما القول الذي يقوم عليه الدليل فإنه قد رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنن من وجوهٍ أنه نَهى عن جلود السباع (1) ، كما ثبت أنه حَرَّم لحمها (2) . فما ثبت أنه من السِّباع -كالنَّمِر وابن آوى وابن عِرسٍ- فلا يَحِلُّ لحمُه ولا لُبْسُ الفِراءِ من جلدِه، ما لم يكن من السِّباع المحرَّمة كالضَّبُع فإنه يُؤكَلُ لحمُه وَيُلبَسُ جلدُه. وأما الثعلب وسِنَّور البرّ ففيه نزاعٌ. والله أعلم.   (1) أخرجه أحمد (5/74، 75) وأبو داود (4132) والترمذي (1771) والنسائي (7/176) عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه. (2) متفق عليه من حديث أبي ثعلبة، أخرجه البخاري (5530) ومسلم (1932) . وفي الباب أحاديث أخرى رواها مسلم وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 مسألة في لحوم الخيل وألبانها، هل هي مباحةٌ أم لا؟ الجواب أما لحم الخيل فهو مباح عند أكثر علماء المسلمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب أبي حنيفة -كأبي يوسف ومحمد صاحبَيْ أبي حنيفة-، وهو مذهب الثوري وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر، وهو قول ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من العبادلة. فإنه قد ثبت في الصحيحين (1) عن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّم لحومَ الحُمُر الأهلية يومَ خيبر وأَذِنَ في لحوم الخيل. وثبت في الصحيحين (2) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: نَحَرْنا على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرسًا فأكلنا لحمَها. ولم يثبُت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه حرَّم لحم الخيل في حديث صحيح (3) .   (1) البخاري (5520) ومسلم (1941) . (2) البخاري (5519) ومسلم (1942) . (3) انظر الكلام على الحديث المرويّ فيه في "نصب الراية" (4/196-197) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 والقرآن لا يَدُلُّ على تحريمه، فإن قوله (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) (1) امتَنَّ الله بها على عبادِه بما يُقصَد منها في العادة، ولم يُرِد بذلك تحريمَ أكلها، بدليل أن الصحابة بعد نزول هذه الآية أكلوا لحم الحمر يومَ خيبر حتى نهاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآية مكية، فلو كان فيها دليلٌ على التحريم كان الصحابةُ رضي الله عنهم أعلمَ بذلك. وأما الذين نهوا عنها من العلماء كأبي حنيفة فقيل عنه: كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه. وأما ألبانها فإن كانت لا تُسْكِر فهي مباحةٌ كلُحْمانِها، وإن كانت مُسكِرةً فهي حرام. رواه البخاري ومسلم (2) . ولمسلم (3) : "كلُّ مُسْكرٍ خمرٌ، وكلُّ خمرٍ حرامٌ". وتحريم كلِّ مسكرٍ هو مذهب عامة المسلمين، كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وغيرِه من أصحابِ أبي حنيفة. ويجوز للرجل أن يأكل لحمَها ويشرب لبنَها إذا لم يكن مسكرًا، كما يجوز أكلُ اللحم باللبن مطلقًا، ولم يُحرِّمْ أكلَ اللحم باللبن إلاّ اليهودُ الذين حرَّموا طيباتٍ أُحِلَّت لهم لظلمِهم وذنوبهم. والله تعالى أعلم.   (1) سورة النحل: 8. (2) متفق عليه من حديث عائشة وأبي موسى ومعاذ. البخاري (242، 4344، 4345) ومسلم (2001، والرقم الذي بعده) . وفي الباب أحاديث أخرى. (3) برقم (2003) عن ابن عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 مسألة فيمن ماتَ وخَلَفَ بنتًا وأخًا لأمّ وابنَ عمّ. الجواب للبنت النصف، والباقي لابن العمّ، ولا شيء للأخ من الأم باتفاق أئمة المسلمين، وما وصَّى به يُنفَّذ من الثُّلُثِ ثُلثِ التركة، والباقي للورثة. مسألة في رجلٍ حلفَ بالطلاق، ثم استثنَى هُنَيهةً بقدرِ ما يمكن فيه الكلام. فأجاب لا يقع فيه الطلاق، ولا كفّارةَ عليه، والحال هذه لو قيل له: قل "إن شاء الله" ينفعه ذلك أيضًا، ولو لم يَحْضُر له الاستثناءُ إلاّ لما قِيلَ له. والله تعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 مسائل متفرقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 مسألة ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- في مسجد بيت المقدس وقد جُعِل فيه أئمة، كلّ منهم يصلّي في موضع منه، فهل إذا صلّى أحدٌ منهم في وقتِ صلاةِ الآخر هل يدخل في النهي فيُكْرَه له ذلك أم لا؟ وهل هذا بدعة مكروه أم لا؟ وأيُّ الأئمة أحق بالصلاة بلا كراهة؟ وهل تَبطُل صلاةُ الإمام الذي صلَّى بعد إقامة الصلاة لإمام غيره أو نُكرَه؟ وهل يصح قول من قال: إن كلَّ بُنْيةٍ فيه لما اختُصَّتْ بإمامٍ صارت كالمسجد المستقلّ؟ فأجاب الشيخ تقي الدين وقال: الحمد لله، صلاة إمامين في وقتٍ واحدٍ في المسجد الأقصى أو غيره من المساجد بدعة، لم يكن السلف يفعلونها، وفيها تفريقُ الجماعات وتقليلُها، والسنةُ اتحاد الجماعة وكثرتُها، ولو كان مثلُ هذا مشروعًا لكان يُشرَعُ في صلاة الخوف أن يُصلًيَ بالناس عدَّةُ أئمة، لكن السنة جاءتْ بصلاتهم خلفَ إمامٍ واحدٍ، مع ما في ذلك من مخالفة الأصول، مثل مفارقة الإمام قبل السلام، والعمل الكثير في الصلاة، واستدبار القبلة، وقضاء المسبوق قبل سلامِ إمامِه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 وتخلُّف الصفّ الثاني عن متابعة الإمام. فهذا كلُّه جاءت به السنة ليصلُّوا جميعًا خلفَ إمامٍ واحد. والعلماء قد تنازعوا في المسجد الذي له إمام راتبٌ هل يُصلِّي فيه جماعةً من فاتته الجماعةُ، أو يُفرَّق بين المساجد التي ينتابها الناس وغيرها، أو بين المساجد العظام وغيرِها، أو بين المساجد الثلاثة وغيرها، على النزاع المشهور بين الأئمة، لأنه لم يكن يرتّب في المسجد إلاّ إمام واحد، وفي هذه الأزمنة قد ترتّب في المسجد عدة أئمة، وإذا فعل ذلك فالذي ينبغي أن يُصلّيَ واحدٌ بعد واحدٍ، ليكون من فاتته الصلاة مع الأول صلّى مع الثاني، ولأنّ إقامة جماعة بعد الجماعة الراتبة مما ذهب إليه كثير من العلماء، وجاءت به السنة في مواضع الحاجة، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن فاتته الصلاة: "إلاّ رجل يتصدَّق على هذا فيصلي معه" (1) . ولأن أنس بن مالك أتى المسجدَ وقد صلَّى فيه الناسُ، فأقامَ الصلاةَ وصلَّى فيه جماعةً أخرى (2) . فأما إمامةُ اثنين في وقتٍ واحدٍ في مسجدٍ واحدٍ فهذا لا يُعرَفُ أحدٌ من السلف فعله، وكلُّ ما كان أقربَ إلى السنة وأبعدَ عن البدعة فهو أولى بالاتباع. والذي أحدثَ الصلاةَ مع غيره هو أحق بالنهي ممن كان يُصلّي وحدَه. والله أعلم.   (1) أخرجه أحمد (3/5، 45، 64، 85) وأبو داود (574) والترمذي (220) وابن خزيمة (1632) عن أبي سعيد الخدري. (2) ذكره البخاري (2/131) تعليقًا. قال الحافظ في "الفتح": وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان، وأخرجه ابن أبي شيبة من طرقٍ عن الجعد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 وسئل الشيخ -رحمة الله عليه- عن رجل يشتري القمحَ في زمان الصيف من الجند وغيرهم، فإن ذلك الوقت يرى الجند الشِّرَى من عندهم صدقة مما عليهم من الديون وقلة الطالب للقمح، ثم يخزنه المشتري إلى زمان الشتاء، فيطلب فيه ما رزقه الله من الفائدة، فيُمسِك يَدَه عن بيعه حتى يكثر طالبه. فهل هذا محتكرٌ أم لا؟ ولابدَّ أن يُرى في قلبه حبٌّ للغلاء، فهل يأثمُ بذلك أم لا؟ وهل تركُ ذلك خيرٌ أم لا؟ وعن رجل رأى في المنام أنه يجامع، ولم تُدرِكْه اللذة الكبرى والإنزال إلاّ بعد أن استيقظ، فهل يفسد صومه أم لا؟ أفتونا مأجورين. فأجاب -رضي الله عنه- عن ذلك وقال: الحمد لله. أما ما ذكر من اشتراء القمح وخَزْنه فتركُه خيرٌ من فعلِه، فإنه يُورِثُه محبته ارتفاعَ السعر، وأن يجمع المال من عموم المسلمين. قال أحمد: إن مالاً جُمع من عموم المسلمين لمالُ سوءٍ. ولكن هذا عند طائفةٍ من العلماء إذا كان من البلاد الكثيرة القمح الرخيصة السعر إذا لم يضرّ ذلك أهلَها لا يَحرُم، بخلاف ما إذا كان شراؤه وخَزْنه يضرّ أهلَ المكان، فإنّ هذا احتكار محرَّمٌ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 كما ثبت في صحيح مسلم (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يَحتكِرُ إلاّ خاطئٌ". ومن قال بتحريم هذا الاحتكار أخذَ بعموم هذا الحديث، وقولُه متوجِّه. وأما إذا رأى في منامه أنه يجامع ولم يُنزِل حتى استيقظ، فخرج منه الماء بغير اختياره، فإن هذا لا يفطر كما لا يفطر إذا أنزلَ في منامِه، لأن الماء خرج منه بغير اختياره. وإذا خرج منه المنيُّ بغير سعيٍ منه ولا عملٍ لم يُفطِر، كما لو ذَرَعَه القيءُ فخرج منه القيء بغير اختياره فإنه لا يفطر، وإنما يُفطِر من استمنَى واستقاءَ. ولهذا لو غلبَه الفكرُ حتى أنزل لم يَفسُدْ صومُه باتفاق الأئمة، بخلاف ما إذا استدعى الفكرَ حتى أنزلَ، ففي فساد صومِه قولان للعلماء: أحدهما يفسد، وهو مذهب مالك وأحمد في أحد القولين، اختاره أبو حفص وابن عقيل. والآخر لا يفطر، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والقولُ الآخر من مذهب أحمد، اختاره القاضي أبو يعلى وطائفة. وأما إذا كرّر النظر حتى أنزل، فإنه يفسد صومه في مذهب مالك وأحمد، بخلاف مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإنهما لا يريان الفطرَ إلاّ أن يُنزِل بمباشرةٍ كالقُبلة ونحوها. والله تعالى أعلم.   (1) برقم (1605) عن معمر بن عبد الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 مسألة ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهمٍ أجمعين- في سورة الأنعام: هل أنزلتْ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جملةً واحدة أم آياتٍ متفرقةً متتابعةً؟ وقد وُجد في كتاب "الوسيط في تفسير القرآن العظيم" (1) لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي: أخبرنا أبو سعيد (2) محمد بن علي الخفاف، حدثنا أبو عمر (3) محمد بن جعفر ابن مطر، ثنا إبراهيم بن شريك الأسدي، ثنا أحمد بن يونس، أنبأنا سلام بن سليم المدائني، أنبانا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه أعن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُنزِلتْ عليَّ سورةُ الأنعام جملةً واحدةً، وتَبعَها سبعون ألفَ مَلَكٍ، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليَل". أفتونا مأجورين. فأجاب الشيخ أحمد بن تيمية -رضي الله عنه وعن سائر العلماء- الحمد لله. قد ذُكِر عن طائفةٍ من السلف أنها نزلتْ جملةً واحدةً (4) ، وذكره الإمام أحمد بإسناده عن جماعة، ولكن الإسناد   (1) 2/250. (2) في الوسيط: "أبو سعد". (3) في الوسيط: "أبو عمرو". (4) انظر تفسير ابن كثير (2/126) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 المذكور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موضوع. وبكل حالٍ فلا تُقرأ في شهر رمضان إلاّ كما تُقرأ في غيرِه، لا تُقرأ جملةً واحدةً دون غيرها، كما يفعله بعض الناس يقرؤونها وحدَها في الركعة الثانية، فإن ذلك بدعة غير مستحبّة باتفاق العلماء. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 مسألة ما تقول السادة العلماء في رجلٍ كسبَ جاريةً من ملطيةَ وباعَها، ثم اشترى بثمنها جارية، فتبيّن أنها مسلمة وأبواها مسلمان، فأعتقها، فهل يجب عليه الخمس أم لا؟ قال الشيخ تقي الدين -رضي الله عنه- بل يجب عليه الخمس الذي أمر الله به ورسولُه أن يُصرفَ إلى مستحقّه. والله أعلم. مسألة ومن كان معه ختمة فله أن يحملها بين قماشِه وفي خُرجة، وحمله سواء كان ذلك القماش لرجل أو امرأة أو صبيّ، وإن كان القماش فوقها وتحتها. مسألة وأما قراءة القرآن بقصد التلحين الذي يشبه تلحين الغناء فهي مكروهة مبتدعة، كما نصّ على ذلك مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم من الأئمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- عن قومٍ لهم عيونٌ ما عليها زروع، فجاء رجلٌ فحقَنَ الماءَ، وأحدثَ عليه سدًّا وطاحونًا، فتضرَّر أرباب العيون، فهل لهم إزالة ما أحدثَه؟ فأجاب -رضي الله عنه- إن كان قومٌ يستحقّون الانتفاعَ بتلك العين، وقد أُحدِثَ ما يُزِيل بعضَ المنفعة التي يستحقُّونها بغير إذنٍ منهم، فلهم إزالة ما أحدثَه من الضرر حتى يعودَ حقُّهم كما كان. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 وسُئل -رحمه الله- عن رجلٍ خَطَبَ ابنةَ رجلٍ فركَنَ إليه، ثمّ خَطَبها آخر، فرَغِبَ عن الأول وركَن إلى الثاني، فهل للثاني تزويجُها؟ وهل يكون ملعونًا؟ فأجاب -رضي الله عنه- إذا كانت المرأةُ ووليُّها قد ردًّا الخاطبَ الأولَ وامتنعا من تزويجه جازَ لغيره أن يخطبها. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما نهى أن يخطب الرجلُ على خِطبة أخيه (1) حتى ينكح أو يردّ، فمتى رُدَّ الأول جازت الخطبة لغيره باتفاق العلماء. والله أعلم.   (1) أخرجه البخاري (5142) ومسلم (1412) عن ابن عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 مسألة السؤال محرَّمٌ إلاّ عن الحاجة إليه، وظاهر مذهب أحمد -رحمه الله- أنه لو وجد ميتةً عند الضرورة ويُمكِنه السؤال جاز له أكلُ الميتةِ، ولو ماتَ ماتَ عاصيًا، ولو ترك السؤالَ فماتَ لم يَمُتْ عاصيًا. والأحاديث في تحريم السؤال كثيرة جدًّا نحو بضعة عشر حديثًا في الصحاح والسنن، وفي سؤال الناس مفاسدُ الذّلّ والشرك بهم والإيذاء لهم، وفيها ظلم نفسه بالذل لغير الله عزّ وجل، وظلمٌ في حقّ ربّه بالشرك به، وظلمٌ للخلق يسؤالهم أموالَهم. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن عباس: "إذا سالتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله" (1) . مسألة لا يحرم على الرجل النظرُ إلى شيء من بدنِ امرأتِه ولا لمسُه، لكن قيل: يُكرَه النظرُ إلى الفرج، وقيل: لا يُكره إلاّ عند الوطء. والله أعلم.   (1) أخرجه أحمد (1/293، 353، 307) والترمذي (2516) عن ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد تكلم على الحديث وشرحه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/459 وما بعدها) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 مسألة في المسافر إذا نَزَل في موضع وهو يَعلم أنه يُقيم فيه عشرَ ليالٍ أو أكثر، فهل يجوز له أن يقصر ويجمع أو يُتمُّ؟ الجواب السنة للمسافر أن يقصر الصلاةَ ركعتين ركعتين إلاّ المغرب، والجمع إذا احتاج إليه. وإذا كان المسافر نازلاً فالسنّةُ أن يقصر الصلاة، ولا يجمع إلاّ احتاج إلى ذلك. وإذا كان لا يدري كم يُقِيم فإنه يقصر أبدًا، وإن عَلِمَ أنه يُقيم خمسًا أو عشراً أو خمسة عشر ففيه قولان للعلماء، أظهرهما أن يقصر أيضًا. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 مسألة قال المجد في الوديعة (1) : وإذا قال: أذنتُ في دفعها إلى فلان وقد فعلتُ قُبِل قوله فيهما. وقال في الوكالة (2) : ومن وكّل في قضاء دَينٍ، ولم يؤمر بإشهاد، فقضاه بحضرة الموكل ولم يشهد، فأنكر الغريم، لم يضمن. وإن قضاه في غيبته ضمن. وعنه لا يضمن، كالوكيل في الإيداع. وقال في الضمان (3) : وإذا ادعى القضاء وأنكره الآخران فلا رجوعَ له، فإن صدَّقه ربُّ الحق وحده فوجهان، وإن صدّقه المديون وحدَه رجع عليه إن قضى بحضرته أو بإشهاد، وإلاّ فلا. وقيل: لا يرجع فيما قضى بحضرته. فمتى أمر رجل بدفع ألفٍ إلى فلان، فدفعها، فأنكر المدفوع إليه، فإن كان أمره بالإشهاد ولم يشهد ضمن، وإن لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله.   (1) "المحرر" (1/364) . (2) المصدر نفسه (1/350) . (3) المصدر نفسه (1/340) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 قال أبو الخطاب وغيره: ومعلوم أنه لم يرد القول قوله على المدفوع إليه، فثبت أنه أراد في حق الأمر. قلت: هذا صريح في الرواية الأولى. وقال الخرقي (1) في الوكالة: ولو أمره أن يدفع إلى رجل مالاً فادعى أنه دفعه إليه لم يقبل قوله على الآمِر إلاّ ببينة. قلت: وهذا يوافق الثانيةَ أنه لعدم الإشهاد، فيكون لعدم التفريط، كما هي الرواية. وكذلك قال القاضي وغيره. ويحتمل أن لا يُقبَل قولُه في ذلك إلاّ ببينة أنه فعل، فلو صدَّقه لم يقبل، والله أعلم. هذا القول قول الخِرقي، فيكون الخرقي إنما تكلم في قبول قوله على الآخر. قلت: فهذا الذي ذكره المجد في الوديعة يوافق ما ذكره أبو محمد عموم كلام الخرقي، وإن النزاع في الموضعين فإنه قد يتكرر قضاء الدين، أما إذا صدَّقه في القضاء فيفرق بين أن يفرط أو لا يفرط، وحينئذ لا تختلف مسألة الخرقي ومسألة مهنأ في قضاء الدين ونحوه من نقل الملك، وعلى هذه الرواية التي نقلها الخرقي قد يفرق الأصحاب بين الوفاء وبين الإيداع كما ذكر المجد. وقال الشيخ أبو محمد (2) : وإن وكّله في إيداع ماله فأودعَه ولم يُشْهِد، فقال أصحابنا: لا يضمن إذا أنكر المودع.   (1) في "مختصره" (ص61) . (2) أي ابن قدامة في "المغني" (7/225) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 قال: وكلام الخرقي بعمومه يقتضي أن لا يُقبَل قوله على الآمر، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، لأن الوديعة لا تثبت إلاّ بالبينة، فهي كالدين. وقال أصحابنا: لا يصحّ القياسُ على الدَّين، لأنّ قول المودَع يُقبل في الردّ والهلاك، فلا فائدةَ هنا في الاستيثاق، بخلاف الدَّين. فإن قال الوكيل: دفعتُ المالَ إلى المودَع فالقول قول الوكيل، لأنهما اختلفا في تصرُّفه فيما وُكِّلَ فيه، فكان القول قوله فيه. قلت: هذا يخالف ظاهر قول الخرقي على الاحتمال الثاني، وهو أشبه بقوله وما ذكروه من تعليل الأصحاب، ففي دعوى الردّ إذا كان الدفع ببينة رواية عن أحمد كقول مالك، وفي دعوى التلفيق بين ماله روايتان. وقال أبو الخطاب في الوكالة: وإن وكَّله في قضاء دَين، فقضاه في غيبة الموكل ولم يشهد، فأنكر الغريم، ضمن الوكيل. قال المجد: بهذا قال مالك والشافعي. وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان، وهذا اختيار الخرقي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يضمن، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني. قال: وهذا الذي اختاره أبو الخطاب هنا يُناقِض ما اختاره في كتاب الرهن. وصرَّح القاضي وابن عقيل في كتاب الوكالة بأن المسألة على روايتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 وقال أبو الخطاب في الوديعة: وكذلك إن قال: أمرتَني أن أدفَعها إلى فلان وقد دفعتُها إليه، فقال المالك: ما أمرتُك، فالقول قول المودع، نمن عليه. قال المجد: بهذا قال ابن أبي ليلى، وبهذا قال مالك والثوري وعبد الله بن الحسن والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي والأوزاعي: لا يُقبل قولُه في ذلك، وهو ضامن. ووافقوا على أنه إذا وافقه على الإذن فإن القول قولُه في الدفع، إلاّ الأوزاعي، فإنه قال: لا يُقبَل قوله بدون بينة، ويضمن. قلت: هذا الذي محلُّ وفاق، فنقل الطحاوي ما ينافي ما ذكره هو وأبو محمد من عموم كلام الخرقي، فإنه قال هنا: وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان. وهذا اختيار الخرقي. فجعل الأمر بدفع الوديعة كالأمر بدفع الدَّين. وهذه المسألة هي بعينها الأمر بدفع الوديعة، ومسألة أبي محمد مسألة الكتاب من التوكيل في الإيداع والوكيل في الإيداع هو أمر بدفع الوديعة إلى مطلق أو معين، لكن قد يقال: إنه في التوكيل في الإيداع لم يعيّن المودع، بخلافه هنا، وهذا فرق عن سويد، كالأمر بقضاء الدين المطلق أو معين، فهذا شيء، وشيء آخر وهو أنه إذا كان منصوص أحمد أنه يُقبل قولُه عليه في الإذن في الدفع من غير إشهاد، فهذا أبلغ من قبول قوله في مجرّد الدفع. وقوله "ادفعها إلى فلان" يتناول ما إذا كان بطريق القضاء والإيداع والهبة وغير ذلك، فهذا موافق لرواية مهنأ، ومخالفة ظاهرة لنقل الخرقي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 لا سيما إذا حمل قوله على العموم، وعلى ما نقله الخرقي ينبغي أن لا يُقْبَل قولُه هنا بالإذن كقول الجمهور بطريق الأولى، وكلام الخرقي يتناول ذلك، بل ولا في الدفع أيضًا. وأما مسألة الضمان فقال أبو الخطاب: وإذا ادعى الضامنُ قضاء الحق ولا بينة له، فأنكر المضموِن له، حلف وطالب من شاء منهما، فإن طالبَ المضمونَ عنه فأخذ منه لم يكن للضامن الرجوع عليه، سواء صدق في قضاء الدين أو كذبه، لأنه أذن له في قضاء جرى ولم يوجد. وقال المجد: هذه المسألة فيما إذا قضاه في غيبة المضمون عنه وإذنُه له مطلق. وبهذا قالت الشافعية في أحد الوجهين، والثاني أنه يرجع عليه إذا صدق، اختاره أبو إسحاق. فعلى هذا إن كذّبه حلفَ لا يعلم أنه قضى عنه. ثم وجدتُ القاضيَ قد ذكر في "التعليق" مثل ما ذكرتُه، وأن قول الخرقي هو في الوديعة، وأن الخلاف في قبول قوله بحيث لو صدّقه لم يضمن، فقال في مسألة: إذا قبض وديعة بينة ثم ادعى ردّها قُبِل منه، نصَّ عليه في رواية ابن منصور، وذُكِرَ له قولُ سفيان في رجل استودعَ رجلاً ألف درهم، فجاءه فقال: ادفعْ إليَّ دراهمي، قال: قد دفعتُها إليك يُصدَّق. فإن قال: أمرتَني أن أدفعَها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 إلى فلان فبينة، فقال أحمد: في كلا الأمرين يُصدَّق. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا يُقبَل منه إلاّ ببينة. وقد روى أبو الخطاب عن أحمد مثل مذهب مالك، فقال: قلتُ لأبي عبد الله: إذا كانت وديعة تريد بينة؟ قال: نعم إذا كان قد أشهد عليه لا يُقبَل منه حتى يُقيم بينة. وهذه الرواية صريحة بمثل مذهب مالك، أما الأولى فإنها فيها عموم، والمقصود فيها عموم، فرق سفيان وتسوية أحمد بين الصورتين بين الدفع إليه والدفع إلى فلان. وقول أحمد "يصدَّق" قد يقال: إنه لا ينافي قول من يضمن لتفريطه لا لكذبه. ثم، قال القاضي: وجه الأول أن المودع أمين في أمثال هذا، ويحفظ الشيء لمصلحة صاحبه ومنفعته، لا لمنفعة نفسه وحظِّه، فيجب أن يكون القول قوله في الردّ. وإن شئت قلت: أمانة مجردة، وكان القول قوله في ردّها دليلُه إذا قبض بغير بينة. قلت: الأول كلامٌ مرسلٌ لا أصل له يَشهد له، والثاني قياس في صورة الفرق، من غير إلغاء الفارق. قال: ولا يلزم على هذا: المرتهنُ إذا ادَّعى ردَّ الرهنِ أنه لا يُقبَل قولُه وإن كان أمانة، لأن ممسكٌ للشيء ليستوفي الحق من نفسه لنفسه. فإذا ادَّعى الرّدّ لم يُقبَل منه، نصّ عليه في رواية أبي طالب. وفي مسألتنا لو أقرّ بالوديعة وادّعى الردّ قُبِل منه. ثم قال القاضي: مسألة، فإن أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 رجل، فدَفَعها إليه بغير بينة، فالقول قول المودع، نصّ عليه في رواية ابن منصور في المسألة التي قبلها. قلت: نصّ أحمد أن يُصدَّق في الإذن في الدفع وفي الدفع أيضًا. قال: وقال أيضًا في رجل أمرَ رجلاً أن يدفع إلى رجلٍ ألف درهم، فدَفَعها، وأنكر المدفوع له أنه قبضَها، فإن كان أمره بالإشهاد فلم يشهد ضمن، وإن كان لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله، وهو قول أبي حنيفة، وقال مالكٌ والشافعي: لا يُقبل قوله في الدفع. وعلموا الخلاف في الوصيّ إذا ادّعى دفعَ المال إلى اليتيم بعد بلوغه، ولا بينة، فأنكر الصبي ذلك، فالقول قول الوصي، وعندهما لا يُقبل قولُه إلاّ ببينة، واختيار الخرقي ذكره في الوكيل. دليلنا إذا ادعى تسليم الوديعة إلى من يجوز الدفع إليه فكان القول قوله، دليله لو ادعى تسليمها إلى المالك فإن القول قوله، كذلك ههنا. إلى أن قال: واحتجّ المخالف بأن المالك لم يأمره بإتلافها على المالك، لأنه قد يجحد، فلا يُمكنُ المالكَ أن يقيمَ عليه بينة، ولا يقبل الدافع، لأنه ليس بأمين في حقه، فكان مفرطًا في ذلك، يلزمه الضمان بتعديه. قلت: هذه الحجة مضمونها أنه متعدَّ، لا أنه غير مقبول القول كما تقدم، وهذا خلاف ما صدّر به المسألة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 ثم قال: احتجّ بأنه ادّعى التسليم إلى من لم يأتمنه بالحفظ، فهو كما لو ادّعى تسليمها إلى أجنبي. والواجبُ أن الأجنبي لو صدَّقَه صاحبُ الوديعة أنه سلّم إليه ضمن كذلك إذا لم يصدِّقه. وفي مسألتنا لو صدَّقه أنه سلّم إليه لم يضمن إذا ادّعى التسليم، وله فيه حق. وأما إذا كان بحضرة المضمون عنه رجع، ولم يكن مفرطًا بترك الإشهاد عندنا في الصحيح، وهذا ظاهر مذهب الشافعي. ومن أصحابه من قال: هو كالغيبة، فلا يرون تفريطه بالحضور، فيصير لهم في هذه المسألة ثلاثة أوجه. وكذلك ذكر ابن عقيل والقاضي أنه لا يرجع، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، لأن هذا القضاء لا يُترك في الظاهر بخلاف المشهود به. قلت: فهذا كما في "المحرر"، وفيه الفرق بين مسألة الضمان والثاني، ذكر الوجهين في القضاء في الحضور في مسألة الضمان دون مسألة الوكالة. وكذلك ذكر أبو محمد في "المغنى" مثل ما ذكر المجد في كتابيه، وعلى هذا فالفرق أن يقال: إذا وكَّله في القضاء، ولم يأمره بالإشهاد، فقد فعل ما أمره به من غير تفريط. أما في الضمان فهو لم يأمر الضامن بالوفاء، لكن الوفاء وجب على الضامن بحكم الضمان، فلو أذن له في الضمان فالموجب للوفاءِ الضمانُ دُونَ الإذن، لا سيّما على ظاهر المذهب للضامن الرجوع وإن ضمن بغير إذن. وكذلك من أدى عن غيره واجبًا عليه، كفداء الأسير. وإذا كان الوفاء هنا حصل بإذن الشارع وإيجابه فالمتصرف عن غيرِه بحكم الشرع مأمور بأن يتصرف بحسب المصلحة، بحكم التصرف بالوكالة أنه سمع الأمر. ولهذا لو أذن له فيما فيه ضرر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 عليه وفعله لم يضمن، كما لو أمره أن يبيعَه بدون ثمن المثل ليثمن قدره أو بيعه من غريم غير ملي ونحو ذلك، بخلاف من تصرَّف بحكم المصلحة كالولي. وأيضًا من يُريد أن يرجع بما قضاه عنه فهو مطلب بالبذل كالقرض، لأن وفاء المال إقراض للمدين، بخلاف الوكيل فإنه لا يرجع بشيء. وبهذا يظهر الوجه المذكور فيما إذا كان الوفاء بحضرتِه في الضمان دون الوكالة، لأن الوكيل يفعل عن الموكِّل، فسكوتُه رِضىً بذلك، والضامن يُوفي عن نفسه ما وجب عليه، وهو مقرض للمدين، ومقصود هذا القرض براءة ذمته من الدين. فصل الذي يُكْرَه من شِرَى الأرضِ الخراجية إنما كان لأن المشتريَ يشتريها فيدفع الخراج عنها، وذلك إسقاطٌ لحقّ المسلمين، كما كانوا أحيانًا يُقطِعون بعضَها لبعضِ المجاهدين إقطاعَ تمليك لا إقطاعَ استغلالٍ، كإقطاع المَوَات، فهذا الابتياع والإقطاع يُسقِط حق المسلمين من الرقبة والَمنفعة. والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعةً دائمة للمسلمين، فإذا قُطِعتْ منفعتُه عن المسلمين صارَ ظلمًا لهم، بمنزلة من غَصب طريقَ المسلمين وبَنَى في منى ونحوِها من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد. فأما إذا اشتراها وعليه من الخراج ما على البائع، فهو كما لو ولاّه إياها بلا ثمن، وكما لو ورثَها، فإن الإرثَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 مُجمع عليه أن الوارثَ أحقُّ بها بالخراج، وذلك لأن إعطاءَها لمن أُعطِيَتْه بالخراج قد قيل إنه بيع بالثمن المقسط الدائم كما يقول بعض الكوفيين، وقد قيل: إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبَّدة المدة كما يقول أصحابنا والمالكية والشافعية. فكلا القولين خرج في قوله عن قياس البيوع والإجارات. فالتحقيق أنها معاملة قائمة بنفسها، ذات شَبَه من البيع دون الإجارة، ويشبه في خروجها عنها المصلحة على منافع مكانه للاستطراق أو إلقاء الزبالة أو وضع الجذوع ونحو ذلك بعرض ناجز، فإنه يملك العين مطلقًا ولم يستأجرها، وأما ملك هذه المنفعة مؤبدة. وكذلك وضع الخراج، ولو كان إجارة محضة، وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض للمسلمين وأكروها لكان ينبغي إكراه المساكن أيضًا، لأنها للمسلمين إذ فُتِحَتْ عنوة، ولكان قد ظلم المسلمين، فإن كَرِى الأرضِ يُساوِي أضعافَ الخراج، ولكان على المشهور عندهم، ولا يستحق الآخذون ما في الخراج من الشجر القائم ومن النخيل والأعناب وغيرها، كمن استأجَر أرضًا فيها غراس، ولكان دفعها مساقاة مزارعةً كما فعل المنصور أو المهدي في أرض السواد -أنفعَ للمسلمين اقتداءً بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر، فإنه لا فرقَ إلاّ أن مُلاَّك خيبر معيّنون وملاّك أرض العنوة العمرى مطلقون، وإلاّ فيجوز للمالك أن يؤاجر، ويجوز لربّ الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 وأما بيعها فلو كان كذلك لباع المساكن أيضًا، ولا بيع يكون بثمن مؤبَّد إلى يوم القيامة، فالتخريج أصل دلَّت عليه السنَّة والإجماع، فلا يقاس بغيره، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "منعتِ العراقُ قفيزَها ودرهمَها، ومنعت الشامُ مُدْيَها ودينارَها، ومنعتْ مصرُ إردبَّها ودينارها" (1) . واتفق الصحابة مع عمر على فعله بوضع ذلك، فإن أصل الخراج في قوله (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (2) ، فإن هذا فرق بين العقار والمنقول، ومع هذا فقد أضاف القرى إليهم، فعلم اختصاصهم بها. وإذا كان كذلك فلو أخذه ذمّي من الذمّي الأول بالخراج، وعاوضَه في ذلك عوضًا، لم يكن في ذلك ضررٌ أصلاً، فلا وجه لمنعه، لأنه إن قيل: إنه وقف فهذا لا يخرج بهذه المعاوضات عن أن يكون وقفًا، بل مستحقّ أهل الوقف باقٍ كما كان. وبيع الوقف إنما مُنِع منه لإزالة حق أهل الوقف، وهذا لا يزول بل هو بمنزلة إجارة أرض الوقف بأكثر مما استأجرها، فكأنه قال: أكريتُكَ هذه بما على من الخراج وبالزيادة التي تُعجِّلها لي، ولهذا انتقل إلى ورثة من هي في يده، والوقف لا يُباع ولا يُوهَب ولا يُورَث، فإذا جاز انتقاله بالإرث على صفة ما كان فالهبةُ مثله، وكذلك المعاوضة، سواء سُمِّيت بيعًا أو إجازةً. ولهذا جوَّز أحمد -رحمه الله- إصداق الأرض الخراجية، وما جاز أن يكون صداقًا جاز أن يكون ثمنًا وأجرةً، وما كان ثمنًا كان مثمنًا، فهذا ينبغي تأملُّه.   (1) أخرجه مسلم (2896) عن أبي هريرة. (2) سورة الحشر: 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 يبقى إذا أخذه المسلم، فقد يكره لما فيه من الصَّغار، ولما فيه من الاشتغال عن الجهاد بالحراثة، فهو مانعٌ آخر غير كونه وقفًا يختلف باختلاف المصالح والأوقات، كما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاملَ اليهودَ على خيبرَ لقلّة المسلمين، فلما كثُر المسلمون أجلاهم عمرُ بأمر النبي- - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، صار المسلمون يعمرونها. فكذلك الأرض الخراجية، إذا كثر المسلمون كان استيلاؤهم عليها بالخراج أنفعَ لهم من أن يَبقَوا فقراءَ محاويجَ، والكفّار يستغلُّون الأرضَ بالخراج اليسير، فإنهم كانوا زمنَ عمر قليلاً وأهل الذمة كثيرًا، وقد انعكس الأمر، فكما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاملَهم على خيبر، ثم عَمرها المسلمون لفا كثُر المسلمون وتضرَّروا ببقاء أهل الذمة في أرض العرب، فكان المعنى ضرر المسلمين بأهل الذمة واكتفاء المسلمين بالمسلمين. فكيف إذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية وتضرّروا ببقائها في أيدي أهل الذمة، فرأى من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمّي ويقوم مقامَه فيها، فإن كان المؤدَّى أجرةً فهو أحق باستئجار أرض المسلمين وعمارتها، وإن كان ثمنًا فهو أحق باشترائها، وإن كان عوضًا ثالثاً فهو أحق به أيضًا. ومتى كثُر المسلمون لم يبقَ صَغار ولا جزية، وإنما كان فيه صغار وجزية في الزمن المتقدم. كما لو أسلم الذمي الذي هو مسئول عليها، فإنها تبقى في يده مؤديًا لخراجها، ويسقط عنه جزية رأسه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ وإذا جاز أن يبقى بيده بعد إسلامه، فما المانع أن يدفعَها إلى مسلم غيره بعوضٍ أو غيرِه؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 والمسلم لا صَغارَ عليه بحالٍ، فلو كان المانع كونها صغارًا لم يجامع الإسلام لجزية الرأس، ولا يقال: هي الرقّ يمنع الإسلام ابتداء ولا يمنع دوامه، لأن الرقّ قَهَرْناهم عليه بغير اختيارهم لم نُعاوضْهم عليه، فكذلك جزية الرأس لا نمكِّنهم من المُقَام بالأرض الإسلامية إلاّ بهما، فهي نوع من الرقّ، لثبوتها بغير اختيار المسترقّ. وأما الخراج فإنما ثبت بمعنى الخارج واختياره، ولو لم يقبل الأرض ما لم يدفعها إليه، بمنزلة المساقاة المزارعة التي عامل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها أهلَ خيبر، سواء كان هناك العوض جزءًا من الزرع وهُنا العوض مسمى معلوم، وهناك لا يستحقّ شيئا إلاّ إذا زرعوا، وهنا يستحقّ إذا أمكنهم الزرعُ. فنظيرُه أن العامل في المزارعة يعامل غيره بأقلّ من الجزء الذي استخرج، وأن المضارب يدفع المال مضاربةً، لكن هذا يتوقف على إذن المالك لتعيين المستحق. وبالجملة فالموانع من غير جزية كونها وقفا ينظر فيها العاقبة، أما جهة الوقف يتوجه كونها مانعًا على أصول الشريعة أبدًا، وأما التعليل بالاشتغال بالحراثة عن الجهاد فهذا قائم في جميع الأرضين عُشْرِيّها وخراجيّها، وذلك شيء آخر. ونظير هذا الغلط ما علَّلوا به أرضَ مكة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 فصل ونظير ذلك مكة، فإنه لا ريبَ فُتحتْ عنوةً، ومن قال: إنها فُتحت صلحًا فاستقرَّ ملكُ أصحابها عليه، ليجوز لهم ما يجوز في سائر أراضي الصلح من البيع وغيره، كما يقوله الشافعي= فقوله ضعيفٌ لوجوهٍ كثيرة من المنقولات. وأيضًا فإنه لا يجوز مثل ذلك، فإنه لو صالح الإمامُ قومًا من المشركين بغير جزية ولا خَرَاجٍ لم يَجزْ إلاّ لحاجة، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامَ الحديبية. أما إذا فُتِحت الأرض فتحَ صلحٍ وأهلُها مشركون من غير أهل الجزية، فإنه لا يجوز إقرارُهم بغير جزية بإجماع المسلمين. وأيضًا فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل في العام المقبل لما حجَّ أبو بكر لمن لم يُسلِم منهم أجلَ أربعة أشهر، وإلاّ جعلَه محاربًا يستبيح دمه وماله، ولو كان قد فتحها صلحًا لم يجز ذلك. وأيضًا فإنه قد استباح قتلَ جماعةٍ سماهم، لكن فتحها عنوةً وأمَّنَ من تركَ القتالَ منهم على نفسه وماله إلاّ نفرًا استثناهم، وكان قد أرسل بهذا الأمان مع أبي سفيان، فمنهم من قَبلَه فانعقدَ له، ومنهم من لم يقبل فحاربَ أو هَرَب، والأمان لا يثَبت إلاّ بقبول المؤتمن كالهدنة. وأما من لم يترك القتالَ فلم يؤمِّنْه بحالٍ، لكن خصَّ وأمَّ في ألفاظ الأمان، والمقصود واحد، فإن قوله: "ومن دخل المسجدَ فهو آمن، ومن دخلَ دارَه فهو آمن، ومن ألقى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 السلاحَ فهو آمن، ومن دخل دارَ أبي سفيان فهو آمن" كلها ألفاظ معناها: من استسلمَ فلم يقاتل فهو آمن. ولهذا سمَّاهم الطُلَقاء، كأنهم أسرَهم ثمَّ أطلقَهم كلَّهم. فقالت الحنفية: لما فَتَحها عَنْوةً ولم يَقْسِمْها، بل أقرَّها في يد أهلِها، صار هذا أصلاً في أرض العنوة أنه لا يجوز إقرارها في يد أهلها. قالوا هم وأصحابنا وغيرهم في أحد التعليلين: ولهذا لم يجز بيعُها وإجارتُها، لكونها فُتِحتْ عنوةً ولم تُقسَم كسائر أرض العنوة. وربما قالوا: صار إنزال أهل مكة للناس عندهم هو الخراج المضروب عليهم. وأما من قال من أصحابنا: إن الخراج على مزارعِها، فقد عُلِمَ بالنقل المتواتر فسادُ قوله مع إجرائِه لقياسه. وهذا التعليل ضعيف لوجوهٍ: أحدها: أن أرض العنوة يجوز إجارتُها بالإجماع، وبيوت مكة أحسنُ ما فيها أنه لا يجوز إجارتُها، بل يجوز بذلُها للمحتاج بغير عوض. فهذا هو الذي يدكُ عليه الكتاب والآثار والقياس، وأما المنع من بيعها ففيه نظر، فلو كان المانع كون فتحها عنوةً لما منع إجارتها. الثاني: أن أرض العنوة إنما تُمنَع من بيع مزارعها، فأما المساكن فلا يُمنَع ذلك فيها، بل هي لأصحابها. ومكة إنما منعوا من المعاوضة في رباعها التي لا تمنع فيها في أرض العنوة، وهذا برهان ظاهر على الفرق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 الثالث: أن مزارع مكة ما علمنا أحدًا من أصحابنا ولا غيرهم منع بيعَها أو إجارتَها، وإنما الكلام في الرباع، وهي المساكن لا المزارع، فأين هذا من هذا؟ الرابع: أن تلك الديار كانت للمهاجرين، فقد طلبوا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إعادتَها إليهم فلم يَفْعَل، ولو كانت كسائر العنوة لكان قد أعادها إلى أصحابها، لأن الأرض إن كانت للمسلمين، واستولى عليها الكفار، ثم استنقذناها، وعُرِف صاحبُها قبل القسمة= أعيدت إليه. الخامس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتعرض لشيء من أموالهم، لا منقولها ولا عقارها ولا شيء أخذ من ذراريهم، ولو أَجرَى عليها أحكامَ غيرِها من العنوة لغنمَ المنقول والذرية. بل الصواب أن المانع من إجارتها كونُها أرضَ المشاعر التي يَشتركُ في استحقاق الانتفاع بها جميعُ المسلمين، كما قال تعالى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (1) ، فالساكنون بها أحق بما احتاجوا إليه، لأنهم سبقوا إلى المباح، كمن سبقَ إلى المباح من طريق أو مسجد أو سوق. وأما الفاضل عليهم بذلوا لأنهم إنما لهم أن يبنوا بهذا الشرط، لكن العرصةَ مشتركة، وصار هذا بمنزلة من يبني بيئا في رباطٍ أو مدرسةٍ أو نحو ذلك له اختصاصٌ بسُكناه وليس له المعاوضة عليه، أو من يبني بيتًا في خانات السبيل، أو في دور الرباط التي تكون في الثغور، ونحو ذلك. كما تكون الأرض فيه مشتركة   (1) سورة الحج: 25. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 المنفعة للحج والجهاد وللمرور في الطرقات أو للتعليم أو التعبد ونحو ذلك. فإذا قال: البناءُ لي، قيل له: والعرسة ليست لك، وأعيان الحجر ليست لك، التأليف أو التأليف والابعاض مما ليس لك، لا يجوز لك أن تعاوض عنه، وما هو لك فقد اعتضتَ عنه بتقديمك في الانتفاع بالعرصة. أو لأن المكي لما صار الناس يهدون إليهم الهدايا ويجب عليهم قَسْمُها فيهم صارَ يجب على المكيين إنزال الناس في منازِلهم، مقابلةَ الإحسان بالإحسان. فصاحب الهَدْي له أن يأكلَ منه مثلاً حيث يجوز، ويُعطي من شاء ولا يعتاض عنه، وكذلك صاحب المنزل يَسْكُنُه ويُسْكِنُه ولا يعتاضُ عنه. وهذا المعنى الذي قد ذكرناه هو السبب الموجب لإبقائها بيدِ أربابها من غيرِ خراجٍ مضروب عليهم أصلاً، لأن للمقيمين بمكة حقًّا وعليهم حقًّا وليست لغيرها من الأمصار، ومن هنا يصير التعليل بفتحها عنوةً متناسبًا لمنع إجارتها كما ذكرناه لإلحاقها بسائر أرض العنوة. فإن قيل: فالأرض إذا فُتِحتْ عنوةً يجوز أمانُ أهلِها على نفوسهم وأموالِهم كذلك؟ قيل: نعم يجوز قبل الاستيلاء أن يؤَمَّن من تركَ القتالَ على نفسه ومالِه، لما فيه من الانتفاع بتركِ قتالِه، وهو أمان بشرط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 بل إذا جوزنا المنَّ على الأسير بعد الأسر للمصلحة كيف لا يجوز ذلك قبل الأسر للمصلحة كيف ارباب على ماله، لأن ذلك قبل الاستيلاء، كما لو نزلوا على حكم حاكمٍ فإنه من أسلم منهم قبل الحكم عَصَمَ نفسَه ومالَه، لأنه لم يتمّ القهر. فأما أهل مكة كان قبل القهر ودخلَها قهرًا، ولهذا التجوز تظهر الشبهة التي أدحضتْ كلاًّ من القولين، وأما بعد القهر فيجوز أن يمنّ على المقهورين ويدفع إليهم الأرض مُخارجةً. فالذين حاربوا بمكة أو هربوا، ثمّ أمَّنَهم بعد قهرهم والقدرة عليهم، هذا جائز في أنفسهم كالمنّ، ولهذا سمَّاهم الطُلقاء. وأما في أموالهم فالأرض قد ذكرت بسبب ذلك فيها. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 مسألة أيُّهما أولَى: معالجةُ ما يكره الله من قلبك، مثل الحسد والحقد والغِل والكِبر والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب وغير ذلك مما يختصّ بالقلب، من دَرَنِه وخَبَثِه؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة من الصلاة والصيام وأنواع القربات من النوافل والمندوبات مع وجود الأمور في قلبه؟ أفتونا مأجورين. جوابُ شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الحراني -رضي الله تعالى عنه- الحمد لله. من ذلك ما هو أوجب، وإن الأوجب أفضل وزيادة، كما قال تعالى فيما يروي عنه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تقرَبَ إليّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضتُ عليه"، ثم قال: "ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبه" (1) . والأعمال الظاهرة لا تكون صالحةً مقبولةً إلاّ بتوسطِ عملِ القلب، فإن القلب مَلِكٌ والأعضاءُ جنودُه، فإذا خبثَ الملكُ خبث جنودُه. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إلاّ وإن في الجسد مُضْغَةً إذا   (1) أخرجه البخاري (6502) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 صَلَحتْ صَلَح لها الجسدُ كلّه، وإذا فَسَدَتْ فَسدَ لها الجسدُ كلّه، إلاّ وهي القلب" (1) . وكذلك أعمال القلب لابُد أن تؤثر في عمل الجسد، وإذا كان المتقدم هو الأوجب سُمي باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يُسمَى باطنًا أوجبَ، مثل تركِ الحسد والكبرياء، فإنه أوجبُ عليه من نوافلِ الصيام. وقد يكون ما سُميَ ظاهرًا أفضل، مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد تركِ بعضِ الخواطر التي تَخْطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها. وكل واحدٍ من عمل الباطن والظاهر يَعنِي الآخر، والصلاةُ تَنهى عن الفحشاء والمنكر، وتُورِث الخضوعَ ونحو ذلك من الآثار العظيمة، هي أفضل الأعمال، والصدقةُ. والله تعالى أعلم.   (1) أخرجه البخاري (52، 2051) ومسلم (1599) عن النعمان بن بشير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 مسألة ما تقول السادة أئمة الدين - رضي الله تعالى عنهمِ أجمعين - في مدينة لا يُذبَحُ فيها شاة إلاّ ويأخذ المكّاسُ سقطها ورأسَها وأكارعَها مَسْكًا، ثم يضع ذلك ويبيعُه في الأسواق، وفي المدينة من لا يمنع عن شراء ذلك وأكلِه من أهل الذمة وغيرها، وليس يُباعُ في المدينة رءوسٌ وأكارعُ وأسقاطٌ إلاّ على هذا الحكم، ولا يمكن غير ذلك. فهل يَحْرُم شراءُ ذلك وأكلُه والحالةُ هذه أم لا؟ أفتونا مأجورين. فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- هذه حكمُها حكم ما يأخذها الملوكُ من الكُلَفِ التي ضربوها على الناس، فإن هذه في الحقيقة تُؤخذ من أموال أصحاب الغنم التي يبيعونَها للقصابين وغيرهم، فإن المشتري يحسب أنه يؤخذ من السواقط، فيسقط من الثمن بحسب ذلك. وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف، فإنها وإن كانت تؤخَذ من المشتري فهي في الحقيقة من مالِ البائع. وهذه الكُلَفُ دخَلَها التأويل والشبهة، منها ما هو ظلم محض، ولكن تعذَّرَ معرفةُ أصحابه وردها إليهم، فوجبَ صرفُه في مصالح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 المسلمين، وولاية بيعها وصرفها لهم. فالمشتري لذلك منهم إذا أعطاهم الثمن لم يكن بمنزلة من اشترى المغصوب المحضَ الذي لا تأويلَ فيه ولا شبهة، وليس لصاحبه ولاية بيعه، حتى يقالَ: إنه فعلَ محرَّمًا يفسق بالإصرار عليه. وفي المنع من شرائها إضرار بالناس وإفسادٌ بالأموال من غير منفعةٍ تعودُ على المظلوم، والمظلومُ له أن يطالب ظالمَه بالثمن الذي قبضَه إن شاءَ أو بنظيرِ مالِه. والتورع عن هذه من التورع عن الشبهات، ولا يُحكَم بأنها حرام محض، ومن اشتراها وأكلها لم يجب الإنكار عليه، ولا يُقال: إنه فَعَلَ محرَّمًا لا تأويل فيه، فإن طائفة من الفقهاء أفتَوا طائفة من الملوك بجواز وضعِ أصل هذه الوظائف، كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في كتابه "غياث الأمم" (1) ، وكما ذكر بعضُ الحنفية. وما قُبض بتأويل فإنه يَسُوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضَه، وإن كان يعتقدَ المشتري أن ذلك العقد محرم. كالذمي إذا باعَ خمرًا وأخذَ ثمنَها، جاز للمسلم أن يعامِلَه في ذلك الثمن وإن كان المسلم لا يجوز له بيع الخمر، كما قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "وَلُوهم بيعَها وخُذوا أثمانَها" وهذا ثابت عن عمر -رضي الله عنه- (2) ، وهو مذهب الأئمة.   (1) ص 283. (2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9886، 10044) عن سويد بن غفلة، والبيهقي في السنن الكبرى (9/205- 206) عن ابن عباس، كلاهما عن عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 وهكذا مَن عمل معاملةً يعتقد جوازَها في مذهبه وقبض المال، جاز لغيره أن يشتريَ منه ذلك المال، وإذا كان هو لا يَرى جواز تلك المعاملة، فإذا قُدّر أن الوظائف يدفعها من يَعتقِد جوازها لإفتاء بعض الناسِ له بذلك، أو لاعتقادِه أن أخذَ هذا المال وصَرْفَه في الجهاد وغيرِه من المصالح جائزٌ، جاز لغيره أن يشتري منه ذلك المال، وإن كان لا يعتقد جوازَ أصل هذا القبض. وعلى هذا فمن اعتقدَ أن لولاة الأمور فيما فعلوه تأويلا، جاز له أن يشتري ما فعلوه، وإن كان هو لا يُجوز ما فعلوه، مثل أن يَقبض ولي الأمر عن الزكاة قيمتها فيشتري منه، أو مثلَ أن يُصادر بعضَ المالِ مصادرةً يعتقد جوازها، أو مثل أن يرى أن الجهاد وجب على الناس بأموالهم وأن يأخذه من الوظائف هذا من المال الذي يجوز أخذُه وصرفُه في الجهاد، ونحو ذلك من التأويلات التي قد تكون خطأ، ولكنها قد تنازع فيها الاجتهاد. وإن كان قبضَ ولي الأمر المالَ على هذا الوجه جاز شراؤه منه، وجاز شراؤه من نائبه الذي أمرَه بقبضه، وإن كان المشتري لا يُسَوِع قبضه. والمشتري لا يَظلم صاحبَه، فإنه اشتراه بماله ممن قبضه قبضًا يتعقد جوازه، وما كان على هذا الوجه فشراؤه حلالٌ على أصحّ القولين، وليس من الشبهات. فإنه إذا جاز أن يُشتَرَى من الكفار ما قبضوه بعقودٍ يعتقدون جوازَها وإن كانت محرمةً في دين الإسلام، فلأن يجوز أن يُشتَرى من المسلم ما قبضَه بعقدٍ يعتقد جوازَه- وإن كنا نراه محرمًا- بطريق الأولى والأحرى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 فإن الكافر تأويلُه المخالف لدين الإسلام باطل قطعًا، بخلاف تأويل المسلم. ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا إلينا- وقد قبضوا أموالاً يعتقدون جوازها، كالربى وثمن الخمر والخنزير- لم تحرم عليهم تلك الأموال، كما لا تحرم معاملتهم فيها قبل الإسلام ولم يحرم، لقوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (1) . فأمرهم بترك ما بقي في الذمَم، ولا يحرِّم عليهم ما قبضوه. وهكذا من كان قد عامل معاملاتٍ دنيوية يعتقد جوازها، ثمّ تبيّن له أنها لا لَجوز، وكانت من المعاولات التي تنازع فيها المسلمين، فإنه لا يحرم عليه قبضُه من تلك المعاملات على الصحيح. والله تعالى أعلم.   (1) سورة البقرة: 278. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 مسألة في الحلاّج، هل قَتَلَه الشرعُ مظلومًا؟ وهل كان قتلُه بحكم الشرع أم لا؟ وهل إذا قال قائل: إنه قُتِلَ مظلومًا وإن الذي قاله الحلاّج حق- فهل هو مصيب أم مخطئ؟ أفتونا مأجورين. جواب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- بل قُتِل ظالمًا غيرَ مظلوم، وقُتِل على الزندقة التي تُعرِّف حالَه، وإن الذي قالَه كفرًا باطنًا وظاهرًا يُوجبُ قتلَه باتفاقِ أهل الإسلام علمائهم وفقرائهم. فإنْ أصرَّ على خلافَِ ذلك عُوقِبَ عقوبةً مُردعة. ولا ينتصر للحلّاج إلاّ جاهل بحالِه أو منافق عدوّ لله ورسوله. والله أعلم. وأخبار الحلاّج مذكورةٌ في كتب المصنفين، كأبي بكر الخطيب (1) وأبي الفرج ابن الجوزي (2) وسبطِه. وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلَمي (3) أن جمهور المشايخ أخرجوه عن الطريق. وكان ساحرًا، وله مصنف في السحر. والله سبحانه وتعالى أعلم.   (1) في "تاريخ بغداد" (8/112- 141) . (2) في "المنتظم" (6/160- 164) . (3) في "طبقات الصوفية" (ص 307- 308) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 مسألة في رجل قرأ القرآن وقال: هذا هديةٌ مني للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهل يجوز هذا أم لا؟ وهل هو محتاجٌ إلينا حتى نُصَلِّيَ عليه أو نُسلَمَ عليه؟ الجواب لشيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- الحمد لله. لم يكن من عمل السلف أنهم يصلُّون ويصومون ويقرأون ويُهدُون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ,وكذلك لم يكونوا يتصدَّقون عنه ويعتقون عنه وإن فعلوا ذلك، لأن كلَّ ما يفعله المسلمون فله مثل أجر فعلهم من غيرِ أن يَنقُصَ من أجورِهم شيئًا، لما ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من دعَا إلى هُدىً كان له من الأجر مثل أجور من تَبعَه، مِن غير أن يَنقُص في لك من أجورِهم شيئًا". بخلاف الأبوين، فإنه ليس كل ما يفعلُه الولدُ يكون لوالِده مثلُه، وإن كان الأب ينتفع بعملِ ولدِه.   (1) مسلم (2674) عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وأما صلاتُنا عليه وسلامنا عليه وطَلَبُنا له الوسيلةَ فهذا دعاءٌ فيه لنا، يهحيْبُنا الله عليه، ويُستَحبُّ هذا الدعاء في حقّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيزيدُه الله به من فضلِه ويثيب عليه الداعي، ولا منَّةَ له عليه، بل لله المنَّةُ عليه، وسائرُ الخلق محتاجون إلى الله تعالى، والأمة محتاجون إلى ما بعثَ الله تعالى به نبيَّها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنما هداهم الله تعالى به. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 رسالة في الرد على بعض أتباعِ سعد الدين ابن حمويه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .......... أهدابُ الجَفْن التحتاني، والتفرقة الملكية في العُلْوِيَّات أهدابُ الجَفْنِ الفوقاني، والنفسُ الكلّيةُ سوادُها، والروح الأعظم بياضُها، والله تعالى نورُها. وإنما قلنا: إنّ العُلْوِياتِ والسفْلِيّاتِ أجفانُ العين، لأنهما يُحافظان على ظهور النُّور، فلو قُطِعَتْ أجفانُ عينِ الإنسان لتفرق نورُ عينه وانتشرَ، بحيث لا يَرى شيئًا أصلاً، فكذلك العُلْوِيَّات والسفليات لو ارتفعتْ لانْبَسَط، بحيث لا يظهر فيه شيءٌ أصلاً ورأسا. ونَعنِي بعينِ اللهِ ما يَتعيَّنُ الله فيه. هذا هو الحق الصريح المتبع، لا كما يرى المنحرفُ عن منهاج الإسلام ودِينه، المتحيِّر في مبدأ ضلالتِه وجهلِه. فنقول: هذا الكلام لولا أني علمتُ مقصودَ الشيخِ به وأنه عنده كلامٌ عظيمٌ فيه كشفُ حقيقةِ الأمر، وأن مقصودَ الشيخ إنما هو المعرفةُ والهداية، لكُنا نُقابلُه بما يستحقُّه، على حدِّ ما توجبُه الشريعةُ على من قامت عليَه الحجة، لكنّ الله يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)) (1) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله رفيقٌ يُحب الرفقَ في الأمر كله" (2) ، وقال: "إن الله رفيقٌ يُحِب الرفق، ويُعطي   (1) سورة الإسراء: 15. (2) أخرجه البخاري (6927) ومسلم (2165) عن عائشة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 على الرفق ما لا يُعطي على العنف " (1) ، وقال: "ما كان الرفق في شيء إلاّ زانَه، ولا كان العنف في شىء إلاّ شانَه" (2) . وقد قال لموسى وهارون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)) (3) . فهذا الكلام وأمثالُه الذي فيه من الكفر ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخزُ الجبال هدًّا، إذ هو أعظم من قول الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا، إذا صَدَرَ من قومٍ يظنّون ويظنّ بهم مشايخ الإسلام أهل التحقيق والعرفان، احتاج المخاطب لهم إلى شيئين: قوة عظيمة، وغضبٍ لله، وسلطان حجهٍ، وقدرة يدفع بها شَتْمَ الله وسَبَّه والكُفْرَ به؛ ورفقٍ ولينٍ يُوصِل به إلى المخاطبين حقيقةَ البيان. والرفقُ في الجهاد باليد واللسان إنما يكون بالنسبة إلى العنف في الجهاد، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله كتبَ الإحسان على [كلّ] شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذَبَحتم فأحسنوا الذِّبحةَ" (4) . فلابدّ من القتل الشرعي، ولكن الإحسان فيه يكون بأن يقتل أحسن القتلات، وكذلك دفعُ الكفرِ والفريةِ على الله والإلحادِ في   (1) أخرجه أحمد (4/87) والبخاري في "الأدب المفرد" (472) وأبو داود (4807) عن عبد الله بن مغفل. وفي الباب عن عليّ أخرجه أحمد (1/ 112) ، وعن أبي هريرة أخرجه ابن ماجه (3688) . (2) أخرجه مسلم (2594) عن عائشة. (3) سورة طه: 44. (4) أخرجه مسلم (1955) عن شداد بن أوس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 أسمائه وآياتِه وجحودِ ذاتِه وصفاتِه، لا يكون الإحسان والرفق في دفعه إلاّ بأحسن وجوه ذلك، كما قال الله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1) ، وقال: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (2) . فمن ظلم وظَهرَ عنادُه عُوقِبَ حينئذ عقوبة مثله، بالقتل المشروع إن إستحقَّ ذلك، وإلاّ فيما دونَه على حسب الأفعال والأحوال وما يتعلق بذلك. ولا شكَّ أن طريق الله عظيم، وتحقيق الإيمان هو غاية مطلوب الإنسان، وهؤلاء المتكلمون في هذا الباب من حين ظهور دولة التتار قد خَلَّطوا في هذا الباب تخليطًا عظيمًا، وخلطوا التوحيد بالإلحاد، بل منهم من جَرَّد الإلحاد تجريدًا، فيغترُ بإضلالهم خلق كثير معتقدين أنهم على غاية الهدايةِ والحق الصريح، فإذا وضحَ الحقُّ الذي أنزلَ الله به كتبه وبعثَ به رُسُلَه، قامت الحجةُ على من بلغه ذلك. فمن خرج عنه حينئذٍ استوجبَ ما أمر الله به في مثله. وعلمتُ أن الشيخ لما وقفَ على الذي كتبَه إليَ الشيخ نصرٌ في الاتحادية، ظنَ مَن ظنَ أنه قد يَرُدُّ عليهم مَن لم يفهم حقيقة قولهم، فأراد الشيخُ أن يُبيِّن ذلك، ولم يَعلَم أن مثلَ هذا الكلام وأمثالَه قد صار مَضْحَكة عند الصبيان ومُكفِّرةً عند ذوي العلم والإيمان، وأنهم قد علموا من هذا الكلام وأمثاله ما لم يَعلَمْه غيرُهم، وهم أعرف بمذهب كلِّ واحدٍ من هؤلاء من أصحابه، بل من نفسِه. فإن الواحدَ من   (1) سورة النحل: 12. (2) سورة العنكبوت: 46. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 هؤلاء يتناقض في كلامِه ولا يدري أنه يتناقض، لأن أصلهم فاسد في العقل والدين. ولا ريبَ أن الشيخَ إنما استمدَّ هذا الكلام من كلام الشيخ سعد الدين ابن حمويه، وقد قيل: إذا أردتَ أن تعرفَ خطأ شيخك فاجلس إلى غيرِه. وقد كان من الواجب على من خاطَبَنا في هذا المقام أن يتأمَّلَ مع كلام سعد الدين كلامَ ابن العربي في "الفصوص" وفي كتاب "الهُو" و"الجَلالة"، وفي مواضعَ من "الفتوحات" وفي غير ذلك؟ ويتأمل كلامَ القونوي في كتاب "مفتاح غيب الجمع والوجود"؛ ويتأمَّلَ كلامَ ابن سَبعين في "البُدّ" و"الإحاطة" وغيرهما؛ ويتأمل كلامَ التلمساني في "شرح الأسماء"؛ ويتأمَّلَ آخر قصيدة ابن الفارض التي هي "نظم السلوك"، مثل قوله: (1) لها صَلَواتي بالمقامِ أُقِيمُها وأشهدُ فيها أنها ليَ صفَتِ كلانا مُصلٍّ واحد ساجد إلى حقيقتِه بالجمع في كلِّ سَجْدةِ وما كان لي صلَّى سِوايَ ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل سجدتي ومثل قول ابن إسرائيل (2) :   (1) ديوانه: (ص 34) . (2) هو محمد بن سوار بن إسرائيل، نجم الدين الشيباني الدمشقي، شاعر حذا في بعض شعره حذوَ ابن الفارض. توفي سنة 677. له "ديوان شعر" مخطوط. ترجمته في "فوات الوفيات" (3/383 وما بعدها) ، وهذا البيت فيه (3/384) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 وما أنتَ غير الكون بل أنتَ عينُه ويَفهمُ هذا السر من هو ذائقُ وقوله: وقلقل أن مزَتْ على جَسدِي يَدي لأنيَ في التحقيقِ لستُ سِواكُمُ إلى أنواع من هذه المنظومات والمنثورات. ثمَّ يتأمَّل بنور الإسلام: هل هذا القول يرضاهُ اليهود والنصارى والمشركون، أم هو شرٌّ من مقالات هؤلاء؟ ويَعرِض ما قاله هو على كتاب الله الذي أنزلَه من السماء وسنةِ رسولي خاتم الأنبياء وما اتفق عليهَ أهل العلم والإيمان، فإن ذلك هو سلطان الله ونوره وهداه وبرهانه، ثمّ بعد هذا يتكلم. ونحن فلم نكن أدخلنا سعدَ الدين ابن حمويه في هؤلاء، لأنه كان قد صحبَ الشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا الشيخ نجم الدين هو من أجلِّ شيوخ تلك البلاد وأصحِّهم إسلامًا وأبعدِهم عما يخالف الكتاب والسنة. وكان الشيخ سعد الدين أخذ منه طريقة صحيحةً، لكنّه أيضًا مَزَجَها بشيء من طريقة هؤلاء. وذلك لأن شيوخ سعد الدين أربعة: عمه صدر الدين، وإليه تنسب خِرقتُه، فإن بني حمويه بيتٌ قديم معروف بالمشيخة والتصوف. والشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا شيخ جليل من أعظم شيوخ تلك البلاد قدرًا وأصحّهم طريقة، وله أصحاب كبار: كالشيخ مجد الدين البغدادي، والشيخ علي لالا، والشيخ سيف الدين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 الباجوري وغيرهم. والثالث: الشيخ شهاب الدين السهروردي، وهو أيضًا من أجِلاَّءِ المشايخ، وأكثرِهم حِرصًا على متابعة السنة في أعمالِهم. وأما الرابع فهو الملقَّب بمحيي الدين ابن العربي، ومن هذا الشيخ دخل في كلام سعد الدين الاتحادُ. وقد قَدِم علينا أكبر مشايخ تلك البلاد من السعدية حسام الدين الكرماني حاجًّا، وخاطبتُه في حالِ هؤلاء، وبيّنتُ له من كلام ابن العربي وغيرِه ما كان طالبًا له، حتى رَجَعَ عن تعظيم هؤلاء، وكَفَر بما يقوله ابن العربي من الكفريات، وقال: ما كُنّا نَعرِف حقيقةَ حالِ هؤلاء، ولا نعرف أن كلامَهم مشتمل على هذا كله. مع أنه كان من أكثر المشايخ تعظيمًا لابن العربي، وهو من الغلاة في سعد الدين. وجَرَتْ لنا معه فصول أظهرَ اللهُ بها الحقَّ وبيَّنَ حالَ التوحيد وتلبيسَ هؤلاء المنافقين. وحدَّثني هذا الشيخ عن شيخه عزّ الدين الطاوسي أنه سمعَ الشيخ سعد الدين- وقد سئِل عن ابن العربي وعن الشيخ شهاب الدين، فقال:- أما ابن العربي فبحر لا ساحلَ له، ولكن نور متابعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جبين الشيخ شهاب الدين شيء آخر. وهدْا كلام صحيح، فإن شهاب الدين شيخ مسلم محبّ لسنةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشريعتِه، سالك طريقةَ أمثالِه من المشايخ أهلِ المعرفة والدين، عظيمُ القدر في وقتِه، رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 وأما قوله عن ابن العربي: "بحرٌ لا ساحلَ له" فلعَمري إنه بحرٌ، لكن مِلحٌ أُجاجٌ، فإنه كثير الخوض في أحوال العالم وطبقات الكائنات، واسع الخيال، قادر على الكلام، وهو في باطلِه أشدُّ تمكُّنًا من الشيخ شهاب الدين في حقّه، فلهذا جعله سعد الدين أوسعَ، وإن كان شهاب الدين أقومَ، لكن الشيخ شهاب الدين من خيار أمة محمد، وإن كان غيرُه من المشايخ الكبار- كالشيخ عبد القادر- الواصلين إلى حقائق التوحيد النبوي الذي بعثَ الله به رسولَه، وما اشتمل عليه من أسماء الله وصفاتِه، التي بها يقتدرون على قَمْع هؤلاء الملاحدة ودَفْع الجهمية وضروبهم؛ أرفعُ درجةً، وأعظمُ عَلمًا وإيمانًا، وأعظمُ جَهادًا ممن ليس مثلهم، ممن يكون معرفته وتوحيده فيه نوع إجمال، لا يتميز فيه أهلُ المعرفة والسنة المحمدية ممن خَرَج عن بعض ذلك من أهل النكرة والبدعة. فهم في ذلك بمنزلة ملوك المسلمين الذين ضَعُفَ إيمانُهم وجهادُهم عن مقاومة جنكسخان ونحوه، بخلاف المؤيَّدين بكمال العلم والإيمان والجهاد، المتبعين لسيرة الخلفاء الراشدين كالأئمة والمشايخ الكبار، فهؤلاء لا يقوم معهم لأهل الضلال والبدع قائمة. فسعد الدين- مع ما فيه من الإسلام والمتابعة- فيه تخليط كثير، فإنه أحيانًا يتكلم بكلام الاتحادية؟ وأحيانًا يُجرد الاتحادَ تجريدَهم، بل يَسلُك لنفسِه مسلكًا أبلقَ لا أبيضَ ولا أسودَ؛ وأحيانًا يتكلم بكلام أهل الإسلام الموافق للكتاب والسنة؛ وأحيانًا يحتج بأحاديث موضوعة لا أصل لها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 وأما صاحبُه الطاوسي ففي كلامه من الكذب على رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والباطلِ شيء كثير جدا. وتكلم في الحروفَ والدوائر بكلامٍ انفرد به، لا يُشبه كلام أبي الحسن الحَرَالّي ولا كلام أبي العباس البُوني، وهو كلام فيه أشياء حسنة مناسبة، وفيه أشياء لا فائدة فيها، وفيه أشياء ضعيفة بل باطلة من جنس كلام سائر الناس، وفيه أشياء من الهذيان والباطل التي لا يقولُها عاقل. والله تعالى يغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا يجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا. وإذ قد ابتدأ الشيخُ بدعوى أن هذا هو الحق الصريح، فنحنُ نذكرُ ما تبيّن به حقيقتُه. أوّل ما في هذا الكلام أنه دعوى مجردة بلا حجة ولا دليلٍ، وإذا كان من تكلَّم في مسألة من مسائل الاستنجاء أو الإجارة لم يُقبَل منه إلاّ بالحجة والدليل، فمن تكلم في خالقِ الخلق وربّ العالمين بكلامٍ لا يوجَد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا قاله أحدٌ من السلف ولا شيخ من المشايخ الذين لهم لسان صدقٍ في عمومه، بل جميعُ أهل العلم والإيمان والمشايخ المقبولون يُكفرون من يقوله، ولم يأتِ عليه لا بحجةٍ ولا دليلٍ، كيف يُقبَل منه؟ ثمّ إن هذا الباب كيف يجوز لمؤمنٍ بالته ورسوله أن يتكلم فيه بغير الكتاب والسنةِ؟) ألم يَسمع الله يقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (1) ، ألم يسمع الله   (1) سورة النساء: 171. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 يقول: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)) (1) . ونحن ننبه على بعض حقيقة هذا الكلام، وذلك من وجوه: الأول قوله في صدر الكلام: "كان الله ولا شيءَ معه"، فهذه الكلمة مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) . ثم قال في آخره: "وهو الآن على ما عليه كان"، فهذه الكلمة ليست من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يُؤثَر عن أحد من أئمة الدين المقبولين عند عموم الأمة، ولا لها ذِكر في شيء من كتب الحديث. وقد اعترفَ بذلك ابن عربي وغيره، فقال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان الله ولا شيءَ معه"، قال: وزاد العلماء "وهو الآن على ما عليه كان". وأكثر هؤلاء الاتحادية يجعلون هذا من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويجعلون هذه الكلمة أُسَّ زندقتهم، وغرضُهم أنه لم يكن معه غير، وهو الآن ليس معه غير ولا سِوى، بل الوجودُ هو عينُه ونفسُه، فلا الأصنام والأوثان والجن والشياطين والنجاسات والأقذار غيره ولا سواه، فإنه كان وليس معه غيرُه، وهو الآن ليس معه غيرُه.   (1) سورة الأعراف: 33. (2) أخرجه البخاري (3191، 7418) بلفظين آخرين عن عمران بن حصين. وهذا اللفظ في غير رواية البخاري، انظر "الفتح" (6/289) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 فإذا عُرِف أن هذه الكلمة لا أصلَ لها في الشريعة انهدمتْ قاعدتُهم. ولفظُ الحديث الذي في البخاري (1) عن عمران بن حصين قال: جاء وفدُ بني تميم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم! "، فقالوا: بشَّرتَنا فأعطِنا، فجاء أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم"، فقالوا: جئناك نسألكَ عن أول هذا الأمر، فقال: "كان الله ولا شيءَ قبلَه، وكان عرشُه على الماء، وكتبَ في الذكر كلَّ شيء". قال: وجاء رجل فقال: أَدرِكْ ناقتك، فخرجتُ فإذا السراب ينقطع دونها، فودِدتُ أني كنتُ تركتُها ولم أَقُمْ. والذي ذكره الله في كتابه أنه لا يجوِز أن نجعلَ مع الله إلهًا آخر، فقال تعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)) (2) ، وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)) (3) ، وقال: (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (4) . لم يَقُلْ: لا تجعل مع الله مخلوقًا ولا مصنوعًا، أو لا تجعل مع الله عبدًا ولا مملوكًا، أو لا تجعل مع الله عبادًا له مخلصين، بل صرَّح بأنه مع عباده عمومًا وخصوصًا، فقال: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) (5) ، وقال   (1) برقم (7418) . (2) سورة الإسراء: 22. (3) سورة الإسراء: 39. (4) سورة الحجر: 96. (5) سورة المجادلة: 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 لموسى وهارون: (إننى معكما أسمع وأرى (46)) (1) ، وقال: (إنا معكم مستمعون (15)) (2) ، وقال: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (40)) (3) ،َ وقال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)) (4) ، وقال: (واصبروا عن الله مع الصابرين (46)) (5) . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اللهمَّ أنتَ الصاحبُ في السفر والخليفةُ في الأهل، اللهمَّ اصحَبْنا في سفرنا واخْلُفنا في أهلِنا" (6) . وقال "أفضلُ الإيمان أن تعلمَ أنّ الله معك حيثما كنتَ" (7) . وفي حديث: اللبيب في الجنة فيفرح الله ومعه النبيون والصديقون والشهداء (8) . فإذا كان ما ثمَّ غيره، ولا معه الآن شيء من الخلق، بل الأمر كما كان قبل أن يخلق الخلق، فمع من يكون ولمن يصحب؟ بل قوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (9) يقتضي أنه ثمَ شيء غيرُه، شيء لا يجوز أن نجعلَه إلهًا، ولكن يجوز أن نجعله غيرَ إله عبدًا ومملوكًا.   (1) سورة طه: 46. (2) سورة الشعراء: 15. (3) سورة التوبة: 40. (4) سورة النحل: 128. (5) سورة الأنفال: 46. (6) أخرجه مسلم (1342) عن ابن عمر. (7) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/124) من حديث عبادة بن الصامت، وضعّفه الألباني في "الضعيفة" (2589) . (8) لم أجده. (9) سورة الإسراء: 39. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 وعلى رأي هؤلاء: أي جعلته إلهًا فما جعلتَ معه إلهًا، إذ ما ثَمَّ غيرُه، فيجوز عندهم أن يُجعل كل شيء إلفا وما يكون قد جعل معه إلهًا، إذ ما ثمّ معه شيء آخر. فهؤلاء يجوزون عبادة الأصنام، كما صرَّح به صاحب "الفصوص"، وقال في فمن الحكمة النوحية: (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)) (1) لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، كأنّه ما عُدِم في البداية، فيُدعَى إلى الغاية ادعوا إلى الله. فهذا عين المكر، وقالوا في مكرهم: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)) (2) لأنهم لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبودٍ وجها، يَعرِفه من عرفَه ويَجهله من جَهله. كما قال في المحمديين: (*وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (3) ، وما قضَى الله بشيء إلاّ وقعَ. فالعارف يعرف من عبد، وفي أيّ صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، والقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد عبد الله في كل معبود. ولهم مثل هذا الكلام كثير. فمن كان قوله: إن عُباد الأصنام ما عبدوا إلاّ الله، وإنه لا يتصور أن يُعبَد إلاّ الله، وإن العابد هو المعبود، وإن الوجود هو عين الله= كيف يؤمن بقوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) ؟ وكيف يتصوَّر عنده أن يُنهَى أحدٌ عن أن يَجعل مع   (1) سورة نوح: 22. (2) سورة نوح: 23. (3) سورة الإسراء: 23. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 الله إلها آخر، وليس مع الله شيء لا إله ولا غير إله! وهذا المنهي عندهم هو الله، وليس هو غيره! الوجه الثاني قوله: "يحقِّقوا أن الحقَّ كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسِه بوحدتِه الذاتية عالمًا بنفسه وبما يَصدُر منه، وأن المعلومات بأَسْرِها كانت منكشفةً في حقيقة العلم شاهدًا لها". هذا الكلام مضمونُه أنّ الله كان عالمًا بالأشياء قبلَ كوبها، وهذا صحيح، لكنّ العبارة فيها طولٌ، وفيها ألفاظٌ مُوهِمة، مثل قوله: "بما يصدر منه "، فإن هذا يُوهِم مذهب الدهرية الذين يقولون: إن العالم صدرَ منه وفاض عنه. فلو قيل: "عالم بنفسه وبما يخلقُه وبما يُريد أن يخلقه" كان ذلك من عبارات المسلمين التي جاء بها الكتاب والسنة. وكذلك لو قيل: "كان رائيًا لنفسه" كان ذلك مطابقًا لما جاء به الكتاب والسنة من وصفه بالرؤية، وكذلك يقول العلماء. وأما لفظ التجلّي فإنه لا يكاد يُستعمل إلاّ في ظهور الشيء بعد خفائِه، كما قال: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)) (1) ، وكما قال: (فَلَما تَجَلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) (2) ونحو ذلك. فيُشعِر ذلك أنه رأى نفسه بعد أن لم   (1) سورة الشمس: 3. (2) سورة الأعراف: 143. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 يكن رآها، وهذا باطل. والمتكلم لم يَقصِد ذلك، ولكن بتعمُّقِه في العبارات وخروجِه عن ألفاظ القرآن والسنة يقع في هذه المزالق. وأما قوله "كانت بأسْرِها منكشفةً في حقيقة العلم شاهدًا لها"، فهنا كلامان: أحدهما: أن هذا يقتضي أنه كان يرى المعدوماتِ قبل وجودِها. وهذه مسألةٌ قد تنازع فيها المسلمون، فأما العلم بها قبل وجودِها فهو حقّ، لم يخالف به إلاّ شرذمة كفَّرهم الأئمة كالشافعي وأحمد. وأما سَمْعُ المعدوم ورؤية المعدوم فذهب أكثر العلماء والمتكلمين من أصحاب الشافعي وأحمد والأشعرية والمعتزلة إلى امتناع ذلك؟ وذهب طائفة منهم من السالمية وغيرهم إلى جواز ذلك. وهذا قريب، ليس هذا مما يُخاطَب فيه هؤلاء الاتحادية، فإنّ هؤلاء لو قالوا بقول المعتزلة أو اليهود أو النصارى كان خيرًا من قولهم، وأما قولهم فلم يظهر في الإسلام إلاّ مع ظهور دولة التتار. لكن كان حقّ القائل أن يذكر حجة تَدُكُ على أن المعدومات مشهورة مرتبة، فإن موارد النزاع إذا لم يكن فيها حجة كانت دعوى مجرَّدة. الكلام الثاني: أن يُعلَم أن قولنا "كان يعلم الأشياء قبل كونها" ليس في ذلك إثبات لكون المعدومِ شيئًا في نفسه، فإن مذهب جماهير المسلمين وجماهير العقلاء أن الشيء قبل وجودِه ليس بشيء أصلاً، وأنه وإن كان معلومًا لله فالعلمُ بالشيء لا يقتضي أن يكون موجودًا ولا ثابتًا، إلاّ أن يُقَيَّد فيقال: موجود في العلم وثابت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 في العلم. وذلك أنَّ الله يعلم الموجود والمعدومَ والواجب والممكن والممتنع، وقد اتفق العقلاءُ على أن الممتنع ليس بشيء، وإنما نازع بعضُهم في الممكن، فقال فريق من المعتزلة والرافضة: المعدوم الممكن شي ثابت في نفسه خارجًا عن العلم. ثم هؤلاء متفقون على أنه ليس كل ممكنٍ وُجِد. فهذا أيضًا ينبغي أن نعرفه، فلا فرقَ عند أهل السنة وجماهير الخلق بين الوجود والثبوت، بل المعدوم كما قال الله تعالى: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)) (1) ، وقال: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)) (2) . فإذا قال: "إنه معلومٌ لله" فهذا حقٌّ، لا فرق بين أن يقال: هو ثابت في العلم أو موجود في علم الله. الوجه الثالث قوله: "فلما تحركت الإرادة الأزلية أن يَعرِضَ نفسَه على الحقائق الكونية المعدومةِ في نفسها المشهودةِ أعيانُها في علمه في تجلِّيه المطلق، نزلتِ الحِلية الإلهية من حقيقةِ كانِه إلى سِرِّ شأنِه، فعند ذلك قارن الألفُ النونَ، فعبّر عنها بـ"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة سُميتْ عقدة "حقيقة النبوة"، فهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل، المطابقة للصفة المعلومية، فصارت مرآةً   (1) سورة مريم: 9. (2) سورة مريم: 67. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتمييز صفاته القديمة، فظهر الحق فيه بصورة وصفة واصفًا يصف نفسَه ويُحيط به، فالأول هو الموصوف والثاني هو الواصف؛ والأول هو المسمَّى باسم الله، والثاني هو المسمَّى باسم الرحمن. فلهذه الحقيقة طرفان: طرفٌ إلى الحق المواجه إليها الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفًا، وطرف إلى ظهور العالم منه، وهو المسمَّى بالروح الإضافي". ومضمونُ هذا الكلام أنّ الله لما أرادَ أن تتجلَّى الحقائق الثابتة في علمِه كما كانت متجلية له نزلَ من الذات إلى الفعل فقال: "أنا"، وظهرتْ حينئذ حقيقةُ النبوة، وهي صورة علم الحق بنفسه، فظهر فيها الوجود المطلق الذي كان في علم الله بطريق الانعكاس، كما ينعكس شعاعُ أحد المرآتينِ إلى الأخرى، وصارتْ محلاًّ لتمييز صفاته القديمة، فصار الحقُّ واصفًا موصوفًا، واصفًا باعتبار ظهورِ علمِه المطابق له وموصوفًا، وجعل الموصوف هو الله والواصف هو الرحمن، وجعل لهذه الحقيقة التي سماها عقدة "حقيقة النبوة" طرفًا إلى الحق لكونها عالمةً به، وطرفا إلى ظهور العالم فيه وهو المسمَّى بالروح الإضافي. وهذا كلُّه عندهم في نفس الرب، وهذا كلُّه عنده قديم أزلي كما قال في آخر كلامه، فيكون المصطفى محمد نبيًا في الأزل والأبد وسطًا بين الله وعبادِه. وأنا أعلم أن هذا الذي يصفونه ليس له حقيقة في الخارج، وإنما هو شيء تخيَّلوه، ولهذا يصعبُ تصوُّرُه، لأن الخيالات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 الفاسدة ليس لها حدٌّ. وما أكثر ما يُوجَدُ هذا في كلام هؤلاء الملحدة في أسماء الله وآياتِه المشابهين للإسماعيلية والنصيرية والفرعونية، ولهذا كان العلماء يقولون عنهم: لهم خيال واسعٌ، والخيال والوهم محل الشياطين الذين يتنزلون عليهم بهذا. فيقال: قولك "تحركتِ الإرادة الأزلية" عبارة فيها إنكار، فلو قال: "توجَّهت أو تعلقت الإرادة" كان أحسن. ومتى كانت هذه الحركة؟ أهي قديمةٌ معه لم تزَلْ أم كان ذلك بعد أن لم يكن؟ فإن كان قديمًا بَطَلَ قولك "فلما تحركت الإرادة الأزلية نزلَ من كَانِه إلى شأنِه"، فإن هذا ظرفٌ لفعلاتٍ يقتضي تحوُّلاً من حالٍ إلى حال، والفعل الذي له ظرف زمانٍ لا يكون إلاّ حادثًا، ولذلك قلتَ: "فعند ذلك قارنَ الألفُ النون فعبر عنها". والقديم ليس له ظرف زمانٍ يتحوَّل فيه، فإنه لم يزل، وإن قلت: إن هذا مُحدَث بَطَلَ قولك بعد هذا بنبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأزل إلى الأبد. وأيضًا فقولك "يَعرِض نفسَه على الحقائق الكونية المعدومةِ في نفسها المشهودةِ أعيانُها في علمه" كلام باطل، فإن ّ الله لا يَعرِض نفسَه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء، وإنما يتجلى لأوليائه يومَ القيامة في الجنة كما جاءت الآثار الصحيحة، ويتجلى أيضًا لعبادِه في عرصاتِ القيامة. وقد قيل: إن محمدًا رآه ليلةَ أُسرِيَ، وأما من سِوى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يراه بعينه في الدنيا، كما ثبت في صحيح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 مسلم (1) عن النواس بن سمعان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكر الدجَّال قال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربَّه حتى يموت". وكذلك رُوِي في حديث عبادة ومعاوية وغيرهما: "واعلموا أنكم لن تَرَوا ربَّكم حتى تموتوا" (2) . ومن قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى ربه ليلةَ المعراج فإنه لا يقول: إنه تجلَّى له، فإن التجلي كمال الظهور، ولم يكن الأمر كذلك، بل قد روى مسلم في صحيحه (3) عن عبد الله بن شقيق قال: قلتُ لأبي ذر: لو رأيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسألتُه، قال: عمَّا كنتَ تسألُه؟ قال: كنتُ أسألُه هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: قد سألتُه فقال: "نور أنَّى أراه"! وفي رواية: "رأيتُ نورًا". فهذا من يثبت الرؤيةَ يقول: أراد نفي العين، لأن نوره أعشى بصرَه، ومن ينفيها يحتجُّ به على نفيها، فقد اختلف أهل السنة -واختلفت الرواية عن الإمام أحمد- هل يقال: رآه بعينَي رأسه أو بعينَي قلبه، أو يقال: رآه ولا يُقَيِّد؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عند أحمد. فأما رؤية القلب -وهو شهود أهل المعرفة- فهذا موجود في الدنيا لغير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما ولي، وكذلك رؤية المنام، لكنه سبحانَه يُرى في صُوَرٍ بحسب حال الرائي، فإنَّ رؤية المنام تقتضي ذلك. وأما الأحاديث التي فيها: "رأيتُ ربّي في صورة كذا وكذا، فوضعَ   (1) برقم (2937) . (2) أخرجه أبو داود (4320) عن عبادة. (3) برقم (178) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 يدَه بين كتفي حتى وجدتُ بَرْدَ أناملِه على صدري" (1) فهذه كانت في المنام، فإن هذه لم تكن ليلةَ المعراج لأنها كانت بالمدينة، فإنّ فيها أنه احتبسَ عنهم في صلاة الفجر، ورواها معاذ بن جبل وأم الطُّفيل وغيرهما ممن لم يُصلِّ خلفَه إلاّ في المدينة، والمعراجُ كان بمكة بنصِّ القرآن وبالسنة المتواترة والإجماع، ولم يقل أحدٌ: إنه رآه بالمدينة. فأما الأحاديث التي رُوِي فيها أنه رآه في سِكَكِ المدينة أو في الطواف أو في عرفةَ فكلُّها موضوعة مكذوبة (2) . والغرض هنا أنه لم يقل قطُّ مسلمٌ: إن الله عَرَضَ نفسَه على معلوماتِه أو مخلوقاتِه، ولا إنه تجلَّى لمعلوماتِه أو لجميع مخلوقاتِه، بل موسى قد سألَ الرؤيةَ فقال: (لَنْ تَرَانِي) (3) ، وقال: (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) (4) . فإذا كان موسى عليه السلام عجزَ عن   (1) أخرجه أحمد (4/66، 5/378) عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرفوعا مطولا. وأخرجه أحمد (5/243) والترمذي (3235) عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل قال، فذكره بطوله. وصححه الترمذي والبخاري. وأخرجه أحمد (1/368) والترمذي (3233، 3234) عن ابن عباس. (2) انظر "الموضوعات" لابن الجوزي (1/124-125) و"اللآلىء المصنوعة" (1/27-30) . (3) سورة الأعراف: 143. (4) سورة الأعراف: 143. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 رؤيتِه في هذه الدار، والجبل جعلَه دَكًّا لما تجلى له، وقوله (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) يدلُّ على أنه لم يكن متجليًا له قبل ذلك= فكيف يقال: إنه عرضَ نفسَه أو تجلَّى للكلاب والخنازير والقرود والديدان والكفار والمنافقين والجنّ والشياطين؟ كما قال: "عرضَ نفسَه على الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة أعيانُها في علمه"، فإن علمه محيطٌ بكل شيء مما ذكر ومما لم يذكر، فإن كان قد عرض نفسه على ذلك كلّه فقد لَزِمَ ما ذكر من الكفر الفاحش وما هو أفحش منه. ثمّ وأيضًا فإنّ المعلوم قبل وجودِه ليس هو سببًا موجودًا ثابتًا يُعرَضُ فيه شيءٌ أو يتجلى له شيءٌ أصلاً، فإن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كالجمل الشرطية المعلقة بشرط معدوم مثل قوله: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) (1) ، وقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (2) ، وقوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) (3) ، وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) (4) ، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)) (5) ، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (6) ونظائره متعددة.   (1) سورة الأنفال: 23. (2) سورة الأنعام: 28. (3) سورة التوبة: 47. (4) سورة السجدة: 13. (5) سورة النساء: 82. (6) سورة الأنبياء: 22. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 بل قد يُعلِمُ اللهُ بعضَ عبادِه ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فإنّا نعلم ما مضَى من القرون والأحوال، ونعلم أن القيامة ستقوم، وأنه سيدخلُ قومٌ الجنّةَ وقومٌ النارَ، وقومٌ ما أخبر الله به من أن أهل النار لو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه. ثم إذا علمنا الحوادث المستقبلة لم يكن أعيانُها الحقيقي الخارجية موجودةً في علمنا، بل وكذلك الماضية، فإن نفس السماوات والأرض ليست في نفوسها، فكيف يتصور أن يعرض نفسَه أو يتجلى لشيء ما وُجدَ بعدُ ولا صارَ له حقيقة؟ ولكن علم أن سيُوجَد. فإذا علم الله أَنه سيُولَد وُلِدَ بعدَ حولٍ، فهل يتصوَّر قبلَ أن تَحْبَل به أمُّه أن يعرض عليه شيئًا أو يتجلى له شيء من الحقائق؟ وهل يتصور أن يكون المعدوم -وإن عُلِمَ أن سيُوجَد- هل يتصور أن يكون عليمًا تجلتْ له الحقائق؟ فضلاً عن أن يعرض نفسه عليه. وأيضًا "نَزَلتِ الحلية الإلهية من حقيقةِ كَانِه إلى سرّ شأنِه" فيه أوّلاً لفظه "كانه" كما استعملتْ أولاً، وهذا خطأ، فإن الفعل لا يُضَاف، ولا يُقال: "كانه وصاره وأصبحه"، وإن كان أبو الحكم ابن برجان يستعمل هذا اللفظ في "شرح الأسماء الحسنى"، وهو كتاب جليل كثير الفوائد، لكن هذا اللفظ خطأ. ثم ما هذا "الشأن" الذي نزلَ إلى سرِّه؟ أهو شيء منفصل عنه أم متصلٌ به؟ فإن كان منفصلاً عنه فكيف يكون شيء منفصلاً عنه قبلَ أن يخلق شيئًا؟ لا سيما على أصلهم الإلحادي أنه ما ثم شيءٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 منفصلٌ عنه. وإن كان متصلاً به فكيفَ ينزل مِن كانه إلى متصلٍ به وقائم به؟ وهل كان قبل هذا النزول في غير شأنِه ثم نزلَ إلى شأنه؟ أم لم يزل في شأنه؟ ثمّ عندكم هو الآن على ما هو عليه كان ليس معه شيء، فهذا الشأنُ الذي نزلَ إليه مِن كانِه الأوّل هو شيءٌ أم لا؟ إن كان شيئًا فقد صارَ معه شيءٌ آخر لم يكن معه، وإن لم يكن شيئًا فلم ينزل إلى شيء، فلم يَزل في كانِه ولم يتجدَّد شيء، فما الذي بدا مما بدا؟ هؤلاء قوم تخيَّلُوا خيالاتٍ فاسدةٍ، وسمعوا ألفاظًا، فوضعوها على غير مواضعها بحسب تلك الخيالات، فإذا حُقِّقَتْ معانيها جاء الحقُّ وزهقَ الباطل، إن الباطل كان زهوقا. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)) (1) . سمعوا قوله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)) (2) مع قوله "كان ولا شيء معه"، وقولُ الله ورسولي حق، فإن الله كان ولا شيء معه، وهو في كل يوم في شأنٍ من شئونه، وهو أفعالُه كما جاء في الحديث: "يَغفِرُ ذنبًا ويفرج كَرْبًا ويرفعُ قومًا ويَضعُ آخرين". ليس في هذا نزول عن كانه إلى شأنِه، وإنما هو خالق خلقَ وأبدعَ وفَطَر وأنشأ، ويُحدِث الله من أمرِه ما يشاء.   (1) سورة الرعد: 17. (2) سورة الرحمن: 29. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 وأيضًا "فعندَ ذلك قارنَ الألفُ النونَ، فعبّر عنها بـ"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة سُميت عقدة "حقيقة النبوة"، يقال له: أين كانت الألف والنون قبل ذلك حتى تقارنا حينئذ؟ وما الذي أوجبَ اقترانهما بعد افتراقهما؟ وإن حَدَثا حينئذ فما الموجِب للحدوث؟ وقوله "عبّر عنها بأنا" فقبلَ ذلك ما كان يقال له أنا لما كان ولا شيء معه، لم يكن يستحق أن يقول أنا ولم يقل أنا، ولم يستحق أن يقول أنا حتى نزلَ هذا النزولَ الذي ليس له حقيقة ولا معقول. وكذلك هذه النقطة التي ظهرت، ما الموجب لظهورها؟ وأين ظهرت هذه النقطة؟ ثم أغربُ من هذا كلِّه تسمية هذه النقطة عقدة حقيقة النبوة، ياليتَ شعري مَن الذي سمى هذه النقطة بهذا الاسم؟ هل أنزل الله بهذا الاسم من سلطان؟ أم هي أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان؟ قد علمنا وتحققنا أن هذا الاسم المفترَى ليس له وجود في شيء من الكتب المنزلة من السماء، ولا هو مأثورٌ عن أحدٍ من الأنبياء، ولا تكْلم به أحد السلف القدماء ولا من المشايخ والعلماء إلاّ هؤلاء المقاربون لدولة التتار الذين بشؤم الكفر به استولى الكفار والفجار، وجاسوا خلال الديار، حيث ألحدوا في أسماء الله وآياته، وغيَّروا ما بعثَ الله [به] رسوله من الهدى ودين الحق الذي وَعَدَ أن يُظهِرَه على الدين كلّه. ثم هذه النقطة العجيبة التي سميتموها عقدة حقيقة النبوة أهي من الأعيان التي تقوم بنفسها من غير محل؟ أم هي من الصفات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 التي لابُدَّ لها من محلّ؟ فإن كانت عينًا قائمةً بنفسها فإما أن تكون هي الحقّ أو غيره، فإن كانت الحق فلم يتجدد شيء، وإن كانت غيره فقد حدث غير الربّ، فقد جعل الحقّ يظهر فيه وسماه الرحمن، فيكون الرحمن اسمًا لغير الله. وإن كانت صفةً من الصفات، وليس هنا ما يقوم به إلاّ الربّ، فتكون هذه النقطة صفة له، أفهي حادثة أم قديمة؟ فإن كانت قديمة فلم يتجدد شيء، وإن كانت حادثة وهي صورة علم الحق فقد تجدد له علمٌ لم يكن له قبل ذلك، وهذا مع أنه كفرٌ لا يقولون به، لأنه تقدم أنه كان عالمًا بنفسه وبسائر المعلومات. ومقصوده بهذه الكلمات أن الحق صار معلومًا متجليًّا لمعلوماتِه بعد أن كان عالمًا بها وهي متجلية له، وقد قدّمنا أنه لا يتجلَّى لجميعها إلاّ أن يُعنَى بتجليه لها دلالتُها عليه أو علمُها به، كما قيل في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (1) . ففي الجملة كون الحقّ يصير معلومًا لبعض الخلق أو كلَهم هذا معنى صحيح، لكن كيف يعلمونه قبل أن يخلقهم. فإن قيل: لأنهم في علمه. قلنا: وهم في علمه عالمون به، فإنه يعلم الأشياء على ما عليه، فيعلم المؤمن مؤمنًا والكافرَ كافرًا، والعالم عالمًا والجاهل جاهلاً، وأيّ حالٍ تجدَّد للشيء فانه يعلمه عليه في علمه قبل أن   (1) سورة الإسراء: 44. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 يكون، كما يعلم نفس الشيء قبل أن يكون، فلا يتصور أن تصير المخلوقات عالمةً في الخارج إلاّ بعد وجودِها في الخارج، كما لا يُعلم أنها عالمة إلاّ إذا علمتْ هي، فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف في الخارج أو العلم محال. فهذا التقسيم والتحقيق يكشف ما أبدَوه من الزخرف والتزويق، فإن هذه الحقيقة إن كانت صفةً لله ليعلم بها نفسَه ومعلوماتِه، فالله علم بذلك قبل ظهور هذه الحقيقة؛ وإن كانت صفةً لغيرِه فلا يتصوَّر وجودُها قبل وجود ذلك الغير. وقوله "ظهرتْ نقطة" لفظ مجمل، أيَعني حدثَتْ؟ فالمحدَث لابدّ له من محدِث، ولابد للصفة من محل، أم يعني انكشفَتْ وتجلت؟ فلمن تجلَّتْ "وما ثَمَّ إذ ذاك إلاّ الله؟ وهو عالمٌ بنفسِه ومعلوماتِه، فأيُّ شيء انكشف له وتجلَّى بهذه النقطة العجيبة الشأن؟ ما أشبهَ هذه النقطةَ بالكلمة التي تعبدها النصارى وتَزعُم أنها دخَلَتِ الناسوتَ، فيقول لهم المسلمون: هذه الصفة صفة هي كلامٌ لله، فإن كان كذلك لم يكن إلهًا يخلق ويرزق ويُعبَد، ولا يحل المسيح دون الموصوف، وإن كان جوهرًا خالقًا فإنما يتقدم بنفسه، فهي الأب أو غيره؟ إن كانت الأب فيكون الأب هو الحال، وإن كان غيره فيكون جوهرانِ منفصلانِ إلهان. فالنصارى في ضلالة وحيرة حيث أثبتوا ثلاثة آلهة وقالوا: هي إلهٌ واحد. وهؤلاء أثبتوا هذه النقطة العالمة العارفة محلاًّ ولم يجعلوا لها محلاًّ، فالشأن كل الشأن في تحقيق هذه النقطة التي هي عقدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 حقيقة النبوة، فهو "صورة علم الحق بنفسِه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصورة المعلومية التي صارت مرآةً لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتميّز صفاته القديمة التي ظهر الحق فيه بصورة وصفة، واصفًا يصف نفسه ويحيط به، فالأول هو الموصوف، والثاني هو الواصف، والأول هو المسمَّى باسم الله، والثاني هو المسمَّى باسم الرحمن". فيقال: قد عُلِمَ أن هذان اسمانِ من أسماء الله، ليسا اسمين لشيء من صفاته كالعزة والقدرة والحكمة، ولا اسمين لشيء سواه، وأسماء الله تعالى كلُّها متفقة في دلالتها على نفسه المقدسة، ولكل اسمٍ خاصَّةٌ ينفرد بها عن الاسم الآخر، فللرحمن الرحمة، وللحكيم الحكمة، وللقدير القدرة. وهكذا أسماء الرسول وأسماء القرآن، ليست هذه الأسماء مترادفة، ولا هي أيضًا متباينةٌ من كل وجه، بل هي باعتبار الذات مترادفة، وباعتبار الصفات غير مترادفة بل كالمتباينة، ولهذا يُسمى هذا النوع المتكافئة. وكلُّ اسمٍ فإنه يدلُّ على ذاتِ الله وعلى خصوصِ وصفهِ بالمطابقة، ويدلُّ على أحدهما بالتضمن، ويدلُّ على الصفة التي للاسم الآخر بالالتزام، فإنه يدلُّ على الذات المستلزمة للصفة الأخرى، فبين كل اسمينِ اجتماعٌ وامتيازٌ إلاّ اسم "الله"، ففيه قولان. ولهذا هل يدخل في الأسماء؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما أنه لا يدخل في هذه الأسماء، بل هو متضمنٌ للجميع، وهذا يطابق قول من يقول: ليس بمشتق. والثاني: أنه من الأسماء، وهذا يطابق قول من يقول: إنه مشتق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 والصواب أنه فيه الاشتقاق وعدم الاشتقاق، ففيه الاشتقاق الأصلي لا الوضعي، فليس في الاستعمال مشتقًّا كاشتقاق سائر الأسماء التي هي اشتقاقها اشتقاق الصفات. وأما في الأصل فإنه مشتق، وهذا يُسمَّى الاشتقاق الوضعي، وذاك يُسمَّى الاشتقاق الوصفي. والأسماء جميعها هي أسماءٌ لله رب العالمين، وأما صاحب "الفصوص" وأصحابه الاتحادية فعندهم أسماء الله نِسَب وإضافات بين الوجود ليس موجودة، فهو يقول: إضافة بين الوجود الذي هو الله عنده وبين الثبوت؛ وغيرُه يقول: نسبةٌ بين أجزاء الوجود وجزئياته. وهؤلاء أعظم الناس إلحادًا في أسماء الله. إذا عُرِف هذا فالفرق بين اسم الله والاسم الرحمن أن الرحمن متضمن للرحمة المتعلقة بالخلق، والاسم الله متضمن للعموم أو لخصوص الإلهية التي هي استحقاق العبادة. فأما كون هذا واصفًا والآخر موصوفا فهذا شيء ليس له دخولٌ في معنى اسم الله والاسم الرحمن. ثم يُقال لهم: فهل كان اللهُ في كانِه قبلَ نزولِه إلى سِرِّ شأنِه مستحقٌّ لهذه الأسماء أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهذا كفرٌ، وإن قالوا: نعم، قيل: فأنتم قد جعلتم الرحمن متأخرا عن نزوله إلى سرِّ شأنه! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 فصل اعلم أن قول هؤلاء المنتسبين إلى ابن حمويه مضطربٌ مخبط، فإنه ليس توحيدًا محضًا، ولا إلحادًا محضًا، وإنما يظهر بظهور مذهب أهل التوحيد من المسلمين وسائر أهل الملل، وبظهور مذهب الملحدة الاتحادية مثل أصحاب ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، ثمّ يتبينُ قولُ هؤلاء، فنقول: أما مذهب المسلمين وسائر أهل الملل من اليهود والنصارى بل وسائر المقرِّين بالصانع فهو أن الله سبحانه حق موجود بنفسه، متميز عما سواه، وهو ربّ العالمين وخالق الخلق، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاتِه شيء من ذاته، وأن جميع الكائنات عبادٌ لله فقراءُ إليه، وهو مالكهم وربهم وخالقُهم. والقرآن من أوّله إلى آخره يذكر هذا التوحيد ويُبيّنه. ومع هذا فلله أسماءٌ وصفاتٌ وصف بها نفسه ووصفَه بها رسولُه، ومن الجهمية من يُنكِرها أو بعضَها، ويَصِف الله بصفاتٍ سلبية تنافي ما جاءت به الرسل، وتكون تلك الصفات مستلزمة للتعطيل، لكن النفاة لا يُقِرُّون أو لا يعتقدون أنها تستلزم التعطيل. والفلاسفة الصابئة القائلون بقِدَم العالم يقولون بواجب الوجود وبأنه ليس هو العالَم ولا جزءًا منه، لكن يُحكَى عن فريقٍ من الدهرية إنكارُ الصانع، وهذا هو الذي ذكره الله في القرآن عن فرعون أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 أنكر ربّ العالمين، ولكن كان هو وقومه كما قال الله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)) (1) ، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ0وقال له موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) (2) . وكان قدماء الجهمية الذين ينكرون أن يكون الله فوقَ عرشه يقولون: إنه بذاته في كلّ مكانٍ، وإنه حالٌ في كل مكانٍ، وهو رأيَ طائفةٍ من متصوفة الجهمية مثل الديلمي ونحوه، وأما علماء الجهمية وفضلاؤهم فلا يصفونه إلاّ بالسلب، ليس داخلَ العالم ولا خارجَ العالم، ولا هو فوقَ العرش ولا في العالم ونحو ذلك. وكان السلف وأئمة الدين يعلمون أن هذا القول يستلزم نفيَ ذاته، ويقولون: إنما يدورون على التعطيل. وهذا هو الذي أوقعَ هؤلاء الملاحدة الاتحادية في زعمهم أنه هو هذا الوجود، فإن العابد لا يَقدِر أن يَعبُد إلاّ شيئًا موجودًا، فإن الإرادة والقصد لا يتعلق بمعدوم، بخلاف الوصف والكلام، فإنه يتعلق بموجود وبمعدوم. فالمتكلمون بالنفي إذا لم يُثبتوا وجودًا تكون قلوبهم خالية من تحقيق العبادة، لأن ذلك ليس هو مطلوبهم ومقصودهم، ولهذا يَغلِب عليهم القسوة والإعراض عن العبادة لله ولغيره، وأما أهل الإرادة والعبادة من الصوفية والعامة ونحوهم إذا لم يتوجهوا بقلوبهم إلى رب العالمين الذي وصفتْه رسلُه   (1) سورة النمل: 14. (2) سورة الإسراء: 102. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (1) ، الذي هو فوق السماوات، فلابُدَّ أن تتعلق قلوبهم بموجودٍ ما، فتارةً يتعلقون بأنه بذاته في كلّ مكان، وتارةً تتعلق بحلوله أو اتحادِه ببعض الأشخاص كالمسيح وعُزَير وغير ذلك، وتارةً يتعلقون بعبادة الملائكة أو الكواكب والأصنام ليتقربوا بها إليه، فإنه لابُدَّ للقلب من صَمَد يُقْصَد إليه بالعبادة حق موجودٍ. والصفات السلبية لا يتعلق بها القلبُ ولا يطمئن، فإنّ قصدَ العدم كعدمِ القصد، وعبادة المعدوم كعدمِ العبادة. فهذا الجهل والضلال بصفات ربّهم هي التي أوقعتْهم في عبادة ما سواه. ثم إنه يحصل من أحدهم توجُّهٌ إلى الله وعباد له، فيشهد بقلبه الوجود القائم بأمره، ويرى أن حكم الله وسلطانَه سارِي في جميع الكائنات، فيعتقد أن ذلك هو الله الخالق، مثل من رأى شعاع الشمس فاعتقد أنه رأى الشمس وإنما رأى أثرها، وهكذا هؤلاء ما شهدوا بقلوبهم إلاّ صُنْعَ الخالق وخَلْقَه وملكَه وسلطانه، ولهذا تارةً يجعلون الربّ في ذلك كالروح في الجسد، وتارةً كالماء في الصوفة، وهذا قولٌ بالحلول، والربُّ -كما قال عبد الله بن المبارك والإمام أحمد وسائر أئمة السنة والمعرفةِ- فوقَ سماواته على عرشِه، بائنٌ من خلقِه. فجاء هؤلاء الاتحادية المستأخرون جعلوه نفسَ الموجودات لم يُخلوه منها، وجعلوا الوجود المخلوق   (1) سورة الحديد: 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 المصنوع هو الوجود الخالق. ثُمَّ قد علموا أنّ ثَمَّ خالقًا ومخلوقًا، فاضطربوا هنا: فأما صاحب "الفصوص" فإنه يقول: أعيان الممكنات ثابتة في العدم، كما يقول من يقول من المعتزلة والشيعة: إن المعدوم شيء، ويقول: إن نفسَ وجود الحقّ فاضَ عليها وظهرَ فيها، فوجودُها هو وجود الحقّ، وذاتها ليست ذات الحق، ويقول: ما كنتَ به في ثبوتك ظهرتَ به في وجودك، وإنّ الله ما أحسن إلى أحدٍ ولا أنعمَ على أحد، وإنما الذوات الثابتة في العدم هي المحسنة المسيئة بما قبلتْه في فيض وجود الحق عليها. ويجعل أسماء الله هي النسبة بين وجوده وبين ثبوت الممكنات. وهذا القول كفرٌ، وهو باطلٌ من وجهين: من جهة أنه جعلَ المعدومَ شيئًا ثابتًا، وفرَّق بين الثبوت والوجود، فإن هذا قول باطل وفرق فاسد، وشبهتُه ثبوتُها في علم الحقّ، ولا يلزم من علم الحقّ بها ثبوتُها في نفسها ولا وجودُها. الوجه الثاني: أنه لو فُرِض أن الأعيان ثابتة فليس وجودها وجودُ الحقّ، بل الِربُّ أبدعَ وجودَها وخلقها، كما قال تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)) (1) ، وقال: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (2) . وهكذا يقول من يقول بأن المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم،   (1) سورة طه: 50. (2) في مواضع كثيرة من القرآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 يقولون: إنه خلقَ وجودَه، لا يقولون: إن وجوده هو نفس وجود الحق. وأما سائر الاتحادية فلا يفرقون بين الوجود والثبوت، ولا يقولون: إن المعدوم شيء، بل منهم من يفرِّق بين الوجود المطلق والمعين، كالقونوي فإنه يقول: الحق هو الوجود المطلق، فإذا تعيَّن لم يكن هو الحقّ. وعلى قول هذا ليس لله وجودٌ إلاّ ما يقوم بالمخلوقات، فلو زالت لزال وجودُها. وهو أيضًا جَحْدٌ لربّ العالمين في الحقيقة، وإثباتٌ للوجود الذي أقرَّ به فرعون. وأصحاب هذا القول والذي قبلَه يُفرِّقون بين المظاهر والمراتب والمجالي وبين الظاهر المتجلِّي، فيقولون: ظهرَ وجودُه في أعيان الممكنات -على رأي صاحبه "الفصوص"، أو ظهرَ الوجودُ المطلقُ في المتعينات- على رأي صاحبه الرومي. وأما التلمساني وغيرُه فعندهم ما ثمَّ غيرٌ ولا سِوى بوجهٍ من الوجوه، ولا يُفرّقون بين المطلق والمعيّن والوجود والثبوت، بل هو الله عندهم كالبحر وأمواجه. وهم تارةً يُشبِّهون الله بالشمع والفضّة الذي يظهر في صورٍ مختلفة وهو هو. ثم يقول الرومي: هو المادة المشتركة المطلقة، وأما أعيان الصور فليس هو. وأما ابن العربي فيشبهه بظهور النور في الزجاج، يظهر في كل زجاجة بحسب لونها، وهو واحدٌ في نفسه. وأما التلمساني ونحوه فأبلغ من هؤلاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 وأما هذا الكلام المذكور المضاف إلى سعد الدين بن حمويه فهو مركَب من مذهب المسلمين وسائر أهل الملل الذي جاءت به الرسلُ عن الله، ومن مذهب هؤلاء الاتحادية، وهو إلى الاتحادية أقرب، وما فيه من الإلحاد فهو يُشبِه قولَ صاحب "الفصوص" من وجهٍ، وقولَ صاحبِه الرومي من وجهٍ، وليس مَثلَهما. وذلك أنه جعل ثبوتَ الحقائق في علم الله بمنزلة ثبوتها في الخارج ليجعل التجلي عليها، وثبوتُ الحقائق في علم الله صحيح، لكن يمتنع أن يحصل التجلّي على شيء عُلِمَ قبلَ أن يُوجَد. ثم جعل تجلِّيَ الحقّ لها بمنزلة ظهور وجودِه في الأعيان الممكنة. فهذا القول أقل كفرًا، لكنّه أظهرُ تناقضًا، فإنه لم يُصرِّح بأنّ وجودَها عينُ وجودِه، ولا صرّح بثبوتِ ذواتها، لكنّه زعم أن تجلّيه لأعيانها الثابتة في علمه، مثلَ ما ذكرَ صاحبُ "الفصوص" أنه حصولُ وجودِ الحقّ في أعيانِ الممكنات. وتكلّم في التعيّن بكلامٍ قاربَ مذهبَ القونوي، كما سنذكره إن شاء الله. وهذا التفصيل الذي نذكره نحن لمذاهب هؤلاء أكثرُهم لا يفهمونه، ولعل فاضلَهم يَفهم بعضَ مذهبَ نفسِه فقط، لأنها أقوال هي في نفسِها متناقضة، فاضطربوا فيها كما اضطربت النصارى في الأقانيم وفي الحلول والاتحاد. وهذا شأن الباطل، كما قال تعالى. (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)) (1) ، وكما قال تعالى.   (1) سورة الذاريات: 8-9. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)) (1) . فصاحبُ هذا القول يقول: "هو في كانه يتجلَّى لنفسه بوحدتِه الذاتية، يشهد نفسه ويشهد الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة له، فلما أراد أن يعرض نفسه على تلك الحقائق نزل التجلي من كانه إلى شأنه التي يظهر فيه الحقائق الكونية، فظهر هو في تلك الحقائق". وهنا يضطرب أمرُه، فلم يُصرِّح بأن وجودَه قامَ بالأعيان الممكنة كما صرَّح ابن العربي، فيكون اتحاديًّا محضًا، ولا اكتفَى بمجرَّد كونِه يَعلم أن تلك الحقائق أو بعضها ستعلمه كما هو الواقع، فإن الله إذا عَلِم الأشياء وعَلِمَ أنها ستعلمه لتكن حينئذٍ قد صارت موجودةً عالمةً حتى توجد. بل استعملَ اللفظ المشترك كما فعلَه في عين الحقّ، فجعل ثبوتها في علمه بمنزلة ثبوتها في الخارج، وظهوره لها علمًا بمنزلة ظهور وجودِه في ذواتها. فتدبَّر هذا، فإنه يُبين حقيقةَ مطلوب هذا، ومعلومٌ أن وجودَه الذاتي إن ظهر في الأعيان فأول ما يظهر باسم "أنا"، لأنه على زعمهم في وحدته الذاتية لا يتعين، ولا يكون له اسمٌ إلاّ إذا ظهر في أعيان الحقائق المعلومة، عند هذا وعند ذاك ظهرت، وهذا التعيين هو النقطة الذي قد سماها عقدة حقيقة النبوة، وهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصفة المعلومة،   (1) سورة النساء: 82. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 وذلك لأن الحق كان متجليًا نفسه لنفسه، ثم لما نزلت الحلية من كانه إلى شأنه تجلَّى للأعيان المشهودة له، وأعظمها حقيقة النبوة التي هي الإنباء والإخبار عن الوجود المطلق الذي كان في كانه. فهذه النقطة هي في مشهوداته مطابقة لعلمه بذاته. ولهذا كانت صورة علم الحق بنفسه المطابقة للصفة المعلومية لأنه كان يعلم نفسه، وتجلَّى لهذه النقطة كما تجلَّى لنفسه، فصار شهودُها له مطابقًا لشهوده لنفسِه، ولهذا قال: فصارت مرآةً لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتميّز صفاته القديمة. لأن الذي كان في كانه من تجليه لنفسه بوحدته المطلقة ليس فيه عندهم صفات متميزة ولا أسماء، وهذا متفق عليه بين الاتحادية أنه الحق عندهم في نفسه، ليس له اسم ولا صفةٌ أصلاً. وهذا وإن كان مطابقًا لقوله غالية الصابئة الفلاسفة والباطنية الذين يقولون: الحق الأول ليس له اسمٌ ولا صفةٌ، ولا يقولون: هو عالم ولا قادر ولا موجود، ولا يقولون: يعلم ولا يقدر ولا غير ذلك، فأولئك إذا حكى عنهم أنه يجعلونه عينَ مخلوقاته، فإن كان أولئك يجعلونه ساريًا في المخلوقات فقولهم هو قول هؤلاء الملاحدة. وهذا صحيح، فإني وقفتُ على مقالة غلاةِ الإسماعيلية والنصيرية في كتبهم التي يَضنُّون بها إلاّ على خواصّ أكابرهم، فرأيتهم يصرِّحون فيها بنفي الصانع الخالق وجحوده بالكلية، كالمذهب الذي ذكره الله عن فرعون وحِزبِه، وعن الذي حاجَّ إبراهيم في ربّه. وهكذا حكى عنهم من وقف على سرّ دعوتهم، كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي بكر ابن العربي، وقد ذكر كلامهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 والردّ عليهم أبو عبد الله البصري وأبو الوفاء ابن عقيل وأبو حامد الغزالي وأبو القاسم الشهرستاني وغيرهم. وأما غالبُ الخلق فإنما ينقلون عنهم ما يظهره لهم من دون هؤلاء، وهو نفي الأسماء والصفات عن ذاتِه، كما يُظهِره هؤلاء الاتحادية، ليظنّ الجهال أن هذا تحقيق عظيم وتوحيد تائمٌ، وليقربوا بذلك من الصابئة الفلاسفة الذين يقولون: [ليس] له إلاّ صفة سلبية أو إضافية. وقريبٌ منه مذهب الجهمية النافية للصفات، فإن هؤلاء لا ينفون الأسماء ولا الأحكام التي هي الصفات القولية الخبرية، وهو الإخبار عنه بأنه يخلق ويرزق، وإنما ينفون المعاني التي يستحقها بنفسه. وقد قَرَّرتُ فسادَ مذاهب هؤلاء في مواضع، وبيّنتُ في مخالفتَها للكتاب والسنة والإجمَاع ولفطرة الله التي فطر الناس عليها، وفسادها بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة. وقد رأيتُ هؤلاءِ الغالية من الإسماعيلية الباطنية قالوا في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي هو الدرجة السابعة، وهو آخر المراتب عندهم، وهو جحود الصانع بالكلية وجحودُ النبوات والشرائع والجزاء في الآخرة، قالوا: إن أقرب الطوائف إليهم هم المتفلسفة الصابئة، قالوا: لكن ليس بيننا وبينهم خلافٌ إلاّ في واجب الوجود، يعنون الذي صدرتْ عنه الممكنات، فإنهم يُثبتونه ونحن لا نُثبته. وهكذا حدثني بعض أكابر مشايخ هؤلاء الاتحادية، وكنتُ لما بينتُ له حقائقَ أمرِهم يتعجبُ من ذلك ويستعظمه ويقول: هؤلاء الفقهاء لا يفهمون هذا، صُمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون، حدثني أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 سعد الدين ابن حمويه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلاّ فرقٌ لطيف. وهذا حقيقة هذا القول المحكيّ عنه، فإن الإلحاد المحض نفي الصانع بالكلية، وأن هذا العالم الموجود ليس له صانع، فإذا قال القائل: إن هذا العالم الموجود هو الصانع، وهو الصانع المصنوع، فقوله مثل قول الملحدة المحضة في جحود ربّ العالمين. لكن ذاك لا يحتاج أن يقول: ظهرَ فيه صانعُه، وهذا يقول: هو صانعُه وما هو غير صانعه، لكن الصانع له ذات، وهو الوجود المطلق المرئي الذي له اسم ولا صفة، وله أسماءٌ وصفات، وهي نسبةُ ذلك الوجود إلى مظاهرِه ومجاليه أو نحو هذه العبارات التي ليس لها حقيقة في الخارج، وإنما كلّ منهم يتخيَّلُ نوعًا من الكفر ويقوله، ويقول: إنه غاية التحقيق ونهاية التوحيد وحقيقة النبوة، فيحتاج أهل العلم والإيمان إلى مجاهدتهم بالقلب واليد واللسان، فيحتاجون إلى شرح مقاصدهم -لتتبيَّنَ أنواع كفرهم، ولئلاّ يحسب الجهّال بهم أنَّ تحتَها حقائق إيمانية، فيؤمنون بالجبت والطاغوت مجملاً أو مفصَّلا، لأنهم منتسبون إلى الإسلام ومدَّعون أنهم سادات العالم وأفاضل الخلق، حتى قد يتفضلوا على الأنبياء -كاحتياج موسى إلى جهادِ فرعون، وإبراهيم الخليل إلى مناظرة الذي حاجَّه في ربّه، واحتياج المؤمنين إلى جهاد القرامطة الباطنية، فالله يفتح بين أهل العلم والإيمان (1) .   (1) انتهى ما في الأصل. وكتب بعده فيه: "بياض كبير". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 مقَدّمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذه مجموعة خامسة من "جامع المسائل" تحوي 18 رسالة وفتوى لم تُنشر ضمن "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) ، اعتمدتُ في إخراجها على أصول خطية، ووجدتُ اثنتين منها (برقمي 3 و9) ضمن كتب مطبوعة، فاعتمدتُ عليها لعدم العثور على مخطوطاتهما في المكتبات التي زرتُها أو راجعتُ فهارسها. والرسائل الآتية بأرقام (1، 4، 6، 7، 10، 12، 13، 14) تُطبع هنا لأول مرة، والبقية طُبِعتْ من قبلُ طبعاتٍ متفاوتةً في الصحة وعلى مناهج مختلفة في التعليق والتحقيق. ومجملُ ما لاحظتُه في أكثر هذه الطبعات -مع اعترافي بفضل السبق للقائمين عليها- أنهم لم يهتمّوا بضبط النصّ وتحريرِه وإخراجه سالمًا من التصحيف والتحريف والسقط، بل انصرفوا إلى التعليق عليها، ونَقْل كلام المؤلف من كتبه الأخرى في صفحات، والتعريف بالأعلام والبلدان والفرق، وإحصاء الفروق بين النسخ (وجلُّها من تحريف النسّاخ) . وألحقَ بعضُهم بالكتاب فصولاً ليست منه، كما في "الأموال السلطانية" (الطبعة الثانية بمكة المكرمة 1409) ص 93-99، وفي "شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (ط. دار ابن حزم) ص 46-55. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 ومن أمثلة الاضطراب ما وقع في الكتاب الثاني المشار إليه (ص 39) : "وما نقله بعض المفسرين في أنه تزوجها، وإنما هو منقول عن أهل الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان لا يصلُ إليها". وأن يوسف تزوجها بعد ذلك فوجدها عذراء، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يصدِّق به، فإن هذا لم يخبر بنقله أحد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [وقد] قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذّبوهم". انظر السياق الصحيح في طبعتنا (ص 253، 254) لتعرف مدى الخلط والاضطراب الحاصل في هذه العبارة. ومنهم من اجتهد في إخراج النصّ بالاعتماد على نسخٍ متأخرة وناقصة، ولم يطلع على الأصل القديم الموجود في بعض المكتبات، وبعضهم اعتمد على أصول قديمة ولم يُحسِن قراءتها. والأمثلة على ذلك كثيرة، لا أحبُّ الخوض فيها وبيان ما حصل من الناشرين من أوهام وتصرفات، وأقول: جزى الله من أحسن منهم وتجاوز عمّن أساء، ووفقنا جميعًا لما فيه الخير والصواب، إنه سميع مجيب. • وصف الأصول المعتمدة الأصول التي اعتمدتُ عليها في النشر تتفاوت في الجودة والقِدم، وفيها ما يصعب الاستفادة منها بسبب رداءة الخط وكثرة التصحيف والتحريف، وقد بذلتُ الجهد في قراءتها قراءةً صحيحة دون الإشارة إلى الأخطاء والتحريفات الواقعة فيها، وتوقفتُ عند الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 بعض العبارات والألفاظ أيامًا حتى توصّلتُ إلى حلّها وفكّ الرموز عنها، وأشرتُ إلى المواضع التي لم أهتدِ فيها إلى الصواب، وهي قليلة. وفيما يلي وصفُ هذه الأصول: (1) "ضابط التأويل": توجد نسخته الخطية في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية برقم [2775] ، وهو أول كتاب من "مجموعة رسائل" لشيخ الإسلام بخطوطٍ مختلفة في تواريخ متباعدة. عدد أوراقه 22 ورقة، وليس كاملاً، فقد كُتِب في آخره: "آخر ما وُجد، والله أعلم، وليست كاملة". ويبدو أنه مأخوذ من "الكواكب الدراري"، فقد ذكر في آخر الكتاب: "وهو آخر المجلد الخامس بعد المئة من الكواكب الدراري، ولله الحمد والمنة، وصلواته وسلامه وبركاته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. غفر الله لمؤلفه ولكاتبه ولقارئه ولمن نظر فيه ولجميع المسلمين. يتلوه في السادس بعد المئة تفسير سورة سبّح، وهي مكية" وفي النسخة بياض في مواضع، أشرتُ إليها في التعليقات، وفيها اضطراب وغموض وشطب وإلحاق كثير، وكأنّ الناسخ نقلَ من الأصل فرسَم الكلمات كما وجدها دون أن يفهمها. والكتاب في الأصل ردٌّ على من انتقد "الرسالة المدنية في الصفات" التي أرسلها المؤلف إلى الشيخ شمس الدين. الدُّباهي، فقد اقتبس منها ومن كلام المنتقد لها الذي لم يُسمِّه، وأطالَ في الردّ عليه، ولم يصل إلينا بتمامه. وخطبة الكتاب مسجوعة، ولا غرابةَ فيها، فقد وجدنا المؤلف يميل إلى السجع في مقدماتِ بعض كتبه، مثل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 "شرح حديث إنما الأعمال بالنيات" (الذي وصل إلينا بخطه) وكتاب "تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل" (الذي نقل خطبته بتمامها ابن عبد الهادي في "العقود الدرية" ص 29- 35) وغيرهما. (2) "قاعدة في الوسيلة": توجد نسختها في مكتبة الدولة ببرلين برقم [2088 (We. 1708) ] (الورقة 83-99) ، وذكر المفهرس أنها من القرن التاسع (1) . والنسخة بخط نسخي، وفيها بعض الأخطاء من الناسخ الذي لم يذكر اسمه. (3) "الفتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله) ": ذكرها ابن رشيِّق (2) وقال: إنها بضع وعشرون ورقة، وذكرها أيضًا ابن عبد الهادي (3) ولم أعثر على نسخة خطية منها، والمنشور هنا يُمثل قطعة منها توجد في "شرح الكوكب المنير" (2/34-45 من طبعة جامعة أم القرى سنة 1400) . (4) "فتوى في الخضر": ذكر ابن رشيق (4) رسالة في الخضر هل ماتَ أو هو حيٌّ؟، وذكرها ابن عبد الهادي (5) وقال: "واختار أنه مات". وقد نُشر في "مجموع الفتاوى" (4/338-340) ما يخالف   (1) انظر فهرس مكتبة برلين (2/449) . (2) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" ضمن "الجامع" (ص 235) . (3) "العقود الدرية" (ص 36) . (4) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 237) . (5) "العقود الدرية" (ص 54) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 هذا الاختيار، واستشهد به أحد علماء اليمن، فردَّ عليه قطب الدين الخيضري (ت 894) في كتابه "افتراض دفع الاعتراض"، وقال (ق 13أ) : "هذا الذي نقله عن ابن تيمية ليس هو اعتقاده في مسألة الخضر، وإنما نقله عن الطائفة القائلين بحياته. والمنقول عن ابن تيمية ترجيح القول بوفاته، وقد تتبعتُ جوابَ ابن تيمية في هذه المسألة الذي نقل عنه الطحاوي هذا الكلام، فلم أزل حتى ظفرتُ به، فوجدتُه قد قال بعد حكاية هذا القول واحتجاج القائلين به ما نصُّه ... ". ثم نقل الفتوى، وقال بعدها (ق 14ب) : "فهذا هو المحفوظ عن ابن تيمية في حال الخضر. وقد تكلم على ذلك في عدة مواضع من تصانيفه وفتاويه، وقد وقفت له على فتاوى كثيرة سئل عنها في هذا المعنى". ونظرًا لأهمية هذه الفتوى ننشرها في هذه المجموعة بالاعتماد على ما ورد في كتاب "افتراض دفع الاعتراض" نسخة مكتبة الدولة في برلين برقم [2530 (Lbg. 604) ] ، (الورقة 13أ-14ب) (1) . والقول بوفاة الخضر هو المعروف عن الشيخ، كما في كتابه "الرد على المنطقيين" (ص 184-185) و"مختصر الفتاوى المصرية" (ص 198) و"مجموع الفتاوى" (4/337، 27/100) ، وهو الذي نقله ابن القيم عن شيخه في "المنار المنيف" (ص 68) .   (1) أشكر أخي الأستاذ أحمد الحاج الذي أوقفني عليه وصور لي الصفحات المطلوبة منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 (5) "سؤال في يزيد بن معاوية": توجد نسخته الخطية في مكتبة جامعة برنستون برقم [520] (الورقة 63 ب-71 ب) ، وهي نسخة مصححة ومقابلة على الأصل، فقد كتب في آخرها: "بلغ مقابلةً على الأصل، ولله الحمد". ولعلها من مخطوطات القرن الثامن. وكانت في ملك الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن الشطي الحنبلي سنة 1280، كما يدلُّ عليه التملك الموجود بخطه على صفحة العنوان. وللشيخ كلام آخر في هذا الموضوع في "مجموع الفتاوى" (4/481-488) يختلف عما هنا. وذكر ابن رشيق (1) وابن عبد الهادي (2) له رسالة في أمر يزيد هل يُسبُّ أم لا؟ ولا ندري هل هي إحداهما أو غيرهما. (6) "فصل في اسمه تعالى القيوم": أصله في دار الكتب المصرية برقم [330 تفسير تيمور] (ق 102-115) ضمن مجموع، وهو بخط حديث لم يكتب عليه تاريخ النسخ واسم الناسخ، وفي هوامشه بعض التصحيح. (7) "فصل في معنى الحنيف": هو ضمن المجموع السابق (ق 88-97) . (8) "فصل إذا كان في العبد محبة": توجد مخطوطته ضمن   (1) أسماء مؤلفات شيخ الإسلام (ص 237) . (2) "العمود الدرية" (ص 54) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 مجموعة في مكتبة المكتب الهندي بلندن برقم [عربي 1857 من مجموعة دلهي] (الورقة 117-121) ، وهي بخط نسخي حديث، وليس عليها اسم الناسخ. وفي أول هذه المجموعة ما يفيد أنها كانت في "ملك الفقير أحمد الباسطي بن عبد الصمد، ثم ملكه عبد الرحمن أحمد خادم الإمامين الأعظمين". وقد نشره الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله ضمن "دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى محمود محمد شاكر" (ص 437-452) ط. القاهرة 1403، وهي نشرة جيدة. (9) "فصل في انتفاع الإنسان بعمل غيره": هذا الفصل مقتبس من كلام الشيخ في "حاشية الجمل على تفسير الجلالين" (4/236- 237) ، وقد أرشدني إليه الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، فجزاه الله خيرًا. ووجدتُه باختصارٍ في مصادر أخرى، مثل: "حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير البيضاوي" (4/416) و"حاشية الصاوي على تفسير الجلالين" (4/142) و"روح البيان" لإسماعيل حقي (9/248-249) . ولشيخ الإسلام فتوى في هذا الموضوع ضمن "مجموع الفتاوى" (24/306-313) قرَّر فيها أن أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له وبما يُعمل عنه من البرّ، وأن هذا مما يُعلَم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع. ثم سردَ بعض هذه الأدلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 وقال في "شرح حديث أبي ذر" ضمن "مجموع الفتاوى" (18/143) : "وقد بيّنا في غير هذا الموضع نحوًا من ثلاثين دليلاً شرعيًّا يبيِّن انتفاع الإنسان بسعي غيره". وهذا كله يؤكد صحة نسبة الفصل المذكور إلى الشيخ. (10) "رسالة في الاتباع": هي ضمن مجاميع المدرسة العمرية في دار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع رقم 18 (عام 3755) ] . (الورقة 6-20) ، مخرومة من أولها، وقد ذهب ذلك بعنوانها. وفيها خرمٌ آخر بين الورقتين 14 و15، فالكلام ليس بمتصل فيهما. والنسخة جيدة كتبت بخط نسخي واضح من خطوط القرن الثامن تقديرًا. وقد عنونها مفهرسُ المجاميع بـ "رسالة في التوحيد" (1) ، والكلام فيها يدور حول اتباع السنة ونبذ البدع، فيحسُن أن تسمَّى "رسالة في الاتباع". ولشيخ الإسلام "قاعدة في وجوب الاعتصام بالرسالة، وأن كلّ خير في العالم فأصله متابعة الرسل" (2) ، و"قاعدة في أن كل عمل صالح أصله اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (3) ، و"اتباع الرسول بصريح المعقول" (4) . (11) "شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن": ذكر   (1) انظر (فهرس مجاميع المدرسة العمرية" (ص 82) . (2) "العقود الدرية" (ص 49) . ونشرت ضمن "مجموع الفتاوى" (19/93-105) . (3) "العقود الدرية" (ص 47) و"أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 46) . (4) ضمن "مجموع الفتاوى" (10/430-453) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 ابن عبد الهادي (1) أن الشيخ شرح هذا الحديث مراتٍ عديدة. وقد وصل إلينا أحد شروحه للحديث في النسخة الخطية الموجودة بدار الكتب المصرية تحت رقم [20545 ب] (ق 1-9) ، وقد كتبت بخط نسخي جيد، وليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع تقديرًا. وهذه النسخة كثيرة الأخطاء والتحريفات، وفيها اضطراب شديد في موضع أشرتُ إليه فيما مضى. (12) "فصل في قوله: أصدق كلمة قالها شاعر ... ": هو ضمن المجموع الموصوف سابقًا برقم (7) ، الورقة 97-102. (13) "المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية": وصلت إلينا ثلاث نسخ منها: إحداها: ضمن مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع 40] (الورقة 320-325) بخط العلاّمة المحدّث ابن الملقِّن (ت 804) ، فقد جاء في آخرها: "تمت الفتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري الأندلسي الشافعي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين". وهو ابن الملقن كما ذكرنا، ولم يثبت تاريخ النسخ، ولعله كتبها في أواخر القرن الثامن. والنسخة الثانية: في الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية [204 مجاميع] الرسالة الخامسة ضمن المجموع، بعنوان "جواب عن حكم   (1) "العقود الدرية" (ص 62) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 الصلاة خلف المالكية وغلط المانع". وهي بخط قديم (1) . والنسخة الثالثة: ضمن "الكواكب الدراري" لابن عروة، في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [578] (الورقة 6-8) ، وفيها بعض الأخطاء. وتوجد هذه المسألة ضمن "مجموع المنقور" (1/111-115) ، ولكنها مختصرة هناك، واعتمدتُ على النسخة الأولى في إثبات النصّ لكونها أصحّ من غيرها. (14) "رسالة إلى الملك المؤيد": توجد نسختها الخطية ضمن المجموعة التي سبق وصفها برقم (9) ، الورقة 121 ب-126 أ. وقد ذكرها ابن رشيق (2) وابن عبد الهادي (3) بعنوان "رسالة إلى ملك حماة". (15) "رسالة إلى الملك الناصر في شأن التتار": توجد النسخة الفريدة منها في مكتبة كوبريللي برقم [1142] (الورقة 174- 179) ، وقد كتبت سنة 758 بخط نسخي ممتاز. وللشيخ رسالة أخرى إلى الملك الناصر بعد فتح جبل كسروان، نشرتْ ضمن "العقود الدرية" (ص 182-194) . ولعلها تلك التي أشار إليها ابن رشيق (4) وابن عبد الهادي (5) بعنوان "رسالة إلى ملك مصر".   (1) انظر فهرس الخزانة التيمورية (4/30) . (2) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 249) . (3) "العقود الدرية" (ص 51) . (4) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 249) . (5) "العقود الدرية" (ص 51) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 (16) "قاعدة في الانغماس في العدوّ": ذكرها ابن عبد الهادي (1) ، وتوجد نسخة خطية منه بعنوان "رسالة في الجهاد" ضمن مجموع رسائل لشيخ الإسلام في دار الكتب المصرية برقم [444 فقه تيمور] ، وهي في 48 صفحة بخط حديث، كُتِبت في 25 من محرم سنة 1319. وناسخها عبد الحميد ... ، كما في خاتمة الرسالة الثانية من هذا المجموع. والنسخة كثيرة الأخطاء والسقط، وقد أشرتُ إلى بعضها في التعليق. (17) "مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة": هي الرسالة الثالثة ضمن المجموع السابق، في 75 صفحة، بخط الناسخ المذكور. (18) "قاعدة في الأموال السلطانية": توجد منها نسخة في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 23 ب-29 ب) ، كتبت في 15 من شعبان سنة 814 بخط نسخي جيّد، وهي مقابلة على الأصل كما يظهر من الدوائر المنقوطة. وقام بنسخها محمد بن أبي شامة في مدرسة أبي عمر بدمشق، وقد قال في أول الرسالة: "نقلتُها من النسخة التي نُقِلت من خط شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن قُوبلتْ". ومنها نسخة أخرى بعنوان "قاعدة شريفة في الأموال المشتركة" في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم [13754] (في 7 ورقات) ، وهي مكتوبة بخط فارسي حديثٍ، وليس عليها اسم الناسخ وتاريخ   (1) المصدر نفسه (ص 48) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 النسخ، ولعلها كُتِبت في أوائل القرن الرابع عشر. وهذه النسخة كثيرة الأخطاء، ولذا لم أرجع إليها إلاّ في مواضع قليلة لاستدراك السقط أو تصحيح الخطأ في النسخة الأولى. وبعد، فهذا وصف إجمالي للأصول المعتمدة في تحقيق هذه الرسائل، وأرجو أنني قد وُفّقت في قراءتها وإخراجها ضمن هذه المجموعة. ولا يفوتني أن أشكر هنا أولئك المحققين الأفاضل الذين قرأوا هذه المجموعة قبل دفعها إلى المطبعة، وأبدوا لي ملاحظات وتصويبات مهمة. والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وهو حسبي ونعم الوكيل. محمد عزير شمس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 نماذج من النسخ الخطية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 ضابط التأويل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يَسِّرْ و [أعِنْ] (1) قال الشيخ الإمام العالم العامل شيِخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية قدَّس الله روحَه ونوَّرَ ضريحَه: الحمد لله ربّ العالمين، مالك يوم الدين، والحمد لله الذي بعثَ إلينا رسولاً يتلو علينا آياتِه و [يُزكِّينا] ، ويُعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنّا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين. إنه أكمل لنا [ديننَا] ، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلام دينا، وأخبرَ أنّ الدين عنده الإسلام هذا الدين، فمن يَبتغِ غيرَ الإسلام دينًا فلن يُقبَل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. وجعلَ الكتابَ الذي أنزلَه بيانًا للناس وهُدًى وموعظةً [للمتقين] ، وأخبرَ أنه أنزلَه بلسانٍ عربيٍّ مبين، كما أخبرَ أنه ليسَ على الرسول [إلاّ البلاغ المبين] ، وذكرَ أن آياتِه أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصلَتْ، إذ الإحكام والتفصيل يجمع خبرًا وطلبًا، وكمال القصد واللفظ الذي تتمُّ به وتتبيَّنُ الأشياء، (مِن لَّدُن حَكِيمٍ) يحصلُ بحكمتِه الإحكامُ، (خَبِيرٍ (1)) (2) يُفصِّل الخطاب للمخاطبين. [فليس] كل من هُدِي للحق يسدد الخطاب، كما أنه ليس كلّ من سدّد الخطاب يَبلُغ   (1) ما بين الأقواس المربعة في هذه الصفحة مطموس أو مخروم، وقد أثبتنا ما يناسب السياق. (2) سورة هود: 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 إلى أفهام المستمعين بالإفصاح البليغ يكون قد هُدِي للحق. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي بن أبي طالب (1) : "يا عليُّ! سَلِ الهدى والسداد، [واذكُر بالهدى] هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك [السهم] " إلى كمال العلم والقصد والقول والعمل. فهذا الدعاء المبين وما وَصَف سبحانه كتابه ورسوله من البيان والتفصيل والهدى والتبليغ والإفتاء والموعظة والشفاء والقصص والشهادة والرحمة، كقوله سبحانه وتعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ … ) (2) . ثم إنه سبحانَه دعا إلى التفكر والتذكر والتأ [مّل] والفقه لهذا البيان عبادَه المبلَّغين، وجَعلَ رسولَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو [المبيِّن] لما حَصَل مجملاً أو مشكلاً على المكلَّفين، وثبتَ بالأدلة المتعددة ضَبْطُ علماء أصحابه لمعانيه كضَبْطهم لحروفه المنقطعة القرين، وكانوا يُلْقُون ما تَلَقًّوه عن رسولهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أصحابهم من التابعين من الكتاب ظَهرًا وبطنًا ومن الحكمة صورةً ومعنًى مشتركين دون مختصّين، فيشتركون كلُّهم أو أكثرهم في كثير من ذلك أو أكثر، ويختصُّ بعضهم ببعضِ ذلكَ وكلٌّ على ما يأثِرُه أمين، شائع بينَهم معرفةُ أصول دينهم وعمل ملّتهم جملةً وتفصيلاً ليسوا فيها مختلفين، وإن كان قد يمتاز بعضهم من زيادة العلم ببعضِ ذلك بما ليس عند الباقين، واستفاضتِ النقول عنهم أنهم تعلَّموا من نبيِّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جميعَ ما يحتاجون إليه فيصيرون من الكاملين وما يصيرون به من الأكملين.   (1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/268) . وأصله عند مسلم (2725) . (2) سورة النحل: 44. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 ولهذا كانت البدعُ محرمةً في وقتِ جماعتِهمِ، لعدمِ مُقْتضيها أو لوجودِ مُنافِيها عن هذا الدين، ثم نبغتِ البدع وتعَدَّت من الصغير إلى الكبير على قضاءٍ سبق من الكتاب المبين، فلما قُتِلَ الخليفة المظلوم الشهيد وافترقت الأمة بعده على خلافة الخلفاء الراشدين نَبغ في آخر خلافة النبوة بدعتانِ متقابلتانِ تقابُلَ المغضوب عليهم والضالّين: الخوارج يُكفِّرون الخليفتين ومن تولاّهما، يُحِلُّون دماءَ أهل القبلة، ويفعلون بأهلِ الإيمان فعلَ اليهود بالنبيين؛ والروافض يَغْلون فيمن يَستحقُّ الولاية والمحبَّةَ، فيُطْرونَه إطراءَ النصارى، حتى وَصفوا البشرَ بالإلهية، وألحقوا الأئمة بالمرسلين. فتولَّى أميرُ المؤمنين عقوبة الطائفتين: بقتالِ الطائفة الممتنعة من المارقين، وقَتْل المقدورِ عليه من الغالين، والتعزير بجَلْدِ المفترين. ثمَّ لما صارتِ الجماعةُ على الأقذاء، وانصرف عن ضبطِ دقيقِ الدين وعنايةِ الأمرِ في أواخرِ عصر الصاحبين حدثتْ أيضًا بدعتان متقابلتان ِ: بدعة القدرية والمرجئة على منهاج الأولين، هؤلاءِ عَظَّمُوا أمرَ المعاصِي، حتى أوجَبُوا نفُوذَ الوعيد بجميع أهل الكبائر أو جميع المذنبين، ومَنَعوا شفاعة الشفعاء ورحمة أرحم الراحمين، وأعظَموا أن يكون الله قدَّرَها أو شاءَها أو يَسَّرها، وسَلَبوا الإيمانَ بالكلية لمن اتصفَ بها من المسلمين. وهؤلاءِ استخفُّوا بأمر الواجبات والمحرمات، حتى استبعدَ بعضُهم نُفُوذَ الوعيدِ على الكبائر المُوبِقاتِ، وزعموا أن ذلك نوع من التخشين. وربما احتجُّوا لنفوسِهم بالقدرِ السابق، وتَشَبَّثُوا بكونهم مجبورين، وسَوَّى عامَّتُهم في الإيمان والدين بين الأبرار والفُجَّار والصالحين والفاسقين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 ثمَّ مَن تمسكَ ببعضِ شُعَب الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ولم يُوافِقْهم على أصلِ بدعتِهم وَلا دَعَا إلى مذهبهم كثيرٌ من المتقدمين، وهم جمهور من روى عنه أصحاب الصحيح ممن يُنسَب إلى بعض هؤلاء المخطئين. فقام يَرُدُّ هذه البدعةَ بقايا الصحابة العالمين، كابن عمر وابن عباس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الغُرِّ الميامين. ثم لمَّا فرغَ الشيطان من المؤمنين ببدعتين رفعًا وخَفْضًا، ومن الدين ببدعتين إبرامًا ونقضًا، شَرَعَ في ربّ العالمين، فحَدَثَتْ بدعتا الجهمية في أواخر عصر التابعين: هؤلاء ينفون عنه ما جاءت به الرسلُ من الصفات، كأنه عندهم من الأمور المعدومات، مضاهاةً لضُلاَّل الصابئين. ثم كثير منهم أو أكثرهم إن اضطُرَّ إلى إثباتِه جعلَه لآخر شاملاً لمخلوقاتِه شمولَ الكلِّ لأجزائِه شائعًا، حتّى قد خصّهم بالبحر وأمواجه في مصنوعاته مشاع الجنس المطلق في أفراده (1) ، وجعلوه الوجود المطلق الذي لا يوصف بتغييره في مُعيَّنين، وبعضهم يجعله ساريًا في المحدثات بحيث لا يبقى له عندهم حقيقة خارجية من الأرض والسماوات. تعالى الله عن افتراء الظالمين. فشاركوا النصارى في الحلول والاتحاد، وزادوا عليهم بعموم الحلول والاتحاد في الموجودين. ثم ضربُوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل وأصنافَ المجاز والتأويل، ولا أبقوا العقول كما فطرت عليه من المعقولات وما أتى إليها من المسموعات، تارةً بدعوى النظر الثاقب للنُّظَّار، وتارةً بدعوى الوجد الصادق للعابدين.   (1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 ثم آل الأمرُ بكثيرٍ منهم إلى أن عمَّمَ هذا فيما جاءت به الرسلُ من الوعد والوعيد، وما وصفتْه من النعيم والعذاب في داري الكفار والمؤمنين، فسَلَبوا داري القرارِ ما عُرِفَ لهما من الصفات ونفوهما، إذ أثبتوهما كإثباتِهم إله المؤمنين، فحملوا مثل ذلك في المحارم والعادات، تارة ينفون عن الأفعال أحكامها الشرعية، وتارةً يثبتُون ذلك في حقّ العموم دون المتميزين، وعصامهم في جميع ذلك نوع تعطيلٍ يسمونه بالمعقول، ونوعُ تحريفٍ يسمونه بالتأويل ويُزخرِفونه بالتزيين. وهؤلاء الممثِّلة يُمثِّلون صفاتِه بصفات المخلوقات، ويجعلونه من جنس المصنوعاتِ وصِنْفِ الآدميين، حتى وصفَه بعضُهم باللحم والدم والعظام -تعالى الله عن ذلك- مُضاهاةً لكثير من اليهود في تمثيلهم لربِّهم بالمخلوق، حتى عَبَدُوا العِجْلَ وكانوا أتباعَ الدّجال اللعين، وإن كان كثير من اليهود أو أكثرُهم معطِّلةً جهميةً ذاتَ تحريفٍ يسمونه التأويل، يَفِرُّون به -زعموا- من تحيُّزِ ذي القوة المتين، فإنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "لَتَركِبُنَّ سنَنَ مَن قبلَكم حَذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتُموه"، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَنْ". وجبَ بمقتضى هذا الخبر البيِّن أن يكون في أمتنا ما كان في أهل الكتابين قبلنا. هذا، ثم المهتدي منهم قبل المبعث ضلَّ بعدم اتباع نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلذلك افترقت أمتنا زيادةً عليهم ثلاثةً وسبعين.   (1) أخرجه البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 واليهود والنصارى فيهم معطِّلةٌ وممثلّةٌ، وإن كان الغالبُ على خاصّتهم التعطيل، فلذلك كانت المعطِّلة فينا أكثر من الممثّلين، حتى إنّ المعطِّلة يكثر وجودُهم، والممثّلة لا يكاد يُوجَد منهم إلاّ الواحد بعد الواحد في الأحايين. فلما حدثتْ بدعةُ التعطيل والتمثيل أنكر ذلك فقهاء التابعين، وكذلك من بعدهم من العلماء ورثة الأنبياء وأئمة المتقين، وكان ذلك عندهم أعظمَ من جميع بدع المبتدعين، حتى أَعْظَمَ السلفُ أمرَ الجهمية ونحوهم وكَفَّروهم، وإن كانوا عن غيرهم متوقفين، واحتاجوا لانتشار البدع إلى ضبط السنن الدامغة للمبتدعين، وكان أسعدُ الناس بهذه الوراثة أصحابَ الكتاب والآثار المأخوذةِ عن سيّد المرسلين -وهم أهل القرآن والحديث- الباحثين (1) في كلّ باب في العلم عن آثار الصحابة والتابعين، العالمين بصحيحه وعليلِه، الفاهمين بمنطوقِه ودليلِه، السالكين سبيلَ السابقين، الذين أخبرَ بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث يقول: "يَحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهَلين" (2) . وكانوا هم أئمةَ الإسلام الذين هم قدوةُ المؤمنين، بحيث كان   (1) كذا بالنصب هنا وما بعده، وهو صفة لـ "أصحاب الكتاب ... ". (2) أخرجه البيهقي (10/209) وابن عبد البر في التمهيد (1/59) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 29) من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً. ورُوِي موصولاً من حديث أسامة بن زيد، وصححه العلائي في بغية الملتمس (ص 34) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 أربابُ هذه البدع في أيامِهم أصاغِرَ مَقموعِينَ، [و] كانت دلائلُ الحقّ وآياتُه ظاهرةً مشهورةً لمن كان لها يستبين. فقُتِلَ برأيهم غَيْلاَن القدري والجَعْدُ بن درهم والجهم بن صفوان المعطِّلان ونحوهم من الظالمين. إلى أن كان في أواخر المئة الثانية قَلَّ أولئك الهُداةُ وكثُر هؤلاء الغُوَاة، واستعوزُوا إلى باطلهم بعضَ الوُلاَةِ، حتى ظهرتْ محنةُ الصفاتِ في علماء المسلمين، ودَعَوهم إلى القولِ بخلق القرآن، إذ هو مفتاحُ جُحودِ الصفات، وأقربُ من غيرِه إلى المبتدئين. وظهرَ في الإسلام ما لم يُعْهَد مِثلُه من الفتنةِ في الدين، حتى عدَّ الناسُ من قام به ما كان أسى وصبرًا من العلماء، ومن أطفأَ شَرَرها من الخلفاء دفعًا بجراءة، مُفَضلاً على غيرِه من الأولين، وانكسرتْ بذلك سَوْرَةُ أهل البدع ظاهرًا، ولكن في النفوسِ مِن طواياها كَمِيْن مَكيْن. وصارَ من أسباب الفتنة أنَّ نَقَلَةَ الآثار قَلَّ فيهم الفقهُ والعَقْلُ، كما أنّ ذوي النظر والاعتبار ضَعُفَ علمُهم بآثار النبيين، ولن يتِمَّ الدينُ إلاّ بمعرفةِ الآثار النبوية والسَّلَفية وفِقْه لما قَصَدُوه من المعاني الدينية، كما كان علماء السالفين، وصارَ ذلك سببًا لإعراض كثير من طلبةِ العلم من أعيانهم عن النظر في قواعدِ الدين. وظهرَ في الدولة المعتصميّة مُقاربًا للمحنة الجهمية من الطائفة الخرَّمِيَّة مَن يقول بتواتر النبيين جَريًا على منهاج الفلاسفة وسلوكًا لسبيلِ الصابئين، حتى جَرَت بينهم وبين المسلمين من الحروب ما هو مشهورٌ عند المؤرخين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 وظهَرَ بأثرِ ذلك من أَبْطَنَ ذلك من القرامطةِ الباطنية والطائفة الإسماعيلية الذين كثُرَ فسادُهم على الخاصة والعامة للدنيا والدين. وانتدبَ للردِّ على صُنُوْفِ الكُفَّار والمبتدعةِ طوائفُ من المتكلمين بِحُجَجٍ بعضها صحيح قويّ وبعضها مَهِيْن، لِصعوبَة الزام (1) علمًا وقصدًا، وعسر الاستبداد في هذا الباب بدرك اليقين، والهوس بفرح ما يقوم لها من الحجة على المنازع قبل تعقب ما يلزم الحجْةَ في سائر المواضع (2) . وهذا من أعظم الآفة على الناظرين والمناظرين، فيحتاج أن تطرد تلك الدلالة، ويلتزم من اللوازم ما لا يظن أن فيه إحالة، وإن كان مخالفًا لنصِّ مبين. وهذا هو السبب كثيرًا أو غالبًا في البدع المخالفة للنصوص أو الدافعة لما عليه كلُّ ذي عقل رصين، حتى صار من نَصَرَ السنةَ في غالب الأمر يُعدُّ من متكلميها، وإن اضطرَّه تحققُ حدِّه وطردُ دليلِه أحيانًا إلى ما ينافيها، إذ ذلك غامضٌ إلاّ على الأقلين. وخَرَج كثير ممن ينصر السنة بالآثار إلى الاحتجاج بما لا يَسُوغُ لأولي الأبصار، إمّا لضعف الإسناد، وإمّا لعدم المتن المتين، وكثُر في العلماء المحسنين في أكثرِ قولهم من المتأخرين مَن يقع في كلامِه من المخالفةِ للسنةِ ما يَرُوجُ عليه وعلى كثير من الناظرين، فيردُّ هذا عليه سائر حقِّه لأجل باطلِه، ويُلحِقُه بالمعطِّلين، ويَقبَلُ هذا جميعَ كلامِه لاعتقادِه فيه أنه كالسلف الماضين، ثم إذا صارتِ الشبهاتُ أهواءً أخرجتْ من النفوس الداءَ الدفين.   (1) كذا في الأصل. (2) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 وصَار كثير من طلبة العلم وأذكياءُ المباحثين يقفون على أقسام محصورةٍ وأمثال مَسْبورةٍ في كلام كثير من الآخرين، فتُوجبَ حُسْنَ الظنّ بعقولٍ تُدرِك تلك المطالب، وافتقارَ رجالٍ ذهبوا تلك المذاهب، وإن كانوا للسلف مخالفين، إذ ليس عندهم من السلف إلاّ أسماءٌ مستطيرة وكلمات ليست بالكثيرةِ المعتبرة. ولولا أُبَّهةُ الإسلام في قلوبهم لعدُّوهم من العَمِيْنَ، وإن كان في الناس مَن يَعتقد هذا أو يتوقف فيه، وإنما سببه ضعف آثار المرسلين. وإذا قيل "أهل الحديث" ذهبتْ أوهامُهم إلى قومٍ من الرواة وضَرْب من النساخ والمستمعين، وإن رفعوا البابةَ إلى قومٍ من الحفّاظ لبعض الأسماء واللغات إذا حدَّثوا، وظهر من الجهل والظلم اللذين وصف الله بهما الإنسان ما أوجبَ نقصَ العلم والدين. فهذا وأمثالُه أسباب لما قضى به قدر الله في العالمين. ثم مع ذلك فللهِ في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسُلِ -كما قال الإمام أحمد (1) - بقايَا من أهل العلم، يَدعُون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويَصبِرون منهم على الأذى، يُحيُون بكتاب اللهِ الموتَى، ويُبَصِّرُون بنور الله أهل العمَى، وإن كانوا هم الأقلينَ. بهم تقوم حجةُ الله في دِقّ الدين وجلِّه، ويُحفَظ بهم عمودُ الدين فرعُه وأصلُه إلى يوم الدين. هم الوَسَطُ في هذه الأمة، كما أن هذه الأمة هم الوسط في الناس، فهم شُهَداءُ عليهم بما أخذوه عن خاتم النبيين، وهم ورثةُ الأنبياء فيما جاءوا به من العلم، وخُلفاءُ الرسُلِ فيما قاموا به من البلاع المبين،   (1) في مقدمة "الرد على الجهمية والزنادقة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 وقد يتفرَّقُ فيهم علمُ النبوةِ إذا لم يَقُم به واحد، ويُغفَر للمخطىء منهم في مجتهداتِه إذا لم يكن عن سنن الاجتهاد بحائدٍ، كما يُعذر بعَدَمِ البلاع كثير من المؤمنين. فالحمد لله على ما بيَّن وأمرَ، وعلى ما قَضَى وقدَّر من هذه الأقانين (1) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك [له] ، شهادةً تُحصن قائلَها من النارِ وتُوجبُ له نورَ المتقين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسَله بأفضلِ كتاب وأَقْومِ دين، وأيده بأكمل الآيات وأَشرفِ البراهين، وبعثَه في خير أمةٍ وأتمِّ مكان وحِيْنٍ، وبيَّن به الحق بأفصحِ لغةٍ وأبلغ تبيينٍ، وأخرجَ به الخلقَ من الظلماتِ إلى النور المستبين، وجعله سراجًا منيرًا، كما جعلَ الروحَ الذي أوحاه إليه نورًا يَهدِي به المهتدين، وعَصمَه من مخالفةِ سِرِّه لعلانيته لا سيَّما في إيمائِه وخطابِه المستمعين، إذ لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنةُ الأعين (2) ، ولا يُومِضُ إيماضًا يَخفَى على الحاضرين، كلُّ ذلك تحقيقًا لكمالِ البلاغ وتنزُّهًا عن ظنون الملحدين، صلى الله عليه وعلى آله كما صلَّى على إبراهيمَ إمام المسلمين، وباركَ عليه وعلى آله كما باركَ على آل إبراهيم في العالمين، إنه سبحانَه حميد مجيب سميع لدعاءِ الطالبين، والسلامُ عليه ورحمةُ الله وبركاته وعلينا وعلى عبادِ الله الصالحين. أما بعد، فقد كان جَرى بيني وبين بعضِ الناس من نحوِ عشرِ   (1) كذا في الأصل، ولعله جمع "قانون" على غير المشهور. (2) كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (2683، 4359) والنسائي (7/105) عن سعد بن أبي وقاص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 سنينَ أو قريبٍ منها أو أكثر منها مناظرة في الصفاتِ والكلام على مذهب أهل التأويل فيها، التمسَ مني بعد ذلك بعضُ الأصحاب حكايتَها، فكتبتُها إليه، مع أن الكتابةَ لابُدَّ فيها من نوع زيادةٍ غيرِ متعمدةٍ ونقصانٍ، لكن المنقوصَ كثير، إذ الخطاب يحتملُ مَن البسط ما لا يحتمله الكتابُ، ومن الوَرعِ أن تنقُصَ من الحكايةِ ولا تزيدَ فيها. وتلك المناظرة -مع ما اشتملت عليه من القواعد المقررة والأصولِ المحرَّرة- لم تخْرُج مخرجَ تصنيفٍ، وإن كان لا غَرْوَ في جَعْلِها تصنيفًا. وصورةُ ما كاتبتُ به الطالبَ: فإن الله سبحانَه وتعالَى خلقَ عبادَه على الفِطرة، وكمَّل فطرتَهم بالنبوة، واصطفَى من الملائكة رسُلاً ومن الناس، ليُعلِّموا الأممَ ما لم يكونوا يعلمونَه، كما قال سبحانَه وتعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)) (1) . ولم يَبعَثْ رُسُلَه بغير فطرتِه التي فَطَرَ عبادَه عليها، ولا بإفسادِ عقولهم التي بها ينالون علمَ ما أنزلَه عليهم، بل بَعَثَ الرسُلَ بتعليم ما تَقصُرُ عقولُهم عن دَرْكِه، لا ما تَقضِيْ عقولُهم بإحالتِه، وأمرَهم بتقريرِ الفِطَر لا بتغييرِها. ولهذا قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)) (2) ، وقال في صفة المستحقين الرحمةَ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ   (1) سورة البقرة: 151. (2) سورة الأعراف: 199. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) (1) . وجَعَلَ حجتَه التي يَستحقُّ العذابَ تاركُها رُسُلَه المنذرين، دونَ مجرَّدِ الفطرةِ والعقل، كما قال سبحانَه وتعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)) (2) . فأخبر أنه أرسلَ الرسُلَ لئلاّ يَبقَى لأحدٍ حجة، فعُلِمَ أن ّ الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل، وأنه لم يَبْقَ لأحدٍ بعدهم. و"الحجةُ" اسم لما يُحتجُّ به، سواءٌ كانت بينةً أو شبهةً، وإن كان قد اصطلح كثير من المتأخرين قَصْرَ هذا اللفظِ على البينات دون الشُّبُهات. فإنّ الأول هو لغة القرآن ولغةُ العرب، كما قال سبحانه: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (3) ، وقال تعالى: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) (4) . وهي اسم لما يقصده المُحَاجُّ ويَؤُمُّه في حجاجه، ومثل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أحد أحبَّ إليه العذرُ من الله، من أجلِ ذلك بعثَ الرسُلَ مبشّرين ومنذرين" (5) . وقال سبحانه وتعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)   (1) سورة الأعراف: 157. (2) سورة النساء: 163-165. (3) سورة البقرة: 150. (4) سورة الشورى: 15. (5) أخرجه مسلم (2760) من حديث ابن مسعود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)) (1) . فأخبرَ سبحانَه أن كلَّ عامل يَلزَمُه عملُه، وأنَّ منفعةَ هداه وضلالته عائدةٌ عليه، وأنه لا يَحمل من سيئاتِ غيرِه شيئًا، وأنه لا يُعذَّبُ أحد حتى يُبعَث إليه رسول، وأنّ القُرى إنما تُهلَكُ بعد فِسقِ مُتْرَفيها. وقال سبحانَه وتعالى: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)) إلى قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)) (2) . فهذه الآيات تُشْبِهُ تلك الآيات. وأخبر سبحانَه عن عذاب الآخرة مثلَ ما أخبرَ به عن عذابِ الدنيا، فقال سبحانَه وتعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) إلى قوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى   (1) سورة الإسراء: 13-16. (2) سورة القصص: 47-59. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)) (1) . فأخبر سبحانَه عن المعذَّبين من الجن والإنس أن الرسل قد جاءتهم، وأخبرَ أنه لا يُهلِكُ القرى إلاّ بعد الرسل المذكِّرين. وقال سبحانَه: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)) (2) . فأخبر سبحانَه أنّ الزمر المَسُوقةَ إلى جهنم من الذين كفروا قد جاءتهم رسلُ الله يتلون عليهم آياتِه ويُنذِرونهم يوم القيامة. وقال سبحانه: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)) (3) . فأخبر سبحانَه وُتعالى أن كلَّ فَوج يُلقَى في النار يَعترِف بمجيء النذير ويُقِرُّ بتكذيبه، وأنه لو كان لهم عقلٌ أو سمع لكان ذلك سببًا لنجاتهم. وهذا نظيرُ قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (4) ، وقولي تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى   (1) سورة الأنعام: 128-131. (2) سورة الزمر: 571 (3) سورة الملك: 6-10. (4) سورة الحج: 46. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (1) . ودل ذلك علي أنه ليس مرادُه بالعقل أو بالقلب العاقلِ ما يستغني به عن الرسول بعد مجيئه، لأنه قد أخبر عن هؤلاء الذين قالوا: "لو كنا نسمع أو نعقل" أنّ النذيرَ جاءَ كلَّ فوجٍ منهم، فكذَّبوه وأنكروا رسالته فعلم أن مع هذا التكذيبِ لا يَبْقَى عَقْل مُنْجِي، وإن كان العقلُ باقيًا. وكذلك في الآية الأخرى قال سبحانه وتعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (2) ، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (3) ، فإنما ذكر ذلك لبيان الاعتبار بآثار المُهْلَكِين من الأمم الذين كذَّبوا الرسلَ وعصوهم، وهذا إنما هو عقلٌ يُنتَفَعُ به في الإيمان بالرسلِ وطاعتهم، وإن لم يحصل ذلك بلسانه أو بأمر لأخبارهم المفصلة، إذْ من الناس من يتدبر بنفسه، ومنهم من يحتاج إلى مُوقِظ. وقد أخبر سبحانَه وتعالى في غيرِ موضع العقلَ المتعلقَ بآياته، كقوله سبحانَه وتعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)) (4) . وقال سبحانه وتعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدم أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)   (1) سورة ق: 37. (2) سورة ق: 36-37. (3) سورة الحج: 46. (4) سورة العنكبوت: 43. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)) (1) . فبيَّن سبحانَه أن من تَرَك عهدَ الله إليه وَضَل عنه لم يكن يَعقل. وقال سبحانَه وتعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)) (2) . وقال أيضًا: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)) (3) . قال ابن عباس (4) : تكفَّل اللهُ لمن قرأ القرآن وعَمِلَ بما فيه أن لا يَضِل في الدنيا ولا يَشقَى في الآخرة، وقرأ هذه الآية. فأخبر سبحانَه أن من اتبعَ ما جاءَه من الهدى على ألسُنِ الرسلِ لا يَضِلُّ ولا يَشقى، فلا يحزن ولا يُعذب، وأنّ من أعرضَ عنه فإنه يُعذَّب بالمعيشة الضَّنْكِ، وأنه يكون أعمى يوم القيامة، ضِدّ المتبع لهداه. ثم بيَّن سبحانَه أنه يَعمى في الآخرة وإن كان بصيرًا في الدنيا، لأنَّ آياتِ اللهِ أَتَتْه فتَركها وأعرضَ عنها.   (1) سورة يس: 60-62. (2) سورة البقرة: 38-39. (3) سورة طه: 123-127. (4) أخرجه الطبري في تفسيره (16/147) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 وفي هذا بيانٌ واضح لأن المعرضَ عن آيات الله بتركِ الاستهداءِ بها يَعمَى ويُعَذَّب، ولا ينفعُه بَصَرُه وعقلُه. وبيَّن أن هذا الحقّ يَلْحَقُه وإن لم يكن مكذّبًا للرسل، لأنه علَّقه بمجرد الإعراض عن ذكره، وبيَّن أن ذلك نِسيانُ آياته التي هي تركها. ثم قال: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ) ، فمجردُ عدمِ الإيمان هو المؤثر وإن لم يكن ثَمَّ تكذيبٌ، فإن َّ للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إمّا التصديقُ، وإمّا التكذيبُ، وإمّا عَدَمُهما. وكلّ واحد من التكذيبِ وعدمِ التصديق كفرٌ. ولما كانَ الغالبُ على المعرضين عن هدى المرسلين الإعجابَ بآرائهم وبصائرِهم وعقولهم، والاستخفافَ بأتباعِهم، قال سبحانَه عن قومِ هود: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)) (1) . فأخبرَ سبحانَه أن السمعَ والبصرَ والفؤادَ لا يُغنِي مع الجحود بآياتِ الله. ومثل ذلك قوله سبحانَه: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (2) . فأخبرَ أن المنذَرين   (1) سورة الأحقاف: 26. (2) سورة غافر: 83-85. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 أُعجبُوا بما عندهم من العلم، وهذه حالُ من استغنى بعقلِه وعلمِه عمّا جاءت به الرسلُ. وأخبرَ سبحانَه أنَّه أحاطَ بهم ما كانوا يستهزئون به ممَّا أنذرتْ به الرسلُ. وهذه حالُ عامة المتكايسِين من هؤلاء الذين يُنكرون العقوباتِ التي أخبرتْ بها الرسلُ. وأخبرَ سبحانَه أن َّ الرسالةَ عمَّتِ الأممَ كلَّهم بقوله سبحانَه وتعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)) (1) ، وقال سبحانَه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)) (2) . وكما أخبرَ سبحانَه أنه لم يكن معذِّبًا أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث رسولا، أخبر سبحانَه أنه بعثَ في كل أمة رسولاً، لكن قد كان يَحصُلُ في بعض الأوقاتِ فَتَرات من الرسُل، كالفترةِ التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلَّم، كما قال سبحانه وتعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)) (3) . وزمان الفَترةِ زمان دَرَسَتْ فيه شريعةُ الرسول وأكثرُ الدُّعاةِ إليها   (1) سورة النحل: 36. (2) سورة فاطر: 24. (3) سورة المائدة: 19. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 إلاّ القليل، ولم يَدْرُسْ فيها علمُ أصولِ دينِ المرسلين، بل يَبقَى في الفترةِ من الدُّعاةِ من تقومُ به الحجةُ، كما قال الإمام أحمد (1) رحمه الله: "الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمانِ فَتْرَةٍ من الرسلِ بَقَايَا من أهل العلم، يُحيُون بكتاب الله الموتَى، ويُبصِّرونَ بها أهل العَمَى". وكما قال علي بن أبي طالَب -رضي الله عنه- في حديث كُمَيْل بن زياد: "لن تَخلُوَ الأرضُ مِن قائمٍ لله بحجةٍ، لئلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ الله وبيِّناتُه، أولئك الأقلون عددًا والأعظمون عند الله قدرًا" (2) . فمن قامت عليه الحجةُ في الإيمان والشريعة التي جاء بها الرسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجبَ عليه اتباعُ ذلك، ومَن دَرَسَتْ عنه شرائعُ الرسُلِ أو لم يكن رسولُه جاء بشريعة سوى القدر المشترك بين المرسلين ففرضُه ما تواطأتْ عليه دعوة المرسلين، من الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح، دونَ ما تميَّزَت به شريعةٌ عن شريعة. وهؤلاء -والله أعلم- هم الصابئون المحمودون في قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بالله وَالْيَوْمِ الآخر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (3) .   (1) في مقدمة كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة" كما سبق. (2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/79-80) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/49-50) ضمن حديث طويل. قال الخطيب: هذا الحديث من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظًا. وشرحه ابن القيم شرحًا وافيًا في كتابه "مفتاح دار السعادة" (1/123-153) . وفي إسناده أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف، وشيخه عبد الرحمن بن جندب الفزاري مجهول. (3) سورة البقرة: 62. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 فحمِدَ سبحانَه من هذه الأصناف الأربعة مَن آمن بالله واليوم الآخر وعملَ صالحًا، وجعلَهم من السعداء في المعاد، وهذا يُبيِّن أنّ في الصابئين من يكون سعيدًا في الآخرة حميدًا عند الله. وكذلك قال في سورة المائدة (1) : (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ) ، والنصارى مقدَّمون على الصابئين كما في سورة البقرة، ويُشبه -والله أعلم- أنهم قُدِّموا هنا لفظًا لتقدُّم زمنِهم، وجيىءَ بهم بَصيغة الرفع ليبيّن أن مرتبتهم التأخير، لأنّ المعطوفَ على "إنَّ" واسمِها بصيغة المرفوع إنما يُعطَف بعد تمام الكلام. والصابىء هو الخارج، ولهذا كانوا يُسمُّون مَن خَرج من دينهم الصابىءَ. والعلماء وإن كانوا قد اختلفوا في الصابئين فالأشبهُ بظاهر القرآنِ والعربية وما دلَّت عليه السِّيَر وما تقتضيه أصول الشريعة: أنَّ الصابئين هم المهتدون المستمسكون بأصول دين الأنبياء، وهو المتفَّقُ عليه من الإيمان والعمل الصالح دون شريعة معينة، لأنهم يكونون بذلك يَصْدُق عليهم أنهم خارجون من خصوصِ كل شريعة، ويَصدُق عليهم أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا. فأما من كان صابئًا لا يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر و [لا] يعمل صالحًا فهؤلاء الكفّار منهم، كعُبَّاد الكواكب ونحوهم، والقوم الذين بُعِث إليهم إبراهيم كانوا صابئة، وكذلك فرعون وقومُه، وكذلك أكثر   (1) الآية 69. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 أهل الأرض، وكان غالبُهم مشركين، وعلماءُ الصابئين هم الفلاسفةُ، فمن كان من أولئك الفلاسفة مؤمنًا بالله واليوم الأخر عاملاً صالحًا فهو من الصابئين الذين أثنى الله عليهم، ومَن لا فلا (1) . وهذا بخلاف المجوس والذين أشركوا فإنّ الله لم يَحْمَد أحدًا منهم، وإنما ذكرَهُم لبيان حكم الله بينهم وبينَ غيرِهم يومَ القيامة في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (2) . ولما كان معلومًا أن اليوم الآخر هو يوم القيامة، ولا يؤمن بيوم القيامة إلاّ أتباعُ الأنبياء، إذ مَن لم يتبع الأنبياءَ من الصابئين وغيرِهم إنما يؤمن من المعاد بمعاد الأرواح فقط، كما يؤمن به المجوس وبعض المشركين، وذلك ليس هو اليوم الآخر عُلِمَ أنّ من اهتدى من الصابئين فإنما اهتدى باتباع الأنبياء. فتبيَّن أن كلَّ هدًى حصل به سعادةُ الآخرة فهو باتباع الأنبياء، وأنّ كل عذاب اسْتُحِقَّ في الدار الآخرة فهو بالإعراض عمّا جاءوا به، ومَن لم تبلُغْه دعوتُهم فقد ورد أنَّه يُكلَّف في الدار الآخرة، وليس غرضُنا ذِكْر ذلك. ويُبيِّن ما قدَّمناه أنّ من استَقْرأ أخبارَ الأمم -علمائِها وعوامِّها-   (1) ذكر المؤلف في "درء تعارض العقل والنقل" (7/334) القسمين من الصابئين، كما ذكر هنا. (2) سورة الحج: 17. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 لم يجدْ أحدًا متمسكًا بتوحيد الله وعبادتِه وحدَه لا شريك له إلاّ من كان متبعًا للأنبياء جملةً وتفصيلا، ومن أعرضَ عن الأنبياء فلابدَّ أن يُشرِك، حتى المنافقين من هذه الأمة لا يَجدُ من أعرضَ عن اتباع حقيقةِ الدين في الباطن إلاّ ولابدّ أن يُشرِك، إلاّ ما شاء الله. وأن اتباعَ الوحي لابُدَّ فيه من فِطرةٍ بها يعقل ويفقه، وأن الهدى متوقف على صلاح الفطرةِ والشِّرعةِ، فلذلك عَمَدَ الشيطانُ من بني آدم، فاجتالَهم تارةً عن الفطرة، وزيَّنَ لهم تارةً تحريف الشِّرعةِ، وغَرَّهُم عن الفطرةِ الصحيحة السليمة بالقياسِ الفاسدِ الذي قد يُسمُّونه معقولاً وإن لم يكن، وعن الوحي المنزلِ بالتحريف الذي يسمُّونه تأويلا وإن كان فاسدًا. وذلك أنّ العلوم لبني آدم نوعان: نوع يَختصُّ الله به من يشاء من عبادِه، كما يوحيه إلى الأنبياء. ونوع مشترك، يُنَالُ بالتعاطي، كالعلوم النظرية الحسابِ ونحوِه. وكلّ واحدٍ من المختصّ والمشترك منه ما يَحصُل في القلب بواسطةِ دليل، ومنه ما يَحصُل لا بواسطةِ دليل، كالعلوم المشتركة التي لا تقف على دليل كالبديهية والحسّيّة، والتي تفتقر إلى دليلٍ هي النظريَّة. والمختصة التي تقف على دليلٍ قد يكون دليلُها أيضًا مختصا، وقد لا يكون مختصًّا، وإنما دَرْكُ العلمِ به هو المختص. وأما المختصة التي لا تَقِفُ على دليل فهو ما يُوحِيْهِ الله إلى قلبِ مَن يشاءُ من عبادِه بلا دليلٍ أصلاً، بل تكون للخاصَّة بمنزلة البديهية للعامَّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 وزعمَ فريقٌ من المتفلسفة أنَّ علومَ الأنبياء المختصة لابدَّ لها من وسطٍ، وإنما خاصَّتُهم دَرْكُ وَسَطٍ لا يُدرِكُه غيرُهم، وأنّ الحَدْسَ هو دَرْكُ الوسط، ثم الانتقال منه إلى المطلوب، بخلاف التفكُّر فإنه تصوُّرُ المطلوبِ أولاً ثم طلبُ الوسط. وهؤلاء بَنَوا هذا على أصلهم الفاسد في أن النبوةَ كمالٌ علميّ وعملي مِن جنسِ كمالِ النوع المكتَسَب، لكنَّه أرفعُ درجاتِه، وأن النبوةَ ليست خارجةً على القوى المعتادة، ولاهي تنزيلاً خاصًّا من عندِ الله إلى من يختصُّه بمشيئتِه. ولم يعلموا أن لا مانعَ من أن يكون للنبي علم بديهيّ مختص لا يَقِفُ على دليل أصلاً، بل هذا يكون لغيرِ النبي ككثيرٍ من الأولياء، فكيفَ بما يُكلَم الله به النبيَّ أو يَنزِلُ به إليه الملكُ؟ ثمَّ هؤلاء يَزعمون انحصارَ العلم في القياس، ولعَمري إنّ القياسَ لَطريق صحيح إذا استُعمل على وجهِه، لكن لم تَنحصِرْ طرقُ العلم فيه، فوقَعَ عليهم من استعمالِه حيث لا يَمشي ومن نَفْي ما سواه وهو الحق (1) . ثمَّ إن كثيرًا من متكلمي أمتِنا وغيرهم من أتباع الأنبياء أقرُّوا بطريق القياس، لكن شركوهم في القياس الفاسد، فصار القياسُ طريقًا لهم في كثيرٍ من العلم الإلهي، وضَعُفَ عِلْمُهم وإيمانُهم بآثار المرسلين، فقابلوها إمّا بالردِّ والتكذيب، وإمّا بالتحريف والتأويل،   (1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 معتمدين -زعموا- على ما أوجبَه ذلك القياسُ العقلي. وبإحْكَامِ دلالاتِ الوحي والقياس يَبِيْنُ الحقُّ من الباطل. ولستُ أعني بالقياسِ هنا مجردَ قياس التمثيل الذي هو تشبيه أمر معين بأمر معين إما بجامع وإما بغير جامع، وإن كان كثيرٌ من فقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه قياسٌ مجازًا؛ ولا مجرد قياس التأصيل الذي هو إدراج الخاص [تحت] العام، كقولنا: كل مسكرٍ خمرٌ، وكل خمرٍ حرام، وإن كان طائفة من متكلمينا وفقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه باطل. بل أعني به ما هو أعمُّ من ذلك على ما تقتضيه اللغة، فإن جميع هذا قياس. وتسميةُ الأول قياسًا ظاهر، إذ القياس تقدير الشيء بنظيرِه، كما يقال: قِستُ الجراحةَ بالميلِ، وقستُ الأرضَ أو الثوب بالذراع. وأما الثاني فلأن الخاصَّ إذا أدرجتَه تحتَ المعنى العام فلا بدَّ أن يقوم في ذهنك عام مطابق لتلك الأعيان الموجودة وأنتَ تطلبُ مماثلةَ تلك الأعيان الموجودة بذلك المثال المعلوم القائم في قلبك الذي هو مقياس تلك الأعيان، وهو عام باعتبار شموله لكل منها. وهذا العلم هو من لوازم الإنسان وبه [تُدْرَكُ] العلوم العامة الكلية، فإذًا لا يمكنك هذا القياس إلاّ بهذا العلم العام الكلي، والشأن كل الشأن في حصول هذا العلم الكلي العام، فإن المعلوم إذا لم يكن له نظائر يرتسمُ بمعرفة الواحد منها مثالٌ في الذهن يُوزَن به سائرُها، ولا كانت حقيقتُه مما يمكن أن تتعدد، حتى يأخذها العقل كليةً، وإن لم تكن في الوجود متعددة، بل كانت حقيقتُه لا متعددة ولا قابلة للتعدد، بل هو الأحد الذي لا أحد غيره، كيف يمكن أن يُعلَم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 هذا الذات بالقياس العقلي أبدًا؟ ولهذا قال ابن عباس … … (1) فتبيَّن أن خواصَّ الربّ سبحانَه لا تُعلَم بالقياس الكلّي الذي يُسميه المتكلمون الدليل العقلي. بل قد تُعلَم بالقياس الأمور المشتركة بينه وبين غيرِه، لدخولها تحت القياس. ولهذا كان عامةُ ما يُدرِكُه أهلُ القياس من معرفةِ الأمور السلبية أو الإضافية أو المشتركة منهما، لأن نفي الأمر عنه هو حكم على ذلك الأمرِ بالعدم، وذلك الأمر المعدومُ يدخلُ تحت القياس الكلي، وكذلك إضافة أمرٍ إليه هي حكم على ذلك المضافِ باستلزام الإضافة إلى أمرٍ ما، وذلك المضافُ يدخل تحت القياس والأمر بالمعدومات، وأما علم [الصفات] التي هي خواصُّه فتُعلَم تارةً بالفطرة العامة المشتركة بين الخلق، وتارةً بالهداية الخاصة التي يمتاز بها المؤمنون، وتارة بالتعريف الخاصّ الذي يختص به علماء المؤمنين، وتارةً بالوحي الذي يمتاز به الأنبياء، وكلٌّ من هذه الأقسام فأهلُه فيه على درجاتٍ غيرِ محصورةٍ لنا. فهذا أصلٌ ينبغي ضبطُه. وأما الوحي فكتاب الله ثم سنة رسوله، ثم سيرةُ خير قرون هذه الأمة تَشهدُ بأن الله ورسولَه بيَّنَ وهَدَى وشَفَى، وأنه بَلَّغَ البلاغ المبين، وبيَّن باللسان العربي المبين، وأنه لم يُحِلِ الخلقَ على غيرِه في هذا الباب، ولا وَكَلَهم إلى القياس الذي لا يُجدِيْ كما تقدم، بل تولَّى بيانَ ما تحتاج إليه الأمة. وهذه جملةٌ سيأتي -إن شاء الله- تفصيلُها.   (1) بعده كتب في الأصل: "بياض". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 ثم لما كان للقياسِ على العقول سلطان عظيمٌ إذا لم يهتدِ إلى مواقفه ومجاريه، وللوحي في القلوب برهانٌ عظيم لعلمِها بما اشتملَ عليه، ورأى أكثرُ الخلقِ أن بينَ مقتضى القياس والوحي تعارضًا بينًا وتنافِيًا واضحًا، تحزَّبَ الناسُ هنا فِرَقًا: فريقٌ غلبَ عليهم معرفةُ القياس دون الأثارة (1) ، فاتبعوا موجبَه، ثم ردُّوا ما بلغَهم من الأثارة أو تأولوها. وفريقٌ غلبَ عليهم معرفة الأثارة، ورأوا للقياس وأهلِه سلطانًا عظيمًا، فأحجموا عن النظرِ فيه ومفاوضةِ أهلِه، صونًا لأبْصارِهم من العمَى ولقلوبهم من الحيرة. وهؤلاء أحسن حالاً، بل هم على نهج سلامةٍ. وفريقٌ أعرضوا عن تدبُّرِ هذا والنظرِ في هذا، وشَغَلُوا نفوسَهم بغير هذا. وفريق قَوِيَ إيمانُهم بالأثارة، وأحسُّوا بسُوءِ حالِ أهل القياس، فذَمُّوهم وعابوهم على طريق الإجمال، وإن لم يستطيعوا فَكَّ أقيادِهم ولاتذليلَ قيادهم، وهذه حالُ كثير من علماء الأثارة، وهي حال حسنة، وإن كان قد ترتَّب عليها الجورُ أحيانًا، لكن من كان [من] هؤلاء سببًا لدلالةِ الأثارة نافيًا عنها تحريفَ المخالفين كان من علماء الدين، وإن كان دفعُه للمعارضِ إجماليا.   (1) هنا وفيما يأتي وردت كلمة "الأثارة" بدل "الآثار"، وفي القرآن: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 وفريقٌ فوقَ هؤلاء، آمنوا بالأثارة، ثم أُوتُوا من الهداية الخاصة ما عَلِمُوا به فسادَ القياسِ تفصيلاً، فزالتْ عنهم المعارضاتُ بالكلية، ومنهم من يرفع إلى هداية يدرك بها حقيقة بعض ما جاءت به الآثار، فيكون ذلك مُثبتا لفؤادِه. ثم هذه الطرق قد تنفصل في المسائل، فكثير من أرباب القياس قد خلصَ إليه من الأثارة ما لا يمكن دفعُه، فكان حكمُه في ذلك حكم أرباب الأثارة في غيره، فربّما أخذَ يُؤيِّد بالقياس ما جاءت به الأثارة، وإن كان لولا مجيءُ الأثارة لم يَطمئن إلى موجبِ القياس. وقومٌ منهم ضَعُفَ علمُهم أو إيمانُهم بالأثارة حتى نَأَوْا عن الهُدَى، ثمّ عَظُمَ قدرُ الأنبياء في قلوبهم بكمال التخيل في دعوة الخلق بضروب الاستعارات وأنواع الإشارات. ولا يَشُكُّ لبيبٌ أن الموغلين في القياس إذا طَرَقَ سَمْعَهم جمهورُ ما جاءت به الأثارة بقُوا متحيرين كما يُخبرون به عن نفوسهم، فإن القياس أيضًا يَقضِي باستحالةِ اجتماع هذه الأثارة وهذا القياس، فصار القياسُ يَقضِي بفساد القياس. وأما جمهور أرباب الأثارة فسوطيهم (1) بالقياس وأهله يرد عليهم، ثم كثير ما يسمعونه من اعتراف أهل القياس المخالفين لهم بالحيرة والتردد، وما يسمعونه عنهم ومنهم من الخصام والتلدُّد، وما يقترن به من شهادة عموم الأمة التي لا تشهدُ إلاّ بحقّ، وما يُخبِر به أهل   (1) كذا في الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 البرّ والتقوى الذي أشربت القلوب لهم خالص المودة من سُوءِ حالِ هذا وحُسْنِ حال هؤلاء، وما يرى ويسمع من البشرى التي وعد الله بها أولياءَه في الحياة الدنيا من المبشرات المنامية ولسان الصدق المنشور، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي توجِب رجحانَ موازينهم وخِفّةَ موازينِ مخالفيهم، صارت تُثبتُ أفئدتهم وتَزيد إيمانهم وتدفع عنهم شُؤم المعارضات. والأمرُ كما أصِفُ وفوقَ ما أصِف، وكان حَصَلَ عندي من هذا ما حَصَلَ، فاجتمع لي من مدة عشر سنين أو قريب منها أو أكثر من قال لي، فلما كان في هذه الأوقات حَدَثَ من الأسباب ما اقتضى أن وقف على حكاية هذه المناظرة أحد الفضلاء المبرزين والنبلاء المتبحرين، عينُ أعيان المناظرين وفرسان المتكلمين ومَن تتبيّن الفوائد بمذاكرته وتُستفاد المقاصد بمناظرته، فعَلق عليها من الأسْولةِ ما التمسَ حَلها، ومن المباحثِ ما اقتضى فرعها وأصلها … … (1) قلتُ في حكاية المناظرة (2) : "قال لي بعض الناس: إذا أردنا أن نسلكَ سبيلَ السلامة والسكوت، وهي الطريق التي تصلح عليها العامة، قُلنا كما قال الشافعي رضي الله عنه: آمنتُ بالله وما جاء عن الله على مرادِ الله، وآمنت برسولِ الله وما جاء عن رسول [الله] على مراد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإذا سلكنا طريقَ البحث والتحقيق فإن الحقَّ مذهبُ مَن يتأَوَّلُ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَ الصفات من المتكلمين.   (1) كتبت بعده في الأصل: "بياض". (2) انظر "مجموع الفتاوى" (6/354) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 فقلتُ له: أما ما قالَه الشافعي فإنه حق يجبُ على كل مسلمٍ أن يقوله ويعتقدَه، ومن اعتقده ولم يأتِ بقولٍ يُناقِضه فإنه سالك سبيلَ السلامةِ في الدنيا والآخرةِ. وأما إذا بَحَثَ الإنسانُ وفَحَصَ وَجَدَ ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ الحديث كلَّه باطلاً، وتيقَّنَ أنَّ الحقَّ مع أهل الحديث ظاهرًا وباطنًا. فاستعظم ذلك وقال … (1) . قال الفاضل الباحث على قولنا "إذا بَحثَ الإنسانُ وفَحَصَ وجدَ ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث باطلاً": الكلامُ على [هذا] من ثلاثة أوجُهٍ: أحدها: القول الموجب، فإن المخالفة القول بما يُخالف قولَهم ويُناقِضه، لا القول بما لم يُصرِّحوا بنفيه ولا بإثباتِه، ولا أُسَلِّم أنَّ المعتبرين من المحدثين مَنَعُوا تأويل المعتبرين من المتكلمين، فإنْ نُقِلَ ما ظاهرُه ذلك حَملناه على التأويل بغيرِ دليلٍ أو على غيرِ القواعد العلمية، توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم عن تخطئةِ بعضِهم. وبالجملة فلا أُسلِّم أنَّ معتبرًا حزَمَ تأويلاً يَشهَدُ العقلُ بصحتِه عند الحاجةِ إليه، لعالمٍ متبحرٍ لا يَرضى بأسرِ التقليد، ولا يرى أن يستعمل في كتب الحقائق نور الحقائق الذي هو من أجلِّ نِعَمِ الله على العباد. فإن قيل: فقد اشتهَرَ النهيُ عن الكلام في التأويل.   (1) اقتبس المؤلف من كلامه هذا القدر لأنه المقصود بالبحث هنا، وتتمته في المصدر السابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 قلتُ: لعلَّ ذلك للعوامِّ، أو على طريق الورع لا التحريمِ، لِمَ قُلتم إن الأمر ليس كذلك؟ والوجه الثاني: لو سلَّمنا أنّ بعضَهم حرَّم ذلك، فهل نُقِلَ التحريمُ عن نصِّ الله أو عن نصِّ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عن إجماع الأمة؟ فإن الحجةَ ليستْ في قولِ البعض، لاسيما إذا خالفوا البعضَ الآخر. الوجه الثالث: أنّا ننقلُ عنهم الإجماعَ على التأويل في بعض المواضع على ما سيأتي، ونطالبُ بالفرق. والجواب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من مقامين: المقام الأول: في بيان أنّ هذه الأسوِلةَ هل هي متوجهة واردة يَجبُ الجواب عنها أم لا؟ والثاني: في التبرُّع بالجواب بتقديرِ عَدَمِ وجوبِه. أما المقام الأول فيمكن أن يقال: نحنُ نطالبكم بتوجيه هذه الأسولةِ، فإنه ليس منها شيء واردًا، فضلا عن أن يستوجبَ جَوابًا. أما القول بالموجب فعليه أولاً مناقشة معروفة، وهو أن القول بالموجب إنما يَرِدُ على الأدلة دون الدعاوي، فإن الدليل الصحيح يجب القول بموجبه، ولهذا قيل: إن القول بالموجب سؤال يَرِدُ على كل دليلٍ. لكن المعترض يَدَّعي أنه يقول بموجب دليلِ المستدلّ من غير التزامٍ لدعواه، ببيان عدم دلالتِه على محلّ النزاع، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وحاصلُه أنه يمنع دلالةَ الدليلِ على محل النزاع، ويُضيف إلى ذلك أنه قائلٌ بموجبه، وموجبُه غيرُ محلِّ النزاع، فالقولُ بالموجب إبداءٌ لسندِ المنعِ. أما الدعوى قبلَ ذكرِ دليلِها، فإذا قيل بموجبها، بأن كانَ قولاً بموجب قصد المدعي، فهو موافقةٌ في المسألة وليس باعتراضٍ، فإن من قال: لا يُقتَلُ مؤمنٌ بكافرٍ، فقيل له: تقول بموجب هذا؟ أي تقول بما قصدتَه بهذه العبارة، كان هذا وفاقًا لا سؤالاً، وإن كان قولاً بموجب لفظه لا يوجب معناه، بأن يكون اللفظ مشتركًا أو مجملاً ونحو ذلك، فيقال بموجبه الذي لم يقصده المدعي، مثل أن يقال فيما إذا ادعى لا يُقتَل مؤمنٌ بكافرٍ: تقول بموجبه في الحربي والمستأمن؟ كان هذا كلامًا قليل الفائدة، ولم يُعَد من الأسولةِ الواردةِ، بل يُعَدُّ من المناقشات اللفظية إن لم يكن ظاهرُ اللفظ ينفي القول بالموجب. فإنه يقال له: لم تحرّر الدعوى، بل ادَّعيتَ الذي ادعيتَ بلفظٍ مجملٍ أو مبهم بخلاف مقصودك. فأما إن كان ظاهره يَنفي القولَ بالموجب فلا مناقشة فيه أصلاً. ثمَّ إذا توجَّهت المناقشة اللفظية مِن الناس مَن يترك مثلَ هذا السؤال ويقول: هو خروجٌ عن مقصود المسألة، والكلام فيها كأنه بمنزلة مناقشة المتكلم على لفظٍ قد لحن فيه. ومنهم من يُورِده ويَعدُّه من ضَبْطِ آداب المناظرة، والأمر في ذلك قريب. أما مسألتُنا فالدعوى محرَّرةٌ تمنع القول بالموجب إلاّ على سبيل الموافقة، وعلى سبيل الموافقة لا يَبقَى نزاعٌ، فإنا قلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وفحصَ وجدَ ما يقولُه المتكلمون من التأويل الذي يخالفون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 به أهلَ الحديث كلَّه باطلاً، وتيقَّنَ الحقَّ مع أهلِ الحديث ظاهرًا وباطنًا". والمخالفةُ لا تكون إلاّ بما يخالف قولَهم ويناقضه، فنصيرُ مدَّعينَ أنَّ قولَ المتكلمين الذي يناقض قولَ أهلِ الحديث قول باطل، كما لو قلنا: إنّ قول المتكلمين الذي يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو المعقولَ قول باطل. وهذا ليس بدليلٍ حتى يكون القول بموجبه سؤالاً جاء في دلالته، وإنما هي دعوى، فإمّا أن نُوافَق عليها أو نُخالَف، فإنْ خُولفْنا فالسؤال على الدليل الآتي، وإن وُوْفِقْنا فالحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات. يَبقَى أن يُقال: فهل للمتكلمين قولٌ يخالف قولَ أهلِ الحديث، بحيث يكون الكلام في وجوده؟ أم هو كلام على هذه الحقيقة مع قطع النظرِ على وجودها وعدمها؟ ولا شكَّ أن مرادَنا هو القسم الأول، وإن كان تفسير اللفظ بالثاني ممكنًا، بأن نقول: إن كان للمتكلمين قول مخالف لأهل الحديثِ فهو باطل، وإلاّ فلا نصَّ. ومثل هذا السؤال إذا قيل: كلّ قول للفلاسفة يخالف الأنبياء فهو باطل، فإن المتفلسف المتأول يزعم أن الفلاسفة موافقون الأنبياءَ لا مخالفون، وإنما يَعتقد مخالفتَهم لهم عوامُّ أهلِ الملل ومتكلمو أهلِ الجدل، فإذا قال: أنا قائل بموجب قولكم لم يكن هذا سؤالاً، لكن إن فهم من المتكلم دعوى وجود المخالفة فله أن يطالب بتعيينها. ومع هذه المناقشة فتسميةُ مثل هذا الكلام قولاً بالموجب لا تأباه اللغة العربية، بل تساعد عليه، وقد يستعمله الناسُ في مناظراتهم، فإن السائل يقول: ما أوجبتَه بدعواك من بطلان أحد القولين المتناقضين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 أنا أقولُ به، لكن لم تُوجَد المناقضةُ بين القولين، فكأنك تدَّعي بطلانَ ما لا وجودَ له، وأنا قائلٌ بموجب عبارتك لا بموجب إرادتِك. وأنتَ تحكمُ على أهل الكلام بمخالفة أهل الحديث، وهذا لم يُوجَد. لكن إذا قال السائل هذا قال له المدَّعي: أنتَ كما قد وافقتَني على مُدَّعايَ، فإن لفظي إمّا أن يَعنِيَ نوعًا أو عَينًا، إن عُنِيَ به النوعُ فليس من ضرورة الحكم على النوع وجودُه في الخارج، بل قد يقول: [من] كذب بسورة يس أو جحد بشيء من القرآن فهو كافر، إن لم يعلم وجود ذلك. وإن عُنِيَ به العينُ كان التقديرُ: هذا التأويل المعيَّن الذي يخالف أهلُ الكلام [فيه] أهلَ الحديث تأويل باطل، فإذا قيل بموجب هذا كان موافقة في بطلان التأويل المعين، ثم تَبقَى المنازعةُ في تسميتِه خلافًا لأهل الحديث. ومعلوم أن هذا ثَلْمٌ للمسألة ونزاع في نَفْيِها. فحاصلُه أن القول بالموجب تسليم للمسألة إن عُنِي بها النوعُ وتنازع في وجودِها، أو تسليم لعينها ونزاع في صفتِها، فإن كان الأول فهو نزاع فيما لم يدلَّ عليه اللفظ، وإن كان الثاني فهو تسليم للمسألة، ولا يَضُرُّ بعد ذلك النزاعُ في اسمها. وتحريرُ السؤال أن يقال: لا نُسَلِّم أن أهلَ الكلام خالفوا أهلَ الحديث، فإنهم لو خالفوهم لقلنا: الصوابُ مع أهلِ الحديث، وهو أن القول بالموجب على تقدير ثبوت المخالفة تسليم للمسألة بتقديرِ وجودِها، وقد منع ذلك في السؤال بقوله: لو سلّمنا أن بعضهم حرَّم ذلك فهل نُقِلَ التحريم عن الله أو رسوله أو أهلِ الإجماع، ومن سَلَّم الحكمَ لم يكن له أن يُطالِبَ بالدليل، لأنه منعٌ بعد تسليم، وهو غير مقبول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 وأما السؤال الثالث -وهو نقلُ الإجماع على بعض التأويلات- فلا يَرِدُ أيضًا، لأن ذلك إن صحَّ لم يدخل في الدعوى، لأنّا قلنا: تأويلُ المتكلمين المخالفُ لأهل الحديث باطل، وما أجمعوا عليه ليس من هذا الباب. نعم، يبقى هذا من باب المعارضة لأهل الحديث، وهي أن يقال: كيف تُبطِلون بعضَ التأويلات وتُصحِّحون البعض؟ والمعارضة لا تورد عند الدعوى، وإنما تورد بعد الأدلة. وأيضًا مما يُبيِّن عدمَ ورودِ هذه الأسوِلة: السؤال الأول، وهو منعُ الاختلاف بين أهلِ الحديث وأهل الكلام في التأويل، فإن المناظرة كانت مع مَن يدَّعي أن الحق مع أهل التأويل دونَ مَن خالفَهم، فإن لم يكن لهذا وجود كان ردًّا على من نَصَرَ أهل الكلام المخالفين لأهل الحديث، لا على من نَصَرَ أهلَ الحديث. وأيضًا فإنه عَقِبَ هذا الكلام قد قلنا (1) : "إنّ أمهاتِ المسائل التي خالفَ فيها متأخرو المتكلمين لأهل الحديث ثلاث: مسألة وصفِ الله بالعلُوّ، ومسألة القرآن، ومسألة تأويل الصفات". وهذا تعيين لهذه المسائل الثلاثة المختلَف فيها، والخلاف في هذه المسائل أشهرُ من أن يُحتَاجَ إلى نَقْلٍ. فإن قيل. لا نُسلِّم أن أحدًا خالفَ أحدًا في هذه المسائل، بل كلُّ تأويلٍ فيها للمتكلمين فإنّ أهلَ الحديث لم يَنفُوه، بل سكتوا عنه.   (1) "مجموع الفتاوى" (6/354، 355) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 قيل: النقل المتواتر والعلم الاضطراري وما مَهَّدَتْه الكتب المصنَّفَة دليلٌ على وقوع الخلاف في أعيان هذه المسائل وأدلتها السمعية. وأيضًا فإنّ الفاضل المُباحِث -أيَّده الله- قد حكَى في مَباحثِه هذه عن القاضي عياض (1) : "أما من قال منهم بإثباتِ جهةِ "فوق" له تعالى من غير تحديدٍ ولا تكييف مِن دَهْماءِ المحدثين والفقهاء وبعض المتكلمين منهم فيَتأوَّل "في السماء" بمعنى على، وأما دَهْماءُ النُّظَّار والمتكلمين وأصحاب الإثبات [والتنزيه] المُحِيْلِيْنَ أن يختصَّ به جهة أو يُحيط به حدٌّ، فلهم فيه تأويلات بحسب مقتضاها". ومعلوم بأنّ هذا تصريح بأنّ لهؤلاء النُّفاةِ تأويلاتٍ يخالف فيها المثبتون لكونه فوقَ العرش، وهذه التأويلات مما قضَينا بإبطالها، فكيفَ يَتوجَّهُ مع هذا أن يُقال: ليس للمتكلمين تأويل يخالفون به أهلَ الحديث؟ و نحن لم نَقُل: إن كلَّ تأويلٍ باطل، حتى يُنقَض علينا بصورةٍ، بل قلنا: كلُّ تأويلٍ للمتكلمين يخالفهم فيه أهلُ الحديث فهو باطلٌ. ومعلوم أن هذا تكفِي فيه صورة واحدة، وهذه صورة قد سلمتُموها وحكيتُموها. وهَبْ أنهم أجمعوا على تأويلها -وإن كنَّا سنتكلَّم على هذا إن شاء الله- لكن مضمون هذه العبارةِ أن التأويل الذي أثبتَه المتكلمون ونَفَاه أهلُ الحديث باطل.   (1) إكمال المعلم (2/465) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 وأيضًا فقد قلنا في عَقِبَ هذا (1) : "إن َّ مذهب السلف وأهل الحديث أنها تُصَانُ عن تأويلٍ يُفضِي إلى تعطيل، وتكييفٍ يُفضي إلى تمثيل". وقلتم: هذا حقٌّ صريح وحكم صحيح، فهذا التأويلُ الذي يُفضي إلى التعطيل معلومٌ أنه قد وُجِدَ، فإن كثيرًا من المتأوِّلينَ يَنفي الصفات كلَّها وأحكامَها، وبعضهم يثبتُ أحكامَها، وبعضهم يثبت أحوالَها، وبعضهم يثبت بعضها دونَ بعض، فهؤلاء مُعطِّلةُ الصَفاتِ أو بعضِها، وأهلُ الَحديث يخالفونهم في هذا. ولم نُرد بالتعطيلِ تعطيلَ اللفظ عن معنًى، فإن التأويل لا يتصَوَّر أن يُفضي إلى هذا التعطيل، لأنَّ المتأوّل لابُدَّ أن يَحمِلَه على معنًى مَّا، فلا يكون قد عَطَّله عن جميع المعاني، وإنما عَطَّل الصفةَ التي دلَّ عليها النصُّ، وعَطَّلَه عن معناه المفضول المفهوم. ومعلوم أن التأويل المُفْضي إلى هذا التعطيل قد وقعَ فيه كثيرٌ من المتكلمين نُفَاةِ الصفاتِ أو بعضِها، ومعلوم أنّ هذا التأويل يُنكِره أهل الحديث، وكلُّ من وافقَهم من المتكلمين على إثباتِ صفةٍ فإنه يُنكِر التأويلَ الذي يُفضي إلى تعطيلها. فكيف يَصِحُّ بعد هذا أن يُقال بالموجب إلاّ بالموافقة؟ نعم، لو قيل: بعضُ هذه التأويلات التي ينفونَها نقول بصحتها، لكان هذا سؤالاً متوجِّهًا، وهو غير السؤال المذكور، ومع هذا فليس هذا موضعَه، وإنما موضعُه الأدلة.   (1) "مجموع الفتاوى" (6/355) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 ثمّ إنا قد فرضنا بأن الدعوى عامة، وإنما أقمنا الدليلَ على بطلان التأويل في صفة اليد، وهي بعض صورة الخلاف، لأن هذا حكاية مناظرةٍ جَرَتْ، وكان الكلامُ في صفة اليد نموذجًا يُحتَذَى عليه غيرُه من الكلام في غيرِها. وأيضًا فإنا قلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وَجَدَ ما يقولُ المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ الحديث كلَّه باطلا". فكان موجبه القول بالموجب: إنّا لا نُسلِّم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين، وليس هذا المنع مطابقًا للدعوى، فإنّا لم نقلْ: إن تأويل المعتبرين من المتكلمين الذين يخالفون به المعتبرين من المحدثين باطل، وإنما قلنا: "تأويل المتكلمين المخالف"، ومعلوم أن المتكلمين اسم عام، فتأويلُهم المخالفُ لأهل الحديث يَدخُلُ فيه تأويلُ كلِّ متكلم من الجهمية والنجارية والمعتزلة، بل ومن الفلاسفة والقرامطة الباطنية والإسماعيلية، فما الذي أوجبَ أن يُحملَ هذا اللفظُ العام على تأويل خاص من تأويلات المتكلمين؟ من غيرِ أن يكون في اللفظ ما يدلُّ عليه، بل تمامُ الكلام يُصرِّح بالعموم حيثُ قلنا: "أمهات المسائل التي خالفَ فيها متأخرو المتكلمين -ممن يَنتحِلُ مذهب الأشعري- لأهل الحديث ثلاثة". فهذا يدلُّ على أن المتقدمين من المتكلمين خالفوا أهلَ الحديث في أكثر من ذلك، وهذا هو الواقع، فكيف يكون المنعُ المتوجّهُ "لا نُسلم أن معتبري المتكلمين خالفوا معتبري أهل الحديث"؟ وهل هذا إلاّ بمنزلةِ أن يُقال: ما خالفَ به الفلاسفةُ الأَنبياءَ فهو باطل، فيقال: لا نُسَلِّم أن فُضَلاءَ الفلاسفة خالفوا الأنبياءَ؛ أو يقال: ما خالفَ به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 المتكلمون للكتاب والسنة فهو باطل، فيقال: لا نُسلِّم أن معتبريهم خالفوا الكتاب والسنة؛ أو يقال: ما خالف فيه بنو آدم للأنبياء فهو ضلال، فيقال: لا نُسَلِّم أنَّ معتَبرِي الآدميين خالفوا الأنبياءَ؛ أو يقال: كُفَّارُ مكةَ من قريش والعرب في النار، فيقال: لا نُسَلِّم أن المعتبرين من أهل مكة أو قريش والعرب كفروا. وأيضًا فقولكم -أحسن الله إليكم-: "لا أُسلِّم أن المعتبرين من المحدثين مَنَعُوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين"، أما الذين تَعنُون بالمعتبرين من المتكلمين لا يَخلُو: إمّا أن تُريدوا بالمعتبرين ناسًا معيَّنينَ أو موصوفينَ، فإن أردتم ناسًا معيَّنين فاذكروا مَن شِئتم من جميع أعيان المتكلمين، حتى أذكُرَ لكم أنَّ أقوامًا من أعيان المتكلمين رَدُّوا عليه تلك التأويلات وأبطلوها، فضلاً عن أهلِ الحديث. بل سَمُّوا مَن شِئتم، حتَّى أُبيِّنَ أنه نفسه يَرُدُّ بنفسِه على نفسِه، وأنّه يتأوَّلُ التأويلَ في كتابٍ، ثمَّ يمنعُه أو يُبطِلُه في كتابٍ آخر، وربما فَعَلَ ذلك في المصنَّفِ الواحدِ. وإن أردتم بالمعتبَرِين موصوفِين، مثل أن يقال: المعتبرُ مَن له بَصَرٌ ثاقب وعلم بما يجوز ويجب ويمتنع على اللهِ وما يَسُوغُ في لسان العرب، حتى يتأوَّل بعقلِه وعلمِه ومعرفتِه بالمعقولاتِ والمسموعاتِ تأويلاً سائغًا= فهذا أوسعُ عليكم من الأول، فإن المتكلمين أنواعٌ مختلفة، وكلٌّ منهم يَرُدُّ على الآخر تأويلاتِه ويُبطِلُها ويُحرمُها عليه، بل كثير منهم يُكَفِّر الآخر ببعضِ تلك التأويلات، حتى إنّ التلميذَ منهم يُكَفِّر أستاذَه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 وأهلُ الحديث موافقون لهم جميعهم في إنكار تلك التأويلاتِ لا في إثباتِ شيء منها: فنُفاةُ الرؤيةِ من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة يتأولون النصوصَ فيها تارةً برؤية أفعال الله، وتارةً برؤية القلب الذي هو زيادة العلم، ومُثبِتُو الرؤية من أهل الحديث والكلام يَرُدُّون ذلك ويُنكِرونَه. ومُنكِرُوْ الكلامِ الحقيقي يتأولون "قال الله ويقول" بمعنى أنه أحدثَ في غيرِه كلامًا خاطبَ به عبادَه، ومُثبِتو الكلامِ الحقيقي من أهل الحديث والكلام يُبطِلون هذا التأويلَ ويُحرِّمونَه. ونفاةُ الصفات يتأولون (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (1) و (ذُو الْقُوَّةِ) (2) والسمع والبصر ونحو ذلك، ومُثبتو الصفاتِ من أهل الحديث والكلام يُنكِر [ونَ] هذه التأويلات. بَل الأشعريةُ المتمسكون بالقولِ الثاني -كالأشعري في "الإبانة"، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاّني، وابن شاذان، وابن فورك وغيرهم- يُنكِرون على من يتأؤلُ صفةَ اليد والوجه وغير ذلك، كما صَرحوا به في كُتُبهم (3) . والمسلمون جميعًا يُنكِرون على متكلمي الفلاسفة الذين يتأوَّلون ما وردَ في صفة الملائكة والجنّ والجنّة والنّار والقيامة وحَشْر الأجساد. وأهلُ الإثبات جميعًا -أهل الحديث وأهل الكلام- يُنكِرون   (1) سورة النساء: 166. (2) سورة الذاريات: 58. (3) انظر "الإبانة" للأشعري (ص 35-39) و"التمهيد" للباقلاني (ص 295-298) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 على القدرية الذين يتأولون آياتِ الإضلال والختم والطبع والإغواء ونحو ذلك من نصوصِ القدر. وأهلُ الحديث قاطبةً مع مَن وافقَهم من أهل الكلام يُنكِرون على من يتأوَّلُ النصوصَ المُدْخِلةَ للأعمال في الإيمان. وجميعُ أهل القبلة إلاّ الوعيديَّة يُنكِرون على الخوارج والمعتزلة تأويلهم نصوصَ الشفاعة. والمسلمون جميعًا يُنكِرون على القرامطة والباطنية والإسماعيلية وزنادقةِ الفلاسفة وغُلاةِ الصوفيةِ تأويل نصوصِ الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والجنايات ونحو ذلك. وأهلُ الحديثِ قاطبةً والفقهاءُ والصوفية مع من اتبعَهم من المتكلمين وجماهير أهل القبلة يُنكرون على المتكلمين والمتفلسفة الذين يتأولون نصوصَ الفوقية والعلوّ. وكذلك يُنكرون على الذين يتأوَّلون نصوصَ الصفات بما سنذكره إن شاء الله. وأهلُ القبلة جميعًا محدِّثوهم وفقهاؤهم ومتكلموهم إلا الخوارج والمعتزلة ينكرون تأويلَ هاتينِ الفرقتين النصوصَ المُدخِلةَ للعُصاةِ في اسم الإيمان في الجملة. دعَ التأويلات المتعلقةَ بأصول الدين، هؤلاء الفقهاء لا يزال بعضُهم يَرُدُّ تأويلاتِ بعضٍ ويُبيِّنُ فسادَها قديمًا وحديثًا، ويُوافقُهم على ذلك الردّ أهل الحديث، مع أن الفقهاء معتبرون، فكيف يقال: لا نسلِّم أن معتبرًا ردَّ تأويلَ معتبرٍ، بل مفسِّرو القرآن وشُرَّاح الحديث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 لا يزال أهل الحديث وغيرهم يَرُدُّون بعض تلك التفسيرات والتأويلات وينكرون، وذلك أشهرُ وأكثرُ من أن يُسَطَّر. ثمّ كلٌّ من هؤلاء الممنوع من ذلك التأويل المردود تأويلُهُ معتبر، بمعنى أنه ذو ذهنٍ ذكيّ وعلمٍ واسع وفضيلةٍ جيدة، بل كثير من هؤلاء المردود عليهمِ يَعتقد أتباعُه فيه أنه أفضلُ من كثيرٍ من المعظَّمين عند غيرِه، فإن فسَّرتَ "المعتبر" بأنه المهتدي أو الذي أجمع المسلمون على أمانته، فالجواب من وجوه: أحدها: أنا لا نُسلِّم أن تأويلَ مثلِ هذا لا يُرَدُّ، بل تأويلُه الباطل يُرَدُّ، كما تُرَدُّ فتواه الضعيفة وحديثُه الذي غَلِطَ فيه. الثاني: أن مثل هذا لا يدخل في مطلق اسم المتكلمين عندنا، كما يَشهَدُ به استعمالُ لفظ المتكلمين. الثالث: أنّ هذا منع لغير ما ذُكِر، فإنا قلنا: تأويل المتكلمين المخالف لتأويل المحدثين باطل، فقيل: لا نُسَلم أن تأويل من [عُلِمَ] هداه أو من استفاض عند الأمة هداه باطلٌ، ونحنُ ما ادَّعَينا هذا قَطُّ، وما ذكرناه من هذا الكلام إنما هو نزولٌ مع المخاطب، فإنه فَهِمَ من قولنا "أهل الحديث" المحدثين الذين يروون الحديث أو يحفظونه، وهذا لا يدلُّ عليه لفظُنا ولم نَعْنِه، فإنّ أهلَ الحديث هم المنتسبون إليه اعتقادًا وفقهًا وعملاً، كما أن أهل القرآن كذلك، سواء رَوَوا الحديث أو لم يَروُوه، بحيث يدخلُ في مثل هذه العبارة اسم التابعين وتابعيهم، كالفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب وذَوِيْه، وعلقمة والأسود وطبقتهما، وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والنخعي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 والزهري ومكحول ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني وابن عون ويونس بن عبيد ومالك والحمادَيْن والسفيانَين والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر بن الحارث. فإن قلتم: مرادُنا لا نسلِّم أن المعتبرين من المحدثين حرَّموا على المتكلم المعتبر أن يتأوَّل، بمعنى أنهم لم يمنعوه من جنس التأويل، لا أنهم لم يمنعوه من التأويل المعيَّن، لكن سوَّغوا له أن يتأول، كما يسوغ للمفتي أن يفتي وللقاضي أن يقضي، وإن كان يخالف في بعض أقضيته وفتاويه، كذلك المتأول قد يخالف في بعض تأويلاتِه، وإن لم يكن ممنوعًا من جنسها. قلنا أولاً: كلامُكم يخالف هذا، لأنكم قلتم: إنْ نُقِلَ ما ظاهرُه المنعُ من التأويل حَملناهُ على التأويل بغير دليل أو على غيرِ القواعد الكلية، ومعلوم أنّ كلَّ من تأوَّلَ تأويلاً من المشاهير وقد ردَّه عليه غيرُه فإنما تأؤله بدليل من عندِه، وعلى القواعد العلمية عنده، بل يُقيم الأدلة التي يَزعُم أنها قاطعة في وجوب ذلك التأويل وامتناعِ الإقرار على الظاهر، مع مخالفةِ جماهير علمَاءِ القبلة وقَطْعِهم بأنه ضالٌّ أو مخطىء في تأويلِه، ولعلَّ كثيرًا منهم أو أكثرهم أو كلّهم قد يُكفِّرونه بذلك التأويل، كما يُكفِّرون نُفاةَ حَشْرِ الأجساد، وإنْ تأوَّلُوا ما جاءت به الرسُلُ لأدِلَّةٍ ادَّعوها وعلى قواعدَ وَضَعوها. وأعجب من هذا -ولا عَجَبَ- قولُكم: "توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم من تخطئِه بعضهم"، فهل إلى هذا من سبيل؟ وقد عُلِمَ بالاضطرار اختلافُ أهلِ القبلةِ في كثيرٍ من تأويل الآيات والأحاديث: هل تُصْرَف عن ظاهرها أم تُقَرُّ على ظاهرِها؟ وإذا صُرِفَتْ فهل تُصْرَفُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 إلى كذا أم إلى كذا؟ بل الكتبُ والنقول مشحونةٌ بتكفير بعض المتأولين فضلاً عن تخطئتِه. وأما تخطئةُ بعضِ المتأولين فهذا أمرٌ معلومٌ بالاضطرار في الأصول والفروع والتفسير والحديث والشعر واللغة وغير ذلك، بل عامةُ الاختلاف بين أهل القبلة إنما هو من تخطئةِ بعضهم في فهمِه للكتاب والسنة وتأويلهما على وجهٍ يخالفُه فيه الباقونَ. فإن قلتم: كلُّ من تأوَّلَ بدليلٍ على القواعد سَوَّغناه له، وإن كان قد يُخطِىءُ. قلنا: فيكون تأويلُ الجهمية والقدرية والخوارج والروافض والوعيدية والباطنية والفلاسفة كلُّها سائغةً وإن كانت خطأً، وهذا مما عُلِمَ بالإجماع القديم بل بالاضطرار من دينِ الإسلام أنَّ جميعَ هذه التأويلات ليست سائغةً، بل تسويغ جميعِ هذه التأويلات على خلافِ إجماع هذه الفرق كلها، فإن جميع فرق الأمة لا يسوِّغ جميع التأويلات. وقلنا ثانيًا: فنحنُ إنما قلنا: "تأويل المتكلمين الذي يخالفون به أهلَ الحديث باطل"، وهذا تأويل موصوف، ولا يلزم من بطلانِ النوع المقيَّد بطلانُ الجنس المطلق، فإذا أبطلنا التأويلَ المخالفَ لأهل الحديث [لا] يلزمنا أن نمنعَ كلَّ تأويلٍ في الدنيا، وأن نُحرِّم على كلّ معتبرٍ أن يتأوَّل تأويلاً لا يخالف أهلَ الحديث … … (1) .   (1) كتب في الأصل بعده: "بياض". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وقلنا ثالثًا: نحنُ قلنا: "هذه التأويلات باطلة"، أما كونُها سائغةً أو محرمةً فهذا لم نتعرضْ له في هذا الكلام، فقولكم "إن المعتبرين لم يمنعوا المعتبرين أن يتأولوا، وإنّ معتبرًا لم يُحرِّم التأويل الموصوف" كلامٌ لا يَمَسُّ كلامَنا ولا يُقابلُه، بل هو أجنبيٌّ عنه غيرُ متوجهٍ، فلا يستوجبُ الجواب. نعم، َ إن ادَّعيتم أن كل تأويل المتكلمين أو بعضه حق أو صوابٌ فهذا نقيضُ قولنا، ففَرقٌ بينَ صحةِ التأويل وفسادِه وبينَ حرمتِه وحِلِّيتِه، ألا تَرى أن الفقهاء في تأويلهم نصوصَ الأحكام يجوزُ لهم التأويلُ في الجملة، وإن كان كثيرٌ من تأويلِ بعضهم قد يَظهر أنه خطأ، كما يجوز للفقيه الاجتهادُ في الفتيا والقضاء، وإن كان قد يُحكَم ببطلان بعض الفتاوى والأقضية. على أنّ من قال: كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، لا يُمكِنُه أن يقول: كل متأؤل مصيبٌ، فإن المتأول يقول: الله أراد بهذه الآية كذا، والآخر يقول: لم يُرِد هذا، والنفيُ والإثبات لا يجتمعان، اللهم إلاّ أن يقول قائلٌ: إن الله أراد من زيد أن يفهم هذا، وأراد من عمروٍ أن يفهم هذا، وهذا في الأمور الاعتقادية ما يكادُ يقوله إلا من يخالفه جمهورُ الناس، وإن كان قد قاله في العمليات طائفة من المتكلمين. فإن قلتم: أردنا بالمعتبرين من المتكلمين صِنفًا من الطوائف كالمتكلمين من أصحاب الأشعري مثلا، أو كافة المعتزلة أو المتكلمين من الفقهاء ونحو ذلك. فالجواب عنه من وجوه: أحدها: أنه ما من واحدٍ من هؤلاء إلاّ له تأويلاتٌ يُنكِرُها عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 بعض أصحابه مع أهل الحديث وغيرهم، بل من هؤلاء [مَن] هو نفسه يُحرِّم التأويل أو يُبطِله تارةً، ويُسِيْغُه ويُصحِّحه أخرى لأصحاب الحديث. أما المعتزلة فمن أكثر الناس في التأويل، وأهلُ الحديث وغيرهم من علماء المسلمين يُنكِرون عليهم تأويلاتهم المخالفة لهم تحريمًا وإبطالاً. وأما أصحاب الأشعري فهم ثلاثة أصناف: صنف يُحرم تأويل الصفات السمعية المذكورة في القرآن كالوجه واليد والعين، ويُبطِل ذلك. وهذا هو الذي ذكره الأشعري في "الإبانة"، حكاه عن أهل السنة جميعهم، وهو الذي ذكره أبو بكر ابن الباقلاني أفضلُ أصحابه (1) ، وأبو علي ابن شاذان، وذكره أبو بكر ابن فورك في اليد وغيرها، وعليه الأشعرية المتمسكون بالقول الثاني. وصنف يُحرِّم التأويل، ولا يتكلم في صحته ولا فسادِه. وهذا الذي ذكره أبو المعالي الجويني في رسالته "النظامية" (2) ، وهو قولُ أكثرِ المفوِّضة من المتكلمين. وصنف يُبيحه للعلماء عند الحاجة، ومنهم من يُبيحه مطلقًا. وهذا قولُ الجَويني في "إرشادِه" (3) وغيره، وجميعُ هؤلاء مختلفون في صحة بعض التأويلات وفسادها.   (1) سبقت الإحالة إلى كتابي الأشعري والباقلاني فيما مضى. (2) ص 32-33. (3) ص 67-71. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 فهؤلاء -كما ترى- مختلفون في التأويل تحريمًا وجوازًا، وصحةً وفسادًا. وأما المعتزلة فهم وإن كانوا أكثر تأويلاً فإنهم مختلفون في عامة التأويلات صحةً وفسادًا، ومختلفون أيضًا في جنس كثير من التأويل، مثل اختلافهم في نصوص عذاب القبر ونعيمه: هل تُتأؤل أو تُجرَى على ظاهرها؛ وفي نصوص الصراط والميزان والحوض: هل تُتأوّل أو لا تُتأوّل، إلى غير ذلك. منهم من يُبيح تأويلَ ذلك ويصححه، ومنهم [مَن] يُحرِّمُه ويُبطِله. وسأذكر إن شاء الله مذاهبَ الأمة في أجناس التأويلات، وإنما الغرض هنا أن من تعصَّب لفرقةٍ من أهل الكلام وجَعَلَهم هم المعتبرين دون غيرهم، بحيث يُبيح لهم التأويل ويَدَّعي أن أحدًا من المعتبرين لم يَحْظُره عليهم= لم يصحَّ له ذلك؛ إذ ما من طائفة إلاّ وقد حُرِّم وأنكِرَ عليها أنواع من التأويل. الوجه الثاني: أن تعيينَ القائل طائفةً دون غيرِها وتسميتها بالمعتبرين لا يَخفَى أنه نوعٌ من التحكّم والتعصب، فإن مجرَّد [قول] القائل: أنا معتزلي أو أشعري، أو أنا من أهل الحديث أو من الفقهاء، أو إني حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي، [لا] يصير به من المعتبرين عند الله ورسوله، بحيث يُباحُ له في الشرع بذلك ما كان محظورًا، ويسوغ له من التأويل ما كان محجورًا عليه. الوجه الثالث: أنّا قلنا: "تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث باطل"، وذلك لا يُوجب أن يكون تأويلُ طائفة معينة باطلاً، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 ولا يُوجب أن يكون تأويل معتبرٍ باطلاً، فلا يَرِدُ هذا علينا. الوجه الرابع: أنّا سننقل إن شاء الله من النقول الكثيرة ما يُبيِّن ما عليه أهل الإسلام من إنكار التأويلات الصادرة عن كل طائفة من طوائف المتكلمين إن شاء الله. فهذا كلُّه في عدم توجيه سؤال القول بالموجب الذي جعل سَنَده "لا نُسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين". قولكم: "فإن نُقِلَ ما ظاهرُه المنعُ حَملناه على التأويل بغير دليل، أو على غير القواعد العلمية، توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم عن تخطئة بعضهم" غير واردٍ لوجوهٍ: أحدها: أن التأويل بغير دليلٍ وبغير قواعدَ لا يُبيْحه ولا يَسلكه أحدٌ من عقلاء الناس المنتسبين إلى العلم، سواءَ كانوا كفّارًا أو مؤمنين، مستنة أو مبتدعة، فإن أشد الناس تأويلاً من الفلاسفة والباطنية إنما يتأولون -زَعَموا- لقيام الأدلة العقلية الموجبة لتلك التأويلات عندهم، ويزعمون أنهم يُجرونَها على القواعد العقلية والسمعية. وأما المعتزلة فأمرهم في ذلك أظهر، فإنهم يزعمون أنهم فُرسان الكلام ودُعاة الإسلام، الحافظين (1) له بالقواعد العقلية والموارد السمعية، وأن مَن خالفَهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والأشعرية والكُلاّبية والكرَّامية وغيرهم هم حَشْوُ الناس. وهم أهل فتنة واضطراب،   (1) كذا في الأصل منصوبًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 ثم بَين البصريين منهم والبغداديين من الاختلاف في القياس ما الله به عليم، ثم بين شيوخ البصريين وشيوخ البغداديين خلاف عظيم، وكلٌّ منهم إنما يتأوَّل بدليلٍ عنده وعلى القواعد العلمية. بل الأشعرية ونحوهم من المتكلمين المنتسبين إلى أهل الحديث مختلفون في التأويل صحةً وفسادًا وحِلاًّ وحَظْرًا، والمتأوّل منهم إنما يتأول للدليل وعلى القواعد. فإذا كان كلُّ متأوّل إنما تأوَّل بدليلٍ وعلى القواعد، فقد خالفَه غيره من أهل الحديث وغيرهم في التأويل، فكيف يمكن أن يُحمَل إنكارُهم على التأويل الخالي من الدليل والقواعد؟ فإن قلتم: إنما أنكروا التأويل الذي لا يَعضُده دليل صحيح، ولم يكن جاريًا على القواعد الصحيحة، وإن كان متأوِّلُه يزعم اعتضاده بدليل صحيح وقواعد صحيحة. قلنا: فهكذا نقول في جميع تأويلات أهل الكلام المخالفة لأهل الحديث: إنها خاليةٌ عن دليلٍ صحيح وعن القواعد الصحيحة. وإذا كان هذا مدّعيًا لم يَسُغْ أن يقال بموجبه إلاّ على سبيل الموافقة لنا، وإنما يسوغ أن يطالب ببيان خلوها عن الدليل والقواعد الصحيحة، أو أن يُبين المتأوّل اقترانَ تأويلِه بدليلٍ وقواعد ليبين فساد قوله. الوجه الثاني: أن المنكرين للتأويل إبطالاً وتحريمًا صرَّحوا بذلك في أعيان التأويلات التي ادَّعى المتأولون اقترانَها بالدليل، وسنذكر إن شاء الله من ذلك بعضَ ما حَضَر. وصرَّحوا أيضًا بتحريم التأويل وإن زعمَ صاحبُه اقترانَه بدليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 الوجه الثالث: أنّا لم نحكم إلاّ ببطلان تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث، فإذا قلتم بإبطال أو بتحريم التأويل الخالي عن الدليل والقواعد لم يكن هذا نفيًا لوجود ما أبطلناه، لأنه يمكن أن يقال: هذا التأويل الذي رفعناه خليٌّ عن الدليل والقواعد، فإنا أبطلنا نوعًا من التأويل، ووافقتم على إبطالِ نوع منه. فإن قلتم: هذه التأويلات جارية على الأدلة والقواعد، نازَعْناكم فيها. فحاصله أن ما ذكرتموه لا يَصلُح مستندًا لمنع أن يكون أهل الحديث خالفوا المتكلمين في أعيان التأويلات. الوجه الرابع: قولكم "إن التأويل المقرون بدليلٍ الجاري على القواعد العلمية صحيح"، لا نُنازِعُكم فيه، وإنما الشأنُ في تقريرِ الدليلِ المصحِّح للتأويل وتثبيتِ القواعد المحقِّقة له، فإنكم تعلمون أن جميع أهل التأويل من القبلة لهم قواعدُ يضعون تأويلاتهم عليها. ثمَّ هذا القدر لا يَصلُح أن يكون سندًا لقولكم "لا نُسَلِّم أنّ أهلَ الحديث منعوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين" كما تقدم، والغرضُ هنا أنّ القول بالموجب لا يتوجه. وأما تقرير مذهب أهل الحديث فليس هذا موضعَه، لأنّا بعدُ في تحرير الدعوى وما يَرِدُ عليها. قولكم: "لا أسلِّم أن معتبرًا حرَّم تأويلاً يَشهدُ العقلُ بصحته عند الحاجة إليه، لعالم متبحرٍ لا يرضى بأَسْر التقليد، ولا يرى أن يَستعمل في كشف الحقائق نورَ البصيرة الذي هو من أجلّ نعم الله على العبيد". فنقول أوّلاً: مَن الذي حكى عن أحدٍ من الناس تحريمَ مثلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 هذا؟ هذا شيء لم نذكره ولم نَقصِده، فمنعُه منعُ شيء أجنبي خارج عن كلامنا، وهذا منع لا توجيهَ له. ونقول ثانيًا: نحن قررنا بطلانَ التأويل وفساده، لم نتعرض لتحريمه بنفي ولا إثبات، والكلام في صحة التأويل وفسادِه غيرُ الكلام في حله وحَظْرِه، ولا يلزم من عدم تحريم الاجتهاد والإفتاء والحكم أن يكون الاستدلال والفتيا والقضاءُ صحيحًا، كذلك لو فرضنا جواز الإقدام على هذه التأويلات لم يلزم أن تكون صحيحةً، بل جاز أن تكون باطلةً، يعني أنها غير مطابقة لمراد المتكلم، سواء كان آثمًا أو معفوًّا عنه أو مأجورًا. ونقول ثالثًا: التأويل الذي نتكلم فيه هو صرفُ الكلام [من] الاحتمالِ الراجح إلى المرجوح لدليل يعتضد، كما تقدم بيانه. وكلّ تأويل فإنما هو بيان مقصودِ المتكلم أو مرادُه بكلامه، ومعلومٌ أن العقل وحده لا يَشهد بمعرفةِ مقصود المتكلم ومرادِه، فإن دلالة الخطاب سمعية لا يستقلُّ بها العقلُ، نعم العقلُ أخذَ باستفادته هذه الدلالة، فإذا انضمَّ [إلى] المعقول العلمُ بلغة المتكلم وعادتِه في خطابه فقد يَحصُل بمجموع هذين العلمين العلمُ بتأويلِ كلامِه، نعم قد يُعلَم بالعقلِ وبأدلةٍ أخرى أن المتكلِّم لم يُرِد معنًى من المعاني، سواء قيل: إنه ظاهر اللفظ، أو قيل: إنه ليس بظاهره، كما يعلم أن الله لم يُرِد بقوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (1) أنها أوتيتْ مُلْكَ   (1) سورة النمل: 23. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 السماوات وملكَ سليمان وفَرْجَ الرجل ولحيتَه؛ ولم يُرِد بقوله: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) (1) أنها تُدمر السماوات والجنة والنار؛ ولم يُرِدْ بقوله: (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (2) شمولَ ذلك للخالق بصفاتِه. ونعلم أن الله لم يُرِد بقوله: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (3) يَدَيْنِ مثل يَدَي الإنسان، ولم يُرِد بقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (4) نفيَ الصفاتَ المذكورة في الكتاب والسنة. فإذا كان العقلُ وحدَه يَشهد بصحة تأويلٍ، وإنما قد يَشهدُ بعدمِه، فالتأويل الذي يدَّعي صاحبُه أنه عَلِمَ بمجردِ العقل صحتَه تأويلٌ مردودٌ محرمٌ. نعم إن فَسَّرتم كلامَكم أن العقلَ بما استفاده من العلوم السمعية وغيرِها يعلم صحةَ التأويل، فهذا حقٌّ وإن لم يكن ظاهرُ اللفظ دالاًّ عليه، ونحن ما حكينا تحريمَ مثلِ هذا التأويل عن أحدٍ، ولا يَمنعُ تحريمَه كلامٌ آخر. وسنتكلم -إن شاء الله- عليه متبرعين، فإنّ الغرضَ تقريرُ الحقائق وتحصيلُ الفوائد، لا ما يَقصِده المبطلون من التجاهل والتعانُد. ونقول رابعًا: قولكم "عند الحاجة إليه" موافقة لما يقوله كثير من الناس من [أنّ] التأويل اضطرَّ إليه العلماء، وبيانُ ذلك أنّا إذا علمنا بالأدلة العقلية والسمعية مثلاً انتفاءَ أمرٍ من الأمور، ورأينا بعضَ   (1) سورة الأحقاف: 25. (2) سورة الأنعام: 102. (3) سورة ص: 75. (4) سورة الشورى: 11. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 النصوص تقتضي إثباتَه ظاهرًا، احتجنا إلى تأويله، لأنا إن قلنا بمقتضى الدليلين لزِمَ الجمعُ بينَ النقيضين، وإن قلنا بنفيهما لزمَ انتفاءُ النقيضين، ثم فيه تعطيلُ الدليلَين من دلالتهما، ومحذور التأويل جزء من هذا المحذور، إذ غايتُه تعطيلُ دلالة أحدهما، فلابدّ من ثبوتِ أحدهما وانتفاء الآخر، ولا يجوز أن يُقدَّم الدليلُ المُثْبت لأنه ظاهر، والنافي قطعي، والقطعي لا يجوز تخلُّفُ مدلولَه عنه، بخلافِ الظنّي. فتعيَّنَ إثباتُ مدلولِ الدليل القطعي دون الظاهر. ولأن القَطعي إذا كان عقليًّا، فلو رَجَّحنا عليه الظاهرَ السمعيَّ لَزِمَ القدحُ في ذلك الدليل العقليّ، والعقلُ أصل السَّمْع، فالقدحُ في العقلي القطعي قَدْحٌ في أصل السمعي، والقدحُ في الأصل قدح في فرعِه، فيصيرُ تقديمُ السمعي قدحًا في السمعي، وإثباتُ الشيء بما يقتضي نفيه محال. وإذا تعيَّن إثباتُ مدلولِ القطعي العقلي دون الظاهر السمعي، فنحنُ بين أمرين: إمّا أن نُفَوِّض معنى الظاهر إلى الله سبحانَه وتعالى، مع علمنا بانتفاءِ دلالتِه الظاهرة، أو أن نؤوِّله على وجهٍ يسوغ في الكلام. والقائلون بهذا التقرير يُسمُّون طريقَ المفوِّضة النفاة طريقَ السلف، وهو عندهم طريق أهل الحديث وأحدُ قولَي الأشعري وغيرِه من أهل الكلام. ثم هم في هذا على أقوالٍ: فغُلاةُ المتكلمين يُحرِّمون هذا ويُوجبون التأويل، وذهب إلى هذا ابنُ عقيل في أحد أقوالِه، وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية، ومن هؤلاء مَن يُفيد كلامُه بأنه يجب على العلماء دون العامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 ومنهم من يُحرم التأويلَ، كأبي المعالي الجويني في آخر قوليه (1) . ومنهم من يُحرِّمُه على أكثر الخلق إلاّ على القليل، كأبي حامد الغزالي (2) وغيره. ومنهم من يُسوغِّ كلَّ واحدٍ من التفويض والتأويل، ويَعُدُّ هذا من العلوم التطوُّعية التي لا تجب ولا تحرم، كالعلم بأحاديث الملاحم والفتن وأخبار الأمم والأحاديث الإسرائيليات، والأحاديث المتضمنة لأوصافِ الملائكة والجنّ ونحو ذلك، وإن كانت هذه العلوم قد يكون ضبطها فرضًا على الكفاية. منعُكم أن التأويل قد تدعو الحاجة إليه كما تقدم، فلا يحرم على العالم المتبحر لوجوهٍ: أحدها: أن لا مُوجب لتحريمه، والأصل الإباحة، فمن ادعى التحريم فعليه الدليل. الثاني: أن هذا من باب طلب العلم ومعرفة مرادِ الله ورسوله، وجنس العلم خير من جنس الجهل، فكيف العلم بتأويل كلام الله وكلام رسوله؟ كيف يكون هذا محرَّمًا؟ الثالث: أن المخالف للحق من الكفّار والمبتدعة إن لم نتأوَّل لهم هذه النصوص لَزِمَ سوءُ الظن بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووقوعُ شبهة   (1) في "العقيدة النظامية" كما سبق. (2) في كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 الاختلاف في كلام الله وكلامِ رسوله، ونفورُ الناس عن القرآن والإسلام، ونفورُ أهل الباطل عن الحق. والتأويلُ هو أسرعُ إلى القبول وأدعَى إلى الانقياد، فأقلُّ أحوالِه أن يكون بمنزلةِ تعليل الأحكام الشرعية المنصوصة، فإن التعليل فيه فائدة الاطلاع على حكمة الشارع التي يحصل بسببها من العلم والإيمان ما لا يَحصُل بدونها، مع أن الحاجة لا تدعو إليها، فكيف بتأويل الخطاب الذي عارض ظاهرُهُ القواطع العقلية والسمعية. الرابع: أن الطالب الذكي يَضيق صدرُه بأسْرِ التقليد، ويُحِبُّ أن يخرج إلى بُحْبُوحة العلم، فلا تقنَع نفسُه ويَرضَى عقلُه إلاّ بالوقوفِ على التأويل، وهو بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق، فإذا عرفَ التأويل اطمأنّ قلبُه وانشرحَ صدرُه ورَضِيَ عقلُه، والبدنُ لو احتاجَ إلى طعام وشراب لغذاءٍ أو دواءٍ يَحصلُ له الضَّرَرُ بفَقدِه لأباحَهُ الله له، بل قد أباحَ الأكلَ في الصوم الواجب للمريض والمسافر إذا وَجَدَ مشقةً بالصوم، وأباحَ تركَ القيام في الصلاة إذا خافَ زيادةَ المرض أو لِطول البُرْء. فكيف لا يُبيحُ ما يَضرُّ عَدَمُه القلوبَ لِعقولها والنفوس لِوجودِها، ويَزِيد بعَدَمِه مرضُ القلب والدين، أو يتأخر بفَقْدِه الشفاءُ من مرضِ الكفرِ والنفاق. وكما أَن الأطعمة والأشربة تختلف شهوةُ الناس وحاجتُهم إليها باختلاف قُواهم وأمزاجهم، فرُبَّ مزاج يَقْرَمُ إلى اللحم ما لا يَقْرَمُه غيرُه، ومن كان مقيمًا بطَيْبَةَ إبَّان الجدادِ كانت شهوتُه إلى الرُّطَب بخلافِ شهوة سُكّان الشام، ومن كانت رياضتُه البدنية أقوى وأكثر -كالحمّالين والحرَّاثين- كانت حاجتهم إلى الطعام أشدَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 كذلك العلوم والطرق، فمن كان ذكيًّا كان شوقُه إلى دَرْكِ الأمور الدقيقة أشدَّ، ومن راضَ عقلَه بكثرة النظر في العلوم والبحث عن أسبابها وأصنافِها كانت حاجتُه إلى الازديادِ منها والوقوف عليها أشدَّ. والمتعمقون في الكتاب والسنة ولو في الأحكام فقط يحصل لهم من الحاجة والشوق إلى معرفة معاني كثير من النصوص ما لا يحصل لغيرهم من المعرضين. وإذا كان نقل الواجب والمستحب قد يَستلزمُ الحاجةَ والشوقَ إلى أشياءَ، فكيف يحرم؟ وإنما الشوق بحسب الإدراك. ولهذا من لم يَرَ المطاعم الشهيَّة والمناظرَ البهيَّة لا يشتهيها كشهوةِ المبتلَى بها. فمن لم تَنفتِحْ عينُ بصيرتِه لصنوف المعارف، ولا توسَّعَتْ في قلبه أنواع المعالم، لا يحتاج إلى الإدراك كحاجة أولي البصائر الوقَّادَة والمعارف المستفادة، ولا يَشتاق كاشتياقِهم. وهذا تقريرُ قولِ السائل -أيدهُ الله-: "لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسرِ التقليد". الخامس: أن نعمة الله على عبادِه بنفوذ البصيرة من أفضل النِّعَم، وإدراك حقيقة مرادِ الله ورسوله من أفضل إدراك الحقائق، فكيف يحرم استعمال هذه النعمة الجليلة في مثل هذا المطلوب الشريف؟ وهل ذلك إلاّ أقبح من تحريم استعمال قُوَى الأبدان في دَفْع أعداءِ الدين وعبادةِ ربّ العالمين، وتحريم إنفاق الأموالِ في سبيَل الله. بل تحريمُ هذا تحريم لطلب الدرجاتِ العُلَى والنعيم المقيم، والله لا يُحرم مثلَ هذا، بل يَستحبُّه إن لم يُوجِبْه. السادس: أن إبقاءَ النصوصِ المصروفة عن دلالتها الظاهرة بلا تأويل معين بنفيها ذريعةٌ إلى اعتقادِ موجبِها وتقلُّد مقتضاها. وتأويلُها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 يَحْسِم هذه المادةَ، فيصير الأولُ مثلَ بناء الأسوار للأمصار، والثاني كتركِها بلا سوْرٍ. بل الأول بمنزلة كشفِ النساءِ الحِسان لوجوههن، والثاني كسَتْرِها، أو الأول بمنزلة تركِ المُرْدَانِ الصِّباحِ يُعاشِرون الأجانبَ، والثاني كصَوْنهم من هذه العِشرة. فإن لم يكن الثاني واجبًا أو مستحبًّا فلا أقلّ من أن يكون مباحًا. وهذا معنى قولِ بعضِ الناسْ طريقةُ السلَف أسلمُ، وطريقةُ الخلفِ أَحْزَم وأَحْكَم؛ لأنّ طريقة أهل التأويل فيها مخاطر بالإخبار عن مُرادِ الله بالظنّ، الذي يجوز أن يكون صوابًا ويجوز أن يكون خطأً، وذلك قولٌ عليه بما لا يُعلم، والأصلُ تحريمُ القول عليه بالظنّ، وكان تركُها أسلم. وفي طريقة أهلِ التأويل حَسْمُ موادِّ الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة، فكانت أحْزَمَ وأحكمَ. وصار في المثال بمنزلة قوم من المسلمين بلغَهم أن العدوَّ قاصدُهم، وبيتُ المالِ خالٍ، فهل يسوغُ أن يجمع من أموالهم ما يَبني به سُورَهم لحفظِهم من العدوّ إلى لحوق الذرى، واندفاع العدو بشدة البرد (1) المخاطرة بأخذِ الأموال بغيرِ طيب نفوسِ أصحابها، وفيه إحكام الحفظ للنفوس وباقي الأموال، والَحَزْم بضبطِ الدين عن الانحلال. وهَبْ هذه مسألة اجتهادية يرى فيها قومٌ الحظرَ، وقومٌ الوجوب، وقوم يُخيِّرون بين الأمرين، وقوم يُوجبون فعلَ الأصلح. ويختلفُ الأصلحُ باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص.   (1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 السابع: أن السلف تكلَّموا في تفسير القرآن كلِّه، وما رأيناهم حَرَّموا تفسير شيء منه، إلاّ أن يُنقَل عن أحدِهم أنه تَرَكَ القولَ فيه، أو حرَّم القولَ على غيرِه بغيرِ علم، أو تَركَه خَوفَ الخطأِ على سبيل الورع ونحوه. وكتبُ التفسير مشحونة بالروايات عن الصحابة والتابعين في آيات الصفات وغيرِها، فكيف يَدَّعِي هذا أن المعتبرين حَرَّموا ذلك؟ فهذا (1) تقرير لما ذكرتموه من قولكم: "لا نُسَلِّم أنَّ معتبرًا حِرَّم تأويلاً يَشهَدُ العقل بصحتِه عند الحاجة إليه، لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسْرِ التقليد، ولا يرى أن يَستعمل في كشف الحقائق نورَ البصيرةِ الذي هو من أجلِّ نِعَمِ الله على العبيد". وجوابه من وجوهٍ: أحدها: ما تكلَّمنا في تحريم جنس التأويل وجوازه شيئًا، وإنما تكلمنا في صحته وفسادِه، فقلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وفَحَصَ وَجَدَ ما يقولُه المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ [الحديث] باطلاً، وتيقَّن [أن] الحق مع أهلِ الحديث ظاهرًا وباطنًا". وسنبيِّنُ إن شاء الله بالنقول المستفيضة أن الخلاف وقعَ في أعيانٍ هل هي صحيحة أو فاسد، بل قد بيّنَّا في نفس تلك المناظرة   (1) الكلام السابق في أربع صفحات من قوله (ص 79) "منعكم أن التأويل" إلى هنا تقريرٌ وتوضيحٌ من المؤلف لكلام الخصم، ثم بدأ في الردّ عليه، ولم يصل إلينا تمامُه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 فسادَ تأويلِ اليدِ بما ذكروه فيها من التأويل (1) ، ولم نتعرض للتحريم ولا للتحليل. وإذا كان أوَّلُ الكلام وأوسطُه وآخره إنما هو في صحة التأويل المعيَّن والمطلق وفسادِه، فالكلامُ في التحريمِ نفيًا وإثباتًا كلامٌ آخر ليس بواردٍ علينا. ولولا أنّا في هذا المقام غرضنا بيان عدمِ ورود الأسولةِ علينا بالكلية لذكرنا نصوصَ المختلفين، وإنما نؤخر ذلك إلى المقام الثاني إن شاء الله. إن الأسولةَ تارةً تكون موجَّهةً واردةً، وتارةً لا تكون كذلك، والسؤال الواردُ منه [ما] يُوجبُ انقطاعَ المستدلّ، ومنه ما لا يُوجب انقطاعه، إن أجاب عن ضبط حدود النظر والمناظرة هُدِيَ إن شاء [الله] إلى الهدى والسَّداد، اللَّذَين أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليًّا بمسألتِهما من الله، والغرض الضبط العلمي الديني، لا الضبط العِنادي الذي مضمونُه الكلامُ بلا علمٍ أو عدمُ قصد الحقّ. وأما الاصطلاح المحضُ فأنتَ فيه بالخيار، ويَجِب أن تعرف حقيقة هذا النقل وتدين في قولهم: "الإسنادُ من الدين، لولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاءَ" (2) . فإن كان النقلُ مشهورًا -مثل أن يقال: مذهبُ أهل الحديث أنّ الله يُرى في الآخرة، والإيمان بالشفاعة، أو جمهورهم ونحو ذلك- لم يُطلَب في مثل هذا الإسنادُ. فإن نُقِلَ: مذهبُ أهلِ الحديث بأن الله يُرى هو الصحيح، فقد تضمنَ هذا نقلاً وحكمًا، فيجوز أن يُقالَ: لا نُسلِّم أنه هو الصحيح، وقد يقال أيضًا: من أين علمتم؟   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (6/362-372) . (2) قاله عبد الله بن المبارك، كما روى ذلك عنه مسلم في مقدمة صحيحه (1/15) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 فالمستدلُّ في الأدلة في خطاب أو كتابٍ إذا قال: مذهبُ فلانٍ كذا، لم يَرِدْ علمه لا مَنْع ولا معارضتُها، وقد يُعتَرضُ النقلُ بنقل آخر. وفي الحكم ورد عليه منعُ النقلِ ومعارضتُه بأن: مَن ذكرَ هذا؟ أو مَن حكاه؟ أو قد نَقَلَ فلان عنه بخلافِه. لكن فرق بين مَنع النقل وبين منع الحكم وبين منع الدلالة، فإن النقل لا يُمنَع منعًاَ محضًا إلاَّ أن يكون المانعُ يعلم انتفاءَ ذلك المنقول، مثل أن يعلم أن مذهب الشخص أو روايته بخلاف ذلك، كمن قال: سَمِعَ مالك ابنَ عمر يقولُ كذا، فحقول المعترضُ: ما سمعَ مالكٌ منه شيئًا. وأما إن كان صدقُه ممكنًا، فإن غَلَبَ على الظنّ خيرته وعدالتُه اكتفي بذلك. (آخر ما وُجِد، والله أعلم. وليست كاملة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 قاعدة في الوسيلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 بسم الله الرحمن الرحيم ما تقولُ السادةُ العلماءُ أئمةُ الدين وهُداةُ المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- فيمن عابَ أقوالاً نَقَلَها جماعة من أكابرِ الأئمةِ وأعيانِ ساداتِ هذه الأمة: أولها: ما أوردَه الشيخ أبو الحسين القُدوري الحنفي في كتابه الكبير في الفقه المسمَّى بشرح الكرخي (1) في باب الكراهية، وصورةُ اللفظ: "قال بِشرُ بن الوليد: حدثنا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: لا ينبغي لأحدٍ أن يَدعُوَ الله إلاّ به، وأكرهُ أن يقولَ: بمَعَاقدِ العِز من عرشِك أو بحقِّ خَلْقِك. وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: "بمعقدِ العزِّ من عرشك" هو الله، فلا أكرهُ هذا. وأكرهُ أن يقولَ: بحقِّ فلانٍ، أو بحقِّ أَنبيائك ورسلك، وبحقّ البيتِ والمشعرِ الحرام. قال القدوري: المسألة بخلقِه لا تجوز، لأنه لا حقَّ للخلقِ على الخالق، فلا يجوز.   (1) شرح مختصر الكرخي من أمهات الكتب في الفقه الحنفي، توجد نسخه الخطية في مكتبات تركيا والهند. انظر "تاريخ التراث العربي" (3:1/102) . والمسألة مذكورة في "نتائج الأفكار شرح الهداية" لقاضي زاده أفندي (10/ 64) و"الفتاوى الهندية" (5/318) وحاشية ابن عابدين (6/395-397) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 وثانيها: ما ذكره الشيخ أبو القاسم القُشَيري في كتابه المسمَّى "التحبير في علم التذكير" المشتمل على تفسير معاني أسماء الله عزَّ وجلَّ، وصورةُ اللفظ أنه قال (1) : عَلِمَ الحقُّ سبحانَه أنه ليس لك أَسَام مرضية، فقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) ، (2) وَلأن تكون بأسماءِ ربك داعيًا خيرٌ لك من أن تكونَ بأسماء نفسك مَدْعِيًّا، فإنك إن كُنتَ بك كنتَ بمن لم يكن، وإذا كُنتَ به كنتَ بمن لم يَزَلْ، فشَتَّانَ بين وصفٍ وبين وصفٍ. وقال (3) : مَن عرفَ اسمَ ربَه نَسِيَ اسمَ نفسِه، بل مَن صَحِبَ اسمَ ربِّه تَحَقَّق بروحِ أنْسِه قبلَ وصوله إلى دارِ قُدْسِه، بل مَن عرفَ اسمَ ربِّه سَمَتْ رتبتُه، وعَلَتْ في الدارينِ منزلتُه. وثالثُها: ما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه (4) المشهورة، وصورةُ اللفظِ أنه قال: لا يجوزُ التوسُّلُ في الدعاء بأحدٍ من الأنبياء والصالحين إلاّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن صحَّ حديث الأعمى. وزعمَ العائبُ لهذه الأقوالِ والطاعنُ على معانيها أنَّ فيها تنقُّصًا بعبادِ الله الصالحين، واستخفافًا بحرمةِ البيتِ والمشعر الحرام. فهل في هذه الأقوال المذكورةِ تنقُّصٌ واستخفافٌ والحالةُ هذه أو لا؟   (1) ص 23. (2) سورة الأعراف: 185. (3) التحبير (ص 22) . (4) ص 83. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 وهل يجوز ردُّها بمجرد رأي الإنسان وما جَرَتْ به عَوائدُ بعضِ أهل الزمانِ أم لا؟ وهل اشتهرَ عن الأئمة الأكابرِ المتبوعين خلافٌ لهذه الأقوال؟ وهل صحَّ حديثُ الأعمى الذي أورده الترمذي في جامعِه (1) ؟ وهل في صريح لفظِه ما يُبطِلُ الأقوالَ المذكورةَ ويُوجِبُ اعتقادَ خلافِها؟ وهل يجوز الحلفُ بغير الله تعالى؟ وإذا لم يَجُزْ هل يجوز التحليفُ والإقسامُ بغير الله؟ والرادُّ لهذه الأقوالِ المتقدمِ ذكرُها والطاعاتِ فيها، إذا لم يكن عنده دليل شرعي قاطع يدفعُها به، هل يُردَعُ عن ذلك ويُزْجَرُ؟ فأجاب -رضي الله عنه- الحمد لله، ليس في شيء من هذه الأقوال تنقُّصٌ ولا استخفاف، لا بصالحي عبادِ الله ولا بشعائرِ الله، وإنما يكون متنقِّصًا من نقصَهم عن منزلتِهم التي جعلَهم الله بها، كمن لا يَرى حجَّ البيتِ قُربة وطاعةً لله، ولا يَرى الوقوفَ بعَرفةَ ومزدلفةَ ومِنًى، كما كان بعضُ أهلِ الجاهلية لا يَرَونَ الصفا والمروةَ من شعائرِ الله، وكان بعضهم يَخافُ -إذْ كانوا يُعظِّمونها في الجاهلية- أن لاتكون من شعائرِ الله   (1) برقم (3578) . وسيأتي الكلام عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 في الإسلام، فأنزلَ الله قولَه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (1) جوابًا للطائفتين، كما ثبت ذلك في الصحاح (2) . وكمن لا يَرى تعظيمَ الهَدْي والضحايا التي قال الله فيها: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)) (3) . وكمن لا يَرى تعظيمَ حُرُماتِ الله، فلا يُحرِّمُ صيدَ الحرم ونباتَه وسائرَ ما حرَّم الله تعالى من المحرّمات، فإنّ الواجبَ على الخَلقِ فِعلُ ما أمر الله به من العبادات، واجتنابُ ما حرَّمه من المحرَّمات، فإنَّ هذا وهذا من دين الله الذي بَعثَ به رُسُلَه، ولهذا قال الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (4) . ومن تمام تعظيم البيتِ أن يُعبَد اللهُ فيه كما شَرعَه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيُطَاف به، ويُستَلم الركنانِ اليمانيانِ، ويُقبَّل الحجرُ الأسودُ. فلو قال قائلٌ: من تعظيمه استلامُ الركنينِ الشاميينِ، وتقبيلُ مَقام إبراهيم والمَسْحُ به، أو تقبيلُ غيرِ الحجرِ الأسودِ من جُدران الكعَبة، ونحو ذلك مما قد يَظنُّه بعضُ الناس تعظيما= كان هذا غلطًا. وإذا نهاهُ ناهٍ عن ذلك فقال: نَهْيُك لي عن هذا تنقُّصٌ واستخفاف بحرمة البيت، كان قد غَلِطَ غلطًا ثانيًا.   (1) سورة البقرة: 158. (2) أخرجه البخاري (1643) ومسلم (1277) من حديث عائشة. (3) سورة الحج: 32-33. (4) سورة الحج: 30. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 ولهذا لمّا طافَ ابنُ عباس ومعاويةُ بالبيت فكان ابن عباس لا يَستلم إلاّ الركنينِ اليمانيين، واستلم معاويةُ الأركانَ الأربعةَ، فقال ابن عباس: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستلم إلاّ الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس من البيتِ شيء مهجور، فقال له ابن عباس: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (1) ، فسَكتَ معاويةُ ووافقَ ابنَ عباس (2) . فمعاويةُ احتجَّ بأنّ البيت كلَّه معظَّم لا يُهجَر منه شيء، فأجابَه ابن عباسٍ بأن العباداتِ يجبُ فيها اتباعُ ما شَرَعَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمّتِه، ليس لأحدٍ أن يَشرعَ برأيه عبادةً لما يراه في ذلك من تعظيم الشعائر. فوافقَه معَاويةُ، وعَلِمَ أنَ الصوابَ مع ابن عباسٍ. وكذلك ما ثبت في الصحيحين (3) أن عمر بن الخطاب لمّا قَبَّلَ الحجرَ الأسودَ قال: والله إني أعلَمُ أنكَ حجرٌ لا تَضرُّ ولا تَنفَعُ، ولولا أني رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقبِّلُك لَمَا قَبَّلْتك. بيَّن عمر -رضي [الله] عنه- أنّ العباداتِ مبناها على متابعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذْ كان دينُ الإسلام مبنيًّا على أصلينِ: أحدهما: أن لا يعبُد إلا الله، لا يُشرِك به شيئًا.   (1) سورة الأحزاب: 21. (2) أخرجه بنحوه أحمد (1/217) من طريق مجاهد عن ابن عباس. وللحديث طرق أخرى ذكرها الحافظ في الفتح (3/473، 474) . وأصله عند البخاري (1608) ، والجزء المرفوع منه فقط عند مسلم (1269) . (3) البخاري (1597، 1605، 1610) ومسلم (1270) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 والثاني: أن يَعبده بما شرع من الدين، لا يعبده بشَرْع مَن شرعَ مِن الدين ما لم يأذَن به الله، كالذين قال فيهم: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (1) . فأخبرَ عمرُ أنا لم نُقبِّلْك نَرجو منفعتَك ونخافُ مَضرَّتَك، كما كان المشركون يفعلون بأوثانهم، بل نعلم أنك حجر لا تَضُرُّ ولا تنفع، ولولا أن الرسول قَبلك -وقد أمرنا الله باتباعِه، فصارَ ذلك عبادةً مشروعةً- لما قبَّلْتك، لسنا كالنصارى والمشركين وأهل البدع الذين يعبدون غيرَ الله بغيرِ إذن الله، بل لا نعبد إلاّ الله بإذن الله، كما قال لنبيه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)) (2) ، فبيَّن أن رسوله يدعو إليه بما أذن فيه من الشَّرع، لا بما لم يأذن به، كالذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. وكذلك قال عمر (3) : فِيْمَ الرملُ الآن والإبداءُ عن المناكب؟ وقد أَطَّأَ الله الإسلامَ ونفَى الشركَ وأهلَه، ثم قال: لا نَدَعُ شيئًا كُنَّا نفعلُه على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ فعلناه. وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابَه في عمرة القضيةِ بالاضطباع وبالرمل ليُرِيَ المشركين قوتَهم، ولهذا لم يأمرهم بالرمل بين الركنين   (1) سورة الشورى: 21. (2) سورة الأحزاب: 45-46. (3) أخرجه أبو داود (1887) عنه. وأصله عند البخاري (1605) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 اليمانيين، لأن المشركين كانوا بقُعَيْقِعَانَ جَبَلِ المروةِ ينظرون إليهم (1) . ثمَّ إنه لما حَجِّ اضطَبَعَ ورَمَلَ من الحجر الأسود إلى الحجرِ الأسود، فجعلَ ذلك شرْعًا لأمتِه. فبيَّن عمرُ أنه لو لم يُشْرَع ذلك لما فَعَلْناه، لزوالِ السببِ الذي أوجبَه إذْ ذاك. ومعلوم أن مكَّةَ -شرَّفَها الله- فيها شَعَائرُ الله، وفيها بيتُه الذي أوجبَ الحجَّ إليه، وأمرَ الناسَ باستقباله في صلاتهم، وحَرَّم صَيْدَه ونباتَه، وأثبتَ له من الفضائل والخصائص ما لم يثبتْه لشيء من البقاع. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكة: "والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضَ الله إلى الله -وفي رواية: وأحبُّ أرضِ الله إليَّ-، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ لما خَرَجتُ" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح. فإذا كان الله لم يَشرع أن يتمسَّح إلا بالركنين اليمانيينِ لكونهما على قواعدِ إبراهيم، ويُقبَّل الحجر الأسود لكونه بمنزلة يمين الله في الأرض (3) ، فلا يُقبَّل سائرُ جُدرانِ الكعبة، ولا يُقَبَّل مقامُ إبراهيم الذي هناك ولا يتمسَّح به، ولا يُقبَّل مقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان يُصلي فيه ولا يُتَمسَّح به، ولا يُقبَّل قَبرُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يتمسَّح به= فمعلوم أن   (1) كما في رواية ابن عباس المعلقة عند البخاري (4256) ، ووصلها الإسماعيلي كما ذكر الحافظ في "الفتح" (7/510) . (2) أخرجه أحمد (4/305) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108) من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. (3) أخرجه ابن قتيبة في "غريب الحديث" (2/96) وعبد الرزاق في المصنف (5/39) . موقوفًا على ابن عباس، وهو صحيح عنه. ويُروى مرفوعًا عن جابر وغيره، ولا يثبت رفعُه. انظر "الضعيفة" (223) و"جامع المسائل" (13/63) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 قُبورَ سائرِ الأنبيِاء والصالحين التي ببقية البلاد (مثلَ ما بالشامِ وغيرها من الأمكنة التي يُقال: إنها مقام إبراهيم أو المسيح أو غيرهما، كمقامِ إبراهيم ببَرْزَةَ، وكمغَارةِ الدّم، والرَّبوة التي يُقال: إنه كان بها المسيحُ وأمُّه، وكطورِ موسى وغارِ حِرَاءَ وغيرِهما من الجبالِ والمغاراتِ، وكسائر قبور الصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهما، وكصَخْرةِ بيتِ المقدس وغيرها) أولَى [بأن] لا يُقبَّلَ شيء من ذلك ولا يُستَلَم ولا يُطافَ به، فلا يكون شيء من ذلك بمنزلةِ الركنين اليمانيين ولا بمنزلة الحجر الأسود. ولهذا قال عمر: والله إني لأعلَمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تَنفعُ، ولولا أني رأيت رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقبِّلُك لما قَبَّلتك. يدلُّ على أنه ليس من الأحجارِ ما يُقبَّل، إذ كان رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يشرع تقبيلَ شيء من ذلك. والحديث الذي يرويه بعضُ الكذابين: "لو أحسنَ أحدُكم ظَنَّه بحجرٍ لَنفَعَه الله به" (1) كَذِب مُفترى باتفاقِ أهلِ العلم، وإنما هذا من قولِ عُبَّادِ الأصنام الذين يُحسِنون ظنَّهم بالحجارةِ، وقال تعالى لهم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)) (2) ، وقال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)) (3) ، وقال الخليل: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ   (1) موضوع لا أصل له، قال المؤلف في مجموع الفتاوى (24/335) : إنه من المكذوبات. وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 139) : هو من وضع المشركين عباد الأوثان. (2) سورة الأنبياء: 98. (3) سورة البقرة: 24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شيئًا (42)) (1) ، وقال تعالى عن عُبَّاد العِجْل: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) (2) . وذكر تعالى عن الخليل أنه قال لقومه: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شيئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)) (3) . وفي الموضع الآخر: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)) (4) . فهؤلاء المشركون كانوا قد أحسنوا ظنَّهم بالحجارة، فكان عاقبتُهم أنهم في النار خالدون. وإنما يُحسِن العبدُ ظنَّه بربِّه، كما   (1) سورة مريم: 42. (2) سورة الأعراف: 148. (3) سورة الأنبياء: 52-67. (4) سورة الصافات: 95-96. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 ثبتَ في الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقولُ الله: أنا عندَ ظنِّ عبدِي بي، وأنا معَه إذا دعاني، فإن ذكرَني في نفسِه ذكرتُه في نفسِي، وإن ذكرَني في مَلأٍ ذكرتُه في مَلأٍ خير منه". وفي صحيح مسلم (2) عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يَموتَن أحدُكم إلاّ وهو حَسَنُ الظنِّ بالله". وبالجملة فهذا أصل متفقٌ عليه بين أئمةِ الدين أن َّ العبادات مَبْنَاها على توقيفِ الرسولِ وطاعةِ أمرِه والاقتداءِ به، فلا يكون شيءٌ عبادة إلاّ أن يَشرعَه الرسولُ، فيكون واجبًا أو مستحبًّا، وما ليسَ بواجب ولا مستحبٍّ فليسَ بعبادةٍ باتفاقِ المسلمين. ومن اعتقدَ مثلَ ذلك عبادةً كان جاهلاً، وإن ظَنَّ أنّ ذلك تعظيمٌ لمن يَجِبُ تعظيمُه، فإن التعظيم المشروع لا يكون إلاّ واجبًا أو مستحبًّا. ومَن نُهِيَ عن اتخاذ الأحبارِ والرُّهبانِ أربابًا من دونِ الله والمسيح ابن مريم، وعن اتخاذ الملائكةِ والنبيين أربَابًا، وعن الغُلُوِّ في الأنبياء والصالحين، فزَعمَ أنَّ هذا تنقُّصٌ واستخفافٌ بالأنبياء والصالحين والملائكة، فهو من جنس النصارى وأشباهِهم من المشركين وأهلِ البدع، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ   (1) البخاري (7405) ومسلم (2675) عن أبي هريرة. (2) برقم (2877) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)) (1) . وقد قال: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2) . وقال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (3) . فهذه الأمور التي ذمَّ الله بها النصارى، إذْ نُهُوا عنها قالوا: هذا تنقُّص بالمسيح والأحبار والرهبان، وكانوا كفّارًا بجعلِهم هذا النهيَ تنقُّصًا مذمومًا، إذ كانوا عظَّموا الأنبياء والصالحين تعظيمًا لم يُشرَع لهم.   (1) سورة النساء: 171-173. (2) سورة آل عمران: 79-80. (3) سورة التوبة: 30-31. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 وكذلك من اتخذَ قبورَهم مساجدَ تعظيمًا لهم، أو سَجَدَ لهم تعظيمًا لهم، أو دَعَاهم وسألهِم -كما يَدعُو الله ويسألُه- بعد مَماتِهم وفي تغيّبِهم، أو رَجَاهم وخافهم كما يَرجو الله ويخافه= فإنه مشركٌ مبتدع. وإذا نُهِيَ عن ذلك فقال: هذا تنقُّصٌ، زادَ ضلالةً، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) (1) وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)) (2) . فجعل الله الخشيةَ والتقوى والتوكُّلَ والرغبةَ لله وحدَه، وجَعَلَ للرسول أن يُطاعَ، فمن يُطِع الرسولَ فقد أطاعَ الله، وأن يرْضَوا بما آتاه، وهو ما حَلَّلَه، فلا يَطلب ما حرَّمه الله، بل الحلالُ ما حلَّله، والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعَه. ويجب أن يكون أحبَّ إلى المؤمنين من أنفُسِهم وأهليهم، إلى غيرِ ذلك من حقوقِه (3) . ولا يُعبَد إلاّ الله، ولا يتَوكَّل إلاّ على الله، ولا يُرغَب إلاّ إلى الله، ولا يُخشَى ولا يُتَّقى إلاّ الله. وقد اتفقتْ أئمة المسلمين على أن من قَصَد الصلاةَ في المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، وقَصَد الدعاءَ عندها، معتقدًا أن الصلاةَ فيها والدعاءَ عندها أفضلُ من الصلاةِ والدعاءِ في المساجد   (1) سورة النور: 52. (2) سورة التوبة: 59. (3) في الأصل: "حقوقهم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 المبنية لله لا على قبرِ أحد= فإنه مخطىء ضالٌّ، وإن كان كثير من الجهال يَرَى ذلك من تعظيمهم. وكذلك اتفقَ الأئمة الأربعةُ وغيرهم على أنه لا يُشرَع لأحدٍ أن يستلمَ ويُقبِّلَ غيرَ الركنين اليمانيينِ، لا قبورَ الأنبياء ولا حجرةَ بيت المقدس ولا غيرَ ذلك، ولا مقامات الأنبياء كمقام إبراهيم الذي بمكة، والمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين وغير ذلك مما يَستلمُه ويُقبِّلُه كثير من الجهال، ويَرون ذلك من تعظيمها، وذلك ليس بواجب ولا مستحبّ باتفاق المسلمين. ومن فَعَلَ ذلك معتقدًا أنّه بِرّ وقُربة فهو ضالّ مبتدعٌ مشابهٌ للنصارى. واتفق أيضًا أئمةُ المسلمين على أنّه لا يُشرَعُ لأحدٍ أن يَدعوَ ميتًا ولا غائبًا، فلا يدعوه ولا يَسألُه حاجةً، ولا يقول: اغْفِرْ ذنبي، أو انصُرْ ديني، أو انصُرْني على عدوّي، أو غير ذلك من المسائل، ولا يَشتكي إليه، ولا يَستجير به، كما يَفعلُه النصارى بمن يُصوِّرون التماثيلَ على صورته، ويقولون: مقصودُنا دعاءُ أصحاب هذه التماثيل والاستشفاعُ بهم، فمثلُ هذا ليس مشروعًا -لا واجبًاَ ولا مستحبًّا- في دين المسلمين باتفاقِ المسلمين. ومَن فَعَلَ ذلك معتقدًا أنه يُستحبُّ فهو ضالّ مبتدع. بخلافِ طلب الدعاءِ والشفاعةِ من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصالحين، كما كان أصحابُه يَطلبُون منه الدعاءَ ويَستشفعون به ويتوسَّلُون بدعائِه في حياته، كما ثبت في صحيح البخاري (1) عن عمر بن الخطاب أنه   (1) برقمي (1010، 3710) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 قال: "اللهمّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبْنا نتوسَّلُ إليك [بنبيِّنا فتَسْقِينا، وإنّا نتوسَّلُ إليك] بعَمِّ نبيِّنَا فَاسْقِنا"، فيُسْقَون. وقد ثبت في الصحيحين (1) حديث أنس لما توسَّلُوا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستشفعوا به، فطلبوا منه أن يَدعُوَ لهم، حينَ قال له الأعرابي: جُهِدتِ الأنفسُ وجاعَ العِيالُ وهَلكَ المالُ، فادعُ الله لنا، فدَعَا الله لهم، فأُمْطِروا سَبْتًا. ثم شَكَوا إليه بهَدْم الأبنية وانقطاع الطُرق، وسألوه أن يدعُوَ الله بِكَشْفِها عنهم، فدَعاه، فكَشَفَها عنهم. وكذلك يومَ القيامة يَتوسَّلُ به أهلُ الموقفِ ويستشفعون به، فيَشفعُ لهم إلى ربّه أن يَقْضِي بينهم. ثمَّ يشفعُ شفاعةً أخرى لأهلِ الكبائرِ من أمَّتِه، ويَشفَعُ في أن يُخرِجَ الله من النار مَن في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان، كما استفاضتْ بذلك الأحاديثُ الصحيحة (2) . ولما ماتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توسَّلُوا بدعاءِ العبَّاسِ عَمِّه، ولم يتوسَّلُوا به بعد موتِه، فإنهم إنما كانوا يتوسَّلُونَ بدعائه في حياتِه، وذلك ينقطع بموته، فتوسَّلُوا بدعاء العباس. وكذلك معاويةُ بن أبي سفيان استشفَعَ في الشام وتوسَّلَ بيزيدَ ابنِ الأسودِ الجُرَشي، وقال: "اللهمَّ إنّا نتوسَّلُ إليك بخيارنا، يا يزيدُ! ارفَعْ يديك"، فرفَعَ يَدَيْه فدعَا ودَعَا الناسُ، حتى نزلَ المطَرُ (3) .   (1) البخاري (933 ومواضع أخرى) ومسلم (897) . (2) وهي مخرجة في الصحيحين وغيرهما. (3) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (1/602) والفسوي في المعرفة= الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 ولهذا قال الفقهاء: يُستحَبُّ الاستسقاءُ بأهلِ الصلاح والدين، والأولى أن يكونوا من أهلِ بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اقتداءً بعمرَ لما استسقَى بالعبّاس. ولو كان توسُّلُهم في حياتِه هو إقسامًا به على الله وتوسُّلاً بذاتِه من غيرِ أن يدعُوَ لهم، لأمكنَ ذلك بعدَ مماتِه، ولكانَ توسُّلهم به أولَى من توسُّلِهم بالعباس. ولكن إنما كانوا يتوسَّلون بدعائه، كما ثبتَ ذلك في الصحاح أنهم توسَّلُوا في الاستسقاء بدعائه. وفي صحيح البخاري (1) عن ابن عمر قال: ربّما ذكرتُ قولَ الشاعر: وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهِه … ثِمَالُ اليتامَى عِصْمَةٌ للأرامِلِ ولم يقل أحد من المسلمين إنهم كانوا في حياتِه يُقسِمُون به ويتوسَّلون بذاتِه، بل حديثُ الأعمى الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وغيرهم (2) ، ألفاظُه صريحة في أن الأعمى إنما توسلَ بدعاءِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قد بسطت ألفاظه في موضع   = والتاريخ (2/380) عن سليم بن عامر، وصححه الحافظ في "الإصابة" (3/ 673) . وفي طبقات ابن سعد (7/444) : أُخبِرتُ عن أبي اليمان عن صفوان بن عمرو عن سليم، فذكره. وانظر "البداية والنهاية" (12/161) . (1) برقم (1009) . والبيت من قصيدة أبي طالب التي أوردها ابن هشام في "السيرة" (1/272-280) ، ثم قال: هذا ما صحّ لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها. (2) أخرجه أحمد (4/138) والترمذي (3578) والنسائي في عمل اليوم والليلة (658، 659) وابن ماجه (1385) وابن خزيمة (1219) وغيرهم من حديث عثمان بن حنيف، وصححه الترمذي والحاكم (1/313، 519) وغيرهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 آخر (1) . وفي أول الحديث أن الأعمى سألَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدعوَ الله أن يَرُدَّ إليه بَصَرَه، فهو طلبَ من النبي الدعاءَ، فأمرَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ ويُصلِّيَ ركعتينِ، ويقول: "اللهمّ إني أسألَك وأتوجَّهُ إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمةِ، يا محمد يا رسولَ الله إني أتوسَّلُ بك إلى ربي في حاجتي لتَقضِيَها، اللهمّ فشَفِّعْهُ فيَّ". وفيِ رواية ثانيةٍ رواها أحمد والبيهقى وغيرهما (2) : "اللهمَّ شَفِّعْه فيَّ وشفِّعْنِي فيه". فلما سألَ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدعوَ أمرَه أن يدعوَ هو أيضًا. كما قال له ربيعةُ بن كعب الأسلمي: أسألُ مرافقتك في الجنة، فقال: "أعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود" (3) . فإنّ شفاعةَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسؤالَه الإنسان قد يكون مشروطًا بشروطٍ، وقد يكون هناك مانعٌ، كاستغفارِه للمنافقين. فدعاؤه من أعظم الأسباب في حصولِ المطلوب، ولكن السبب قد يكون له شروطٌ وموانعُ، فإذا كان إبراهيم قد استغفر لأبيه فلم يُغفَر له، وقيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنافقين: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (4) ، وقيل له: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (5) ، لم يَمنَعْ ذلك أن يكونَ دعاءُ   (1) انظر "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ضمن مجموع الفتاوى (1/265-279) . و"الرد على البكري" (ص 128-138) . (2) هذه الرواية أخرجها أحمد (4/138) والحاكم في المستدرك (1/313، 519) والبيهقي في كتاب الدعوات وغيرهم. (3) أخرجه مسلم (489) وأبو داود (1320) والنسائي (2/227) عن ربيعة. (4) سورة المنافقون: 6. (5) سورة التوبة: 84. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 إبراهيم ومحمد عند الله أعظمَ الدعاءِ إجابةً، وجَاهُهما عند الله أعظمَ جَاهٍ للمخلوقين، وهما الخليلان، وهما أفضل البريَّةِ. لكنَّ الدعاءَ وإن كان سببًا قويًّا فالكفرُ مانعٌ معارضٌ، فإن الله لا يَغفِرُ أن يُشرَكَ به، وقد حرَّمَ الجنةَ على الكافرين والمنافقين وإن استغفرَ لهم محمد وإبراهيم، لوجودِ المانع لا لنَقْصِ جَاهِ الشفيع العظيمِ القدير. وكذلك ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال: "استأذنتُ ربّي في أن أستغفِرَ لأمِّي فلم يأذَنْ لي، واستأذنتُه في أن أزورَ قبرَها فأذِنَ لي". وقد قال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (2) ، ثم اعتذرَ عن إبراهيم بقوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) (3) . فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لربيعة: "سَلْ"، قال: أسألُ مرافقتَك في الجنة، فقال: "أَوَ غيرَ ذلك"؟ فقال: بل هو ذاك، قال: "أَعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ". فإن المطلوبَ عَالٍ لا يُنَالُ بمجرَّدِ الدعاءِ، بل لابُدَّ من عملٍ صالحٍ يكونُ من صاحبه، يكونُ عونًا للداعي، فقال: "أعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود".   (1) مسلم (976) عن أبي هريرة. (2) سورة التوبة: 113. (3) سورة التوبة: 114. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 كذلك أَمَرَ الأعمى -لما طلبَ منه الدعاءَ له- أن يُعِينَه هو أيضًا بصلاتِه ودعائِه، وقال: "صَلِّ ركعتينِ ثم قُلْ: اللهمّ إني أسألكَ وأتوسَّلُ إليك بنبيك محمد نبيِّ الرحمة" أي بدعاءِ نبيِّك وشفاعتِه. كما قال عمر: "كنّا نتوسَّلُ إليك بنبينا، وإنا نتوسلُ إليك بعم نبينا". ومعلومٌ أنهم إنما توسَّلُوا بدعاءِ العبَّاس، كما كانوا يتوسَّلُون بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا فَعَلَه عمرُ بين المهاجرين والأنصار عامَ الرَّمَادَةِ، ولم يُنكِرْهُ أحدٌ ولم يَقُلْ له: بل التوسُلُ بذاتِ النبي أو الإقسامُ به مشروعٌ، فلِمَ يَعْدِلُ عن التوسُّلِ بالرسولِ إلى العباس؟ فلما أقرُّوا عمرَ على ذلك ولم يُنكِره أحدٌ عُلِمَ أنَّ ما فَعَلَه عمرُ وأصحابُه معَه هو المشروعُ دونَ ما يُخالِفُه. وكذلك أمرَ الأعمى أن يتوسَّلَ بدعائِه وشفاعتِه، ويَدُلُّ على ذلك قولُه في آخر الحديث: "اللهمَّ فَشَفِّعْه فيَّ"، عُلِمَ أنه كان يدعو ويَشْفَع له، وأن الأعمى إنما توسَلَ بدعائِه وشفاعتِه، وإلاّ فكان يقول: "اللهم وهذا شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". و التوسُّل بدعائه وشفاعتِه هو التوسُّل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه، وهو معنى التوسُّل به عندهم، كما قد بَيَّن ذلك حديثُ عمر وحديثُ الأعمى. ولكن من الناس مَن ظنَّ أن المراد بلفظ التوسُّل به هو التوسُل بذاتِه أو الإقسامُ بذاتِه، وهذا غلطٌ على الصحابة. وأما كلامُ العلماء في أن ذلك مشروعٌ أو لا؟ فقد ذكرَ السائلُ النقلَ عن أبي حنيفةَ وأبي يوسف وغيرِهما أن ذلك منهيٌّ عنه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 وما ذكرَه عن أبي محمد بن عبد السلام يوافقُ ذلك. وأما استثناؤُه الرسولَ إن صحَّ حديثُ الأعمى، فهو -رحمه الله- لم يَستحضِر الحديثَ بسياقه حتى يتبيَّنَ له أنه لا يُناقِضُ ما أفتَى به، بل ظنَّ أنه يَدُلُّ على محل السؤال، فاستثناه بتقدير صحته. والحديثُ صحيح، لكن لا يدلُّ على هذه المسألة كما تقدَّم. وأما ما نقله (1) السائلُ عن القُشَيري فأَجنبي عن هذه المسألة، لا يَدُلُّ عليها بنفيٍ ولا إثباتٍ. وقد ذكرَ المرُّوذي في مَنسَكِه عن الإمام أحمد بن حنبل أن الداعي المسلِّمَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوسَّلُ به في دعائِه. فهذا النقلُ يُجعَل معارضًا لما نُقِلَ عن أبي حنيفة وغيره. ونقل أيضًا عن عثمان بن حُنَيف أنه أمر رجلاً بعد موتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يَدعُوَ بهذا الدعاءِ، لكن لم يقل فيه: "اللهم فشفَعْه فيَّ". وقد تكلَّمتُ على إسناد ذلك، وهل هو ثابت أم لا؟ وبَسطتُ الكلام على ذلك في غير هذا الموضع (2) ، وبيَّنتُ أنه [على] تقديرِ ثبوته يكون معارضا لما فَعَلَه عمرُ بمحضرٍ من المهاجرين والأنصار، وإذا كانت مسألة نزاعٍ رُدَّتْ إلى الله والرسول. وما نُقِلَ عن أحمد رضي الله عنه فإنه يُشبهُ ما نُقِلَ عنه من جوازِ الإقسامِ برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه يجب بذلك الَكفارةُ، فإن الإقسامَ به   (1) في الأصل: "فعله". (2) انظر مجموع الفتاوى (1/268-276) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 في اليمين كالإقسامِ به على الله، وكالتوسُّل بذاتِه. وهذه الرواية عن أحمد لم يُوافِقْها [أحد] من الأئمة، بل جمهورُ الأئمة على الرواية الأخرى عنه، وهو أنه لا يُشرَع الحلفُ بمخلوقٍ لا النبيِّ ولا غيرِه، ولا يجب بذلك كفارة. وتلك الرواية اختارها طائفة من أصحابه ونَصَرُوها في الخلاف، كالقاضي والشريف أبي جعفر وابن عقيل وغيرهم. ثمّ أكثر هؤلاء يقولون: هذا الحكمُ مختصٌّ به، لكون الإيمان به بخصوصه ركنًا في الإيمان، لا يتمُّ الإيمان إلاّ بالشهادتين. وذكر ابن عقيل أن حكم سائر الأنبياء كذلك في انعقاد اليمين بالحلف بهم. وأما جماهيرُ علماء المسلمين من السَّلَف والخلف فعلَى أنه لا ينعقد اليمينُ بمخلوقٍ، لا الأنبياء ولا غيرِهم، كالرواية الثانية عن أحمد. وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة واختيارُ طائفةٍ من أصحاب أحمد، وهذا القول هو الصواب، فإنه قد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تحلفوا إلاّ بالله"، وقال: "من كان حالفًا فليحلِفْ بالله أو ليَصْمُت". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "مَن حَلَفَ بغير الله فقد أشرك". وقال ابن مسعود وابن عباس: "لأن أحلفَ كاذبًا أحبُّ إليَّ   (1) البخاري (3836، 6108، 6646، 6648) ومسلم (1646) عن عبد الله بن عمر. (2) أخرجه أبو داود (3251) والترمذي (1535) عن عبد الله بن عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 [من] أن أحلفَ بغيرِه صادقًا" (1) . وذلك لأن الحلفَ بغير الله شركٌ، والشركُ أعظمُ إثمًا من الكذب. وهذا يوافقُ أظهرَ قولَي العلماء أن النهيَ عن الحلف بالمخلوقات نهيُ تحريم لا نهيُ تنزيهٍ، وهذا قول أكثرِ العلماء، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. وإذا كان الحلفُ بغير الله من باب الشرك، فمعلومٌ أنه لا يجوز أن يُشرَكَ به ولا يُعْدَلَ به ولا يُسَوَّى به الأنبياءُ وغيرُهم، قال تعالى: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2) ، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)) (3) . قال طائفة من السلف (4) : كان قوم يدعون الملائكة والأنبياء، فأنزلَ الله هذه الآية بيَّن فيها أن الملائكة والأنبياء قد يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، كما أن سائر العباد يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، فلا يجوز دعاءُ الملائكةِ والأنبياءِ. وقد قال رجلٌ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما شاءَ الله وشئتَ، فقال: "أجَعَلْتَني لله نِدًّا؟ قُلْ: ما شاء الله وحدَه" (5) . وقال: "لا تقولوا ما شاء الله   (1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنّف" (8/469) عن ابن مسعود. (2) سورة آل عمران: 80. (3) سورة الإسراء: 56-57. (4) انظر صحيح البخاري (4714، 4715) وتفسير الطبري (15/72-73) وابن كثير (5/2103) . (5) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (783) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"= الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 وشاءَ محمدٌ، بل قولوا ما شاء الله ثمَّ شاءَ محمدٌ" (1) . فنهاهم [أن] يُشرِكوا به حتى في مثلِ هذه الأقوالِ. وقد أمرَ الله أن يقولَ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) (2) الآية. ولما قال الأعرابي: ومَن يَعْصهما فقد غَوى، قال: "بئسَ الخطيبُ أنتَ، قُلْ: ومن يَعْصِ الله ورسولَه" (3) . مع أنه قد رُوِيَ عنه أنه قال: "ومَن يَعْصِهما" (4) ، وذلك لأن هذا إذا قاله من جَعَلَ طاعةَ الرسولِ تابعةً لطاعة الله ويجعله عبدًا للهِ ورسولاً، لم يُنكَر عليه الجمعُ بينهما في الضمير، بخلافِ من قد لا يَفهم ذلك، بل يجعل الرسولَ ندًّا، كقولِ القائل: ما شاء الله وشاء محمد. وأيضًا فقد نهَى معاذًا وغيرَه عن السجودِ له، وقال: "أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنتَ ساجدًا لقبرِي"؟ قال: لا، قال: "فإنه لا يَصلُح السجودُ إلاّ لله" (5) .   = (988) . وابن ماجه (2117) من حديث ابن عباس. وفي إسناده الأجلح الكندي مختلف فيه. والحديث صحيح لشواهده. (1) أخرجه أحمد (5/393) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (984) وابن ماجه (2118) من حديث حذيفة بن اليمان. وله شواهد من حديث الطفيل بن سخيرة وقتيلة بن صيفي وجابر بن سمرة. (2) سورة آل عمران: 64. (3) أخرجه مسلم (870) وأبو داود (1099، 4981) والنسائي (6/90) عن عدي بن حاتم. (4) أخرجه أبو داود (1097، 2119) عن ابن مسعود، وصححه النووي في شرح مسلم (6/160) . (5) أخرجه الدارمي (1471) وأبو داود (2140) عن قيس بن سعد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 وأيضًا فقد ثبتَ في الصحيح (1) أنهم لما صَلَّوا خلفَه قيامًا وهو قاعدٌ لمرضِه قال: "لا تُعظِّموني كما تُعظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضًا". فنهاهم أن يقوموا -مع أنّ قيامَهم كان لله- لئلاّ يُشبِهوا مَن يقوم له. وقال: "اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَد" (2) . وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال [في] مرض موته: "لعنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ" يُحذر ما فَعَلُوا. قالت عائشة (4) : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذَ مسجدًا. وفي السنن (5) عنه أنه قال: "لا تتخذوا بيتي عيدًا، وصَلُّوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني". وفي الصحيح (6) عنه أنه قال: "لا تُطْرُوني كما أَطْرتِ النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا [عبدٌ] فقولوا: عبد الله ورسوله". فهذه النصوص وغيرُها تُبيِّن أنه نهاهم عن الشركِ به والغُلوِّ فيه، وسَدَّ هذه الذريعةَ بنَهْيِهم أن يتخذوا قبرَه مسجدًا، وأن يقولوا   (1) أخرجه مسلم (413) عن جابر بمعناه. (2) أخرجه أحمد (2/246) والحميدي في مسنده (1025) بإسناد صحيح عن أبي هريرة. (3) البخاري (435، 436 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس. (4) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) . (5) أخرجه أبو داود (2042) وأحمد (2/367) بسند حسن عن أبي هريرة. (6) أخرجه البخاري (3445، 6830) عن عمر بن الخطاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 ما شاء الله وشاء محمد، وأنه دُفِنَ في بيتِه ولم يُظْهَر قبرُه خوفَ الإشراك. وإذا كان كذلك، والقسم بالمخلوقِ شرك بالمخلوق، والشرك لا يجوز به ولا بغيرِه، فلا يجوز القسمُ به، كما قال الجمهورُ، ولا تنعقدُ اليمينُ به، ولا يجبُ بذلك كفارة. وقد تنازعَ العلماءُ في الصلاة عليه عند الذبيحةِ، فكرِهَ ذلك مالك وأحمد وغيرهما، لئلاَّ يُذكرَ على الذبيحة غيرُ الله، خوفًا من الإهلال بها لغيرِ الله من أن ذلك صلاة عليه. ورخَّصَ في ذلك الشافعي وأبو إسحاق ابن شاقلا من أصحاب أحمد، قالوا: لأن الصلاة عليه من باب الإيمان، وهذا بخلافِ الإقسَامِ به، فإنَ الإقسامَ بسائرِ المخلوقات شرك به، والشرك به لا يجوز بحال. وكلُّ ما كان من خصائص الربِّ: كالعبادة لله، والنذر لله، والصدقة لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والخشية لله، والرغبة إلى الله، والاستعانة به، وغير ذلك مما هو من خصائص الربِّ= فإنه لا يجوز أن يُفعَل بمخلوق، لا الأنبياءِ ولا غيرِهم، ولا يُستثنَى من ذلك أحد. وإذا كان الإقسامُ به منهيًّا عنه لا يَنعقِدُ به اليمينُ ولا يجبُ به الكفّارة، فالاقسام به على الله أولى أن يكون منهيًّا عنه، وكذلك الإقسامُ بسائرِ المخلوقات على الله. وكذلك التوسُّلُ بذواب الملائكة والأنبياء والصالحين أيضًا كذلك، فإن أعظم الوسائل للخلقِ إلى الله هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعظم وسائل الخلقِ إلى الله التوسّل بإيمانٍ به: بتصديقِه فيما أخبرَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 وطاعتِه فيما أوجبَ وأمرَ، وموالاةِ أوليائِه ومعاداةِ أعدائه، وتحليلِ ما حَلَّل، وتحريمِ ما حرَّم، وإرضائِه ومحبتِه، وتقديمِه في ذلك على الأهلِ والمال. فهذه الوسيلة التي أمرَنا الله بها في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (1) . فالوسيلة ما يتوسَّلُ به، [و] هو ما يتوصَّل [به] ، والتوسل والتوصل إلى الله إنما هو بالإيمان بالرسول وتصديقِه وطاعتِه، لا وسيلةَ للخلقِ إلى الله إلاّ هذه الوسيلة. ثمّ من آمن بالرسول إذا دَعا له الرسولُ وشفعَ فيه، كان دعاءُ الرسولِ وشفاعتُه مما يتَوسَّلُ به. فهذا هو التوسُّلُ بالرسول. فأمّا إذا قُدِّر أن الرجلَ لم يُطِعْه، وهو لم يَدْعُ للإنسانِ، فنفسُ ذاتِ الرسول لا يَنفعُ الإنسانَ شيئًا، بل هو أعظمُ الخلقِ عند الله قَدْرًا وجاهًا، وذلك فضلُ الله عليه وإحسانُه إليه، وإنما يَنتفِعُ العِبادُ من ذلك بما يقومُ بهم من الإيمان به، أو ما يقومُ به من الدعاءِ لهم. فأما إذا قام بهم دعاؤُه والإقسامُ به فهذا لا يَنفعُهم. والدعاء من أفضل العبادات، ولم يَنقُل أحدٌ عنه أنه شَرَع لأمتِه الإقسامَ بأحدٍ من الأنبياء والصالحين على الله، فمن جَعَلَ ذلك مشروعًا -واجبًا أو مستحبًّا- فقد قَفَا ما لا عِلْمَ له به، وقال قولاً بلا حجةٍ، وشرع دينًا لم يأذَنْ به الله. وإذا لم يكن ذلك واجبًا ولا مستحبًّا كان من فَعَلَه معتقدًا أنه واجبٌ أو مستحب مُخطِئًا في ذلك، وإذا كان مجتهدًا [أو] مقلِّدًا   (1) سورة المائدة: 35. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 فله حُكْمُ أمثالِه من المجتهدين والمقلدين يُعفَى عنِ خَطَئِه. فأما إذا أنكرَ على غيره بلا علم، ورَدَّ الأقوالَ بلا حجةٍ، وذمَّ غيرَه ممن هو مجتهد أو مقلد، فهو مستحق للتعزير والزجر، وإن كان المنازع له مخطئًا، فإن المجتهدَ المخطىءَ غَفَر الله له خَطأَه، فكيف إذا كان المنازعُ له المصيبَ وهو المخطىءُ؟! ولكنّ شأنَ أهل البدع أنهم يبتدعون بدعةً، ويُوالونَ عليها ويُعادُون، ويَذُمُّون بل يُفسِّقون بل يُكفرون من خالفهم، كما يَفعلُ الخوارجُ والرافضةُ والجهميةُ وأمثالُهم. وأما أهل العلم والسنة فيتبعون الحقَّ الذي جاءَ به الكتابُ والسنة، ويَعذُرونَ مَن خالفَهم إذا كان مجتهدًا مخطئًا أو مقلدًا له، فإنَّ الله سبحانَه وتعالى تجاوَز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال في دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) . وقد ثبتَ في الصحيح (2) أن الله استجابَ هذا الدعاء، وقال: قد فَعلتُ. والكلامُ على هذه المسائل قد بُسِطَ في مواضعَ غيرِ هذا، وصنّفت فيه مصنفات، وللعلماء في ذلك وما يتعلقُ به من الكلام ما لا يَتَّسِعُ له هذا الموضع. والله أعلم. (آخره. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلَّم تسليمًا) .   (1) سورة البقرة: 286. (2) أخرجه مسلم (125) عن أبي هريرة، و (126) عن ابن عباس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 الفُتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 (قال في فُتيا له تُسمى "بالأزهرية":) ومن قال: إنّ القرآن عبارة عن كلام الله تعالى، وقعَ في محذوراتٍ: أحدها: قولهم "إنّ هذا ليسَ هو كلامَ الله"، فإنَّ نَفْيَ هذا الإطلاقِ خلافُ ما عُلِمَ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ، وخلافُ ما دلَّ عليه الشرعُ والعقلُ. والثاني: قولهم "عبارة" إن أرادوا أنَّ هذا الثاني هو الذي عَبَّرَ عن كلامِ الله تعالى القائمِ بنفسِه، لَزِمَ أن يكونَ كلُّ تالٍ مُعبِّرًا عمّا في نفسِ الله تعالى. والمعبِّرُ عن غيرِه هو المُنشِىءُ للعبارةِ، فيكونُ كلُّ قارىءٍ هو المُنْشِىء لعبارةِ القرآن. وهذا معلومُ الفسادِ بالضرورة. وإن أرادوا أنَّ القرآنَ العربيَّ عبارة عن معانيه، فهذا حق، إذْ كلُّ كلامٍ فلفظُه عبارة عن معناه، لكنَّ هذا لا يَمنع أن يكون الكلامُ متناوِلاً للفظ والمعنى. الثالث: أنَّ الكلام قد قيل: إنّه حقيقةٌ في اللفظِ مجازٌ في المعنى، وقيل: حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ، وقيل: بل حقيقة في كلٍّ منهما. والصوابُ الذي عليه السلفُ والأئمةُ أنه حقيقةٌ في مجموعهما. كما أنَّ الإنسانَ قيل: هو حقيقةٌ في البدنِ فقط، وقيل: بل في الروحِ فقط. والصوابُ أنه حقيقة في المجموع. فالنزاعُ في الناطق كالنزاع في مَنْطِقِه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 وإذا كان كذلك فالمتكلِّمُ إذا تكلَّم بكلامٍ له لفظ ومعنى، وبُلِّغَ عنه بلفظِه ومعناه، فإذا قيل: مَا بلَّغَه المبلِّغُ من اللفظ إنّ هذا عبارة عن القرآن، وأرادَ به المعنى الذي للمبلَّغِ عنه= نَفَى عنه اللفظَ الذي للمبلَّغ عنه، والمعنى الذي قام بالمبلِّغ. فمن لم يثبتْ إلاّ القرآن المسموعَ الذي هو عبارة عن المعنى القائمِ بالذات، َ قيل له: فهذا الكلامُ المنظومُ الذي كانَ موجودًا قبلَ قراءةِ القُرَّاءِ هو موجود قطعًا وثابت، فهل هو داخلٌ في العبارةِ والمعبرِ عنه أو غيرُهما؟ فإن جَعلتَه غيرَهما بَطَلَ اقتصارُك على العبارة والمعبرِ عنه، وإن جعلتَه أحدَهما لَزِمَك إن لم تُثْبتْ إلاّ هذه العبارةَ والمعنى القائمَ بالذاتِ أن تجعلَه نفسَ ما سُمِعَ منَ القرّاء، فتَجعلَ عينَ ما بلغَه المبلِّغون هو عين ما سمعوه، وهذا الذي فررتَ منه. وأيضًا فيقالُ له: القارىء المبلِّغُ إذا قَرأ فلابُدَّ له فيما يقوم به من لفظٍ ومعنى، وإلاّ كان اللفظُ الذي قام به عبارةً عن القرآن، فيجبُ أن يكون عبارةً عن المعنى الذي قامَ به، لا عن معنًى قامَ بغيرِه. فقولهم "هذا هو العبارةُ عن المعنى القائم بالذات" أخطأوا من وجهين: أخطأوا في بيان مذهبِهم، فإنَّ حقيقةَ قولهم: أنَّ اللفظَ المسموعَ من القارىء حكايةُ اللفظِ الذي عَبَّر به عن معنى القرآن مطلقًا، وذلك أنَّ اللفظ عبارةٌ عن المعنى القائم بالذات، ولفظُه ومعناه حكايةٌ عن ذلك اللفظ والمعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 ثمَّ إذا عُرِفَ مذهبُهم بَقِيَ خَطَؤُهم في أصولٍ: منها: زَعْمُهم أنَّ معاني القرآنِ معنىً واحد هو الأمرُ والنهيُ والخبرُ، وأنَّ معنى التوراةِ والإنجيل والقرآنِ معنى واحدٌ، ومعنى آية الكرسي معنى آيةِ الدَّين. وفسادُ هذا معلومٌ بالضرورة. ومنها: زَعْمُهم أنَّ القرآنَ العربيَّ لم يتكلَّم الله به. (وأطالَ في ذلك وبَرهنَ عليه بما يَطولُ هنا ذِكْرُه، وقال بعد ذلك:) وأوَّلُ من قال هذا في الإسلام عبدُ الله بن سعيد بن كُلاَّب، وجَعَلَ القرآنَ المنزَّلَ حكايةً عن ذلك المعنى. فلما جاءَ الأشعريُّ واتبعَ ابنَ كُلاَّب في أكثرِ مقالتِه ناقشه على قوله: "إنّ هذا حكايةٌ عن ذلك"، وقالً: الحكايةُ تُماثِلُ المحكيَّ. فهذا اللفظُ يَصِحُّ من المعتزلةِ، لأنَّ ذلك المخلوقَ حروفٌ وأصواتٌ عندهم وحكايةٌ مثله، وأما على أصلِ ابن كُلاَّبٍ فلا يَصِحُّ أن يكون حكايةً. بل نقولُ: "إنّه عبارةٌ عن المعنى". ف أوَّلُ مَن قال بالعبارةِ الأشعريُّ. وكان البلاقلاَّني -فيما ذُكِرَ عنه- إذا دَرَّسَ مسألةَ القرآن يقولُ: هذا قولُ الأشعري ولم يَتبيَّنْ صحتَه، أو كلامًا هذا معناه. وكان الشيخ أبو حامدٍ الإسفراييني يقول : مذهبُ الشافعي وسائرِ الأئمةِ في القرآن خلافُ قولِ الأشعري، وقولُهم هو قولُ الإمام أحمد (1) .   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (12/160-161) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 وكذلك أبو محمد الجويني ذكرَ أنَّ الأشعريَّ خالفَ في مسألةِ الكلامِ قولَ الشافعيِّ وغيرِه، وأنه أخطأ في ذلك. وكذلك سائرُ أئمةِ أصحابِ مالكٍ والشافعيّ وغيرِهما يَذكرون قولَهم في حَدِّ الكلام وأنواعِه من الأمر والنهي والخبر العامّ والخاصّ وغير ذلك، ويجعلونَ الخلافَ في ذلك مع الأشعري، كما هو مبيَّنٌ في أصول الفقه التي صنفها أئمةُ أصحابِ أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم. (ثم قال بعدَ ذلك:) ومن قالَ من المعتزلةِ والكُلاَّبيَّة: إنّ القرآنَ المنزَّلَ حكايةُ ذلك، وظَنّوا أنَّ المبلِّغ حاكٍ لذلك الكلامِ، ولفظُ الحكايةِ قد يُرادُ به مُحاكاةُ الناسِ فيما يقولونه ويفعلونَه اقتداءً بهم وموافقةً لهم؛= فمن قال: إنَّ القرآن حكايةُ كلامِ الله تعالى بهذا المعنى، فقد غَلِطَ وضَلَّ ضلالاً مُبينًا، فإنّ القرآنَ لا يَقدِرُ الناسُ على أن يأتوا بمثلِه، ولا يَقدِر أحد أَن يأتي بما يَحكِيْه. وقد يُراد بلفظ "الحكاية" النقلُ والتبليغ، كما يقال: "فلان حكَى عن فلانٍ أنه قال كذا"، كما يقال عنه: "نقلَ عنه". فهذا بمعنى التبليغ للمعنى. وقد يقال: "حُكِيَ عن فلان أنه قالَ كذا وكذا"، لِما قالَه بلفظِه ومعناه، فالحكايةُ هنا بمعنى التبليغ للفظ والمعنى، لكن يُفَرَّق بينَ أن يقول: حَكيتُ كلامَه على وجهِ المماثلةِ له، وبينَ أن يقول: حكيتُ عنه كلامَه، وبَلَّغتُ عنه أنه قال مثلَ قوله من غيرِ تبليغ عنه، وقد يُرادُ به المعنى الآخر، وهو أنه بَلَّغَ عنه ما قالَه. فإن أُرِيدَ المعنى الأولُ جازَ أن يُقالَ: هذا حَكايةُ كلامِ فلانٍ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 وهذا مِثلُ كلامِ فلانٍ، وليسَ هو مبلِّغًا عنه كلامَه. وإن أُريدَ به المعنى الثاني -وهو ما إذا حكى الإنسانُ عن غيرِه ما يقولُه وبلَّغَه عنه- فهنا يُقال: هذا كلامُ فلانٍ، ولا يُقال: هذا حكايةُ كلامِ فلانٍ. كما لا يُقال: هذا مثلُ كلام فلان. بل قد يُقال: هذا كلامُ فلان بعينه، بمعنى أنه لم يُغيِّرْه ولَم يُحرِّفْ، ولم يَزِدْ ولم يَنقُص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 فتوى في الخضر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 بسم الله الرحمن الرحيم (قال بعد حكاية القول بحياة الخضر واحتجاج القائلين به ما نصه:) وقالت طائفةٌ: هو ميت، فإنَّ حياتَه ليس فيها دليلٌ يَصلُح مثلُه للخروج عن العادة المعروفةِ في بني آدم، وذلك بأنَّ حياتَه ليس فيها خبرٌ صحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أصحابه. والحديث المذكور في مسند الشافعي (1) مرسل ضعيف. والحديث الذي يُروَى في اجتماع الخضر وإلياس كلَّ عامٍ بالموسم وافتراقِهما على تلك الكلمات (2) هو أضعفُ من ذلك الحديث، والكلماتُ كلماتٌ حسنةٌ، لكنَّ الخبرَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باجتماعِهما كلَّ عامٍ وافتراقِهما على هؤلاء الكلمات خبرٌ ضعيف. وإذا لم يكن فيه خبرٌ صحيح عمن عَلَّم أمَّتَه كلَّ شيء،   (1) انظر ترتيبه لمحمد عابد السندي (1/216) . ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (7/268) عن علي بن الحسين مرسلاً. وفي إسناده شيخ الشافعي القاسم العمري متروك. وروي من وجه آخر ضعيف، ولا يصحّ. انظر "البداية والنهاية" (2/258) . (2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/426-427) وابن الجوزي في "الموضوعات" (1/195) عن ابن عباس. قال الدارقطني في "الأفراد": هذا حديث غريب من حديث ابن جريح، لم يحدّث به غير هذا الشيخ عنه. يعني الحسن بن رزين. وقال ابن المنادي: هو حديث واهٍ. انظر "البداية والنهاية" (2/261) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 وقال أبو ذر (1) : لقد توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما طائرٌ يُقلِّب جَناحَيْه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا، ونحو ذلك، مع أنه أخبرَهم بقصته مع موسى وتفصيلِ ما جَرى له معه، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وَدِدْتُ أنَّ موسى صَبَرَ حتى يُقَصَّ علينا من خبرِهما" (2) . فلو كان حيًّا كانت حياتهُ أعجبَ من ذلك كلِّه، فكيف لا يُخبِر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أم كيف يُخبِرُ به فلا يُبلغُه أصحابُه ولا كانَ هذا معروفًا عندهم؟ وأيضًا فلو كان حيًّا لكان يجتمع بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قد اجتمعَ به ليلةَ المعراجِ من ماتَ قبلَه، فكيفَ لا يَجتمعُ به مَن هو حَيّ في وقتِه؟ وأيضًا كان يجب عليه الإيمانُ به والمجاهدةُ معه، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) (3) الآية. قال ابن عباس (4) : ما بعثَ الله نبيًّا إلا أخذَ عليه الميثاقَ لئن بُعِثَ محمد وهو حيٌّ ليؤمنَنَّ به ولينصُرَنَّه، وأمرَه أن يأخذ الميثاقَ على أمتِه لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصُرُنَّه. والخضر إما نبيٌّ أو من أتباع الأنبياءِ، وعلى التقديرين فعليه أن يُؤمنَ بمحمدٍ ويَنصُرَه، ومعلوم أن ذلك لو وقعَ لكان مما تَتوفَّر الدَّواعي والهِمَمُ على نقلِه، فقد نَقَلَ الناسُ مَن آمنَ بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأحبارِ   (1) أخرجه أحمد (5/153، 162) عنه. (2) أخرجه البخاري (3401) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب. (3) سورة آل عمران: 81. (4) انظر تفسير ابن كثير (2/728) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 والرُّهبان، فكيف لا يُنقَل إيمانُ الخضرِ وجهادُه معه لو كان قد وقعَ؟ وقولُ من قال: "الخضر كان حيًّا في حياته" بمنزلةِ قولِ من يقولُ: "يُوشَع بن نُون كان حيًّا أو بعضُ أنبياءِ بني إسرائيل كإلياسَ"، وهذا باطلٌ لمقدمتين: إحداهما: لو كانَ حيًّا لوجبَ عليه أن يُؤمنَ به ويُهاجِرَ إليه ويُجاهِدَ معه. والثانية: أنَّ ذلك لو وقعَ لتوفَّرتِ الدواعيْ والهِمَمُ على نقلِه. وإذا كانَ هارونُ ونحوُه تبعًا لموسى، وكان أنبياءُ بني إسرائيلَ تبعًا لموسى، فكيفَ لا يكون الخضرُ ونحوُه إنْ قُدِّرَ نبوتُه تبعًا لمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذي ما خَلَقَ الله خلقًا أكرمَ عليه منه، وما تَلَقَّوه عن الله بواسطةِ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضلُ مما تَلَقَّوه بغيرِ واسطةِ موسى. وأيضًا فإنَ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبرَ بنزولِ المسيح ابنِ مريمَ آخرَ الزمانِ، وذكرَ أنه يَحكُمُ فينا بكتاب الله وسنة رسوله (1) ، والمسيحُ أفضلُ من الخضرِ، فلو كان الخضرُ حَيًّا لكان يكونُ مع محمدٍ ومع المسيحِ ابنِ مريمَ. وقول بعضِ الناس (2) : "إن الرجلَ الذي يقتلُه الدَّجَّالُ هو الخضرُ" لا أصلَ له.   (1) أحاديث نزول المسيح متواترة، وقد جمعها السيوطي وغيره. (2) قال معمر: بلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه. انظر مصنف عبد الرزاق (20824) . وقال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان راوِي صحيح مسلم: يقال إن هذا الرجل هو الخضر. انظر صحيح مسلم (2938) . وليس في مثل هذا البلاغ حجة، ولا مستندَ لهذا القول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 (ثم قال:) وعدمُ إيمانه بموسى إنما كان لأنَّ موسى لم يُبعَثْ إليه، كما في الحديث الصحيح (1) : إنَّ موسى لمّا سلَّم عليه قال له: وأنَّى بأرضِك السلامُ؟ فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيلَ؟ قال: نعم. وقال في أثنائِه: يا موسى إني على علمٍ علَّمنِيْه الله لا تَعلَمه، وأنتَ على علم من علمِ الله عَلَّمَكَه الله لا أَعْلَمه. وأما محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعوتُه عامةٌ لجميع الخلقِ أَسْودِهم وأَحْمرِهم، فلا يُمكِنُ الخضرَ وغيرَه أن يُعامِلَ محمَدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويُخاطِبَه كما عاملَ موسى وخاطبَه، بل على كلِّ من أدركَ مبعثَه أن يُؤمِنَ به ويُجاهِدَ معَه، ولا يَستغنِيَ بما عنده عما عنده. وكلُّ مَن جَوَّزَ لأحد ممن أدركَتْه دعوةُ الرسولِ أن يكونَ مع محمدٍ كما كان الخضرُ مع موسى= فهو ضَالّ ضلاَلاً مُبِيْنًا، بل هو كافرٌ يُستَتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِلَ. ولهذا لم يكن في العلم بحياةِ الخضرِ بتقديرِ صحتِها ولا في وجودِه حيًّا مَنفعة للمسلمين، ولا فائدة لهم في ذلك، فإنه في المسند والنسائي عن جابرٍ (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى بيدِ عمر بن الخطاب ورقةً من التوراةِ، فقال: "أَمُتَهَوكَونَ يا ابنَ الخطّاب؟ لقد جِئتكُم بها بَيضاءَ نقيَّة، لو كان موسى حيًّا لَما وَسِعَه إلاّ اتباعِيْ". فإذا كانَ هذا حالَ الأمةِ مع موسى فكيفَ مع الخضرِ وأمثالِه؟   (1) أخرجه البخاري (3401) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب. (2) أخرجه أحمد (3/387) والدارمي (441) . وفي إسناده مجالد ضعيف. ومع ذلك صححه ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/458) . وقد حسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1589) لشواهده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 والمسيحُ إذا نَزلَ إنّما يَحكُم في الأمَّةِ بكتابِ ربِّها وسنَّةِ نبيها. فليستْ هذه الأمة محتاجةً في شيء من دِينها إلى غيرِ كتاب الله وسنة رسوله، لا إلى شيء آخر، ولا إلى غيرِ نبيٍّ لا خَضِرٍ ولاَ غيرِه، فإن الذي يَجيْئُهم إن جاءَهم بما عُلِمَ في الكتاب والسنَّةِ لم يُحْتَجْ إليه فيه، وإَن جاءَهم بخلافِ ذلك كانَ مردودًا علَيه. ولهذا كان أكثرُ من يتكلم في هذه الأشياءِ أهلُ الضَّلالِ والحيرةِ والتهوُّكِ الذين لم يَستبينُوا طريقَ الهدى من كتاب الله وسنَّةِ رسوله، بل يتعلقون بالمجهولاتِ ويرجِعون إلى الضلالاتِ. ونجدُ كثيرًا منهم يَعنُون بالخضر الغوثَ. (ثم أطالَ الكلامَ في تقريرِ ذلك) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 سؤال في يزيد بن معاوية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين سئل شيخ الإسلام الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في يزيد بن معاوية هل كان صحابيًّا؟ وما حكمُ مَنْ يعتقدُ أنه [كان] صحابيًا أو أنه كان نبيًّا؟ وهل في الصحابة مَنْ اسمه يزيد؟ فأجاب رضي الله عنه فقال: الحمدُ لله رب العالمين. يزيدُ بن معاوية بن أبي سُفيان الذي تولَّى على المسلمين بعد أبيه معاوية بن أبي سفيان لم يكن من الصحابة، ولكن عمه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة. فإن أبا سفيان بن حرب كان له عدّة أولاد: منهم يزيد بن أبي سفيان، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، ومنهم أمُّ حبيبة أمُّ المؤمنين، تزوَّجها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت قد آمنت قبل أبيها وأخويها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، ثم حَلَّتْ من زوجها، فخطبها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وزوَّجَها ابن عمها خالدُ بن سعيد (1) . وأصدقَ النجاشيُّ صَداقَها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) .   (1) انظر طبقات ابن سعد (8/99) . (2) أخرجه أحمد (6/437) وأبو داود (2107) والنسائي (6/119) عن أم حبيبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 وزوجة أبي سفيان هندُ بنت عتبة بن ربيعة. فلما كان عامُ فَتْحِ مكة أسلم أبو سفيان وامرأتُه وأولاده، وأسلم سائرُ رؤساء قريش مثل سُهَيْل بن عمرو، والحارث بن هشام أخي أبي جهل بن هشام، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عمّ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغير هؤلاء، وأسلم أيضًا عِكْرِمَةُ بن أبي جهل، وصَفْوان بن أمية، وغيرُهما. وهؤلاء كانوا سادات قريش وأكابرَهم بعد الذين قُتلوا منهم ببدْر، وكانوا قبل ذلك كُفَّارًا مُحاربين لله ورسوله، قد قاتلوه يوم أحُد ويوم الأحزاب، ثم لما فتح النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة مَنَّ عليهم وأطلقهم فسُمّوا الطلَقَاء. وكان قد أخذ بعضادتَي البيت فقال (1) : ماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نقولُ: أخٌ كريم وابنُ عم كريم، قال: إني قائل لكم ما قال يوسف لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)) (2) . وكان إسلامُ أبي سفيان قبل دخول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة بمرّ الظهران. وهرب منه عكرمة ثم رجع فأسلم. وصفوان وغيره شهدوا حُنينًا وهم كُفّار، ثم أسلموا بعد ذلك.   (1) أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 143) بإسناد حسن، ولكنه مرسل. وانظر طبقات ابن سعد (2/141-142) . (2) سورة يوسف: 92. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 وعامةُ هؤلاء الذين أسلموا عام الفتح حَسُنَ إسلامُهم، مثل سُهَيْل بن عمرو، ومثلُ عِكْرِمَة بن أبي جهل، ومثل يزيد بن أبي سفيان، ومثل الحارث بن هشام، ومثل أبي سفيان بن الحارث. فإنّ هؤلاء صاروا من خيار المسلمين. فلما توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستُخْلِفَ أبو بكر وقام بجهاد المرتدِّين والكافرين أمَّر الأمراءَ لقتال النصارى بالشام وفَتْحِ الشام. فكان ممن أمَّره يزيدُ بن أبي سفيان أخو معاوية وعمُّ يزيد الذي تولّى الملك. وأمر خالدَ بن الوليد، وأمَّر عمرو بن العاص، وأمَّر شرحبيل بن حَسَنَة، وهؤلاء كلُّهم من الصحابة. ومشى أبو بكر الصديق في ركاب يزيد بن أبي سفيان ووصاه بوصية معروفة عند العلماء ذكرها مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وغيرهم، واعتمد عليها العلماء في الجهاد. ففي "الموطأ" (1) عن يحيى بن سعيد أنّ أبا بكر الصدّيق بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج معه يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع. فزعموا أنَّ يزيد قال لأبي بكر: إمَّا أن تركب وإما أن أنزل. فقال أبو بكر: ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله. ثم قال: إنك ستجد قوما حَبَّسوا أنفسهم لله، فَذَرْهُمْ وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له. وستجد قومًا فَحَصُوا عن أوساط   (1) 2/447-448. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 رؤوسهم، فاضربْ ما فحصوا عنه بالسيف. وإنِّي موصيك بعشرٍ: لا تقتلنّ امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرِمًا، ولا تَقطعنَّ شجرًا مثمرًا، ولا تخربنّ عامرًا، ولا تعقرنّ شاةً ولا بعيرًا إلاَّ لمأكلة، ولا تحرقنّ نخلاً ولا تُفَرِّقنه، ولا تَجْبُنْ ولا تغلُلْ. وذكر وصية أخرى. ويزيد هذا الذي أمَّرهُ الصدّيقُ وكان من الصحابة هو عند المسلمين من خيار المسلمين، وهو رجلٌ صالح، وهو عند المسلمين خَيْر من أبيه أبي سفيان ومن أخيه معاوية. فلما فتح المسلمون بلاد الشام في خلافة أبي بكر وعمر وتُوفي أبو بكر واستُخلِفَ عمر، كان أبو عبيدة بن الجراح ويزيدُ بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيلُ بن حَسَنَة نُوّابًا لعمر بن الخطاب على الشام. وكان الشامُ أربعةَ أرباع: الربعُ الواحد: ربعُ فلسطين، وهو بيتُ المقدس إلى نهر الأردُنّ الذي يقال له الشريعة. والربعُ الثاني: ربع الأردُنّ وهو من الشريعة إلى نواحي عجْلون إلى أعمال دمشق. والربع الثالث: دمشق. والربع الرابع: حمص. وكانت سِيْسُ وأرضُ الشمال من أعمال حمص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 ثم إنه في زمن معاوية أو يزيد جُعل الشام خمسة أجناد، وجُعلت قِنِّسْرين والعواصمُ أحدَ الأخماس. وكان المسلمون قد فتحوا الشام جميعها إلى سيْس وغيرها، وفتحوا قبرص. كان معاويةُ قد فتحها في خلافة عثمان بن عفّان. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر بغزوات البحر، وأخبر أمّ حَرَام بنت ملحان أنها تكون فيهم (1) ، فكان كما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فلما كان في أثناء خلافة عمر بن الخطاب مات في خلافته أبو عُبيدة بن الجرّاح، ومات أيضًا يزيد بن أبي سفيان. ولما كان المسلمون يُقاتلون الكفّار، ويزيد بن أبي سفيان أحدُ الأمراء، كان أبوه أبو سفيان وأخوه معاوية يُقاتلان معه تحت رايته، وأُصيب يومئذ أبو سفيان، أُصيبتْ عينُه في القتال. فلما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر، ولى عمر مكانه على أحد أرباع الشام أخاه معاوية بن أبي سفيان. وبقي معاوية أميرًا على ذلك، وكان حليمًا كريمًا، إلى أن قُتِلَ عمر. ثم أقرّه عثمانُ على إمارته، وضم إليه سائرَ الشامِ، فصار نائبًا على الشام كُلّه. وفي خلافة عثمان وُلد لمعاوية ولدٌ سمّاه يزيد باسم أخيه يزيد.   (1) أخرجه البخاري (2788، 2789 ومواضع أخرى) ومسلم (1912) عن أنس ابن مالك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 وهذا يزيد الذي وُلد في خلافة عثمان هو الذي تولّى الملك بعد أبيه معاوية، وهو الذي قُتِل الحسينُ في خلافته، وهو الذي جرى بينه وبين أهل الحرّة ما جرىَ. و ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين المهديين، بل هو خليفةٌ من الخلفاء الذين تولَّوا بعد الخلفاء الراشدين، كأمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس. وهؤلاء الخلفاء لم يكنْ فيهم مَنْ هو كافر، بل كلهم كانوا مسلمين، ولكن لهم حَسَنات وسَيئات، كما لأكثر المسلمين، وفيهم مَنْ هو خير وأحسنُ سيرةً من غيره، كما كان سليمانُ بن عبد الملك الذي وَلّى عمر بن عبد العزيز الخلافة من بني أمية، والمهديُّ والمُهْتَدي، وغيرُهما من خلفاء بني العباس، وفيهم مَنْ كان أعظم تأييدًا وسلطانًا، وأقهرَ لأعدائه من غيره، كما كان عبدُ الملك والمنصورُ. وأما عمرُ بن عبد العزيز فهو أفضل من هؤلاء كلهم عند المسلمين، حتى كان غيرُ واحد من العلماء كسُفيان الثَّورِيّ وغيره يقولون: الخلفاءُ خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعمرُ ابن عبد العزيز. وإذا قيل: "سيرة العمرين" فقد قال أحمد بن حنبل وغيرُه: العُمران عمرُ بن الخطاب وعمرُ بن عبد العزيز. وأنكر أحمد على من قال: العمران أبو بكر وعمر. وكان عمر بن عبد العزيز قد أحيا السُنَّة، وأمات البدعة، ونشر العدل، وقَمَعَ الظَّلَمَة مِنْ أهل بيته وغيرهم، وردَّ المظالم التي كان الحجاجُ بن يوسف وغيرُه ظلموها للمسلمين، وقمع أهلَ البدع - كالذين كانوا يسبّون عليًّا، وكالخوارج الذي كانوا يكفّرون عليا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 وعثمان ومَن والاهما، وكالقدرية مثل غيلان القَدَريّ وغيره، وكالشيعة الذين كانوا يثيرون الفتن- بعلمه ودينه وعدله. وأما غيره من الخلفاء فلم يبلغوا في العلم والدين والعدل مبلغه، ولكن كانوا مسلمين باطنًا وظاهرًا، لم يكونوا معروفين بكفرٍ ولا نِفاقٍ، وكان لهم حسناتُ كما لهم سيئات. وكثير منهم أو أكثرُهم له حسناتٌ يرحمُه الله بها، وتترجح على سيئاته، ومقاديرُ ذلك على التحقيق لا يعلمه إلاّ الله. ويزيدُ هذا الذي ولي الملك هو أول مَن غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة أبيه معاوية. وقد روى البخاري في "صحيحه" (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أول جيشٍ يغزو القسطنطينية مغفورٌ له". ومَن قال إنَّ يزيد هذا كان من الصحابة فهو كاذب مُفْتَرٍ، يُعَرَّفُ أنه لم يكن من الصحابة، فإن أصرَّ على ذلك عوقب عقوبةً تردعُه. وأما من قال إنه كان من الأنبياء فإنه كافر مرتدٌّ يُستتاب، فإن تابَ وإلا قُتل. ومَن جعله من الخلفاء الراشدين المهديين فهو أيضًا ضالٌّ مُبْتَدِعٌ كاذب. ومَن قال أيضًا إنه كان كافرًا، أو إنَ أباه معاوية كان كافرًا،   (1) برقم (2924) عن أم حَرام بنت ملحان لا ابن عمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 وإنه قتل الحسينَ تشفّيًا وأخذًا بثأر أقاربه من الكفار فهو أيضًا كاذبٌ مفترٍ، ومَن قال إنه تمثل لما أُتي برأس الحسين: لمّا بدتْ تلك الحمولُ وأَشْرَفَتْ ... تلكَ الرؤوسُ على رُبى جَيْرونِ نَعَقَ الغُرابُ فقلتُ نُحْ أو لا تَنُح ... فَلَقَدْ قضيْتُ مِنَ النَّبيّ دُيوني (1) أو "من الحسين ديوني". والديوان الشعري الذي يُعزى إليه عامته كذب، وأعداءُ الإسلام كاليهود وغيرهم يكتبونه للقدح في الإسلام، ويذكرون فيه ما هو كذب ظاهر، كقولهم إنه أنشد (2) : ليْتَ أَشْياخي ببَدْرٍ شَهِدُوا … جَزَعَ الخزْرجَ مِنْ وَقْعِ الأسَلْ قَدْ قَتَلْنا الكَبْشَ مِنْ أَقْرَانِهم … وَعَدلْناهُ بِبَدْرٍ فَاعْتَدَلْ وأنه تمثل بهذا ليالي الحرّة فهذا كذب. وهذا الشعر لعبد الله بن الزّبَعْرَى أنشده عام أُحُدٍ لما قتل المشركون حمزة، وكان كافرًا ثم أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامُه، وقال أبياتًا يذكر فيها إسلامه وتوبته.   (1) الشعر ليزيد في "تذكرة الخواص" لسبط ابن الجوزي (ص 261) والمصادر الشيعية، ولا شك أنه كذبٌ عليه. (2) ذكر ذلك محمد بن حميد الرازي وهو شيعي، ونقله عنه ابن الجوزي في "المنتظم" (5/343) وابن كثير في "البداية والنهاية" (11/558) . والبيتان من قصيدة لعبد الله بن الزبعري في سيرة ابن هشام (2/136-137) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 فلا يجوز أن يُغْلَى لا في يزيد ولا غيره، بل لا يجوز أن يتكلم في أحدٍ إلا بعلم وعدل. ومن قال: إنه إمام ابنُ إمام، فإن أراد بذلك أنه تولّى الخلافة كما تولاها سائر خلفاء بني أمية والعباس فهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يوجب مدحَه وتعظيمَه، والثناء عليه وتقديمه، فليس كلُّ مَن تولّى أنه كان من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، فمجرّدُ الولاية على الناس لا يُمدحُ بها الإنسانُ ولا يستحقُّ على ذلك الثواب، وإنما يُمدحُ ويثابُ على ما يفعلُه من العدل والصدق، والأمرِ بالمعروف والنهْي عن المنكر، والجهاد وإقامة الحدودِ، كما يُذمُّ ويُعاقَبُ على ما يفعلُه من الظلم والكذب والأمرِ بالمنكر والنهْي عن المعروف وتعطيلِ الحدودِ، وتضييع الحقَوق، وتعطيلِ الجهاد. وقد سُئل أحمد بن حنبل، عن يزيد أيُكتب عنه الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة، أليس هو الذي فعل بأهل الحرَّة ما فعل؟ وقال له ابنه: إنَّ قومًا يقولون إنا نحب يزيد. فقال: هل يحبّ يزيد أحد فيه خير؟ فقال له: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟ ومع هذا فيزيدُ لم يأمر بقتل الحسين، ولا حُمِلَ رأسه إلى بين يديه، ولا نكتَ بالقضيب على ثناياه، بل الذي جرى هذا منه هو عبيدُ الله بن زياد، كما ثبت ذلك في "صحيح البخاري" (1) ، ولا طِيْفَ برأسه   (1) برقم (3748) عن أنس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 في الدنيا، ولا سُبي أحد من أهل الحسين، بل الشيعة كتبوا إليه وغرّوه، فأشار عليه أهلُ العلم والنُّصْحِ بأن لا يقبلَ منهم، فأرسل ابنَ عمه مسلم بن عقيل، فرجع أكثرُهم عن كتبهم، حتى قُتل ابن عمه، ثم خرج منهم عسكر مع عمر بن سعد حتى قتلوا الحسين مظلومًا شهيدًا، أكرمه الله بالشهادة كما أكرم بها أباه وغيره من سلفه سادات المسلمين. وكان بالعراق طائفتان: طائفة من النواصب تُبغِضُ عليًّا وتشتمه، وكان منهم الحجاج بن يوسف، وطائفة من الشيعة تُظهِر موالاة أهل البيت منهم المختارُ بن أبي عبيد الثقفي. وقد ثبتَ في "صحيح مسلم" (1) عن أسماء، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "سيكون في ثقيف كذّابٌ ومُبير" فكان الكذّاب هو المختارُ بن أبي عبيد الثقفي، والمبير هو الحجاجُ بن يوسف الثقفي. وكان المختارُ أظهرَ أولاً التشيّعَ والانتصارَ للحسين، حتى قَتل الأمير الذي أمَرَ بقتل الحسين وأحضر رأسه إليه، ونكتَ بالقضيب على ثناياه: عُبيد الله بن زياد. ثم أظهر أنه يوحى إليه، وأنّ جبريل يأتيه، حتى بعث ابنُ الزبير إليه أخاه مُصعبًا فقتله، وقتل خَلْقًا من أصحابه. ثم جاء عبد الملك ابن مروان فقتل مصعب بن الزبير. فصار النواصبُ والروافض في يوم عاشوراءَ حزبيْن، هؤلاء يتخذونه يوم مأتم ونَدْبٍ ونياحة،   (1) برقم (2545) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 وهؤلاء يتخذونه يوم عيدٍ وفرح وسرور. وكلّ ذلك بدعة وضلالة. وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". وروى الإمام أحمد (2) عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "ما من مسلمِ يُصابُ بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدُمَتْ فيُحْدِثُ لها استرجاعًا إلاًّ أعطاه من الأجر مثل أجره يوم أُصيب بها". فدلّ هذا الحديث الذي رواه الحسين على أنّ المصيبة إذا ذُكِرتْ وإن قَدُم عهدُها فالسنّة أن يُسترجع فيها، وإذا كانت السنة الاسترجاع عند حدوث العهد بها فمع تقدّم العهد أولى وأحرى. وقد قُتل غيرُ واحدٍ من الأنبياء والصحابة والصالحين مظلومًا شهيدًا، وليس في دين المسلمين أن يجعلوا يوم قتل أحدهم مأتمًا، وكذلك اتخاذُه عيدًا بدعة. وكلُّ ما يُروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم عاشوراء غير صومه فهو كذب (3) ، مثل ما يُروى في الاغتسال يوم عاشوراء، والاكتحال، وصلاة يوم عاشوراء، ومثل ما يُروى: "مَن وسّع على أهله يوم عاشوراء وَسّع الله عليه سائر سنته" (4) . قال أحمد   (1) أخرجه البخاري (1294، 1297، 1298، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود. (2) 1/201. ورواه أيضًا ابن ماجه (1600) . (3) انظر "جامع المسائل" (3/94-95) و"مجموع الفتاوى" (25/299 وما بعدها) . (4) أخرجه البيهقي في "الشعب" (7/375) وابن عبد البر في "الاستذكار" (10/140) = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 ابن حنبل: لا أصلَ لهذا الحديث. وكذلك طبخ طعام جديد فيه الحبوبُ أو غيرُها، أو ادّخارُ لحم الأضحية حتى يُطبخ به يوم عاشوراء. كلُّ هذا من بدع النواصب، كما أن الأول من بدع الروافض. وأهلُ السنّة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان، يتولّون أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهل بيته ويعرفون حقوق الصحابة وحقوق القرابة كما أمر الله بذلك ورسولُه، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ثبت عنه في الصحاح (1) من غير وجهٍ أنه قال: "خيرُ القرون القرنُ الذي بُعِثتُ فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: "لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدُكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه". وثبت عنه في "صحيح" مسلم (3) عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناسَ بغدير يُدعى خُما بين مكة والمدينة، وذلك منصرفَه   = عن جابر. قال الحافظ ابن حجر: هذا حديث منكر جدًّا. أنظر "اللآلىء المصنوعة" (2/63) . وتكلم المؤلف عليه في "مجموع الفتاوى" (25/ 300 وما بعدها) ، ونقل كلام أحمد في "منهاج السنة" (7/39) . (1) أخرجه البخاري (2652، 3651، 6429) ومسلم (2533) عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري (2651، 4628، 6695) ومسلم (2534) عن عمران بن حصين. (2) البخاري (3673) ومسلم (2541) عن أبي سعيد، ومسلم (2540) عن أبي هريرة. (3) برقم (2408) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 من حجّةِ الوداع. فقال: "يا أيها الناس! إني تاركٌ فيكم الثقَلَيْن أحدهما كتاب الله". فذكر كتاب الله وحضّ عليه، ثم قال: "وأهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بَيتي، أُذكّركُم الله في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: مَنْ أهلُ بيته؟ قال: الذين حُرِموا الصدقة: آل عليّ، وآل العبّاس، وآل جعفر، وآل عقيل. قيل له: كلُّ هؤلاء من أهل بيته؟ قال: نعم. وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنّ يزيد بن معاوية الذي تولّى على المسلمين بعد أبيه لم يكن من الصحابة، بل وُلد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. ولكن عمّه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة، وهو من خيار طبقته من الصحابة، لا يُعرف له في الإسلام ما يُذَمُّ عليه، بل هو عند المسلمين خير من أبيه أبي سفيان، ومن أخيه معاوية. ولما مات يزيد بن أبي سفيان ولّى عمرُ أخاه معاوية مكانه، ثم بَقي متوليًّا خلافة عمر وعثمان، ثم لما قُتل عثمان وقعت الفتنةُ المشهورةُ. وكان عليٌّ ومَنْ معه أولى بالحقّ مِنْ معاوية ومَنْ معه. كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "تَمرقُ مارقةٌ على حينِ فُرْقَةٍ من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين". فمرقت الخوارج لما حصلت الفُرْقة، فقتلهم عليٌّ وأصحابه. فدلَّ على أنهم كانوا أولى بالحق   (1) مسلم (1065) عن أبي سعيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 من معاوية وأصحابه. ثم لما قُتل عليّ وصالَحَ الحسنُ معاوية، وسلّم إليه الخلافة كان هذا من فضائل الحسن التي ظهر بها ما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري (1) عن أبي بكرة قال: سمعتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولُ للحسن: "إن ابني هذا سيّد، وسيُصْلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". ومات الحسن في أثناء مُلْكِ معاوية. ثم لما مات معاويةُ تولّى ابنُه يزيد هذا، وجرى بعد موت معاوية من الفتن والفرقة والاختلاف ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: "سيكون نبوّة ورحمة، ثم يكون خلافةُ نبوةٍ ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك عضوض" (2) . فكانت نبوّةُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبوّة ورحمة، وكانت خلافةُ الخلفاء الراشدين خلافةَ نبوّةٍ ورحمة، وكانت إمارةُ معاوية مُلكًا ورحمة، وبعده وقع مُلكٌ عَضُوض. وكان عليّ بن أبي طالب لما رجع من صِفّين يقول: لا تسبّوا معاوية، فلو قد مات معاوية لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها. وكان كما ذكره أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.   (1) برقم (3746) . (2) أخرجه أحمد (4/273) والبزار في مسنده (1588) عن النعمان بن بشير. وصححه الألباني في "الصحيحة" (5) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 وقد روى مسلم في "صحيحه" (1) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "النجومُ أمَنَة لأهل السماء، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمَنَة لأصحابي، فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعدون، وأصحابي أمَنَة لأمتي فإذا ذهبتْ أصحابي أتى أمتي ما يوعَدون". وكان كما أخبر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإنّه لمّا توفي ارتدّ كثير من الناس، بل أكثر أهل البوادي ارتدّوا، وثبتَ على الإسلام أهلُ المدينة ومكة والطائف، وهي أمصار الحجاز التي كان لكل مصر طاغوت يعبدونه من الطواغيت الثلاثة المذكورة في قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)) (2) . فكانت اللاّت لأهل الطائف، والعُزى لأهل مكة، ومَنَاةُ لأهل المدينة، حتى أذهب اللهُ ذلك وغيرَه من الشرك برسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما ارتدّ مَن ارتدّ عن الإسلام وقَعَ في أكثر المسلمين خوف وضَعْف، فأتاهم ما يُوعَدون، فأقام الله أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه وجعل فيه من الإيمان واليقين، والقوّةِ والتأييد، والعلمِ والشجاعة، ما ثبَّتَ الله به الإسلامَ، وقمع به المرتدّين، حتى عادوا كلهم إلى الإسلام، وقتل اللهُ مُسَيْلِمةَ الكذّاب المتنبي المدّعي للنبوة، وأقر جاحدو الزكاة بها. ثم شرع في قتال فارس والروم: المجوس والنصارى، ففتح   (1) برقم (2531) . (2) سورة النجم: 19-22. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 الله بعضَ الفتوح في خلافته. ثم انتشرت الفتوحُ والمغازي في خلافة عمر بن الخطاب، ففي خلافته فُتحت الشام كلها، ومصر، والعراق، وبعض خراسان. ثم فُتحت بعض المغرب وتمام خراسان وقبرص وغيرُها في خلافة عثمان. ثم لما قُتل كان المسلمون مشتغلين بالفتنة، فلم يتفرغوا لقتال الكفّار وفتح بلادهم، بل استطال بعضُ الكفّار عليهم حتى احتاجوا إلى مداراتهم، وبذلوا لبعضهم مالاً. ولما اجتمعوا فتحوا في خلافة معاوية ما كان قد بقي مِن أرض الشام وغيرها. وكان معاوية أوّلَ الملوك. وكانت [ولايتُه] ولايةَ ملكٍ ورحمةٍ. فلما ذهبت إمارة معاوية كثرت الفتن بين الأمة، ومات سنة ستين، وكان قد مات قبله عائشةُ والحسنُ وسعدُ بن أبي وقّاص وأبو هُريرة وزيدُ بن ثابت وغيرُهم من أعيان الصحابة، ثم بعده مات ابنُ عمر وابنُ عباس وأبو سعيد وغيرُهم من علماء الصحابة. فحَدَثَ بعد الصحابة من البدع والفتنِ ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكان المسلمون لمَّا كانوا مجتمعين في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن لأهلِ البدع والفجورِ ظهور، فلما قُتلَ عثمان وتفرّق الناسُ ظهرَ أهلُ البدع والفَجور، وحينئذ ظهرتِ الخوارجُ، فكفَّروا عليَّ بن أبي طالب وعَثمانَ بن عفان ومن والاهما حتى قاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب طاعةً لله ورسوله وجهادًا في سبيله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 واتّفق الصحابةُ على قتالهم، لم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في الجَمَلِ وصِفّين. وقد صحّ الحديثُ فيهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال الإمام أحمد بن حنبل من عشرة أوجه. وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري حديثهم من غير وجهٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) . وحدثَتْ أيضًا الشيعةُ، منهم مَنْ يفضل عليًّا على أبي بكر وعمر، ومنهم من يعتقد أنّه كان إمامًا معصومًا نصّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خلافته، وأنّ الخلفاء والمسلمين ظلموه، وغاليتُهم يعتقدون أنّه إله أو نبيّ، والغاليةُ كفّار باتفاق المسلمين، فمن اعتقد في نبيٍّ من الأنبياء كالمسيح أنه إله، أو في أحدٍ من الصحابة كعليّ بن أبي طالب، أو في أحدٍ من المشايخ كالشيخ عَدِيّ أنّه إله، أو جعل فيه شيئًا من خصائص الإلهية فإنه كافرٌ يستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتِل. وقد عاقب عليّ بن أبي طالب طوائف الشيعة الثلاثة فإنه حرق الغالية الذين اعتقدوا إلهيّته بالنار، وطَلَبَ قَتْلَ ابن سبإٍ لما بلغه أنّه يسبّ أبا بكر وعمر فهربَ منه. وروي عنه أنه قال: لا أُؤتَى بأحدٍ يُفضّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدتُه حدَّ المفتري (2) . وقد تواتر عنه أنه قال: خيرُ هذه الأمَّة بعد نبيّها أبو بكر ثم عمر (3) . ولهذا كان   (1) جمع ابن كثير في "البداية والنهاية" (10/592-631) هذه الأحاديث وطرقها، وبيّن من خرجها من الأئمة بإسانيدهم. (2) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1/83) . (3) قال المؤلف في "منهاج السنة" (1/308) : "رُوِي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجها، ورواه البخاري وغيره". وهو عند البخاري برقم (3671) عن محمد بن الحنفية عن علي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 أصحابه الشيعة متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر عليه. ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت المرجئة والقدريَّة، ثم في أواخر عصر التابعين حدثت الجهميَّة، فإنما ظهرت البدع والفتن لما خفيت آثار الصحابة. فإنهم خير قرون هذه الأمة وأفضلها، رضي الله عنهم وأرضاهم. والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا. (بلغ مقابلةً على الأصل، ولله الحمد) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 فصل في اسمه تعالى "القيُّوم" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 فصل في اسمه تعالى "القيُّوم" وقد قرأ طائفةٌ "القَيَّام" و"القَيِّم"، وكلُّها مبالغاتٌ في القائم وزيادة. قال الله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (2) ، (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (3) . فهو قائمٌ بالقِسط وهو العدلُ، وقائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبت، وقيامُه بالقسط على كلِّ نفس يَستلزمُ قدرتَه، فدلَّ هذا الاسمُ على أنه قادر وأنه عادل. وسنبيِّن أن عدلَه يستلزمُ الإحسانَ، وأن كلَّ ما يفعله فهو إحسانٌ للعبادِ ونعمةٌ عليهم. ولهذا يقول (4) عقيبَ ما يعدده من النعم على العباد: (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)) ، وآلاؤه هي نِعَمُه، وهي متضمنةٌ لقدرته ومشيئته، كما هي مستلزمةٌ لرحمتِه وحكمتِه. وأيضًا فلفظ "القيام" يقتضي شيئين: القوةَ والثبات والاستقرار، ويقتضي العدلَ والاستقامةَ، فالقائم ضدّ الواقع، كما أنه ضدّ الزائل،   (1) انظر تفسير الطبري (3/109-110) ، ففيه ذكر هذه القراءات وبيان أن معناها متقارب. (2) سورة آل عمران: 18. (3) سورة الرعد: 33. (4) في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 والمستقيم ضدّ المعوجّ المنحرف، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "ما من قلب من قلوب العباد إلاّ وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه". (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) (2) ، وقال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (3) . ومنه تقويم السَّهم والصفّ، وهو تعديله، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أقيموا صفوفكم، فإنّ تسويةَ الصفّ من تمامِ الصلاة" (4) . وكان يُقوِّمُ الصَّفَّ كما يُقوَّم القِدْحُ (5) . ومنه الصراط المستقيم والاستقامة، وهذا من هذا، كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (6) من طريقة أهل التوراة. وما يَهدِي إليه القرآن أقومُ مما يهدي إليه الكتاب الذي [قبلَه] ، وإن كان ذلك يَهدي إلى الصراطِ المستقيمِ، لكن القرآن يَهدي للتي هي أقوم. ولهذا ذكر هذا بعد قوله: (وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) (7) ، ثم قال: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) .   (1) أخرجه أحمد (4/182) وابن ماجه (199) عن النواس بن سمعان.، وله شاهد من حديث أم سلمة أخرجه الترمذي (3522) وقال: حديث حسن. (2) سورة آل عمران: 8. (3) سورة الصف: 5. (4) أخرجه البخاري (723) ومسلم (433) عن أنس بن مالك. (5) كما في حديث النعمان بن بشير الذي أخرجه مسلم (436) . (6) سورة الإسراء: 9. (7) سورة الإسراء: 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 ولمّا كانَ القيامُ بالأمور بطريقةِ القرآن يَقتضي شيئين: القوة والثبات، مع العدل والاستقامة، جاء الأمرُ بذلك في مثل قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّه) (1) ، و (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) (2) . وقولُه: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (3) يقتضي أنه يأتي بها تامّةً مستقيمةً، فإن الشاهد قد يَضعُفُ عن أدائها وقد يُحرِّفها، فإذا أقامَها كان ذلك لقوته واستقامته. وكذلك إقامُ الصلاةِ يَقتضيْ إدَامتَها والمحافظةَ عليها باطنًا وظاهرًا، وأن يأتيَ بها مستقيمةً معتدلةً. ولمّا كانت صلاة الخوف فيها نقص لأجلِ الجهاد قال: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (4) ، فإن الرجل قد يصلّي ولا يقيمٍ الصلاة لنقصِ طمأنينتِها والسكينةِ فيها، فلا تكون صلاتُه ثابتة مستقرةً، أو لنقصِ خضوعِه لله وإخلاصِه له، فلا تكون معتدلةً، فإن رأسَ العدلِ عبادةُ الله وحدَه لا شريكَ له، كما أن رأسَ الظلم هو الشرك، إذ كان الظلمُ وضعَ الشيء في غيرِ موضعه، ولا أظلم ممن وضعَ العبادةَ في غيرِ موضعِها فعَبَدَ غيرَ الله، فعبادةُ الله أصلُ العدل والاستقامة. قال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (5) ، فأمرَ بإقامةِ الوجهِ له عند كلِّ مسجد،   (1) سورة النساء: 135. (2) سورة المائدة: 8. (3) سورة الطلاق: 2. (4) سورة النساء: 103. (5) سورة الأعراف: 29. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 وهو التوحيدُ وتوجيهُ الوجهِ إليه سبحانَه، فإنّ توجيهَه إلى غيرِه زَيغ. وبالإخلاصِ يكون العبدُ قائمًا، وبالشركِ زائغًا، كما قال: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) (1) ، وقال: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (2) . وإقامتُه: توجيهُه إلى الله وحدَه، وهو أيضًا إسلامُه، فإن إسلام الوجهِ لله يَقتضِي إخضاعَه له وإخلاصَه له. وفي القرآن إقامةُ الوجه، وفيه توجيهه لله وإسلامُه لله، وتوجيهُه وإسلامُه هو إقامتُه، وهو ضدُّ إزاغتِه. فلما كانت الصلاةُ تضمنت هذا وهذا، وهو عبادتُه وحدَه وإخلاصُ الدين له وتوجيه الوجه إليه، كما فيها هذا العدل، فلابُدَّ من هذا ولابُدَّ من الطمأنينةِ فيها، وهي إنما تكون مُقَامَةً بهذا، وهذا هو الخضوع، فإن الخشوع يجمعُ معنيَينِ: أحدهما الذلُّ والخضوعِ والتواضع، والثاني السكون والثبات. ومنه قوله تعالى: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (3) ، ودوله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) (4) ، وهو الانخفاض والسكون. ومنه خشوع الأرض، وهو سكونُها وانخفاضُها، فإذا أُنزِلَ عليها الماءُ اهتزَّتْ بدلَ السكون، ورَبَتْ بدلَ الانخفاض. وقال: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (5) ، (قَوَّامِينَ لِلَّهِ) (6) . و"القَوَّام"   (1) سورة الروم: 30. (2) سورة الروم: 43. (3) سورة القلم: 43. (4) سورة الشورى: 45. (5) سورة النساء: 135. (6) سورة المائدة: 8. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 هو القَيَّام، فإنَّ "قَيَّام" و"قَيُّوم" أصلُه قَيْوَام وقَيْوُوم، ولكن اجتمعت الياء والواو وسبقتْ إحداهما بالسكون فقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ إحداهما بالأخرى، لأنّ الياءَ أخفُّ من الواو. قال الفراء (1) : وأهل الحجاز يصرفون الفَعَّال إلى الفَيْعَال، ويقولون للصوَّاغ: صَيَّاغ. قلتُ: هذا إذا أرادوا الصفةَ، وهي ثباتُ المعنى للموصوف، عَدَلُوا عن "فَعَّال" إلى "فَيْعَال" كما في سائرِ الصفاتِ المعدولة، فإنّ مِن هذا قلبَ المضعَّف حرف عينه، والحروف المختلفة أبلغُ من حرفٍ واحد مشدَّد. وأما إذا أرادوا الفعلَ فهو كما قال تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) ، ولم يقل "قيَّامِينَ". وقد قرأ طائفة من السلف: "الحيُّ القيَّام"، ولم يقرأ أحدٌ قطُّ: "كونوا قيَّامين بالقسط"، لأن المقصودَ أمرُهم أن يقوموا بالقسط، والأمرُ طلبُ فعل يُحدِثُه المأمورُ. بخلافِ الخبرِ عن الموصوف بأنه صَيَّاغ، فإنه خبرٌ عن صفةٍ ثابتةٍ له. ولهذا جاء في أسماء الله "القيَّام"، ولم يَجىءْ "القَوَّام"، قرأ عمر بن الخطاب وغيرُ واحد "القيَّام"، وقرأ طَائفةٌ "القَيِّم". قال ابن الأنباري (2) : هي كذلك في مصحف ابن مسعود. ومِن دعاءِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيحين (3) : "ولك الحمدُ، أنتَ قَيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن".   (1) "معاني القرآن" (1/190) . (2) "الزاهر في معاني كلمات الناس" (1/186) . (3) البخاري (1120 ومواضع أخرى) ومسلم (769) عن ابن عباس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 ولما كان لفظ "القيام" يتضمن القوةَ والثبات، وقد يتضمن مع قيام الشيء بنفسِه إقامتَه لغيرِه، خُصَّ لفظ "القَوم" بالرجال دون النساء، فلا تُسمَّى النساءُ بانفرادِهنّ "قومًا"، ولكن قد يدخلن في اللفظ تبعًا. قال تعالى: (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) (1) ، فإنه قال: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (2) . ومنه قول الناظم: ومَا أدرِيْ وظَنِّي كلُّ ظَنٍّ … أقَوْم آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ (3) ولمّا كان "القيام" يقتضي الثباتَ -وهو ضدُّ الزوال- قال: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (4) ، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا) (5) . وهو يقتضي الاعتدال مع الثبات، وهو خلْقُهما معتدلتَيْنِ كما قال: (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ) (6) ، وقال: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (7) . والعدل لازم في كلّ مخلوق، ومأمور به كلّ أحدٍ، كما قد بُسِطَ في قوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)) (8) . ولِما في لفظ "القيام" من العدل سُمِّيَ ما يُساوِي المبيعَ: قيمةَ   (1) سورة الحجرات: 11. (2) سورة النساء: 34. (3) البيت لزهير بن أبي سُلمى في ديوانه (ص 136) برواية مختلفة. (4) سورة الروم: 25. (5) سورة فاطر: 41. (6) سورة البقرة: 29. (7) سورة الملك: 3. (8) سورة الأعلى: 2. وانظر تفسير الآية في "مجموع الفتاوى" (16/127-135) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 عَدْل، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "مَن أعتقَ شِركًا له في عَبْدٍ، وكان له من المال ما يَبْلُغ ثمنَ العبد، قُومَ عليه قيمةَ عَدْلٍ لا وَكْس ولا شَطَط، فأُعْطِيَ شركاؤُه وعُتِقَ عليه العبدُ". وكذلك يُسمَّى تعديلُ الحساب تقويمًا، فإذا جُمِعتْ حركةُ الشمس والقمر وغيرهما السريعةُ والبَطيئةُ، وأحدٌ يُعدِّلُ ذلك، سُمِّي ذلك تعديلاً وتقويمًا، ويُسمَّى ما يُكتَب فيه ذلك تقويمًا، كما يُصنَع بالمكان إذا أَخَذَ مُغَلُّه في إقبالِه وإدبارِه، فإنه يوجد معدّلُ ذلك، ويُقوم باعتبار ذلك. ويقال: قامتِ السوقُ، إذا حَصَلَ فيها التبايعُ بالتراضي الذي هو أصل العدل، ولابدَّ أن يَبقَى ذلك زمنًا، ففي قيام السوق معنى العدل والثبات، قال الشاعر: أقامتْ سُوْقها عشرينَ عامًا ومنه قوله تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) (2) ، أي يقوم عليه كما يقوم القيِّمُ على ما يقوم عليه وإن كان جالسًا معه. والإقامةُ أبلغُ من القيام، فإنّ فيها زيادةَ الهمزة والزيادة لزيادة المعنى، وهي تقتضي من الثبات والدوام أبلغَ مما يدلُّ عليه لفظُ القيام. والمُقامُ بالمكان هي السُّكنَى فيه واستيطانُه، والمقيم خلاف المسافر.   (1) أخرجه البخاري (2521-2525 ومواضع أخرى) ومسلم (1501 وبعد رقم 1667) عن عبد الله بن عمر. (2) سورة آل عمران: 75. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 ولما كان اسمه "القَيوم" يتناول هذا وهذا، وهو قَيُّومُ السماوات والأرضِ ومُقِيمُ كل مخلوقٍ من الأعيان والصفات، دَلَّ ذلك على أنّ كلَّ مخلوق له نصيب من القيام، فهو قائم بالقيم الذي أقامه، كما أن له قدرًا بالخلق، فإن اسمه "الخالق" يَقتضي الإبداعَ والتقدير، فقال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)) (1) ، وقال: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) (2) . وإذا كان لكل شيء مخلوق قيام وقدر، دَلَّ ذلك على فسادِ قولِ مَن أثبتَ الجوهرَ الفردَ، ومَن قال: العَرَضُ لا يَبْقَى زمانَيْنِ. فإن الذين يقولون بالجوهر الفرد يثبِتُون شيئًا لا تتميَّزُ يمينُه عن يَسارِه، ولا يُعرَف بالحسِّ، وهو ممتنع وجودُه، فإنَّ وجودَ ما لا يَتميَّز منه جانب عن جانب ممتنع، وإنما يَفرِضُونَه في الذهن. وعلى قولهم لا قدرَ له، والله تعالى قد جعلَ لكل شيء قدرًا، فما لا قدرَ له لم يُخلَقْ، بل هو ممتنع. وما يَفرِضُه أهلُ الهندسةِ من نقطةٍ مجرَّدةٍ وخطٍّ مجرَّد وسَطْحٍ مجرَّد، هي أمور مقدَّرة في الأذهان واللسان، لا تُوجَد مجرَّدةً في الخارج، بل لا تُوجَد إلاّ نقطة معينة مثلُ نقطة الماء والحِبْرِ ونحوِ ذلك مما يتميز منه جانب عن جانب، لقوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) ، وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)) (3) .   (1) سورة القمر: 49. (2) سورة الطلاق: 3. (3) سورة الفرقان: 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 والله سبحانَه خالقُ الموجوداتِ العينية ومُعلِّمُ الصور الذهنية، وأول ما نزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (1) . ومن الناس من يقول: المعدومُ شيء ثابت في الخارج، وليس بمخلوق، بل ثبوتُه قديم. وآخرون يقولون: الماهياتُ غيرُ مجعولةٍ. وهؤلاءِ وهؤلاءِ اشتبهَ عليهم ما في الأذهانِ بما في الأعيانِ، فأخرجوا بعضَ مخلوقاتِه عن أن تكونَ مخلوقةً له. وتحقيقُ الأمر أن كلَّ ما يُقدَّر فإمّا أن يكون ثابتًا في الأعيانِ والموجودِ الخارج، أو في العلم والوجودِ الذهني، وهو سبحانَه خالقُ هذا ومُعلِّمُ هذا، فلا يَخرجُ شيء أصلاً عن تخليقِه وتعليمِه، بل هو الذي خلقَ فسوى، وقدَّرَ فهدَى، وقال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)) (2) . فهو خالقُ كلِّ شيء وقَيُّومه، وكلُّ ما أقامَه القيوم فله قِيام، والحركةُ وإن وُجدتْ شيئًا فشيئًا فلابدَّ لها من لُبْثٍ، لا يتصوَّر أن تُعْدَمَ قبلَ أن تلبَثَ زمنًا من الأزمان، وقيُّومُ السماوات هو الخالقُ الذي يُبدِعُه ويَجعلُ له ذلك القدرَ، فجَعَلَ للأعيانِ قدرًا، وللحركاتِ قدرًا، ولزمانِها قدرًا، وبعضُ ذلك يُطابِقُ بعضًا، فإن الزمان مُساوِقٌ للحركة، والحركة هي مبدأ الأحداث. قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) (3) ،   (1) سورة العلق: 1-5. (2) سورة الشمس: 7-8. (3) سورة الحج: 61. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 والإيلاج هو بسبب الحركة الحولية، كما أن اختلافَ الليل والنهار وتكويرَ الليل على النهار وتكويرَ النهار على الليل هو بسبب الحركة اليومية. وهو سبحانَه (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) (1) ، وهو (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) (2) . فذكر أنه فالقُ الإصباح بعد ذكره فَلقَ الحب والنوى، فإنه بسبب فَلْقِه الإصباحَ وجَعْلِ الليلِ والنهارِ يَتِمُّ ما يخلقُه ويَنمو ويَحصُلُ مصلحتُه، ثم ذلك يحصل بتسخير الشمس والقمر وجَعْلِهما بحساب على وفْقِ العدلِ في الحكمة، لا يتقدم شيء على وقتِه ولا يتأخر شيء عن أجلِه، وهو سبحانَه يَسوقُ المقاديرَ إلى المواقيتِ. واستحالةُ الأجسامِ بعضِها إلى بعضٍ معلوم بالمشاهدة، وهو مما تَطابقَ عليه أهلُ الطبائع والشرائع وأهل العادات، والأطباء يعرفون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، وغيرهم. وكذلك الفقهاءُ تكلَّموا في استحالةِ الطاهرِ إلى النجس، واستحالةِ النجسِ إلى الطاهر، وفي الماء والمائعِ إذا خالطَتْه النجاسة هل يستحيل أم لا؟ والذين أنكروا ذلك وقالوا بالجوهر الفرد زعموا أن كلَّ ما شهدَ العبادُ أنَّ الله يخلقُه من سحاب ونباتٍ ومطرٍ وإنسان وحيوانٍ، فإنَّ الله -فيما زعموا-[لَمْ] يُبدِعْ تلك الأعيانَ والجواهرَ القائمةَ بأنفسها،   (1) سورة الأنعام: 95. (2) سورة الأنعام: 96. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 وإنما يُحدِثُ أعراضًا، وهو تركيبُ الجواهرِ بعضِها مع بعض، ثم زعموا أن الجواهر إنما يُعلَم أنه خلقَها بالاستدلال، وهو أنها لا تخلو من الأعراضِ الحادثة، وما لا يخلو إذن فهو حادث. وعلى هذا اعتمدوا في خَلْقِ الله للعالم وفي إثباتِ الصانع، وجعلوا ذلك أصلَ دين المسلمين، ثمَّ التزموا لوازمَ من إنكار الصفات أو بعضها، ومن إنكارِ الرؤية، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك. فتسلَّطَ عليهم السلف والأئمةُ وعلماءُ السنة بالتبديع والتكفير مع التجهيل والتضليل، وتسلَّط عليهم طوائف العقلاء الذين فهموا كلامَهم بالتجهيل والتضليل، وخالفوا الحسَّ والعقلَ والشرعَ الذي هو خبر الصادق، وهذه الثلاثة هي مدارك العلم عندهم وعند غيرهم، كما ذكروا ذلك في أولِ كتبهم. أما مخالفة الحسّ فقولهم: إنّ الله لم يُبدِع عين الإنسان والحيوان، ولا عينَ الثمار والمطر والسحاب، وإنما أحدثَ تأليفًا. وعلى قولهم تلك الجواهرُ التي كانت في بني آدمَ باقية بأعيانها في كلِّ واحدٍ من ولدِه، ومعلومٌ أنّ هذا غير ممكن، فإنَ مَنِيَّ الرجلِ الواحد لا يحتمل أن ينقسمَ أقسامًا بعددِ كلِّ مَن وُلِد من الآدميين. وكذلك عندهم أن كلَّ بني الآدميين فيه جزء من بني نوحٍ، لأنه عندهم لم يُبدِع الله عينًا، بل نفسُ مَنِيِّ الأبِ فيه الجواهر، ركَّبَها تركيبًا آخر، وضَمَّ إليها جواهرَ أُخرَ. وأما مخالفة العقل فإثباتُ الجوهر الفرد إثباتُ شيء موجودٍ لا يتميز منه شيء عن شيء، فإذا وُضِعَ جوهر بين جوهرينِ، فإن كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 الذي يُمَاسُّ هذا الجانب فقد التقَى الجوهران، وإن كان غيره فقد ثبت الانقسام. وأيضًا فنحنُ نشاهد الهواءَ يستحيل ماءً إذا وُضِعَ في الزجاج، ونحوه ثلج صار عليه ماء يَقطُر، ومعلومٌ أن الثلجَ لم يَثْقُب الزُّجاجَ، بل الهواء الذي أحاطَ به بَردَ فاستحالَ ماءً، كما يُحِيلُ الله سحابًا وماءً. هذا مشهود، يكون الإنسانُ على حَيْدٍ، فيَرى البُخَارَ قد صَعِدَ من البحار فانعقَد سحابًا، وينظر تحته وهو أعلى منه في الشمس على رَأس الجبل. وكذلك الهواءُ يستحيلُ نارًا، فإذا قرّبَ ذُبَالةَ المصباحِ إلى النار أوقدَ، مع أنه لم يخرج من تلك النار شيء، ولكن الهواء المحيط بالذُّبالةِ استحالَ نارًا لمّا سَخُنَ سُخونةً شديدةً. فالهواء يَبْرُدُ فيستحيلُ ماءً، ويَسْخُنُ فيستحيل نارًا. وكذلك ما يَقْدحُ النار، قال تعالى: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)) (1) ، وقال: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)) (2) الآيات، وقال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)) (3) . والعرب يقولون: "في كلّ شجرٍ نار، واستَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ" (4) ، يأخذون عُودَينِ أخضرين يَحُكُّون أحدَهما بالآخر حتى يَسْخُن، فإن الحركة   (1) سورة العاديات: 2. (2) سورة الواقعة: 71. (3) سورة يس: 80. (4) انظر أمثال أبي عبيد (ص 136) و"جمهرة الأمثال" (1/173) و"فصل المقال" (ص 171) وغيرها من كتب الأمثال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 تُوجبُ السخونةَ، والسخونةُ تحصلُ بالحركة وبالنار وبالشُّعاع، فإذا سخَنَ انقدحَ منه نارٌ باستحالةِ بعض تلك الأجزاء نارًا، وما كان هناك قبلَ هذا نارٌ، بل سبحانَه يُحدِثُ النارَ عند باقية بعينها، وهي جوهر يقوم بها الصورة كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة، فقوله خطأ، بل المادة استحالتْ فخُلِقَ منها شيءٌ آخر، والأولى هلكتْ وأعدمَها الله على هذا الوجه، كما أوجدَ ما خلقَ منها على هذا الوجه. وقد بُسِط الكلام على هذا في موضع آخر. والمقصود الكلامُ على اسمه "القَيُّوم"، والتنبيهُ على بعضِ ما دلَّ عليه من المعارف والعلوم، فهو سبحانَه قَيُّومُ السماوات والأرض، لو أخذَتْه سِنَةٌ أو نومٌ لهلكتِ السماوات والأرض. والمخلوقُ ليس له من نفسِه شيء، بل الربُّ أبدعَ ذاتَه، فلا قِوَامَ لذاتِه بدون الربِّ، والمخلوق بذاتِه فقيرٌ إلى خالقِه، كما أن الخالقَ بذاتِه غنيٌّ عن المخلوق، فهو الأجَل الصَّمَدُ، والمخلوقُ لا يكون إلاّ فقيرا إليه، والخالقُ لا يكون إلاّ غنيّا عن المخلوق، وغِناهُ من لوازم ذاتِه، كما أن فَقْرَ المخلوقِ إلى خالقه من لوازم ذاتِه. وهذا المعنىَ مما يتعلق بقول الله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)) تعلُّقًا قويًّا. والناسُ يشهدون إحداثه لمخلوقاتٍ كثيرة وإفناءَه لمخلوقاتٍ كثيرة، وهو سبحانَه يُحدِثُ ما يُحدِثُه من إرادةٍ يُحِيلُها ويُعدِمُها إلى شيء آخر، ويُفْنِي ما يُفنِيه بإحالتِه إلى شيء آخر، كما يُفنِي الميتَ بأن يَصِيرَ ترابًا. وعلى هذا تترتبُ مسائل المعاد، فإن الكلام على النشأةِ الثانية فرعٌ عن النشأةِ الأولى، فمن لم يتصور الأولى فكيف يَعلم الثانية؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)) (1) . فهؤلاء غَلِطُوا في معرفة النشأة الأولى، فكانوا في معرفة النشأة الثانية أغلطَ، كما قد ذُكِرَ هذا في غير هذا الموضع. وكان غلطهم لأنهم ظَنُّوا أن الله يُفنِي العالمَ كلَّه ولا يَبقَى موجودٌ إلاّ الله، كما قالوا: إنه لم يكن موجود إلاّ هو، فقَطَعوا بعَدَمِ كلِّ ما سوى الله. ثم اختلفوا، فقال الجهم: إنّه يُفْنِي العالمَ كلَّه، وإنّه وإن أعادَه فإنه يُفنِي الجنةَ والنارَ، فلا يَبقَى جنة ولا نار، لأن ذلك يَستلزمُ دوامَ الحوادث، وذلك عند الجهم ممتنع بنهايةٍ وبدايةٍ في الماضي والمستقبل. وقال الأكثرون منهم: بل هو إذا أعدمَ العالمَ بالكلية فإنه يُعِيدُه ولا يُفنِيه ثانيًا، بل الجنة باقية أبدًا، وفي النار قولان (2) . وهؤلاء قطعوا بإفناءِ العالم، وللنُّظَّار فيه ثلاثة أقوال: أحدها: القطع بإفنائه. والثاني: التوقف في ذلك، وأنه جائز، لكن لا يُقطَع بوجودِه ولا عدمِه. والثالث: القطع بأنه لا يُفنِيه. وهذا هو الصحيح، والقرآن يدلُّ على أن العالم يَستحيلُ من حالٍ إلى حالٍ، فتَنشَقُّ السماءُ فتَصير   (1) سورة الواقعة: 58-62. (2) انظر "قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 وردةً كالدِّهان (1) ، وتُسَيرُ الجبالُ (2) وتُبَسُّ بَسًّا (3) ، وتُدَكُّ الأرضُ (4) ، وتُسَجَّرُ البحارُ (5) ، وتنكدرُ النجومُ (6) وتتناثَر (7) ، وغير ذلك مما أخبر الله به في القرآن، لم يُخبِر بأنه يُعدِمُ كلَّ شيء، بل أخبارُه المستفيضةُ بأنه لا يُعدِمُ الموجوداتِ. فقوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)) (8) أخبر فيه بفناءِ مَن على الأرض فقط، والفناءُ يُرادُ به الموتُ ولا يُرادُ به عَدَمُ ذَواتِهم، فإن الناس إذا ماتوا صارتْ أرواحُهم إلى حيثُ شاء الله من نعيمٍ وعذاب، وأبدانهم في القبور وغيرها، منها البالي وهو الأكثر، ومنها ما لا يًبْلَى كأبدان الأنبياء (9) ، والذي يَبْلَى يَبقَى منه عَجْبُ الذَّنَب، منه بَدَأ الخَلْقُ ومنه يُرَكَّبُ (10) . فهؤلاء لما قالوا: إنّه يُفنِي جميع العالمِ وإنّ ذلك واقع وممكن، احتاجوا إلى تلك الأقوالِ الفاسدة، وإلاّ فالفناء الذي أخبرَ به القرآنُ هو الفناء المشهودُ بالاستحالة إلى مادة، كما كانَ الإحداثُ   (1) كما في سورة الرحمن: 37. (2) كما في سورة النبأ: 20. (3) كما في سورة الواقعة: 5-6. (4) كما في سورة الفجر: 21. (5) كما في سورة التكوير: 6. (6) كما في سورة التكوير: 2. (7) كما في سورة الانفطار: 2. (8) سورة الرحمن: 26. (9) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (4/8) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/91) وابن ماجه (1085، 1636) عن أوس بن أوس. (10) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (2955) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 بالحق من مادة. فاسمُه سبحانَه "القَيوم" يَقتضي الدوامَ والثباتَ والقوةَ، ويَقتضي الاعتدال والاستقامةَ، وقد وَصَفَ نفسَه بأنه قائم بالقِسط (1) ، وأنه على صراطٍ مستقيم (2) . ومنه قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) (3) ، ومنه قَامَةُ الإنسانِ وهو اعتدالُه، ومنه قيام الإنسان، فإنه يتضمن الاعتدال مع كمال وطمأنينةٍ، ومنه قول الشاعر (4) : أَقِيْميْ أمَّ زِنْباع أَقِيْميْ … صُدُورَ العِيْسِ شَطْرَ بني تَميمِ فإنه أراد: وجهي صدورَ العِيْس نحوَ بني تميم. والعِيْسُ هي الإبل التي تُركَبُ ويُحَملُ عليها، ويقال: الإبلُ العِيْسُ، جمعُ عَيْسَاءَ.   (1) كما في سورة آل عمران: 18. (2) كما في سورة هود: 56. (3) سورة التين: 4. (4) البيت لأبي جندب الهذلي مطلع قصيدة له في "شرح أشعار الهذليين" (1/ 363) . قال الأصمعي: وتُروى لأبي ذُؤيب. وفي "لسان العرب" (شطر) لأبي زنباع الجذامي. والرواية فيهما: أقول لأم زنباع ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 فصل في معنى "الحنيف" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 فصل في معنى"الحنيف" فإن هذا الاسمِ قد تكرَّر في القرآن، وقد فرضَ الله على الناس أن يكونوا حُنَفَاءَ، فرَضَه الله على أهل الكتاب ثم على أمة محمد، وأوجبَ عليه وعليهم أن يتبعوا ملةَ إبراهيم حنيفًا، فقال تعالى في أهل الكتاب: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)) (1) ، وهذا أمر لجميع الخلقِ من المشركين وأهلِ الكتاب وغيرِهم. وقال تعالى: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)) (2) وقال عن إبراهيم: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)) (3) ، وقال تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)) (4) ، وقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (5) ، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا   (1) سورة البينة: 5. (2) سورة البقرة: 135. (3) سورة آل عمران: 67. (4) سورة آل عمران: 95. (5) سورة النساء: 125. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) (1) ، وقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)) (2) ، وقال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (3) ، وقال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)) (4) . والقرآنُ كلُّه يدلُّ على أن الحنيفيَّةَ هي ملةُ إبراهيم، وأنها عبادةُ الله وحدَه والبراءةُ من الشرك. وعبادتُه سبحانَه إنما تكون بما أمَرَ به وشرعَه، وذلك يدخل في الحنيفية. ولا يدخلُ فيها ما ابتُدِعَ من العبادات، كما ابتدَعَ اليهودُ والنصارى عباداتٍ لم يأمر بها الأنبياءُ، فإنّ موسى وعيسى وغيرَهما من أنبياء بني إسرائيل ومن اتبعَهم كانوا حُنَفاءَ بخلافِ من بَدَّلَ دينهم فإنه خارج عن الحنيفية. وقد أمر الله أهلَ الكتاب وغيرَهم أن يعبدوه مخلصين له الدين حنفاء، فبدَّلوا وتصرَّفوا من بعد ما جاءتهم البينة. وكلامُ السلفِ وأهل اللغة يدلُّ على هذا وإن تنوعتْ عباراتهم. روى ابنُ أبي حاتم (5) بإسناده المعروف عن عثمان بن عطاء   (1) سورة الأنعام: 161. (2) سورة النحل: 120. (3) سورة الحج: 30-31. (4) سورة الروم: 30-31. (5) 2/674. وانظر لهذه الأقوال والآثار التي ذكرها المؤلف: تفسير الطبري= الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 الخراساني عن أبيه في قوله: (حَنِيفًا مُسْلِمًا) قال: مخلصًا مسلمًا. قال: ورُوِيَ عن مقاتل بن حيان مثلُ ذلك. وقال خُصَيْف: الحنيف المخلص. وذكر ذلك الثعلبي وغيرُه عن مقاتل بن سليمان بإسناده عن أبي قُتَيبةَ البصري نُعيمِ بن ثابتٍ عن أبي قِلابةَ قال: الحنيف الذي يؤمن بالرسُلِ كلِّهم. وقال محمد بن كعب: الحنيف المستقيم. وبإسناده المعروف عن سفيان الثوري عن ابن أبي نَجيح عن مجاهدٍ: (حَنِيفًا) قال: متبعًا، وقال: الحنيفية اتباعُ إبراهيم. وذكره طائفة من المفسرين عن مجاهد، ورُوِي نحو ذلك عن الربيع ابن أنس. قال مجاهد: هو اتباعُ إبراهيمَ فيما أتى به من الشريعةِ التي صار بها إمامًا للناس. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (حَنِيفًا) قال: حاجًّا. وقال ابن أبي حاتم: ورُوي عن الحسن والضحاك وعطية والسدّي نحو ذلك. ونقل طائفة عن الضحاك أنه قال: إذا كان مع الحنيف المسلمُ فهو الحاجّ، وإذا لم يكن معه فهو المسلم.   = (1/441) والبغوي (1/119) و"زاد المسير" (1/150) وتفسير ابن كثير (1/419) و"الدر المنثور" (1/337، 338) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 وذكرَ الثعلبي ومَن اتبعَه كالبغوي (1) وغيرِه عن ابن عباس قال: الحنيف المائلُ عن الأديان إلى دين الإسلام. قالوا: وأصلُه من حَنَفِ الرِّجْل، وهو مَيْل وعِوَج في القَدَم، ومنه قيل للأحنف بن قيس ذلك، لأنه كان أحنفَ القدم. قلتُ: والحج داخل في الحنيفية من حينِ أوجبَه الله على لسان محمد، فلا تتمُّ الحنيفيةُ إلاَّ به، وهو من ملَّة إبراهيم، وما زالَ مشروعًا من عهد إبراهيم، فحجَّه الأنبياء موسى ويونسُ وغيرُهما، وما زال مشروعًا من أول الإسلامِ، وإنما فرِضَ بالمدينةِ في آخر الأمر بالاتفاق. والصوابُ أنه فُرِض سنةَ عَشْرٍ أو تسعٍ، وقيل: سنةَ ستٍّ، والأولُ أصحُّ. والله أمرَ محمدًا وأمتَه أن يكونوا حنفاءَ، فقال في النحل (2) -وهي مكية-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) ، فكان الحج إذْ ذاك داخلاً في الحنيفية على سبيل الاستحباب والتمام، لا على سبيل الوجوب. وأمرَ الله أهلَ الكتاب أن يكونوا حنفاءَ، ولم يكن الحج مفروضًا عليهم، بل كان مستحبًّا. ومثلُ هذا ما رواه ابن أبي حاتم (3) عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الحنيف الذي يستقبل البيتَ بصلاتِه، ويَرى حجَّه عليه واجبًا إن استطاعَ إليه سبيلاً.   (1) في تفسيره (1/119) . (2) الآية 123. (3) 1/242. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 فهذا تفسيرُه للحنيف بعدَ أن حُولَتِ القبلةُ إلى الكعبة وأُمِرَ الناسُ باستقبالِها وبعدَ أن فُرِضَ الحجُّ، وإلاّ فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن اتبعَه وهم بمكة حنفاءَ وهم يُصلُّون إلى بيت المقدس لما كانوا مأمورين بذلك، وإنما أُمِرُوا باستقبالِها بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة. وكذلك موسى ومن اتبعَه والمسيحُ ومن اتبعَه كانوا حُنَفَاءَ أيضًا، وكانوا يصلون إلى بيت المقدس. وروى ابن أبي حاتم (1) وغيرُه من التفسير الثابت عن قتادة تفسير ابن أبي عَرُوبةَ عنه قال: الحنيفية شهادةُ أن لا إله إلا الله، يدخلُ فيها تحريمُ الأمهاتِ والبناتِ والأخواتِ والعماتِ والخالاتِ وما حَرَّمَ الله والختانُ، وكانت حنيفية في الشرك، وكانوا يُحرِّمون في شركِهم الأمهاتِ وما تقدَّم من القرابات، وكانوا يحجون البيتَ وينسكون المناسكَ. فذكرَ قتادةُ أنها التوحيدُ واتباعُ ملَّةِ إبراهيم بتحريم ما حرَّم الله والخِتان، وأنهم في شِركِهم كانوا ينتحلونَ الحنيفيةَ، فيُحرِّمون ذواتِ المحارمِ ويحجُّون ويَختَتِنونَ، وهذا مما تَمسَّكوا به من دينِ إبراهيم مع شِركِهم الذي فارقوا به أصلَ الحنيفية، لكن كانوا ينتحلونها. وكان هذا فارقًا بينهم وبين المجوسِ ومن لا يُحرم ذواتِ المحارم، وبين النصارى ومن لا يرى الخِتانَ، وبين سائر أهل الملل ممن لا يرى حجَّ البيت. فإن الحج كان من الحنيفية، لكن كان من مستحباتها   (1) 1/242. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 لا من واجباتها. وكذلك قال أبو الحسن الأخفش (1) : الحنيف المسلم، وقال غيره: إذا ذُكِرَ مع الحنيفِ المسلمُ فهو الحاج. قال أبو الحسن الأخفش: وكانوا في الجاهلية يقولون لمن اختتن وحج حنيفًا، لأن العرب لم تتمسك بشيء من دين إبراهيمَ غيرِ الختانِ والحج، فلما جاء الإسلامُ عادتِ الحنيفية. وقال الأصمعي: مَن عَدَلَ عن دين اليهودِ والنصارى فهو حنيفٌ عند العرب. قلتُ: ولهذا يُوجَد في كتب بعض أهل الكتاب من النصارى وغيرِهم وفي كلامِهم معاداةُ الحنيف، وهم هؤلاء العرب الذين كانوا يحجون ويختتنون وهم مشركون، فإن النصارى لا يحجون ولا يختتنون ولا يتعبدون بالختان، بل أكثرهم ينهى عنه، وفيهم من يختتن. وفي كلام طائفةٍ ممن ينقلُ المقالاتِ والأديانِ المقابلةُ بين الصابئين والحنفاء، وهذا يتناولُ الحنيفيةَ المحضةَ ملّةَ إبراهيم ومن اتبعَه من الأنبياء وأممِهم، فإنهم كانوا يعبدون الله وحدَه، بخلافِ الصابئين المشركين. والصابئون نوعان: صابئون حنفاءُ، وهم الذين أثنى عليهم القرآن، وصابئون مشركون. وأما المجوس وسائر أنواع المشركين فليسوا حنفاءَ.   (1) انظر "لسان العرب" (حنف) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 وقد ذكر طائفة في الكلام والمقالات -مثل أبي بكر ابن فُورك وغيرِه- أنّ الذين ادَّعوا النبوةَ من الفُرس مثل زَردَشْت ومَزْدَك وبَهَافَرِيْد (1) كانوا ينتحلون ملةَ إبراهيمَ ويزعمون أَنهم يدعون إلى دينه. قال ابن فُورك في مصنَّفٍ له لمَّا تكلَّم على إثباتِ النبوات والردِّ على من أنكرَها من البراهمةِ حكماءِ الهند، وذكرَ ما ذكرَه غيرُه من أهل الكلام والمقالات، قال: إنَّ البراهمة صنفان: صِنف أنكروا الرسُلَ أجمعين، وصِنفٌ أقرُّوا بنبواتِ بعضِهم، فمنهم من أقرّ بنبوةِ إبراهيم وجَحَدَ من كان بعده. قال: فإن قال قائل: قد دَلَّلتَ على جواز بعثةِ الرسُل، فما الدليلُ على أن الأنبياءَ الذين بَعثَهم الله إلى خلقِه مَن ذكرتم دونَ غيرِهم؟ قيل له: الدليل على ذلك أنه قد نُقِلَ إلينا من الجهاتِ المختلفاتِ التي لا يجوز على ناقليها الكذبُ أنهم أتَوا بمعجزاتٍ تَخرجُ عن عادةِ الخلقِ، مثل: فلقِ البحر، وقلب العصا حَيَّةً، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وانشقاق القمر، ولم يُنقَل لغيرهم من المعجزات ممن ادَّعَى النبوةَ كما نُقِل لهم، فدلَّ ذلك على أنهم هم الأنبياء دونَ غيرِهم ممن ادعى النبوةَ ولم يكن لهم معجزة تدلُّ على صدقهم. قال: وممّا يدلُّ على صِدْقِهم أنّا وجدنا كل واحدٍ منهم في زمانه قد مَنَعَ الناسَ عن الشهواتِ واتباع الهوى، وقَبَضَ على أيديهم، وحالَ بينهم وبين مرادِهم، وما سرت إليهَ أنفسهم، ثم مع ذلك كلَّفوهم   (1) إليه تُنسَب الفرقة البهافريدية من المجوس. انظر: "البدء والتاريخ" (4/26) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 البراءةَ من الآباء والأبناءِ والأقارب، ونَبْذَ أهاليهم وراءَ ظهورِهم، وبَذْلَ أموالهم، وخَفْض الجناح لهم، والائتمار لأمورهم، والجَرْي تحتَ أحكامِهم. وكلُّ هذه الأحوال مما يَنْفِرُ عنها البشرُ وتَفِرُّ وتَمَل من تكلفهم، فلولا أنهم صادقون فيما ادَّعَوه، وصحَّحوا دعواهم بمعجزاتٍ ظاهرةٍ وبراهينَ بيّنةٍ تُخرِج ذلك عن حِيَلِ المحتالين ومَخْرَقةِ الممخرقين، لما كان يُوجِبُ ظاهرُ فِعْلِهم قبولَه. ولو كان الخلق مُكرَهين في حياةِ واحدٍ منهم لنفاذِ أمرِه وقوته وغلبتِه لكانوا من بعد موته ومفارقتِه هذا العالمَ يرجعون إلى ما شاءوا عليه، كما يرجع الملوك في الدنيا. فلما وجدنا الخلقَ جيلاً بعدَ جيلٍ وقرنًا بعد قرنٍ يزدادُوْنَ في كل يومٍ لهم محبةً وطاعةً ووُلوعًا بهم وجَزَعًا على ما فاتَهم منهم من الرؤية والصحبة= دلَّ ذلك على أنهم كانوا أنبياءَ من قِبَلِ الله، صَحَّحوا دعواهم بمعجزاتٍ ظاهرة، وبراهينَ باهرةٍ نَيِّرةٍ، وأخذوا قلوبَ الخَلْق -العالمِ والجاهلِ- بذلك. قال: فإن قال قائل: قد وجدنا من المفترين المدَّعين قد ظهروا في العالم، وصار لهم أتباع مثلُ أتباعِ الأنبياء، قلنا لهم: مَن هم؟ فلا يَتهيَّأ أن يُسَمُّوا أحدًا له تبع ورَسْم قائم غيرَ زَردَشت ومَزْدَك ومَانِيْ وبَهَافَرِيْد. قلنا له: زردشت ومَزْدك وبَهَافَرِيْد فإن ثلاثتهم ادَّعَوا في زَمَانِهم أنَ كلَّ واحد في زمانِه هو المستقيم على دين إبراهيم، ولم يَدع واحد منهم خلافًا عليه أي على إبراهيم. فبِرِيْحِه والانتسابِ إليهَ اجتمعَ له الأتباعُ والأصحابُ، لا بسياستِهم وسلطانهم، وإنهم لم يشرعوا دينًا، بل ادعَى كلُّ واحدٍ منهم في زمانِه أن شريعةَ إبراهيمَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 هي مَا كلُّ واحدٍ منهم عليه، يُزَادُ فيه ويُنقَص منه لطولِ الزمان الذي أتَى عليه، وكلُّ واحدٍ منهم تَرجَم في كتابه في زمانِه لقومِه وأتباعه على لسانهم. قال: وأما مَانِيْ فإنه ادَّعى أنه من تلاميذ المسيح المستقيم الجاري على منهاج إبراهيم، وأنَّ غيرَه من النصارى قد زَاغُوا عن طريقِه، وأنَّ الإنجيلَ المنزلَ على عيسى هو الذي عنده، وادَّعَى أنه حينَ ارتقَى إلى السماء أُرْقِيَ إلى عيسى، وأنه بأمرِه عَمِلَ ما عَمِلَ وأسَّس ما أسَّس، فبِرِيْحِ المسيحِ تروَّح له ما تروَّح، وتَبِعَه من تَبِعَه، لا برأيِه. قلتُ: و المشركون أعداءُ إبراهيم الذين يُبغِضُونَه ويُحِبُّونَ عدوَّه النّمرودَ موجودون إلى اليوم من مشركي التركِ والصينِ ونحوِهم، يُصورون الأصنامَ على صورةِ النّمرود كبارًا وصغارًا، وفيها ما هو كبيرٌ جدًّا، ويعبدون تلك الأصنامَ ويُسبِّحونَ باسمِ النمرود، ومعهم مَسَابِحُ يُسبحون بها: سبحانَ النمرود! سبحانَ النمرود! وإبراهيم صلواتُ الله وسلامُه عليه هو الذي جعلَه إمامًا لمن بعدَه من الناس، فلا يُوجَد قطُّ مؤمن ولا منافق يُظهِر الإيمانَ إلاّ وهو مُعظِّم لإبراهيم. وإن كان فيهم من يُكذبُ بكثيرٍ مما كان عليه إبراهيم. وقد جعلَ الله في ذريتِه النبوة والكتاب، فالأنبياءُ بعدَه من ذريتِه، فلا يُوجَد مَن يؤمن بالأنبياء إلا وهو مؤمن بإبراهيم، ولا مَن يدعو إلى عبادةِ الله في الجملة وينهى عن الشرك إلاّ وهو مُعظِّمٌ لإبراهيم. وإن كان فيهم من هو مكذِّب بكثيرٍ مما كان عليه إبراهيم، ومكذِّبٌ ببعض الأنبياء والرسُل= فإبراهيم بريء منه، ومن ذريته محسنٌ وظالمٌ لنفسه مبين، كما كان مُشرِكو العربِ، وكما يُوجَد عليه أهلُ الكتاب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 فإنه حينَ بُعِثَ إبراهيمُ كان الشركُ قد طَبقَ الأرضَ، وامتلأتْ بعبادة الكواكب العُلْوية والأصنامِ السُّفْلية، فأظهرَ التوحيدَ ودَعَا إليه، وعَادَىَ الشركَ وأهلَه، ونَصَرَه الله على قومِه. والقرآنُ في غيرِ موضعٍ بيَّن أنه كان حنيفًا، وجعلَ الحنيفيةَ صفتَه، حتَّى إنَّ لفظ "حنيف" يُنصَب على الحال من المضاف إليه، كقوله: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (1) و (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (2) ، وهذا منصوبٌ على الحال، والكوفيون يسمونَه نصبًا على القطع، لكونه لم يكن صفةً في اللفظ فقُطِعَ، وهو معنى قول البصريين إنه منصوب على الحال. وقد قالَ بعضُ النحويين: انتصابُ الحالِ على المضاف إليه لا يجوزُ حتى يكونَ المضافُ والمضافُ إليه بمنزلة شيء واحدٍ، كقوله: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) (3) هو حالٌ من الأخ، لأنه واللحم شيء واحد. وقوله: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) كذلك، لأنّ الملَّةَ بمنزلة البعضِ منه، كقولِ عدي بن حاتم (4) -لمَّا أتاهُ يَعرِض عليه الإسلامَ-: "إني على ديني"، كأنه قال هُجْنةً منه. ولهذا يجوز لك أن تقول: "أعمى زيدٌ علمه ودينه" فتجعلهما بدلاً من زيدٍ. (آخر ما وُجِد. والله أعلم) .   (1) سورة البقرة: 135. (2) سورة النحل: 123. (3) سورة الحجرات: 12. (4) أخرجه أحمد (4/257، 258، 379) عن عدي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 مسألة فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 بسم الله الرحمن الرحيم فصل فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه، فهو يفعله لما فيه من المحبة له، لا لله، ولا لغيره من الشركاء، مثل أن يحب الإحسان إلى ذوي الحاجات، ويحب العفو عن أهل الجنايات، ويحب العلم والمعرفة وإدراك الحقائق، ويحب الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، فإن هذا كثير غالب في الخلق في جاهليتهم وإسلامهم، في قوتي النفس العلمية والعملية، فإن أكثر طلاب العلم يطلبونه محبة، ولهذا قال أبو داود للإمام أحمد بن حنبل: طلبتَ هذا العلمَ -أو قال-: جمعتَه لله؟ فقال: لله عزيز، ولكن حُبِّب إليَّ أمر ففعلته. وهذا حال أكثر النفوس، فإن الله خلق فيها محبة للمعرفة والعلم وإدراك الحقائق، وقد يخلق فيها محبة للصدق والعدل والوفاء بالعهد، ويخلق فيها محبة للإحسان والرحمة للناس، فهو يفعل هذه الأمور: لا يتقرب بها إلى أحد من الخلق، ولا يطلب مدح أحدٍ ولا خوفًا من ذَمِّه، بل لأن هذه الإدراكات والحركات يتنعَّم بها الحيُّ ويلتذُّ بها، ويجد بها فرحًا وسرورًا، كما يلتذُّ بمجرد سماع الأصوات الحسنة، وبمجرد رؤية الأشياء البَهِجَة، وبمجرد الرائحة الطيبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 وكذلك يلتذ ويفرح ويتنعَّم بمعرفة نفسه للأشياء التي تُعرف بالباطن، ويلتذ أيضًا بشهود باطنه وإحساسه، كما يلتذ بشهود ظاهره وإحساسه، وكذلك يلتذ بما تعقله نفسه من الأمور الكلية التي تعقلها، وكذلك في أفعاله وحركاته، كما يلتذ بأكله وشربه ونكاحه، وكما يلتذ برحمته وإحسانه إلى أهل الحاجات من أقاربه وغير أقاربه، ويلتذ بالجود والإعطاء، ويلتذ بالعفو عن المسيء إليه وترك معاقبة المسيء، كما يُذكر عن المأمون أنه قال: لقد حُبِّبَ إليَّ العفو حتى إني أخاف ألا أثاب عليه. فهذه مكارم الأخلاق التي تكون في بني آدم، كما كانت تكون في أهل البادية، فهذا الحس وهذه الحركة الإرادية يتنعَّم به الحي ويتنفع به ويلتذ في الحال. ولا يُقال: إن فعل ذلك لغير غرض ولا لجلب منفعة أو دفع مضرة، بل فيه جلب منفعة ودفع مضرة في نفسه، كما في نفس الآكل والشارب يستجلب به منفعة الشبع، ويستدفع به مضرة الجوع، فهكذا سائر هذه الأمور يدفع بها عن نفسه مضرات، ويستجلب لها بها لذات. ولهذا يُقال: اشتفت نفسه، وشفيت صدري، فيجد شفاءً في صدره، كما يجد شفاءً في جسمه بزوال المرض وحصول العافية. وهذه أمور محسوسة بالباطن والظاهر، وهي التي أدرك حسنها من قال: إن العقل يُقبِّح ويُحسِّن، ومن قال: إن العلم بحسنها لصفة قائمة بها معقولةٍ: إما بالبديهة وإما بالنظر، أو معلومة بالشرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 ولقد صدق في قوله: إن حسنها وقبحها لمعنى قام بها، وصدق أن ذلك قد يُدْرَك بالعقل، وقد يدرك بالشرع. وقد غَلِطَ الأول في نفيه أن يكون ذلك لما فيه من جلب منفعة إلى العبد ودفع مضرة راجعة إلى نفسه، وإن كان ذلك في الدار الآخرة أيضًا، فإن ذلك أمر محسوس. والثاني غَلِطَ حيث اعتقد أن ذلك ليس لصفة في الفعل، وأن الحُسن والقُبح ليس إلا مجرد إضافة الفعل إلى الأمر والنهي، فأصاب بعض الإصابة في كونه جعل ذلك من الملاءمة للطبع والمنافرة عنه، ومن باب كمال المتصف بذلك ونقصه، ولكن غلط في ظنه أن الحُسن والقُبح العقليين صادرَيْن (1) عن ذلك، ولم يَغلَطْ كل الغلط، فإن الحُسن والقبح الذي يُدرك بالحس وبالعقل وبالشرع، وبالبصر والنظر والخبر، بالمشهور الظاهر وبالباطن، وبالمعقول القياسي وبالأمر الشرعي= هو في الأصل من جنس واحد، فإن كلاًّ يُعْلَم بذلك ويثبت به ما لا يُعلم بالآخر ويثبت به. وهذه الطرق الثلاثة: السمع، والبصر، والعقل، هي طرق العلم: فالبصر -وهو المشهود الباطن والظاهر- يدرك ما في هذه الحركات والإرادات من الملاءمة والمنافرة، والمنفعة والمضرة العاجلة. والسمع -وهو وحي الله وتنزيله- يخبر بما يَقْصر الشهود عن إدراكه من منفعة ذلك ومضرته في الدار الآخرة.   (1) كذا في الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 ف تمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها، فإن كل مولود يولد على الفطرة، والله خلق عباده حُنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرَّمت عليهم ما أحل الله لهم، وأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزِّل به سلطانًا. هكذا أخبرنا الله فيما روى عنه رسوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1) . فهم بفطرتهم يحبون الله وحده ويحبون تناول ما يحتاجون إليه من الطيِّبات، والمحبة تتبع الشهود والإحساس، فهذا الذي في فطرهم من الحس والحركة إلى عبادة خالقهم مما يعينهم عليها من طيبات الرزق، هو وجه الحُسن الثابت بالأفعال الحسنة: مأمُورِها ومبَاحِها، فإن ذلك كله حسن، لما فيه من هذه الملاءمة المناسبة والمحبة التي فطروا عليها، فما كان من ذلك مشهودًا في عالم الشهادة أدرك بالشهود والإحساس، وما كان غيبًا أُدرك بالسمع الذي جاء به المرسلون. والقلب يعقل هذا المشهود وهذا المسموع، فلابد من أن يعقل ما أمر الله به وأخبر، كما لابد أن يعقل ما شهدنا وحسسنا، فيعقل الشهادة والغيب، بمعنى ضبط العلم بجريان ذلك على وجهٍ كلي ثابت في النفس. لكن زَعْم أولئك أن العقل يُدرك من حسن الفعل وقبحه ما فيه ملاءَمة باطل، كما أن زعم أولئك أن الشرع يأتي بحسن أو قبح لا   (1) برقم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 ملاءمة فيه باطل، فأولئك إنما نَفَوا ذلك لأنهم أرادوا أن يثبتوا للرب من جنس ما عقلوه في البشر، وأنكروا الملاءمة في حقه والمنافرة. وهؤلاء أرادوا أن يثبتوا شرعًا محضا مبنيًّا على محض المشيئة ليس فيه ملاءمة ولا منافرة، وكلا الفريقين أنكر حقيقة محبة الله ورضاه للأفعال الحسنة، وبغضه للمسيئين بها، وهذا هو المعنى الذي يُعَبِّرون عنه في حقنا: الملاءمة والمنافرة، وإنما أتوا من جهة ما فيهم من نوع تَجهُّمٍ (1) . ولهذا أنكر أولئك -مع إنكارهم لهذه الصفات- أنكروا القدر، وهو عموم قدرته ومشيئته وخلقه، وأنكر هؤلاء ما في الشريعة من المناسبات والمحاسن التي انطوى عليها الأمر والنهي، وأنكروا أيضًا ما في خلقه ومشيئته من الحكمة والرحمة. فهؤلاء أثبتوا القدرة والمشيئة والخلق، ولكن قصَّروا في إثبات الرحمة والحكمة والعدل، وأولئك أثبتوا شيئًا من الحكمة والعدل، ولكن قصَّروا في ذلك أيضًا، مع تقصيرهم في القدرة والمشيئة والخلق، وإن كان كل من الفريقين لا ينكر أمر الشرع ونهيه. لكن غلاة أولئك دفعوا بعقولهم كثيرًا مما جاء به الشرع من الأمر والنهي، وقالوا: هذا يخالف الحكمة المعقولة، كما فعل إبليس وذووه. وغلاة هؤلاء دفعوا أيضًا الأمر والنهي وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، كما قال المشركون. وإبليس أغلظ كفرًا، ولهذا كانت بدعة أولئك أقرب إلى السنة والجماعة.   (1) انظر "مجموع الفتاوى" (8/431-436) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 وهذه الأمور التي تحبها النفوس والقلوب بفطرتها هي المعروف، والتي تبغضها هي المنكرِ، فإن المعروف هو إحساس مع محبة، والإنكار إحساس مع بغْضة. فأما ما لم يُحَسّ بحال فلا يُعرف ولا ينكر، وما لا يُحب وَلا يبغض بحال فلا يُعْرف ولا ينكر. وإذا حُدِّث الرجل بحديث فأنكره لجهله فإنه أنكر ما لا أحبه سمعُه، وكذلك الحديث المنكر عند أهل الحديث هو ما لم يسمعوه فيحبوه لصحته وصدقه، فإذا سمعوا بذلك أنكروه بعد إحساسه. والمقصود هنا أن محبة هذه الأمور الحسنة ليس مذمومًا بل محمودًا، ومن فعل هذه الأمور لأجل هذه المحبة لم يكن مذمومًا ولا معاقبًا، ولا يُقال إن هذا عمله لغير الله، فيكون بمنزلة المرائي والمشرك، فذاك هو الشرك المذموم. وأما من فعلها لمجرد المحبة الفطرية فليس بمشرك ولا هو أيضًا متقربًا بها إلى الله، حتى يستحق عليها ثواب من عمل لله وعبده، بل قد يثيبه عليها بأنواع من الثواب: إما بزيادة فيها في أمثالها، فيتنعَّم بذلك في الدنيا، ولهذا كان الكافر يُجزى على حسناته في الدنيا وإن لم يتقرب بها إلى الله، ولو كان فِعْل كل حَسَنٍ إذا لم يُفعل لله مذمومًا يستحق به صاحبه العقاب لما أطعم الكافر بحسناته في الدنيا إذا كانت تكون سيئاتٍ لا حسنات، وإذا كان قد يتنعّم بها في الدنيا ويُطعم بها في الدنيا، فقد يكون من فوائد هذه الحسنات ونتيجتها وثوابها في الدنيا أن يهديه الله إلى أن يتقرب بها إليه، فيكون له عليها أعظم الثواب في الآخرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 وهذا معنى قول بعض السلف (1) : طلبنا العلم لغير الله فأبي أن يكون إلا لله. وقول الآخر لما قيل له: إنهم يطلبون الحديث بغير نيَّة، فقال: طلبهم له نيَّة، يعنى نفس طلبه حسن ينفعهم. وهذا قيل في العلم لخصوصيته، لأن العلم هو الدليل المرشد، فإذا طلبه بالمحبة وحصَّله عرَّفه الإخلاصَ لله والعملَ له. ولهذا قال من قال: هو من النظر الأول الذي هو مُقدمة العِرفان، فإن القصد والنية مشروط بمعرفة المقصود المنوي به، فإذا لم يعرفه بعدُ كيف يتقرب إليه؟ فإذا نظر بمحبة أو غيرها فعلم المعبود المقصود صح حينئذ أن يعبده ويقصده. وكذلك الإخلاص كيف يخلص من لم يعرف الإخلاص؟ فلو كان طلب علم الإخلاص لا يكون إلا بالإخلاص لزم الدَّوْر، فإن العلم هو قبل القصد والإرادة من إخلاص وغيره، ولا تقع الإرادة والقصد حتى يحصل العلم. وعلى هذا فما ذكره الإمام أحمد عن نفسه هو حسن، وهو حال النفوس المحمودة المستقيمِ حالُها. ومن هذا قول خديجة رضي الله عنها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك لتَصلُ الرحمَ وتَصْدُقُ الحديثَ وتَقْرِيْ الضيفَ وتَحمِلُ الكلَّ وتكسِبُ المعدومَ وتُعِينُ على نوائب الحق. فهذه الأمور كان يفعلها محبة لها، خُلق على ذلك وفُطر عليه، فعلمت أن النفوس المطبوعة على محبة الأمور المحمودة وفعلها لا يوقعها الله فيما يضاد ذلك من الأمور المذمومة، لما قال لها: "قد خشيتُ   (1) رُوي ذلك عن معمر وغيره، انظر: "جامع بيان العلم" (1/748 وما بعدها) و"الجامع" للخطيب (775) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 على نفسي". قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا .... الحديث، وهو في الصحيحين (1) . وقد تنازع الناس في النبوة: هل هي مجرد إنباء الله لعبده، أو هي راجعة إلى صفات كمالٍ فيه؟ كما تنازعوا في النبوة: هل هي مجرَّد تعلق خطاب الشارع، أو هي راجعة إلى صفات يتميز بها، ولابد من خطاب إلهي أو إنباء؟ ولهذا كانت النبوة أجزاءً، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جُزءًا من النبوة". رواه أهل السنن (2) ، فهذا في العمل. وقال في العلم: "الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءً من النبوة" (3) . وقال: "ثلاث من أخلاق المرسلين" (4) . و هذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حُسن وقُبح، وكل حمدٍ وذم، فإنه لولا الإحساس الذي يُعتد به في حب حبيب وبغض بغيض لما وجدت حركة إرادية أصلاً تحرك شيئًا من الحيوان باختياره، ولَمَا كان أمرٌ ونهي وثواب وعقاب،   (1) البخاري (3 ومواضع أخرى) ومسلم (160) عن عائشة. (2) أخرجه أحمد (1/296) والبخاري في "الأدب المفرد" (468، 791) وأبو داود (4776) عن ابن عباس. (3) أخرجه البخاري (6989) عن أبي سعيد الخدري. وفي الباب عن أبي هريرة وعبادة بن الصامت وغيرهما في الصحيحين. (4) أخرجه الطبراني في الكبير مرفوعًا وموقوفًا على أبي الدرداء بلفظ "ثلاث من أخلاق النبوة ... ". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/105) : الموقوف صحيح، والمرفوع في رجاله من لم أجد من ترجمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 فإن الثواب إنما هو بما تحبه النفوس وتتنعم به، والعقاب إنما هو بما تكره النفوس وتتعذب به، وذلك إنما يكون بَعْد الإحساس، فالإحساس والحب والبغض هو أصل ما يوجد في الدنيا والآخرة من أمور الحي، وبه حَسُنَ الأمر والنهي والوعد والوعيد. وذاك الأمر والنهي والوعد والوعيد هو تكميل للفطرة، وكل منهما عون على الآخر، فالشريعة تكميل للفطرة الطبيعية، والفطرة الطبيعية مبدأ وعون على الإيمان بالشرع والعمل به، والعبد من دان بالدين الذي يصلحه فيكون من أهل [العمل] الصالح في الآخرة، والشقيّ من لم يتبع الدين ويَعملِ العملَ الذي جاءت به الشريعة، فهذا هذا، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 فصل في انتفاع الإنسان بعمل غيره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلاَّ بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة: أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. ثانيها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها. ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير. رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل الغير. خامسها: أن الله تعالى يُخرِج من النار من لم يعمل خيرًا قط بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير. سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (1) فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما.   (1) سورة الكهف: 82. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهو من عمل الغير. تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير. عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها: المدين قد امتنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه حتى قَضى دينَه أبو قتادة (1) ، وقضى دينَ الآخر عليُّ بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو من عمل الغير. ثاني عشرها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمن صلى وحده: "ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه" (2) ، فقد حصل له فضلُ الجماعة بفعل الغير. ثالث عشرها: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك انتفاع بعمل الغير. رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه، وهذا انتفاع بعمل الغير.   (1) أخرجه البخاري (2289، 2295) عن سلمة بن الأكوع. (2) أخرجه أحمد (3/5، 45، 64، 85) والدارمي (1375) وأبو داود (574) وابن خزيمة (1632) عن أبي سعيد الخدري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 خامس عشرها: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر، وهذا انتفاع بعمل الغير. سادس عشرها: أن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له، والأعمال بالنيات، فقد انتفع بعمل غيره. سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه، وهو عمل غيره. ثامن عشرها: أن الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد، وهو انتفاع للبعض بالبعض. تاسع عشرها: أن الله تعالى قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (1) ، وقال تعالى: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) (2) ، وقال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) (3) . فقد رفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض، وذلك انتفاع بعمل الغير. عشروها: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يَمونُه الرجل، فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها.   (1) سورة الأنفال: 33. (2) سورة الفتح: 25. (3) سورة البقرة: 251، سورة الحج: 40. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 حادي عشريها: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون، ويثاب على ذلك ولا سعيَ له. ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يُحصى، فكيف يجوز أن نتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 رسالة في اتباع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 .... إلى ما خُلِقوا له من عبادتِه، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)) (1) ، وقال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (2) ، وقال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)) (3) ، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)) (4) . وفرض على أهل الأرضِ: عَرَبِهم وعَجَمهم، وإنْسِهم وجنَهم، ودَانِيْهم وقاصيْهم اتّباعَه وطاعتَه، كما قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)) (5) ، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (6) .   (1) سورة الذاريات: 56-57. (2) سورة يوسف: 108. (3) سورة الأحزاب: 45-46. (4) سورة الشورى: 52-53. (5) سورة الأعراف: 158. (6) سورة سبأ: 28. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فُضَلْنا على الأنبياءِ بخمسٍ: جُعِلَتْ صفوفُنا كصفوفِ الملائكة، وجُعِلتْ لنا الأرضُ مسجدًا طَهورًا، وأُحِلَّتْ لنا الغنائمُ ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلَنا، وكان النبيُّ يبعث إلى قومِه خاصةً وبُعِثتُ إلى الناس عامةً". أخرجاه في الصحيحين (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والذي نفسي بيده لا يَسمَعُ بي في هذه الأمة يهوديّ ولا نَصرانيّ ثمَّ لا يُؤمنُ بي إلاّ دَخَلَ النارَ". رواه مسلم (2) . وتصديقُه قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) (3) . ولم يَجعَلْ لأحدٍ بلغَتْه رسالتُه وصولاً إلى الله وإلى رحمتِه إلاّ بمتابعتِه، كما قال تعالى: (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) (4) ، وقال في الآية الأخرى: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)) (5) ، وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)) (6) .   (1) البخاري (335، 438) ومسلم (521) بلفظ: "أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهن أحدٌ قبلي ... "، وليس فيه "جُعِلَتْ صفوفنا كصفوف الملائكة"، وهذا الجزء ضمن حديث حذيفة عند مسلم (522) . (2) برقم (153) عن أبي هريرة. (3) سورة هود: 17. (4) سورة آل عمران: 84-85. (5) سورة البقرة: 137. (6) سورة آل عمران: 31. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 وقال الحسن البصري وغيره (1) : ادَّعتْ طائفة أنهم يُحبُّون الله على عهدِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لهم: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ، فجعلَ اتباعَ الرسول مُوجِبَ محبَّةِ العبدِ ربَّه جلَّ وعلاَ، موجبًا لمحبّهِ الربِّ تعالى عبدَه ومغفرتِه ذنوبَه. وفي الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كلُّ الناس يَدخُلُ الجنَّةَ إلاّ من أبَى"، قالوا: يا رسولَ الله! ومن يأبَى؟ قال: "من أطاعَنِي دَخَلَ الجنَّةَ، ومن عَصَانِي فقد أبي". كقوله تعالِى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)) (3) ، وقوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)) (5) . وهذا بابٌ واسعٌ، وهو متفقٌ عليه بين المسلمين. فافترقَ الناسُ فيما جاء به الرسولُ ثلاثَ فِرَق: فرقة امتنعوا من اتباعِه، كاليهود والنصارى والمشركين ونحوهم، فهؤلاء كُفّارٌ تَجِبُ معاملتُهم بما أمر الله به ورسولُه.   (1) أخرجه الطبري (3/155) عن الحسن وابن جريج. (2) البخاري (7280) عن أبي هريرة. (3) سورة النساء: 13-14. (4) سورة النساء: 65. (5) سورة النساء: 64. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 وقسم آمنوا بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا، واتبعوا ما جاء به الرسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقسم أظهروا الإيمانَ بألسنتهم، ولم يَدخُلِ الإيمانُ في قلوبِهم. فهؤلاء المنافقون الذين قال الله فيهم: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)) (1) إلى آخر السورة. وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)) (2) إلى تمام ثلاث عشرة آية. وأنزل الله في صفاتهم سورة براءة، وذكرهم في غيرِ موضع من القرآن، وأمرَ رسولَه بجهادِهم كما أمرهُ بجهاد الكفار. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)) (3) . وأما الكفار فيجاهَدون حتى يُؤمنوا أو يُؤَدُّوا الجزيةَ إن كانوا من أهلِها، كما قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)) (4) .   (1) سورة المنافقون: 1. (2) سورة البقرة: 8-10. (3) سورة التحريم: 9، وسورة التوبة: 73. (4) سورة التوبة: 29. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 وأما المنافقون فجهادُهم بإقامةِ الحدود عليهم، هكذا ذكره السلف، لأنهم يُظهِرون الإسلام بألسنتهم، فإذا خَرجوا عن موجب الدين أُقِيمَ الحدُّ عليهم، وهم قسمانِ: قوم نافقوا في أصل الدين، وأظهروا الإيمان بالله ورسوله، وليس ذلك في قلوبهم، بل هم غافلون عما جاء به الرسولُ ومُعرِضون عنه، إلى الاشتغالِ بدينِ غيرِه، والاشتغالِ بالدنيا عن نفسِ إيمانِ القلوب، وأضمروا تكذيبَ الرسولِ أو بُغضه أو معاداتَه أو معاداة ما جاءَ به. فمتى لم يكن الإيمانُ بالله ورسوله في قلوبِهم كانوا منافقين في أصلِ الدين، سواءٌ كانوا معتقدين لِضدِّ ما جاء به الرسولُ أو خَالِينَ عن تصديقِه وتكذيبه، كما أنّ كلَّ من لم يُظْهِر الإسلامَ فهو ظاهرُ الكفر، سواء تكلَّم بَضدِّه أو لم يَتكلَّم. ولا يُنْجِي العبادَ من عذاب الله تعالى إلاّ إيمان يكون في قلوبهم، حتى إذا سُئِل أحدُهم في الَقبر فقيل له: مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟ قال: ربِّي الله، والإسلامُ ديني، ومحمد نبيِّي، فيُفتَح له باب إلى الجنَّة، وينام نومةَ العروسِ الذي قد دخلَ بامرأتِه، لا يُوقِظُه إلاّ أحبُّ أهلِه إليه. وأما المنافقُ فيقولُ: هاه هاه، لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقلتُ مثلَهم، فيُضْرَبُ بمِرْزَبةٍ من حديدٍ، فيَصِيح صيحةً يَسمعُها كلّ شيء إلاّ الإنسان، ولو سمعَها الإنسانُ لصَعِقَ (1) . قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)   (1) أخرجه أحمد (4/287، 288، 295، 297) وأبو داود (4753) وابن ماجه (1548، 1549) من حديث البراء بن عازب. وأصله في الصحيحين مختصرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)) (1) . والقسم الثاني: المنافقون في بعض أمور الدين، مثل الذي يُكثِر الكَذِبَ أو نَقْضَ العهدِ أو خلافَ الوعدِ، أو يَفْجُر في الخصومة. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أربع من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهنَّ كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يَدَعَها: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أخلفَ، وإذا عاهَدَ غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَر". أخرجاه في الصحيحين (2) . وقد أوجبَ الله تعالى على أهلِ دينه جهادَ مَن خَرَجَ عن شيءٍ حتى يكونَ الدينُ كلُّه لله، كما قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) . (3) فمن خَرَجَ عن بعضِ الدين إن كانَ مقدورًا عليه أُمِرَ بالكلام، فإن قَبِلَ وإلاّ ضرِبَ وحُبسَ حتى يؤديَ الواجبَ ويَتركَ المحرَّم، فإن امتنعَ عن الإقرارِ بما جَاء به الرسولُ أو شيءٍ منه ضُرِبَتْ عُنُقُه. وإن كان في طائفةٍ ممتنعةٍ قُوتِلُوا، كما قاتلَ أبو بكر رضي الله عنه وسائرُ الصحابة مانعي الزكاةِ، مع أنهم كانوا مُقِرِّينَ بالإسلام بَاذِلينَ للصلواتِ الخمسِ، حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: واللهِ لو مَنَعُوني عَنَاقًا كانوا يُؤدُّونَها إلى رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتُهم على   (1) سورة النساء: 145-146. (2) البخاري (34، 2459، 3178) ومسلم (58) عن عبد الله بن عمرو. (3) سورة الأنفال: 39. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 مَنْعِها (1) . وكما قاتلَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومَن معه من الصحابة الخوارجَ، الذين قال فيهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَحْقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم وصيامَه مع صيامِهم وقراءتَه مع قراءتِهم، يقرأون القرآن لا يُجاوِزُ حَناجرَهم، يَمْرُقون من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّة، أينَما لَقَيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قَتْلِهم أجرًا عند الله لمن قَتَلَهم يومَ القيامةِ" (2) . وهؤلاء الخوارجُ الحَرُوريةُ هم أولُ من ابتدعَ في الدين وخَرج عن السنةِ والجماعة، حتى إنّ أوَّلَهم خَرجَ عن سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياتِه، وأنكرَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِسْمةَ المالِ، وأنزلَ الله فيهم. وفي أمثالِهم: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (3) . قال ابن عباس وغيرُه: تبيضُّ وجوهُ أهلِ السنة وتَسْوَدُّ وجوهُ أهلِ البدعةِ والفُرقة (4) . فكلُّ من خرج عن كتابِ الله وسنةِ رسوله مِن سوائر الطَّوائِفِ فقد وجب على المسلمين أن يَدْعُوهُ إلى كتاب الله وسنّة رسوله بالكلام، فإنْ أجاب وإلا عاقبُوهُ بالجَلْدِ تارةً، وبالقتلِ أُخرى على قَدْرِ ذَنبه، وسواء كان مُنْتَسِبًا إلى الدينِ مِنَ العلماء والمشايخ أو مِن رُؤَساء الدنيا من الأمراء والوزراء، فإنَّ من هؤلاء فيهم الأبرارُ والفُجَّارُ.   (1) أخرجه البخاري (1400 ومواضع أخرى) ومسلم (20) عن أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (3610 ومواضع أخرى) ومسلم (1064) عن أبي سعيد، وبعضه عند البخاري (3611) ومسلم (1066) من حديث عليّ. (3) سورة آل عمران: 106. (4) انظر تفسير ابن كثير (2/747) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 فأبرارُهم هم أئمَّةُ الدِّين وهداةُ المسلمين وصالحُو المجاهدين أهلُ الإيمان والقرآن؛ والحاملُ النَّاصرُ للإيمان والقرآن، هُمْ صَفْوَةُ الله من عباده وخِيَرَتُه من خلقِه، وموضعُ نظرِ اللهِ إلى الأرضِ، وورثةُ الأنبياء وخَلَفُ الرُّسُل، قال الله تعالى فيهم: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)) (1) . والبُشْرَى قد فَسَّرَها النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرؤيا الصَّالحةِ يَراها المؤمنُ أو تُرَى له (2) ، وبالثَّناءِ الحَسَنِ مِن المؤمنين (3) . ومُرَّ على النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجنازةٍ فأَثنوا عليها خيرًا، فقال: "وَجَبَتْ وَجَبَتْ"، ومُرَّ عليه بجنازةٍ فأثنوا عليها شَرًّا، فقال: "وَجبتْ وَجَبَتْ"، قالوا: يا رسولَ الله! ما قولك وَجَبتْ؟ قال: "هذه الجنازة أثنيتُم عليها خيرًا فقلتُ وَجَبَتْ لها الجَنَّةُ، وهذه الجنازة أثنيتُم عليها شَرًّا فقلتُ وَجَبَتْ لها النَّارُ، أنتُم شُهَدَاءُ الله في الأرض" (4) . فمن شَهِدَ له عُمُومُ المؤمنين بالخيرِ كان مِن أهل الخير، ومَن شُهِدَ له بالشَّرِّ كان من أهل الشَّرِّ.   (1) سورة يونس: 62-64. (2) أخرجه أحمد (5/315، 321) والدارمي (2142) وابن ماجه (3898) عن عبادة بن الصامت. وفي الباب عن أبي الدرداء وغيره. انظر تفسير ابن كثير (4/1759، 1760) . (3) أخرجه مسلم (2642) عن أبي ذر. (4) أخرجه البخاري (1367، 2642) ومسلم (949) عن أنس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 وهؤلاء الفُجَّارُ المنتسبون إلى عِلمٍ أو دينٍ أو إِمْرَةٍ أو رِئَاسةٍ كالذين قال الله تعالى فيهم: (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) إلى أن قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)) (1) وقد قالي تعاِلٍي كتابه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)) (2) ، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المغضُوب عليهم: اليهودُ، والضَّالِّين هم: النصارى" (3) . قال الترمذي: هذا حديثٌ حسن صحيح. قال العلماء: فمن أُوتِيَ عِلْمًا فلم يَعْمَلْ به كان فيه شَبَهٌ من اليهود الذين عرفوا الحقَّ ولم يتَبعُوه، ومَن عَبَدَ الله بلا عِلمٍ كان فيه شَبَه مِن النصارى الذين ابتدَعُوا الرَّهبانيةَ وعبدُوه بغير شريعةٍ. وأما المؤمنونَ حقًّا فهُمُ المتمسكُونَ بالشريعة والمِنْهَاج المحمَّدِيِّ كما قال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (4) وقال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)) (5) .   (1) سورة التوبة: 34. (2) سورة الفاتحة: 6-7. (3) أخرجه أحمد (4/378) والترمذي (2953، 2954) عن عدي بن حاتم. وانظر تفسير ابن كثير (1/164-165) . (4) سورة المائدة: 48. (5) سورة الجاثية: 18. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 ومن أعظم هؤلاء ضَلالاً: مَن انتسَبَ إلى إمام أو شيخ من شيوخ المسلمين، وابتدَعَ في دين الله ما لم يأذن به الله، أو ضَمَّ إلى ذلك أنواعًا من التكذيب والتلبيسِ، كهؤلاء المُتَوَلِّهينَ الذين يَفْتِلُونَ شُعُورَهم، ومَن وافقهم من المُظْهِرِين كمُحَرقة النَّار واللاذَنِ وماءِ الوَرْدِ والسُّكَّرِ والعسلِ والدم مِن صُدُورهم، وإمساكِ الحَياتِ زاعمينَ أنَّ ذلك كرامة لهم؛ واحتيالاً عن الصدِّ عن سبيل الله، وأكلِ أموال الناسِ بالباطلِ. أمَّا فَتْلُ الشُّعور ولفِيفُهَا فبدعة ما أمر بها نبىٌّ ولا رجل صالح ولا فعلها مَن يُقتدى به، بل قد شَرَعَ الله ورسوُله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّرجُّل مِن تَسْريح الشَّعر ودَهْنِه. ودخل عليه رجلٌ ثائرُ الشَعر فقال: "أَمَا وَجَدَ هذا ما يُسَكِّنُ به شَعْرَهُ؟ " (1) . ولعَنَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواصلة والموصولةَ (2) ، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال (3) . وأمر بإحفاءِ الشارب وإعفاء اللِّحية (4) ، وقال: "مَن كان له شَعْرٌ   (1) أخرجه أحمد (3/357) وأبو داود (4062) والنسائي (8/183) عن جابر ابن عبد الله. وصححه ابن حبان والحاكم. (2) أخرجه البخاري (5941) ومسلم (2122) عن أسماء. وفي الباب أحاديث أخرى. (3) أخرجه البخاري (5885) عن ابن عباس. (4) في أحاديث عديدة في الصحيحين وغيرهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 فليُكْرِمُهُ" (1) ؛ لا سيما والشَّعْرُ إذا كان لا يَدْخُلُ فيه الماءُ إلى باطنِه، لا يصحُّ الاغتسال من الجنابة، ويبقى صاحبُه لا طهارةَ له ولا صلاةَ، ومَن لا صلاة له لا دين له. وكذلك معاشرة الرجل الأجنبي للنسوةِ ومخالطتُهنَّ مِن أعظم المنكرات التي تأباها بعضُ البهائم فضلاً عن بني آدم، قال الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (2) ، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (3) . وفي "الصحيح" (4) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إيَّاكم والدُّخُولَ على النِّساءِ" قالوا: يا رسول الله، أَفَرَأيْتَ الحَمْوَ؟ قال: الحَمْوُ المَوْتُ". فإذا كان قد نهَى أن يدخُلَ على المرأة حموُها أخُو زَوْجِهَا، فكيف بالأجنبيِّ؟ وقال (5) : "لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامرأةٍ، فإنَّ ثالثَهُما الشَّيطَانُ". وقال (6) : "لا تسافرِ المرأةُ مَسِيرَةَ يومين إلا مَع زوج أو ذِي مَحْرَمٍ".   (1) أخرجه أبو داود (4163) عن أبي هريرة. (2) سورة النور: 30. (3) سورة النور: 31. (4) البخاري (5232) ومسلم (2112) عن عقبة بن عامر لا ابن عباس. (5) أخرجه أحمد (1/18، 26) والترمذي (2165) وابن ماجه (2363) عن عمر. (6) أخرجه البخاري (1197) ومسلم (بعد رقم 1338) عن أبي سعيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 وكان إذا صلى في مسجده يُصلِّي الرِّجالُ خلفَه وخلفَهم النساءُ، فإذا قضَى الصلاةَ مَكَثَ هو والرجالُ حتى يَخْرُجَ النساءُ لئلاَّ تختلط النساءُ بالرجال. وقال (1) : "خيرُ صفوفِ الرجالِ أولُها، وشرُّها آخرُها، وخيرُ صفوفِ النساءِ آخرُها، وشرُّها أولُها". وقال أيضًا (2) : "يا معشرَ النِّساءِ! لا تَرْفَعْنَ رؤوسكُنَّ حتى يَرْفَعَ الرجالُ رؤوسَهم مِن ضيقِ الأُزْرِ"، لئلاَّ تَبْدُوَ عورةُ الرجالِ فتراها المرأة. وأَمَرَ النساء إذا مَشَيْنَ في الطريق أن يمشينَ على حافةِ الطريق ولا يَحْقُقْنَ الطريقَ (3) -أي: لا يَكُنَّ في وَسَطِه- بل يكونُ وَسَطَه الرجالُ لئلاَّ يَمَسَّ مَنْكِبُ الرجلِ مَنْكِبَ المرأة، حتى يُروَى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تَرَكَ بابًا من أبواب المسجد للنساء، ونهَى الرجال عن دخوله، فكان عبد الله بن عمر لا يدخله (4) . وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما مَسَّتْ يَدُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ امرأةٍ لم يَمْلِكْها قَطُّ" (5) .   (1) أخرجه مسلم (440) عن أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (362) ومسلم (441) عن سهل بن سعد. (3) أخرجه أبو داود (5272) عن أبي أسيد الأنصاري. (4) أخرجه أبو داود (462، 463) مرفوعًا وموقوفًا، وقال: وهو أصح. (5) أخرجه البخاري (2713 ومواضع أخرى) ومسلم (1866) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 ولما جاء النساء يُبايعْنَه، قال: "إنِّي لا أُصافحُ النِّساءَ، وإنَّما قولي لمِئَةِ امرأة كقولي لاَمرأةٍ واحدةٍ" (1) . ويروى (2) أنه وَضع يده في إناءٍ فيه ماءٌ، ووضعْنَ أيدِيَهُنَّ فيه، ليكون ذلك عِوَضًا عن مصافحة النساء. كل ذلك لئلا يمسَّ الأجانبَ، وهو رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتزوجَ بتسع؛ وسَيدُ الخَلق وأكرمُهم عند الله تعالى، فكيف بهؤلاء الضُّلاَّل المبتدعينَ الخارجينَ عن الإسلام الذين يجمعون بين النساءِ والرجالِ في ظلمة أو غير ظلمةٍ؟ ويُوهِمُ بعضُهم للنساء أن مباشرة الشيخ والفقراء قربة وطاعة، وأنه مُسْقِطٌ للصلاة، ويتخذونَ الزِّنَا والقيادةَ عِبَادةً، ويتركون ما أمر الله تعالى به من الصلوات واجتناب الفواحش، فما أحَقَّهم بقوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)) (3) . ثم يَعُدُّونَ التَّوَلُّهَ والتجَانُنَ وقِلةَ العقل والخروجَ عن العقل والدين قُرْبَةً وطاعةً، ويوهِمون الجُهَّالَ والأغْمَارَ من الأعراب والأتراك والفلاَّحين والنِّسوان أنَّ هؤلاء صَفْوَةُ الله تعالى، وإنَّ هؤلاء قد وَرَدَ عليهم مِن الأحوالِ ما جعلهم هكذا، فيتصرَّفُون في النفوس والأموال تَصَرُّفُ اللِّصِّ الخادع والمنافقِ المُخادع، مُوهِمِينَ حُصُولَ البركةِ   (1) أخرجه أحمد (6/357) والترمذي (1597) والنسائي (7/149، 152) وابن ماجه (2874) عن أميمة بنت رقيقة. وقال الترمذي: حسن صحيح. (2) أخرجه ابن إسحاق في السيرة، كما في "الفتح" (8/637) . (3) سورة مريم: 59. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 لمَنْ أفسدوا عليه دِينَه ودُنْياه، كما يَفعل الرُّهبانُ والقسِّيسونَ بعَوامِّ النصارى، وهذا شيءٌ لم يَبْعَثِ الله به نبيًّا ولا قاله رجلٌ صالح قط، ومَن كان مِن الناس قد ذهب عقلُه حتى صار مجنونًا فقد رُفِعَ القلَم عنه، كما قال النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفِعَ القلمُ عن الصبيِّ حتى يبلُغ، وعن النائِم حتى يستيقِظَ وعن المجنون حتى يُفِيقَ" (1) . وينبغي أن يُعالَجَ هذا بما يُعالَجُ به المجانين، فإنَّ الجُنُونَ مَرَض من الأمراض أو عارض من الجنّ، ومِن هؤلاء قوم لهم قلوبٌ فيها تأله وإنابةٌ إلى الله تعالى ومحبة له وإعراض عن الحياة الدنيا، قد يُسَمَّونَ "عُقَلاء المَجَانِين"، وقد يُسَمَّون "المُوَلهين" فهم كما قال فيهم بعضُ العلماء: "قومٌ أعطاهم الله عُقُولاً وأحوالاً فسلَب عُقُولَهم وأبقى أحوالَهم، فأسْقَطَ ما فَرَضَ بما سَلَبَ". فالمجانين كالعُقَلاء فيهم مَن فيه صَلاَحٌ، وفيهم مَن لا صَلاَح له. وسَبَبُ جُنُونِ أحدِهم: إمَّا وارِد وَردَ عليه من المحبة أو المخافة أو الحُزْنِ أو الفَرح حتى انْحَرفَ مِزَاجُه. أو خَلْط غَلَبَ عليه من السَّوداءِ. أو قَرِين قُرِنَ به من الجِنِّ. فهؤلاء إذا صحَّ أنهم مجانينُ ومولَّهونَ كانوا في قسم المعذورين الممنوع (2) على الفساد، ولا يحلُّ الاقتداءُ بِمَن فيه منهم صلاح؛   (1) أخرجه أحمد (6/100، 101، 144) والدارمى (2301) وأبو داود (4398) والنسائي (6/156) وابن ماجه (2541) عن عائشة وفي الباب عن علي. (2) كذا في الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 ولا اتباعُ ما يقولُ من الأقوالِ والأفعالِ إلاَّ أن يُوافِقَ الشريعةَ. ولا ينبغي تعظيمُهم، فإنهم منقُوصُونَ مجروحون، وصالِحُو العقلاءِ أفضلُ منهم بكثيرٍ كثير، وليس فيهم وليٌّ ولا صالحٌ مشهور، وإنما يَغْتَرُّ بهم بعضُ الجُهَّال، لأنَّ جُنُونَهم يُوجبُ أن يُظْهِرَ بعض ما في بواطنهم من كشفٍ أو زُهْدٍ أو تأثيرٍ فَيَسْتَعْظِمُ الجاهلُ ذلك. وصالحُ العقلاء قد يكونُ معه أضعافُ ذلك، ولا يُظهرُه إلاّ حيث يراه مَصْلَحَةً، وقد يكون كِتْمَانُه أصلحَ لهم؛ فأما هؤلاء المفتلون الشَّعْرَ ونحوهم، فعامَّتُهم مُتَوَلِّهُون لا مُوَلَّهُونَ، يُظهِرُون ذلك كذبًا ومكرًا ومخادعةً للجهّال، كي يَتميَّزُوا بذلك ممَّا يُريدُونَه مِن النفوس والأموال، وحتى لا ينكَرَ عليهم ما يقولونه ويفعلونه من القبيح، فيقول الجاهلُ: هذا مُوَلَّهٌ. وأحدُهم يميِّزُ بين الدِّرْهم والدينار، والغنيِّ والفقير، ويَعْرِفُ الخَيْرَ والشَّرَّ، وله فكرٌ طويلٌ في الحيلةِ التي يَحْتَالُ على الجُهَّال بها، ويَتَوَاجدون عند السماع المُحْدَثِ أو غيره، فيصيحون ويزعقون ويَزْبدون ويتغَاشَى أحدُهم، فبعض ذلك كذبٌ ومكرٌ وحيلة، وبعضُه عادة فاسدة وطريقةٌ سيئه. وقد يُقْرَنُ بأحدهم قرين من الجنِّ فيُعينُه على ذلك، كما أنَّ المصروعَ يُزْبِدُ ويصيحُ كما يجري لهؤلاء؛ وشيوخُهُم يُقِرُّونَهم على ذلك [للاحتيال] على الجهال وأَكْلِ أموال الناس بهم؛ وإلاّ فقد أجمع المسلمونَ بلْ واليهود والنصارى أنَّ هؤلاء ضُلاَّلٌ وفَسَقَةٌ، وأن الواجب توبتُهم واتباعُهم لِمَا أمر الله به وتَرْكُ ما نهَى عنه، بل الواجب إذا رأينا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 مُوَلَّهًا أو مجنونًا أن نُعالِجَه حتى يصير عاقلاً، فهؤلاء يَعْمِدونَ إلى الصبيانِ يُرَبُّونهم على التولُهِ تربيةً، ويُعَوِّدُونهم الخروجَ عن العقل والدين عادةً كما يُعَوِّدُ الأنبياءُ والصالحونَ أتباعَهم ملازمةَ العقل والدين. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "مروهم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقُوا بينهم في المضاجع". قال العلماءُ: يجبُ على كافلِ الصبيِّ أن يُعَلِّمَه الطهارةَ والصلاةَ، ويمنعَه اعتيادَ المُحَرَّمات. وهؤلاء بخلاف ذلك، وعامَّةُ ما يُبْدُونَه من النار ونحوها مكر وحيلة من جنس حِيَلِ الرُّهبان، فإنهم يتوسَّلُون بالطَّلق ودهْنِ الضَّفادع وماءِ النارَنْج إلى أن يَصفُوَ ذلك، ثم يَطْلُونَ به لحومَهم وثيابَهم، فتَصْبِر على النارِ مُدَّةً طويلةً من الزمان، وكذلك يصنعونَ من دَمِ الأخوين ونَبتٍ يُقال له: أمُّ عربيل ما يُظْهِرون به أنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ من أحدهم وقتَ الوَجْدِ، وكذلك اللاذن ونحوه، وأضعاف ذلك، كفعل الرُّهبان على عوامِّ النصارى حِيَلاً أعظمَ من هذه. وللصالحين كرامات معروفة من تسخير السِّباع والنارِ لهم وتكثير الطعام والشراب ودفع البلاء، ومن المكاشفاتِ وأنواع الخوارق للعادات، في أبواب العلم وأبواب القدرة، لكن طريقةُ الصالحين   (1) أخرجه أحمد (2/180، 187) وأبو داود (495، 496) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 طاعةُ الله ورسوله وملازمةُ الكتاب والسنة، وأقلُّ أحوالهم الصدقُ والبر، كما [أنّ] علامة الفاجر الكذبُ والفجور. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "عليكم بالصدق فإنَّ الصدقَ يهدي إلى البِرِّ وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقًا، وإيَّاكم والكذبَ فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذبُ ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذَّابًا". وهكذا قال الله تعالى في القرآن: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)) (2) . فأخبرَ أنَّ الشياطين تنَزَّلُ على الكذَّاب في قوله، الفاجر في فعله، كما كانت تنَزَّلُ على المتنبِّئين الكذَّابين مثل الأسودِ العَنْسِيِّ ومسيلمة الكذاب والمختارِ بن أبي عبيد؛ حتى قالوا لابن عمر أو لابن عباس (3) رضى الله عنهما: إن المختارَ يَزْعُم أنه يُنَزَّلُ عليه فقال: صَدَقَ: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)) . وقالوا لآخر (4) : إنه يزعُمُ أنه يوحى إليه، فقال: صَدَقَ: (وَإِنَّ   (1) أخرجه البخاري (6094) ومسلم (2607) عن عبد الله بن مسعود. (2) سورة الشعراء: 221-222. (3) هذا مرويّ عن عبد الله بن الزبير، كما في تفسير الطبري (19/77) . وروي عن ابن عمر وابن عباس نحوه واستشهدا بآية سورة الأنعام. انظر تفسير ابن كثير (3/1356) . (4) روي عن ابن عمر في المصدر السابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) (1) . فمن كان من أتباع الكذابين المتنبئين، فإنَّ أولئك كان يَظْهَرُ عليهم أشياءُ، والساحرُ والمُشَعْبذُ يَفعل أشياءَ، فإذا جاءت عَصَا الشريعةِ المحمدية ابتلعتْ ما صَنعَه الخارجون عنها من السِّحْر المُفْتَرَى، (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)) (2) . وقد يُفَضِّلُ شيخَه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلُوًّا فيه، كما غَلَتِ النصارى في المسيح بن مريم عليه السلام، وغلتِ الرافضةُ في عليٍّ رضي الله عنه، بل الغاليةُ من النصارى والرَّافضة أَعْذَرُ من هؤلاء الغالية في بعض المشايخ المسلمين، كبعض المنتسبين إلى الشيخ أحمد بن الرِّفاعيّ والشيخ عَدِيٍّ أو الشيخ يونُسَ (3) . ... له في الصيام وبعضُهم في الصدقة وبعضُهم في العلم وبعضهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أنواع أُخَرَ، مع اتفاق قلوبِهم واجتماع كلمتِهم واعتصامهم بحبل الله تعالى، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)) (4) .   (1) سورة الأنعام: 121. (2) سورة طه: 69. (3) سقطت بعده ورقة أو أكثر، فذهب بعض الكلام. (4) سورة آل عمران: 102-103. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 وقد يتنازعون في بعض أمور الدين، فإذا تنازعوا في شيءٍ من ذلك رَدُّوهُ إلى الله تعالى ورسوله، والكتاب والسنة، كما أمر الله ورسوله، وليس أحد بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعَ كلُّ ما يقوله ويفعلُه، بل كلُّ أحد يُؤخَذُ من قوله وفعله ويتركُ إلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه الإمامُ الذي فرضَ الله طاعتَه وأوجَب متابعتَه. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في خطبتِه (1) : "إنَّ أصدق الكلام كلام الله، وإن خير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". فمن اتبع رجلاً غير الرسول -صلوات الله وسلامُه عليه- في كلِّ أقوالِه وأفعالِه مُعْرضًا عن الكتاب والسنة، أو غَلا في محبَّةِ بعضهم وتعظيمه حتى جاوزَ به حدَّه، وفضَّلَه على نُظَرائه تفضيلاً كثيرًا بلا بيِّنة، فهو مُضَاهٍ للنصارى الذين قال الله في حقهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (2) الآية، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا) (3) الآية، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (4) الآية، وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (5) الآية.   (1) أخرجه مسلم (867) عن جابر. (2) سورة التوبة: 31. (3) سورة آل عمران: 79. (4) سورة سبأ: 22. (5) سورة المائدة: 77. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 فإن الله تعالى ذَمَّ النصارى بكونهم غَلَوْا في الأنبياء والعلماء والعُبَّاد حتى جاوزوهُم حَدَّهم، فعبدُوهم حيث أطاعوهم فيما ابتدع (1) الأحبار والرهبان من الدين، وحللُوا لهم الحرام وحرَّموا عليهم الحلال، هكذا فسَّرَهُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ واعتقدوا في المسيح نوعًا من الإلهية، وضاهاهم على ذلك مَن اعتقد في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرِه من الأئمة أو بعض الأنبياء نوعًا من الإلهية، ومَن اعتقد في بعض الشيوخ نوعًا من الإلهية، حتى إنهم سجدوا لهم أحياءً وأمواتًا، ويَرْغَبُونَ إليهم في قبورهم في جلب المنافع ودفع المضارِّ، كما كان المشرِكون يرغبون إلى آلهتهم، ولهذا قال سبحانه وتعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)) (2) . قال ابن مسعودٍ وغيرُه (3) : كان أقوام يدعون عُزَيرًا والمسيح والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم يتقرَّبون إلى الله كما تتقرَّبون إليه ويرجون الله ويخافونه. كما قال بعضُ الفقهاء: إنَّ بعض الفقراء أوصاه عند موته: إذا كان لك حاجة أو أمر مُهِمٌّ أو ضيقٌ استوحِني أو استوحِ بي. نعوذ بالله من الشرك والضلال، وهم لا يملكون كشف الضرِّ   (1) في الأصل: "ابتدعوا". (2) سورة الإسراء: 56-57. (3) انظر تفسير الطبري (15/72-73) وابن كثير (5/2103) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 عنكم ولا تحويلا، وكما قال سبحانه: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (1) وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2) وقال تعالى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (3) . فهؤلاء الضُّلاَّلُ عَمَدوا إلى ما لم يشرَعْه الله تعالى من البدع والضلالات والغُلُوِّ في الصالحين، وتمسَّكوا به وعَمَدُوا إلى دين الله تعالى الذي بَعَثَ به رسولَه فأعرضوا عن بعضِه؛ وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) : "بنيَ الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله وإقام الصلاة وإيتاءِ الزكاة وصومِ رمضان وحَجِّ البيت". وقال النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمَّا سأَله جبريلُ عليه السلام عن الإسلام والإيمانِ والإحسان قال (5) : "الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وإنَّ محمدًا رسولُ الله وتُقيمَ الصلاة وتُؤتي الزَّكاة وتَصومَ رمضان وتَحُجَّ البيتَ، والإيمانُ أن تؤمن بالله وملائكته [وكتبه] ورسلِه والبَعْثِ بعد الموت   (1) سورة سبأ: 22-23. (2) سورة البقرة: 255. (3) سورة الأنبياء: 28. (4) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) عن ابن عمر. (5) أخرجه مسلم (8) عن عمر. وأخرجه البخاري (50، 4777) ومسلم (9، 10) عن أبي هريرة نحوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 وتُؤمنَ بالقدر خيرِه وشرِّه، والإحسانُ أن تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكن تراه فإنَه يراكَ" وقال: "هذا جبريلُ أتاكمْ ليُعَلِّمَكُم". فالمؤمنُ يدعو إلى الدين وينتسبُ إليه، وعليه أن يَدْعُوَ إلى الإسلام والإيمان والإحسان، ومِن ذلك : عِمارةُ المساجد بالصَّلوات الخمس وقراءةُ القرآن وذكرُ الله تعالى ودُعاؤه وأنواعُ العبادات وتعلُّم العِلم وتَعليمُه، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخُلَفاؤُه عليه، فإنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبرَ أنَ أمتَه ستفترقُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كُلُّها في النار إلا واحدةً، قالوا: [مَن هي يا رسول الله؟ قال:] "هي الجماعةُ" (1) ، وفي رواية (2) : "مَن كان على مِثْلِ ما أنا عليه اليومَ وأصحابي". قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (3) الآية، وقال تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (4) الآية، وقال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (5) . فأمرَ الله بالصلاة والمحافظة عليها؛ والذَّمُّ لمن أضاعها أكثرُ مِن   (1) أخرجه ابن ماجه (3992) عن عوف بن مالك. وفي الباب عن معاوية بن أبي سفيان عند أحمد (4/102) والدارمي (2521) وأبي داود (4597) . وسعد بن أبي وقاص عند عبد بن حميد في مسنده (148) . (2) رواها الترمذي (2641) عن عبد الله بن عمرو، وقال: هذا حديث حسن غريب مفسَّر. (3) سورة النور: 36. (4) سورة الأنعام: 52. (5) سورة طه: 132. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 أنْ يُذكر هنا، حتى إنه أوجب الصلاةَ في الأمن والخوف، رجالاً وركبانًا في الإقامة والسفر، وفي الصحةِ والمرضِ، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حُصين (1) : "صَلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْبٍ". وحتى إنه إذا عَدِمَ الماء أو خاف الضَّرر باستعماله أُمِرَ بأنْ يتيممَ بالصَّعيدِ الطيِّب والتمسُّحِ له، ولا يجور تأخيرُها عن وقتها بحالٍ من الأحوال، إلا أنه في حال العُذْرِ يكونُ الوقت مشتركًا بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فيجوز الجمعُ بين العشاءين. وشرعَ اللهُ ورسولُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلواتِ الخمسَ والجماعاتِ، حتى أمرهُم الله أنْ يُقيموها في الجماعةِ حالَ الخوف، قال الله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) (2) الآية. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3) : "لقد هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بالصلاة فتُقامَ، ثمَّ أنطَلِقَ مع رجالٍ معهم حُزَم مِن حَطَبٍ إلى قومٍ لا يشهدونَ الصلاةَ، فأُحَرقَ عليهم بيوتَهم بالنار". وقال (4) : "تفضُلُ صلاةُ الجماعة على صلاة الفَذ خَمْسًا وعشرين درجةً".   (1) أخرجه البخاري (1117) عن عمران. (2) سورة النساء: 102. (3) أخرجه البخاري (644 ومواضع أخرى) ومسلم (651) عن أبي هريرة. (4) أخرجه البخاري (646) عن أبي سعيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 وقد شرع الله للمسلمين سماع كتابه في الصلاة وخارج الصلاة، لا سيَّما في صلاة الفجر، كما قال تعالى: (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)) (1) . وكان أصحابُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (2) : "يا أبا موسى ذَكَرْنَا ربَّنا" فيقرأُ وهم يستمعون. وقد رُوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خرج على أهل الصُّفَّةِ فوجدَ فيهم رجلاً يقرأ وهم يستمعون، فجلس معهم يستمعُ (3) . وكان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند السَّماع كما ذكر الله تعالى في كتابه توجَلُِ قلوبُهم وتقْشعِرُّ جلودُهم وتَدْمَعُ عيونُهم. قال الله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (4) ، وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) (5) ، وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (6) ، وقال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا   (1) سورة الإسراء: 78. (2) أخرجه الدارمي (3496) عن الزهري عن أبي سلمة. (3) أخرجه أحمد (3/357، 397) عن جابر نحوه. (4) سورة الزمر: 23. (5) سورة المائدة: 83. (6) سورة الحديد: 16. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)) (1) . فلما كان التابعون فيهم مَن يموتُ أو يَصْعَقُ عند سماع القرآن فمِنَ السلف مَن أنكرَ ذلك ورآه بدعةً، وأنَّ صاحبَه متكلِّف، وأمَّا أكثرُ السَّلف والعلماء فقالوا: إنْ [كان] صاحبُه مغلوبًا، والسماع مشروعًا، فهذا لا بأس به، فقد صَعِقَ الكليمُ لما تجلَّى ربُّه للجبل، بل هو حال حَسَن محمود فاضِل بالنسبة إلى مَن يَقْسُو قلبُه. وحالُ الصحابة ومَنْ سلك سبيلَهم أفضلُ وأكملُ، فإنَّ الغَشِيَّ والصرَاخَ والاختلاجَ إنَّما يكون لقوة الوارد على القلب، وضَعْفِ القلب عن حَمْلِهِ، فلو قَوِيَ القلبُ -كحال نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه- لكان أفضلَ وأكملَ. ولو لم يَرِدْ على القلبِ ما يحرِّكُه لكان قاسيًا مذمومًا، كما ذمَّ الله تعالى اليهود على قسوة القلوب. وما زال السلفُ كذلك إلى حَدِّ المئة الثالثة، صار قوم من العبَّاد يجتمعونَ لسماع القصائد المرقِّقة، وربما ضَرَبوا بالقضيب لذلك، ويُسَمُّون ذلك التَّغْبيرَ، فأنكر الأئمةُ ذلك، ورأَوا أنه بدعةٌ محدثةٌ؛ إذْ لم يفعلْه السلفَ حتى قال فيهم الشافعيُّ رضي الله عنه: خَلَّفْتُ ببغداد شيئًا أحْدَثَتْهُ الزَّنادقة يُسَمُّونَه التَّغْبِير، يَصدُّون به الناسَ عن القرآن.   (1) سورة الأعراف: 204. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 وكَرِهَ أحمد الجلوسَ معهم فيه، وقال: هو مُحْدَثٌ أكرهُه، ورأى أنَّهم لا يُهْجَرونَ؛ لأنهم مُتأولُون. وحضر هذا السَّماعَ المُحْدَثَ قوم من الصالحين وكرهوه. وتركُهُ أفضلُ من حضورِه. والذين حضروه اشترطوا له شروطًا كثيرة مثل المكان والخُلاَّن والخلوة من المفاسد. ومع هذا فالحجَّةُ من الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة مع من كرِهَهُ، ونهى عن التعبُّدِ به، وإن كان يُرَخَّصُ في الأفراح للنساء والصبيان في أنواع من الغناء وضرب الدُّف كما جاءت به السنة، فهذا نوع من اللهْو واللعِب، ليس هو من نوع العبادات والقُرب والطَّاعات، كما يفعله المبتدعون للسَّماع المحدث، وبكل حالٍ فالإكثارُ منه حتى يُفعَلَ في المساجد، وحتى يُشتَغل به عن الصلوات، وحتى يُقَدَّمَ على القراءةِ والصلاةِ، وحتى يُجعلَ شعار الشيخ وأتباعِه، وحتى يُضرب بالمعازف، لا ريبَ أنَّه مِن أعظم المنكرات، وهو مُضاهاة لعبادة المشركين الذين قال الله تعالى فيهم: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) (1) . قال السلف: المكاءُ: الصَّفِيرُ نحوُ الغناء، والتَّصْدِيَةُ: التَّصفِيقُ باليد. فَمَنِ اتخذ الغناءَ والتصفيقَ قُربةً ففيه شَبَه من هؤلاء، وإذا شَغَلَهُ عمَّا أمر به وفَعَلَهُ في المسجد، فقد انْدَرج في قوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ) الآية، وفي قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا   (1) سورة الأنفال: 35. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)) (1) ؛ وفي قوله: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) (2) ، لا سيما وقد قيل: إنها نزلت في أعيادِ الجاهلية المشابهة لهذا السَّماع المشتمل على اللهو واللعب. قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (3) ، وقيل: إنَّ هذا من الزُّور. وقد قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (4) . وقال الله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) (5) . وقال تعالى: (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)) (6) . وقد روى الطبراني (7) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الشيطان قال: يا ربِّ اجعلْ لي قرآنًا، قال: قرآنكَ الشِّعرُ، قال: اجعلْ لي مؤذنًا، قال: مؤذنك المزمار، قال: اجعلْ لي بيتًا، قال: بيتك الحمَّام". والأحاديثُ في هذا كثيرة. فإذا كان الشيخ يَزعُمُ أنَه يدعو إلى الله وإلى طاعته، ليس شعارُهُ إلا جمعَ الناس على مزمورِ الشيطان ومؤذِّنِه وقراءتِه، وقَلَّ أنْ يَجمعَهم   (1) سورة مريم: 59. (2) سورة الأنعام: 70. (3) سورة الفرقان: 72. (4) سورة لقمان: 6. (5) سورة الإسراء: 64. (6) سورة النجم: 16. (7) في "المعجم الكبير" (11/103) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 على أذان الله وقراءتِه وصلاتِه، كان إمامًا من أئمة الضَّلال الذين (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)) (1) ، وكان من اتَّبعهُ له نَصِيبٌ من قوله تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)) (2) . وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)) (3) . والناسُ وإن كانوا قد تكلَّموا في الغناء، هل هو حرامٌ أو مكروهٌ أو مُباحٌ؟ فما قال أحدٌ من المهتدين: إنه قربة أو طاعةٌ، ومَن قال ذلك فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، ودخل في مشابهة النصارى والصابئين، ولهذا ذكر العلماء أنه من إحداثِ الزنادِقَة. وكيف يتصَوَّرُ أن يكون قربةً، وقد مضت القرون الثلاثة: قرنُ الصحابة والتابعين وتابعيهم، وذلك لا يُفْعَلُ في شيءٍ من أمصار المسلمين، لا في الحجاز ولا في اليمن ولا في الشام ولا في العراق ولا في مِصر ولا في خُراسان ولا في المغرب. فالواجب على أهل الإسلام التعاونُ على البر والتقوى، والتواصي   (1) سورة القصص: 41. (2) سورة الأحزاب: 66-68. (3) سورة الفرقان: 27-29. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 بالحق، والتواصي بالصبر والبر، واتباعُ شرائع الإسلام، وكَبْتُ هذه الطرق الجاهلية والضَّلالات الخارجية، ورَدُّ ما تنازعَ الناسُ فيه إلى كتاب الله تعالى و [سُنَّةِ] رسوله، وهو الطريق المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتجنُّبُ طريق المغضوب عليهم اليهود ومن شابههم في بعض أمورهم من غواة المنتسبين إلى الفقه والحكمة، ومن طريق الغالين المنتسبين إلى التَّعبُّدِ والتَّصَوُّفِ والفقر. وعلى أهل الإسلام أن ينصَحَ بعضُهم لبعضٍ كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "الدينُ النصيحةُ، الدينُ النصيحةُ، الدين النصيحةُ"، قالوا: [لِمَنْ؟، قال:] "لله ولرسوله ولأئمةِ المسلمين وعامَّتِهم". وقد قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)) (2) ، وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (3) . فهؤلاء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أطِبَّاءُ الأديان، الذين تُشفَى بهم القلوب المريضة، وتهتدي بهم القلوب الضالة، وترشُدُ بهم القلوبُ الغاوية، وتستقيم بهم القلوبُ الزائغة، وهم أعلامُ الهدى ومصابيح الدُّجى.   (1) أخرجه مسلم (55) عن تميم الداري. (2) سورة آل عمران: 104. (3) سورة التوبة: 71. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 والهدى والمعروفُ اسمٌ لكل ما أُمر به من الإيمان ودعائمه وشعَبه، كالتوبة والصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والإخلاص والرضَا والإنابة وذكر الله تعالى ودعائه والصدق والوفاء وصلة الأرحام وحسن الجوار وأداء الأمانة والعدل والإحسان والشجاعة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وغير ذلك. والمُنْكَرُ اسمٌ لكلِّ ما نهى اللهُ عنه من الكفر والكذب والخيانة والفواحش والظلم والجور والبخل والجبن والكبر والرياء والقطيعة وسوء المسألة واتباع الهوى وغير ذلك. فإن كان الشيخُ المتبوعُ آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، داعيًا إلى الخير، مصلحًا لفساد القلوب، شافيًا لمرضاها، كان من دُعاة الخير وقادة الهُدى وخِيارِ هذه الأُمَّة. نسألُ الله أن يُكثر من هؤلاء ويُقويهم، ويَدْمغَ بالحقِّ الباطلَ، ويُصلحَ هذه الأمة. والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. (تمَّت الرسالةُ بعون الله ومَنِّه من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية، قدَّس الله روحه وسقى ضريحه) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 شرح حديث "لا يَزني الزاني حينَ يَزني وهو مؤمنٌ" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الحافظ الإمام، شيخ الإسلام، وأستاذ العلماء الأعلام، تقي الدين أحمد بن [عبد الحليم بن] عبد السلام، الشهير بابن تيمية رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين خيرًا: فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1) : "لا يَزني الزَّاني حين يَزني وهو مؤمنٌ، ولا يَشرب الخمرَ حين يَشربُها وهو مؤمن، ولايَسرِقُ السارقُ حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذاتَ شرفٍ يَرْفعُ النَّاسُ إليه فيها أبصارَهم وهو حين يَنْتَهِبُها مؤمن". وللناس في هذا وأمثاله كلام كثير مضطرب، فإن هذه من مسائل الأسماء والأحكام. فالخوارج والمعتزلة يحتجون بهذا على أن صاحب الكبيرة لم يَبْقَ معه من الإيمان بل ولا من الإسلام شيء أصلاً، بل يستحق التخليد في النار، ولا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها. ومعلوم أن هذا القول مخالف لنصوص الكتاب والسنة الثابتة في غير موضع.   (1) أخرجه البخاري (2475 ومواضع أخرى) ومسلم (57) عن أبي هريرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 والمرجئة والجهمية يقولون: إيمان الفاسق تام كامل لم ينقص منه شيء، ومثل هذا إيمان الصديقين والشهداء والصالحين. ويتأولون مثل هذا الحديث على أن المنفي موجب الإيمان، أو ثمرته، أو العمل به، ونحو ذلك من تأويلاتهم. والصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأهل الحديث، وأئمة السنة يقولون: لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، بل يخرج منها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، بخلاف قول الخوارج والمعتزلة. ويقولون: إن الإيمان يتفاضل، وليس إيمان من نفى الشارع عنه الإيمان كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ومنهم من ينفي عنه إطلاق الاسم، ويقول: خرج من الإيمان إلى الإسلام، كما يُروى ذلك عن أبي جعفر الباقر وغيره. وهو قول كثير من أهل السنة من أصحاب أحمد وغيرهم، وقال بمعنى هذا القول حماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل في غير موضع، وسهل بن عبد الله التُّسْتَرِيّ وغيرهم من أئمة السنة. فإن أصحاب المنزلة بين المنزلتين ينفون اسم الإسلام، وأولئك يقولون بالتخليد في النار، وأولئك يقولون: ليس معه من الإيمان شيء. وهم لا يقولون معه من الإيمان شيء ما يَخرج به من النار ويدخل به الجنة، وبين القولين هذه الفروق الثلاثة. وعلى هذا قول من يقول إن الأعراب الذين قالوا: (ءَامَنَّا) ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 وقال الله: (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (1) لم يكونوا منافقين، بل كانوا دخلوا في الإسلام، ولَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم فيثيبهم الله على الطاعة، ويعاقبهم على المعصية، كما قال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شيئًا) (2) . وهذا قول أكثر أهل الحديث. وقيل: بل هؤلاء كان إسلامهم إسلام نفاق، فلا يكون مسلمًا مثابًا على العمل إلا من هو مؤمن. والتحقيق أن نفي الإيمان وإثباته باعتبارين: فمن في قلبه مثقال ذرة من إيمانٍ لم يدخل جميع الإيمان في قلبه، وإنما دخل في قلبه شيء منه، فهذا يثاب على أعماله وهو مسلم ومعه إيمان، ولما يدخل كمال الإيمان في قلبه بل إيمانه ناقص، ولهذ كان الصحابة وجمهور السلف على أن الإيمان يزيد وينقص. فالفاسق معه إيمان ناقص نقصًا هو نقص جزء واجب، وما كان كذلك فإنه يُنفَى، وإن كان قد أُثيب على فعل ما فَعَل لكن ما تبرأ ذمته، ولا يُعاقَبُ عقوبةَ من لم يفعل شيئًا. كمن ترك بعض واجبات العبادة فيقال: صلِّ فإنك لم تُصلِّ، ولا يكون من ترك الطمأنينة كمن ترك جميع الصلاة، ولهذا تكمَل الفرائض يوم القيامة من النوافل، والعبد ينصرف من صلاته ولم يُكتب له منها إلا نصفها،   (1) سورة الحجرات: 14. (2) سورة الحجرات: 14. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها (1) . ورُبَّ صائمٍ حظه من صيامِه الجوعُ والعَطَشُ (2) ؛ وليس بمنزلة المفطر، بل وإن لم يحصل له ثواب فهل يرفع عنه عقاب الترك؟ وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان كيف يُنفَى الإيمان بفعل الكبائر. وذلك أن الإيمان الواجب لابد أن يكون الله ورسوله أحب إلى صاحبه مما سواهما، ولابد أن يخشى الله ويخافه، فمن لا يحب الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يخشى الله تعالى فهذا ليس بمؤمن، بل قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (3) . وقال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)) (4) . فبين سبحانه أنه لا يوجدُ مؤمن يوادُّ المحاد لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن المؤمنَ لا يمكنُ أن يتولى الكافر، والمودةُ والموالاةُ تتضمن المحبة، فدلَّ ذلك على أنه لابد في الإيمان من محبة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما ينافي   (1) كما في حديث عمار بن ياسر الذي أخرجه أحمد (4/321) وأبو داود (796) والنسائي في الكبرى (525) . وهو حديث حسن. (2) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه أحمد (2/373) وابن خزيمة (1997) . (3) سورة المجادلة: 22. (4) سورة المائدة: 81. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 محبة من حادَّ الله ورسوله، ولهذا لا تكون موالاة الله ورسوله إلا بمعاداة من عادى الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كقول إبراهيم والذين معه: (قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (1) . وفي الصحيحين (2) أنه قال: "والذي نفسي بيدِه لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِهْ والناسِ أجمعين". وفي صحيح البخاري (3) أن عمر بن الخطاب قال: "والله يا رسول الله لأنتَ أحبُّ إليَّ مِن كلِّ شيء إلا من نفسي! ". قال: "لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليكَ من نفسِكَ". قال: "فلأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي". قال: "الآن يا عمر". بل أبلغ من ذلك قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)) (4) . فهذا وعيد لمن كان أهله الذين يحبهم وأمواله التي يحبها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله. فكيف إذا كان الصور المحرمة والمال المحرم ومكاره كثيرة، فكيف إذا كان هذا وهذا؟ وهو أحب إليه من الله   (1) سورة الممتحنة: 4. (2) البخاري (15) ومسلم (44) عن أنس. (3) برقم (6632) . (4) سورة التوبة: 24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 ورسوله بدون الجهاد. فَعُلِمَ أن الزاني والشارب أبعد عن كون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما من هؤلاء التاركين للجهاد، وإن كانوا يحبون الله ورسوله، لكن لم يقل له: إنها أحب إليه مما سواهما، ولا إنه مُتَّصِف بذلك وقتَ الشّرب، فقد يتصف العبد بالأحبِّية في حال دون حال، ولابد في الإيمان مِن أنْ يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ومن هنا غلطت الجهمية والمرجئة؛ فإنهم جعلوا الإيمان من باب القول: إمّا قول القلب الذي هو علمه (1) ، أو معنى غير العلم عند من يقول ذلك. وهذا قول الجهمية ومن تَبعهم كأكثر الأشعرية، وبعض متأخري الحنفية. وإما قول القلب واللَسان كالقول المشهور عن المرجئة؛ ولم يجعلوا عمل القلب مثل حب الله ورسوله ومثل خوف الله من الإيمان، فغلطوا في هذا الأصل. وغلطوا غلطًا آخر غَلِطَت الجهمية فيه أعظم، وهو أنهم ظنوا القلب يقوم به الإيمان قيامًا لا يظهر على الجوارح. فظنوا أن [الإنسْان] (2) يقوم بقلبه تصديق تام للرسول، ومحبة تامة للرسول، وهو مع هذا يشتمه ويلعنه ويَضْربه من غير إكراه، فصاروا لا يجعلون شيئًا من الأعمال الظاهرة مستلزمًا للكفر الباطن، بل يقولون: نحن نحكم بكفره ظاهرًا، وقد يكون في الباطن من أولياء الله.   (1) في الأصل: "عمله". والمثبت يقتضيه السياق. (2) في الأصل: "الإسلام". والمثبت يقتضيه السياق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 وغلطوا غَلْطة ثالثة فقالوا: كل من حكم الشارع بكفره في الظاهر (1) فذلك دليل على أنه لم يكن مصدقًا في الباطن. وهذا مكابرة ظاهرة، فصاروا يقولون: إن إبليس وفرعون وعلماء اليهود وأمثال هؤلاء هم في الباطن جاحدون لوجود الخالق لأنه ثبت أنهم ليسوا مؤمنين في الباطن. والإيمان عندهم مجرد علم القلب، فاحتاجوا إلى نفي هذا. والتحقيق أن الإيمان الباطن المنجي من عذاب الله لابد فيه من قول القلب، وعمل القلب، فلابد فيه من حب الله ورسوله، ولهذا أطلق أكثر السلف القول بأن الإيمان قول وعمل. وإذا كان القلب فيه تصديق للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومحبة تامة له فلابد أن يظهر ذلك على الجسد، فإن الإرادة الجازمة مع وجود القدرة تستلزم وجود المقدور، والمحبة الجازمة تتضمن الإرادة الجازمة لتعظيم الرسول وتوقيره. فإذا كان قادرًا على ذلك امتنع أن يصدر منه موالاةُ من عادى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يصدر منه شتمه وضربه وقتله طائعًا غير مكره؟ وإذا كان كذلك فمعلوم أن الذنوب كالزنا والسرقة وشرب الخمر تتضمن شهوة ذلك ومحبته، فحب الشهوات من الصور والمطاعم والأموال يُوقِعُه في الزنا والشرب والسرقة. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) :   (1) في الأصل: "الباطن"، وهو مخالف للسياق. (2) أخرجه أحمد (2/291، 392، 442) والبخاري في الأدب المفرد (289،= الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 "أَكْثَر ما يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الأجوفان: الفَمُ والفَرْجُ، وأكثر ما يُدخِل الناسَ الجنَّة: تقوى الله وحسنُ الخلق". والمحبوب المشتهَى يصرف عنه طلب ما هو أحب إلى المرء منه، ويصرف عنه خوف ما يكون دفعه أحب إلى النفس من ذلك المشتهى. فمن أحبَّ امرأة فأتاه من هو أحبُّ إليه منها، وقيل لا يُعطى هذه إلا بترك تلك اشتغل بها عنها، فإن أُعطي من المال ما هو أحب إليه منها، أو من الأولاد ما هو أحب إليه منها، على طريق المعاوضة، اشتغل عنها بالضدين اللذين لا يجتمعان، إذا كان أحدهما أحب إليه تَرَكَ الآخر لأجله. وكذلك إذا خاف من مقامه معها ضربًا، أو حبسًا، أو أخذ مالٍ، أو عزلاً، كان دفع هذا المكروه أحب إليه منها المغرمُ (1) ، وأما المحب الذي لا يؤثر عليها شيئًا من هذه المحبوبات، ولا دفع هذه المكروهات فهذا لا يتركها لذلك. وإذا كان كذلك فالمؤمن المحب لله ورسوله الذي يحبَ الله ورسوله أعظم من كل شيء، والله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والذي يخشى الله ويخافه إذا عصاه هو في حال حصول حبه التام وخوفه في قلبه لا يفعل شيئًا   = 294) والترمذي (2004) وابن ماجه (4246) عن أبي هريرة. قال الترمذي: صحيح غريب. (1) كذا في الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 من ذلك، بل حب الله ورسوله الذي وجد حلاوته وهو أحب إليه من هذه المنهيات التي يبغضها الله ورسوله، ومتى وقع فيها نقص ذلك الحب وتلك اللذة الإيمانية. فلو كانت اللذة الإيمانية الكاملة موجودة (1) لما قَدّم عليها لذة تَنقُصها وتزيلها، ولهذا يجد العبد في قلبه إذا كان مخلصًا لله واجدًا لحلاوة العبادة والذكرِ والمعرفةِ الصارف قلبَه عن هذه المحرمات فلا يلتفت إليها، كالمشغول بالجوهر إذا لاحت له قشور البصل، بخلاف ما إذا عَدِمَ هذه الحلاوة الإيمانية، فإنه حينئذٍ يميل إلى شيءٍ من المحرمات، وكذلك إذا كان في قلبه خوف الله التام وهو مؤمن، فإن هذا المحرم سبب يفضي به إلى عذاب الله وعقابه، بل إلى سخطه وغضبه والبعد عنه، فمتى خاف زوالَ محبوب أحبَّ إليه من ذلك، أو حصول مكروه أكره إليه من ذلك لم [يعد إلى] (2) هذه المحرمات. فالذنب تارة يُعدَم لعدم المقتضي، وتارة لوجود المانع، والثاني هو الغالب، فإنه الداعي في النفس، والأول موجود إذا حَصَلَ في القلب من حلاوة الإيمان وطيبه ما يغنيه عن الذنب لم يبق له داعِ، كالجائع الذي أكل من الطعام الطَّيب ما يُغنيه عن الرديء، فإذا شبع لم يبق له داع، بل إذا كان قادرًا على هذه كان مكتفيًا عن ذلك. وكذلك العطشان، والنفس مطلوبها ما يَسرُّها ويلذها، فإذا وجدت اللذة والسرور التام في أمر لم تشتغل عنه بما هو دونه في اللذة.   (1) في الأصل: "مأخوذة". (2) في الأصل: "لم يبعد". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 والإنسان إنما يفعل السيئات القبيحة إما لجهله بقبحها، وإما لحبه الداعي له إلى ذلك، وهو يتضمن حاجته إلى ذلك، فإن المشتهي للشيء من مطعوم أو منكوح أو منظور أو غير ذلك يجد في قلبه فاقة إليه وحاجة إليه، فإذا لم يحصل له بقي في ألمٍ يؤذيه بحسب شهوته، فإذا استغنى بما يزيل عنه الشهوة والحاجة لم يبق عنده داع يدعوه إلى ذلك. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "إذا أَعْجَبَتْ أحَدَكم امرأة فليأتِ أهلَه، فإن معها مثل ما معها". وفي الدعاء المأثور (2) : "اللهمَّ أَغْنِنَا بحلالِك عن حرامك، وبفضلِك عمَّن سواك". والناس إذا وقعوا في البدع والمعاصي نقص عليهم إيمانهم، وإلا فمن كان عالمًا بالحق قاصدًا له أغناه ذلك عن أن يعتقد الباطل ويتبعه. ولهذا كانت الصحابة رضوان الله عليهم من أبعد الناس عن الذنوب والبدع، لاستغنائهم بالعلم والإيمان بالله [وما] تلقوه عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا تجد أحدًا وقع في بدعةٍ إلا لنَقْصِ اتباعِه للسنة علمًا وعملاً. وإلا فمن كان بها عالمًا، ولها متبعًا لم يكن عنده داع إلى البدعة، فإن البدعة يقع فيها الجُهَّال بالسنة، وكذلك الزنا والسرقة وشرب الخمر، إنما يزني من عنده شهوة يطلب قضاءها. فأما من قضى شهوته بما هو أحب إليه وفَتَرَتْ، فلا يبقى عنده داعٍ، ومن أحبَّ طلب شيء آخر فشهوته لم تُقْضَ بل قُضِيَ بعضها،   (1) أخرجه مسلم (1403) عن جابر. (2) أخرجه الترمذي (3563) وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/153) عن علي. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 وقضاء الشهوة إنما هو حصول المطلوب كله، فممتنع معه أن يطلب ما يُحصل ما قد حَصَل. وكذلك السارق إنما يسرق لِما عنده من إرادة المال، ولكن من الناس من لا يقف عند حدٍّ، بل لو حَصَلَ عنده أي شيء كان أحبَّ الزيادة، ولهذا يسرق وإن لم يكن ثَمَّ منافعُ أُخَر. وكذلك شارب الخمر يشربها لما يطلب بها من حصول اللذة وزوال الغم، فإذا كانت اللذة الحاصلة بالصلاة وذكر الله أكمل وهي تصده عن ذلك لم يكن عنده داعٍ إليها. ومما يُبيِّنُ هذا قوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) (1) ، مع قول الشيطان: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)) (2) ، وقال تعالى في حق يوسف الصديق: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (3) ، فإن عباده تعالى هم الذين عبدوه وليس المراد كل من خلقه، فإن الشياطين عباد بهذا الاعتبار، بل هذا كقوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) (4) ، وقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) (5) ، وقوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) (6) .   (1) سورة الإسراء: 65. (2) سورة ص: 82-83. (3) سورة يوسف: 24. (4) سورة الفرقان: 63. (5) سورة الإنسان: 6. (6) سورة الجن: 19. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تَعِسَ عبدُ الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، إن أُعطِيَ رضي، وإن مُنِعَ سخط، تَعِسَ وانْتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش". فعبدُ الله الذي هو عبدُه لابد أن يكون الله أحب إليه مما سواه، فإن الذين جعلوا لله أندادًا يحبونهم كحب الله مشركون لا مؤمنون، والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، ولابد أن يكون الله أخوف عندهم مما سواه، ومن كان كذلك صُرِفَ عنه السوء والفحشاء كما صُرِفَ عن يوسف. بخلاف المشركين الذين جعلوا لله أندادًا يحبونهم كحُب الله، فهؤلاء ليسوا عباده، و (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (2) ، فالمشرك به لا يحصل له ما يقر عينه، ويغني قلبه عن الأنداد، بل هذا لا يحصل إلا بعبادة الله وحده. فإن الله سبحانه خلقَ عِبادَهُ حنفاء؛ وللسلف في "الحنيف" عبارات، قيل: المستقيم، كقول محمد بن كعب القرظي. والمتَّبع، كقول مجاهد. والمُخْلِص، كقول عطاء. وأما تفسيره بالمائل فهذا من قول بعض متأخري أهل اللغة، وهو مبسوط في موضع آخر (3) . وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) : "كل مولود يولد على الفطرة". وفي رواية (5) :   (1) أخرجه البخاري (2886، 2887) عن أبي هريرة. ولم أجده عند مسلم. (2) سورة الأنبياء: 22. (3) انظر "فصل في معنى الحنيف" ضمن هذه المجموعة. (4) أخرجه البخاري (1385) ومسلم (2658) عن أبي هريرة. (5) رواها ابن حبان في صحيحه (1/341) عن الأسود بن سريع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 "على فطرة الإسلام". فالقلب مخلوق حنيفا مفطورًا على فطرة الإسلام، وهو الإستسلام لله دون ما سواه. فهو بفطرته لا يريد أن يعبد إلا الله، فلا يطمئن قلبه ويحصل لذته وفرحه وسروره إلا بأن يكون الله هو معبوده دون ما سواه، وكل معبود دون الله يوجبُ الفساد، لا يَحْصُل به صلاح القلب وكماله وسعادته المقتضية لسَروره ولذته وفرحه، وإذا لم يحصل هذا لا يبقى طالبًا لما يلتذ به فيقع في المحرمات من الصُّوَر والشرب وأخذ المال وغير ذلك. ولهذا لَمَّا كانت امرأة العزيز مشركة طالبةً للفاحشةِ، ويوسف شاب غريبٌ، فالداعي المطيع معه أقوى، لكن معه من الإيمان ما يَصدُّه عن ذلك، وتلك هي وقومها كانوا مشركين، ولهذا قال لهم: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) إلى قوله: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (1) . وما نقلَه بعضُ المفسرين من أن زوجَها (2) كان لا يصل إليها، وأن يوسف تزوَّجَها بعد ذلك فوجدَها عذراءَ، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يُصدِّقَ به، فإن هذا لم يُخبِر   (1) سورة يوسف: 37-40. (2) من هنا إلى حديث "إذا حدّثكم أهل الكتاب ... " مضطربٌ في المخطوط غايةَ الاضطراب، وقد تأملتُ في هذه الفقرة حتى اهتديتُ إلى السياق الصحيح. ولا حاجة إلى نقل العبارات المضطربة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 بنَقْلِه أحدٌ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما هو منقولٌ عن أهل الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرُهم. وقد ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذا حَدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تُصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم". لا سيما وقد نقلوا في قصة يوسف أشياء تخالف القرآن، وتلك يجب القطع بأنها كذب، وأما ما لم يُعلم صدقه ولا كذبه يتوقف فيه. وهذه الحكاية كذب؛ فإن هذا خلاف العادة الغالبة على بني آدم، وإنما يقع مثل هذا نادرًا ولو وقع لأخبر به. والمراد لو كان الداعي لها مجرد الشهوة لِعَدَم الزوج لكان في الرجال كثرة، وإذا لم يحصل لها يوسف حصل لهَا غيرُه، ومعلوم أن الجائع والشَّبِقَ إذا طلب غلامًا يشتهيه فيتعذَّر عليه لم يصبر عن الجوع والشبق بل يتناول ما تيسَّر له، ولهذا يوجد صاحب الشبق يقضي شهوته بأخسَّ ما يمكن، فمن الرجال من يأتي بهيمةً وكلبًا وحمارًا وطيرًا، ومن النساء مَن تُمكِّن منها قردًا وحمارًا أو غير ذلك لغلبة الشهوة، ومن النساء من تتخذ آلة الرَّجلِ على صورة عضو الرجل عند تَعذر الرجال إلى أمثال ذلك، فكيف إذا حصل للمرأة رجل، وللرجل امرأة؟ فعُلِمَ أن المرأةَ هَوِيَتْ يوسف لجماله، لا لكون زوجها لا يأتيها.   (1) البخاري (4485، 7362، 7542) عن أبي هريرة نحوه. واللفظ المذكور في حديث أبي نملة الأنصاري الذي أخرجه أحمد (4/136) وأبو داود (3644) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 وكذلك ما ينقله بعضهم عن يوسف أنه حَلَّ سراويله، وأنه رأى صورة يعقوب وغير ذلك، كل ذلك من الأحاديث التي غالبها أن يكون من كَذِب اليهود. فإن الله تعالى قال: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) (1) . فقد أخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء فلم يفعل سوءًا ولا فحشاء، فإن ما صرفه الله عنه انصرف عنه. ولو كان يوسف قد أذنب لتاب، فإن الله لم يذكر ذنب نبي إلا مع التوبة، ولم يذكر عن يوسف توبة، فعُلِمَ أنه لم يُذنب في هذه القضية أصلا، والله أعلم. إنما أخبر عنه بالهمِّ وقد تركه لله فهو مما أثابه الله عليه. وفي الصحيحين (2) عن ابن عباس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: "إن الله كتب الحسناتِ والسيئات ثم بَيَّن ذلك، فمن هَمَّ بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هَمَّ بها فعمِلها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله [له عنده حسنةً كاملةً، فإنْ هو هَمَّ بها فعَمِلها كتبها الله له] سيئةً واحدةً" (3) . فقد أخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح أن من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة. وفي الحديث الآخر (4) قال: "يقول الله:   (1) سورة يوسف: 24. (2) البخاري (6491) ومسلم (131) . (3) الزيادة من الصحيحين ليتم السياق. (4) أخرجه مسلم (129) عن أبي هريرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 اكتبوها له حسنة فإنما تركها من جَرَّائي". أي: من أجلي. فالعبد إذا هَمَّ بالسيئة وتركها لله كان تركها لله حسنة كاملة، ولم يكن عليه إثم بذلك الهمِّ. فيوسف الصديق لم يفعل قط سيئةً، بل هَمَّ وتَرَكَ ما هَمَّ به لَمَّا رأى برهان ربه، فكَتبَ الله له حسنة كاملة. وبرهان ربه ما تبيَّن له به ما يوجب الترك، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)) (1) . فالشيطان إذا زين المعصية يجعل في القلب ظلمة، ويضعف نور الإيمان، ولهذا سماه طائفًا، أي: يطيف بالقلب مثل ما يطيف الخيال بالنائم، ويغيب عن القلب حينئذٍ من أمرِ الله ونهيِه ووعدِه ووعيدِه ما يناقض ذلك، فإذا كان العبد متقيًا لله أمدَّه الله تعالى بنور الإيمان، فذكر ما في الذنب من عذاب الله وسخطه، وما يفوته به من كرامة الله وثوابه. والبرهان ببصيرة القلب، فيوسف الصديق أبصرَ برهانَ ربه بقلبه، فتركَ ما همَّ به كل ذلك. وأما ما يُذكر أنه تمثلَ له يعقوبُ في صورة جبريل وأنه عضَّ يده، أو أن جبريل أو يعقوب مسحَ على ظهره، أو رأى أنه مكتوب (2) =   (1) سورة الأعراف: 201-202. (2) انظر تفسير ابن كثير (4/1836) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 فكل هذا لا يجوز لأحد أن يُصدقَ بشيء منه، بل هذا مما يُعلم كذبه من وجوه متعددة، فإن من لم يتنبَّه إلا بهذا يكون من أفجر الناس، فكيف يقال لمن وصفه الله بالعفة والتقوى ما لا يوصف به إلاّ من هو أفجر الناس؟ قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (1) . وما ذُكر يقتضي أنه لم يُصرف عنه إلا الجماع، وإلا فقد فَعَلَ مقدماته وحرص عليه، وهذا كالفاعل، ولو حصل لمشرك دون هذا لامتنع من الفاحشة بدون ذلك، بخلاف امتناع يوسف، مع كمال الدواعي فإن هذا لا يُعرفُ لغيره، فإن التي راودته سيدته التي تملكه، وقد استعانت عليه بعد ذلك بالنساء وحبسوه على ذلك بضع سنين، وهو شاب غريب، وزوجها لم ينهها ولم يعاقبها، ولم ينصر يوسف عليها، وهو في بلد غربة ليس هناك أهله الذين يستحي منهم، بل لو أتاها لم يَعْلَم أَحَدٌ من الناس. وما يُذكر من حكاية مسلم بن يسار (2) أنه رأى يوسف، قال: "أنا يوسف الذي هممتُ، وأَنتَ مسلم الذي لم تَهُمَّ! ". فمُسلم رآه بحسبِ حاله، وفيه دليل على صلاح مُسلم، وإلا فأين حال هذا من حال يوسف؟، تلك امرأة بدوية ظلمته في بريةٍ ولا حُكمَ لها عليه، وهو شيخ كثير العبادة، فدواعي الزنا منصرفةٌ عنه، وموانعه موجودة، بخلاف يوسف؛ فإن دواعي البشرية كانت تامةً في حقه موجودة،   (1) سورة يوسف: 24. (2) ذكرها المؤلف في "مجموع الفتاوى" (15/144) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 وصوارف السوء كانت منتفية، وإنما صُرِفَ عنه السوء والفحشاء بإخلاصه، وترك ما همَّ به لما رأى برهان ربه. وهَمُّهُ الذي تركَه كُتِبَ له به حسنات كاملة، ولو تساوت القضيتان لكان هو أفضل، فكيف وبينهما من الفرقان ما لا يخفى إلا على العُميان؟ وكثير من المؤمنين يُطلب منه الفاحشة، ويراودُه من يراوده ويمتنع، لكن لا تجتمع معه هذه الأمور ولا يكون معهودًا هذا الضمير (1) ، ولا يصبر على حبس بضع سنين= يختار ذلك على فِعل ما طُلب منه في خلوة عن الوطء لم يمتنع عن مقدماته، ويوسف صرف الله عنه السوء والفحشاء فلم يفعل كبيرة ولا صغيرة، ولا أَمَرَتْهُ نفسُه بسوء، بل كان ممن رحم الله، فلم تكن نفسُه أمَّارةً بسوءٍ، بل امرأة العزيز هي التي كانت نفسها أمَّارة بالسوء؛ فإنها راودته، وقَدَّتِ القميص، وكَذَبَتْ عليه، واستعانت بالنساء ثم حبسته، ولهذا قالت: (أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) (2) أي: في مغيبته عني. وقد بُسِطَ الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبُيِّنَ أن قوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) هو من تمام كلام امرأة العزيز، وكما دلَّ على ذلك القرآن في غير موضع (3) .   (1) كذا في الأصل. (2) سورة يوسف: 51-52. (3) انظر "مجموع الفتاوى" (15/138-156) ، ففيه رسالة للمؤلف في هذا الموضوع، ولكنها ناقصة الأول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 ومن قال إنه من كلام يوسف فقد قال باطلاً، والنقولات في ذلك عن ابن عباس ضعيفة بل موضوعةٌ. ولو قُدِّرَ أنه قال ذلك فبعضُ ما يُخبره هذا وعبد الله بن عمرو من الإسرائيليات كله مما سمعوه من أهل الكتاب، فلا يجوز الاحتجاج به. والصاحب والتابع فقد يَنقُلُ عنهم ما لم يَتبَيَّن [له أنه كذِبٌ، فإن تبيَّنَ] (1) لغيره أنه كَذِبٌ لم يجز نقله إلا على وجه التكذيب، كما قال كثير منهم: إن الذبيح إسحاق، ودلائل الكتاب والسنة وغير ذلك أنه إسماعيل (2) ، وأمثال ذلك. وكثير من السلف يروي أحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إما مسندة وإما مرسلة، فإن كان لم يعلم أنها كذب فيجوز له روايتها، وإن كان غيره ممن عَلِمَ أنها كذب لا يجوز له روايتها. وعامة ما ينقله سلفنا من الإسرائيليات إذا لم يكن عن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو دون المراسيل عن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكثير؛ فإن أولئك النقلة من أهل الكتاب، والمدة طويلة، وقد عُلِم الكذبُ فيهم والله أعلم.   (1) زيادة يستقيم بها السياق. (2) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (4/331-336) . وللقاضي أبي بكر ابن العربي والسيوطي والفراهي رسائل مستقلة في هذا الموضوع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد: ألاَ كلُّ شَيءَ مَاخَلاَ اللهَ باطِلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصدقُ كلمةٍ قالَها شاعر كلمةُ لَبيد: ألاَ كلُّ شَيْءً مَاخَلاَ الله باطِلُ فقد جَعَلَ هذه الكلمةَ أصدقَ كلمةٍ قالَها شاعر، وهذا كقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (1) ، وقال: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) (2) ، ونحو ذلك يتناولُ كلَّ معبودٍ من دون الله من الملائكة والبشرِ وغَيرِهم من كل شيء، فهو باطل، وعبادتُه باطلةٌ، وعابدُه على باطلٍ، وإن كان موجودًا كالأصنام. و"الباطل" يُرادُ به: الذي لا يَنفع عابدَه، ولا ينتفع المعبودُ بعبادتِه. فكلُّ شيء سِوى اللهِ باطل بهذا الاعتبار، حتى الدرهم والدينار، كما في الدعاء المأثور: "أشهدُ أنّ كلَّ معبودٍ من لَدُنْ عرشِك إلى قرارِ أرضِك باطل إلاّ وَجْهَك الكريم" (3) ، فإنّ كلَّ نفسٍ لابُد لها أن تألَهَ إلهًا هو غايةُ مقصودِها، فكلُّ ما سِوى اللهِ باطل، وهو ضالّ عن عابِدِه، كما أخبرَ بذلك في كتابِه.   (1) سورة الحج: 62. (2) سورة يونس: 32. (3) أخرجه ابن قدامة في "التوابين" (ص 50-56) من حديث ابن عباس في حديث إسرائيلي طويل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 و"الضلال" يُراد به الهلاك، كما قال تعالى: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (1) قالوا: معناه هَلكْنا وصِرْنَا تُرابًا. وأصلُه من قوله: ضَلَّ الماءُ في اللَّبَن، إذا هَلَكَ فيه وتَلاَشَى. فإذا كان الضَّالُّ في الشيء هالكًا فيه، فالضالُّ عنه هالك عنه. ولهذا قال: (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (2) أي: هَلَكَ وذهبَ، وهو بمعنى بَطَلَ. فكلُّ معبودٍ سِوى الله فهو باطل وضالّ، يُضِلُّ عابدَه ويَضِل عنه، ويَذهبُ عنه، وهالكٌ عنه، إلا وجهَ الله. فعبادةُ ما سِواه فاسدةٌ وباطلٌ وضلال، والمعبود سواه فاسدٌ. قال مجاهد في قوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (3) قال: إلاّ ما أرِيدَ به وجهُه. وقال سفيان الثوري: إلاّ ما ابتُغِيَ به وجهُه. كما يقال: ما يَبقَى إلاّ الله والعملُ الصالحُ. وفي الحديث: "الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذِكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم" (4) . فأيّ شيء قصدَه العبدُ وتوجَّه إليه بقلبِه أو رَجَاه أو خافَه أو أحبَّه أو توكَّل عليه أو والاه، فإنّ ذلك هالكٌ مُهلِلك، ولا ينفعُه إلاّ ما كان لله.   (1) سورة السجدة: 10. (2) سورة الكهف: 104. (3) سورة القصص: 88. وانظر أقوال المفسرين في تفسير ابن كثير (6/2682) و"فتح الباري" (8/505) . (4) أخرجه الترمذي (2322) وابن ماجه (4112) عن أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 وهذا بخلاف قوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)) (1) ، فإنّه حَصرَ كلَّ مَن عليها ولم يَستثنِ، مع أنَّ هذا المعنى يَدلُّ عليه، فإنّ جميعَ الأعمال تَفنَى، ولا يَبقَى منها شيء يَنفَعُ صاحبَه إلاّ ما كانَ لوجهِ ذي الجلال والإكرام، كما قال مالك: ما كان لله فهو يبقَى، وما كانَ لغيرِ الله لا يدومُ ولا يَبقَى. وقال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) (2) ، ولهذا قيل: الناس يقولون: قيمةُ كل امرىءٍ ما يُحسِنُ، وأهلُ المعرفةِ يقولون: قيمةُ كلِّ امرىء ما يطلب. ومما رُوِي عن بني إسرائيل: "يقول الله: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، ولكنّي إنما أنظر إلى همتِه". وقد رُوِي أنّ الله سبحانَه يقول (3) : "إنّ أدنَى ما أنا صانعٌ بالعالمِ إذا أحبَّ الدنيا أن أَمنعَ قلبَه حلاوةَ ذِكري". وتصديقُ ذلك في القرآن: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (4) ، وقال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (5) . وفي الصحيح (6) حديثُ الثلاثة الذين أوّل ما سُعِّرتْ بهم النارُ، ذكر منهم العالم الذي يقول: تعلَّمتُ العلمَ فيك وعلمتُه فيك، فيُقال له:   (1) سورة الرحمن: 26-27. (2) سورة النحل: 96. (3) ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/671) بلا إسناد. قال العراقي في "تخريج الإحياء" (4/56) : غريب لم أجده. (4) سورة النجم: 29-30. (5) سورة الروم: 7. (6) مسلم (1905) عن أبي هريرة. وزيادة خبر معاوية عند الترمذي (2382) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 كذبتَ، بل أردتَ أن يقال فلانٌ عالمٌ، وقد قيل، ثمّ يُؤمر به فيُسحَب إلى النار. ومعاويةُ لمّا سمعَ هذا الحديثَ بكَى وقال: صدقَ الله وبلَّغَ رسولُه، ثمَّ قرأ قولَه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)) (1) . وكذلك في الحديث في السنن (2) : "مَن طَلَب علمًا مما يُبتغَى به وجهُ الله، لا يَطلبُه إلاّ لِيُصيبَ به عرضًا من الدنيا، لم يَرِحْ رائحةَ الجنَّة". وفي الحديث الآخر (3) : "من طَلَبَ علمًا -أو قال: من تعلَّم علمًا- ليُجارِيَ به العلماءَ ويُمارِيَ به السُّفَهاءَ، ويتأكَّلَ به الدنيا، ويَصْرِفَ به وجوهَ الناسِ إليه، لقيَ الله وهو عليه غَضبانُ". وفي رواية: "لم يَجِدْ عَرْفَ الجنةِ". وهذا باب واسعٌ قد بُسِطَ في غير هذا الموضع، وتكلَّمنا فيه على آية هود وآية سبحانَ وآية الشورى وغير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار في ذمِّ العالمِ وغيرِه المريد للدنيا والقَالَةِ، وبَيَّنا فيه أماراتِ ذلك، وبَيَّنا أن الدينَ كلَّه لله، وأن الله أغنى الشركاء عن الشركِ، وأن الصحابة والسلف كانوا أخوفَ الخلق في هذا المقامِ الخطِر. والمقصود أن هذا العالم لمّا لم يكن مقصودُه إلاّ الدنيا بما عَلِمَه   (1) سورة هود: 15-16. (2) أخرجه أحمد (2/338) وأبو داود (3664) وابن ماجه (252) عن أبي هريرة. (3) أخرجه الترمذي (2654) عن كعب بن مالك، وابن ماجه (253) عن ابن عمر، وابن ماجه (260) أيضًا عن أبي هريرة. وفي أسانيدها ضعف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 من العلم وبما يُعلِّمه، وذلك مما يُبْتَغَى به وجهُ الله، لم يكن له عند الله قيمةٌ، ولم يكن للعلم في قلبه حلاوة، ولم يَرْتَعْ في رياضِ الجنَّة في الدنيا، وهي مجالس الذكر، فلم يَرِحْ رائحة الجنة. فالأولُ طلبَ العلم لكسب الأموال والجاهِ، فكان عقوبتُه أن لا يجدَ رائحةَ الجنَّة. والثاني طَلَبه لمقاصدَ مذمومةٍ من المباهاةِ والمماراةِ وصَرْفِ وجوهِ الناس، فكان جنسُ مطلوبِه محرَّمًا، فلقيَ الله وهو عليه غَضبان. والأول جنسُ مطلوبِه مباحٌ، فلم يجد رائحةَ الجنةِ في الدنيا، فلم يَرتَعْ في رياضِها، فقلبُه محجوبٌ عنها بما فيه من طلب الدنيا. وفي حديث مكحولٍ المرسل (1) : "مَن أخلصَ لله العبادةَ أربعين صباحًا تفجَّرتْ ينابيعُ الحكمةِ من قلبه على لسانه". وحُكِي عن أبي حامدٍ قال: أخلصتُ لله أربعين صباحًا فلم يُفَجَّرْ لي شيءٌ، فذكرتُ ذلك لبعضِ أهل المعرفة، فقال: إنك لم تُخلِصْ لله، وإنما أخلصتَ للحكمة. وكذلك الحكاية المشهورة عن الحسن (2) في ذلك الرجلِ الذي كان يَتعبَّدُ ليراهُ الناسُ ولِيُقَال، فكان الناسُ يَذُمُّونَه، ثمَّ أخلصَ لله ولم يُغَيِّر عملَه الظاهر، فألقَى الله له المحبةَ في قلوب الناس، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)) (3) .   (1) أخرجه المروزي في "زيادات الزهد" (1014) وابن أبي شيبة في "المصنف" (13/231) وهنّاد بن السري في "الزهد" (678) مرسلاً. ورُوِي موصولا ولا يصحّ، انظر "الضعيفة" للألباني (38) . (2) انظر تفسير ابن كثير (5/2254) . (3) سورة مريم: 96. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 وإذا كانت العبادةُ تبقى ببقاءِ معبودِها ف كلُّ معبودٍ سوى الله باطل، فلا تَبقَى النفسُ، بل تَضلُّ وتَشْقَى بعبادةِ غيرِ الله شقاءً أبديا، كما قال تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (1) . إنما كان بقاؤها ببقاءِ معبودِها لأنها مريدةٌ بالذات، فلابُدَّ لها من مُرادٍ محبوبٍ هو إلهها الذي تَبقَى ببقائِه، فإذا بَطَلَ بَطلَتْ وتَلاشَى أمرُها، وما ثَمَّ باقٍ إلاّ الله. والأفلاكُ وما فيها كلُّه يَستحيلُ، والملائكةُ مخلوقون يَستحيلون، بل ويموتون عند جمهور العلماء. والعبدُ ينتفع بما خُلِقَ بشيء من حيث هي من آيات الله له فيها، فهي وسيلة له إلى معرفة الله وعبادته، ولو كان العلمُ هو الموجب لما يَطلُبه هؤلاءِ لكانَ هو العلم بالله، فإنه هو الحق، وما سِواه باطل، ومَن له مِن مخلوقاتِه فالعلمُ به تابع للعلم بالله، والعلمُ الأعلى هو العلم بالأعلى. كما قال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) (2) ، فهو ربُّ كلِّ ما سِواه، فهو الأصلُ، فكذلك العلم به سيِّدُ جميع العلوم وهو أصلٌ لها.   (1) سورة الحج: 31. (2) سورة الأعلى: 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 بسم الله الرحمن الرحيم ما تقول السادة الفقهاء أئمةُ الدين وعلماء المسلمين -وفَّقهم الله لطاعته- في رجلٍ يزعم أنه فقيه على مذهب الشافعي، قال للعامة: لا تجوز الصلاةُ خلفَ أئمة المالكية، ومَن صلَّى خلفَ إمامٍ مالكي المذهب لم تصحَّ صلاتُه، ويَلزمُه إعادةُ ما صلَّى خلفَ الإمام المالكي. فلما سمعَ العامةُ كلامَه امتنعوا من الصلاة خلفَهم لأجلِ ما سمعوه منه، وطلبوا فتاوى الأئمة، إما بصحة ما قاله المذكور أو ببطلانه. وإذا لم يصحَّ قولُه ماذا يجبُ عليه؟ وهل على ولي الأمر زَجْرُه ورَدْعُه ومَنْعُه من ذلك حتى يَتَّعِظَ به غيرُه أم لا؟ وإذا رُدع وزُجِر اتعظَ به غيره. أفتونا مأجورين. فأجاب شيخ الإسلام فريدُ عصرِه ونحريرُ زمانِه، المميَّزُ على شيوخه وأقرانِه، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام مفتي المسلمين أبي الفضل عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجدالدين عبد السلام بن تيمية الحراني، فسحَ الله في عمره: الحمد لله وحده. إطلاقُ هذا الكلام من أنكر المنكرات وأشنع المقالات، يستحق مُطلِقه التعزيرَ البليغ، فإن فيه من إظهار الاستخفاف بحرمة هؤلاء الأئمة السادة ما يُوجِبُ غليظَ العقوبة، ويُدخِل صاحبَه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 في أهل البدع المُضِلَّة. فإن مذهب الإمام الأعظم مالك بن أنس -إمام دار الهجرة ودار السنة، المدينة النبوية التي سُنَّتْ فيها السننُ، وشُرِعَتْ فيها الشريعةُ، وخرجٍ منها العلم والإيمان- هو من أعظم المذاهب قدرًا، وأجلها مرتبة. حتى تنازعت الأمَّة في إجماع أهل المدينة هل هو حجةٌ أم لا؟ ولم يختلفوا في أن إجماع أهلَ مدينةٍ غيرِها ليس بحجة. والصحيح أن إجماعهم في زمن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان، فإن أمير المؤمنين عليًّا -رضي الله عنهم- انتقل عنها إلى الكوفة. وفيما نقلوه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كالصاع وتَرْكِ صدقة الخضرات ونحو ذلك حجة يجب اتباعُها. وكذلك الصحيح أن اجتهاد أهل المدينة في ذلك الزمن مُرجَّحٌ على اجتهادِ غيرِهم، فيُرَجَّح أحدُ الدليلين بموافقة عمل أهل المدينة. وهذا مذهب الشافعي، وهو المنصوص عن الإمام أحمد وقول محققي أصحابه. وكان لمالك بن أنس -رحمه الله- من جلالة القدر عند جميع الأمة، أمرائها وعلمائها ومشايخها وملوكها وعامتها، من القدر ما لم يكن لغيره من نظرائه، ولم يكن في وقته أجلُّ عند الأمَّة منه. وقد رُوِي حديثٌ نبويٌّ (1) ، وفُسر به. ومن جاء بعده من الأئمة -رحمهم الله-   (1) أخرج أحمد (2/299) والترمذي (2680) عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُوشِك أن يَضرِب الناسُ آباطَ المطىّ في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلمَ من عالمِ المدينة". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ثم نقل تفسيره بمالك وغيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 مثل الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما؛ فهم أشد الناس تعظيمًا لأصوله وقواعده، ومتابعةً له فيها. وهم متفقون على أن مذاهب أهل المدينة رأيًا ورواية أصحُّ مذاهب أهل المدائن الإسلامية في ذلك الوقت. وكيف يستجيزُ مسلم يُطلِقُ مثلَ هذه العبارة الخبيثة، وقد اتفق سلفُ الأمة من الصحابة والتابعين على صلاة بعضهم خلفَ بعض، مع تنازعهم في بعض فروع الفقه، وفي بعض واجبات الصلاة ومبطلاتها. ومَن نهى بعضَ الأمةِ عن الصلاة خلفَ بعضٍ لأجل ما يتنازعون فيه من موارد الاجتهاد؛ فهو من جنس أهل البدع والضلال الذين قال الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (1) ، وقال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (2) ، وقال تعالى: (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (3) ، إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف. ودلَّتْ نصوصُ الكتاب والسنة وإجماع سلفِ الأمة أنّ وليَّ الأمر -إمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب والفيء، وعامل الصدقة- يُطاعُ في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يُطيعَ أتباعَه في مواردِ الاجتهاد، بل عليهم طاعتُه في ذلك وتَرْكُ رأيهم لرأيه، فإن مصلحة   (1) سورة الأنعام: 159. (2) سورة آل عمران: 103. (3) سورة آل عمران: 105. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظمُ من أمر المسائل الجزئية. ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضُهم حكمَ بعضٍ. وشبهةُ هذا المتفقه وأمثاله، ممن قد سمع بعض غَلَطاتِ بعض الفقهاء، فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبَه، أو فعل ما يعتقد المأمومُ فسادَها به، فإن من الناس من قد يُطلِق القولَ ببطلان صلاة المأموم مطلقًا، ومنهم من لا يصحح الصلاة خلف من لا يأتي بالواجبات حتى يعتقد وجوبها. وهذه الاطلاقاتُ خطأٌ مخالفٌ للإجماع القديم، ولنصوص الأئمة المتبوعين. مثال ذلك: أن يصلي المأموم خلفَ من ترك الوضوء من خروج النجاسات من غير السبيلين كالدم، أو خلفَ من ترك الوضوء من مسِّ الذكر، أو ترك الوضوء من القهقهة، ويكون المأموم يرى وجوبَ الوضوء من ذلك، أو يكون الإمام قد ترك قراءة البسملة، أو ترك الاستعاذة، أو ترك الاستفتاح، أو ترك تكبيرات الانتقال، أو تسبيحات الركوع والسجود، ويكون المأموم يرى وجوب ذلك. فالصواب المقطوعُ به صحةُ صلاة بعضِ هؤلاء خلف بعض، وهذا مذهب الأئمة، وإن كان قد يُحكَى عن بعضهم خلافٌ في بعض ذلك. فهذا الشافعي -رضي الله عنه- كان دائمًا يصلي خلف أئمة المدينة وأئمة مصر، وكانوا إذ ذاك مالكية لا يقرأون البسملة سرًّا ولا جهرًا، ولو سمع الشافعي من يطعن في صلاته خلف مشايخه مالكٍ وأقرانه، وهو دائمًا يفعل ذلك؛ لحكمَ عليه بالضلال، وعَدَّه هو وسائر الأمة بعد ذلك خلافًا للإجماع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 والإمام أحمد يرى الوضوء من الدم الكثير، فقيل [له] : فإن كان الإمام لا يتوضأ من ذلك، أَأُصلِّي خلفه؟ قال: سبحان الله! أتقول: إنه لا يُصلَّى خلف سعيد بن المسيب، وخلف مالك بن أنس، أو كما قال. يعني أن هؤلاء الأئمة الذين اجتمعت الأمةُ على الصلاة خلفهم؛ كانوا لا يتوضؤون من الدم من غير السبيلين. وكذلك أبو يوسف -فيما أظن- لما حجَّ مع هارون الرشيد، فاحتجمَ الخليفة، فأفتاه مالك أنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لأبي يوسف: أصليتَ خلفه؟ فقال: سبحان الله! أمير المؤمنين!؟ يريد بذلك أن تَرْكَ الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل [أهل] البدع، كالرافضة والمعتزلة والخوارج. فهذه النصوص وأمثالها عن هؤلاء الأئمة تُخالِف من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأمومُ وجوبَه لم يَصِحَّ اقتداؤه به. يُوضِّحُ ذلك أن مذهب عامة أئمة الإسلام -مثل مالك والشافعي وأحمد- أن الإمام إذا ترك الطهارة ناسيًا، مثل أن يصلي وهو جنب أو مُحدِث ناسٍ لحَدَثِه، ثم تَذكَّر بعد صلاته؛ فإن صلاة المأموم صحيحة، ولا قضاء عليه. وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين مثل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وغيرهما من الصحابة. ف الإمام إذا كان مُخطئًا في نفسِ الأمر كان بمنزلةِ الناسي، وقد دلَّ الكتاب والسنة (1) أنَّ الله تجاوزَ لهذه الأمةِ عن الخطأ والنسيان. فإذا كانت   (1) في آخر سورة البقرة: 286 (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) . وقد قبل الله = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 صلاة المأموم تَصِحُّ خلفَ إمام تجبُ عليه الإعادة؛ فخلف إمام لا تجب عليه الإعادة أولى. وذلك أن صلاة المأموم إن لم تكن مرتبطة بصلاة الإمام، بل كلٌّ منهم يصلِّي لنفسه؛ فلا محذور. وإن كانت مرتبطة؛ فالإمام معفوٌّ عنه في موارد الاجتهاد، فصلاته أيضًا باجتهادٍ صحيحةٌ عند المأموم. وإنما غَلِطَ الغالطُ في هذا الأصل بحيث يَتوهَّمُ أن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، وليس كذلك، فإنه إذا صلى باجتهاده السائغ؛ لم يكن في هذه الحال محكومًا ببطلان عبادته، بل بصحتها، كما يُحكَم بصحة حكمه في موارد الاجتهاد حتى يُمْنَع نقضُه. فأما فعلُ المحظورات ناسيًا فأسهل، فإن أكثر الأئمة -مثل مالك والشافعي وأحمد في إحدى روايتيه- لا يرون الكلام في الصلاة ناسيًا يُبطِلُ الصلاة، ولا يوجب الإعادة، فالإمام إذا فعلَ محظورًا متأولاً؛ فالمخطىء كالناسي. وإذا لم تجب الإعادة عليه فكيف لا يصح الائتمامُ به؟   = هذا الدعاء كما في حديث ابن عباس الذي رواه مسلم (125، 126) . وأخرج ابن ماجه (2045) عن ابن عباس مرفوعَا: "إنّ الله وضعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرِهوا عليه". وقد رُوِي من طرقٍ، وأعلَّه أحمد وأبو حاتم. انظر تفسير ابن كثير (2/677) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يُصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم". وهذا نص صريح في أنّ الإمام إذا أخطأ كان خطؤُه عليه لا على المأموم، والمجتهد غايتُه أن يكون أخطأ بتَرْكِ واجب اعتقدَ أنه ليس واجبًا، أو فِعْلِ محظورٍ اعتقدَ أنه ليس محظورًا. ولا يَحِلُّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالفَ هذا الحديثَ الصحيح الصريحَ بعدَ أن يَبلُغَه. وقد روى الإمام أحمد (2) وأبو داود (3) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَنْ أمَّ الناسَ فأصابَ الوقتَ وأتمَّ الصلاةَ فله ولهم، ومن انتقصَ من ذلك شيئًا فعليه ولا عليهم". وروى ابن ماجه (4) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الإمام ضامنٌ، فإن أحسنَ فله ولهم، وإن أساءَ - يعني: فعليه ولا عليهم". وهذه السنة الصحيحة الصريحة قد اتصلَ بها الإجماعُ القديمُ، وعُمِلَ بها زمنَ القرون الثلاثة الفاضلة في جميع الأمصار، فإنه قد كان في عهد الصحابة من يقرأ البسملةَ سرًّا، ومن يقرأ بها جهرًا،   (1) برقم (694) . (2) 4/145، 154، 156، 201. (3) برقم (580) . ورواه أيضًا ابن خزيمة (1513) وابن ماجه (983) . (4) برقم (981) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 ومن لا يَقرأ بها سرًّا ولا جهرًا، وكلٌّ منهم يُصلِّي خلفَ الآخر وإن كان يُرجِّح قولَه. ومن أجودِ ما احتجَّ به من يَرى الجهرَ بالبسملة حديثُ معاوية (1) ، لما قَدِمَ المدينةَ فتَرك قراءةَ البسملة في الركعة الأولى في أولِ الفاتحة وأولِ السورة، حتى هَتَفَ به الصحابةُ فقرأها في الركعة الثانية. وقد اعتمد الشافعي على هذا الأثر في "الأم"، وفيه إجماع أولئك الصحابة على الصَّلاةِ خلفَه وإن كان قد تركَ ذلك، وإن كانوا قد أنكروا تركَه. ومن قال من المتفقهة أتباعِ المذاهب: إنه لا يَصِحُّ اقتداؤه بمن يخالفُه إذا فَعَلَ أو ترك شيئًا يقدح في الصلاة عند المأموم؛ فقَوْدُ مقالتِه يُوقِعُه في مذاهب أهل الفرقة والبدعة، من الروافض والمعتزلة والخوارج، الذين فارقوا السنة، ودخلوا في الفرقة والبدعة. ولهذا آل الأمرُ ببعض الضالّين إلى أنه لا يُصلِّي خلفَ من يَرفَعُ يديه في المواطن الثلاثة، والآخر لا يرى الصلاة خلفَ من ترك الرفعَ أول مرة، وآخر لا يصلي خلف من يتوضأ من المياه القليلة، وآخر لا يصلي خلف من لا يتحرز من يسير النجاسة المعفو عنها عنده، إلى أمثال هذه الضلالات التي توجب أيضًا أن لا يُصلِّي أهلُ   (1) أخرجه الشافعي في "المسند" (1/74) و"الأم" (1/94) والحاكم في "المستدرك" (1/233) عن أنس بهذا. ورواه الشافعي أيضًا من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه بهذا الخبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 المذهب الواحد بعضُهم خلف بعض، ولا يُصلِّي التلميذ خلف أستاذه، ولا يصلي أبو بكر خلف عمر، ولا عليٌّ خلف عثمان، ولا يصلِّي المهاجرون والأنصار بعضُهم خلف بعض. ولا يخفى على مسلمٍ أن هذه من مذاهب أهل الضلال، وإن غَلِطَ فيها بعضُ الناس. فهذه الفتوى لا تحتمل بسطَ هذا الأصل العظيم الذي هو جماع الدين. والواجب على ولاة الأمور المنعُ من هذه البدع المُضِلَّة، وتأديب من يُظهِر شيئًا من هذه المقالات المنكرة، وإن غلط فيها غالطون، فموارد النزاع إذا كان في إظهارها فساد عام؛ عُوقِبَ مَن يُظهِرها، كما يُعاقَب من يشرب النبيذ متأولاً، وكما يُعاقَب البغاةُ المتأولون، لكفِّ الجماعة، وان الناس (1) بعضهم عن البعض. وهذه الأصول الثلاثة التي يشتمل عليها هذا الواجب: (أن موارد الاجتهاد معفوّ فيها عن الأئمة، وأن الاجتماع والائتلاف مما تجب رعايته، وأن عقوباتِ المعتدين متعينة) هي من أجلِّ أصول الإسلام. وقد أخرجا في الصحيحين (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه عامَ الخندق: "لا يُصلِّينَّ أحدٌ   (1) كذا في الأصل. (2) البخاري (946، 4119) . ورواه مسلم (1770) بلفظ: "لا يُصلينّ أحدٌ الظهرَ إلاّ في قريظة". انظر كلام الحافظ عليه في "الفتح" (7/408-409) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 العصرَ إلاّ في بني قريظةَ"، فأدركتْهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلِّي إلاّ في بني قريظةَ، فصَلَّوا بعد الغروب، وقال آخرون: لم يُرِد منّا توقيتَ الصلاة، فصلَّوا في الطريق. فبلغ ذلك النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يَعِبْ على واحدةٍ من الطائفتين. فقد أقرَّهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اجتهادهم في حياتِه، فبعدَ وفاتِه أولى وأحرى. والحمد لله وحدَه. (تمت الفُتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري الأندلسي الشافعي، غَفَر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 رسالة إلى السلطان الملك المؤيَّد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد بن تيمية إلى المولى السيِّد السلطانِ الملكِ المؤيَّد، أيده الله بتكميل القوتينِ النظريةِ والعلميةِ، حتى يُبلِّغَه أعلى مراتب السعادةِ الدنيويةِ والأخرويةِ، ويجعلَه ممن أتمَّ عليهِ نِعَمَه الباطنَةَ والظاهرة، وأعطاه غايةَ المطالب الحميدةِ في الدنيا والآخرة، وجعلَه معَ الذين أنعمَ عليهم من النبيين والصدِّيقينَ والشهداءِ والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا. ففي الهُدَى كمالُ القوةِ العلمية، وفي الرَّشادِ كمالُ القوة العملية، وبهما أخبرَ أنه أرسلَ رسولَه حيثُ قال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)) (1) . فالهدى يتضمنُ كمالَ القوة العلمية، ودينُ الحق يتضمنُ كمالَ القوةِ العملية. وقد نزهه عن ضدِّ ذلك في مثلِ قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) (2) . فنزَّهَه عن "الضلالِ" المناقضِ للهدى، وهو النقص في القوة العلمية، وعن "الغَيّ" المناقضِ للرشاد، وهو النقص في القوة العملية.   (1) سورة التوبة: 33، سورة الفتح: 28، سورة الصف: 9. (2) سورة النجم: 1-4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 ثم أخبرَ بكمالِه فيهما بقوله (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)) وهو هَوى النفس المُفسِدُ للقوة العملية، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) وهو أعلى مراتبِ إعلامِ اللهِ لعبادِه، وإن كان أهلُه متفاضلين فيه. فكمال التنزُّهِ عن الخطأ للأنبياء صلواتُ الله عليهم وسلامُه، وهم فيه متفاضلون، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) (1) ، وقال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (2) . وقد استوعبَ سبحانَه أنواعَ جنسِ تكليمه لعباده في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (3) ، فجعل ذلك ثلاثة أنواع: الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء يَقَظَةً ومنامًا، فإنّ رؤيا الأنبياءِ وحي. والتكليم من وراءِ حجاب، كما كلَّمَ موسَى بن عمرانَ حيثُ نادا وقَرَّبَه نَجِيًّا. والتكليم بإرسال رسول يُوحي بإذنِه ما يشاءُ هو تكليمُه بواسطةِ إرسال الملَكِ، كما قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18)) (4) ، أي علينا أن نجمعَه في قلبك، ثمَّ علينا أن نقرأه   (1) سورة الإسراء: 55. (2) سورة البقرة: 253. (3) سورة الشورى: 51. (4) سورة القيامة: 17-18. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 بلسانك. وهذا على أظهر القولين، وهو أن "قَرَأ" بالهمزة من الظهور والبيان، وقولهم: مَا قَرَأَتِ الناقةُ بسَلاَ جَزُوْرٍ قَطُّ، أي ما أَظهرتْه، بخلاف "قَرَى يَقْرِيْ" فإنه من الجَمع، ومنه سُمِّيتِ القريةُ قريةً، والمَقْرَاةُ مُجتمع الماء. فقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) أي قرأناه بواسطةِ جبريل (فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18)) . وهذا كقوله تعالى: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) (1) ، وإنما ذلك بتوسُّط قراءةِ جبريلَ وتلاوته، كقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (2) . فإنّ هذا قد جعله سبحانَه أحدَ أنواع الجنس العامّ المقسوم، وهو تكليمُ الله لعبادِه، ولهذا قال عُبادةُ بن الصامت: رؤيا المؤمنِ كلامٌ يُكلِّم به الربُّ عبدَه في منامِه. وأدنَى مراتب ذلك الوحي المشترك: الذي يكون لغير الأنبياء، كقوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) (3) ، وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (4) . وهذا الوحي المشترك هو الذي أدرجَه في النبوة من الفلاسفةِ مَن أدرجَه، كابن سِينا وأمثالِه، فإنّ أرسطو وأتباعَه القدماءَ ليس لهم في النبوةِ كلامٌ، إذْ كان أرسطو هو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني   (1) سورة القصص: 3. (2) سورة. الشورى: 51. (3) سورة المائدة: 111. (4) سورة القصص: 7. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 الذي يُؤَرَّخ له التاريخ الرومي، وبه يُؤَرِّخ كثير من اليهودِ والنصارى، وكان قبل المسيح عليه السلامُ بنحوِ ثلاثمائةِ سنةٍ. وبعدَ المسيح بنحوِ ثلاثمائةِ سنةٍ كان قُسْطَنْطِينُ الذي أقامَ دينَ النصارى بالسيف، وفي عهدِه أحدثوا الأمانةَ وتعظيمَ الصليب واستحلالَ الخنزير والقولَ بالتثليثِ والأقانيمِ بمَجْمَعِهِم الأوّل المسَمَّى بمجمعِ نِيْقِيَة. وهذا الإسكندر المقدوني هو الذي ذهبَ إلى أرضِ الفُرْسِ وغَيَّر ممالِكَهم، وليس هو ذا القَرنين المذكور في القرآن، الذي بَنَى سَدَّ يأجوجَ ومأجوجَ، فإنّ هذا كانَ متقدمًا على ذلك، وكان موحدًا مسلمًا. والمقدوني لم يَصِل إلى تلك الأرض، وكان هو وقومُه مشركين يعبدون الهياكلَ العُلْوِيةَ والأصنامَ الأرضيةَ، ولم يزالوا على ذلك حتى وصلتْ إليهم دعوةُ المسيحِ عليه الصلاةُ والسلام، فأسلمَ منهم من أسلمَ، وكانوا متبعينَ لدينِ المسيحِ الحقِّ، إلى أنْ بُدِّلَ منه ما بُدِّلَ. وهؤلاء كانوا بأرض الروم وجزائرِ البحر، لم يَصِلْ إليهم من أخبار إبراهيم وآل إبراهيم -كموسى بن عمران وغيرِه- ما عَرَفوا به حقيقةَ النبوة، ولهذا كان أرسطو أوَّلَ من قالَ بقِدَمِ الأفلاكِ من هؤلاء، بخلافِ مَن قبلَه كأفلاطونَ وشيخِه سُقراطَ، وشيخِ سقراط فيثاغورسَ، وشيخ فيثاغورسَ انبدقلس، فإنّ هؤلاء كانوا يقولون بحدوث صورة الفلك، ولهم في المبادىء كلام طويل قد بَسطناهُ في الكتاب الكبير (1) الذي ذكرنا فيه مقالاتِ العالَم في مسألة   (1) لعله يقصد به "درء تعارض العقل والنقل"، فقد أطال فيه الكلام على مسألة حدوث العالم والردّ على حجج الرازي، وخاصة في المجلدين الثاني والثالث منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 حدوثِ العالم وقِدَمِه، فإنها منشأُ نزاع الأولين والآخرين في أقوالِ الربّ وأفعالِه، وعنها تنازعَ أهلُ المللَ من المسلمين وأهلِ الكتاب في كلام الربّ: هل هو قديمُ النوع أو العينِ؟ وهل هو قائمٌ به أو مباينٌ لهَ؟ وهل يتكلمُ بقدرته ومشيئتِه أو هو لازمٌ له لزومَ الحياة؟ وكذلك تنازعوا في دوامِ الحدوثِ ووجودِ ما لا يتناهَى منها في الماضي والمستقبلِ: هل هو ممتنعٌ في الماضي والمستقبل؟ كما يقوله الجهمُ وأبو الهذيل، أو هو جائز في المستقبل ممتنعٌ في الماضي؟ كما يقوله كثير من المتكلمين، أم هو جائز فيهما، كما يقوله أئمةُ أهلِ الملل وأئمة الفلاسفة، لكنَّ أئمةَ أهلِ المللِ لا يُجوِّزون ذلك إلا في قديم واحدٍ، لا يُجوزون أن يكون شيئانِ كل منهما قديم أزليّ يقومُ به حوادثُ لا بدايةَ لها ولا نهايةَ، فيكون ما لا يتناهَى لا في الماضي ولا في المستقبل قابلاً لأن يُزادَ عليه. وهذا المحالُ إنما يَلْزَمُ مَن قال بقِدَمِ الأفلاك، وأما أئمة أهلِ السنة -كالصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ ومَن سَلَك سبيلَهم من أئمة المسلمين- فهؤلاءِ أَتَوا بخلاصةِ المعقولِ والمنقول، إذْ كانوا عالمين بأنَّ كلاًّ من الأدلة السمعية والعقلية حق، وأنَّها متلازمةٌ، فمن أعطَى الأدلةَ العقليةَ اليقينية حَقَّها من النظرِ التام عَلِمَ أنها موافِقة لِمَا أخبرتْ به الرسُلُ، ودَلتْهُ على وجوب تصديقِ الرسُل فيما أخبروا به. ومَن أعطَى الأدلَّةَ السمعيةَ حقَّها مَن الفهم عَلِمَ أنَّ اللهَ أرشدَ عِبادَه في كتابه إلى الأدلة العقلية اليقينية، التي بها يُعلَم وجودُ الخالقِ وثبوتُ صَفاتِ الكمالِ له، وتنزُّهُه عن النقائصِ وعن أن يكون له مِثْل في شيء من صفاتِ الكمال، و [التي تَدُلُّ] على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 وحدانيتِه ووحدانيةِ ربوبيتِه ووحدانية إلهيتِه، وعلى قدرته وعلمِه وحكمتِه ورحمتِه، وصِدْق رُسُلِه ووجوب طاعتِهمِ فيما أوجَبوا وأَمَروا، وتصديقِهم فيما أعلَموا به وأخبروا، وأنَّهم كمَّلُوا بما أُوتُوا من الهُدَى ودينِ الحق للعِبادِ ما كانتْ تَعْجزُ مجردُ عقولهم عن بلوغِه. إذْ كانت طُرُقُ العلمِ ثلاثةً: الحسّ، والنظر، والخبر. فأتباعُهم جمعَ الله لهم غايةَ الفضائلِ العلمية والعملية، ولهذا كانت أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير أمةٍ أخرجت للناس، فإنّ الله جمعَ لهم من الفضائل ما فرقَه في غيرِهم من الأمم، فجمعوا إلى ما خصَّهم الله به ما كان عند غيرِهم من أهل الكتاب ومن فلاسفةِ اليونانِ والفُرسِ والهند وغيرِهم. ولما كان سلفُ هذه الأمة عالمين بغاياتِ العلوم العقلية والسمعية وعَلِمُوا تَلازُمَهما، لم يكن بينهم تنازع ولا تعارض. وقد أخبرَ الله في كتابه بما دَلَّ به على أنَّ كلاًّ من العقل والسمع يُوجبُ النجاةَ، فقال تعالى عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)) (1) ، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) (2) ، وقال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (3) .   (1) سورة الملك: 10. (2) سورة الحج: 46. (3) سورة ق: 37. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 فدَل على أنَّ مجردَ العقل يُوجبُ النجاةَ وكذلك مجردُ السمع، [و] معلوم أن السمع لا يُفيد دونَ العقل، فإنّ مجردَ إخبارِ المخبرِ لا يَدُل إن لم يُعلَم صِدقُه، وإنما يُعلَم صِدقُ الأنبياء بالعقل، لكن طائفةً من أهل الكلام ظنُّوا أنَّ دلالةَ السمع إنما هي من جهةِ المخبرِ فقط، وقد عَلِمُوا أن الخبرَ لا يُفِيد إن لم يُعلَم بالعقلِ صدقُ المخبِرِ، فجعلوا دلالةَ العقلِ خارجةً عما جاءت به الأنبياء. وأما حُذَّاقُ المتكلمين فعَلِموا أن الرسول بَيَّنَ للناسِ الأدلةَ العقليةَ التي بها يُعرَف إثباتُ الصانع وتوحيدُه وصفاتُه وصِدْقُ رسوله، وعَلِمُوا أنه لا يكون عالمًا بالكتاب والسنَّةِ إلاّ مَن عَلِمَ ما فيهما من الأدلة العقلية التي تَدُل على المطلوب، مثلَ العلمِ بصدْقِ المخبِرِ، وأنَّ الله إنما بعثَ رسولاً إلى الخلقِ ليَهديَهم ويُخرِجهم من الظلماتِ إلى النور، ويَهدِيَهم إلى الصراطِ المستقيم، ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسنُ. إذْ بعثَه بالهدى ودينِ الحق، وقد أكملَ له ولأمتِه الدِّينَ، وأتمَّ عليهم النعمةَ. وقد تضمَّنَتْ رسالتُه ما به يُعلَم ذلك من الأدلة العقلية، وإلاّ فمجرَّدُ إخبارِ المخبرِ قبلَ العلمِ بصِدْقِه لا يُفِيدُ علمًا. وكذلك الأدلة العقلية لا يكونُ النَاظرُ فيها قد أعطاها حقَّها حتَّى تَدُلَّه على صِدْقِ الرسول، فإنَّ الأدلة العقلية اليقينية مستلزمة لذلك، وثبوتُ الملزِوِم بدون ثبوتِ اللازم محال. ولهذا قال أهل النار لما قيل لهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى) (1) الآية إلى (السَّعِيرِ (11)) . فدَل ذلك على   (1) سورة الملك: 8-11. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 أنهم كذَّبوا الرسُلَ فاستحقُّوا العذابَ، ودَلَّ على أنهم لم يكونوا يعقلون، وأنهم لو عَقَلُوا لصَدَّقوا الرسُلَ. فلمّا كانَ السلفُ عالمينَ بحقائق الأدلة العقلية والسمعية وأنها متلازمة، عَلِمُوا أنه يَمتنعُ أن تكون متعارضة، فإنّ الأدلةَ القطعية اليقينية يَمتنِعُ تعارضُها، لوجوب ثبوتِ مدلولها، فلو تعارضتْ لَزِمَ إمّا الجمعُ بين النفي والإثبات، وَإمّا رَفْعُهما. والنقيضانِ لا يجتمعانِ ولا يرتفعانِ. لكن جاءَ بعدَهم من أهل الكلام مَن قَصَّرَ في معرفةِ ما جاء به الرسولُ وما يُوجبُه النظَرُ المعقولُ، َ فظَنُّوا في أقوالِ الربِّ وأفعالِه في مسألة حدوثَ العالَمِ وغيرِها ظُنونًا مُخطِئةً، ليستْ مطابقةً لخبرِ الرسُلِ ولا لموجب العقلِ، وصارَ يَظُنُّ من لا يَعرِف دينَ الرسُلِ أن هذا هو دينُهم، ورأوا في ذلك ما يُناقِضُ صريحَ العقلِ. فكان هذا من أسبابِ اضطرابِ الناسِ في أمر الرسُلِ: فطائفة تقول: إنما جاءوا في العلوم الإلهية بطريقِ التخييل وخطابِ الجمهور. وطائفة تقول: بل جاءوا بطريقٍ لا يَدُلُّ على المقصود، بل يُشْعِرُ بنقيضِه، ليَعرِفَ الناسُ الحقَّ بأنفسِهم لا من جهة الأنبياء. ثمّ يتأوَّلون ما قالتْه الأنبياءُ على ما عندهم. وطائفة تقول: فيما جاءت به الأنبياءُ متشابه لا يَعلَم معناه لا الأنبياءُ ولا غيرُهم، ظَنُّوا أنَّ الوقفَ على قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) (1) ، وأنه إذا كان الوقفُ على هذا فالمرادُ بالتأويلِ صَرْفُ اللفظِ   (1) سورة آل عمران: 7. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 عن الاحتمالِ الراجح إلى الاحتمالِ المرجوح. وصارَ مِن هؤلاء مَن يقول: هذه الألفاظ تُجرَى على ظاهرِها، ولا يَعلَم تأويلَه إلاّ الله، فيَجمعُ بين النقيضَيْنِ. ولم يَعلَموا أنَّ لفظَ "التأويلِ" بحسبِ تعدُّدِ الاصطلاحات صارَ مشتركًا في ثلاثة معانٍ: معناه في القرآن هو ما يَؤُوْلُ إليه الكلامُ وإنْ وافقَ ظاهرَه، كقوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (1) . وهذا التأويل لا يَعلمه إلاّ الله، كوقتِ الساعة. ويُرادُ بالتأويل نفسُ الكلام وما قُصِدَ إفْهامُ الناسِ إيَّاهُ، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم. ولا يجوز أن يُنزِل اللهُ كتابا يأمر بتدبُّرِه وعَقْلِه، وقد فسَّرهُ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابُه كُلَّه للمسلمين، ويكون فيه ما لا يَعلَمُ تفسيرَه لا النبيُّ ولا أحد من أمته. ويُرادُ بالتأويل تحريفُ الكلمِ عن مواضعِه، وتفسيرُ الكلامِ بغيرِ مرادِ المتكلِّم، كتحريفِ أهلِ الكتاب لِمَا حَرَّفوه من الكتاب، وتحريفِ الملاحدةِ وأهلِ الأهواء لِما حَرَّفوه من معاني هذا الكتاب. وهذا تأويلٌ باطلٌ يَعلَم اللهُ أنه باطلٌ، لا أنه يَعلَم أنه حقّ، كما قال تعالى: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (2) . فإنه سبحانَه   (1) سورة الأعراف: 53. (2) سورة يونس: 18. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 يَعلم الأشياءَ على ما هي عليه، يَعلمُ الموجودَ موجودًا والمعدومَ معدومًا، فما كان معدومًا لا يَعلمه موجودًا. وهذا باب واسع. والسلطانُ -أيَّدَه الله وسَدَّدَه- هو مِن أحقِّ مَن تَجبُ معاونتُه على مصالح الدنيا والآخرة، لِمَا جَمَعَ الله فيه من الفضائلَ والمناقب. وكان من أسباب هذه التحية أنَّ فلانًا قَدِمَ، ولكثرةِ شكرِه للسلطانِ وثنائِه عليه ودُعاَئِه له حتى في الأسحارِ وغيرِها يُكثِرُ المفاوضةَ في محاسنِ السلطان، ويُجَدِّدُ بحضورِه للسلطانِ من الثناءِ والدعاءِ ما هو مِن بُشْرَى المؤمن، كما قالوا: يا رسول الله! الرجلُ يَعملُ العملَ لنفسِه فيَحْمَدُه الناسُ عليه، فقال: "تلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المؤمنِ" (1) . فالسلطانُ جَعلَ اللهُ فيه مِن الاشتمالِ على أهلِ الاستحقاقِ ما يَأجُرُه الله عليه. وفلانٌ هذا من خِيارِ الناس وأصدقِهم وأنفعِهم، ومن بيت معروف، وقد جعلَ الله فيه من المحبَّهِ والثناء على السلطان ما هو من نِعَم الله عليه، وهو من أهل الخيرِ والدين معروف، فجَمعَ الله بسببه للسلطان قلوبًا تُحِب السلطانَ وتَدعُو له. واللهُ تعالَى يَجمع له خير الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى سائرِ من يُحيط به العناية الكريمة. والحمد لله ربِّ العالمين.   (1) أخرجه مسلم (2642) عن أبي ذر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 رسالة إلى السلطان الملك الناصر في شأن التتار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 بسم الله الرحمن الرحيم (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)) (1) . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)) (2) . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شيئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ   (1) سورة التوبة: 33. (2) سورة الصف: 9-14. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)) (1) . إلى سلطان المسلمين، نصرَ الله به الدين، وقمعَ به الكفّار والمنافقين، وأعزَّ به الجند المؤمنين، وأدالَهم به على القوم المفسدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسألُه أن يُصلي على محمدٍ عبدِه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا. أما بعد، فإن الله قد تكفَّل بنَصْر هذا الدين إلى يوم القيامة، وبظهورِه على الدين كلِّه، وشهد بذلك، وكفى بالله شهيدًا. وأخبر الصادقُ المصدوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خَذَلَهم إلى يوم القيامة (2) ، وأخبر أنهم بالناحية الغربية عن مكة والمدينة (3) ، وهي أرضُ الشام وما يليها. كما أخبرنا أنه لا تقوم الساعةُ حتى تقاتلوا (4) التُّركَ، قومًا صِغارَ   (1) سورة التوبة: 38-41. (2) أخرجه مسلم (1920) عن ثوبان. وفي الباب عن المغيرة بن شعبة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله ومعاوية وعقبة بن عامر وغيرهم أخرج أحاديثهم مسلم وأحمد وغيرهما. (3) في حديث سعد بن أبي وقاص الذي أخرجه مسلم (1925) : "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". (4) في الأصل: "تقاتل". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 الأعينِ دُلْفَ الآنف، ينتعلون الشَّعْرَ، كأن وجوههم المَجَانُّ المُطرقة (1) . وأخبر (2) أن أمتَه لا يزالون يقاتلون الأمم حتى يقاتلوا الأعورَ الدجَّالَ، حين ينزل عيسى بن مريم من السماء على المنارة البيضاء شَرْقِيَّ دمشق، فيَقتُل المسلمون جُندَه القادمَ معه من يهود أصبهان وغيرهم. وأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله يبعث لهذه الأمة على رأسِ كلِّ مئة سنةٍ مَن يُجَدِّدُ دينَها (3) . ولا يكون التجديد إلاّ بعد استهدام. وقال: "سألتُ ربّي أن لا يُسلِّطَ على أمتي عدوًّا من غيرهم فيجتاحُهم، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُهلِكهم بسَنةٍ عامةٍ، فأعطانيها" (4) . وما زالت دلائل نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَظهر شيئًا بعد شيء. وقد أظهر الله في هذه الفتنة (5) من رحمته بهذه الأمة وجُنْدِها ما فيه عبرةٌ، حيثُ ابتلاهم بما يُكفر به من خطاياهم، ويُقبِل بقلوبهم على ربّهم، ويجمع كلمتهم على وليّ أمرِهم، ويَنزِعَ الفُرقةَ والاختلاف من بينهم،   (1) أخرجه البخاري (2928) ومسلم (2912) من حديث أبي هريرة. (2) كما في حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم (2937) وغيره. (3) أخرجه أبو داود (4291) من حديث أبي هريرة. (4) أخرجه مسلم (2890) عن سعد بن أبي وقاص. (5) يشير بها إلى وقعة قازان سنة 699، التي انكسر فيها جيش السلطان الملك الناصر أمام التتار بوادي الخزندار، وقُتل فيها جماعة من الأمراء وخلقٌ كثير من العوام، وأبلوا بلاء حسنًا. انظر "نهاية الأرب" (31/384) و"البداية والنهاية" (17/718) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 ويُحرك عَزَماتِهم للجهاد في سبيل الله وقتال الخارجين عن شريعة الله. فان هذه الفتنة التي جَرتْ، وإن كانت مُؤلمةً للقلوب، فما هي -إن شاء الله- إلاّ كالدواء الذي يُسقَاه المريضُ ليحصل له الشِفاءُ والقوة. وقد كان في النفوس من الكِبْر والجهل والظلم ما لو حَصل معه ما تشتهيه من العِزّ لأعقَبها ذلك بلاءً عظيما. فرحمَ الله عبادَه برحمتِه التي هو أرحم بها من الوالدة بولدها، وانكشف لعامة المسلمين شَرْقًا وغَرْبًا حقيقةُ حالِ هؤلاء المفسدين الخارجين عن شريعة الإسلام وإن تكلموا بالشهادتين، وعَلِمَ مَن لم يكن يعلم ما هم عليه من الجهل والظلم والنفاق والتلبيس والبُعد عن شرائع الإسلامٍ ومناهجه، وحَنَّتْ إلى العساكر الإسلامية نفوس كانت مُعرِضة عنهم، ولانَتْ لهم قلوبٌ كانت قاسية عليهم، وأنزل الله عليهم من ملائكته وسكينته مالم يكن في تلك الفتنة معهم، وطابتْ نفوسُ أهلِ الإيمان ببَذْلِ النفوس والأموال للجهاد في سبيل الله، وأعدُّوا العدَّة لجهاد عدوِّ الله وعدوهم، وانتبهوا من سِنَتِهم، واستيقظوا من رَقْدَتِهم، وحمدوا الله على ما أنعمَ به من استعداد السلطان والعسكر للجهاد، وما جمعه من الأموال للإنفاق في سبيل الله. فإنّ الله فَرضَ على المسلمين الجهاد بالأموال والأنفس، والجهادُ واجب على كل مسلمٍ قادرٍ، ومن لم يَقدِر أن يجاهد بنفسه فعليه أن يجاهد بمالِه إن كان له مالٌ يتّسَع لذلك، فإن الله فرض الجهاد بالأموال والأنفس. ومن كَنَزَ الأموالَ عند الحاجة إلى إنفاقها في الجهاد، من الملوك أو الأمراء أو الشيوخ أو العلماء أو التجّار أو الصُّنَاع أو الجند أو غيرهم، فهو داخل في قوله سبحانه (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)) (1) ، خصوصًا إن كانت الأموالُ من أموال بيت المال، أو أموالٍ أُخِذتْ بالربا ونحوه، أو لم تُؤَدَّ زكاتُها ولم تُخرَج حقوقُ الله منها. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحضُّ المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، حتى إنه في غَزَاة تبوك حَضَّهُم، وكان المسلمون في حاجةٍ شديدة، فجاء عثمان بن عفان بألفِ راحلةٍ من ماله في سبيل الله بأَحْلاسِها وأَقْتابِها، وأعوزتْ خمسين راحلة فكمَّلها بخمسين فرسًا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ضَرَّ عثمانَ ما فَعَلَ بعدَ اليوم" (2) . وذمَّ الله المخلَّفين عن الغزو في سورة براءة بأقبح الذمّ حين قال: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)) (3) . وقال: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا   (1) سورة التوبة: 34-35. (2) أخرجه أحمد (4/275) والترمذي (3701) من طريق فرقد أبي طلحة عن عبد الرحمن بن خباب السُّلَمي. وفرقد لا يعرف، وباقي رجاله ثقات. وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن سمرة أخرجه أحمد (5/63) والترمذي (3702) وحسنه. (3) سورة التوبة: 24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) (1) . ف من تَركَ الجهادَ عذَّبه الله عذابًا أليمًا بالذُّلّ وغيره، ونَزَعَ الأمرَ منه فأعطاه لغيره، فإن هذا الدين لمن ذَبَّ عنه. وفي الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بالجهاد، فإنه بابٌ من أبواب الجنة (2) ، يُذهِب الله به عن النفوس الهمَّ والغمَّ" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) : "لن يُغلَب اثنا عشر ألفًا من قلَّةٍ وقتالٍ، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العُسْر يُسرًا". ومتى جاهدت الأمَّةُ عدوَّها ألَّف الله بين قلوبها، وإن تركتِ الجهادَ شغَلَ بعضَها ببعض. ومن نِعَمِ الله على الأمة أنها قد اجتمعت على ذلك في الشرق والغرب، حتى إن المؤمنين من أهل المشرق قد تحرَّكتْ قلوبُهم انتظارًا لجنود الله، وفيهم من نوى أنه يخرج مع العدوِّ إذا جمعوا، ثُمَّ إمّا أن يقفز عنهم وإمّا أن يُوقع بهم. والقلوبُ الساعةَ محترقةٌ مهتزَّةٌ لنصر الله ورسوله على القوم المفسدين، حتى إن بالموصل   (1) سورة التوبة: 39. (2) في الأصل: "أبواب الله". (3) أخرجه أحمد (5/319) عن عبادة بن الصامت. (4) أخرجه ابن ماجه (2827) عن ابن شهاب عن أنس. وأخرجه أحمد (1/294، 299) وأبو داود (2611) والترمذي (1555) والدارمي (2443) من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس. وليس عندهم إلاّ الفقرة الأولى مما ذكر هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 والجزيرة وجبال الأكراد خَلْقًا عظيمًا مستعدين للجهاد مرتقبين العساكر، سواء تحرك العدوُّ أو لم يتحرك. وكذلك قدمتْ (1) بنتُ بَيْدَرَا (2) وكانت مأسورةً في بيت قازان (3) ، فأخبرتْ بما جرى بينه وبين أخيه وأمّه مما يؤيّد ذلك، وهي الساعةَ في نِيتِها تذهبُ إلى مصر، وقد أقامت في بيتهم مدَّةً إلى نصف شوَّال على ما ذكرتْ. وسواء ألقَى الله بينهم الفرقةَ والاختلافَ وأهلكَ رؤساءَهم أو لم يكن، فإن الأمر إذا كان كذلك فهذا عونٌ عظيمٌ من الله للمسلمين. وقد اتصل بالداعي أخبار صادقة من جهات يُوثَق بها بما قد مال مع المسلمين من أمراء تلك البلاد حتى من المغول، ولابدّ أن السلطان يُطالعُ بذلك من تلك البلاد، فإنّ هناك قوم صالحون (4) ساعون في مصالح المسلمين، كشيخ الجزيرة الشيخ أحمد. وجاءتنا أخبار مع غير واحدٍ بأن الخَرْبَنْدا أخا قازانَ (5) قد قَدِمٍ الرومَ وهو يجمع العساكر للقدوم. وقدمتْ بنت لبَيْدَرا كانت مأسورة في بيت قازان (5) ، وذكرتْ أحوالاً من الكلام بين قازان (5) وأخيه الخربندا وأمِّه، تَدُلُّ على ذلك، وأن الخربندا هو في نية فاسدة   (1) في الأصل: "قدم". (2) كان من ملوك التتار. (3) في الأصل: "قزان". (4) كذا في الأصل مرفوعًا. (5) في الأصل: "قزان". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 للمسلمين، وأمُّه تنهاه عن ذلك، وهو لا يَقبل، ويُوقع بينهم فتنةً. فليس من الواجب أن يترك نَصْرُ الله ورسوله والجهادُ في سبيل الله إذا كان عدوّ الله وعدوّ المسلمين قد وقع البأسُ بينَهم، بل هناك يكون انتهاز الفرصة، ولا يَحِلّ للمسلمين أن ينتظروهم حتى يطأوا بلاد المسلمين كما فعلوا عام أوّل، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما غُزِيَ (1) قومٌ في عُقْر دارِهِم إلاّ ذَلُوا" (2) . والله قد فرض على المسلمين الجهاد لمن خرجَ عن دينه وإن لم يكونوا يقاتلونا، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاؤه يُجهّزون الجيوش إلى العدو وإن كان العدوُّ لا يَقصِدُهم، حتى إنه لما توفي رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت مصيبته أعظم المصائب، وتفرق الناس بعد موته واختلفوا، نَفَّذَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيشَ أسامة بن زيد الذي كان قد أمره رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الشام إلى غزو النصارى، والمسلمون إذ ذاك في غاية الضعف. فلما رآهم العدوُّ فزِعوا وقالوا: لو كان هؤلاء .... (3) ما بعثوا جيشًا. وكذلك أبو بكر الصديق لمّا حضرتْه الوفاةُ قال لعمر بن الخطاب: لا يَشغلكم مصيبتكم بي عن جهادِ عدوِّكم (4) . وكانوا هم قاصدين   (1) في الأصل: "غزا". (2) انظر "النهاية" لابن الأثير (3/271) . وهو معروف من كلام علي ضمن خطبة له في "البيان والتبيين" (2/53) و"الكامل" للمبرد (1/30) و"العقد الفريد" (4/70) و"الأغاني" (16/267) و"نهج البلاغة" (ص 69) وغيرها. (3) بياض في الأصل بقدر كلمة. ولعلها "ضعافًا" أو ما في معناها. وانظر عن تنفيذ جيش أسامة وما كان فيه من المصالح: "البداية والنهاية" (9/421- 424) و"تاريخ دمشق" (30/315) . (4) انظر تاريخ الطبري (3/414) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 للعدو لا مقصودين. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرض موته، وهو يقول: "نَفِّذوا جيش أسامة، نَفِّذوا جيش أسامة" (1) ، لا يَشغَلُه ما هو فيه من البلاء الشديد عن مجاهدة العدوّ. وكذلك أبو بكر. والساعةَ لما ذهب أميرٌ بحلب بعسكرٍ إلى الجزيرة وتصيَّد هناك، طارَ الصيتُ في تلك البلاد بمَجيءِ العسكر، فامتلأت قلوب البنجاي (2) رعبًا، حتى صاروا يريدون أنَ يُظهِروا زيَّ المسلمين لئلاّ يُؤخَذوا، وفي قلوب العدوّ رُعبٌ لا يعلمه إلا الله، وقد هُيِّىء لهم في البلاد إقامات كثيرة من الشعير وغيره، والمسلمون هناك يدعون الله أن يكون رزق المسلمين. و أقلُّ ما يجب على المسلمين أن يُجاهِدوا عدوَّهم في كلِّ عام مرةً، وإن تركوه أكثر من ذلك فقد عَصوا الله ورسولَه، واستحقوا العقوبة، وكذلك إذا تقاعدوا حتى يطأ العدوُّ أرضَ الإسلام. والتجربةُ تدلُّ على ذلك، فإنه (3) لما كان المسلمون يقصدونهم في تلك البلاد لم يزالوا منصورين، وفي نَوبتَيْ حمص الأولى والثانية لما مَكّنُوهم من دخول البلاد كاد المسلمون في تلك النوبةِ أن ينكسروا لولا أن ثبَّتَ الله، وجَرى في هذه المدة ما جرى. وما قَصَدَهم المسلمون قَطُّ   (1) أخرجه ابن إسحاق معلقًا كما في "سيرة" ابن هشام (2/650) وابن سعد في "الطبقات" (2/249) من طريق الواقدي. (2) كذا في الأصل. (3) في الأصل: "فان". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 إلاّ نُصِروا، كنوبةِ عينِ جَالوت والفرات والروم، ونحن نرجو أن يستأصلهم الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، فإن البشارات متوفِّرة على ذلك. وقد حدَّثنا أبي رحمه الله أنه كان عندهم كتاب عتيق وقف عليه من أكثر من خمسين سنة قبل مجيىء التتار إلى بغداد، وهو مكتوب من سنين كثيرة، وفي آخره: والتتار يُقلِعهم المصريون. وقد رأى المسلمون أنواعًا من المبشرات بنصر الله ورسوله، وهذا لاشكّ منه إن شاء الله. وليست هذه النوبة كتلك، فإن تلك المرة كان فيها أمورٌ لا يليق ذكرُها عفا الله عنها، وما فعلَه الله بالمسلمين كان أحمدَ في حقّهم. ثمَّ لاشك أنّ الله يَنصُر دينَه وينتقم من أعدائه، وقد قال تعالى: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)) (1) . ثم في الحركة في سبيل الله أنواع من الفوائد: إحداها (2) : طمأنينة قلوب أهل البلاد حتى يعمروا ويزدرعوا (3) ، وإلاّ فما دامت القلوب خائفةً لا يستقيم الحال.   (1) سورة محمد: 4-7. (2) في الأصل: "أحدها". (3) في الأصل الفعلان بإثبات النون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 الثانية: أن البلاد الشمالية كحلب ونحوها فيها خير كثير ورزق عظيم ينتفع به العسكر. الفائدة الثالثة: أنه يُقويّ قلوبَ المسلمين في تلك البلاد من الأعوان والنصحاء، ويزداد العدوُّ رُعبًا. وإن لم تَحصُلْ حركة فَتَرت القلوبُ، وربما انقلب قوم فصاروا مع العدوّ، فإن الناس مع القائم. ولما جاء العسكر إلى الشام كان فيه مصلحة عظيمة، ولو تقدم بعضهم إلى الثَّغْر كان في غاية الجودة. الفائدة الرابعة: أنهم إن ساروا أو بعضُهم حتى يأخذوا ما في بلد الجزيرة من الإقامات والأموال السلطانية من غير إيذاء المسلمين كان من أعظم الفوائد، وإن ساروا قاطنين متمكنين نَزَلتْ إليهم أمراءُ تلك البلاد من أهل الأمصار والجبال، واجتمعت جنود عظيمة، فإن غالب أهل البلاد قلوبهم مع المسلمين، إلاّ الكفّار من النصارى ونحوهم، وإلاّ الروافض، فإن أكثر الروافض ونحوهم من أهل البدع هواهم مع العدوّ، فإنهم أظهروا السرور بانكسار عسكر المسلمين، وأظهروا الشماتةَ بجمهور المسلمين. وهذا معروف لهم من نَوبةِ بغداد وحلب، وهذه النوبة أيضًا، كما فعلَ أهلُ الجبلِ الجرد والكِسْرَوان، ولهذا خَرَجنا في غزوهم لما خرجَ إليهم العسكر، وكان في ذلك خيرة عظيمة للمسلمين. فإذا كانت عامَّهُ القلوب هناك وهنا مع هذا العسكر المنصور، وقد أقامه الله سبحانه وأيَّده وأمده بنعمته على محمد وأمته، وقلوبُ العدوِّ في غاية الرعب منه، والله لقد رأى الداعي من رُعْبِهم مالا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 يوصف، حتى إن وزيرَهم يحيى قال قُدام الداعي ومولاي يسمع: واحد منكم يغلب ستةً من هؤلاء، وهكذا يُخبِر القادمون من هناك أنهم مرعوبون جدًّا، فمن نعمة الله على المسلمين أن يُيسِّر غزاةً ينصر الله بها دينَه هنا وهناك. وما ذلك على الله بعزيز. وليس من شريعة الإسلام أن المسلمين ينتظرون عدوَّهم حتى يقدم عليهم، هذا لم يأمر الله به ولا رسولُه ولا المسلمون، ولكن يجب على المسلمين أن يقصدوهم للجهاد في سبيل الله، وإن بدأوا هم بالحركة فلا يجوز تمكينُهم حتى يَعبُروا ديارَ المسلمين، بل الواجبُ تقدُّمُ العساكر الإسلامية إلى ثغور المسلمين، فالله تعالى يخ ـ[ـتار للمسلميـ]ـ ن في جميع الأمور ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والحمد لله وحده، وصلّى الله على محمد عبده ورسوله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 قاعدة في الانغماس في العدوّ وهل يُباح؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 بسم الله الرحمن الرحيم الحَمْدُ لله نَسْتَعينه ونَسْتَغْفره، ونَعُوذُ بالله من شُرور أَنْفُسِنَا ومن سيئات أَعْمَالِنَا، مَن يَهْده الله فلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضلِل فلا هادي له (1) . ونَشْهَدُ أن لا إله إلا الله، ونَشْهَدُ أن محمدًا عبده ورسوله، أَرْسَلَهُ بالهُدَى ودينِ الحق ليُظهِرَه عَلَى الدِّينِ كلِّه، وكَفَى بالله شهيدًا، صلَّى الله عليه وعَلَى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فهذه مسألة يحتاجُ إليها المؤمنون عُمومًا، والمجاهدون منهم خصوصًا، وإن كان (2) الإيمان لا يَتِمُّ إلاّ بالجِهاد، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) (3) الآية. ولكن الجهاد يكون للكفار والمنافقين أيضًا، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) في مَوْضِعَين من كتاب الله (4) . ويكون الجهادُ بالنفْس والمال، كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (5) . وَيكونُ بغيرِ ذلك ويَنْفعُه، لما ثبتَ في الصحيحين (6) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَنْ جَهَزَ غازيًا فقد غَزَا، ومَن خَلَفَه في أهلِه   (1) في الأصل: "إليه"، وهو خطأ. (2) في الأصل: "جاز". (3) سورة الحجرات: 15. (4) سورة التوبة: 73 وسورة التحريم: 9. (5) سورة التوبة: 41. (6) البخاري (2843) ومسلم (1895) عن زيد بن خالد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 بخير فقد غَزَا". ويكون الجهاد باليد والقلب واللِّسان، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "جاهِدُوا المشركينَ بأيديكم وألسنتِكم وأموالِكم"، وكما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (2) : "إن بالمدينة لَرِجالاً ما سِرْتُمْ مَسِيرًا ولا قَطَعْتُمْ واديًا إلا كانوا معكم حَبَسَهُم العُذرُ". فهؤلاء كان جهادهم بقلوبِهم ودُعائِهم. وقد قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)) (3) . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) : "السَّاعِي (5) عَلَى الصَّدَقَة بالحقِّ كالمجاهِدِ في سبيلِ الله". وقال أيضًا (6) : "المُجَاهِدِ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في الله"، كما قال (7) :   (1) أخرجه أحمد (3/124، 153) والدارمي (2436) وأبو داود (2504) والنسائي (6/7، 51) عن أنس بن مالك. (2) البخاري (2839، 4423) ومسلم (1911) عن أنس بن مالك. (3) سورة النساء: 95. (4) أخرجه أحمد (4/143) وأبو داود (2936) والترمذي (645) وابن ماجه (1809) عن رافع بن خديج بلفظ: "العامل على ... ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (5) في الأصل: "الساعين". (6) أخرجه أحمد (6/21، 22) وابن ماجه (3934) عن فضالة بن عبيد. (7) ضمن الحديث السابق. وبعضه عند البخاري (10، 6484) عن عبد الله بن عمرو، وعند مسلم (41) عن جابر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 "المؤمنُ مَن أَمِنَهُ النَّاسُ على دِمائهم وأموالِهم، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى الله عنه، والمسلمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لِسانِهِ ويِده". و الجهادُ في سبيلِ الله أنواع متعدِّدة ... (1) سبيل الله، ويفرق بينهما النِّيّة واتِّباع الشَّريعة. كما في "السنن" (2) عن مُعاذٍ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الغَزْوُ غَزْوَانِ: فأمَّا مَن ابتغَى وَجْهَ الله، وأطاعَ الإمامَ، وأنفق الكَرِيمَةَ واجتنبَ الفسادَ؛ فإنّ نَوْمَه (3) [ونُبْهَهُ] كُلّه أجر. وأما مَن غَزَا فَخْرًا ورياءًا وسُمعة، وعَصَى الإمام، وأفسدَ في الأرضِ؛ فإنه لم يَرْجِع بالكَفَافِ". وفي الصحيحين (4) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! الرجل يُقاتِلُ شَجَاعة ويُقاتِلُ حَمِيَّةً، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "مَن قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيلِ الله". وقد قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (5) . وهذه المسألة هي في الرجل أو الطائفة يُقاتل منهم أكثر من ضِعْفَيْهم (6) ، إذا كان في قتالِهم منفعة للدِّين، وقد غَلَبَ على ظنِّهم   (1) هنا بياض في الأصل، والكلام بعده غير متصل. (2) أخرجه أحمد (5/234) والدارمي (2422) وأبو داود (2515) والنسائي (6/49، 7/155) . (3) في الأصل: "يومه". (4) البخاري (123 ومواضع أخرى) ومسلم (1904) . (5) سورة البقرة: 193. (6) في الأصل: "ضعيفهم" تحريف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 أنهم يُقْتَلُون، كالرجل يَحْمِلُ وَحْدَهُ على صف الكفَّار ويَدْخُل فيهم، ويُسَمِّي العلماء ذلك الانغماس في العدوّ؛ فإنه يَغِيبُ فيهم كالشيء يَنْغَمِسُ فيه فيما يَغْمُره. وكذلك الرجل يَقْتُل بعضَ رُؤَساء الكُفار بين أصحابه، مثل أن يَثِب عليه جَهْرة إذا اخْتَلَسَه، ويرى أنه يَقْتُله ويُقتَل (1) بعد ذلك. والرجل يَنْهزِم أصحابه فيُقاتِل وحده أو هو وطائفةٌ معه العدوَّ، وفي ذلك نِكَاية في العَدو، ولكن يظنُّون أنهم يُقْتَلُون. فهذا كُلُّه جائزٌ عند عامة علماء الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرِهم، وليس في ذلك إلا خلاف شاذّ. وأمَّا الأئمة المُتَبّعَون كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد نصُّوا على جواز ذلك. وكذلك هو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما. ودليلُ ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة. أما الكتاب فقد قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)) (2) . وقد ذُكِرَ أن سبب نزول هذه الآية أن صُهَيبًا خَرَجَ مُهاجرًا من مكة إلى المدينة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلَحِقَه المشركون وهو وحدَهُ، فنَثَل كِنانتَه، وقال: والله لا يأتي رجلٌ منكم إلا رَمَيْتُه. فأراد قتالهمِ وحدَه، وقال: إنْ أَحْبَبْتُم أنْ تَأخُذوا مالي بمكة فخُذُوه، وأنا أدُلُّكم عليه. ثم قَدِمَ   (1) في الأصل: "يغتفل"، ولعل الصواب ما أثبته أو "يُعتَقل". (2) سورة البقرة: 207. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رَبح البَيع أبا يَحْيَى" (1) . ورَوَى أحمد (2) بإسنادِه أن رَجُلاً حَمَلَ وحدَه على العدو، فقال الناس: أَلْقَى بيَدِهِ إلى التَهْلُكة، فقال عمر: كلاّ بل هذا مِمَّن قال الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)) . وقولَه تعالى: (يَشْرِي نَفْسَهُ) أي يبيع نفسه، يُقال: شراه وباعَه سواء، واشتراه وابتاعَه سواء، ومنه قوله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) (3) أي باعوه. فقوله: (يَشْرِي نَفْسَهُ) أي يبيعُ نفسَه لله تعالى ابتغاءَ مرضاته، وذلك يكون بأن يبذل نفسه فيما يُحبُّه الله ويرضاه، وإن قُتِلَ أو غَلَبَ على ظنِّه أنه يُقْتَل. كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)) (4) . وهذه الآية وهي قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ   (1) انظر تفسير الطبري (2/186-187) وابن كثير (2/525) . (2) لم أجده في "مسنده". وانظر المصدرين السابقين. (3) سورة يوسف: 20. (4) سورة التوبة: 111-112. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 وَأَمْوَالَهُمْ) تدلُّ على ذلك أيضًا، فإنَّ المشترِي يسلم إليه ما اشتراه، وذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله وطاعته، وإن غَلَبَ على ظنِّه أن النفس تُقْتَل والجواد يُعقَر، فهذا من أفضل الشهادة، لما روى البخاري في "صحيحه" (1) عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما مِن أيَّامٍ العملُ الصالحُ فيها [أَحَبُّ] إلى الله مِن هذه الأيَّامِ" يعني أيام العَشْرِ. قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟ قال: "ولا الجهادُ في سبيلِ الله إلا رجل خَرَجَ بنفسِهِ ومالِه ثم لم يَرجِعْ مِن ذلك بشيءٍ". وفي رواية (2) : "يعقر جواده وأهريق دمه". وفي "السنن" (3) عن عبد الله بن حُبْشيٍّ أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ أيُّ العمل أفضلُ؟ قال: "طُولُ القِيام". قيل: أَيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: "جَهْدُ المُقْلِّ". قيل: فأيُّ الهِجْرَةِ [أفضلُ؟ قال: "مَن هَجَرَ ما حَرَّمَ الله عليه". قيل: فأيُّ الجهاد أفضلُ؟] قال: "مَن جاهَدَ المشركينَ بنفسِه ومالِه". قيل: فأيُّ القتلِ أشرفْ؟ قال: "مَن أهريقَ دمُه وعُقِرَ جوادُه". وأيضًا فإنَّ الله سبحانه قد أخبر أنه أَمر خليله بذبح ابنه ليبتليه هل يَقْتُل ولدَه في محبَّة الله وطاعتِه؟ وقَتْلُ الإنسان ولدَه قد يكون أَشَقَّ عليه من تَعْريضِه نفسه للقتل، والقتالُ في سبيل الله أحَبُّ إلى   (1) برقم (969) نحوه. واللفظ المذكور عند أحمد (1/224، 346) وأبي داود (2438) والترمذي (757) وغيرهم. (2) أخرجها الطبراني في "الصغير" (889) . (3) أخرجه أحمد (3/411) والدارمي (1431) وأبو داود (1325، 1449) والنسائي (5/58، 8/94) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 الله مِمَّا ليس كذلك. والله سبحانه أمر إبراهيم بذبح ابنه قُربانًا ليَمْتَحِنه بذلك، ولذلك نسخ ذلك عنه لمَّا عَلِمَ صِدْق عَزْمِه في قتلِه؛ فإن المقصود لم يكن ذبحه لكن ابتلاءُ إبراهيم. والله تعالى يبتلي المؤمنين ببذلِ أنفسِهم؛ ليُقْتَلوا في سبيل الله ومحبَّة رسوله؛ فإن قُتِلُوا كانوا شهداء، وإن عاشُوا كانوا سُعداء. كما قال: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (1) . وقد قال لبني إسرائيل: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) (2) . أي ليَقْتُل بعضكم بعضًا. فألقَى عليهم ظلمة، حتى جَعَلَ الذين لم يعبدوا العِجْل يقتلون الذين عَبَدوه. فهذا الذي كان في شرعِ مَن قبلَنا من أَمْرِهِ بقَتْل بعضهم بعضًا قد عَوَّضَنا الله بخيرٍ منه وأنفع؛ وهو جهاد المؤمنين عدو الله وعدوَّهم، وتعريضهم أنفسهم لأن يُقتلوا في سبيله بأيدي عدوِّهم لا بأيدي بعضهم بعضًا، وذلك أعظم درجة وأكثر أجرًا. وقد قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)) (3) .   (1) سورة التوبة: 52. (2) سورة البقرة: 54. (3) سورة النساء: 66-68. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 وأيضًا فإنَّ اللهَ أمر بالجهادِ في سبيلِه بالنَّفْسِ والمال مع أنَّ الجهاد مَظنَّة القتل، بل لابُدَّ منه في العادة مِن القتل. وذَمَّ الذين يَنْكُلُون عنه خوف القتل، وجَعَلهم منافقين، فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) إلى قوله: (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (1) . وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)) (2) . فأخبر سبحانه أنَّ الفِرَار مِن الموتِ أو القتل لا ينفع، بل لابُدَّ أنْ يموتَ العبدُ، وما أكثرَ مَن يَفِرّ فيموت أو يُقْتَل، وما أكثرَ مَن ثَبت فلا يُقْتَل (3) . ثمَّ قال: ولو عِشتْمُ لم تُمَتَّعوا إلا قليلاً ثمَّ تموتوا. ثمَّ أخبر أنَّه لا أحدَ يعصمهم مِن الله إن أرادَ أنْ يرحمهم أو يعذَبهم، فالفرار مِن طاعتِه لا يُنَجِّيهم. وأخبر أنه ليس لهم مِن دون الله وليّ ولا نصير. وقد بيَّنَ في كتابه أنَّ ما يُوجبُه الجُبْنُ مِن الفرار هو من الكبائر الموجبةِ للنَّار، فقال: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)   (1) سورة النساء: 77-78. (2) سورة الأحزاب: 15-17. (3) بعده في الأصل بعض الآيات السابقة والكلام المذكور في هذه الفقرة، فحذفناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)) (1) . وأخبرَ أن الذين يخافون العدوَّ خوفًا منَعَهم من الجهاد منافقون، فقال: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)) (2) . وفي الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه عَد الكبائر؛ فذكر الشرك بالله، وعُقُوق الوالدين، والسِّحر، واليمين الغَمُوس، وقذف المُحْصنات الغافلات المؤمنات. وذكر منها الفرار من الزَّحْف في الصَّفَّيْن. [و] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "شَرُّ ما في المَرْء: شُحٌّ هالِعٌ، أو جُبْنٌ خالِعٌ" (4) . وأما دلالةُ سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك فمن وجوه كثيرة: منها: أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم بقدرهم ثلاث مرات أو أكثر، وبدر أفضل الغزوات وأعظمها. فعُلِمَ أنَّ القوم يُشْرَع لهم أن يُقاتِلوا من يَزِيدون على ضِعْفِهم، ولا فرقَ في ذلك بين الواحد والعدد، فمُقَاتَلة الواحد للثلاثة كمُقَاتَلة الثلاثة للعَشَرة.   (1) سورة الأنفال: 15-16. (2) سورة التوبة: 56-57. (3) البخاري (2766، 6857) ومسلم (89) عن أبي هريرة. (4) أخرجه أحمد (2/302، 320) ، وأبو داود (2511) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 وأيضًا فالمسلمون يوم أُحُد كانوا نحوًا من رُبُع العدو؛ فإن العدو كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها، وكان المسلمون نحو السّبعمائة أو قريبًا منها. وأيضًا فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقَدْرِهِم مرَّات، فإنّ العدوّ كان أكثرَ من عشرة آلاف، وهم الأحزابَ الذين تَحَزَّبوا عليهم من قريش وحلفائِها وأحزابِها الذين كانوا حول مكة وغَطَفان وأهل نجد، واليهود الذين نَقَضُوا العهد وهم بنو قريظة جيران أهل المدينة، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفَيْن. وأيضًا فقد كان الرجل وحْدَهُ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحمِلُ على العدو بِمَرْأى من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويَنْغمسُ فيهم، فيُقَاتل حتى يُقْتل. وهذا كان مشهورًا بين المسلمين على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه. وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن أبي هريرة قال: بَعَثَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشرةَ رَهْطٍ عَيْنًا، وأمَّرَ عليهم عاصمَ بنَ ثابتٍ الأنصاريَّ جَدَّ عاصمِ بنِ عمر بن الخطابِ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهَدْأَةِ بين عُسْفَانَ ومكة ذُكِرُوا لِحي مِن هُذيلٍ يُقال لهم بَنُو لِحْيَانَ، فنَهَدُوا إليهم بقريب مِن مائة رجلٍ رام -وفي روايةٍ: مائتي رجل- فاقْتَفوا آثارَهم، حتى وجدوا مأكَلَهم التمر في منزل نزلوه فقالوا [هذا] تَمْرُ يَثْرِبَ. فلما أحسَّ بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع -وفي رواية إلى فَدْفَدٍ، أي إلى مكان مرتفع- فأحاط بهم القومُ، فقالوا لهم:   (1) برقم (3045 ومواضع أخرى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 انزلوا فأَعْطُوا أيديكم ولكم العَهْدُ والميثاقُ، لا يُقْتَلُ منكم أحدٌ. فقال عاصم بنُ ثابتٍ: أيها القوم! أمَّا أنا فلا أنزلُ على ذِمَّةِ كافرٍ، اللهمَّ أخْبرْ عَنَّا نبيَّكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فرموهم بالنَّبْلِ فقتلوا عاصمًا في سبعةٍ. ونزل إليهَم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خُبَيْبٌ وزيد بنُ الدَّثِنَة، ورجلٌ آخر. فلما استمكنوا منهمِ أطلقوا أوتار قسِيِّهم فربطوهم بها. قال الرجل الثالثُ: هذا أوَّلُ الغدْرِ، والله لا أصَحبكم، لي بهؤلاء أُسوةٌ؛ يريد القَتْلَى. فجَرَّروه وعالجوه؛ فأبي أنْ يصحبهم، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدَّثِنَة حتى باعوهما بمكة بعد وقعةِ بدرٍ. فابتاع بنو الحارث بن عامرِ بن نوفلِ بن عبد منافٍ خبيبًا، وكان خبيبٌ هو قَتَلَ الحارثَ بنَ عمرو يومَ بدر. ولبث خبيبٌ عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله. فاستعار مِن بعض بنات الحارث موسى يسْتَحِدُّ بها، فأعارتْه فدَرج بُنَي لها وهي غافلة حتى أتاه [قالت: فوجدتُه] مُجْلِسَه على فخِذِه والموسى بيَدِه؛ قالت: فَفَزِعْتُ فَزْعةً عرفَها خبيب. فقال: أتخْشَيْنَ أن أَقْتُلَه؟ ما كنتُ لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيتُ أسيرًا خيرًا من خبيب، فوالله لقد وجدتُه يومًا يأكل قِطْفًا من عنبٍ في يدِه، وإنه لمُوثَق في الحديد وما بمكة مِن ثمرٍ. وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا. فلما خرجوا به من الحَرَم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم خبيبٌ: دعوني أُصلِّي ركعتين. فتركوه فركع ركعتين. فقال. والله لولا أنْ تحْسَبُوا أنَّ ما بي جَزَع لزدتُ، اللهمَّ أَحْصِهِم عددًا، واقتُلْهم بدَدًا، ولا تُبْقِ منهم أحدًا. قال: فَلَسْت أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَيِّ جنب كَانَ لله مَصْرَعِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلهِ وإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سَنَّ لكلِّ مسلمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصَّلاة. وأخبَرَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصحابة يوم أُصيبوا خبرَهم. وبعث ناس من قريشٍ إلى عاصم بن ثابت حين حُدِّثوا أنَّه قد قُتل أن يؤتى بشيءٍ منه يُعْرَفُ، وكان قَتَلَ رجلاً مِن عظمائِهم. فبعث الله لعاصم مثلَ الظلَّةِ [مِن الدَّبْر] ، فحَمَتْهُ من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئًا. فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المئةَ أو المئتين، ولم يستأسِروا لهم حتى قتلوا منهم سبعة. ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من اتِّباعهم حتى قتلوه. وهؤلاء من فُضَلاء المؤمنين وخيارهم. وعاصم هذا هو جدّ عاصم بن عمر، وعاصم بن عمر جدّ عمر بن عبد العزيز (1) ؛ فإنَّ عمر بن الخطاب كان قد نَهَى الناس أن يَشُوبَ أحد اللَّبنَ بالماء للبيع (2) ، فبينما عمر ذات ليلةٍ يَعُسّ إذ سمع امرأة تقول لأخرى: قُومي فَشُوبي اللبن. فقالت: إنَّ أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك. فقالت: وما يدري أمير المؤمنين؟ فقالت: لا والله   (1) يقصد بالجدّين هنا الجدَّين للأم. (2) بعده في الأصل عبارة لعلها من كتابة أحد القراء على الهامش، فدخلت في الأصل، وهي: (وكذلك في مراسيل الحسن: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك، لأنه يُفْضِي إلى غِشٍّ لا يَعْلَم به المُشْتَري؛ فإن البائع وإن أَخْبَر المُشتري بأنه مغشوش؛ لكنه لا يتميَّز قدر الغِشّ، ولهذا نهى العلماء عن مثل ذلك) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 لا نُطِيعه في العلانية ونَعْصِيه في السِّر. فَعَلَّمَ عمر على [الباب] (1) ، فلما أصبح سأل عن أهل ذلك البيت، فإذا به أهل بيت عاصم هذا الأمير (2) المُسْتَشْهَد، والمرأة المُطيعة ابنته، فخَطَبَها وتزوَّجَها (3) . وقد رُوِي أنه زوَّجها ابنه عاصم هذا، وإن كان عمر قبل ذلك تزوَّج ابنة عاصم هذا فولدت له عاصمًا ابنه، وصدق عمر بن عبد العزيز من ذرية عاصم. وأيضًا ففي السنن (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عَجِبَ ربُّنا مِنْ رَجُلَيْنِ: رجلٍ ثارَ عن وِطائِه مِن بينِ حَيِّهِ وأهله إلى صلاتِه، فيقولُ الله عز وجل لملائكتِه: انظروا إلى عبدي، ثارَ عن فِراشِهِ ووِطائِه مِن أهله وحَيِّهِ إلى صلاتِهِ، رَغْبَةً فيما عندي وشَفَقًا ممَّا عندي. ورجلٍ غَزَا في سبيلِ الله، فانْهَزَمَ مع أصحابه، فعَلِمَ ما عليه في الانهزام وما له في الرُّجُوعِ، فرجع حتى يُهرِيقَ دَمُهُ. فيقولُ اللهُ لملائكتِه: انظروا إلى عبدي رَجَعَ رَغْبةً فيما عندي وشفقًا ممَّا عندي حتى يُهرِيقَ دمه" فهذا رجل انْهَزَمَ هو وأصحابه، ثم رجع وحده فقاتل حتى قُتِل. وقد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ الله يَعْجَب منه؛ [و] عَجَبُ الله من الشيء يدلُّ   (1) هنا بياض في الأصل. (2) في الأصل: "أمير المؤمنين". (3) انظر "طبقات ابن سعد" (5/331) . (4) أخرجه أحمد (1/416) وأبو داود (2536) عن ابن مسعود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 على عِظَم قَدْرِه، وأنَه لخروجه عن نظائرِه يعظم درجته ومنزلته. وهذا يدلُّ على أن مثل هذا العمل محبوب لله مَرْضيٌّ، لا يُكتفَى فيه بمجرّد الإباحة والجواز؛ حتى يقال: وإن جاز مُقاتَلة الرجل حيث يَغْلب على ظَنِّه أنه يُقْتَل فَتَرْكُ ذلك أفضل. بل الحديث يدلُّ على أنَّ ما فعله هذا يُحِبُّه الله ويرضاه، ومعلوم أن مثل هذا الفعل يُقْتَلُ فيه الرجل كثيرًا أو غالبًا، وإن كان ذلك لتوبته من الفرار المحرَّم، فإنَّه مع هذه التوبة جاهَدَ هذه المجاهدة الحسنة. قال الله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)) (1) . وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المُهاجِر مَن هَجَرَ ما نَهَى الله عنه" (2) . فمن فَتنهُ الشيطان عن طاعة الله لمَّ هَجَرَ ما نهى الله عنه وجاهد وصبر كان داخلاً في هذه الآية. وقد يكون هذا في شريعتِنَا عِوضًا عمّا أُمِرَ به بنو إسرائيل في شريعتهم لما فُتِنوا بعبادة العِجْل بقوله: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (3) . وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)) إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ..) (4) .   (1) سورة النحل: 110. (2) سبق تخريجه (ص 344) . (3) سورة البقرة: 54. (4) سورة النساء: 64-66. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 وذلك يدل على أن التائب قد يُؤمَرُ بجهادٍ تعرض به نفسه للشَّهادة. فإن قيل: قد قال الله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله: (الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) (1) . وقد قالوا: إنَّ ما أَمَرَ به من مُصابرة الضعف (2) في هذه الآية ناسخٌ لما أَمَرَ به قبل ذلك من مُصابرة عشرة الأمثال. قيل: هذا أكثر ما فيه أنه لا تجب المُصابرة لما زاد على الضِّعف، ليس في الآية أن ذلك لا يُسْتَحَبُّ ولا يجوز. وأيضًا فلفظُ الآية إنما هو خبرٌ عن النَّصر مع الصَّبر، وذلك يتضمن وجوب المُصابرة للضَعف، ولا يتضمَّن سقوطَ ذلك عما زاد عن الضِّعف مطلقا، بل يقتضي أن الحكم فيما زاد على الضعفين بخلافه، فيكون أكمل فيه، فإذا كان المؤمنون ظالمين لم يجب عليهم أن يُصابِروا أكثر من ضعفيهم، وأما إذا كانوا هم المظلومين وقتالُهم قتال وَقَعَ عن أنفسهم فقد تجب المصابرةُ كما وجبت عليهم المُصابرة يوم أُحد ويوم الخندق، مع أنَّ العدو كانوا أضعافهم. وذَمَّ الله المُنْهَزِمين يوم أُحد والمُعْرِضين عن الجهاد يوم الخندق في سورة آل عمران والأحزاب، بما هو ظاهر معروف.   (1) سورة الأنفال: 65-66. (2) في الأصل: "الضعيف" تحريف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 وإذا كانت الآية لا تنفي وجوبَ المُصابرة لِمَا زاد على الضِّعفين في كل حال، فأنْ لا تنفِي الاستحبابَ [و] الجوازَ مُطلقًا أوْلَى وأحْرَى. فإن قيل: قد قال الله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (1) . وإذا قاتل الرجل في موضع فغَلَبَ على ظنه أنه يُقْتَل فقد أَلْقَى بيده إلى التهلكة. [قيل] : تأويل الآية على هذا غلط، ولهذا ما زال الصحابة والأئمة يُنْكِرون على من يتأوَّل الآية على ذلك، كما ذكرنا أنَّ رجلاً حَمَلَ وحْدَه على العدو، فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر ابن الخطاب: كلاَّ ولكنه مِمَّن قال الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) (2) . وأيضًا فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي (3) من حديث يزيد ابِن أبي حبيب -عالمِ أهل مصرَ من التابعين- عن أسلم أبي عِمرانَ قال: غزَوْنا بالمدينة نُريدُ القُسطنطينيَّةَ وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والرُّومُ مُلصقُو ظهورهم بحائطِ المدينة، فحَمَلَ رجلٌ على العدوِّ؛ فقال الناس: لا إلهَ إلا الله! يُلْقِي بيدِه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نَزَلَتْ هذه الآية فينا معشر الأنصار، لمَّا نَصَرَ الله نبيَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأَظْهَرَ الإسلامَ قلنا: هَلُمَّ نُقِمْ في أموالِنا ونُصلِحْها، فأنزل الله عز وجل:   (1) سورة البقرة: 195. (2) سورة البقرة: 207. (3) أخرجه أبو داود (2512) والنسائي في الكبرى (299، 1029) والترمذي (2972) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (1) . فالإلقاءُ بالأيدي إلى التهلكة أن نُقِيمَ في أموالِنا ونُصْلِحَها ونَدَعَ الجهادَ. قال أبو عمران: فَلَمْ يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفِنَ بالقسطنطينية. قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب. وأبو أيوب من أجل السابقين الأولين من الأنصار قَدْرًا، وهو الذي نزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتِه لما قَدِمَ مهاجرًا من مكة إلى المدينة. ورَهْطُه بنو النَّجَّار هم خير دور الأنصار، كما أخبر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) ، وقَبْرُه بالقسطنطينية. قال مالك: بلغني أنَّ أهلَ القسطنطينية إذا أجدبوا كَشَفوا عن قبرِه فيَسْتَقُون. وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المنغمس في العدوّ مُلقيًا بيده إلى التهلكة دون المجاهدين في سبيل الله، ضدّ ما يتوهمه هؤلاء الذين يُحَرفون كلام الله عن مواضعِه؛ فإنهم يتأوَّلون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله. والآية إنما هي أمر بالجهاد في سبيل الله، ونهي عما يَصُدّ عنه. والأمر في هذه الآية ظاهر كما قال عمر وأبو أيوب وغيرهما من سلف الأمة؛ وذلك أن الله قال قبل هذه الآية: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) إلى قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ   (1) سورة البقرة: 195. (2) أخرجه البخاري (3789 ومواضع أخرى) ومسلم (2511) عن أبي أسيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)) إلى قوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)) (1) . فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله وإنفاق المال في سبيل الله، فلا تُناسب ما يُضادُّ ذلك من النهي عمَّا يكمل به الجهاد وإن كان فيه تعريض النَّفس للشهادة، إذ الموت لابُدَّ منه، وأفضل الموت موت الشهداء. فإن الأمر بالشيء لا يُناسب النَّهي عن إكماله، ولكن المناسب لذلك النهي عما يُضِلّ عنه؛ والمناسب لذلك ما ذُكِرَ في الآية من النَّهي عن العُدوان، فإنَّ الجهاد فيه البلاء للأعداء؛ والنُّفُوس قد لا تقف عند حدُود الله بل تتبع أهواءها في ذلك، فقال: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)) . فنَهَى عن العدوان؛ لأن ذلك أمر بالتقوى، والله مع المتقين كما قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)) . وإذا كان الله معهم نَصَرَهم وأَيَّدَهم على عدُوِّهم فالأمر بذلك أيسر، كما يَحْصُل مقصود الجهاد به. وأيضًا فإنه في أول الآية قال: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، وفي آخرها قال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)) فدل ذلك على ما رواه أبو أيوب من [أنَّ] إمساك المال والبخل عن إنفاقِهِ في سبيل الله والاشتغال به هو التهلكة.   (1) سورة البقرة: 190-195. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 وأيضًا فإنَّ أبا أيوب أخبر بنزول الآية في ذلك؛ لم يتكلَّم فيها برأيه، وهذا من ثابت روايته عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو حجَّة يجب اتباعها. وأيضًا فإن التهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فِعْل ما نَهَى الله عنه. فإذا ترك العباد الذي أُمِرُوا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه من عِمَارة الدنيا، هلكوا في دنياهم بالذلّ وقَهْرِ العدو لهم، واستيلائه على نفوسهم وذراريهم وأموالهم، وردِّه لهم عن دينهم، وعجْزِهم حينئذ عن العمل بالدِّين. بل وعن عِمَارة الدنيا وفُتور هممهم عن الدين، بل وفساد عقائدهم فيه. قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)) (1) . إلى غير ذلك من المفاسد الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة. فإن كل أمة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكًا عظيمًا باستيلاء العدو عليها وتَسَلُّطه على النفوس والأموال. وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يُشاهده الناس، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار. وأما المؤمن المجاهد فهو كما قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)) (2) . فأخبر أن المؤمن لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين: إما النصر والظَّفَر وإما   (1) سورة البقرة: 217. (2) سورة التوبة: 52. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 الشهادة والجنة، فالمؤمن المجاهد إن حَيِيَ [حَيِيَ] حياة طيبة، وإن قُتِلَ فما عند الله خير للأبرار. وأيضًا فإن الله قال في كتابه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ) (1) . وقال في كتابه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)) (2) . فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد إنه ميت. قال العلماء: وخُصَّ الشهيد بذلك؛ لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت فَيَفِرّ عن الجهاد خوفًا من الموت. وأخبر الله أنه حيّ مَرْزُوق؛ وهذا الوصف يوجَدُ أيضًا لغير الشهيد من النبيين والصدِّيقين وغيرهم، لكن خُصَّ الشهيد بالنهي لئلا يَنْكُل عن الجهاد لفرار النُّفُوس من الموت. فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميِّتًا واعتقاده ميتًا؛ لئلا يكون ذلك مُنَفِّرًا عن الجهاد فكيف يسمى الشهادة تهلكة؟ واسمُ الهلاك أعظم تنفيرًا من اسم الموت. فمن قال: قوله (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) يُراد به الشهادة في سبيل الله، فقد افترى على الله بهتانًا عظيمًا. وهذا الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنِّه أنه يُقتل قسمان: أحدهما: أن يكون هو الطالب للعدو. فهذا الذي ذكرناه. والثاني: أن يكون العدو قد طلبه، وقتاله قتال اضطرار. فهذا أولى وأوكد. ويكون قتال هذا إمَّا دفعًا عن نفسه وماله وأهله ودينه،   (1) سورة البقرة: 154. (2) سورة آل عمران: 169. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "مَن قُتِلَ دونَ مالِه فهو شهيد، ومَن قُتل دون دمِه فهو شهيد، ومَن قُتل دون حرمته فهو شهيد". قال الترمذي: [حديث حسن صحيح. و] (2) يكون قتاله دفعًا للأمر عن نفسه أو عن حرمته، وإن غلب على ظنه أنه يُقْتَل، إذا كان القتال يُحَصِّل المقصود، وإمَّا فعلا لما يَقْدر عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت وأصحابه. ومن هذا الباب : الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر؛ فإن هذا بمنزلة الذي يُقاتِله العدو حتى يُقتَل ولا يستأسِر لهم، والذي يتكلم بالكفر بلسانه [وهو] موقنٌ من قلبه بالإيمان بمنزلة المستأسِر للعدو. فإن كان هو الآمر النَّاهي ابتداء كَان بمنزلة المجاهد ابتداء. فإذا كان الأول أَعَزَّ الإيمان وأَذَلَّ الكفر كان هو الأفضل. وقد يكون واجبًا إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب وغلبة الكفر عليها وهي الفتنة، فإنَّ الفتنة أشدُّ من القتل. فإذا كان بترك القتل يحصل من الكفر ما لا يحصل بالقتل، وبالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه= تَرَجَّح القتل واجبًا تارةً ومُستحبًّا أُخرى. وكثيرًا ما يكون ذلك تخويفًا به فيجب الصبر على ذلك. قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ   (1) أخرجه أحمد (1/190) وأبو داود (4772) والترمذي (1421) والنسائي (7/116) عن سعيد بن زيد. (2) زيادة ليستقيم السياق. فقول الترمذي هو الحكم على الحديث فقط، وما بعده من كلام المؤلف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)) (1) . فأخبر أن الكافرين لا يزالون يُقاتِلون المؤمنين حتى يردُّوهم عن دينهم. وأخبر أنَّه من ارتدَّ فمات كافرًا خالدًا في النار. ومن هذا ما ذكره الله عن عباده المؤمنين في كتابه، كما قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)) إلى قوله: (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (2) . وقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)) (3) . وقال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)) (4) .   (1) سورة البقرة: 217. (2) سورة غافر: 26-28. (3) سورة الأعراف: 127-128. (4) سورة البقرة: 87. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (1) . وقال تعالى: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)) (2) . وقال تعالى: (وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) إلى قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)) (3) . وقال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)) إلى قوله: (مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)) (4) . وقد روى مسلم في "صحيحه" (5) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صُهيب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كان مَلِك فِيمَنْ كان قَبْلَكُمْ، وكان له سَاحِرٌ، فلمَّا كَبِرَ قال للمَلِكِ: إنِّي قد كَبِرْتُ، فابْعَثْ إليَّ غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فبَعَثَ إليه غُلامًا يُعَلِّمُه. وكان في طريقِه إذا سَلَكَ راهِب، فقَعَدَ إليه وسَمِعَ كلامَه. فكان إذا أتَى السَّاحرَ مَرَّ بالرَّاهِبِ وقَعَدَ   (1) سورة آل عمران: 21. (2) سورة البقرة: 61. (3) سورة آل عمران: 110-112. (4) سورة البروج: 4-7. (5) برقم (3005) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 إليه، فإذا أتَى السَّاحِرَ ضَرَبَه، فشَكَا ذلك إلى الرَّاهِب، فقال: إذا خِفت السَّاحرَ فقُل: حَبَسَني أَهْلِي، فإذا خِفْتَ أهلَك فقل حَبَسَني السَّاحرُ. فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابَّةٍ عظيمةٍ قد حَبَسَت الناس، فقال: اليومَ أَعْلَمُ الساحرُ أفضلُ أم الرَّاهِبُ أفضلُ؟ فأخذ حجرًا، فقال: اللهمَّ إنْ كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك مِن أمرِ الساحرِ فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها وقتلها، ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أيْ بُنَيَّ أنتَ اليومَ أفضلُ مِني، وقد بَلَغَ مِن أَمرِكَ ما أَرَى، وإنَّكَ ستبتَلَى فإن ابتُليتَ فلا تَدُلَّ عليَّ. وكان الغلام يُبْرِىءُ الأكمهَ والأبرصَ ويُداوي الناس [مِنْ] سائرِ الأدواءِ. وأصبح جليسُ الملك كان قد عَمِيَ فأتَاهُ بِهَدايا كثيرةٍ. فقال: ما ههنا لك إن أنتَ شَفَيْتَنِي. قال: إنِّي لا أَشفي أحدًا إنَّما يَشْفِي الله عز وجل، فإنْ آمنتَ باللهِ دَعَوتُ الله فشفاكَ، فآمنَ بالله فشفاهُ اللهُ عزَّ وجلّ. فأتى المَلَكَ فجلسَ إليه كما كان يجلسُ. فقال له الملك: مَن رَدَّ عليكَ بَصَرَكَ؟ قال: ربي. قال: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قال: ربِّي وربُّكَ الله. فأخذه فلم يزل يعذِّبُه حتى دَلَّ على الغلامِ، فجيءَ بالغلامِ، فقال له الملك: أيْ بُنَيَّ قد بَلَغَ مِن سحرِك ما تُبْرىءُ الأكمَهَ والأبرصَ، وتَفْعَلُ وتَفْعَلُ. قال: فقال إني لا أشفي أحدًا، وإنما يَشفي الله عزَّ وجلّ. فأخذه فلم يزل يعذِّبُه حتى دَلَّ على الراهب. فجيءَ بالراهب؛ فقال له: ارجعْ عن دينكَ؛ فأبَى. فدعا بالمِنْشَارِ؛ فوَضَعَ المِنْشَارَ في مَفْرِقِ رأَسِه، فشَقَّه حَتَّى وقَعَ شِقَّاهُ. ثم جيءَ بجليسِ الملكِ فقيل له: ارجع عن دينكَ؛ فأبي. فوضع المنشار في مِفْرِقِ رأسِه، فشقَّه به حتى وقعَ شِقَّاهُ. ثم جيء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبي. فدفعَه إلى نَفَرٍ من أصحابه. فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به إلى الجبل فإذا بلغَتم ذِرْوَتَه فإنْ رَجَعَ عن دينه وإلا فاطْرَحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهمَّ اكفنيهم بما شئتَ. فرَجَفَ بهم الجبلُ فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملكِ. فقال له الملكُ: ما فعل أصحابُكَ؟ قال: كفانيهِمُ اللهُ. فدفعَه إلى نفير آخر من أصحابِه فقال: اذهبوا به فاجعلوه في قُرْقُورٍ، ثم توسَّطوا البحرَ فإذا رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهمَّ اكفنيهِمْ بما شئتَ. فانكفَأَتْ بهم السَّفينةُ، فغرِقوا، وجاء يمشي إلى الملكِ، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهمُ اللهُ. فقال: إنَّك لستَ بقاتلي حتى تفعلَ ما آمرُكَ به. فقال: ما هو؟ قال: إنك تجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وتَصلُبُني على جذْعٍ، ثم خذْ سَهْمًا مِن كِنَانَتِي، ثم ضَع السَّهْمَ في كَبدِ القوسِ، ثم قَل: باسمِ اللهِ ربِّ الغُلامِ، ثم ارْم، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصلبَه على جِذْع، ثم أَخَذَ سَهْمًا مِن كِنانتِه، ثم وَضَعَ السَّهْمَ في كبد القوسِ. ثمِ قال: باسمِ الله ربِّ الغلامِ، ثم رماه فوقَع السهم في صُدْغِه، فوَضعَ يده في صُدْغِه، فمات. فقال الناسِ: آمنَّا بربِّ الغُلامِ. فأُتيَ الملكُ، فقيل له: أرأيتَ ما كنتَ تَحْذرُ، قد والله نَزَلَ بك حَذَرُكَ؛ قد آمنَ الناسُ. فأَمَرَ بالأخدُودِ بأفواهِ السِّكَكِ فخُدَّتْ، وأضرمت فيها النيران، وقال: مَن لم يرجع عن دينه فأَقْحِموه فيها أو قيل له: اقْتَحِمْ. ففعلوا، حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها فتَقَاعَستْ. فقال لها الغلام: يا أُمَّهْ اصبِرِي فإنَّكِ على الحَقِّ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 ففي هذا الحديث أنه قُتِل جليس الملك والراهب بالمناشير، ولم يرجعَا عن الإيمان. وكذلك أهل الأخدود صبروا على التَّحريق بالنار وَلم يَرْجِعوا عن الإيمان. وأما الغلام فإنه أَمَرَ بقتل نفسِه لما عَلِمَ أنَّ ذلك يُوجِبُ ظُهُورَ الإيمان في النَّاس، والذي يصبر [حتى] يُقْتَل أو يَحْمِل حتى يُقْتَل لأنَّ في ذلك ظهورَ الإيمان= من هذا الباب. وفي صحيحِ البخاري (1) عن قيس بن أبي حازم عن خَبَّاب بن الأرَتِّ قال: شَكوْنَا إلى رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له فيَ ظِلِّ الكعبةِ. فقلنا: أَلا تَسْتنصِرُ لنا؟ أَلا تَدْعُو لنا؟ فقال: قد كان مَن قبلَكم يُؤخَذ الِرَّجل، فيُحْفَر له في الأرض، فيُجعَل فيها، ثم يؤتى بالمِنْشارِ، فيُوضعُ على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمْشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دون لَحْمِهِ وعَظْمِه، [وما] يَصُدُّه ذلك عن دينه. والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمرَ حتى يسيرِ الرَّاكِبُ مِن صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يَخافُ إلا الله أو الذِّئِبَ على غنَمِه، ولكنَّكم تستعجِلُونَ". وفي رواية (2) : أَتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِل الكعبةِ وقد لَقِيْنا مِن المشركينَ شِدَّةً، فقلتُ: أَلاَ تَدْعُو اللهَ. فقَعَدَ وهو مُحْمَرٌّ وجهُه فقال: "لقد كان مَن قبلَكم يُمْشَطُ بأمشاطِ الحديد". والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّما قال لهم ذلك آمرًا لهم بالصَّبر على أذى الكفَّار، وإن بَلَغُوا بهم إلى حدّ القتل صَبْرًا، كما قَتَلوا المؤمنين صَبْرًا؛   (1) برقم (3612) . (2) عند البخاري (3852) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 ومَدْحًا لِمَن يصبِر على الإيمان حتى يُقْتَل. (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تمت بعونه تعالى في 25 محرم 1319) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 مسألة في المرابطة بالثغور أفضلُ أم المجاورة بمكة؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرَّفها الله تعالى؟ الجواب الحمد لله. المُرابَطَة في ثُغور المسلمين -وهو المُقَام فيها بنيَّة الجهاد- أفضلُ من المجاوَرَة في الحرمين باتِّفاق أئمة المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. وليست هذه المسألة من المشكلات عند من يعرف دين الإسلام؛ ولكن لكثرة ظهور البدع في العبادات وفساد النِّيَّات في الأعمال الشَّرعيات صار يَخْفَى مثل هذه المسألة على كثير من الناس، حتى صاروا يُعَظِّمون الأماكنَ التي كان المسلمون يُعَظِّمونها لكونها ثُغُورًا ظانِّين أن تعظيمها لأمور مبتدعة في دين الإسلام، فاستبدلوا بشريعة الإسلام بدعًا ما أنزل الله بها من سلطان. فإنه يوجد في كلام السلف وحكاياتهم في ذِكْر غزة وعسقلان والإسكندرية وجبل لبنان وعكَّة وقزوين، ومن أمثال ذلك، ومن وجود الصالحين بها ما يُوجِبُ شرف هذه البقاع. وإنما كان ذلك لكونها كانت ثُغُور المسلمين، فكان صالِحُو المسلمين يتناوبونها لأجل المرابطة بها، لا لأجل الاعتزال عن الناس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 وسكنى الغِيْران والكُهُوف، أو نحو ذلك مما يظنّه الجهال أهل البدع والضلال. ثم إنَّ مِن هذه البقاع ما غَلَبَ عليه العدو، أو سَكَنَه أهل البدع والفُسَّاق؛ ففسد حالُ أهله، مثل ما جَرَى على لبنان ونحوه. وكون المكان ثغرًا هو مثل كونه دارَ الإسلام ودارَ الكفر مثل كون الرجل مؤمنًا وكافرًا، هو من الصِّفات التي تعرض وتزول، فقد كانت مكة -شرَّفها الله- أُم القرى قبلَ فتحها دارَ كُفْر وحَرْب تَجبُ الهجرة منها، ثم تَغَيّر هذا الحكم لمَّا فتِحَت. حتى قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) . "لا هِجْرَة بعد الفتح ولكن جهاد ونيَّة". وقد كان البيت المُقَدَّس بأيدي العدو تارة، وبأيدي المسلمين أخرى. فالثغور هي البلاد المتاخمة للعدو من المشركين وأهل الكتاب التي يُخِيفُ العدو أهلها ويُخيف (2) أهلها العدو، والمرابطة بها أفضل من المُجاورة بالحرمين باتفاق المسلمين. كيف والمرابطة بها فرض على المسلمين إمَّا على الأعيان وإما على الكفاية. وأما المجاورةُ فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل العلماء متنازعون هل هي مستحبَّة أم مكروهة؟ فاستحبها طائفة من العلماء من أصحاب مالك والشافعي، وكرهها آخرون كأبي حنيفة وغيره، قالوا: لأن المُقَام بها يُفْضي إلى الملْكِ لها، وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيَتَضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهل البلد.   (1) أخرجه البخاري (2783) ومسلم (1353) عن ابن عباس. (2) في الأصل: "يخيفوا"، والتصويب من الهامش. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 قالوا: وكان عمر يقول عَقِب المواسِم: يا أهل الشام شامكم، يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق [عراقكم] . ولأن المُقيم بها يفوتُه الحجّ التَّام والعمرة التَّامَّة؛ فإنَّ العلماء مُتَّفقون على أنه إنْ أنشأ سَفَرَ العمرة من دُوَيرة أهله كان هذا أفضل أنواع الحج والعمرة. وهم متفقون على أنه أفضل من التَّمَتعُّ والقِران ومن الإفْرَاد الذي يعتمر عقب الحَجّ. وأما ما يظنه بعض الناس من أن الخروج بأهل مكة في رمضان أو غيره إلى الحلِّ للاعتمار؛ وهو المراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "عمرة في رمضان تَعدِلُ حَجَّةً مَعِي"، حتى صار المُجاوِرُون وغيرهم يُحافِظُون على الاعتمار من أَدْنَى الحِل أو أقصاهُ، كاعتمارهم من التَّنعيم التي بها المساجد التي يقال لها مساجد عائشة، أو من الحديبية والجعرانة= فكلُّ ذلك غلط عظيم، مُخالف للسنَّة النبويّة ولإجماع الصحابة. فإنه لم يعتمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أمثالهم من مكة قَطُّ، لا قبلَ الهجرة ولا بعدَها، بل لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة إلاّ عائشة فقط، فإنها قَدِمَت مُتَمَتّعة، فحَاضَت، فمَنَعَها الحيض من الطَّواف قبل الوقوف بعرفة، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُعمرها بعد الحج (2) ، ثم بعد ذلك بُنيَت هذه المساجد التي هناك، وقيل لها: مساجد عائشة.   (1) أخرجه البخاري (1863) ومسلم (1256) عن ابن عباس. (2) أخرجه البخاري (1561 ومواضع أخرى) ومسلم (1211) عن عائشة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 وأما عمرة الحديبية فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ هو وأصحابه من ذي الحليفة، ثم حَلُّوا بالحديبية لمَّا صدهم المشركون عن البيت، فكانت الحديبية حِلَّهم لا ميقاتَ إحرامهم. وهذا متواتر يعلمُه عامَّة العلماء وخاصَّتُهم، وفي ذلك أنزل الله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) (1) الآيات باتفاق العلماء. وأما عمرة الجعرانة فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قاتل هوازن بوادي حنين الذي قال الله فيها: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شيئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)) (2) . وحاصر الطائف ونَصَبَ عليها بمنجنيق، ولم يفتحها، وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فلما قسَّمها دخل إلى مكة معتمرًا ثم خَرَجَ منها؛ لم يكن بمكة فَخَرَجَ منها إلى الحِلِّ ليعتمر كما يفعل ذلك من يفعله من أهل مكة. بل الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين لم يستحبوا لمن كان بمكة ذلك، بل رأوا أن طوافه بالبيت أفضل من خُرُوجه لأجل العمرة، بل كرهوا له ذلك، كما قد بَسَطْنا هذه المسألة في غير هذا الموضع (3) .   (1) سورة البقرة: 196. (2) سورة التوبة: 25-27. (3) انظر مجموع الفتاوى (26/248-301) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 والمقصود هنا أنَّ مِن العلماء مَن كَرِهَ المُجاورة بمكة لِمَا ذكر من الأسباب وغيرها، ولكن الجمهور يستحبونها في الجملة إذا وَقَعَت على الوجه المشروع الخالي عن المفسدة المكافئة للمصلحة أو الرَّاجِحة عليها. قال الإمام أحمد، وقد سُئل عن الجوار بمكة، فقال: وكيف لنا [به] ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّكِ لأحب البِقَاع إلى الله، وإنَّكِ لأحب إلي" (1) . وجابر جاوَرَ مكة، وابن عمر كان يُقيم بمكة. وقال أيضًا: ما أَسْهَل العِبادة بمكة، النَّظَرُ إلى البيت عِبَادة. واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عَدِيِّ بن الحمراء الزُّهْرِيِّ أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول، وهو واقف بالحَزْوَرَةِ في سوق مكة: "والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله، وأَحَبُّ أرضِ الله [إلى الله] ، ولولا أَنِّي أُخْرِجْتُ منكِ ما خَرَجْتُ" رواه الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والترمذي (2) ، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه أحمد (3) من حديث أبي هريرة أيضًا. وعن ابن عباس قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أَطْيَبَكِ مِن بلدٍ وَأَحَبَّكِ إلَيَّ، ولولا أنَّ قَومي أَخرجوني منك ما سَكَنْتُ غَيرَكِ". رواه الترمذي (4) ، وقال: حديث حسن صحيح غريب.   (1) سيأتي تخريجه. (2) أخرجه أحمد (4/305) والنسائي في الكبرى (4252) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108) والدارمي (2513) . (3) 4/305. (4) برقم (3926) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 قالوا: فإذا كانت أحبَّ البلاد إلى الله ورسوله، ولولا ما وَجَبَ عليه من الهجرة لما كان يسكن إلا إيَّاها، عُلِمَ أن المُقام بها أفضل إذا لم يُعارض ذلك مصلحة راجحة، كما كان في حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمهاجرين؛ فإن مُقامهم بالمدينة كان أفضل من مُقامهم بمكة لأجل الهجرة والجهاد، بل ذلك كان الواجب عليهم، وكان مُقامهم بمكة حرامًا حتى بعد الفتح، وإنما رَخَّصَ للمهاجر أن يُقيم فيها ثلاثًا. كما في الصحيحين (1) عن العَلاَءِ بن الحَضْرَمِيِّ أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للمهاجِر أن يقيم بمكة بعد قضاءِ نُسُكِهِ ثلاثًا. وكان المهاجرون يكرهون أن يكونوا بها، لكونهم هاجروا عنها وتَرَكُوها لله، حتى قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق عليه (2) ؛ لما عاد سعد بن أبي وقاص، وكان قد مَرِضَ بمكة في حجة الوَدَاع فقال: يا رسول [الله] ! أُخَلّف عن هجرتي، فقال: "لعلَّك أن تُخلَّفَ حتى يَنتَفِعَ بكَ أقوام، ويُضَرَّ بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولةَ" يَرْثي لَه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ماتَ بمكة. ولهذا لما مات عبد الله بن عمر بمكة أوصَى أن لا يُدْفَن في الحرم، بل يخرج إلى الحِلّ لأجل ذلك، لكنه كان يومًا شديد الحر، فخالفوا وصيته، وكان قد توفي عام قَدِمَ الحَجَّاج، فحاصَر ابن الزبير وقَتَلَه لما كان (3) من الفتنة بينه وبين عبد الملك بن مروان.   (1) البخاري (3933) ومسلم (1352) . (2) البخاري (1295) ومسلم (1628) عن سعد. (3) بعده في الأصل: "للناظرين" ومكانها الصحيح بعد ستة أسطر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 قالوا: ولأن في المجاورة بها من تحصيل العبادات وتضعيفها ما لا يكون في بلد آخر، فإن الطَّواف بالبيت لا يمكن إلا بمكة وهو من أفضل الأعمال، ولأن الصلاة بها تضاعف هي وغيرها من الأعمال. وقد قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)) (1) . رُوِيَ أنه ينزل على البيت في كل يومٍ مئةٌ وعشرون رحمة: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، [وعشرون للناظرين] (2) . ولهذا قال العلماء: إن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بالثّغر، مع قولهم: إنَّ المُرابَطة بالثغر أفضل وتضاعف السيئات فيه، وإذا كان المكان دَوَاعِي الخير فيه أَقْوَى، ودواعِي الشر فيه أضعف، كان المُقام فيه أفضلَ مما ليس كذلك. ولا نزاع بين المسلمين في أنه يُشرَعُ قصدُها لأجل العبادات المشروعة فيها، وأن ذلك واجب أو مُسْتَحب. وأما النِّزاع في المجاورة فلما فيه من تعارض للمصلحة والمفسدة كما تقدم. وحينئذٍ فمن كان مجاورته فيما يُكْثِرُ حسناته ويُقِلُّ سيئاته فمجاورته فيها أفضل من بلد لا يكون حاله فيه كذلك. ف أفضل البلاد في حق كل شخص حيث كان أبرّ وأتقى، وإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم. ولهذا لما كتب أبو الدّرداء إلى سلمان الفارسي، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد آخى بينهما، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق،   (1) سورة الحج: 26. (2) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (6/278) عن ابن عباس. وإسناده ضعيف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 فكتب إليه أبو الدرداء أنْ هَلُمَّ إلى الأرض المُقَدَّسة، فكتب إليه سلمان: إنَّ الأرض لا تُقَدِّس أحدًا؛ وإنما يُقَدِّس الرَّجلَ عَمَله الصالح (1) . ومقصوده بذلك أنه قد يكون بالأرض المَفْضولة من يكون عمله صالحًا أو أصلح بما يحبه الله ورسوله. وهذا مما يبين أن جنْس المُرابَطَة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين كما اتفق عليه الأئمة. فإذا كانت نية العبد في هذا خالصة، ونيته في هذا خالصة، ولم يكن ثَمَّ عملٌ مفضل يُفضَّلُ به أحدُهما، فالمرابطة أفضلُ؛ فإنها من جنس الجهاد، وتلك من جنس الحَجِّ، و جنس الجهاد أفضل من جنس الحج. ولهذا قال أبو هريرة: لأن أُرَابط ليلةً في سبيلِ الله أحبّ إلي من أنْ أقوم ليلة القدر عند الحَجَر الأسود. وفي لفظ رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2) عن عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: "رِبَاطُ يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أقومَ ليلة القدر في أحد المسجدين -مسجد الحرام ومسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - ومَن رابط أربعين يومًا في سبيل الله فقد استكمل الرِّباط". وقد قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً   (1) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/769) . وفي الأصل: "عمله صالحا". (2) 3: 2/193. ورواه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (5/280) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)) (1) . وفي صحيح مسلم (2) عن النعمان قال: كنت عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رجل: لا أُبالِي أن لا أَعْمَلَ عملاً بعدَ الإسلامِ إلا أن أَسْقِيَ الحاجَّ. وقال الآخر: إلا أن أَعْمُرَ المسجدَ الحرام. وقال آخر: الجهادُ في سبيل الله أفضلُ مِمَّا قلتم، فزَجَرَهم عمر بن الخطاب، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صَلَّيتُ الجمعةَ دخلتُ فاسْتَفْتَيْتُهُ فيما اخْتَلَفْتُم فيه، فأنزلَ اللهُ: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هو الآية. وعن عثمان بن عفان قال، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " [رِبَاطُ] يومٍ في سبيل الله خيرٌ من ألفِ يوم فيما سواهُ". رواه الإمام أحمد، والنسائي وهذا لفظه، والترمذي (3) وقال: حديثٌ حسن غريب من هذا الوجه، وأبو حاتم بن حبان البستي في "صحيحه" (4) . ولفظ الإمام أحمد (5) : عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال: سمعت   (1) سورة التوبة: 19-21. (2) برقم (1879) . (3) أخرجه أحمد (1/62، 65، 75) والنسائي (6/39، 40) والترمذي (1667) والدارمي (2429) وغيرهم. (4) برقم (4609) . (5) 1/75. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 عثمان يقول على المنبر: أيُّها الناس! إنِّي كَتَمْتكُم حديثًا سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كراهية تفرُّقكم عَنِّي، ثم بَدَا لي أن أحدِّثكم، ليَختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "رباط يومٍ في سبيلِ اللهِ خير من ألفِ يومٍ فيما سواهُ من المَنَازِل". فقد بيّن لهم عثمان هذا الحديث مع كونهم كانوا مقيمين عنده بالمدينة النبوية؛ مُصَلّين في المسجد الذي قال فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ من المساجد إلاَّ المسجد الحرامَ" (1) . ودلَّ ذلك على أن تضعيف الصلاة لا يقاوم تضعيف اليوم الذي يعمُّ جميع الأعمال، فإن الجهاد يقاوم ما لا يمكن المُداومة عليه من صيام وقيام. كما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله! ما يَعْدِلُ الجهادَ في سبيلِ الله؟ قال: "لا تَسْتَطيعون". قال: فأعادوا عليه مرَّتينِ أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: "لا تَستطيعون". قال في الثالثة: "مَثَلُ المجاهدِ في سبيلِ الله كمَثَلِ الصائمِ القائمِ القانتِ بآيات الله لا يَفتُرُ من صيامٍ ولا صلاةٍ حتى يَرْجعَ المجاهدُ في سبيلِ اللهِ". هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري (3) : جاءَ رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: دُلَّني على   (1) أخرجه البخاري (1190) ومسلم (1394) عن أبي هريرة. (2) البخاري (2785) ومسلم (1878) . (3) الموضع المذكور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 عملٍ يَعْدِلُ الجهاد؟ قال: لا أَجِدُهُ. قال: "هل تستطيعُ إذا خَرَجَ المجاهدُ أن تَدْخُلَ مسجدَك فتَقُومَ لا تَفْتُرَ، وتصومَ لا تُفْطِرَ؟ " قال: ومَن يستطيعُ ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فَرَسَ المجاهد لَيَسْتَنُّ في طِوَلهِ فيُكْتَبُ له حسناتٍ. وفي الصحيحين (1) عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أَيُّ الناسِ أفضلُ؟ فقال: "رجل مجاهد في سبيل الله بمالِه ونفسِه". قال: ثم من؟ قال: "ثُمَّ رجل مُعْتَزِل في شِعْبٍ مِن الشِّعابِ يَعْبُدُ ربَّه، ويَدَعُ الناس مِن شَرِّه". لفظُ مسلمٍ. وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بفضل الجهاد على الحجّ، كما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمانُ بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيلِ الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حَج مبرور". وفي الصحيحين (3) أيضًا عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: "الإيمانُ بالله، والجهاد في سبيلِه". فهذا موافق ما دلّ عليه القرآن من تفضيل الجهاد على الحَجّ. وقد رُوِيَ: "غزوة لا قتالَ فيها أفضل مِن سبعين حجّة". وهذا لا يناقض ما في الصحيحين (4) عن ابن مسعود قال سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) البخاري (2786) ومسلم (1888) . (2) البخاري (26، 1519) ومسلم (83) . (3) البخاري (2518) ومسلم (84) . (4) البخاري (527) ومواضع أخرى ومسلم (85) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاةُ لِوَقْتِها". قلت: ثم أي؟ قال: "بِرُّ الوالدينِ". قلت: ثم أي العمل أفضل؟ قال: "الجهادُ في سبيلِ الله". حدَّثني بهنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو استزدته لزادني. فإنَّ هذا الحديث أيضًا يدلُّ على فضل الجهاد على الحجّ وغيره. وأما الصلاة فإنها قد تدخل في مُسَمَّى الإيمان. كما في قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (1) قال البراء بن عازب وغيره (2) : صلاتكم إلى بيتِ المقدِس، إذ هي بمنزلة الشهادتين في أنها لا تسقط بحال، ولا ينوبُ فيها أحد عن أحدٍ، ويدخل بها في الإيمان، وقد جاءت النصوص بإطلاق الكفر على تاركها. ثم في صحيح مسلم (3) عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس بين العبدِ وبين الكفر والشرك إلا ترْكُ الصلاةِ". وفي السنن عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي (4) ، وقال: حديثٌ حسن صحيح غريب. أطلق الكفر على جاحِد الصلاة (5) .   (1) سورة البقرة: 143. (2) انظر تفسير ابن كثير (1/427) . (3) برقم (82) . (4) أخرجه أحمد (5/346، 355) والترمذي (2621) والنسائي (1/231) وابن ماجه (1079) . (5) هذه الجملة جاءت في الأصل بعد آية (وَقَضَى رَبُّكَ .... ) ، ومكانها هنا. والجحود: إنكار الشيء مع العلم به، والمقصود هنا ترك الصلاة مع العلم بفرضيته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 وفي الترمذي (1) عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب محمد لا يَعُدُّون شيئًا مِن الأعمالِ تَرْكُه كفرٌ إلا الصلاة. وفي البخاري (2) أن عمر بن الخطاب لما طُعِنَ وأُغْمِيَ عليه، قيل: الصلاة! فقال: "نعم، ولا حظَّ في الإسلام لِمَن تَرَكَ الصلاة". وعن غير واحد من الصحابة والتابعين أنهم ذكروا أن من ترك الصلاة فقد كفر. فهذه الخاصية التي للصلاة تقتضي أن تدخل في قوله: "إيمانٌ باللهِ، وجهاد في سبيله، ثم حج مبرور". وكذلك برّ الوالدين قد قُرِنَ حَقّهما بحقِّ الله، في مثل قوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (3) ، وفي قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (4) . وكما في الصحيحين الحديث: "كُفْرٌ بالتهِ: تَبَرٌّؤ مِن نَسَب وإن دَق، ومن ادعَى إلى غير أبيهِ فقد كفر، ولا تَرْغَبوا عن آبائِكًم، فإنه كفرٌ بكم أن تَرْغَبوا عن آبائكم" (5) .   (1) برقم (2622) . ووصله الحاكم في "المستدرك" (1/7) عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال. (2) لم أجده عنده. وقد أخرجه مالك في "الموطأ" (1/39-40) عن المسور ابن مخرمة عن عمر. (3) سورة لقمان: 14. (4) سورة الإسراء: 23. (5) هذه مجموعة أحاديث ذكرها المؤلف في سياق واحد، أخرج بعضها أحمد (2/215) وابن ماجه (2744) عن عبد الله بن عمرو، والبخاري (3508) = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 وإن كان كذلك فيمكن أن يقال: إنّ هذا دخل في مسمَّى الإيمان أيضًا، أو يقال: بر الوالدين إنما يجب على من له والدان، فذكرهما في حديث ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود كان له والدة؛ فكان ذلك حُكْم مَن حاله كحاله. وأما حيث لم يذكرهما فذكر ما يعمُّ من الأعمال؛ فيدخل فيه من ليس له أبوان. ثم الجهاد إذا صار فَرْضَ عين كان أَوْكَد من مُطْلَق بر الوالدين، فيجاهد في هذه الحال بدون إذنهما، وإن كان عليه أن يقوم بما يجب عليه من برهما المُتَعيّن عليه، وإن كان لا يجاهد إذا لم يتعيَّن عليه إلا بإذنهما. وأما الصلاة فإذا تعارضَت هي والجهاد المتعيّن فإنه يُفعَل كلاهما بحسب الإمكان، كما في حالة الخَوْف الخَفيف والخوف الشَّديد. قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) (1) . قال تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا..) إلى قوله: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ   = عن أبي ذر، والبخاري (6830) عن ابن عباس، والبخاري (6768) ومسلم (62) عن أبي هريرة. (1) سورة البقرة: 238-239. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)) (1) . فقد أَمَرَ اللهُ بالجمع بين الواجبين -الصلاة والجهاد- لكنه خفف الصلاة في الخوف من صلاة الأمن؛ بإسقاط أُمور تجب في الأمن، وإباحة أفعال لا تُفْعَل في الأمن. وصلاة الخوف قد استفاضت بها السنن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكرها الأئمة كلهم، وقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلاَّها على وجُوه متعددة. وأما حال المُسايفة فللفقهاء ثلاثة أقوال: أحدها: وهو قول الجمهور، أنهم يُصَلُّون بحسب حالهم مع المُقابلة؛ وهذا مذهب الشافعي وغيره وظاهر مذهب أحمد. والثاني: أنهم يُؤخرون الصلاة؛ وهو قول أبي حنيفة. والثالث: أنهم يُخَيرون بين الأمرين وهو أحد الروايتين عن أحمد. وقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) هو مع ما قد ثبتَ في الصحيح (2) عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال عام الخندق: "شَغَلُونا عن الصلاةِ الوُسْطَى   (1) سورة النساء: 101-103. (2) البخاري (2931، 4111، 4533، 6396) ومسلم (627) عن علي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 صلاةِ العصرِ حتى غربت الشمس، مَلأَ الله أجوافَهم وقبورَهم نارًا"؛ قد احْتُجَّ به وبغيره على أن تأخير الصلاة في حال الخوف منسوخ بهذه الآية. وأجابوا بذلك عمَّا احتج به من جوَّز الأمرين من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق عليه (1) عن ابن عمر أنه قال: "لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصرَ إلا في بَني قُريظةَ"، فصَلَّى قومٌ في الطريق وقالوا: لم يرِد مِنَّا تَفْويت الصلاة، وأَخَّر قوم الصلاة حتى وصلوا إلى بني قُريظة، وقد فاتتهم الصلاة، فلَمْ يُعَنِّف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدةً من الطائفتين. فهذا الحديث حُجَّة في جواز الأمرين، لكن قال أولئك: [إنه] منسوخ بالآية. فقد تبين أن الصلاة لما كانت أَوْكَد من الجهاد؛ فإنها عند مُزاحمة الجهاد لها أخفُّ، حتى لا تفوت مَصْلحة الجهاد، وقد يحصلُ من الفساد بترك الجهاد وقتَ الضرورة ما لا يُمكن تَلافيه. وهذا أيضًا كالحج وإن كان دون الصلاة باتفاق المسلمين. فإذا تضيق وقته وازدحم هو والمقصود، مثل أن يكون ليلة النحر وهي ليلة عرفة ذاهبَا إلى عرفة؛ فإنْ صَلَّى صلاة مُسْتَقِر فاتَهُ الوقوف، وإنْ سارَ ليُدْرِك عرفة قبل طوع الفجر فاتته الصلاة. فللفقهاء ثلاثة أقوال: قيل: يُقدِّم الوقوفَ؛ لأن عليه من تفويت الحج ضررًا عظيمًا. وقيل: بل يُقدِّم الصلاةَ لأنها أوكد.   (1) البخاري (946، 4119) . وعند مسلم (1770) "الظهر" بدل العصر. وانظر كلام الحافظ عليه في "الفتح" (7/408، 409) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 وقيل: بل يأتي بهما جميعًا، فيُصَلي بحسب الإمكان صلاة لا تُفَوّته الوقوف. وهذا أَعْدَلُ الأقوال، وهو قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما. والعلماء مُتفقون على أن الخائف المَطْلوب يُصلي صلاة خائف. فأما الطالب فتنازعوا فيه، وفيه عن أحمد روايتان: إحداهما أنه يُصلِّي أيضًا صلاة الخوف. كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن كأبي داود (1) عن عبد الله بن أنيس قال: بَعَثَني رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خالدِ بن سفيانَ الهُذَليَ، وكان نحوَ عُرَنَةَ وعرفاتٍ، فقال: اذهب فاقْتُلْه. قال: فرأيتُه وحَضَرَت الصلاةُ صلاةُ العصرِ فقلتُ: إني أخافُ أن يكون بيني وبينَه ما إن أُؤَخر الصلاةَ. فانطلقْتُ أَمْشِي وأنا أُصلي أُومِىءُ إيماءً نحوَه. فلما دنوتُ منه قال لي: مَن أنت؟ قلت: رجل مِن العرب بلغنيِ أنَّكَ تَجْمَعُ لهذا الرجلِ، فجئتك في ذاكَ، قال: إني لَفِي ذاكَ. فمَشَيتُ معه ساعةً، حتى إذا أَمكَنَني عَلَوتُه بسيفي حتى بَرَدَ. ومن قال هذا القول راعَى أن مصلحة الجهاد مأمور بها أيضًا، فلا يمكن تفويت إحداهما، وإن لم يكن من تفويت الجهاد في هذا الوقت مفسدة ظاهرة كما أنه ليس في تأخير الصلاة مفسدة ظاهرة. ولو كان تكميل الصلاة مُقَدَّمًا على الجهاد لكان ينبغي أن يترك الجهاد إذا علم أنه لابد فيه من تحقيق الصلاة.   (1) أخرجه أحمد (3/496) وأبو داود (1249) وابن خزيمة (982، 983) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 فلما ثبت بالسنة المتواترة أن الجهاد يفضل مع العلم بأنه يقصر فيه الصلاة بقَصْرِ العمل الذي هو قصر العدد فإنَّ قَصْر العدد سُنَّة السَّفَر، وأما قَصْر العمل فسنة الخوف. ولهذا إذا اجتمع الأمران شُرِع القَصْر المُطلق، كما في قوله: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (1) . والآية على ظاهرها؛ فإن القَصْر المطلق المتضمن لِقصر العدد وقصر العمل إنما يكون مع الأمرين. وقد بيَّنَت السنة أن مجرد الخوف يُفيدُ قصر العمل، ومجرد السفر يفيد قَصْر العدد. فهذا كله مما يبين أن الصلاة وإن كانت أفضل الأعمال فإنها إذا اجتمعت مع الجهاد لم يترك واحد منهما، بل يُصَفَى بحسب الإمكان مع تحصيل مصلحة الجهاد بحسب الإمكان. وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)) (2) . فأمر بالثبات والذكر معاً. وكانت السنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه وأصحابه وخلفاء بني أمية وكثير من خلفاء بني العباس أنَّ أمير الحرب هو أمير الصلاة في المقام والسفر جميعًا. وما ذكرناه يبين بعض حِكمة كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمهاجرين كان مقامهم بالمدينة أفضل على أحد قولي العلماء؛ فإنهم كانوا بها مهاجرين   (1) سورة النساء: 101. (2) سورة الأنفال: 45. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 مجاهدين مُرابطين بخلاف مكة. وهذا حيث كان الإنسان كذلك كان أفضل من المقام بالحرمين، حتى إنَّ مالكًا رضي الله عنه -مع فرط تعظيمه المدينة وتفضيله لها على مكة وكراهية الانتقال منها- لما سئل عمَّن بدار وهو مقيم بالمدينة يأتي الثُّغور كالإسكندرية وغيره، أجاب: بأن عليه أن يأتي الثغور؛ لأن المرابطة بالثغور أفضل من مُقامِهِ بالمدينة. وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرِّبَاط، وكان هذا على عهد أبي بكر وعثمان أكثر، حتى كان عبد الله بن (1) وغيره مُرابطين. وكان عمر مَنْ يسأله عن أفضل الأعمال إنما يَدُلُّه على الرباط والجهاد، كما سأله عن ذلك من سأله، كالحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأمثالهم، ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية وبني العباس. ولهذا يُذْكَرُ من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أُمُور كثيرة. وكانوا على طريقتين: إحداهما: أن يُرابط كل قوم بأقرب الثُّغور إليهم، ويقاتلون من يليهم. كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) (2) . وهذا اختيار أكثر العلماء كالإمام أحمد وغيره، ولهذا كان أصحاب   (1) كذا في الأصل بدون ذكر الأب. (2) سورة التوبة: 123. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 مالك كابن القاسم ونحوه يرابط (1) بالثغور المصرية. والطريقة الثانية: يجوزون الرباط بثغور الشام ونحوها بما فيه قتال النصارى. فكان عبد الله بن المبارك يَقْدَم من خُراسان فيُرابط بثغور الشام، وكذلك إبراهيم بن أدهم ونحوهما، كما كان يُرابِطُ بها مشايخ الشام كالأوزاعي وحذيفة المرعَشي ويوسف بن أسباط وأبي إسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين وأمثالهم. وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان، وبقيت تحت حكمهم أكثر من ثلاثمائة سنة. وكانت "سِيْس" ثغر المسلمين، و"طَرَسُوس" كانت من أسماء الثغور، ولهذا تُذْكَر في كتب الفقه المُصَئفة في ذلك الوقت، وتولى قضاءها أبو عبيد الإمام وصالح بن أحمد بن حنبل وغيرهما. وكان ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون: إذا اختلف الناسُ في شيء فانظروا ما عليه أهل الثَّغْر، فإن الحق معهم؛ لأن الله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (2) . وبالجملة إن السَّكَن بالثغور والرِّباط والاعتناء به أمر عظيم، وكانت الثغور معمورة بخيار المسلمين علمًا وعملاً، وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحب التبتل للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلُّونه على الثغور.   (1) كذا في الأصل بصيغة الإفراد. (2) سورة العنكبوت: 69. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 وإنما اختار من اختار الرباط بثغور النصارى للحديث الذي في سنن أبي داود (1) عن ثابت بن قيس قال: جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقال لها أُمُّ خَلاَّد وهي منتَقِبَةٌ تَسْأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جئْتِ تَسْألين عن ابنك وأنتِ منتقبةٌ! فقالت: [إن] أُرْزَأْ ابني فلنَ أُرْزَأَ حيائِي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ابنُكِ له أَجْرُ شَهيدينِ". قالت: ولِمَ ذاكَ؟ قال: "لأنه قَتَلَه أهلُ الكتاب". وهذا بعض [الأخبار التي] تبين فضيلة سُكْنَى الشام؛ فإن أهل الشام ما زالوا مُرَابطين من أوَّل الإسلام لمُجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين مجاهدين لأهل الكتاب. ولهذا فضَّل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُنْدَهم على جُنْد اليمن والعراق؛ مع ما قاله في أهل اليمن (2) . ففي سنن أبي داود وغيره (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنكم ستُجَنَّدون أَجنادًا؛ جُندًا بالشام وجُندًا باليَمَنِ وجُندًا بالعراقِ"، قال: فقلت يا رسول الله! خِرْ لِي، فقال: "عليكَ بالشامِ، فإنها خِيرةُ الله مِن أَرْضِه، يَجْتَبِي إليها خِيرتَه مِن عبادِه، فمن أبي فليلحق بيمنه، وليسق من غُدُره فإن الله قد تكفَّل لي بالشامِ وأهلِه". قال الحوالي: ومن يتكفل الله به فلا ضيعةَ عليه.   (1) برقم (2488) . (2) أخرجه البخاري (4388) ومسلم (52) عن أبي هريرة. (3) أخرجه أحمد (4/110، 5/33، 288) وأبو داود (2483) عن عبد الله بن حوالة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وفي سنن أبي داود (1) أيضًا عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنه سَتكونُ هِجْرةٌ بعدَ هِجرةٍ، فخِيارُ أهلِ الأرضِ ألزَمُهم مُهاجَرَ إبراهيم، ويَبقى في الأرض شرَارُ أهلِها تَلفِظُهم أَرضوهُم، تَقْذَرُهم نفسُ الرحمن، تَحشُرُهم النارُ مع القِرَدة والخنازيرِ". وفي صحيح مسلم (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يزالُ أهل الغَرْب ظاهِرين". قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل الشام. يعني: ومن يغرب عنهم؛ فإن التَّغْريب والتشريقَ من الأمور النِّسبية، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكلَّم بذلك وهو بالمدينة النبوية، فما تغرب عنها فهو غَرْب المدينة، كما أن حران والرقَّة ونحوهما خلف مكة. والكلام في هذا ونحوه يطولُ ويَتَعَذَّر، بحيث لا تحتمله هذه الفتوى، لكن هذه الأمور المُتيسّرة تعود إلى أفضل الأحوال: الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص. وقد قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)) (3) . فالجهاد تحقيق كون المؤمن مؤمنًا؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّث   (1) برقم (2482) . (2) برقم (1925) . (3) سورة الحجرات: 15. (4) برقم (1910) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 نفسَه بالغزو مات على شُعْبة مِن نفاق". وذلك أن الجهاد فرضٌ على الكفاية، فيُخاطَب به جميع المؤمنين عمومًا، ثم إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. ولابد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمورٌ به، وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احْتِيجَ إليه، وهذا يتضمن تحديث نفسه بفعله. فمن مات ولم يغز أو لم يُحدِّث نفسه بالغزو نَقَصَ من إيمانه الواجب عليه بقَدْرِ ذلك؛ فمات على شُعبة نفاق. فإن قيل: فإذا كان الجهاد أفضل من الحجّ بالكتاب والسنة فما معنى الحديث الذي رَوَتْه عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول الله! أرى الجهادَ أفضلَ العملِ أفلا نُجاهِدُ؟ قال: "لَكُنَّ أفضلُ الجهادِ: حَجّ مبرورُ" رواه البخاري (1) ، ورواه النسائي (2) ، وفيه: ألا نخرج نُجاهِد مَعَك فإني لا أرى عملاً أفضل من الجهاد. قال: "لا، ولكن أَحْسَن الجهاد وأجمله حجُّ البيت حج مبرور". قيل: أفضل الجهاد للنساء حجّ مبرور. فأخبرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور. وكذلك جاء مُبَيّنًا، رواه النسائي (3) عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "جهادُ الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحجّ والعمرة". وفي حديث آخر (4) : "الحجُّ جهادُ كل   (1) برقم (1520) . (2) 5/114، 115. (3) 5/113. (4) أخرجه أحمد (6/294، 303، 314) وابن ماجه (2902) عن أمّ سلمة. وهو ضعيف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 ضعيف". وفي حديث آخر (1) : هل على النساء جهاد؟ قال: "جهاد لا قتالَ فيه: الحج والعمرة". سياقُ الحديث المُتَقَدِّم بيَّن ذلك، فإنها قالت: نَرَى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد معك؟ قال: "لَكُنَّ أفضل الجهاد: حجّ مبرور". فقد أقرَّها على قولها: "نرى الجهاد أفضل العمل"، ثم ذكر أن "أفضل الجهاد الحج المبرور". وفي اللفظ الآخر (2) : ألا نَخْرُج فنجاهِد معكَ فإنِّي لا أرى عملاً في القرآن أفضل مِن الجهاد؟ قال: "لَكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حجّ مبرور". فأقرها على قولها بفضل الجهاد، ثم لما استأذنته في الجهاد (3) المعروف قال: "لا، ولكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حج البيت"، وجعل فضلَه بكونه جهادا، ومعلوم بالحس أن الجهاد لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين؛ فعُلِمَ أنه أراد جهاد النساء، واللام للتعريف، ينصرفُ إلى ما يعرفه المُخَاطب. ومقصود الناقل هنا الجهاد الذي هو أفضل العمل له عند الله؛ فَبَيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الجهاد الذي هو مقصوده ومطلوبه هو الحجّ؛ فإن السائل ضعيف؛ والحج جهادُ كل ضعيف. وفي صحيح مسلم (4) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المؤمنُ القَوِيُّ خير وأَحَبُّ إلى   (1) أخرجه أحمد (6/165) وابن ماجه (2951) . (2) هذا لفظ رواية البخاري (1861) . (3) في الأصل: "الحج" وهو خطأ. (4) برقم (2664) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 الله من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كل خير، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واستَعِن باللهِ ولا تَعْجزْ، وإن أصابك شيءٌ فلا تَقُل لو أَنِّي فعلتُ كذا لكان كذا، ولكنَ قل: قَدَرُ اللهِ وما شاءَ فَعَلَ، فإنَّ لو تَفْتَحُ عملَ الشيطانِ". وقد جاء في فضائل الرِّباط أحاديث في الصحاح والسنن تُبيِّن ما ذكرناه: فرَوَى البخاري في صحيحه (1) عن سهل بن سعد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رِباطُ يومٍ في سبيلِ الله خير من الدنيا وما عليها". وفي صحيح مسلم (2) عن سلمان الفارسي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقِيامِهِ، وإن مات فيه جَرَى عليه [عَمَلُه] الذي كان يعملُه، وأُجْرِيَ عليه رزقُهُ، وأَمِنَ الفتَّان". وفي السنن (3) عن فضالة بن عبيد قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من ميت يموت إلا خُتِمَ عليه عملُه إلا من ماتَ مُرابطًا في سبيل الله، فإنه يَنمُو له عملُه إلى يومِ القيامةِ، ويُؤمَنُ مِن فتنةِ القبرِ" رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه والترمذي بمعناه. وزاد: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "المجاهد [مَنْ جاهَد] نفسه في طاعةِ الله" قال الترمذي: حسنٌ صحيح.   (1) برقم (2892) . (2) برقم (1913) . (3) أخرجه أحمد (6/20) وأبو داود (2500) والترمذي (1621) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 وقد تقدم حديث عثمان: "رباطُ يوم في سبيلِ الله خير مِن ألف يومٍ فيما سواه مِن المنازل". وقد جاء عن السلف آثار فيها ذكر الثُّغور مثل غزَّة وعسقلان والإسكندرية وقزوين ونحو ذلك. وأما الأحاديث المَرْوية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتعيين قزوين والإسكندرية ونحو ذلك فهي موضوعة كَذِب بلا ريب عند علماء الحديث (1) ، وإن كان ابن ماجه قد روى في سننه (2) الحديث الذي في فضل قزوين؛ وقد أنكر عليه العلماء ذلك، كما أنكروا عليه رواية أحاديث أخرى بضعة عشر حديثًا من الموضوعات؛ ولهذا نَقَصَت مرتبة كتابه عندهم عن مرتبة أبي داود والنسائي. وقد قدمنا كون البلد ثغرًا صِفة عارِضة لا لازمة؛ فلا يمكن فيه مدح مُؤَبَّد ولا ذَمّ مُؤَبَّد، إلا إذا عُلِمَ أنه لا يزال على تلك الصِّفة. وإذا تبين ما في الرِّباط من الفَضْل؛ فمن الضَّلال ما تجد عليه أقوامًا ممَّن غرضه التقرب إلى الله والعبادة له بما يحبه ويرضاه يكون في الشام أو ما يقاربها، فيسافر السفر الذي لا يُشْرَع بل يُكْرَه، ويترك ما هو مأمور به واجب أو مستحب. مثال ذلك أن قومًا يَقْصِدون التعريف بالبيت المقدس، فيقصدون زيارته في وقت الحجّ ليعرفوا به، ويَدَعو [نَ] المُقام بالثغور التي تُقاربه.   (1) انظر موضوعات ابن الجوزي (2/55) . (2) برقم (2780) عن أنس بن مالك. وفي إسناده داود بن المحبّر وضّاع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 وهذا في غاية الضلال والجهل والحِرمان من وجوه: أحدها: أن التعريف بالبيت المُقَدَّس ليس مشروعًا لا واجبًا ولا مستحبًّا بإجماع المسلمين، ومن اعتقد السفر إليه للتعريف قُرْبة فهو ضالٌّ باتفاق المسلمين، بل يُستتاب فإن تاب وإلا قُتِل، إذ ليس السفر مشروعًا للتعريف إلا للتعريف بعرفات. وأقبح من ذلك تعريفُ أقوام عند بعض قبور المشايخ والأنبياء وغير ذلك من المشاهد أو السفر لذلك، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين. بل تنازع السلف في تعريف الإنسان في مِصْره من غير سفر، مثل أن يذهب عشية عرفة إلى مسجد بلده فيدعو الله ويذكره، فكَرِهَ ذلك طوائف؛ منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما. ورخص فيه آخرون؛ منهم الإمام أحمد، قال: لأنه فعله ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حرب بالكوفة. ومع هذا فلم يستحبه أحمد، وكان هو نفسه لا يعرف ولا ينهى من عرف. وقد قيل عنه: إنه يستحب. وأما السفر للتعريف بغير عرفة فلا نزاع بين المسلمين أنه من الضلالات، لا سيما إذا كان بمشهد مثل قبر نبيّ (1) أو رجل صالح أو بعض أهل البيت، فإن السفر إلى ذلك لغير التعريف مَنْهِيٌّ عنه عند جمهور العلماء من الأئمة وأتباعهم. كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) : "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومسجدي هذا". وقد رأىَ بصرة بن أبي بصرة الغفاري أبا هريرة   (1) في الأصل: "قربى"!. (2) أخرجه البخاري (1189) ومسلم (1397) عن أبي هريرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 راجعًا من زيارة الطور فقال: لو رأيتك قبل أن تزوره لم تزرْه، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومسجدي هذا" (1) . [وقد] قال من قال من هؤلاء كأبي الوفاء ابن عقيل وغيره: إن المسافر لمجرد الزيارة لبعض المشاهد لا يقصر الصلاة لأنه عاص بسفره، وإنما رخَّص في هذا السفر طائفة من المتأخرين، ولكن الزيارة المشروعة إذا اجتاز الرجل بالقبور أو خرج إلى ما يُجاوره من القبور كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج إلى البقيع، وكما زار قبر أمه لما اجتاز بها في غزوة الفتح. وقد ثبت عنه في الصحيح (2) أنه قال: "استأْذَنْتُ ربِّي أن أزور قبر أمِّي؛ فأذِنَ لي، واستأذنته في أن أستغفرَ لها؛ فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة". وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهمِ: "السلامُ عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحِقُون، ويَرْحَمُ الله المُسْتَقْدِمينَ منا والمُستأخِرينَ، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرَهم ولا تفتنا بعدَهم" (3) . وقد رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال (4) : "ما مِن رجلٍ يَمُرُّ بقبرِ الرجلِ   (1) أخرجه النسائي (3/114) . (2) مسلم (976) عن أبي هريرة. (3) أخرجه مسلم (975) عن بريدة، و (974) عن عائشة، ما عدا الجزء الأخير، فقد روي ضمن الدعاء في الصلاة على الجنازة. (4) أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/234) عن ابن عباس، وصححه = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 كان يعرفه في الدنيا فيُسَلِّم عليه إلا رَدَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام". والزيارة المشروعة للمسلم: أن يُسَلَّم عليه ويُدعَى له، كما أن الصلاة مقصودها الدُّعاء له. ولهذا نهى الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأمرين في حقِّ المنافقين. كما قال تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (1) ، نهى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم؛ فكان في ذلك دلالة على أن المؤمنين يُصلَّى عليهم ويُقامُ على قبورهم. وقد قال طوائف من السلف والخلف: وهو القيام على قبورهم بالدعاء والاستغفار. فزيارة قبر المؤمن من نبي وغيره مقصودها التحية والدعاء له، فأما اتخاذ القبور مساجد أو الاشراك بها فذلك كله حرام بإجماع المسلمين. كما في الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "لَعَنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهمِ مساجد"؛ يُحذِّر ما صَنَعوا. قالت عائشة (3) : ولولا ذلك لأبْرِز قبره، ولكن كُرِهَ أن يتخَذَ مسجدًا.   = عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الصغرى" (1/345) و"الأحكام الوسطى" (2/152، 153) . (1) سورة التوبة: 84. (2) البخاري (435، 436 ومواضع أخرى (ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس. (3) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 وفي صحيحِ مسلم (1) أنه قال قبل أن يموتَ بخمس: "إنِّي أَبرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، ولو كنتُ مُتَّخِذًا خليلا لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خليلاً، ألا وإنَّ مَن كان قبلَكم كانوا يَتَّخذونَ قبورَ أنبيائِهم مساجدَ، ألا فلا تَتَّخِذوا القبورَ مساجدَ فإني أنهاكم عن ذلك". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لعنَ الله زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجدَ والسُّرُجَ". وقد اتفق أئمة المسلمين على أنه لا تُشْرَع الصلاةُ عند القبور، وقَصْدُها لأجل الدعاء عندها، ولا التَّمَسُّح بها وتَقْبيلها؛ سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم. بل ليس تحت أديم السماء ما يُشرع التمسحُ به وتقبيلُه إلا الحجر الأسود، والركن اليماني يستحب التمسح به. وقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه والتابعين (3) ، فلم يَمْسَحوا إلا الرُّكنين اليمانيين، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام إبراهيم الذي هناك؛ فكيف بمقام إبراهيم في تلك البقعة ومقامِ غيره من الأنبياء والصالحين؟ وقد قال الله في كتابه: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) (4) . قال طوائف من الصحابة   (1) برقم (532) عن جندب بن عبد الله. (2) أخرجه أحمد (1/229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) من طريق أبي صالح عن ابن عباس. وانظر الكلام عليه في "الضعيفة" (225) . (3) في الأصل: "التابعون". (4) سورة نوح: 23. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 والتابعين: "هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلمَّا ماتوا عَكَفُوا على قبورهم، ثم لما طال عليهم الأمد صَوَّروا صورهم، فكان ذلك مبدأ عبادة الأوثان". ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما رواه مالك في الموطأ (1) : "اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعْبَد". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا". فالسفر للتعريف ببعض المشاهد حرام، فيكون بمنزلة لحم الخنزير، وأما السفر للتعريف ببيت المقدس مثلاً، والسفر لزيارة بعض القبور أو البقاع غير المساجد الثلاثة فهو أيضًا مَنْهِيّ عنه، وإن كان وجد في ذلك من عمد إلى هذه البدع التي فيها من الشرك ما فيها، وتعبد بها وأقامَ بها، وقصد ما يقصده من البقاع لأجلها، وترك أن يقصد من البقعة أو ما هو قريب منها لأجل الرباط في سبيل الله الذي هو من أفضل الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، أليس هو ممن استبدل السيئات بالحسنات؟ الوجه الثاني: أنه لو قدر أنه قَصَدَ بعض هذه البقاع قصدًا مشروعًا مثل السفر إلى بيت المقدس على الوجه المشروع للصلاة فيه والاعتكاف فيه، فإن هذا عمل صالح باتفاق المسلمين، وإن كان قد دخل فيه بدع كثيرة، مثل البدع التي تفعل هنا من السماع   (1) 1/172 عن عطاء بن يسار مرسلاً. (2) أبو داود (2042) عن أبي هريرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 للمكاء والتصدية في النصف وعشر ذي الحجة ونحو ذلك، ومثل استلام بعض ما هناك من الأحجار، فإنه لا يشرع أن يستلم أحد قط إلا الركنين اليمانيين للبيت العتيق، ومثل اعتقادهم أن ذلك القدم المصنوع قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وظن أجهل منهم أنه قدم الله وأشباه هذه الجهالات. فالزيارة إذا سَلِمَت عن هذه البدع وغيرها كانت شرعية، والسفر إلى الثغر للرباط أفضل منها، والعُدُول عن الفاضل إلى المَفْضُول مع استوائهما غير محمود. الوجه الثالث: أن من الناس من يَقْصِد المُجاورة ببيت المَقْدس ويدع المُجاورة بالثغر الذي هو قريب منه. وهذا البابُ من أفضل الأفضل وأجلها، وهو فرض على الكفاية، ومعلوم أن هذا أعظم خُسْرانًا، وأشد حِرْمانًا، وأبعد عن اتباع الشريعة؛ فإن المُجاور بالحرمين قد يتعسر عليه ذلك دون المُرابطة لاختلاف المكانين. أما مع تفاوت المكانين فالعدول عن هذا إلى هذا لا يصدر إلا من جهل أو من ضعف إيمان، اللهم [إلاّ] إذا نَذَر هذا فيكون هذا معذورًا. وإنما الكلام فيمن يقدر على الأمرين. ولهذا [لما] كان أهل البدع مُهْمِلين أمر الجهاد مُعَظمين للزيارات، استولى الكفار على كثير من الثغور، حتى قتل ببيت المقدس وقتلوا فيه من المجاورين من شاء الله، وكان قد جَرَت فيه بدع كثيرة. ومن ذلك من يقصد بعض هذه البقاع، إما جبل لبنان وإما غيره، إما لزيارته لظنه أن فيه الصالحين من الأبدال وغيرهم، ويدع أن يقصد للرباط في سبيل الله، فإن هذا أيضًا من الضلال العظيم، وأصل السفر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 إلى الزيارة غير مشروع ولا مأمور به، بل هو من البدع والضلال. وكذلك السِّياحة لغير قصدٍ مُعَيَّن ليس ذلك مشروعًا لنا. قال الإمام أحمد: ليست السياحة من أمر الإسلام في شيء، ولا من فِعْل النبيين ولا الصالحين. والسياحة المذكورة في القرآن ليست هذه السياحة؛ فإن الله قد قال: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)) (1) . ومعلوم أن نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونساء المؤمنين لا يُشْرع لهن هذه السياحة. ولكن قد فُسِّرت السياحة بالصيام، وفُسِّرت بالجهاد (2) ، وكلاهما مَرْوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أما الأول: فرواه عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرسلاً. وأما الثاني فقال أبو داود في سننه (3) : "باب النهي عن السياحة"؛ وروى فيه حديث العلاء بن الحارث عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذَن لي بالسِّياحةِ؟ قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ سِياحةَ أُمَّتي الجهادُ في سبيلِ الله". وكذلك أيضًا رُوي (4) : "إن رَهْبانية هذه الأمة: الجهادُ في سبيل الله". إذ لا رهبانية في الإسلام، وأما ما ذكره في كتابه أن النصارى   (1) سورة التحريم: 5. (2) انظر تفسير ابن كثير (4/1712-1713) . (3) برقم (2486) . (4) أخرجه أحمد (3/266) عن أنس بن مالك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 ابتدعوا الرهبانية فقد نهانا الله ورسوله عن البدع. وثبت عنه في صحيح مسلم (1) وغيره عن جابر أنه كان يقول في خطبته: "إنَّ أصدَقَ الحديث كلام الله، وخيرُ الهَدْي هَدْي محمدٍ، وشَرُّ الأمورِ مُحْدَثاتُها، وكلُّ بدعة ضلالة". وثبت عنه في السنن (2) الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: وعَظَنا رسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظةً بَليغةً فقال رجل: يا رسولَ الله! كأن هذه موعظةُ مُودِّع فماذا تَعْهَدُ إلينا؟ فقال: "أُوصيكم بالسَّمعِ والطاعةِ فإنَّ مَن يَعِشْ منكم سيَرَى بعدي اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المَهْديِّين، تمسكُّوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحْدَثات الأمُور؛ فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة". فكيف بما نهى الله عنه ورسوله من العبادات المُبتدعةِ؟ كما أخرجا في الصحيحين (3) -واللفظ لمسلم- عن أنس بن مالك أنَّ نفرًا من أصحاب النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأَلوا أزواجَ النبيِّ عن عَمَلِهِ في السِّرِّ؟ فقال بعضُهم: لا أتزوَّجُ النِّساء. وقال بعضُهم: لا آكُلُ اللَّحْمَ. وقال بعضُهم: لا أنامُ على فِراشٍ. فحمدَ الله وأثنَى عليه فقال: "ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكنِّي أُصلِّي وأنامُ، وأَصومُ وأُفْطِرُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنتي فليس مِنِّي".   (1) برقم (867) . (2) أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (24، 44) . (3) البخاري (5063) ومسلم (1401) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 ولفظ البخاري (1) : جاء ثلاثة رهط بيوتَ أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألون عن عبادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوها! فقالوا: وأين نحن من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليل أبدًا. وقال الآخر: أنا أصوم الدَّهر أبدًا. وقال الآخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله [فقال] : "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأَرْقُد، وأَتزوَّجُ النِّساءَ، فَمَن رَغِبَ عن سنَّتي فليسَ مِنِّي". وفي الصحيحين (2) عن سعد بن أبي وقاص قال: رَدَّ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عثمان بن مَظْعُونٍ التبتَّل، ولو أذِنَ له لاخْتَصينا. وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً قائمًا في الشَّمس فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يجلس ولا يستظل وأن يصوم، فقال: "مُرُوه فلْيَجْلِس، وليَسْتَظِلَّ وليَتكلم وليتِمَّ صومَه". فلما كان هذا النَّاذِرُ نَذَرَ ما هو سُنَّة وما هو بدعة أَمَرَه بالوفاء بالسنة دون البدعة، كما في صحيح البخاري (4) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن نَذرَ أن يُطيعَ الله فليُطِعْهُ، ومَن نذر   (1) في الموضع المذكور. (2) البخاري (5074) ومسلم (1402) . (3) برقم (6704) . (4) برقمي (6696، 6700) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 أن يعصي الله فلا يَعْصِهِ". وهذا متفق عليه بين أئمة الدين، لكن تنازَعُوا هل عليه كفارة يمينٍ أو نذرِ ما ليس مشروعًا؛ بعد اتفاقهم على أنه لا يفعله؟ فقيل: لا شيء عليه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما لأنه ليس في هذا الحديث وغيره أنه أمر له بالتكفير. وقيل: بل عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما ثبت في صحيح مسلم (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كفارةُ النَّذْرِ كفارةُ يمينٍ". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا نَذْرَ في معصيةٍ وكفارتُه كفارةُ يمينٍ". وقد ثبت في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أفضلُ الصيام صيامُ داود، كان يصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومًا، وأفضلُ القيام قيام داود كان ينامُ نصف الليل ويقوم ثُلُثه وينام سُدُسه". وقد استفاض عنه في الصحيح (4) أنه نهى عن مداومة الصيام والقيام وقراءة القرآن في أقل من ثلاث. وأمثال ذلك من النصوص التي تُبيِّن ما بَعَث الله به رسوله من الحنيفية السمحة. كما جاء في الحديث: "أَحَبُّ الدين إليَّ الحنيفية السَّمحة" (5) .   (1) برقم (1645) عن عقبة بن عامر. (2) أخرجه أبو داود (1525) والترمذي (1525) والنسائي (7/26، 27) وابن ماجه (2125) عن عائشة. (3) البخاري (1131) ومسلم (1159) . (4) البخاري (5052) ومسلم (1159) . (5) أخرجه أحمد (5/266) والبخاري في الأدب المفرد (287) عن ابن عباس نحوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 وفي الصحيح (1) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنَّ هذا الدِّين متين وإنه لَن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَهُ، واستَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوحَةِ وشيء من الدُّلجَةِ، والقصدَ القصدَ تبلغوا". وفي الصحيحين (2) عنه أنه قال: "اكْلَفُوا مِن العَمَلِ ما تُطِيقُونَ؛ فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا". وفي السنن (3) عنه أنه قال: "لكل عامل شِرَّةٌ وفتر، فمن كانت فترته إلى سُنَّة فقد اهتدى، ومن أخطأَها فقد ضَلَّ". وفي لفظ: "ولكل شِرَّةٍ فَتْرَ؛ فإن [كان] صاحبها سَدَّدَ وقارب فارجوه، وإن أُشير إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوهُ". فقيل للحسن البصري لما رَوَى هذا الحديث: "إنَّك إذا مَرَرت بالسُّوق فإنَّ النَّاس يُشِيرون إليك؟ فقال: "لم يُرِد ذلك، وإنما أرادَ المُبْتَدِع في دينه والفاجر في دنياه". وهو كما قال الحسن رضي الله عنه، فإنَّ من الناس من يكون له شدَّة ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة، ثم لابُدَّ من فُتُور في ذلك. وهم في الفَتْرَة نوعان: منهم: من يلزم السنَّة فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نُهِيَ عنه بل يلزم عبادة الله إلى الممات؛ كما قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) (4) ، يعني الموتَ، قال الحسن البصري: لم يَجْعَل   (1) البخاري (39، 6463) عن أبي هريرة. (2) البخاري (6465) ومسلم (782) عن عائشة. (3) الترمذي (2453) عن أبي هريرة. وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه أحمد (2/188) عن عبد الله بن عمرو. (4) سورة الحجر: 99. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 الله لعباده المؤمنين أجلاً دون الموت. ومنهم: من يخرج إلى البدعة في دينه أو فُجُور في دنياه حتى يُشير إليه الناس، فيقال: هذا كان مجتهدًا في الدِّين ثم صار كذا وكذا. فهذا مِمَّا يخاف على من عَدَل (1) عن العبادات الشرعية إلى الزيارات البدعية. ولهذا قال أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: "اقتصاد في سُنَّة خير من اجتهادٍ في بِدْعة". ومع هذا فجِنْس الجهاد أفضل، بل قد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: مَرَّ رجل مِن أصحاب رسولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشعبٍ فيه عُيَينة مِن ماءٍ عَذْبة فأَعْجَبَتْهُ. فقال: لو اعتزلتُ الناس، َ فأَقَمتُ في هذا الشِّعْب، ولن أفْعَلَ حتى أَستأذِنَ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذَكَرَ ذلك لرسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لا تفعل فإنَّ مُقامَ أحدِكم في سبيلِ الله أفضلُ من صلاتِه في بيتِه سبعينَ عامًا، أَلاَ تُحِبُّونَ أن يَغفِرَ اللهُ لكم ويُدْخِلَكم الجَنَّة؛ اغْزُوا في سبيلِ الله، مَن قاتلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ وجَبَتْ له الجَنَّةُ" (2) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفَوَاقُ النَّاقة: ما بين الحلبتين. وجماع الأمر ما قاله الفضيل بن عياض في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (3) قال: أَخْلَصُه وأَصْوَبُه، قالوا يا أبا علي! ما أَخْلَصُه   (1) في الأصل: "بدل". (2) أخرجه أحمد (2/446، 524) والترمذي (1650) . (3) سورة الملك: 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 وأَصْوَبُه؟ قال: إنَّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقْبَل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالِص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُنَّة. وهذا كما قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) (1) . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهمَّ اجعل عملي كُلّه صالحًا، واجعله لِوَجهِك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا. والعملُ الصالح هو المشروع، وهو طاعة الله ورسوله، وهو فِعل الحسنات التي يكون الرجل به مُحْسنًا. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)) (2) . وقال: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) (3) . ولابد في الرِّباط والهجرة والجهاد وسائر الأعمال الشرعية من السنة التي هي روح العمل، كما في الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنما الأعمالُ بالنيّات، وإنما لكلِّ امرىءٍ ما نَوَى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".   (1) سورة الكهف: 110. (2) سورة النساء: 125. (3) سورة البقرة: 112. (4) البخاري (6953 ومواضع أخرى) ومسلم (1907) عن عمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 وفي الصحيحين (1) عنه أنه قيل له: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "مَن قاتلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُلْيا فهو في سبيل الله". قال تِعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)) (2) . فالله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يُحِبُّه ويرضاه لنا من الأحوال والأعمال الباطنة والظاهرة، ويُجَنِّبنا ما يكرهه لنا من ذلك كُلِّه. وأعظم من ذلك أن يتشاغل المسلمون بقتال بعضهم بعضًا، كما يجري بين أهل الأهواء من القبائل وغيرها، كقيس ويمن وجَرْم وتغلب ولَخْم وجُذَام وغير هؤلاء، مع مجاورتهم للثغور، فيَدَعون الرِّباط والجهاد الذي هو سعادة الدنيا والآخرة -كما قال تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (3) يعني: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة- ويشتغلون بقتال الفتن والأهواء الذي هو خسارة الدنيا والآخرة. وفي الصحيحين (4) عن أبي بكرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه [قال] : "إذا   (1) البخاري (7458) ومسلم (1904) عن أبي موسى الأشعري. (2) سورة الأنفال: 39-40. (3) سورة التوبة: 52. (4) البخاري (31) ومسلم (2888) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 التَقَى المسلمانِ بسيفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النارِ". فقيل: يا رسول الله! هذا القاتلُ فما بالُ المقتولِ؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتلِ صاحبِهِ". وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)) (1) . وهذه الفتيا لا تحتمل البسط في هذه الورقة، وإنما نبهنا على النكت الجامعة. (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل) . تمت   (1) سورة آل عمران: 102-107. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 قاعدة في الأموال السلطانية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 بسم الله الرحمن الرحيم فصل الأموالُ السلطانية والأموالُ العقدية من وقفٍ ونذورٍ ووصيةٍ ونحو ذلك، الأصلُ في ذلك مبنيٌّ على شيئين: أحدهما: أن يَعلم المسلمُ بما دلَّ عليه كتابُ الله وسنةُ رسوله وإجماعُ المؤمنين نصًّا واستنباطًا. ويَعلم الواقعَ من ذلك في الولاةِ والرعيَّهِ، ليعلمَ الحق من الباطل، ويعلمَ مراتبَ الحقِّ ومراتبَ الباطلِ، ليستعملَ الحق بحسب الإمكان، ويَدَعَ الباطلَ بحسب الإمكان، ويُرجِّحَ عند (1) التعارضِ أحقَّ الحقَّينِ، ويَدفعَ أبطلَ الباطلَيْنِ. فنقول: إن الأموال المشتركة السلطانيةَ الشرعيةَ ثلاثةٌ: الفَيء، والمغانمُ، والصدقةُ. وإذا صَنَّف العلماءُ كُتُبَ الأموالِ -ككتاب "الأموال" لأبي عُبيد ولحُمَيْد بن زَنْجويه، و"الأموال" للخلاَّل من جوابات أحمد، وغير ذلك- فهذه هي الأموالُ التي يتكلَّمون فيها. وكذلك من العلماء مَن يَجمع الكلامَ فيها في الكُتُب المصنَّفةِ في رُبُع الأموال، كما في "المختصر" للمُزَني و"مختصرِ" الخَرَقي وغيرِهما   (1) في الأصل: "عن". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 كتابُ قَسْمِ الفَيء والغَنائم والصدقة، يَذكُرونَه قبلَ قَسْمِ الوصايا والفرائض بعد قسْم الوقوف. ومنهم من يذكر قَسْمَ الصدقةِ في كتاب الزكاة، وقَسْمَ المغانمِ والفيء في الجهاد، كما هي طريقةُ كثيرٍ من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرِهم. ومنهم من يذكر الخراجَ والفيءَ في كتاب الإمارة، كما فعلَ أبو داود في "السنن" في كتاب الخراج والإمارة. وهذه الأموالُ الثلاثة ثابتة مُستَخْرَجُها ومَصروفُها بكتابِ الله وسنةِ رسوله، وأكثرُها مُجتَمع عليه، وفيها مواضعُ مُتنازعٌ فيها بين العلماء. فإنّ الله فرضَ الزكاةَ في الأموال وذكرَ أهلَها في كتابه بقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية (1) . والنبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بيَّن من ذلك ما أجملَه الكتابُ بما سَنَّه من نُصُبِ الزكاةِ وفَرائضِها، وفَسَّرَ من مواضعِها، وعَمِلَ به خلفاؤُه من بعدِه. وكذلك المغانم، قد أحلَّها الله بكتابه وسنَّةِ رسوله، وقَسَمَها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاؤه الراشدون، وهيَ المالُ المأخوذُ من الكفّارِ بالقتال، وما أُخِذَ من المرتدّين والخارجين عن شريعةِ الإسلام، فتفصيلُه ليس هذا موضعَ ذِكرِه. ويُسمَّى أيضًا فَيْئًا وأنفالاً. وكذلك الفَيءُ الخاصّ، وهو ما أُخِذَ من الكفّارِ بغيرِ قتالٍ، ذكره الله في سورة الحشر (2) ، وجَرَى قَسْمُه في سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) سورة التوبة: 60. (2) الآيتين 6-7. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 وسنَّةِ خلفائه الراشدين على الوجهِ الذي جَرى عليه. ويَلتحِقُ به الأموالُ المشتركةُ التي لم تُؤخَذْ من الكفّار، كالمواريثِ التي لا وارثَ لها، والأموالِ الضائعةِ التي لا يُعلَم لها مُستحِقّ معيَّنٌ، ونحو ذلك من الأموال المشتركة. ثُمَّ خلفاءُ الرسولِ أهلُ العدل من العلماءِ والأمراءِ الجامعين بين العلم والإمارة مع العدل -كالخلفاءِ الراشدين- قد يجتهدون في كثيرٍ من هذه الأموالِ قبضًا وصَرْفًا، كما يجتهدون في الأحكامِ والولاياتِ والأعمالِ والعقوباتِ ونحوِ ذلك، واجتهادُهم سائغٌ، والأموالُ المأخوذةُ بمثل هذا الاجتهادِ سائغةٌ، و إن اعتقَد الرجلُ تحريمَ بعضِ ذلك، فليس له أن يُنكِرَ على الإمام المجتهد في ذلك، ولا على من أخذَ باجتهادِه، كما لا يُنكِرُ على ما أعطاه الحاكمُ بحكمِه في الفرائضِ والوقوفِ ونحوِ ذلك. ولكن هل يُباحُ له بالحكم ما اعتَقَدَ تحريمَه قبل الحكم؟ على روايتين. وكذلك يُخَرَّجُ في القَسْم، فإن قَسْمَ الإمامِ المالَ الذي يَجِبُ عليه قَسْمُه هو كحكمِه، وأما قِسْمَتُه لغير ذلك فهي بمنزلةِ فِعْلِ الحاكم، كتزويج الأيامَى وبيع أموال اليتامَى. وهل فِعْلُ الحاكمِ حُكم فلا يَسُوغُ نَقضُه، أم هو كفعلِ غيرِه فيجوزُ نقضُه حتى يُنَفِّذَه أو غيرُه من الحكام؟ فيها وجهاد. ثمَّ إذا قلنا: هو حرام عليه، فليس حرامًا على غيرِه، ويَحِل له -إذا أخذَه غيرُه بتأويلٍ- أن يأخذَه منه بابتياع واتِّهاب ونحوِ ذلك من العُقود. هذا هو الصواب، فإنَّ ما قَبَضَه المسلمُ بالتأويل أولَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 بالإباحةِ مما يَقبِضُه الكفّار من أهلِ الحرب والذمةِ بالتأويل. وإذا كان الكفّارُ فيما يعتقدون حِلَّه إذا أسلموا لوَ تحاكموا إلينا بعد القبضِ حَكَمنا بالاستحقاقِ لمن هو في يدِه، وحَلَّلْناه لمن قَبَضَه من المسلمين منه بمعاوضة، وحَلَّلناه له بعد إسلامِه، فالمسلم فيما هو متأوِّل في حُكمِه باجتهادٍ وتقليد إذا قَبَضَه أولَى أن تَحِلَّ معاملتُه فيه، وأن يكونَ مباحًا له إذا رَجَعَ بعدَ ذلك عن القولِ الذي اعتقدَه أوَّلاً، وأن يُحكَمَ له به بعدَ القبضِ، كما لو حَكَمَ به حاكمٌ. وقد ذكرتُ هذه المسألةَ في غيرِ هذا الموضع، وذكرتُ فيها روايتين أصحُّهما ذلك، بناءً على أنّ حُكْمَ الإيجاب والتحريم لا يثبُتُ في حكم المكلَّفِ إلاّ بعدَ بلوغِ الخطابِ، وأنَه [لا] يَجبُ عليه قضاءُ ما تَرَكَه من الواجبات بتأويلٍ، ولا رَدُّ ما قَبَضَه من المَحرَّماتِ بتأويلٍ كالكفَّار بعد الإسلام وأولَى، فإنّ المسلم في ذلك أَعذَرُ. وتنفيرُ الكفّارِ عن الإسلام كتنفيرِ أهلِ التأويل عن الرجوع إلى الحقّ والتوبةِ من ذلك الخطأ. وهذا في الأنكحة والمعاوضات والمقاسمات. وكذلك ما أتلَفَه أهلُ البَغْي على أهلِ العدلِ من النفوسِ والأموال، لا يَجبُ عليهم ضمانُه في ظاهرِ المذهب الموافق لقولِ جمهورِ العلماء، َ وهو قولُ أبي حنيفة والشافعي في أَحدِ قولَيْهِ، كما أجمعَ عليه السلفُ من الصحابة والتابعين. قال الزهري: وَقعتِ الفتنةُ وأصحابُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوافرون، فأجمعوا أن كل دمٍ أو مال أو فرجٍ أُصِيْبَ بتأويل القرآن فإنه هَدَر. وذلك لأنهم متأوِّلون، وإن كان ما فَعلوه حرامًا في نفسِ الأمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 وفي أهل الرِّدَّة أيضًا روايتان، أصحُّهما أنهم لا يَضمَنُون كأهلِ الحرب، كما أشارَ به عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه، لمَّا قالَ لأهل الردَّةِ: تَدُوْا قَتْلاَنا ولا نَدِيْ (1) قَتْلاَكم، فقال عمر: لا، لأنهم قومٌ قتِلُوا في سبيل الله واستُشْهِدوا. دَلَّ على ذلك كتابُ الله في عَفْوِه عن الخطأ، وسُنَّةُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصّةِ أسامةَ بن زيدٍ (2) وقصّةِ عمّار بن ياسرٍ (3) وعديّ بن حاتم (4) وأبي ذَر (5) وغير ذلك. ف ما قَبَضَه المسلم بعَقْدٍ متأوِّلاً فيه مَلَكَه، ولو تَحاكَمَ اثنانِ في عَقْدٍ اعتقدَا صِحَّتَه بعد القبض فينبغي للحاكمِ أن يُقِرَّهما على ذلك التقابُضِ. ويجوز معاملةُ المسلم فيما قبضَه بهذا الوجه، ولهذا أمرَ أحمد لمن يُعامِلُ السلطانَ في وقتِه أن يكون بينه وبينه آخر، وكلَّما بَعُدَ كان أجودَ، لأنّ المباشرَ لهم قد يَستحِلُّ من المعاملةِ باجتهادٍ أو تقليدٍ ما لا يَستحِلُّه المستفتي، فإذا قَبَضَه المباشرُ بتأويلِه حَلَّ للمستفتي حينئذٍ. ونظيرُ هذا قولُ عمر في الخمر والخنزير: وَلُّوهُم بَيْعَها وخُذُوا أثمانَها، ولا تَبِيعُوها أنتم (6) . فإنّ المسلمَ لا يَحِلُّ له بيعُ الخمرِ   (1) في الأصل: "تؤدوا ... نؤدي". (2) أخرجها البخاري (4269) ومسلم (96) عن أسامة. (3) أخرجها البخاري (338 ومواضع أخرى) ومسلم (368) عن عمار. (4) أخرجها البخاري (1916) ومسلم (1090) عن عدي. (5) أخرجها أبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي (1/171) عن أبي ذر. (6) أخرجه عبد الرزاق (6/23) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 والخنزيرِ، ويَحِلُّ له قَبْضُ ثمنِ ذلك ممن باعَه بتأويلِه في دينه. فالمسلم الذي قَبَضَ بتأويل أولَى. فهذا مأخذ لقولِ أحمد. وله مأخذ ثانِ: أنَّ الظالمَ إذا باعَ المغصوبَ فالمشتري قَبَضَ عِوَضَ مالِه، والأموالُ التي بأيديهم مجهولةُ الملكِ، فالعِوَضُ فيها كالمعوَّض. فالمستفتي قَبَضَ ممن قَبَضَ عِوَضَ [مالِه] ، ولم يَقبِضْ ممن قَبَضَ نفسَ مالِ الغير. ولهذه القاعدة فروعٌ في جواباتي في الفتاوى. وما قَبَضَه الإمامُ من الحقوقِ -الزكَوات والخراج وغير ذلك- بتأويلِ من اجتهادٍ أو تقليل وَجَبَتْ طاعتُه فيه، كما يَجبُ طاعةُ الحاكمِ في الحكم المتنازع فيه، فإذا طلبَ أخْذَ القيمةِ أَو أَخْذَ ما فَضَلَ عن الفرائضِ ونحو ذلَك أُطِيعَ في ذلك، وتَبْرَأ ذِمَّةُ المسلمِ بما يَدفعُه من ذلك. وهل يُجزِئُه ذلك إذا كان يعتقد أنه لا يُجزِئه لو فعلَه؟ الصواب أنه يُجزِئُه، كما ذكر أصحابُنا في الخلطة أنه لو أخذ القيمة أو الكبير عن الصغير فإنه يَرجِعُ أحدُ الخليطينِ على الآخر بذلك، وإطلاقُهم يَقتضي أنه يُجزِىءُ. ونظيرُ هذا من مسائل العبادات البدنية الصلاةُ، فإن المأمومَ يجب عليه متابعةُ الإمام فيما يَسُوغُ فيه الاجتهادُ وإن كان المأموم لا يراه، كما لو قنَتَ الإمامُ في الفجر، أو زاد في تكبير الجنازة إلى سبع. لكن لو أخلَّ في الصلاة بركن أو شرط في مذهب المأموم دون مذهبه فهذهِ فيها الخلاف. وهو يُشبه إجزاءَ إخراجِ الزكاة من بعض الوجوه، لكن إن كان الإمامُ لا يطلبُ منه الزكاةَ وإنما هو بَذلَها له، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 فقبضها الإمام (1) باجتهاده، فهذا نظيرُ صلاتِه خلفَه؛ وإن كان الإمام يطلب منه الزكاة بحيث يجب طاعتُه، فهذا نظيرُ أن يُصلي خلفَه ما لا يُمكِنُه فِعلُه خلفَ غيرِه، كالجمعة والعيدين ونحوهما. ولهذا إذا قلنا: لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفَ الفاسق، فإنه يجب فعلُ هذه الصلوات خلفَه، وفي الإعادة روايتان. فالأمرُ بفعل الصلاةِ خلفَه وبالإعادةِ يُشبِه الأمرَ بإيتاء الزكاة وبالإعادة. ومع هذا فمذهب أهل السنة المأثور عن الصحابة أنه يُجزِىء دفعُ الزكاة إلى الإمام الذي يَجُورُ في قَسْمِها، فإجزاؤها مع أخذِها بالاجتهاد أولى، وإن كان ربُّ المال لا يُجزِئُه صَرفُها في غيرِ المصارف، لكن المأثور عن الصحابة الأمرُ بدفعِ الزكاة إليهم وبالصلاةِ خلفَهم. والمفسدةُ في الزكاةِ أشدُّ، فإذا ساغ ذلك فهذا أسوغُ. والسلف لم يأمروا مَن صلَّى خلفَهم بإعادة، ولا مَن دفعَ الزكاةَ إليهم بإعادة، ولهذا قال أحمد في رسالته في "السنة" (2) : إن من أعاد الجمعة فهو مبتدع. لكن المسألتان واحدة، فالمتفق عليه حجة على المختلَف فيه، وتخرج في صورة الوفاقِ ما في صورة النزاع، فإن طائفة من السلف ذهبوا إلى أنه لا يدفع إليهم الزكاة، كعبيد بن عمير وغيره، وكان عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين رضي الله عنه، الذي انتشرت الرعيةُ في زمنه، وكثرت الأموالُ، وعدلَ فيها صادقًا بارًّا راشدًا تابعًا للحق، فوضعَ الخراجَ على ما فتحَه عَنْوةً،   (1) في الأصل: "فقبضها الاجتهاده". (2) ضمن "طبقات الحنابلة" (1/244) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 كأرضِ السوادِ ونحوِها، ووَضع ديوانَ العطاء للمقاتِلة وللذُّزيَّة، وكان عثمان بن حُنَيف على الخراج، وزيد بن ثابت -فيما أظن- على ديوان العطاء. وما زالت هذه التسميةُ معروفةً: "ديوان الخراج" وهو المستخرَج من الأموالِ السلطانية؛ و"ديوان العطاء" كديوان الجيش وديوان النفقات ونحو ذلك. ولِوُلاَةِ الأمور من الملوك ودُوَلِهم في ذلك عاداتٌ واصطلاحات، بعضها مشروع، وبعضُها مجتهَد فيه، وبعضُها محرَّم، كما للقضاة والعلماء والمشايخ، منهم من هو من أهل العلم والعدلِ كأهل السنة، فيتبعون النصَّ تارة والاجتهادَ أُخرى؛ ومنهم أهل جهلٍ وظلمٍ كأهل البدع المشهورة من ذوي المقالات والعبادات، وذوي الجهل والجور من القضاة والولاة. وكانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في غاية الاستقامة والسَّداد، بحيث لم يُمكِن الخوارجَ أن يَطعنوا فيهما فضلاً عن أهل السنة. وأما عثمان وعلي رضي الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وسيرتهما سيرة العلم والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر، لكن فيهما نوع مجتهَد فيه، والمجتهِد فيما اجتهد فيه إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطؤُه مغفور له، فاجتهاد الخلفاءِ أعظمُ وأعظمُ. وأما عثمان فحصلَ منه اجتهاد في بعضِ قَسْمِ المال والتخصيصِ به، وفي بعض العقوبات هو فيها رضي الله عنه مجتهد، والعلماءُ منهم من يَرى رأيَه، ومنهم من لا يراه. وعلي رضي الله عنه حصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 منه اجتهادٌ في محاربة أهل القبلة، والعلماء منهم من يرى رأيَه، ومنهم من لا يراه. وبكل حالٍ فإمامتُهما ثابتة، ومنزلتُهما من الأمة منزلتُهما، لكن أهل البدع الخوارج الذين خرجوا على عثمان وعلى علي جعلوا آراءهم وأهواءَهم حاكمةً على كتاب الله وسنة رسوله وسيرةِ الخلفاءِ الراشدين، فاستحلُّوا بذلك الفتنةَ وسفكَ الدِّماءِ وغيرَ ذلك من المنكرات. وأما مَن بعد الخلفاء الراشدين ف لهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرق (1) متنوعة: منها ما هو حق منصوص موافق للكتاب والسنة والخلفاء الراشدين. ومنها ما هو اجتهاد يَسُوغُ بين العلماء، وقد يسقط الوجوب بأعذارٍ، ويباحُ المحظورُ بأسباب، وليس هذا موضع تفصيل ذلك. ومنها ما هو اجتهاد، لكن صدوره لعدوانٍ من المجتهد وتقصيرٍ منه، شابَ الرأي فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة. وهذا النوع كثير جدًّا. ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه بتركِ واجب أو فعلِ محرَّمٍ. وهذه الأنواع الأربعة موجودة في عامة تصرفاتهم من الحكم والقَسْم والعقوبات وغير ذلك، إما أن يوافق سنة الخلفاء أو لا يوافق، والذي لا يوافق إما أن يكون معذورًا فيه كعذر العلماء المجتهدين   (1) في الأصل: "طريق". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 أو لا يكون كذلك، والذي لا يكون معذورًا فيه عذرًا شرعيًّا إما أن يكون فيه شبهة واجتهاد مع التقصير والعدوان أو لا يكون فيه شبهةٌ ولا تأويلٌ. ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس وظائف تُؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل، وإن كان التغيير قد وقع في أنواعِها وصفاتِها ومصارفِها، نعم كان السواد مخارجة عليه الخراج العُمَرِيّ، فلما كان في دولة المنصور -فيما أظن- نقله إلى المقاسمة، وجعل المقاسمة تعدل المخارجة كما فعلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر. وهذا من الاجتهادات السائغة. وأما استئثارُ وُلاةِ الأمور بالأموالِ والمحاباةُ بها فهذا قديم، بل قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار: "إنكم ستَلْقُون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تَلقَوني على الحوض" (1) . وقد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحالِ الأمراء بعدَه في غيرِ حديثٍ، وكان الخلفاءُ هم المُطَاعِين في أمرِ الحرب والقتال وأمر الخراج والأموال، ولهم عُمَّالٌ ونُوَّاب على الحروب، وعُمَّال ونُوَّاب على الأموال، ويُسمُّون هذه ولاية الحرب وهذه ولاية الخراج. ووزراؤهم الكبار ينوبون عنهم في الأمرين إلى أثناء الدولة العباسية بعد المئة الثالثة، فإنه ضَعُفَ أمرُ خلافةِ بني العباس وأمرُ وزرائهم بأسبابٍ جَرتْ، وضُيِّعَتْ بعضُ الأموال، وعَصَى عليهم قوم من النوّاب   (1) أخرجه البخاري (3793) عن أنس، ومسلم (1845) عن أنس عن أسيد بن حضير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 بتفريطٍ جرى في الرجال والأموال. فذكر ثابت بن سنان بن ثابت بن قُرَّة فيما علمتُه من "التاريخ" (1) أنه في سنة أربع وعشرين وثلاث مئة فوَّض الراضي الخليفةُ الإمارةَ ورئاسةَ الجيش وأعمالَ الخراج وتدبيرَ سائرِ المملكة إلى مُقدَّم اسمُه محمد بن رائق، وجعلَه أمير الأمراء، وأمرَ بأن يُخطَب له على سائر منابر المملكة، ولم يكن قبل ذلك شيء من ذلك. قال: وبَطَلَ قبل ذلك أمرُ الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من النواحي ولا الدواوين، ولا كان له اسم غيرُ اسمِ الوزارة فقط، وأن يحضرَ في أيام المواكب دار السلطان بسواد وسيف ومنطقةٍ، ويقفَ ساكنًا. وصار ابنُ رائق وكاتبُه ينظرانِ فيما كان الوزراءُ ينظرون فيه، وكذلك كلُّ من تقلَّد الإمارةَ بعد ابن رائق، وصارت أموالُ النواحي تُحمل إلى خزائن الأمراء، فيأمرون فيها ويُنفِقون منها، ويُطلِقون لنفقاتِ السلطان ما يريدون، وبطلت بيوتُ الأموال. ثم إنه بعد ذلك حدثَتْ دولةُ بني بُويه الأعاجم، وغَلبوا على الخلافة، وازداد الأمرُ عما كان عليه، وبَقُوا قريبًا من مئةِ عام إلى بعد المئة الرابعة بنحو من ثلاثين سنة أو نحوها حدثت دولة السلاجقة الأتراك، وغلبوا على الخلافة أيضًا. وكان أحيانا تقوى دولةُ بني العباس بحسن تدبير وزرائهم -كما جرى في وزارة ابن هبيرة- بما يفعلونه من العدل واتباع الشريعة،   (1) لم يصل إلينا. وانظر "البداية والنهاية" (15/95، 96) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 وينهضون به من الجهاد، وكان ملوك النواحي يعطونهم السّكة والخطبة وطاعةً يسيرة تُشبه قبول الشفاعة. فأما الولايات وإمارة الحروب وجباية الأموال وإَنفاقها فكانوا خارجين فيه عن أمر الخلفاء. وكانت سيرة الملوك تختلف، فمنهم العدل المتبع للشريعة ذو القوة والأمانة، المقيم للجهاد وللعدل، كنور الدين محمود بن زنكي بالشام والجزيرة ومصر؛ ومنهم الملك المسلم المعظِّم لأمرِ الله ورسوله، كصلاح الدين؛ ومنهم غير ذلك أقسام يطول شرحُها. وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يُسرِف فيها وضعًا وجبايةً؛ ومنهم من يَستَنُّ بما فُعِل قبله، ويجري على العادة، فيجري هو والذي قبلَه على القسم الرابع؛ ومنهم من يجتهد في ذلك اجتهادًا ملكيًّا يُشبه القسم الثالث؛ ومنهم من يقصد اتباعَ الشريعة وإسقاطَ ما يخالفُهَا، كما فعلَ نور الدين لما أسقطَ الكُلَفَ السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالاً عظيمةً جدًّا، وزاد الله البركات، وفَتحَ البلادَ وقَمعَ العدوَّ بسبب عدلِه وإحسانِه. ثمَّ هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في سنةِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنةِ خلفائه الراشدين، ولا ذكرها أهل العلم المصنِّفون للشريعة في كتب الفقه من الحديث والرأي، هي حرام عند المسلمين، حتى [ذكر ابن حزم] (1) إجماعَ المسلمين على ذلك، فقال (2) . ومع هذا   (1) الزيادة من النسخة البغدادية. (2) كذا في الأصل، ولم ينقل المؤلف النص. وانظر "مراتب الإجماع" (ص 121) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 فبعض من وضعَ بعضَها وَضَعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى والرأي من بعض علماء ذلك الوقت ووُزَرائِه، فإنه [لمّا] قامت دولة السلاجقة ونصروا الخلافة العباسية، وأعادوا الخليفة القائم إلى بغداد، بعد أن كان أمراءُ مصر من أهل البدع أولئك الروافض قد قهروه وأخرجوه عن بغداد، وأظهروا شعارَ البدع في بلاد الإسلام، وهي التي تُسمَّى فتنة البساسيري في نصف المئة الخامسة= حدثت أمورٌ: منها: بناء المدارس والخوانق ووقفُ الوقوف عليها، وهي المدارس النظاميات بالعراق وغيره، والرباطات كرباط شيخ الشيوخ وغير ذلك. ومنها: ذهاب الدولة الأموية من المغرب وانتقال الأمر إلى ملوك الطوائف. وصنّف أبو المعالي الجويني كتابًا للنظام سماه "غياث الأمَم في التياث الظلم"، وذكر فيه (1) قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد، فإن الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصولُ الجهاد إلاّ بأموالٍ تُقَام بها الجيوش، إذْ أكثر النّاسِ لو تُرِكُوا باختيارهم لما جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن تُرِكَ جمع الأموالِ وتحصيلُها حتى يحدث فتق عظيم من عدوّ أو خارجي كان تفريطًا وتضييعًا. فالرأي أن تُجمعَ الأموالُ ويُرصَدَ للحاجة. وطريق ذلك أن توظَّف وظائفُ راتبةٌ لا يَحصُل بها ضررٌ، ويَحصُل   (1) ص 283 وما بعدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 بها المصلحة المطلوبةُ من إقامة الجهاد. والوظائف الراتبة لابدّ أن تكون على الأمور العادية، فتارةً وظَّفوها على المعاوضات والأملاك، مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقدارًا، إما على مقدار المبيع وإمّا على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات والإجارات، ويضعوا على العَقار من جنس الخراج الشرعي، وكان ما وضعوه تارةً يُشبه الزكاة المشروعة من كونه يُوجَد في العام على مقدار؛ وتارةً يُشبِه الخراج الشرعي؛ وتارةً يُشبِه ما يُؤخَذ من تجار أهل الذمة والحرب. ومنهم من يَعتدي، فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك مما أصلُه محرَّم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضعٍ على أجور المغاني من الرجال والنساء، فإن الأثمان والأجور تارة تكون حلالاً في نفسِها، وإنما المحرَّم الظلم فيها، كغالب الأثمان والأجور، وتارةً تكون في نفسها حرامًا، كأثمان الخمور ومُهُور البغايا. وكان بعد موت الملك العادل بالشام قد وضعه ابنه ذلك على دار الخمر (1) والفواحش، فبَقِيَ غيرَ ممنوعٍ من جهة السلطان، لما له عليه من الوظيفة، وكان ذلك سنة خمس عشرة [وست مئة] . وفي ذلك الوقت ظهرت دولة المغل جنكسخان بأرض المشرق، واستولى على أرض الإسلام، وظهرت النصارى بمصر في مملكة الأفرون، وظهرت بدع في العلماء والعُبَّاد، كبحوث ابن الخطيب (2)   (1) في الأصل: "ودار الخمر". (2) أي كتب الرازي الكلامية والفلسفية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 وجست العميدي (1) وتصوّف ابن العربي وخِرقة اليونسية وبعض الأحمدية والعَدَوية وغير ذلك. وحقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث أو الرابع، فإن هذا إذا صدر باجتهاد فهو في الأصلِ مشوب بهوىً ومقرون بتقصيرٍ أو عدوان، وإن التقصير أو العدوان صادر أيضًا من أكثر الرعية، فإن كثيرًا منهم أو أكثرهم لو تُرِكوا لما أدَّوا الواجبات التي عليهم، من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة والجهاد الواجب بالأنفس والأموال، كما أنه صادرٌ من كثير من الولاة أو أكثرهم بما يقبضونه من الأموال بغير حق، ويَصرِفونه في غير مَصرِفه، ويتركون أيضًا ما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فجمعُ هذه الأموال وصرفُها هي من مسائلِ الفتن، مثل الحروب الواقعة بين الأمراء بآراءٍ وأهواءٍ، وهي مشتملة على طاعاتٍ ومعاصِي وحسناتٍ وسيئاتٍ، وأمور مجتَهد فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهادًا اعتقاديًّا أو عمليًّا، نظير الطرائق والمذاهب من الاعتقادات والفتاوى والأحكام، وأنواع الزهادات والعبادات والأخلاق، وما في ذلك من مسائل النزاع بين أهل العلم والدين في الأصول والفروع والعبادات والأحوال، فإنها أيضًا مشتملةٌ على حسناتٍ وسيئاتٍ، طاعاتٍ ومعاصي، وأمورٍ مجتهدٍ فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهادًا اعتقاديًّا أو عمليًّا.   (1) أي طريقة العميدي في الجدل والخلاف، وهي طريقة ابتكرها وقلَّده فيها المتأخرون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 فالواجب أن ما شهد الدليلُ الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحتِه عُمِل به، ثم يُعامَل الرجال والأموالُ بما تُوجِبُه الشريعةُ، فيُعفَى عما عَفَتْ عنه، وإن تضمن تركَ واجبٍ أو فعلَ محرَّمٍ، ويثنَى على ما أثنت عليه، وإن كان فيه سيئات ومفاسد مرجوحة. وهذه المشتبهات في الأقوال والأعمالِ والأموالِ داخلة في الحديث الذي هو أحد مباني الإسلام، حديث النعمان بن بشير المشهور في الصحاح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الحلال بَيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يَعلمهنَّ كثير من الناس، فمن تَرك الشُّبُهاتِ استبرأ لدينه وعِرضِه، ومن وقع في الشبهاتِ وَقَعَ في الحرام، كالراعي يَرعَى حولَ الحِمَى يُوشك أن يَقَع فيه، ألا وإن لكلِّ مَلِكٍ حِمىً، وإن حِمَى الله محارمُه. أَلا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صَلحَتْ صَلَحَ لها سائر الجَسَد، وإذا فَسَدتْ فَسَدَ لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". فإنه ضمن هذا الحديث الأكل والشرب من الطيبات والعمل الصالح، كما أمر به في قوله: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) (2) ، إذ أمر به المرسلين والمؤمنين، كما في حديث أبي هريرة المخرج في صحيح مسلم (3) . وذكر فعل المعروف وترك المنكر الذي هو صلاح القلب والجسد والحلال والحرام، كما قال: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (4) .   (1) البخاري (52 ومواضع أخرى) ومسلم (1599) . (2) سورة المؤمنون: 51. (3) برقم (1015) . (4) سورة الأعراف: 157. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 وذكر أن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فدلَّ ذلك على أن من الناس من يعلمها، فمن تبيَّنت له الشبهاتُ لم يبقَ في حقِّه شبهةٌ، ومن لم تتبيَّنْ له فهي في حقِّه شبهةٌ، إذ التبيُّن والاشتباه من الأمور النسبية، فقد يكون الشيء متبينًا لشخصٍ مشتبهًا على الآخر. وبيَّن أن الحَزْمَ تركُ الشبهات، والشبهات قد تكون في المأمور به، وقد تكون في المنهي، فالحزْمُ في ذلك الفعلُ وفي هذا التركُ، فإذا شكَّ في الأمر هل هو واجبٌ أو محرَّمٌ فهنا هو المشكلُ جدًّا، كما في الاعتقادات، فلا يحكم بوجوبه إلاّ بدليل ولا بتحريمه إلا بدليل، فقد لا يكون لا واجبًا ولا محرَّمًا وإن كان اعتقادًا، إذْ ليس كلُّ اعتقادٍ مطلقٍ أوجبَه الله على الخلق، بل الاعتقاد إمّا صواب وإمّا خطأ، وليس كلُّ خطأٍ حرَّمَه الله، بل قد عفا الله عن أشياءَ لم يُوجِبْها ولم يُحرِّمْها. والله أعلم. (تم بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، في خامس عشر من شعبان المكرم سنة أربع عشرة وثمان مئة، بمدرسة أبي عمر قدَّس الله تعالى روحه ونوَّر ضريحه) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذه مجموعة جديدة من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية التي لم تُنشَر ضمن "مجموع الفتاوى"، وقد اعتمدتُ في تحقيقها وإخراجها على أصولٍ خطية موجودة في مكتبات مختلفة كما سيأتي وصفها، وهذه الأصول تتفاوت في الصحة والجودة، وبعضها كثيرة التصحيف والتحريف تطلَّب استخراجُ النصّ الصحيح منها جهدًا كبيرًا. وقد كنت أقف أحيانًا ساعاتٍ لإصلاح الأخطاء والتحريفات في بعض الرسائل، وأقرأ الفقرة مرات، وأراجع كلام المؤلف في الموضوع نفسه في كتاباته الأخرى، حتى أهتدي إلى الصواب أو ما يقاربه ويستقيم السياق. ومنهجي فيها هو الذي التزمتُ به في المجلدات السابقة، من ضبط النص وتقسيمه إلى فقرات واستخدام علامات الترقيم، والتخريج المختصر للأحاديث، وتوثيق النقول، وعدم استعمال الأقواس إلاّ عند إضافة ما لا بدَّ منه على الأصل، وعدم الإشارة إلى التحريفات والأخطاء الواضحة. أما التعريف بالأعلام والأماكن والقبائل، وشرح المسائل الفقهية والكلامية واللغوية، وجمع طرق الأحاديث واستقصاء الكلام حولها، فليس مكانه التعليق على النصّ المحقق، بل ينبغي أن يُفرد لكل غرضٍ منها كتابٌ مستقل كما فعلَ ذلك سلفُنا رحمهم الله. الجزء: م6 ¦ الصفحة: 5 تحتوي هذه المجموعة على رسائل مهمة لشيخ الإسلام في موضوعات مختلفة، وهي ثابتة النسبة له، وقد نُسِب كثير منها له في النسخ الخطية، والبقية التي ليس عليها اسمه مكتوبة بأسلوبه المتميز في العرض والنقد والإحالة إلى مواضع أخرى من كتاباته، وتتناول الموضوعات التي عُرِف بالكتابة فيها والاحتجاج لها. ويتفق رأيه فيها هنا مع رأيه في كتبه الأخرى. وقد بحثت في فهرس مؤلفاته عن عناوين رسائل هذه المجموعة، فلم أجد إلاّ ثلاثة منها، وهي: "قاعدة في مواقيت الصلاة" و"قاعدة في الجمع بين الصلاتين" (العقود الدرية ص 46) و"قاعدة في ضمان البساتين هل يجوز أم لا؟ " (العقود الدرية ص 48) . ولعل الرسالة الثانية عشرة (فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين) هي المذكورة في "العقود" بعنوانين منفصلين، ويمكن أن تكون غيرها، لكثرة المؤلفات والقواعد التي كتبها الشيخ في هذه الموضوعات الفقهية، حتى عجز المترجمون له عن إحصائها. والرسالة الثامنة عشرة (مسألة في ضمان البساتين والأرض) هي المذكورة بعنوان "قاعدة في ضمان البساتين" في "العقود"، وقد نُشِر منها جزء في "مجموع الفتاوى" (30/220 وما بعدها) ، وينقصه الثلث الأخير، وفيه زيادات في أوله عما هنا، لأن الناسخ هنا اختصر. أما بقية الرسائل والمسائل فلم أجد لها عناوين محدَّدة في كتب التراجم، فاعتمدت في إثباتها على النسخ الخطية، واستنبطت بعضها من أوائل هذه الرسائل. الجزء: م6 ¦ الصفحة: 6 * وصف الأصول المعتمدة اعتمدت في إخراج هذه الرسائل على عدة مجاميع ورسائل مفردة من مكتبات مختلفة، وفيما يلي وصفها مرتبةً حسب ورودها في المجموعة: (1) "قاعدة في الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحدَه لا شريك له هي حقيقة الدين ... ": توجد نسخته الخطية ضمن مجموعة في مكتبة جار الله بإستانبول برقم [1729] (ق 1-18 أ) ، وعنوان هذه المجموعة مطموس في الصفحة الأولى منها، وقد كُتِب في أعلاها "فهرست ما في هذه المجموعة ... " ثم ذكرتْ عناوين بعض الرسائل. وعليها تملكٌ بخط مالكه ظهر منه: "تزايدت نعمُ الله على أبي عبد الله ولي الدين جار الله سنة 1143". والمجموعة في 122 ورقة، كتبتْ بخط نسخي جيّد، وآخرها ناقص، فلم يظهر لنا تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع، وفي الصفحات الأولى منها طمس ذهب بكثير من الكلمات. ومع كونها مجوَّدةً في الخط فهي كثيرة التصحيف والتحريف، وغالبًا ما يرسم الناسخ الكلمةَ ويُعجِمها فيُبعِد النجعة، وفيها غير قليل من الأخطاء اللغوية والنحوية. وتحوي المجموعة تسع رسائل للشيخ، نشرتْ ثلاث منها ضمن "مجموع الفتاوى"، والبقية تُنشَر ههنا. (2) "فصل في حق الله على عباده، وقسْمِه من أم القرآن، وما الجزء: م6 ¦ الصفحة: 7 يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك": هي الرسالة الثانية ضمن المجموعة السابقة (ق 18 أ-28 أ) . وفي آخرها: "تمت هذه القاعدة بحمد الله وعونه، والحمد لله وحده". (3) "فصل في صفات المنافقين": هي الرسالة الثالثة ضمن المجموعة السابقة (ق 28 ب-35 أ) . وينتهي الكلام في النسخة دون الإشعار بنهايتها، فلعل آخرها ناقص. (4) "فصل في التوحيد": هي الرسالة الرابعة ضمن المجموعة السابقة (ق 35 ب-56 ب) . (5) "فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح": ضمن المجموعة السابقة (ق 56 ب-100 ب) . (6) "قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله وطلبه والتعليل به ونحو ذلك": أصلها ضمن المجموعة السابقة (ق 101 أ-106 ب) . (7) "فصل في الإسلام وضدِّه": يُوجد أصله ضمن مجموعة خطية في مكتبة جامعة أم القرى بمكة المكرمة برقم [1491] (ق 13 ب-22 ب) ، وهي بخط نسخي جيّد، كتبها أحمد بن أبي بكر الطبراني الكاملي، وجمع فيها مختارات من كتب مختلفة، ومنها بعض رسائل شيخ الإسلام. ولعل الناسخ من القرن التاسع، وقد بحثتُ عن ترجمته في المصادر، فوجدت في "شذرات الذهب" (7/212) : شهاب الجزء: م6 ¦ الصفحة: 8 الدين أحمد بن أبي بكر بن علي المعروف ببواب الكاملية الحنبلي (ت 835) ، قال العليمي في طبقاته: عُني بالحديث كثيرًا وسمع، وكان يتغالى في حبّ الشيخ تقي الدين، ويأخذ بأقواله وأفعاله، وكتب بخطه تاريخ ابن كثير، وزاد فيه أشياء حسنة. فليُنظَر هل الناسخ هو المترجم له هناك؟ ونسخة هذه الرسالة ناقصة الآخر، والورقة التي تليها في المجموعة ليست متصلة بما قبلها. والنسخة صحيحة، يندر فيها وجود الخطأ، فإنها بخط عالم. (8) مسألة في مقتل الحسين وحكم يزيد: توجد نسخته ضمن مجموعة خطية بعنوان "المسائل والأجوبة" في مكتبة بلدية الإسكندرية برقم [4 فقه حنبلي] (ق 14 ب-25 أ) . وقد كتبت بخط نسخي جميل، وفي آخرها ذكر الناسخ وتاريخ النسخ بقوله: "وكتب في سادس عشر من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، على يد الفقير محمد بن عيسى بن أبي الفضلى الشافعي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين". وعدد أوراق هذه المجموعة 85 ورقة، وأولها ناقص، ولا ندري مقدار النقص، فقد بدأت بالأسطر الأخيرة من فتوى لشيخ الإسلام ضمن "مجموع الفتاوى" (24/10-13) . والمجموعة تحتوي على مسائل مهمة للشيخ لم يُنشر بعضها ضمن "مجموع الفتاوى". (9) "مسألة في الاستغفار": وصلت إلينا قطعة منها ضمن المجموعة الموصوفة سابقًا برقم (7) ، (الورقة 12 أ- 13 ب) . ولا الجزء: م6 ¦ الصفحة: 9 ندري مقدار ما ضاع من أولها. (10) "مسائل في الصلاة": هي ضمن المجموعة السابقة برقم (7) ، (ق 23 أ-26 ب) ، وهي مجموعة فصول في مسائل من الصلاة، لم يَصل إلينا أولها، ولا نعرف مقداره، ولم نجد منها نسخة أخرى تكمِل النقص. (11) "فصل في الصلاة الوسطى": ضمن المجموعة السابقة برقم (7) ، (ق 26 ب-30 ب) ، وآخرها ناقص، ولم نجد في المجموعة ما يكمل النقص. (12) "فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين": وصلت إلينا نسختان منه، إحداهما: ضمن "الكواكب الدراري" (المجلد 83) نسخة دار الكتب الظاهرية برقم [578] (ق 9 ب-21 ب) ، وليس عليها تاريخ النسخ، ولكنها كتبت حوالي سنة 830 كما يظهر من تاريخ نسخ الأجزاء الأخرى الموجودة من الكتاب، وهي نسخة جيدة قليلة الأخطاء. والثانية: مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة برقم [7921 فلم] عن مصدر مجهول، ولعلها كانت في مصر، فقد كتب أحد القراء في أسفل الصفحة الأولى منها: "طالعه ورقم أوراقه الفقير إلى عفو ربه أبو نهلة أحمد بن عبد المجيد بن هريدي بالقاهرة المحمية في الخامس من ربيع الأول سنة 1400 من الهجرة النبوية". ويبدو من دراستها أنها حديثة الخط، وقد جاء في آخرها: "بلغ الجزء: م6 ¦ الصفحة: 10 مقابلةَ على الأم المنقول منها، وهي نسخة مضطربة". ولعل الأم المنقول منها هي النسخة الموجودة ضمن "الكواكب"، فلا فرقَ بين النسختين إلاّ نادرًا، وكان الثانية طبق الأولى. (13) "مسألة في رجل فقير وعليه دَيْن، هل لأخيه الغني دَفْعُ الزكاةِ إليه؟ ": أصلها ضمن "أجوبة عن مسائل فقهية" في مكتبة شهيد علي بإستانبول برقم [2751] (ق 143 أ-145 أ) ، والنسخة بخط نسخي جيد، كتبها محمد بن كامل الشافعي كما في الورقة (173 ب) . ولعلها من خطوط القرن التاسع. (14) "مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد": هي ضمن المجموعة السابقة (ق 161 أ-170 أ) ، ويبدو أن الناسخ لم ينسخها بتمامها، فقد اختصر كلام الشيخ وحذف منه، كما أشار إلى ذلك في آخرها بقوله: "واستشهد بغير ذلك، حذفتُه اختصارًا لضيق الوقت"، ودلَّ عليه بقوله: "ثم قال" في أثناء المسألة مرارًا. وليتَه نسخَها على وجهها! (15) "مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسنَّور البرّ وابن آوى وجلودها": نسختها في مكتبة حسن حسني عبد الوهاب ضمن دار الكتب الوطنية بتونس برقم [18567] ، وهي مكتوبة بخط نسخي قديم، والمسألة في صفحة واحدة، وقبلها "فتوى فيمن يؤخر الصلاة عن وقتها" (= ضمن "مجموع الفتاوى" 22/27-38 ثم 24/27-28) ، وفي أولها ذِكْر الشيخ والدعاء له بقوله: "أطال الله بقاءه" مما يدلُّ على أنها كتبت في حياته. الجزء: م6 ¦ الصفحة: 11 (16) "مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعُها دون الجلد؟ ": توجد نسختها الخطية ضمن المجموعة الموصوفة برقم (13) ، (ق 160 ب-161 ب) . (17) "مسألة في إجارة الإقطاع": هي ضمن المجموعة التي وُصِفت برقم (8) ، (ق 1 أ-3 ب) . (18) "مسألة في ضمان البساتين والأرض": أصلها ضمن المجموعة الموصوفة برقم (13) ، (ق 145 أ-157 أ) ، وجاء في آخرها: "قال الناقل لنفسه -عفا الله عنه-: اختصرتُ جواب الشيخ تقي الدين، وحذفتُ منه المكرر وغيره، والله أعلم". وليتَه نقلها بتمامها، ولم يحذف منها شيئًا! وبعد فهذا وصف موجز للأصول المعتمدة، وأرجو أنني وُفّقتُ في قراءتها وإخراجها في هذه المجموعة. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وله الحمد في الأولى والآخرة، عليه توكلتُ وإليه أنيب. محمد عزير شمس الجزء: م6 ¦ الصفحة: 12 بسم الله الرحمن الرحيم رب يسِّر ولا تعسِّر قال [الشيخ الإمام] (1) العالم الزاهد العابد الورع أبو العباس أحمد ابن الشيخ [الإمام العالم] عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم أبي البركات ابن تيمية رضي الله [عنه] وأرضاه: الحمد لله الأحد الصَّمد، الذي لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى كل أحد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا بلا عدد. أما بعد، فهذه قاعدةٌ في الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحده لا شريكَ له، هي حقيقة الدين، ومقصود الرسالة، وزبدة الكتاب، ولها خُلِقَ الخلقُ، وهي الغاية التي إليها ينتهون، وبذكرها تَحصُل السعادةُ لأوليائه، وبتركها تكون الشقاوةُ [لأعدائه] ، وهي حقيقة لا إله إلا الله، وعليها اتفقت الرسل، ولها قامت السموات والأرض. وقد تكلمتُ على هذا الأصل بأنواع من القواعد المتقدمة، مثل: قاعدة الشهادتين، وقاعدة المحبة والإرادة، وقاعدة الأعمال بالنيات. والمقصود هنا أن كل عمل يعمله عامل فلا بدَّ فيه من شيئين: من مرادٍ بذلك العمل هو المطلوب المقصود، ومن [حركةٍ إلى] المراد وهي الوسيلة، فلا بد من الوسائل والمقاصد ... (2) المطلوبة بالوسائل،   (1) ما بين المعقوفتين مطموس في الأصل، وكذا فيما يأتي. (2) هنا طمس في الأصل، وكذا في المواضع الآتية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 والإرادة في الباطن ... الظاهر، فتقوم بالجسم. فنسبة النية إلى العمل الظاهر نسبةُ الروح إلى الجسد، ... أرواح أجسامها أجسام أرواحها النيات، ولا بدّ لكل جسم حي من روح، ولا بدّ لكل جسم حي من إرادة ونية. ثم إن الروح إن كانت (1) طيبةً كان الجسم طيباً، وإن كانت خبيثة كان الجسم خبيثاً، فكذلك العمل والنيّة، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المشهور: "إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نَوَى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (2) . فهذا اللفظ عام (3) في كل عمل كائنًا ما كان، هو بنيَّته، سواء كانت صورته صورة العبادات، كالطهارة والصلاة والحج، أو صورة العادات، كالسفر والاكل والشرب وغير ذلك. و سبب الحديث كان مما صورتُه صورةُ العادات من وجه، [وصورة العبادات من وجه، فالعادة] من جهة كونه سفراً، وهو السفر من مكة إلى المدينة، والدين (4) من جهة كونِ السفرِ كان إلى دار الإسلام ومُقامِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن معه من المؤمنين المجاهدين، وبهذا الاعتبار سمي هجرة، ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعله نوعين: أحدهما: ما كان   (1) غير واضحة في الأصل. (2) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب. (3) في الأصل: "عاما". (4) الكلمة غير واضحة في الأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 إلى الله ورسوله، والثاني: ما كان لغير ذلك، مثل السفر (1) للنكاح. وقوله: "وإنما لكل امرىء ما نوى" يُوجب أنه ليس للعامل من العمل إلا ما نواه، وهو المقصود المراد بالعملَ. وهذا الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية كما جعله بعض الفقهاء، وهو كلام تام لا يحتاج إلى إضمار قَبول الأعمال أو غير ذلك، كما يُضمِره بعضُ الفقهاء، وإنما حَمَلَهم على ذلك توهُّمُهم أن النية المراد بها النيةُ المقبولةُ، أو الصحيحةُ المأمور بها، فزادوا في لفظ الحديث ما لم يُذكَر، ونَقَصُوا من معناه ما أريد. والحديث من جوامع الكلم، ومن أمهات الدين، والأصل في الكلام عدم الإضمار وعدم التخصيص. ثمَّ إنّ هذا (2) ممتنع، لأنه قال في تمام الحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها"، فقد جمعَ في العمل الذي هو الهجرة بين الثنتين: المقبولة والمردودة، والمحمودة والمذمومة، والصحيحة والفاسدة، وقوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" يَعُمُّ من نوى المقصود المحمود، وهو من أراد الله ورسوله، ومن نَوَى غير ذلك، وهو المرأة والمال، فكيف يجوز أن يقال مع ذلك: إنه أراد قبولَ الأعمال وصحتَها بالنيات، أو صحة الأعمال الدينية؟ ثم ما أضمروه يَرِدُ عليه نوعٌ من الفساد ليس هذا موضعه.   (1) الكلمة مطموسة في الأصل. (2) في الأصل: "هنا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 ثم الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود. أما الأول: فكلُّ حيٍّ يتحرك بإرادته واختياره فلا بد أن يكون له في ذلك العمل مطلوب مَّا، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ أصدقَ الأسماء الحارثُ وهمَّام" (1) ، فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: صاحب الهمّ الذي يكون له إرادة وقصد. وقد بينتُ فيما تقدم أن طلبَ المخلوقِ لا بدَّ أن يتعلق بغيره، فكما أنه لا يكون فاعلَ نفسه، لا يكون مطلوبَ نفسه، وبينتُ أن المخلوق كما لا يكون فاعلاً، لا يكون مطلوبًا، فليس المطلوب الحقيقي إلا الله، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. والغرض هنا أن المخلوق لا بدَّ له في كل عمل من مطلوب ومرادٍ، وحظ ونصيب، لا يمكن غير ذلك، ف اعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ، سواءً كاًن من الملائكة أو النبيين أو الصدِّيقين أو الشهداء أو الصالحين أو الجن أو الشياطين أو الكفار والمنافقين، فما نسمعه من الكلمات المأثورة عن بعض المشايخ مما ينافي هذا فأحد الأمرين   (1) أخرجه أحمد (4/345) والبخاري في الأدب المفرد (814) وأبو داود (4950) من حديث أبي وهب الجشمي، وفي إسناده علة بيَّنها ابن أبي حاتم في "العلل" (2/312،313) ، مفادها أن أبا وهب هو الكلاعي التابعيّ لا الجشمي الصحابي، وعلى هذا فالحديث مرسل. وأخرجه ابن وهب في "الجامع" (ص 7) عن عبد الوهاب بن بخت مرسلاً، ورواه أيضاً عن عبد الله بن عامر اليحصبي مرسلاً. وصححه الألباني في الصحيحة (1040) بمجموع هذه الطرق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 فيه لازم: إما أنه لفظ مجملٌ لم يفهم مراد صاحبه، أو صاحبه غالِطٌ فيما أمر به أو أخبر به. مثالُ ذلك قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل. فهذا الكلام إذا أريد به في جانب الله أن يكون مفوّضاً إليه أموره فيما يقدر عليه مما ليس فيه ترك واجب ولا مستحب، فهذا معنى صحيح، لكن دلالة اللفظ عليه بعيدة، وظاهرُه يُعطي أنه لا يكون له من نفسه حركة قط حتى تُحرَّك تحريكًا جبرياً، فهذا باطل ممتنع. ثم إن الممكن منه محرَّم في الدين على الإطلاق، وذلك أن الميت لا تقوم به حركةٌ ببدنه ولا إرادة تحرك بدنه، والحي ليس كذلك، فإن جسده يتحرك حركة اختيارية (1) ، وهذا أمر لا بد منه، فلا بد من الحركة الاختيارية، ويمتنع أن يُحرّكَ حركةً ينتفي حكمُ إرادتِه فيها، فالأمر فيه عكس الميت من وجهين: الوجود والعدم، فإن الميت لا يتحرك بدنه في العادة باختياره، وهو يُحرَّك دائمًا بغير اختياره، وقول المطلق احتراز على المقيد ونحوه ممن غسّل، فذاك لا فعلَ له بحالٍ، فهذا بطلانُه وامتناعُه. وأما مخالفتُه للدين والشريعة، فإن الله لم يأمرنا بعدم الإرادة والحركة، ولا مراده في دينه منا أن نكون مسلوبي (2) الاختيار والحركة   (1) في الأصل: "اختياره". (2) في الأصل: "مسلوبين". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 والعمل، وإنما المراد منا أن نكون مطيعين له ولرسوله، وأن تكون حركتُنا واختيارنا تبعاً لأمره الذي بعث به رسوله، فعلينا أن نختار ونعمل ما أوجب علينا عمله واختياره، وهو يحب لنا ويرضى أن نختار ونعمل ما يستحب لنا في دينه، ويعاقبنا على عدم الإرادة والعمل المستحب. وهنا قد تغلط طائفة من المتصوفة فيقولون: ما المراد؟ (1) قد يستعملون ذلك فيما فيه ترك مستحبات، وقد يتعدَّون إلى ما فيه ترك واجبات، فيقال: ليس المراد منا الانقياد لكل حكم قاهر، ولا الاستسلام لكل ذي سلطان قادر، وإنما المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له، وطاعة أمره ونهيه: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (2) ، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)) (3) . فإن الدين: الإيمان والبر والتقوى وطاعة الله ورسوله والإحسان والعمل الصالح ونحو ذلك هو المطلوب منا والمراد بنا في دين الله تعالى وكتابه، فأما الحوادث التي تكون بغير أفعالنا فالأقسام فيها ثلاثة: تارةً نُؤمَر بدفعها بالباطن أو الظاهر، كما يُؤمَر بجهاد الأعداء عن الدين.   (1) كذا في الأصل. (2) سورة النساء: 69. (3) سورة النساء: 13. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 وتارةً نُؤمَر بالصبر عليها، وهو ما قُضي من المصائب ولا فائدةَ في الجزع عليه، كالمصائب في الأنفس والأموال والأعراض، والرضى بهذه أعظم من الصبر. وهل هو واجب أو مستحب، على قولين أصحُّهما أنه مستحب. وتارة نُخيَّر بين الأمرين بين دفعِها وقبولها، وإن كان قد يترجح أحدُهما، كدفع الصائل عن المال، وكالتداوي أحيانًا ونحو ذلك، وقد فصَّلنا مسائل هذا الباب في غير هذا الموضع. وكذلك الأمور التي ليست حاصلةً عندنا، منها ما نُؤمَر بطلبه واستعانة الله عليه، كأداء الواجبات، ومنها ما نُنهَى عن طلبه كالظلم، ومنها ما نُخيَّر بين الأمرين، فكيف يقال مع هذا: إن العبدَ ينبغي له أن يكون كالميِّت بين يدي الغاسل؟ هذا مع الله. وأما كونه كذلك مع الشيخ ففيه تنزيلُ الشيخ منزلةَ الرسول، وهذا على إطلاقه باطل، لكن فيه تفصيل ليس هذا موضعه. ومما يُغلَط فيه ما يُذكَر عن الشيخ أبي يزيد رضي الله عنه أنه قال في بعض مناجاته لما قيل له: ماذا تريد؟ فقال: أريد ألاَّ أريدَ، لأني أنا المراد وأنت المريد. ويتحذلقُ بعضُهم على أبي يزيد (1) ، فيقول: فقد أراد بقوله "أريد". وهذا الاعترض خطأ لوجهين: أحدهما: أنه من قيل له: ماذا تريد لم يُطلَب منه عدم الإرادة، وإنما   (1) في الأصل: "أبو يزيد". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 طُلِب منه تعيينُ المراد. الثاني: أن انتفاء الإرادة ممتنع، وهو محزَمٌ، بل عليه أن يريد ما أراده منه، ولا بدَّ له من ذلك. وأما قوله: "أريد أن لا أريد، لأنِّي أنا المراد وأنت المريد"، فلا ينبغي أن يفهم من قوله: "أن لا أريد" أن لا تكون لي إرادة، فإن هذا باطل محرم، وإنما أراد أن لا يكون ابتداءُ الإرادة مني، بل إرادتي تابعة لك لأنك أنت مرادي، فأريد أن لا أريد إلا إياك. وهذا حقيقة الحنيفية والإخلاص، فإذا كنتُ لا أريد إلا إياك لم أحب (1) ولا أفعل إلا ما أمرتني به، فكان حقيقة قوله: أريد أن لا أعبد إلا إياك، ولا أريد شيئًا قطّ إلا وجهَك الكريم، وهذا عين ما أوجبه الله لكل عبد، وهي الإرادة الدينية الشرعية. وأيضاً فقد يقول: أريد ألاَّ تكون لي إرادة إلا ما أمرتَني أن أريده، وأردتَه لي إرادةَ محبةٍ ورضًى، لجهلي وعجزي. وأريد أن أكون عبدًا محضًا، فلا أريد إلا ما تريده أنت، بحيث يكون المرادُ (2) المختار أمرًا دينيًّا وقضاءً كونيًّا لا يخالف الأمر الديني. فهذا الكلام يكون إخلاصًا وتفويضًا، وكلاهما إسلام وجهه لله. وأيضًا فإنه قد يقول هذا في مقام الفناء والاصطلام، إذا غلبَ على قلبه، حتى غاب به عن شهود نفسه وإرادته، فهو يُحب هذا الفناء، لأنه   (1) الكلمة غير واضحة في الأصل. (2) في الأصل: "المريد". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 متى رجع إلى نفسه أرادت بهواها، فهو يريد أن يَفنَى عن نفسه حتى يكون الحق هو الذي يريد له وبه. ثم إنه مع الفناء في نوع من الإرادة لله التي هي أعظم الإرادات، لكنه غائبٌ كغيبته عن نفسه مع وجودها. وهذا كله حسن، وإن كان البقاء أفضل ما لم يُفْضِ (1) الأمرُ إلى ترك مأمور به جريًا مع الكوني. ومما (2) يَغلَطُ فيه بعضُهم قولُ طوائفَ منهم: إن من طلب شيئًا بعبادته لله كان له حظ، وكان يَسْعَى لحظه، وإنما الإخلاصْ أن لا تطلب بعملك شيئًا، ولا يكون لك حظٌّ ولا مرادٌ. ثم يقولون: لا يريد إلا اللهَ، ولا يطلب إلا وجهَه، هذا في الدنيا، وفي الآخرة لا يَطلُب إلا رؤيته. وبعضهم قد يقول: إذا طلبتَ رؤيته كنتَ في حظِّك، بل لا يكون لك مطلوب. ويُنشِد قول بعضهم (3) : أحبُّك حبَّينِ: حبُّ الهوى وحب لأنكَ أهلٌ (4) لذاكا فأما الذي هو حبُّ الهوى فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا وأما الذي أنت أهل (5) له فحبِّي خُصِصْتَ به عن سواكا   (1) في الأصل: "لم يفضي". (2) في الأصل: "وما". (3) الأبيات في حلية الأولياء (9/348) . (4) في الأصل:"أهلاً". (5) في الأصل: "أهلاً". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 فما الفضلُ في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الفضل في ذا وذاكا وهذا الكلام فيه حقٌّ، ويقع فيه غلطٌ، فأما [الحق] (1) فهو ما اشتمل عليه من الإخلاص لله وإرادة وجهه دون ما سواه، وطلب النظر إلى وجهه، والشوق إلى لقائه، كما في الحديث المأثور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجهين، أحدهما من حديث عمار بن ياسر، و [الثاني] من حديث زيد بن ثابت، فيه: "أسالك النظرَ إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائِك في غير ضرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضِلَّة" (2) . وأما الغلط فتوهُّم المتوهمِ أن إرادة وجه الله والنظر إليه ليس فيها حظٌّ للعبد ولا غرض، وأن طالبها قد ترك مقاصده ومطالبه، وأنه عامل لغيره لا لنفسه، حتى قد يُخيَّل أن عمله لله بمنزلة كسب العبد لسيده وخدمة الجند لمَلِكِهم. وهذا غلط، بل إرادة وجه الله أعلى حظوظ العبد، وأكبر مطالبه وأعظم مقاصده، والنظر إلى وجهه أعظم لذَّاته، ففي الحديث الصحيح عن أهل الجنّة قال: "فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة"، رواه مسلم (3) عن صهيب.   (1) زيادة يستقيم بها السياق. (2) أخرجه أحمد (4/264) والنسائي (3/54) من حديث عمار بن ياسر، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (5/191) والطبراني في المعجم الكبير (4932) والحاكم في المستدرك (1/516) من حديث زيد بن ثابت، وصححه الحاكم، وقال الذهبي: "أبو بكر ضعيف فأين الصحة؟ ". (3) برقم (181) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 وإنما العبد له حظانِ: حظ من المخلوق (1) ، وحظٌّ من الخالق، وله لذتان: لذة تتعلق بالمخلوق، ولذة تتعلق بالخالق. فتركَ أدنى الحظين واللذتين لينال أعلاهما، وما عملَ إلا لنفسه ولا حَطَبَ إلا في حَبْلِه، قال تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) (2) . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أسألك لذة النظر" كما تقدم. وقال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (3) ، وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (4) ، وقال: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (5) وقال: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)) (6) . والله سبحانه أمره بما يحتاج إليه في سعادته، وأحب له أعلى السعادات وأعظم اللذات، وإن كان لمحبة الرب عبده ولعمله الصالح تعلُّق بالله ليس هذا موضعه، فالعبد إذا لم يتصرف إلا بأمر الله ورسوله فهو بمنزلة من لا يتصرف إلا بأمر مالكه العالم بحاله، والناصح له، لا بأمر المالك الذي ينتفع به في حياته، قال الله تعالى (7) : "يا عبادي إنكم لن تَبلُغوا ضُرّي فتضروني، ولن   (1) الكلمة غير واضحة في الأصل. (2) سورة فصلت: 35. (3) سورة فصلت: 46. (4) سورة الإسراء: 7. (5) سورة البقرة: 286. (6) سورة النمل: 40. (7) في الأصل: "يقول". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 تَبلُغوا نفعي فتنفعوني" (1) ، وقد كتبت فيما تقدم العمل لله والعمل للمالك، وبهذا تزول جهالاتٌ كثيرة من بعض العابدين المحبين. قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)) (2) ، فأخبر أنه هو الذي منَّ بهدايتهم للإيمان، إلا أنهم يمنُّون على رسوله إسلامهم، فتدبَّرْ هذا، فإن فيه معانيَ (3) لطيفةً، منها: أنه إنما منَّ بهدايتهم للإيمان التي هي دعوتهم إليه بالرسالة، وإنعامُه عليهم بالاهتداء، لم يكن مجرد الدعوة إليه ولا مجرد الإسلام الظاهر، ولأنه يشركهم في الأول الكافر، وفي الثاني المنافق، ولهذا قال: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا. ومنها: أن (4) مَنَّهم على رسوله الإسلامَ الظاهر الذي قد ينتفع به الرسول في نصره وموافقته وغير ذلك، فكان ذلك تنبيهًا على إنكارِه مَنَّهم على الله الغني الحميد، الذي لا يبلغون ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، فالله هو الذي أنعم على عبده المؤمن بأمره وتعبيده له، وهو الذي منَّ عليه بهدايته وإرشاده، فله الحمد في كونه هو المعبود، وفي كونه هو المستعان، وهو الأول والاَخر، وهو بكل شيء عليم، والعبد إنما عمل في مطلوبه مراده الذي هو معبوده وإلهه، وإذا أحبَّه (5) ربه،   (1) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر. (2) سورة الحجرات: 17. (3) في الأصل: "معان". (4) في الأصل: "أنه". (5) في الأصل: "وإذا حبه". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 وأحبّ عبادته ودينه (1) ورضي ذلك، فما للعبد من ذلك فهو نعمة من الله عليه، وما للرب في ذلك فهو منه وإليه، وهو الغني عن خلقه. والعبادُ أعجز من أن يبلغوا ضره فيضروه، أو يبلغوا نفعه فينفعوه من وجهين: من جهة الأسماء والصفات، وهو أنه سبحانه أحد صمد قيومٌ لا تأخذه سِنة ولا نوم، ويمتنع عليه أضداد أسمائه الحسنى التي وجبت له بنفسه. ومن جهة القضاء والقدر، وهو أنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاؤه ويريده، ولا حول ولا قوة إلا به، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به. وأما قول العابدة المحبة القائلة: أحبُّك حبَّينِ: حبّ الهوى وحبٌّ لأنك أهلٌ لذاكا فأما الذي هو حبُّ الهوى فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا وأما الذي أنت أهلٌ له فشيء (2) خُصِصْتَ به عن سواكا فلكلامها وجهان: أحدهما: أن تريد بالحب الأول من جهة إنعامه على عباده، وهو الحب المأمور به. وبالثاني محبته لذاته. والأولى متفق عليها، والثانية   (1) كذا في الأصل. (2) في ص 13: (فحبي) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 حق عند أهل السنة والجماعة، وفيهم أهل العلم والمعرفة واليقين، فإنهم متفقون على محبته لذاته، وقد قررتُ هذه المسألة في غير هذا الموضع. الوجه الثاني: أن تريد بالحب الأول: الحب الذوقي الذي لا يتقيد بالأمر المحض، فإن من عرف الله ولو بعقله ونظره أحبه وعظمه، حتى المشركون فيهم محبة الله، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) (1) أي كحبهم الله، لا كحب المؤمنين لله، فإن الذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، ثم إن المحبين (2) من الأنبياء عليهم السلام، وأهل العلم والايمان كثيرًا ما يستعملهم الحب في أشياء ويدعوهم إلى أشياء من طلب، وسؤال عبادة، واجلال، ونعوت، لابتغاء الوسيلة، وطلب نيل الفضيلة، وإن لم تكن تلك الأشياء قد أُمِروا بها، لكن إذا لم يكونوا نُهُوا عنها، بل وغير الحب من الأحوال المحمودة قد يَفعل مثلَ ذلك، من الرحمة للخلق، والرجاء لرحمة الله، والخوف من عذابه، فإن الأفعال ثلاثة: مأمور به، ومنهي عنه، وما ليس مأمورًا به ولا منهيُّا عنه. فكثير من المحبين يفعل ما يراه محصلاً لمقصوده من محبوبه إذا لم يكن منهيًّا عنه، حتى إن منهم من يُنهى أويُمنع كما مُنِعَ موسى عليه السلام عن النظر لما ساله، وانما دعاه إليه قلق الشوق والمحبة، كما أن نوحًا لما سال في ابنه قيل له: (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (3) ،   (1) سورة البقرة: 165. (2) في الأصل: "المحبون". (3) سورة هود: 46. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) (1) . وأما نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يفعل إلا ما أمر به (2) من دعاء وعبادة، فإن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العبد المحض الذي لا يفعل إلا ما أمرَه به ربُّه، فلهذا أمره بالدعاء فقيل له: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)) (3) ، وقيل له: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (4) ، وإذا كان يوم القيامة وردَّ الأنبياء إليه الشفاعة العظمى، وجاءته الأمم، يجيء إلى (5) ربه، ويخرُّ ساجدا، ويحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، فيقول له: "أي محمد! ارفعْ رأسَك، وقلْ يُسمَعْ، واشفَعْ تُشَفَّع" (6) ، فلا يشفع إلا بعد أن يؤمر بالشفاعة، فلا يقال له: أعرض عن هذا، ولا يقال له: لاتسألني ما ليس لك به علم. وقد أوجب الله على أهل المحبة متابعته بقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (7) ، فهؤلاء المتَّبعون لأمره، المستمسكون بسنته في الباطن والظاهر، هم خالص أمته، وأما من كان من أهل المحبة أو الخوف أو الرجاء أو الإخلاص، استعمله   (1) سورة هود: 74- 76. (2) في الأصل: "فلا يفعلون إلا ما أمروا به". (3) سورة طه: 114. (4) سورة محمد: 19. (5) في الأصل: "اليه" تحريف. (6) أخرجه البخاري (4476) ومسلم (193) من حديث أنس في حديث الشفاعة المشهور. (7) سورة آل عمران: 31. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 حاله في أعمال لم يؤمر بها، ولم تُسمَح له، مثل كلام المكاء والتصدية التي تحرك حبه أو حزنه أو خوفه أو رحمته أو رجاءه، ومثل الشدة في عقوبة (1) الفساق حتى يدعو عليهم، أو يعاقبهم بقوة عظيمة لله، من غير أمر منه بذلك، ومثل فرط الرحمة لهم حتى يشفع فيمن يحب الله، ويرضى عقوبته والانتقام له، أو تركه، بترك عقوبته، ولهذا يقول الله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا) (2) ، (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (3) ، وقال تعالى: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر) (4) ، ومنهم من يَحمِلُه حبُّ أقاربه حتى يدعو لهم بدعوة لم يؤمر بها، وغير ذلك. وهذا كثير في أرباب الأحوال المتأخرين من هذه الأمة، وهم في هذه الأمور خارجون عن سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنة خلفائه الراشدين، بمنزلة خروج من خرجَ من ولاة الأمور في السياسات الظاهرة عن طريقة الخلفاء إلى نوع من الملك في العقوبات وفي الولايات وفي الأعطية، فإن تصرف هذا وهذا ببُغضِه للحرمات من جنس واحد، لكن هذا بباطنه وهذا بظاهره، وكذلك عطاء هذا وهذا برحمته للعباد من جنس واحد، ثم كل منهما قد يكون مقصوده الرئاسة إما الباطنة وإما   (1) في الأصل:"عونه". (2) سورة المائدة: 8. (3) سورة المائدة: 2. (4) سورة النور: 2. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 الظاهرة، وقد يكون مقصوده الديانة، وإنما تصرف بحاله لا بالأمر. وهذا باب عظيم ننبِّه عليه في مواضع، وإنما أشرنا إليه هنا لما ذكرنا محبة الهوى التي لم تتقيد بالعلم والأمر، وإن كانت محبة الله إذا لم تكن منهيًّا عنها، ولهذا قالت: فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا أي هذا الحب يستدعي طلب الرؤية كما طلبها من طلبها في الدنيا. وأما المحبة الثانية فهي العبودية المحضة للذي يحبه لذاته، فلا يفعل إلا ما أمر به، ولا يطلب إلا ما أمر به، ولا يستحق شيء أن يُحَبَّ لذاته إلا الله، فإنه لا إله إلا الله، والإله هو الذي يُعبد لذاته، فلذلك قالت: لأنك أهلٌ لذاكا، وقالت: فشَيْءٌ خُصِصْتَ به عن سواكا. الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل. أما المقصود المطلوب لذاته، وهو المعبود، فلا يجوز أن يعبد إلا الله لا إله إلا هو، وهذا أصل الدين وأساسه ودِعامتُه، وأوله وآخره، وباطنه وظاهره. والوسيلة هي الأعمال الصالحة الحسنة، إذ ليس كل عمل يصلح لأن يُعبَد به الله، ويُرادَ به وجهُه، وليس كلُّ ما كان في نفسه حسنًا وصلاحًا يُراد به وجهُ الله وليس بصالح، مثل عبادات المبتدعة المخلصين، كرهبانية النصارى التي قال الله فيها: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) (1) ، ومثل ما في هذه الأمة من أنواع المقالات والعبادات التي فعلها صاحبها لله، لكن بغير   (1) سورة الحديد: 27. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 إذنٍ من الله، مثل بدع الخوارج، واستحلالهم (1) ما استحلُّوه من مفارقة السنة والجماعة، حتى قال شاعرُهم (2) في قاتل علي بن أبي طالب- وهو أشقى الآخرين عبد الرحمن بن مُلجم قاتل علي-: ياضربةً من تَقيٍّ ما أرادَ بها إلا ليَبلُغَ من ذي العرشِ رضوانَا إني لأذكره حينًا فأحسبُه أو فَى البريةِ عند الله ميزانَا وكذلك ما عليه كثير من القدرية والمرجئة والجهمية والرافضة، وغيرهم من أهل البدع الاعتقادية إذا كانوا فيها مخلصين مُريدينَ التقربَ بها إلى الله. وكذلك ما عليه كثيرٌ من المبتدعة في العبادات والأحوال، من الصوفية والعبَّاد والفقهاء والأمراء والأجناد والولاة والعمال، فكثير من هؤلاء قد يُزيَّن له سوءُ عملِه فيراه حسنًا، ويتقرب إلى الله بشيء يظنه حسنًا، وهو شيء مكروه، وهذا باب واسع. ومن هذا الباب عبادات اليهود والنصارى التي يتقربون بها إلى الله ويُخلصون فيها، قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (3) ، وسئل عنهم سعد بن أبي وقاص فقال: "هم أهل الصوامع والديارات" (4) . وسُئل عنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالى: "هم أهل   (1) في الأصل: "ولاستحلالهم". (2) هو عمران بن حطّان، كما في الكامل للمبرد (3/1085) . (3) سورة الكهف: 103، 104. (4) أخرجه البخاري عنه (4728) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 حَرُوراءَ" (1) ولا منافاةَ بين القولين، فإن مثل هذا الكلام قد لا يكون للتحديد، وإنما يكون للتمثيل، كمن سُئل عن الخبز فأخذ رغيفًا وقال: هو هذا. ففسروا الضالِّين من عبَّاد الكفار وعبَّاد أهل البدع، وقد أخبر الله أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأخبر أنهم يرون أعمالهم السيئة حسنةً، فهم مع رأيٍ وحسبانٍ غيرِ مطابقٍ للحقيقة. القسم الثالث : ما يكون صالحًا، ولا يريد به فاعلُه وجه الله، وهذا أيضًا كثير، مثل ما يعمله العاملون من الأعمال الظاهرة المشروعة من إقراء العلم والقرآن، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وجهاد في سبيل الله، وعدل بين الناس، وإحسان إليهم من صدقة ومعروف وإصلاح بين الناس، ولهذا قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)) (2) ، وقال عن المتصدقين: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)) (3) وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "من قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله" (4) . وقد ثبت في صحيح مسلم (5) حديثُ أبي هريرة في متعلم العلم   (1) رواه الطبري في تفسيره (15/426) . (2) سورة النساء: 114. (3) سورة الإنسان: 9. (4) أخرجه البخاري (123) ومسلم (1904) من حديث أبي موسى الأشعري. (5) برقم (1905) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 والمقتول في الجهاد وفي المتصدق إذا لم يكونوا مخلصين، وأنهم أول ثلاثةٍ تُسَجَّرُ بهم النارُ. - القسم الرابع: الذي لا يكون عملُه خالصًا لله، وهو شرُّ الأقسام، مثل جهاد المشركين للمسلمين ينصرون بذلك آلهتهم، فلم يعبدوا به ولا أحسنوا، حيث أهلكوا أهل الإيمان. وكذلك كل ما كان من هذا الجنس من الأعمال التي يفعلها الكفار لغير الله وليست خيرًا في نفسها، من نَصْرِ (1) أهل الكفر، وكذب على الله، وتكذيبٍ برسله، واعتقادٍ للباطل. وكذلك اتِّباع قوم مُسَيلِمةَ لمُسَيلِمةَ، وقتالهم معه، وكذلك أهل البدع والضلال التي يقصدون بها نصر أهوائهم. وكذلك الفجور والمعاصي التي تفعلها النفوس لأجل العُلوِّ في الأرض والفساد، وهذا الضرب كثير جدًّا. وإذا كانت الأقسام الأربعة، فالقسم الأول هو المحمود، وأهله هم السعداء من جميع بني اَدم من الأولين والاَخرين، وبذلك جاء الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) (2) ، فإن أهل الكتاب تَمنَّوا هذه الأمنية   (1) هذه الكلمة في الهامش، ولم يظهر منها إلا الحرف الأخير. (2) سورة البقرة: 111، 112. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 التي قالوا بألسنتهم، وقدروها بقولهم، وجمعوا فيها بين النفي- وهو دخول الجنة- عن غير اليهود والنصارى، وبين الإثبات لمن كان هودا أو نصارى، وهذا من باب الَّلفِّ والنَّشر. أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)) فطالبهم بالبرهان على هذه القضية والدعوى الجامعة بين النفي والإثبات. وكان في ذلك ما دلَّ على أن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل، كما طالب المثبت في قوله: (أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (1) ، ومعلومٌ أنْ ليس مع اليهود والنصارى لا برهان شرعي ولا عقلي يدل على ذلك، فإن الرسل لم تخبرهم بهذا النفي، ولا هو مُدْركٌ بالعقل، ولهذا قال الله تعالى: (تلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) ، ثم قال تعالى: (بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فلة اجرة عند ربه) . وهذا حصول الخير والثواب والنعيم واللذة، ثم قال: (ولا خوف عليهم) والخوف إنما يتعلق بالمستقبل، (ولا هم يحزنون) والحزن يتعلق بالحاضر والماضي، فلا هم يخافون ما أمامهم، ولا هم يحزنون على ما هم فيه وما وراءهم، ثم إنه قال في الخوف: (وَلَا خوف عليهم) ولم يقل: يخافون، فإنهم في الدنيا يخافون مع أنه لا خوف عليهم، وقال: (وَلَاهُم يحزنون) َفلا يحزنون بحال، لأن الحزن إنما يتعلق بالماضي، وهم (2) فأنواع الألم منتفية بانتفاء الخوف   (1) سورة النمل: 64. (2) كذا في الأصل، ولعلها زائدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 والحزن، فإن المتألم لا يخلو من حزنٍ، فإذا انتفى الحزن انتفى كل ألم. وقال في عملهم: (بلى من اسلم وجهه لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن) ، فإسلام وجهه كما قاله أئمة التفسير: هو إخلاص دينه وعمله لله، وقيل: تفويض أمره إلى الله (1) . وهو (2) يَعُمُّ القسمين، كما سنبينه إن شاء الله، فإن إسلام وجهه يقتضي أنه أسلم نيته وعمله ودينه لله، أي جعله لله خالصًا سالمًا، والإحسان هو فعل الحسنات، فاجتمع له أن عمله خالص، وأنه صالح، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا" (3) . وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (4) ، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وبهذا البيان يُعرَف بالعقل أن هذا الدين الحق هو أفضل الأديان، لأن الدين هو الخضوع والانقياد والعمل، فلا بد له من شيئين، من   (1) انظر تفسير الطبري (2/432) وابن كثير (1/663) . (2) في الأصل: "وهم" تحريف. (3) أخرجه أحمد في الزهد (ص 147) . (4) سورة الملك: 2. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 مقصودٍ هو المعبود، ووسيلةٍ هي الحركة، فأي معبود يُسَامِي الله؟ وأي قصدٍ للمعبود خيرٌ من أن يكون القاصد ذليلاً له مخلصا له، لا متكبرا ولا مشركًا به؟ وأيُ حركةٍ خيرٌ من فعل الحسنات؟ فبهذا تبين أن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فإنه مستحق للثواب، كما تبين أنه لا أحسن منه. وبيان ذلك أن الوجه إما أن يكون هو القصد والنية كما قال: أستغفر الله ذنبا لستُ مُحصِيَه ربّ العباد إليه الوجْهُ والعملُ (1) والوجه مثل الجِهَة، مثل الوعد والعِدَة، والوزن والزِّنَة، والوصل والصِّلَة، وقد قررت هذا في غير هذا الموضع، وهذا مقتضى كلام أئمة التفسير، وهو مقتضى ظاهر الخطاب لمن كان يفقه بالعربية المحضة من غير حاجة إلى إضمار ولا تكلف، ومثل هذه الاَية قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)) (2) . روى الإمام أحمد في مسنده (3) عن أبي أمامة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:   (1) البيت بلا نسبة في كتاب سيبويه (1/17) ومعاني القرآن للفراء (2/314) والمقتضب للمبرد (2/321) ومصادر أخرى. (2) سورة النساء: 123- 125. (3) 5/266. وفي إسناده علي بن زيد الألهاني، وهو ضعيف. وأخرجه أحمد= الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 "إني لم أُبْعَثْ باليهودية ولا بالنصرانية، وإنما بُعِثْتُ بالحنيفية السمحة". فبين الله أنه لا دينَ أحسنُ من دينِ مَنْ أسلم وجهه لله، وهو محسن غير مسيء، واتبع ملة إبراهيم حنيفًا. وقال: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (1) ، فدل بذلك على متابعة إبراهيم في محبته لله، ومحبة الله له، ولفظ "أسلم" يتضمن شيئين: أحدهما الإخلاص، والثاني الاتباع (2) والإذلال. كما أن "أسلم" إذا استُعْمِل لازمًا مثل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (3) ، وقوله: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)) (4) ، يتضمن الخضوع لله والإخلاص له. وضدّ ذلك إمّا الكبرُ وإمّا الشركُ، وهما أعظم الذنوب، ولهذا كان الدين عند الله الإسلام، فإن دين الله أن نعبده وحده لا شريك له، وهذا حقيقة قول لا إله إلا الله، وبه بُعِثَتِ الرسلُ جميعُها، ومن عبادته وحده أن لا نشرك به، ولا نتكبر عن أمره، فلا بدَّ من الإيمان بجميع كتبه،   (6/116، 233) من طريق عبد الرحمن بن أبي زياد عن أبيه عن عروة عن عائشة بلفظ: "إني أرسلتُ بحنيفية سمحة". قال السخاوي في "المقاصد الحسنة") (ص 109) : سنده حسن، وفي الباب عن أبي بن كعب وأسعد بن عبد الله الخزاعي وجابر وابن عمر وأبي أمامة وأبي هريرة وغيرهم. (1) سورة النساء: 125. (2) في الأصل: "الاجماع" تحريف. (3) سورة البقرة: 128. (4) سورة البقرة: 131. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 وجميع رسله، وإلا لم يكن العبد مسلمًا له، ولا مسلمًا وجهه لى، إذا امتنع عن الإيمان بشيء من كتبه ورسله، وهذا هو الإسلام العام الذي دخل فيه جميع الأنبياء والمرسلين، وأممهم المتبعين غير المبدِّلين. ثم إن الإسلام في كل ملة قد يكون بنوع من الشرع والمناهج والوجه والمناسك، فلما بعث الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وختمَ به الرسلَ كان الإسلام لله لا يتمُّ إلا بالدخول فيما جاء به من الشرع والمناهج والمناسك، وهو الإسلام الخالص، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بنيَ الإسلامُ على خمسٍ " الحديث (1) . فإن الإسلام الذي في القلب لا يتمُّ إلا بعمل الجوارح، فكُنَّ مَبَانِيَ له ينبني عليها، فالمباني الظاهرة تَحمِلُ الإسلامَ الذي في القلب كما يحمل الجسدُ الروحَ، وكما تَحمِلُ العُمُدُ السقفَ، والقبةَ الأركانُ، فالإسلام الذي هو دين الله بنيَ بمبعثِ محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذه الأركان، وإن كان بُني بمبعثِ غيره على أركان أخرى، إذ الإسلام الخاص المستلزم للإسلام العام الذي بعث به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُني على هذه الخمسة. وقد تنازع أصحابنا هل يُسمَّى ما سوى ديننا هذا إسلامًا، والنزاع لفظي. كما أخبر عن حقيقة الإسلام بقوله: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ   (1) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) من حديث ابن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (1) ، فأمرهم بعد أمره لهم باتباع ملة إبراهيم أن يقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا، إلى آخر الآية، ففي ذلك الإيمان بما أنزله الله، وما اوْتيَه النبيون من ربهم، والإيمان بجماعتهم من غير تفريق بينهم، وهو الَإيمان ببعض والكفر ببعض، كما قال عن الكفار حيث قالوا: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) (2) ، وكان نصيب خالصة الأمة من ذلك أن تؤمن بجميع نصوص الكتاب والسنة، لا تُفرّق بين النصوص فتتَّبع بعضها وتترك بعضها، فبذلك يصيرون من أهل السنة، دون الذين تركوا السنن والآثار أو بعضها، أو تمسكوا ببعض آي القرآن دون بعض، من أصناف المبتدعة. وكذلك لا يُفرّقون بين أولي الأمر من الأمة من علمائها وأمرائها، بل يُعطُون كلَّ ذي حق حقَّه، ويقبلون منه ما أمر الله بقبوله منه، ويتركونه حيث تركه الله، فيكونون أهلَ جماعةٍ لا أهلَ فُرقةٍ، وهذا فيه جمع عظيم يحتاج إلى تفصيل، وذلك أن الله أمرنا بطاعة أولي الأمر منا، وأمرنا أن نعتصم بحبل الله جميعًا ولا نتفرق، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، وَبرَّأَ نبيَّه من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا.   (1) سورة البقرة: 135- 138. (2) سورة النساء: 150. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 فصل وقوله: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (1) هذه القراءة العامة التي في المصحف الإمام، وقد كان ابن عباس يقرأ: "بما آمنتم به "، ويقول: إن الله لا مثل له (2) . وتلك قراءة صحيحة المعنى، لكن قراءة العامة أحسن وأجمع، فإنه لو قيل: بما آمنتم به، وقيل: إنه أريد به الله، لقالوا: قد آمنا بالله، فإنهم لا يكفرون بأصل وجود الخالق، وإنما يكفرون ببعض كتبه ورسله وأسمائه وصفاته ودينه، ولذلك استحقوا اسم الكفر. وأيضًا فلو آمنوا بما آمنَّا به من غير أن يؤمنوا بمثل ما آمنَّا به، لم يكونوا مهتدين وإن آمنوا بجميع الأشياء، وذلك أنه سبحانه قال في المائدة لما أباح نساء أهل الكتاب وطعامهم، قال: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (3) ، والإيمان هو: الإيمان الذي هو الدين، الذي هو الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، فإن الإيمان الذي يجب على العباد اتباعُه يجب الإيمانُ به، فمن كفر بما يفعله المؤمنون من الإيمان، فقد كفر بالله. وهذا الإيمان الذي في القلوب هو مثلٌ مطابقٌ للحقيقة الخارجة، وما في القلوب [من] ، (4) الإيمان متماثل أيضًا، فنحن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم، وما أوتي النبيون من ربهم،   (1) سورة البقرة: 137. (2) أخرجه الطبري (2/600) وابن أبي حاتم في تفسيره (1/244) . (3) سورة المائدة:5. (4) زيادة يستقيم بها السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 فإذا آمنوا هم بمثل ما آمنا به- وهو ما في القلوب- فقد اهتدوا، كما أنهم لو كفروا بالإيمان الذي في القلوب لحَبِطَ عملُهم. وهنا وجهان، أحدهما: إذا صار في قلوبهم مثل ما في قلوبنا، وآمنوا به، فقد آمنوا بمثل ما آمنا به، فإنا آمنا بما في القلوب من الإيمان، فإذا صار مثله في قلوبهمِ وآمنوا به فقد اهتدوا. ويكون فائدة الإيمان بالإيمان مثل ما يقال: أَعلمُ وأَعلَم أني أعلم، وأعتقدُ أن زيدًا في الدار، وأعتقد أن اعتقادي حق، فهم مؤمنون بالإيمان غير مرتابين (1) فيه، جازمون أن جَزْمَهم حق، وأيضًا فإن هذا مستلزم، وهو كمال وتمام، لأنه إذا حصل هذا الإيمان بالإيمان، وجب حصول الأول ووجوبه، مع أنهما متلازمان من وجه آخر، فإن الوجود العملي الإرادي مع الوجود ... (2) ، لكن على هذا الوجه (3) الضميرُ فيه يعود إلى إيماننا بما أنزل، لا إلى نفس ما أنزل. الوجه الثاني (4) : أن الإيمان الذي في القلب مثلٌ مطابق للمؤمن به، كما تقدم، وقد قررت هذا في مواضع، فإذا آمنوا بهذا المثل فقد اهتدوا، والضمير هنا عائد على "ما" كما هو الظاهر، ويكون المثل كما قد قيل في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) (5) .   (1) في الأصل: "مرتابون". (2) هنا بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات. (3) في الأصل: "هذا على الوجه". (4) في الأصل:"الثالث"، تحريف. (5) سورة الشورى: 11. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 وقد يقال: المعنى، فإن آمنوا مثل ما آمنتم. والتقدير: فإن جاؤوا بإيمانٍ مثلِ الإيمانِ الذي جئتم به، ويكون "الذي" هنا صفة للمصدر الذي هو الإيمان، لا للمفعول به الذي هو المُؤمَن به، لكن هذا يفتقر إلى أن يقال: آمنت بمثل إيمانك، أي مثل إيمانك، وهذا يكون إذا ... ) (1) . وقد يقال: "المثل" مُقحَمٌ ليتبين الكلام والتوحيد، كما قد قيل مثل ذلك في نظائره لأسباب قد تكون هناك. وقوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (2) ، صَبَغَ القلوبَ والأشياءَ بهذا الإيمان حتى أنارت به القلوب، وأشرقت به الوجوه، وظهر الفرقان بين وجوه أهل السنة وأهل البدعة، كما قال في المؤمنين: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (3) ، وفي الكفار: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)) (4) ، وفي المنافقين: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (5)   (1) بعدها بياض في الأصل بمقدار سطر. (2) سورة البقرة: 137، 138. (3) سورة البقرة: 273. (4) سورة القلم: 16. (5) سورة محمد: 30. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 فصل وإذا كان الله قد شرط في من له أجرُه عند ربه ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون أن يكون محسنا مع إسلام وجهه لله، دلَّ بذلك على أن الإحسان شرط في استحقاق هذا الجزاء، وهذا الجزاء لا يقف إلا على فعل الواجب، فإن كل من أدى الواجب فقد استحق الثواب، ودرأَ العقاب، وذلك يدل على أن الإحسان واجب، وقد قال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (1) والأمر يقتضي الوجوب. وقال تعالى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (2) ، ومن فَعلَ الواجبَ فما عليه من سبيل، إنما السبيل على من أساء بتركِ ما أمِرَ به، أوفِعْلِ ما نُهِيَ عنه. وقال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) (3) ونظائره كثيرة. وفي الصحيح (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فاحسِنوا القِتْلةَ، وإذا ذَبحتم فاحسِنوا الذِّبحةَ"، ففي هذا الحديث أن الإحسان واجب على كل حال، حتى في حال إزهاق النفوس، ناطقها وبهيمتها، فَعَلَّمَهُ أن يُحْسِن القتلةَ للَادميين والذبحة للبهائم. والإحسان الواجب هو فعل الحسنات،   (1) سورة البقرة: 195. (2) سورة التوبة: 91. (3) سورة النمل: 89. (4) مسلم (1955) عن شداد بن أوس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 وهو أن يكون عمله حسنًا، ليس المراد بذلك فعل الإحسان التطوع، وهذا الإحسان في حق الله، وفي حقوق عباده، فأما في حق الله ففعل ما أمره به من غير أن يتعلق المأمور [به] ، وأما في حق عباده ففعل ما أوجب لهم من الإحسان، وترك ما لا يجوز من الإساءة. وأصل ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولهذا ثنَّى الله ذكر هذين الأصلين في القرآن في مواضع كثيرة جداً، وقال: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) الاَية (1) . وإذا كان الإحسان إلى الخلق واجبًا، وإن كان قد يكون مستحبًّا أيضًا، فالإحسان إليهم جَلْبُ ما ينفعهم ودَفْعُ ما يضرهم. والظلم ضد الإحسان الذي يدخل فيه العدل وغيره، فإن العادل محسن من جهة عدله، وأما حيث يكون العدل هو الواجب، فالعادل أي بكمال الإحسان كالعدل بين الناس في القَسْم والحكم، بخلاف عدل الإحسان في حق نفسه في استيفاء حقوقه من غير زيادة، فإن هذا محسن من جهة أنه لم يَعْتدِ ولم يظلم. وقد قررنا في مواضع كثيرة أن الظلم حرام كله، لم يُبَحْ منه شيء، وأصله قصد الإضرار، فإن الظلم إضرار غير مستحق، لكن الإضرار المستحق جائز تارة، وواجب أخرى، وإنما أبيح إضرار الحيوان للحاجة، والحكم المقيد بالحاجة مقدَّرٌ بقدرها، فليس للعبد أن يكون مقصوده بالقصد الأول إضرار بني اَدم، بل الضرار محرم بالكتاب والسنة، قال الله   (1) سورة النساء: 36. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) (1) ، وقال في المطلقات: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) (2) ، وقال: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) (3) . وأما السنة فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" مَن شَقَّ شَقَّ الله عليه، ومَن ضَارَّ أضرَّ اللهُ بهِ" (4) ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ضررَ ولا ضِرارَ" (5) . ومعلوم أن المُشاقَّة والمُضارَّة مبناها على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر لا يحتاج إليه في قصد الإضرار، ولو بالمباح، أو فعل الإضرار من غير استحقاق، فهو مضار. وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به، لا لقصد الإضرار، فليس بمضار، ومن هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث النخلة التي   (1) سورة النساء: 12. (2) سورة البقرة: 231. (3) سورة الطلاق: 6. (4) أخرجه أحمد (3/453) وأبو داود (3635) والترمذي (1940) وابن ماجه (2342) من حديث أبي صرمة الأنصاري. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (5) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/326) وابن ماجه (2340) من حديث عبادة بن الصامت. قال البوصيري في الزوائد: إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع. وأخرجه أحمد (1/255، 313) وابن ماجه (2341) من حديث ابن عباس. وفي إسناده جابر الجعفي، متهم. وفي الباب عن غيرهما من الصحابة. والحديث صحيح لشواهده. انظر "إرواء الغليل" (896) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 كانت تضرُّ صاحبَ الحديقة، لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق، فلم يفعل، فقال: "إنما أنت مُضارّ" (1) ثم أمرَ بقَلْعِها. فدلَّ ذلك على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه، ف على الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا، وهذا هو الرحمة التي بُعث بها محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)) (2) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:"إنما أنا رحمة مُهدَاةٌ" (3) . والرحمة يحصل بها نفع العباد، فعلى العبد أن يقصد الرحمة والإحسان والنفع، لكن للاحتياج إلى دفع الظلم شُرعت العقوبات، وعلى المقيم لها أن يقصد بها النفع والإحسان، كما يقصد الوالد بعقوبة ولده، والطبيب بدواء المريض. والمقصود بهذه النكتة أن الدين والشرع لم يأمر إلا بما هو نفع وإحسان ورحمة للعباد، وأن المؤمن عليه أن يقصد ذلك ويريده، فيكون مقصوده الإحسان إلى الخلق ونفعهم. واذا لم يحصل ذلك إلا بالإضرار ببعضهم فَعَلَه على نية أن يدفع به ما هو شرٌّ منه، أو يحصل به   (1) أخرجه أبو داود (3636) من حديث سمرة بن جندب. قال المنذري في "مختصر السنن" (5/240) : في سماع الباقر من سمرة بن جندب نظر، وقد نُقل من مولده ووفاة سمرة ما يتعذر معه سماعه منه، وقيل فيه ما يمكن معه السماع منه. والله أعلم. (2) سورة الأنبياء: 157. (3) أخرجه الطبراني في الصغير (1/95) والحاكم في المستدرك (1/35) والقضاعي في مسند الشهاب (1160) من حديث أبي هريرة. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 ما هو أنفع من عدمه، فهاهنا أصلان: أحدهما: أن هذا هو الذي أمر الله به ورسوله. والثاني: أن هذا واجب على العبد، عليه أن يفعله، وفاعله هو البار والبرُّ، وهو المحسن المذكور في الاَية. وقد أمر الله في كتابه بالعدل والإحسان، والأمر يقتضي الوجوب، وقد يكون بعض المأمور به مندوبًا، والإحسان المأمور به ما يمكن اجتماعه مع العدل، فأما ما يرفع العدل فذاك ظلم، وإن كان فيه نفع لشخص، مثل نفع أحد الشريكين إعطاءً أكثر من حقه، ونفع أحد الخصمين بالمحاباة له، فإن هذا ظلم، وإن كان فيه نفعٌ قد يُسمى إحسانًا. والعدل نوعان: أحدهما: هو الغاية، والمأمور بها، فليس فوقه شيء هو أفضل منه يؤمر به، وهو العدل بين الناس. والثاني: ما يكون الإحسان أفضل منه، وهو عدل الإنسان بينه وبين خصمه في الدم والمال والعِرْضِ، فإن الاستيفاء (1) عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانًا إلا بعد العدل، كما قدمناه، وهو أن لا يحصل بالعفو ضررٌ، فإذا حصل منه ضرر، كان ظلمًا من العافي، إما لنفسه، وإما لغيره، فلا يشرع.   (1) في الأصل: "استيفا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 فالعدل واجب في جميع الأمور، والإحسان قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبا، ففي الحكمِ بين الناس والقَسْمِ بينهم مَا ثَمَّ إلا العدلُ، والعدل بينهم إحسان إليهم، وفيما بين الناس وبينهم مستحبّ له الإحسان إليهم، بفعل المستحبات من الابتداء بالإحسان الذي ليس بواجب، والعفو عن حقوقه عليهم، ويدخل في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)) (1) . ونكتة هذا الكلام أن يفرق الإنسان بين العدل الذي هو الغاية، وليس بعده إحسان، وهو العدل بين الناس، وبين العدل الذي فوقه الإحسان، وهو العدل مع الناس. الأول: حقُّ الخلقِ عليه، والثاني: حقّ له عليهم. فلِكلٍّ منهما على صاحبه العدلُ، فعليه أن يُوفِّيهم العدل الذي عليه، وليس عليه أن يستوفي العدل (2) منهم، بل قد يستحب له الإحسان بتركه. ومن العدل الواجب- كما قررته في غير هذا الموضع- أن الظالم لا يجوز أن يُظلَم، بل لا يُعتدَى عليه إلا بقدر ظلمه، كما قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) (3) ، وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (4) ، وقال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا   (1) سورة الأعراف: 199. (2) في الأصل: "عدل". (3) سورة البقرة: 193. (4) سورة البقرة: 194. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)) (1) وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (2) ، وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (3) . وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القتلةَ، وإذا ذَبحتم فأحسِنوا الذبحةَ". فتبين أن الإحسان واجب حتى في القتل المستحق بإحسان القتلة والذبحة، ومعلوم أن الظلم الذي يستحق به العقوبة- سواء كان في حق الله أو حقوق عباده- لا يخرج عن ظلم في الدين، وظلم في الدنيا، وقد يجتمعان، فالأول كالكفر والبدع، والثاني كالاعتداء على النفوس والأموال والأعراض. والغالب أن الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا، وقد لا ينعكس، ولهذا كان المبتدع في دينه أشدَّ من الفاجر في دنياه، وعقوبات الخوارج أعظم من عقوبات أئمة الجور، كما قررتُ هذا في قاعدة "بيان أن البدع أعظم من المعاصي بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وبما يعقل به ذلك من الأسباب". ثم مع هذا لا يجوز أن يعاقب هذا الظالم ولا هذا الظالم إلا بالعدل بالقسط، لا يجوز ظلمه.   (1) سورة البقرة: 190. (2) سورة المائدة: 8. (3) سورة المائدة: 2. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 فهذا موضع يجب النظر فيه، والعمل بالحق، فإن كثيرًا من أهل العلم والدين والزهد والورع والإمارة والسياسة والعامة وغيرهم، إما في نظرائهم أو غير نظرائهم من نوع الظلم والسيئات، إما بدعة، وإما فجور، وإما مركّبٌ منهما، فأخذوا يعاقبونهم بغير القسط، إما في (1) أعراضهم، وإما في حقوقهم، وإما في دمائهم وأموالهم، وإما في غير ذلك، مثل أن ينكروا (2) لهم حقاً واجبًا، أو يعتدوا عليهم بفعل محرم، مع أن الفاعلين لذلك متأولون، معتقدون أن عملهم هذا عمل صالح، وأنهم مثابون على ذلك، ويتعلقون (3) بباب قتال أهل العدل والبغي، وهم الخارجون بتأويل سائغ، فقد تكون الطائفتان جميعاً باغيتين بتأويل أو بغير تأويل، فتدبر هذا الموضع، ففيه يدخل جمهور الفتن الواقعة بين الأمة، كما قال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (4) ، فأخبر أن التفرق بينهم كان بغيا، والبغي: الظلم. وهكذا التفرق الموجود في هذه الأمة، مثل الفتن الواقعة بينها في المذاهب والاعتقادات والطرائق والعبادات والممالك والسياسات والأموال، فإنما تفرقوا بغياً بينهم من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، والباغي قد يكون متأولاً وقد لا يكون متأولاً، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم لا اتباعهم.   (1) في الأصل: "من". (2) في الأصل: "ان يذكر" تحريف. (3) في الأصل: "ويتعلق". (4) سورة الشورى: 14. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 فتدبَّرْ العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغٍ يعلم أنه باغٍ لهانت القضيةُ، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بُغاة، بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يُعرِضون عن تصور بَغْيِهم، ولولا هذا لم تكن البغاة متاولين، بل كانوا ظلمةً ظلمًا صريحًا، وهم البغاة الذين لا تاويل معهم. وهذا القدر من البغي بتاويل (1) ، وأحيانًا بغير تأويل، يقع فيه الأكابر من أهل العلم، ومن أهل الدين، فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين، ولما وقعت الفتنة الكبرى كانوا فيها ثلاثة أحزاب، قوم يقاتلون مع أولى الطائفتين بالحق، وقوم يقاتلون مع الأخرى، وقوم قعدوا اتباعًا لما جاء من النصوص في الإمساك في الفتنة. والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي فتنٌ، وإن لم تَبلُغِ السيفَ، وكل ذلك تفرق بغيًا، فعليك بالعدل والاعتدال والاقتصاد في جميع الأمور، ومتابعة الكتاب والسنة، وردّ ما تنازعت فيه الأمة إلى الله والرسول، وإن كان المتنازعون (2) أهل فضائل عظيمة ومقامات كريمة، والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. تمت القاعدة   (1) في الأصل: "تاويل". (2) في الأصل: "المتنازعين". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 فصل في حق الله على عباده وقِسْمِه من أم القرآن، وما يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 فصل في حق الله على عباده، وقِسْمِه من أم القرآن، وما يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه، ونحو ذلك. قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) وقوله: (ما أريد منهم من رزق) هو نكرة في سياق النفي، تعم كل رزق، فيعمُ اللفظ: مِن رزقٍ لي، ومن رزقي لهم، ومن رزقٍ من بعضهم لبعض، لكن قوله بعد ذلك: (وما أريد ان يطعمون (57)) والإطعام هو رزق له، فقد يقال: هو تخصيص بعد تعميم، وقد يقال: الأول رزق المخلوق والثاني [يتعلق] بالخالق، فيكون المعنى: ما خلقتهم إلا ليعبدون، لا ليطعمون، ولا ليرزقوا (2) أحداً، فإن الله هو الرزاق الذي يرزق الخلق، وهو ذو القوة المتين. فبيَّن الله بهذه الاَية أنه خلقهم لعبادته التي أرادها منهم، فهي مراده ومطلوبه، لا يريد منهم أن يرزقوه، ولا أن يطعموه، لأنه لما نفى الإرادة عن الرزق وإطعامه، دلَّ على إثباتها للعبادة، وفي إثباتها للعبادة ونفي إرادة الرزق والإطعام دليلٌ (3) على أن له حقاً عليهم   (1) سورة الذاريات: 56- 58. (2) في الأصل بإثبات النون، والصواب حذفها، أو إثباتها وحذف "أحدَا". (3) في الأصل: "دليلاً". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 يريده منهم، وهو محبّ له، راضٍ به. وقال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (1) وقال: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (2) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)) (3) ، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) (4) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)) (5) ، وقال: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (6) ، وقال: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (7) ، وقال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) في مواضع (8) . وقد جاءت السنة بذكر حقه عليهم، في الصحيح (9) عن معاذ بن جبل قال: كنتُ رديفَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا معاذُ! أتدري ما حق الله على عباده؟ " قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم". وروى الطبراني في كتاب الدعاء (10) مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يقول   (1) سورة الحج: 37. (2) سورة فاطر: 10. (3) سورة البقرة: 222. (4) سورة الصف: 4. (5) سورة المائدة: 42. (6) سورة المائدة: 54. (7) سورة آل عمران: 31. (8) سورة المائدة: 119، سورة التوبة: 100، سورة البينة: 8. (9) البخاري (128 ومواضع أخرى) مسلم (30) . (10) برقم (16) من حديث صالح المريّ عن الحسن عن أنس. وصالح ضعيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي، فتعبدني لا تشرك بي شيئَا، وأما التي هي لك، فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك، فمنك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأتِ إلى الناس ما تُحِبُّ أن يأتوه إليك ". وفي صحيح مسلم (1) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول الله تعالى: "قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، فنصفهاِ لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين (2)) ، يقول الله: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم (3)) ، يقول الله: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين (4)) ، يقول الله: مجَّدني عبدي- وفيِ رواية: فوَّض إليَّ عبدي- وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) قال: فهذه الاَية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قال الله: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل". ففي هذا الحديث أن النصف الأول- وهو الحمد والثناء والتمجيد والعبادة- لله تعالى، والنصف الثاني- وهو الاستعانة والمسألة- للعبد، هذا مع العلم بان العبد يثاب على حمده وثنائه وعبادته، وقد يحصل له بذلك من الثواب أكثر مما يحصل بالاستعانة والسؤال، [و]   (1) برقم (395) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 لا بدَّ أن تكون للنصف الذي هو للرب خاصيةٌ تعود إلى الرب، تميزها عن نصف العبد، وإلا فإذا كان للعبد في كلاهما أجر وثواب، فتخصيص أحدهما بأنه للرب، لا بدَّ فيه من خاصية للرب. وأيضًا فإن الله أخبر (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (1) ، وقال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) الآية (2) ، وقد ورد في الصحيحين (3) عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالوا: أيُّنا لم يَظلِمْ نفسَه؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيمٌ " أو كما قال. وفي الحديث عن طائفة من السلف، ورُوي مرفوعًا (4) : "الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشرك، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا. فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا، فهو الشرك، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا، فهو ظلم العبد نفسه، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا، فهو الظلم للعباد بعضهم بعضًا". وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ   (1) سورة لقمان: 13. (2) سورة الأنعام: 82. (3) البخاري (32) ومسلم (124) . (4) أخرجه أحمد في مسنده (6/240) والحاكم في "المستدرك" (4/575) من حديث عائشة مرفوعاً. وإسناده ضعيف. قال الذهبي في تلخيص المستدرك: صدقة ضعفوه، وابن بابنوس فيه جهالة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)) (1) ، فجعل الظلم في حق الله تعالى قسمًا خارجًا عن ظلم العبد نفسه، وعن ظلم العباد، وهذا يقتضي أن لله فيه حقًّا قد ضيَّعه العبد، لا أنه مجرد ظلم العبد نفسه كالمعاصي، وإن كانت المعاصي مخالفةً لأمر الله وتركًا لما أوجبه، وجنايةً على دين الله. وأيضًا فإن الله قد أخبر أنه يحب الحسنات المأمور بها، من الإيمان والعمل الصالح، وأنه يرضاها، ويحب أهلها، ويرضى عنهم، والحب مستلزم للإرادة، وهو مع ذلك فقد شاء جميع الكائنات، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد قررتُ هذه القاعدة في غير هذا الموضع، وبينتُ الفرقَ بين كلماته الكونيات، وما يتصل بها من أمر وإرادة وإذن وحكم وبعث وإرسال وغير ذلك، وبين كلماته الدينيات، وما يتصل بها من أمر وإرادة وحكم وبعث وإرسال، قررت هذا الأصل الفارق في غير موضع، وأن منه تزول الشبهات الحاصلة في مسائل الدين والقدر وتعارضهما. وحقيقة ذلك تعود إلى أن الدين الذي أمر الله به شرعًا من بين سائر الكائنات، له من الله مزية واختصاص بذلك صار محبوبًا مأمورًا به، وذلك من وجهين: أحدهما: من جهة عوده إلى الخلق، لما في الدين من مصلحتهم ومنفعتهم في الدنيا والآخرة بالثواب والنعيم المقيم المتعلق بالمخلوق، والمتعلق بالخالق، كالنظر إلى وجهه الكريم.   (1) سورة البقرة: 254. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 والثاني: من جهة عوده إلى الخالق، حتى يصح أن يكون محبوبًا لله مرضيًّا محمودًا مفروحًا به، وإلا فنفسُ تَنعُّم هذا العبد وتعذب هذا العبد، وصلاح هذا وفساد هذا، سواءٌ بالنسبة إلى الله من جهة الخلق والمشيئة والتكوين، فلابد أن يكون لأحدهما إلى الله إضافة وتعلق ونسبة بها يكون محبوبًا له، مرضيًّا مفروحًا به، محمودًا مثنيًّا على أصحابه، ويكون الآخر مسخوطًا عليه، ممقوتًا مبغضًا، ونحو ذلك، وراء ما يلحقه من العذاب. وهذا الفرق هو حقيقة الدين، وسرّ الأمر والنهي، وغاية التكليف الشرير، ومقصود الرسالة والكتاب، ولهذا تكلم الناس في علة خلقه للخلق، ثم أمره بالدين. فقال فريق: إنه فعل ذلك لنفع الخلق ومصلحتهم، وزعموا أن هذا وجه حسن الفعل والأمر، وإن لم يكن هذا واقعًا بالجميع ولا عائدًا منه حكم إلى الفاعل، وهذا قول المعتزلة وغيرهم من القدرية، ثم التزموا على هذا مسائل التعديل والتجوير، والتحسين والتقبيح بالقياس الفاسد على الخلق، واضطربوا فيه اضطرابًا لا ينضبط. وقد يوافق بعض أهل السنة- من أصحابنا وغيرهم- هؤلاء في بعض المسائل التي لا تخالف الأصول المشهورة في السنة، وعارضهم كثير من متكلمة الإثبات للقدر، الذابين عن السنة في مواضع كثيرة، فقالوا: لا يجوز تعليل شيء من ذلك، بل خلقَ وأمرَ لمحض المشيئة، وصِرْف الأرادة، ولا يجوز تعليل ذلك بمصلحة العباد ونفعهم، ولا غير ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 ثم إن كثيرًا من العلماء يعتقدون أن ليس في هذا الأصل العظيم الجامع- المتعلق بأصول الدين والتوحيد، وبأصول الفقه وبالشريعة- إلا هذان القولان (1) ، إما التعليل بنفع العباد وصلاحهم، وإما ردّ ذلك إلى محض المشيئة والإرادة الصرفة، وهذا القول الثاني يلزمه من اللوازم الفاسدة- التي تتضمن التسوية بين محبوب الله ومكروهه، ومأموره ومنهيه، وأوليائه وأعدائه- أشياء فيها من البطلان والشناعة ما يُعلَم به تفريط هؤلاء وغلطهم، كما فرط الأولون. ويقارب هؤلاء من يقول من الفلاسفة وغيرهم: إن هذه المخلوقات لازمة لذاته، وإن قالوا: إنها صادرة عن عنايته، وإن تضمنت ما تضمنت من منافع الخلق ومصالحهم بطريق اللزوم. ويجعلون ذلك علة غائية. ثم إنهم يتناقضون فلا يجعلون ذلك مقصودًا للفاعل ولا مرادًا له بالقصد الأول، وإلا لزمهم ما لزم الأولين من التعليل، فيثبتون في أفعاله من الحِكَم والعِلَل الغائية والمنافع ما لا يصدر إلا عن قصد وإرادة، ثم يتكلمون عن الإرادة بما يناقض ما قالوه. ومما يبين ذلك أن يقال لمنكري التعليل- الذين لا يثبِتون وراء العلم والإرادة لا حكمةً، ولا رحمةً، ولا لطفًا، ولا محبةً، ولا رضًى، ولا فرحًا، ولا غضبًا، ولا مقتًا، ولا غير ذلك، بل يجعلون لذلك إرادة أو فعلاً-: معلومٌ أن الإرادة المحضة خاصتها التخصيص   (1) في الأصل: "هذين القولين". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 والتمييز، كتخصيص بعض الأعيان بنوع من المقادير والصفات والحركات وغير ذلك، مما يمكن ضده وخلافه. أما التخصيص بالخير دون الشر، والنفع دون الضر، والنعيم دون العذاب، وجَعْلُ هذا محبوبًا، وهذا مودودًا مرضئا، وهذا ممقوتًا مبغضًا مسخوطًا، فلا يجوز أن يكون معنى هذا الإرادة المحضة، لأن الإرادة متعلقة (1) بكل حادث، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وحكمُها في سائر أنوٍ اع الحوادث حكم واحد، فلِمَ سُمِّيَتْ هنا محبة وهنا بُغضًا؟ وهنا رضى وهنا غضبًا؟ وهنا مودةً وهنا مقتًا؟ ألا ترى أن الإرادة المتعلقة بغير المأمور به والمنهي عنه لا تتنوع إلى ذلك، فلا يقال في حق الجائع والشبعان والصحيح والمريض والاَمن والخائف والناكح والمحتلم والغني والفقير والرئيس والمرؤوس: هذا محبوب مرضيٌّ مودود، وهذا مبغض مسخوط ممقوت، وإن كان أحدهما متنعمًا بما هو فيه، والاَخر معذَّبًا بما هو فيه. فإذا كان قد أثاب قومًا بعملهم الصالح في الدنيا والآخرة، وعاقب قومًا بعملهم السيء في الدنيا والآخرة، والجميع بمشيئته، كما أن التفريق بين الجائع والشبعان، وبأنه بمشيئته، فلم يجعل في هؤلاء محبوبًا ومكروهًا، ولم يجعل في باب الشبعان والجائع محبوبًا ومكروهًا، حيث لا يتعلق به أمر شرعي، فتعلُّقُ الحبِّ والرضى والبغض والسخط بالأمر الديني الشرعى، دون مالم يتعلق به ذلك- مع   (1) في الأصل: "المتعلقة". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 أن الإرادة عامةُ التعلُّقِ بجميع الكائنات- دليل على أن باب أحدهما ليس هو باب الآخر. وهذا بَيِّنٌ معقولٌ ببرهانٍ لمن تأمله، وهو دليل عقلي على ثبوت هذه الصفات، كما كان أصلُ التخصيصِ دليلاً على ثبوت الإرادة. ويُقال لمثبتي التعليل من القدرية: عندكم أن جميع هذه الصفات تعود إلى معنى النفع والإضرار، فإن مصلحة العباد والإحسان إليهم وغير ذلك هو عندكم نفعهم، وضد ذلك إضرارهم، فعَطَّلتم صفاتِ الله من هذا الوجه، ولكم في الإرادة من الاضطراب ما هو مذكور في غير هذا الموضع. ثم تزعمون أنه إنما خلق وأمر لنفع الخلق، فيقال لكم: وأي فرق بالنسبة إليه، نَفَعَهم أو لم ينفعهم؟ فإن جعلتم ذلك قياسًا على الخلق، فالخلق إنما يحسُنُ منهم نفع بعضهم لبعض، لأن النافع يعود إليه من نفعه مصلحة له، وإلا فحيث لا مصلحة له في ذلك، لا يكون نفعه حسنًا. ويقال لكم أيضًا: النافع من الخلق يختلف حاله، بين ما قبلَ أن ينفع وبعدَ ما ينفع، فيُكسِب نفسَه بذلك صفةَ كمالٍ له، يُدرِك ذلك من نفسه، ويُدرِك ذلك الخلقُ منه، فنفسُ السخي الجواد أكمل وأشرف وأعظم من نفس البخيل الجبان، كما قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)) (1) ، وقال: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ   (1) سورة الشمس: 9، 10. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)) (1) ، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة. ويقال لكم: إذا كان المقصود مجرد النفع، والفاعل قادرٌ، فهلاَّ حصل؟ ففي انتفائه في صُوَرٍ كثيرة وحصول الضرر دليلٌ على أن هناك مقصودًا آخر. ويُورَد عليهم ما في المخلوقات من أنواع المضار، وما في المأمورات من ذلك، وقد عُرفَ اعتذارُهم عن ذلك، وما فيه من التناقض والفساد. ويُقال لهم: ما الموجبُ لما وقع من أنواع المضرَّات بالكفار والفساق؟ إذا كان المقصودُ نفعَهم بالتكليف، وهم لم يقبلوا هذا النفع، فما الموجب لمقابلتهم بأنواع من العقاب والسخط والمقت إذا لم يصدر منهم إلا مجرد عدم قبول نفعهم؟ لولا أن هناك أسبابًا أخرى وحكمةً أخرى لم يعلموها، ولم يتكلموا بها، فهذا هذا. وأيضًا فالكتاب والسنة إنما أطلق الحب والبغض والودَّ والمقت والرضا والغضب والفرح والأذى، دون لفظ اللذة والألم، لأن هذين الاسمين كثيرًا ما يطلقان في خصائص المخلوق التي تنفعه وتضره، مثل الاكل والشرب والنكاح، ومثل المرض الذي هو الوَصَبُ والنَّصَبُ والجوع والعطش والعذاب بالنار ونحو ذلك، قال الله تعالى: (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ   (1) سورة الليل: 5- 10. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 مُصَفًّى) (1) ، وقال: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) (2) ، وقال تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)) (3) ، فالالتذاذ والانتفاع متقاربان، والتألم والتضرر متقاربان، وإن كان المنفعة والمضرة أعمَّ في الاستعمال، ولهذا قيل: إن المنفعة قرينة الحاجة، فإنما ينتفع الحي بما هو محتاج إليه، ويتضرر بما يؤلمه، وقد قال الله تعالى- فيما يُروى في الحديث الصحيح (4) -: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضرّي فتضروني "، وهذا الحديث ينفي بلوغَ الخلقِ لذلك، وعجزهم عن ذلك، وما فعله الخلقُ فإنما فعلوه بقوة الله ومشيئته وإذنه، ولا حول ولا قوة إلا به. وقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (5) ، وقال: (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) (6) ، وقال في الحديث الصحيح (7) : "يؤذيني ابن آدم". وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما أحدٌ أصبرَ على أذى يسمعه من الله " (8) ، كما قال: "ما أحدٌ أحبَّ إليه المدحُ من الله " (9) ، وقال: "ما   (1) سورة محمد: 15. (2) سورة الزخرف: 71. (3) سورة الانشقاق: 24. (4) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر. (5) سورة الأحزاب: 57. (6) سورة الزخرف: 55. (7) عند مسلم (2246) من حديث أبي هريرة. (8) أخرجه البخاري (6099) ومسلم (2854) من حديث أبي موسى. (9) أخرجه البخاري (4634) ومسلم (2765) من حديث ابن مسعود. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 أحدٌ أغيرَ من الله، وما أحدٌ أحبَّ إليه العذرُ من الله" (1) ، فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ليس أحد يحب أن يُمدح ويعذر مثل ما يحب الله ذلك، ولا أحد أصبر على أذاه وأغير على محارمه من الله، فالممدوح بإزاء المعذور يمدح على إحسانه، ويعذر على عدله وعقوبته، والصبر بإزاء الغيرة، يصبر على أذى خلقه له، ويَغَارُ أن تُرتكب محارمه. وعن هذا خُلُق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قالت عائشة: "ما انتقمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطُّ لنفسه، إلا أن تُنتَهك محارمُ الله، فإذا انتُهِكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله" (2) . فهذا صبر الرسول على ما يؤذي، وهذا غيرته وانتقامه لمحارم الله. وفريق رابع يقولون: إنه فعل ذلك ليُحمَد ويُشكَر ويُمجَّد، أعني خَلْقَه سبحانه للخلق، كما دلت عليه النصوص في مثل قوله تعالى: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (3) ، وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (4) ، وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (5) ، وقوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (6) ، وقوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (7) ، وقوله: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ   (1) أخرجه البخاري (7416) ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة. (2) أخرجه البخاري (6853) ومسلم (2327) . (3) سورة الذاريات: 56. (4) سورة البقرة: 21. (5) سورة المائدة: 89. (6) سورة البقرة: 152. (7) سورة لقمان: 14. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)) (1) ، وقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)) (2) . وفي الأحاديث كثير، مثل قوله ... (3) . لكن هؤلاء [يَردُ] عليهم سؤالان عظيمان، سؤال متعلق بالأفعال والقدر، وسؤال متعَلق بالأسماء والصفات. أحدهما: أنه فعل ذلك، فلمَ لا حصلَ مراده مع قدرته عليه؟ فإذا كان مراده العبادة، فلِمَ لا حَصلت من جميعهم؟ وهذا السؤال لما استشعر الناس وُرُوْدَه، أجابوا عنه على أصولهم، فقال كثير ممن ينصر السنة: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) (4) : إلا ليعرفُون، يعني المعرفة العامة الفطرية الموجودة في المؤمن والكافر. وهذا الَقول ضعيف جدّا، لأنه ذمهم على ترك ذلك، ولأن ذلك لم يوجد من المجانين ولا من الجاحدين، ولأنه أيُّ مقصود له في ذلك حتى ينفيَ إطعامَهم ويُثبِتَ ذلك، إذا كان الكلُّ سواء؟ ومنهم من جعل الجنَّ والإنس هنا خاصّا لمن عبدَه، وهو ضعيف لوجوه. ومنهم من قال: إلا لآمُرَهم بالعبادة. وهو قريب إذا تمّم.   (1) سورة المائدة: 6. (2) سورة إبراهيم: 37. (3) بعده في الأصل:"في الأصل مكان خال مقدار سبعة أسطر". (4) سورة الذاريات: 56. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 وقالت القدرية: ما أراد منهم كلهم إلا العبادة، لم يُرِدْ غيرَ ذلك، لكن منهم من خالف مرادَه كما عصى أمرَه، ومنهم من لم يخالف. فقيل لهم: ولِمَ خلقَهم للعبادة؟ فقالوا: لنفعهم. قيل لهم: فقد أراد ما علم أنه لا يحصل. وقيل لهم: لأيِّ شيء أراد نفعَهم؟ فاضطربوا. ثم قيل لهم: فلِمَ لا أعانَهم على مراده؟ فقالوا: استفرغ وسعه، ولم يُمكِنه أن يجعل لهم إرادة، وإنما أمكنه أن يجبرهم ويضطرَّهم إلى الإيمان والعبادة، وتلك لا تنفعهم. وأما العبادة الاختيارية فلا يقدر عليها إلا هم، ولا يفعلها إلا هم. والتزموا من اللوازم الفاسدة ما يطول وصفه، وردّ الناس عليهم ردودًا يطول وصفها. وقيل لهم: وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) (1) ، وقال: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (2) ، قال جمهور السلف: ما دلَّ عليه الخطاب: خلقَ فريقًا للرحمة، وفريقًا للاختلاف. فقالوا: هذه لام العاقبة والصيرورة، لا لام الغرض والقصد   (1) سورة الأعر اف: 179. (2) سورة هود: 118، 119. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 والإرادة، فإن الفاعل الذي يَقصِدُ غايةً تكون اللام في فعله للتعليل والإرادة، إذ هي العلة الغائية، والذي لا يقصدها تكون اللام في فعله لام العاقبة. فيقال لهم: لام العاقبة إما أن تكون من جاهل بالعاقبة، كقوله: (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) (1) ، أو من عاجز عن دفع العاقبة السيئة، كقولهم (2) : لِدُوا للمَوتِ وابْنُوا للخَرابِ وقولهم (3) : وللموتِ مَا تَلِدُ الوالِدَهْ فأما العالم القادر فعلمه بالعاقبة وقدرتُه على وجودِها ودفعِها، يبتغي أن لا يكون مريداً لها. فافترق القدرية فرقتين: منهم من اختار أنه لم يكن عالمًا بما يؤولُ إليه الأمرُ من الطاعة والمعصية.   (1) سورة القصص: 8. (2) هذا صدر بيت عجزه: فكلكم يصير إلى ذهابِ. واختلف في نسبته، فهو لأبي نواس في ديوانه (ص 250) ، ولأبي العتاهية في الأغاني (3/155) وديوانه (ص 23- 24) ، وبلا نسبة في الحيوان (3/51) . (3) وقع هذا الشطر في شعر عدد من الشعراء، انظر "شرح أبيات مغني اللبيب" (4/296، 297) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 ومنهم من اختار أنه لا يقدر على أن يَفعلَ بهم غيرَ ما فعل من الإعانة، وهؤلاء أكثر القدرية. ولا بدَّ من بيان الكلام في ذلك على أصول العربية التي نزل بها القرآن، فإن هذه اللام التي يُنصَبُ بها الفعلُ تسميها النحاةُ لام [كَيْ] ، وهي في الحقيقة لام الجرّ، أُضمِرَ بعدها "أنْ" فانتصب الفعل، ولهذا تليها الأسماء المجردة، كما في قوله: (لِجَهَنَّمَ) . والمجرور بها تارةً يكون سببًا فاعليًّا، كما تقول: فعلتُ هذا لأني اشتهيتُه وأحببتُه. وقد يكون سببًا غاليًّا، كما تقول: فعلتُ هذا ليُرضي زيدًا وليُحسن إليَّ. وأما المنصوب على المفعول له فلا يكون إلا لسبب الفاعل، كقوله: (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) (1) ونحو ذلك، والفرق بينهما مذكور في غير هذا الموضع. وأما الذين أَجْرَوا الآيةَ على مقتضاها مع الإيمان بالسنة، وقالوا: المراد أن يُعبد ويُحمد ويُشكر، فمنهم من يقول: قد وُجدَ ذلك من بعضهم. ومنهم من يقول: مقصوده أمرهم بذلك، لا نفس وجودَ المأمور به. والتحقيق أن اللام هنا لام إرادة المحبة والرضا والأمر، لا لام الإرادة العامة الشاملة للكائنات. واللام في قوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (2) (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ) (3) لام الإرادة العامة الشاملة، فتلك الإرادة   (1) سورة البقرة: 207. (2) سورة هود: 119. (3) سورة الأعراف: 179. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 الدينية، وهذه الإرادة الكونية، ويجب الفرق بين اللامين والعلتين والغايتين، كما فرق بين الأمرين والإرادتين والحكمين والبعثين والإرسالين. وليس كلُّ ما يحبه ويرضاه ويفرح به لخلقه يكون، وإنما كل ماشاء يكون. وقد رُوينا في كتاب القدر (1) عن ابن عباس: أن الأنبياء موسى وعزيرًا والمسيح سألوا عن هذه المسألة، فقالوا: أيْ رب! أنت رب عظيم، لو تشاء أن تُطاعَ لأطِعْتَ، ولو تشاء أن لاتُعصَى لما عُصِيْتَ، وأنت تُحِبُّ أن تُطَاعَ، وأنت مع ذلك تُعصى؟ فاوحى الله إليهم: "إنّ هذا سِرّي، فلا تسألوني عن سِرّي". وذلك أنه وإن أحث عبادتهم، فلا يجب في كل ما أحبه الحيُّ أن يفعله، بل قد يكون في حقنا من يترك محبوبه لمعارضٍ راجح، أو يتركه فلا يفعله لا لمعارض راجح، ولا نَقْصَ في ذلك، كالأفعال الحسنة التي تُستحبُّ لنا، كما قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (2) .وقال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (3) .   (1) من الإبانة لابن بطة (2/314) . وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 260) ، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/200) : فيه أبو يحيى القتات وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها. ومصعب بن سوار لم أعرفه. وبقية رجاله رجال الصحيح. (2) سورة البقرة: 253. (3) سورة إبراهيم: 27. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 وأيضًا فإن الله يُحِبُّ هذه الأعيان والأفعالَ والصفاتِ بتقدير وجودها، كما يسمع المسموعاتِ ويُبصر المدركات بتقدير وجودها، وأما ما لم يُوجَد منها وقد عُلِمَ أنه لا يُوجد، فلا يقال: إنه يُحِبُّ العدمَ المحض والنفيَ الصرف، كما لم يتعلق به حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، والله خلق الجن والإنس، والغايةُ المحبوبة منهم التي بها يَكمُلُون ويصلحون وينالون الكرامةَ ويحبُّهم الحقُّ أن يعبدوه، فإذا لم يَبلُغوا هذه الغايةَ لم يبلغوا سعادتَهم، ولا محبوبَ الحقِّ منهم. ثم إن منهم من شاء كونَ العبادة أمنه، فأعانَه، ومنهم من لم يشأكونَ ذلك منه فلم يُعِنْه، ولكنه من ذَرْئه لجهنم. السؤال الثاني: أيُ مقصود له في أن يعبدوه ويحمدوه إذا كان غنيّا عن العالمين؟ وهو أحدٌ صمدٌ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد. ثم إما أن يكون يحصل بالعبادة ما لم يكن حاصلاً، فيكون قبله ناقصاً، أو يكون قبل العبادة وبعدها سواء، فسِيَّانِ عبدوه أو لم يعبدوه. ويتصل ذلك الكلام في حلول الحوادث به، إذا حصل له بالعبادة ما لم يكن حاصلاً. وهذا السؤال هو الذي منع جمهور متكلمي أهل الإثبات عن التعليل وردّ الأصول إلى محض المشيئة، فيقولون في الجواب: غِناه عن العالمين لا يَمنع أن يحبَّ ويرضى ويفرح، والإيمان به، وعبادته، وشكره، والعمل الصالح، وأن يفرح بتوبة التائب (1) ، لأن هذه الأشياء   (1) في الأصل: "الساب". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 إذا وُجدَتْ فهو الذي خلقها وأوجدها، فلم يكن في ذلك فقرٌ إلى غيره بوجه مَن الوجوه. وأما تجدُّد هذه العبادات فهو بمنزلة تجدُّد المسموعات والمرئيات في كونه يسمعها ويراها، فما كان الجواب عن تلك فهو الجواب عن هذه. كما يقال: إما أن يكون بالسمع والبصر يَحصُلُ له إدراكٌ لم يكن، أو لم يَحصُلْ؟ فإذا لم يَحصُلْ فلا فرق بين وجودها وعدمها، وإن حصل لزم أن يكون قبل ذلك ناقصًا، ولزِمَ حلولُ الحوادث به. فإذا أُجيب عن ذلك بأن ذلك ليس بكمال بالنسبة إليه، أو أنَّ المتجدِّد هوَ أمر عدمي لا أمر ثبوتي، وقنع العقل بذلك الجواب، فهو الجواب هنا. وإن قيل: الكمال أن يكون بحيثُ يَسمع ويُبصِر كلَّ ما يحدث من مسموع ومرئي. قيل: والكمال أن يكون يحبّ ويفرح بكل ما يحدث من محبوبٍ ومرضيّ ومفروح به. وإذا قيل: ليس ثبوت هذا الإدراك بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق التي تستلزم حدوثَه وإمكانَه. قيل: وليس (1) ثبوت هذه الأحوال المتعلقة بالإدراك- من المحبة   (1) في الأصل: "وليست". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 والرضا والفرح والغضب- بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق، التي تستلزم حدوثه وإمكانه. وإن قيل: إن علمه وسمعه وبصره وإرادته تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما يتجدَّدُ من الأشخاص التي تندرج فيها. قيل: وكذلك محبته ورضاه وفرحه تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما يتجدد من الأشخاص التي تندرج فيها. فما كان جوابًا عن أحد البابين، وهو ما أُثْبِتَ من الصفات كالسمع والبصر والإرادة، فهو الجواب عن الباب الآخر، وهو المحبة والرضى والفرح ونحو ذلك. وإنما يتخيَّلُ الفرقُ لكثرة النظر والاعتبار في أفعال الربوبية، وتعلقِها بالصفات التي بها صدرتِ الأفعالُ ودلَّت الأفعالُ عليها، فإن أكثر نظر الكلاميين والبحاثين في هذا. وأما النظر في الغايات المطلوبة في العباد، وهو مقتضى الإلهية وما يتعلق بذلك من صفات الحب والبغض والرضا والغضب، فإن الرسل الذين دَعَوا إلى عبادة الله جاؤوا به، وإنما يحققه أهل العلم والإيمان من أهل ولاية الله تعالى وخاصته. فإن قيل: هذا يقتضي وصفَه باللذة، ومَن وصفَه بها وصفَه بالألم، وذلك يقتضي حدوثه أو إمكانه. قيل: العبارات المجملة لا نُطلِقُها إذا لم يجيء بها الشرعُ إلا مفسَّرةً، فالشرع جاء بالحب والرضا والفرح والضحكْ والبشبشة ونحو ذلك، وجاء أنه يُؤذى ويصبر على الأذى، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 ورسوله) (1) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أحدٌ أصبرَ على أذًى يسمعُه من الله" (2) . وقال الله تعالى: "يُؤذيني ابنُ آدمَ يَسُبُّ الدهرَ وأنا الدهرُ، بيدي الأمرُ أقلِّبُ الليلَ والنهارَ" (3) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للباصقِ في القبلة: "إنك قد آذيتَ الله ورسوله" (4) ، وقال: "مَنْ لكعب بن الأشرفِ، فإنه قد آذى الله ورسوله" (5) . فهذه الصفات حقّ نطقَ بها الكتاب والسنة، واتفق عليها سلفُ الأمة وعامة أهل العلم والإيمان من أهل المعرفة واليقين، ودلَّ العقل القياسي والعقل الإيماني على صحتها، فلا خروجَ عن هذه الأدلةِ والسنةِ والجماعة وزمرةِ الأولياء والأنبياء. وأما إطلاق لفظ "اللذة" فقد أطلقه قومٌ من أتباع الأوائل ومن هذه الأمةِ المتفلسفة وغيرهم، كما أطلقوا لفظ "العشق"، وهو بالمعنى الذي فسروه به ليس بباطل، لكن اتباع الألفاظ الشرعية في هذا الباب من الأدب المشروع لنا، إما إيجابًا وإما استحبابًا، فإذا تركنا إطلاق هذا اللفظ مع صحة المعنى، فلعدم جواز الخروج عن الألفاظ الشرعية في هذا الباب، أو لاستحباب ترك الخروج عن الألفاظ الشرعية في هذا الباب.   (1) سورة الأحزاب: 57. (2) سبق تخريجه قريبًا. (3) سبق تخريجه قريبًا. (4) أخرجه أحمد (4/56) وأبو داود (481) من حديث أبي سهلة. (5) أخرجه البخاري (2510) ومسلم (1801) من حديث جابر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 وأما إذا كان اللفظ فيه إجمال، فإطلاقه بلا تفسيرٍ ممنوع منه، لما فيه من إضلال المستمع، وتنفير القلوب الصحيحة، ولعدم دلالته على المعنى المقصود إلا بعد مقدمات غير مذكورة، لكن هؤلاء يجعلون ذلك متعلقًا بنفسه فقط، فيقولون: هو عاشق ومحبّ لنفسه، ويلتذُّ ويبتهج بها، أو، الذي جاءت به الكتب والرسل أن حكم ذلك يتصل بعباده الصالحين، فيحبهم ويرضى عنهم ويفرح بتوبتهم، وإلى هذا دعت الرسل، وفيه نزلت الكتب. والقراَن والإيمان يفرِّقان بين من يحبه ويبغضه، ويرضاه ويسخطه، ويودُّه ويمقته، وبذلك حصل الفرق بين أولياء الله وأعدائه. وأولئك المتفلسفة لا يصعدون إلى هذا، فإنهم صابئة، وغالبهم عُبَّاد لغير ذلك من العلويات والسفليات إلا من هداه الله، فآمن بالله واليوم الآخر، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (1) . وأما كون ذلك مستلزمًا للحدث أو الإمكان فلا دليلَ عليه البتة، بل عامة الصفات الثابتة قد يقال فيها مثل ذلك. ومن أثبتَ شيئًا من الصفات مثل إرادة قائمة، يُورَدُ عليه مثلُ ذلك، بل نفس إثبات كونه خالقًا وآمرًا بالدين، يُورَدُ عليه مثلُ ذلك، وهو إيراد فاسد، لأن مبناه على قياس الله على ابن اَدم، الذي كان معدومًا ثم وُجِدَ، ولا وجودَ له   (1) سورة البقرة: 62. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 من نفسه، وإنما وجوده بخالقه، والله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا يجوز ضربُ المثلِ له من مخلوقاته. وإذا تبيّن أن الإرادة نوعان: منها ما هو بمقتضى الربوبية، وهي الإرادة الكونية، ومنها ما هو بمقتضى الإلهية، وهي الإرادة الدينية، فالأولى إرادة فاعلية، والثانية إرادة غائية، الأولى من اسمه الأول، والثانية من اسمه الآخر، الأولى يكون الرب بها مريدًا والعبد مرادًا إرادةَ تكوين وربوبية، ولذلك قد يكون مريدًا، والثانية يكون الربُّ بها مريدًا إرادةَ حبّ ورضًى وإلهيةٍ، والعبد أيضًا مريدًا إرادةَ عبادةٍ وديانةٍ وإنابةٍ وإرادةٍ وقصدٍ، وقد يكون بها مرادًا إرادةَ ربوبيةٍ إذا حصل ذلك. تمت هذه القاعدة بحمد الله وعونه، والحمد لله وحده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 فصل في صفات المنافقين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 (وهذا فصل من كلام الشيخ تقي الدين رضي الله عنه من غير الكلام الأول) . فصل ذكر الله المنافقين في القرآن فوصفهم بصفاتٍ كقول الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)) (1) . وهذا كما قال من قال من السلف المفسرين، كقتادة وغيره: عرفوا ثم أنكروا، وأبصروا ثم عَمُوا، واهتدوا ثم ضلوا، ونحو ذلك. فإنه أخبر أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وهذه حال من أخذ الضلالة التي لم تكن عنده، وأخرج الهدى الذي كان عنده، وإن كان قد يُقال: إن مثل هذا قد يُقال للقادر على الأمرين، إذا ترك هذا وأخذ هذا، لكن سياق الكلام يدل على الأول، فإنه قال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) أي طلب إيقادها وأوقدها، (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) إلى آخر الاَية، فمثَّلَهم بالذي جعل لنفسه نارًا يُنتفع بضوئها، فلما أضاءت   (1) سورة البقرة: 16- 20. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 ذهب النور، وبقي في ظلمة لا يبصر، وأخبر أنهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)) إلى الحال التي كانوا عليها من الهدى والنور. وأما المثل الثاني وهو حال المطر الذي فيه ظلمات ورعد يُسمَع، وبرْق يرى، وأنهم يخافون من صوت الصواعق ومن لمعان البرق، فيمتنعون، فتحصل الاَفة في سمعهم وبصرهم، وأنهم مع ذلك إذا (أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) فهذه حال من يكون إدراكه الذي هو سمعه وبصره، وعمله الذي هو حركته، فيه خلل واضطراب وآفة ونقص وفساد، ولكن لم يعدم ذلك بالكلية. وهذه تُشبِه حالَ من فيه إيمان ونفاق، وفي قلبه مرض، والأولى حال من ارتد عن الهدى بالكلية. وقد قال أيضًا في سورة المنافقين (1) : (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)) فأخبر أنهم آمنوا ثم كفروا كما ذكر نحو ذلك في سورة البقرة، وهذا يقتضي شيئين، أحدهما: أنه قد كان منهم ما هو إيمان، وأنهم رجعوا عنه، ومعلوم أنهم ليسوا كالمرتدين الظاهري الردة، فإن ذلك قسم آخر ذكره الله في القرآن في غير موضع، وله حكم آخر في الكتاب والسنة، بل هذه حال المنافقين المتناقضين، الذين يقولون قول المؤمنين،   (1) الآيات 1-3. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 ويقولون ما ينقض قول المؤمنين، ولو كانوا صادقين محقِّقِين القولَ الأول لم يأتوا بما يناقضه. وليسوا أيضًا تاركين لكل ما يتركه المؤمنون ويفعلونه، بل يوافقونهم على شيء، ويوافقون شياطينهم على شيء، وهم وإن كانوا في الظاهر مع المؤمنين، ففي الباطن مع شياطينهم، وهذا هو النفاق، وقد فُسر بذلك إيمانهم وكفرهم، أي اَمنوا ظاهرًا ثم كفروا باطنًا. فالقراَن يدلّ على أنهم أولاً حصلَ لهم هدى، ثم رجعوا عنه، مع كونهم أظهروا خلاف ما يُبطِنون، وهذه حال طوائف من العباد، يُقِرون بالحق من بعض الوجوه، ولم يقروا به إقرارًا تامًّا، فهم كاذبون في دعواهم الإيمان به، ثم إنهم يتناقضون فيأتون بما ينافي الإيمان، وقد قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) (1) ، فهذا يبين أنهم دخلوا في الإسلام الذي إذا عملوا فيه عملاً صالحًا لم يُنقَصوه، ومع ذلك لم يدخل حقيقةُ الإيمان إلى قلوبهم، فكثير من الناس يُقِر بالحق ابتداءً، وإن لم يكن في قلبه إذ ذاك تكذيبٌ به أو بغضٌ له، بل لا يكون في قلبه حقيقة التصديق والمحبة، وإن كان فيه بعض ذلك، مع إقراره بلسانه وظاهره. وفرق بين ان يقوم بقلبه نقيضُ ما أظهره، وبين أن لا يحقق بقلبه ما أظهره، فإن الأول قام بقلبه كفرٌ وجودي، وهذا لم يقم بقلبه كفر   (1) سورة الحجرات: 41. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 وجودي، لكن لم يقم بقلبه حقيقة الإيمان، وإن كان قد دخل فيهم منادي الإيمان، إذ تكلموا به، وكان له أثر في قلوبهم، فهذا- والله أعلم- حال الموصوفين في سورة البقرة والمنافقين، فإنه قال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)) (1) فأخبر أنهم في الحقيقة لم يؤمنوا، وأن في قلوبهم مرضًا، والمرض يكون ريبًا وشكًّا. وأخبر أنه إذا قيل لهم: (آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ) (2) ، وأخبر أنهم يوافقون في الظاهر المؤمنين، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزؤون، ثم أخبر عنهم (3) بما يقتضي ردتهم عن هُدًى حصل لهم، فهذا- والله أعلم- يقتضي أنهم في أول الأمر حصل لهم أمر ناقص، لا يستوجبون به حقيقة الإيمان، كما ذكر عن الأعراب، ولكن لو استمروا على اتباع الحق قوي إيمانهم، فرجعوا عن ذلك الهدى ونافقوا المؤمنين. والنفاق ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومن تدبَّر حالَ كثير من أئمة الضلال- من المتفلسفة والقرامطة والباطنية، ومن فيه شُعَبٌ من ذلك من الجهمية والرافضة ونحوهم- وجدَهم على ذاك الحال، فإنهم يتناقضون، فيقرون بالحق وينكرونه، ويعرفونه ثم ينكرونه، ولهذا يجمعون في كلامهم بين ما هو من قول المؤمنين، وبين ما هو من قول الكفار الجاحدين، كالذي يكون مسلمًا، ثم يتفلسف وينافق شيئًا بعد شيء، كالقرامطة الذين كان أولاً فيهم إسلام، وإن كانوا مبتدعة من   (1) سورة البقرة: 8. (2) سورة البقرة: 13. (3) في الأصل: "انهم". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 الشيعة مثلاً، ثم إن النفاق قوي فيهم، حتى جحدوا ما كانوا أقروا به أولاً، وصاروا يقولون: لا نقول حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا سميع ولا أصمّ، ولا بصير ولا أعمى، ولا يتكلم ولا ساكت، ونحو ذلك، فيمتنعون أن يصفوا الله تعالى بالصفات الثبوتية أو السلبية. فهذا في الحقيقة ترك الإيمان الواجب، وإن كانوا قد تركوا أيضًا الكفر الوَجودي، فإن عدم الإيمان كفر، وبذلك يزول الهدى والنور الذي حصل لهم، وكذلك إذا قالوا: هو موجود، لكن ليس بعالم ولا قادر ولا حي، وكذلك إذا قالوا: لا داخلَ العالم ولا خارجَه. ولا ريب أن في هؤلاء طوائفَ فيهم إقرار وإنكار، وعلم وجهل، فهؤلاء لهم المثل الثاني. [والله] سبحانه وتعالى أعلم. فصل ثم إنه سبحانه ذكر هذين المثلين للمنافقين، أحدهما: المستوقد للنار. والثاني: الصيّب، هذا بالنار، وهذا بالماء، وهذا التمثيل نظير التمثيل بهما في سورة الرعد، بقوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) (1) ، فإنه ذكر أيضًا ما يعمله الماء والنار، وأن النار فيها إضاءة ونور وإشراق مع الحرارة، والماء هو مادة الحياة مع الرطوبة والحياة، والنور جماع الهدى، كما قال تعالى: (أوَ مَن كاَنَ مَيْتًا   (1) سورة الرعد: 17. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (1) ، وقال: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) (2) . والماء وإن كان مادة الحياة، فالنار أيضا كذلك، ولهذا فيها من الحركة والشوق والإرادة ما يستلزم الحياة، لكن الماء فيه برودة ورطوبة يحصل به الإحساس الذي لا بدَّ فيه من لين، والنار فيها الحرارة التي توجب العمل، والإرادة التي لا بدَّ فيها من حركة، فهذا مادة الإحساس، وهذا مادة الحركة الإرادية، والحياة مستلزمة لهذا ولهذا، فإن الحي المطلق لا يكون ... (3) ، ولهذا يجمع الله بين حقيقة هاتين النعمتين والاَيتين اللتين بهما يكمل الموجود فيما ينزله على رسله، وما خاطبت به الرسل لقومها، بل أول ما يعرف به آياته أسباب الحياة والهداية، فأول ما أنزل الله على نبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (4) ، فذكر الخلق والهداية عموماً وخصوصاً، وذكر خلق الإنسان من علق، إذ هو في هذا الطور يصير حيّا، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُجمَع خَلْقُ أحدِكم في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع   (1) سورة الأنعام: 122. (2) سورة فاطر: 19- 22. (3) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة. (4) سورة العلق: 1 - 5. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح " (1) . فهو بعد المضغة ينفخ فيه الروح، فلو قيل: خلقه من مضغة، لكان يُظَنُّ أن الروح خلقت من مضغة، بخلاف ما إذا قيل: خُلِقَ من علق، فإنه يعلم أن المخلوق منها هو المضغة، التي يُنفخ فيها الروح. وأيضًا فالعلق واسطة بين النطفة وبين المضغة، وأيضًا فمن يصير علقة يُخلَق فيُميَّز رأسه ويداه ورجلاه، كما قال الله تعالى في الاَية الأخرى: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) (2) ، قال من فسّر ذلك من السلف: المخلَّقة ما تمَّ خلقها، وغير المخلَّقة ما أسقطها الرحم. ليبين الله لعباده مبداً خلقهم، وأنهم خُلِقوا من هذه المضغة. ولهذا تكلم الفقهاء فيما تُلقِيه المرأة، مما يثبت به حكم النفاس، وتنقضي به العدة والاستبراء، وتصير به المرأة أم ولد، فإنه إذا كان مضغة مخلَّقة فلا ريب فيه، وأما إذا كان مضغة غير مخلَّقة أو علقة ففيه نزاع، فلما قال: خلق من علق، دلَّ بذلك على أن تخليق البدن بتصوير الأعضاء كان من نفس العلقة، وهذا أخصّ من خلقه من نطفة، فإن ذلك تقدير جملته وتصويرها قبل التفصيل. وأيضًا فالعَلَق أول الاستحالات التي يُخلَق منها، فإنه قبل ذلك كان نطفة، والنطفة لا تتعين أن تكون مبدأ الإنسان بلا ريب. ولهذا يتنازع الفقهاء أنها لو ألقت نطفة، لم يثبت به شيء من أحكام الولد، لا   (1) أخرجه البخاري (3258) ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود. (2) سورة الحج: 5. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 نفاس، ولا عدة، ولا استبراء، ولا استيلاد، ولا غير ذلك، بخلاف العلقة، والعلقة تنازعوا فيها، لأنه يجوز أن تكون مبدأ آدمي، ويجوز أن لا تكون، ولهذا قال من قال منهم: يرجع في ذلك إلى شهادة القوابل وغيرهن. وأيضًا فالعلق دم، والدم فيه الحرارة والرطوبة، وهما سبب الحياة، ولهذا كان الدم مادة حياة الإنسان، وفيه الأرواح البدنية التي تكون فيها القوى. وقد دل هذا الكلام على أن الإنسان الذي هو جوهر جسم قائم بنفسه وأنه صورة- مصورة، مخلوق من هذه المادة التي هي جسم أيضًا، وهي العلق. فبان بهذا أن الحادث بعد أن لم يكن جوهر قائم بنفسه، ليس كما يطلقه بعض المتكلمين والمتفلسفة أن الحادث إنما هو صفات في الجواهر، فإن الفرق بين الصور والأجسام، وبين الصفات والأعراض، فرق ظاهر كما قد بيناه في غير هذا الموضع. والفلاسفة يفرقون أيضًا بين الأمرين، ويقولون: الحال في المحل إن كان المحل مستغنيًا عنه فهو الموضوع، وهو الجوهر، والحال فيه هو العرض، وإن كان المحل محتاجًا إليه، فهو الهيولى، والحالّ فيه هو الصورة، ومجموعهما هو الجسم، ويقولون: إن الهيولى جوهر، والصورة جوهر، والجسم جوهر، والموضوع جوهر، بخلاف الحال في الموضوع فإنه عرض. والجواهر عندهم خمسة (1) : المادة، والصورة، والجسم،   (1) في الأصل: "أربعة". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 والعقل، والنفس، وإن كان الذي لا ريب فيه هو الجسم والصورة، فأما ما يقوله من المادة للجسم، ومن وجود موجود قائم بنفسه ليس بجسم، فهذا لاحقيقة له، كما قد بُيِّن في موضعه. والمقصود هنا أن الله سبحانه ذكر خلق الإنسان من علق، وهو الإنسان حيّ، فذكر خلق الحياة، ثم ذكر التعليم مطلقًا، والتعليم بالقلم، وهو الهداية التي هي النور، فذكر خلق الحي وهدايته، مبينًا بذلك أنه خالقه أول ما أنزل على نبيه، وكذلك قال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)) (1) ، فذكر أيضًا هذين النوعين. وكذلك قال موسى لفرعون: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)) (2) . وفي إثبات الربوبية بهذه الطريقة فوائد عظيمة يطول ذكرها هنا. منها: أن ذلك تعريف للإنسان بحال نفسه ونوعه وجنسه، وذلك أقرب الأمور إليه، فهي دلالة له لازمة له ذاتية. ومنها: أن ذلك يبين فقره وحاجته، وأنه مربوب مقهور مدبَر. ومنها: أن ذلك يثبت القدر، وأنه خالق الحيوان وأفعالهم، وذلك يدلّ بطريق التنبيه على خلق غير الحيوان، فإن كثيرًا من الناس عرضت لهم شبهة في خلق أفعال الحيوان، لما له من العلم والقدرة والإرادة.   (1) سورة الأعلى: 1- 3. (2) سورة طه: 50. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ما يستدل به على أن الله خالق غير العبد، يُستدل به على ذلك في العبد، وإن أشبهه ذلك، حتى إن مناظري القدرية لم يتفطن جمهور متكلميهم على ذلك. وذكرنا أن الخوض في القدر أصل كل شبهة في العالم، فبين سبحانه أنه خَلَقَ وعلَّم، وخلق فسوىَ، وقدَّر فهدَى، فإنه إذا كان هو المعلم الهادي إلى خلقه، فمعلوم أن مبدأ الحركات الإرادية هو جنس العلم، والتعليم ينطبق على تعليم الناطق والبهيم، كما قال تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) (1) ، وذكر الكلب المعلَّم، والفرق بينه وبين غير المعلم ثابت بالسنة الثابتة واتفاق العلماء. ولهذا قال سبحانه: (قدر فهدى (3)) (2) فجعل التقدير قبل الهداية، كما جعل الخلق قبل التسوية، والتقدير يتضمن علمه بما قدره، وقد يتضمن تكلمه به وكتابته له، فدلَّ ذلك على ثبوت القدر، وعلى أن أصل القدر هو علمه أيضًا، فدلَّ ذلك على أنه بكل شيء عليم، ولهذا قال في السورة الأخرى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (3) ، والكتابة بالقلم تتضمن القول، والقول يتضمن العلم، وهذه الثلاثة هي مراتب التقدير العلمي، وذلك مذكور بعد خلق العين، فذكر إحداثه لذاته وصفاته وأفعاله، فانظر كيف كانت الرسالة تتضمن الدلالة بهذين الأصلين: الخلق المستلزم للحياة، والهدى   (1) سورة المائدة: 4. (2) سورة الأعلى: 3. (3) سورة العلق: 4، 5. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 والنور الذي هو كمال الحياة. وكذلك قال الخليل عليه السلام لما قال: (ربى الذى يحي ويميت) (1) ، ذكر الأصل الأول، ثم ذكر أن الله يأتي بالشمس من المشرق، وفي الشمس الضياءُ والنور الذي يُعِيش الناس، فذكر الحياة والنور. فهذه المعاني في التمثيل بالماء والنار، وأيضا فالماء رطب، والنار حارة، والحياة إنما تحصل بالحرارة والرطوبة، ولما ذكر الله في سورة الواقعة خلقه للنسل والحرث للخلق والرزق بقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)) (2) ، وقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)) (3) ، فذكر النسل والحرث، وذلك يتضمن خلق الإنسان وخلق طعامه، كما قال: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)) (4) الآية، ثم ذكر بعد ذلك ما يتم به الحرث والنسل من الماء والنار، فقال: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)) (5) ، (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)) (6) . وأيضا فالتمثيل بالنار يقتضى الحركة، وحرارة الطلب والإرادة،   (1) سورة البقرة: 258. (2) سورة الواقعة: 58، 59. (3) سورة الواقعة: 63، 64. (4) سورةعبس: 24. (5) سورة الواقعة: 68. (6) سورة الواقعة: 71. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 والشوق والمحبة، والنور والهدى مع ذلك، فتبين أن العلم لا يحصل إلا بعمل، والعمل مقارن للعلم، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبينَّا تلازم العلم والعمل، وذلك أنها مثل الحياة. وأيضًا ففي النار إنارة وحرارة وأشواق، ففي التمثيل بذلك إشارة إلى أن النور والهدى في القلب، لا يحصل إلا بنوع من الحرارة التي تكون عن الحركة والشوق والمحبة، فإن الحب والشوق والطلب يوجب للقلب أعظم من حرارة النار البسيطة، هكذا يقوله الطبيعيون، وكذلك يجربه العاشقون، كما قال بعضهم: إن لم تكن نار المحبين أعظم من نار جهنم، وإلا كان كذا وكذا. فإذا كان النور مع الحرارة المقارنة للحركة والمحبة والإرادة، دل ذلك على أن الهدى ينال بذلك، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (1) ، قال معاذ بن جبل: والبحث في العلم جهاد. وقال تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (2) فعلق الهداية بالإنابة، وقال: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) (3) ، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)) (4) .   (1) سورة العنكبوت: 69. (2) سورة الشورى: 13. (3) سورة المائدة: 16. (4) سورة النساء: 66- 68. في الأصل بياض بعد "لاَتيناهم". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 وأما الماء ففيه رطوبة وبرودة، وفيه إرواء وإغراق، وهذا يدفع ضررَه الحرارةُ التي في النار، كما أن العطشان يجد حرارة العطش، فإذا شرب الماء رَوِيَ، فكذلك طالب الهدى يكون عنده شوق وطلب وحرارة حين يكون طالبًا، فإذا أتاه الهدى، وأحيا قلبه بحياة العلم والإيمان، رَوِيَ بذلك، ووجد له اللذة، وأما إذا كان عنده الحرارة النارية التي توجب له الحياة المشوقة له ولم يشرب، فإنه يكون عذابًا له، كالذي يَصْلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا يحيى، فإن حياته لم تحصل مقصودها من الهدى واللذة، وما لم يحصل مقصوده يصح نفيه، فإن الشيء إنما هو مطلوب لأجل مقصوده، كما يقال عما لا ينفع: ليس بشيء. وهذا باب مبسوط في موضعه، كقوله: "لا نكاح إلا بولي" (1) ، "ولا بيعَ فيما لا يملك" (2) ، ونحو ذلك. وهو لم يمت أيضًا، لأنه فيه حياة، وهذا باب واسع، قال الإمام أحمد في أول خطبته (3) : "الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليسَ قد أحيَوْه، وكم من ضال   (1) أخرجه أحمد (4/394، 413، 418) وأبو داود (2085) والترمذي (1101) وابن ماجه (8181) من حديث أبي موسى الأشعري. وصححه الترمذي وغيره. (2) أخرجه أحمد (3/402، 434) وأبو داود (3503) والترمذي (1232، 1233، 1235) والنسائي (7/289) وابن ماجة (2187) من حديث حكيم بن حزام. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. (3) في كتابه "الرد على الزنادقة والجهمية". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 تائهٍ قد هَدَوه ". وقد قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (1) ، فسمَّاه روحًا ونورًا، ليبين أن به الحياة والهدى، والهدى يتضمن اهتداء الحي إلى ما ينفعه هو، الذي يوجب لذته وفرحه وسروره، وذلك كما قال الله تعالى: (أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (2) ،ولهذا قالت الملائكة: حيَّاك الله وبيَّاك (3) ، أي أضحكك، والضحك إنما يكون عند السرور.   (1) سورة الشورى: 52. (2) سورة آل عمران: 169، 175. (3) أخرجه الطبري في تفسيره (8/325) في أثر لسالم بن أبي الجعد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 فصل في التوحيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى آله وأصحابه أجمعين.. قال الشيخ الإمام العالم الزاهد القدوة المحقق أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العالم الورع عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم الورع الفاضل أبي البركات ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه: فصل في التوحيد قال الله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)) (1) ، قد كتبنا فيما تقدم قواعد تتعلق بذلك في توحيد الربوبية، وفي توحيد الإلهية، وفي أنه كما يمتنع أن يكون للخلق رَبان، يمتنع أن يكون له إلهان، وتكلمنا على العللِ والأسباب الفاعلية والغائية، وما يتعلق بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) وفي أن جميع الحركات ناشئة عن المحبة التي هي حقيقة العبادة، وبسطنا الكلام في هذه المواضع بسطًا شريفا نافعا كاشفًا، ولله الحمد. فنقول: إنه يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له، لما فيه من الدور القَبْلِيّ، ولا يمتنع شيئان كل منهما مع الآخر بشرط فيه، وهو الدور المَعِيّ. وقد بينَّا هذا في جواب مسائل الدَّور، وذلك أن العلة والسبب   (1) سورة الأنبياء: 22. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 والفاعل يجب أن تتقدم المعلول والمسبب والمفعول، فإذا كان هذا علة ذاك، وجب أن يكون هذا قبله. وإذا كان ذاك علة هذا وجب أن يكون ذاك قبله، فيجب أن يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا، وهو ممتنع، إذ هذا إذا كان قبل ذاك، وذاك قبله، كان ذاك قبلَ قبلِ نفسِه، وهو لو كان قبل نفسه كان ممتنعًا، لالتزامه اجتماع النقيضين، إذ هو قبل نفسه معدوم، فإذا كان قبلها كان معدومًا موجودًا، فيلزم هنا اجتماعهما مرتين. وكذلك إذا قيل: يلزم أن يكون ذاك قبل هذا، وهذا قبله، يلزم مثل ذلك، فيلزم أن يكون ذاك قبلَ قبلِ نفسِه، وهذان الاجتماعان هما ذانك باعيانهما، وإنما فيه التقديم والتأخير، ومضمونه أن يكون الشيء موجودًا قبل أن يكون موجودًا بدرجتين، فإن كون الشيء فاعلاً لنفسه ممتنع، فكيف يكون فاعلاً لفاعل نفسه، وكذا كونه علة نفسه يعني أن نفسه وُجدَت فأوجدتْ نفسَه، وهذا الممتنع لازم في العلتين جميعًا، فيلزم اجَتماع النقيضين أربع مرات. وكذلك يمتنع في العلة الغائية، التي يقال لها الحكمة والعاقبة، سواءً كانت العلة جوهرًا أو عرضًا. وذلك أن الغائية يجب تأخرها عن المعلول في الوجود، كما يجب تقدم العلة الفاعلة التي هي السبب، فإذا كان هذا علة ذاك لزم تاخر هذا عن ذاك، وبالعكس، يلزم تاخر ذاك عن هذا، فيكون هذا متاخرًا عن نفسه بدرجتين، فيلزم هنا مثل ما لزم هناك، وهو اجتماع النقيضين أربع مرات، فإن امتناع تأخر هذا عن نفسه بدرجة أو درجتين، وهكذا ذاك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 وكذا إذا قدر أن الغاية عرض من الأعراض، كاللذة مثلاً والتنغُم والانتفاع وغير ذلك، فإنه يجب تأخر هذا عن ذاك، وذاك عن هذا، فيلزم ما تقدم من التناقض أربع مرات. وأيضًا فالعلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية، لأنها متقدمة في العلم والقصد، فيجب أن يكون هذا متقدمًا على ذاك علمًا وقصدًا، فيكون هو المقصود بالقصد الأول، وأن يكون ذاك متقدمًا على هذا، فيكون هو المقصود بالقصد الأول، فيلزم تقدم هذا على ذاك، أو تقدم ذاك على هذا، وبالعكس، فيلزم تقدم كل منهما على نفسه بمرتبتين، فكما لا يفعل هذا لذاك، وبالعكس، لا يكون هذا هو المقصود من فعل ذاك وبالعكس. وهذا يبين في الفاعل الواحد الذي هو القاصد، قُدِّر كل منهما فاعلاً مفعولاً، والغاية غيرهما، وهنا قدِّر كل منهما مفعولاً وغايةً، والفاعل غيرهما، ويجوز أن يكون اثنان مفعولان لفاعل واحد معًا، ويكون وجود أحدهما مشروطًا بالاَخر، بحيث لا يوجد كل منهما إلا مع الآخر، كالمتضايفات، مثل: الأبوة والبنوة وغيرهما، فهما مقترنان متلازمان لفاعل ثالث، فكذلك يجوز أن تكون غايةً واحدةً مقصودةً من مفعولين، ويكون وجود أحدهما مشروطًا بوجود الآخر، لا يوجد إلا معه، والغاية أمر ثالث غيرهما، كالأجزاء المركبة، والأمور المتلازمة، والأعضاء ونحو ذلك. والفاعلان إذا تعاونا على فعل واحدٍ كتعاونِ المتناظرين والمتحاملين والجيش والسابين ونحو ذلك، لم يكن أحدهما فاعلاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 للمفعول، ولا للفاعل الآخر، بل كل منهما فاعل بعض ذلك المفعول، ومفعول أحدهما مع مفعول الآخر وشرط فيه، فالفعلان معاً كالأخوين كالوالد والولد. وكذلك الفعلان، إذا كان لكل منهما غاية، والغايتان متعاونتان مشتركتان، بحيث يكون قصد إحداهما مع قصد الآخر، كالزوجين المتناكحين، وكالمتبايعين ونحوهما ممن يقصد كل منهما بفعله الآخر نظيرَ ما يقصد الآخر بفعله، فهنا ليست واحدة من الغايتين علة للأخرى، بل كل منهما علة فعل الآخر قاصدها، ولكن كل من العلتين المقصودتين الغائيتين معاونة للأخرى ومقارنة لها ودائرة معها دورًا معيَّا، والفاعلان المتعاونان كل منهما لفعله سبب غير المعاون، كذلك المقصودان الغايتان لكل منهما حكمة مقصودة غير الغاية المعاونة، وقد يكون سبب الفاعلين واحد، كالفاعلين بعضوين، كالذي يأمر رجلين بالتعاون، وكالذي يغسل إحدى اليدين بالأخرى. وقد يكون مقصود المقصودين وغايتهما واحدة، كالغاية من المتناكحين، وهو انعقاد الولد. فصل الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين، وكذلك المعلول الواحد في الحقيقة لا يكون عن علتين تامتين. وقول من قال من الفقهاء: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين، يعنون به تعليل الحكم الواحد بالنوع، كالملك وحلّ الدم، والحكم الواحد بالنوع له علة واحدة بالنوع، والواحد بالعين له علة واحدة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 بالعين. وإذا تعددت أشخاص النوع من العلل تعددت أشخاص الأنواع من الأحكام، وإذا كانت هناك جنس من العلل له علل مختلفة كان لها أحكام مختلفة، وإن كان جنس من الأحكام له أنواع مختلفة كان له أسباب مختلفة، ومثل هذا يجوز، فلا نزاع، لكن هذا يُعلم بالنص والإجماع. وأما إذا وجدنا حكمًا واحدًا وهناك وصفان مناسبان له، فهل يجوز جعلهما علتين كل منهما مستقل بالحكم بدون الآخر، بدون أن نعلم ذلك بدليل غير الاستنباط؟ أو الواجب تعليق الحكم بهما جميعًا وجعلهما جزءا العلة؟ الصواب هو الثاني، وهو معنى قول من قال: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين لا مستنبطتين، وهو في الحقيقة واحد النوع، أي كل منهما مستقلة بالحكم في محل آخر. وبهذا يظهر الفرق وعدم التأثير، فإن الفرق معارضه في الأصل وفي الفرع بأن يُبدِي الفارق في الأصل وصفًا آخر غير وصف المستدل له مدخل في التعليل، أو يُبدِي في الفرع وصفًا مختصًّا به يمنع من إلحاقه بالأصل، فإذا عارض في الأصل بوصف آخر، فلو كان كل وصف مناسب يمكن جعله علةً مستقلةً لما أمكن الفرق قط، لإمكان أن يقول المستدل: وصفي علة، وهذا الوصف علة أخرى، فلا يقدح هذا في تعليل الحكم بوصفي. وهذا باطل لا ريب فيه عند الفقهاء، إلا أن يبيق المستدل استقلال ذلك الوصف بالحكم، وذلك إنما يكون باعتبار الشارع له وحده بدليل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 اَخر، غير المناسبة ومجرد التأثير الذي لا يقتضي استقلاله بالحكم. وأما عدم التأثير فأن يُبيِّن المعترضُ ثبوت الحكم بدون الوصف، كما أن النقض إبداء الحكم بدون الوصف فإن ذلك يبين أن الحكم غني عن الوصف، فلا يكون مؤثرًا فيه، بل المؤثر في الحكم غيره. وهذا إنما يكون إذا لم يخلف ذلك الوصفَ وصفٌ آخر، فإن كان قد ثبت الحكم عند انتفاء هذا الوصف لعلة أخرى لم يقدح فيه، لكون الحكم له علتان، مع عدم إحداهما كان لوجود الأخرى. فالفارق يقول: هذا الوصف ليس هو المؤثر، بل المؤثر هو والوصف الآخر، أو الوصف الآخر، فلا يكون هو العلة. ونافي التأثير يقول: هذا الوصف ليس هو المؤثر، لأن الحكم ثابت بدونه، ففي كل من الوضعين قد بين استغناء الحكم عن كون الوصف علة، تارةً بوجوده دونه، وتارةً بأن معه غيره. فذاك وجود الحكم بدون وجوده، وهذا وجود الحكم بدون تأثيره واقتضائه، وكلاهما معارضة في عليَّة الوصف. كما أن النقض أيضًا معارضة، وإذا كان في الفرق مع قولنا: يصح تعليل الحكم بعلتين، ليس له دعوى ذلك، إذا لم يثبت العليَّة إلا بالاستنباط، بل الأصل أن تكون العلة جميع الأوصاف، لا أن كل وصف علة. كذلك في عدم التأثير، ليس له أن يقول: ثبوت الحكم بدون هذا الوصف كان لعلة أخرى إن لم يبين تلك العلة، لأن الأصل عدم علة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 أخرى، والأصل زوال الحكم لزوال علته. وأما إمكان أن تخلفها علة أخرى فتحتاج إلى ثبوت علة أخرى غيرها، وإلى بيان وجودها، وهذا لا يكون مجرد الاستنباط، فليس له أن يقول: إنما وجد الحكم هناك لوجود الوصف الآخر المناسب، وذاك علة أخرى، بل يقال له: ذاك جزء العلة، كما يقول الفارق سواء، فإن وجود الحكم بدون الوصف المعلل به كوجود الحكم بدون كونه علة، وكلاهما معارضة في كون الوصف المعلل به علة، لكن هذا بيّن ذلك بوجود الحكم مع غيره، فلم يكن هذا المقتضي له. وبهذا يتبيّن صحة سؤال عدم التأثير مع قولنا بجواز تعليل الحكم بعلتين وكذلك سؤال الفرق، فإنهما سؤالان مشهوران مستعملان عند أئمة الفقهاء القائلين بجواز تعليل الحكم بعلتين، وذلك أنهم قالوا: "يجوز في الجملة". لم يقولوا: إنا نحكم به حيث رأينا وصفين، ولا أنه يسوغ أن يُدَّعى تعليل الحكم بعلتين لمجرد ذلك، بل هم إنما أثبتوا ذلك في تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلل منصوصة، فهذا شرطان موجودان فيما ذكروه من الصور. وقد ظهر الكلام في أحد الشرطين، وهو النص، وأما الكلام في الشرط الثاني، وهو المناسب لهذا المقام، فإن الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب، فلا يخلو إما أن يكون كلّ منها مستقلاًّ به لو انفرد. أما الأول: فظاهر أنها علة واحدة، والأوصاف أبعاضها، لا أنها علل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 وأما الثاني: مثل الردة والزنا والقصاص في حل الدم، ومثل الحيض والجنابة في إيجاب الغسل، ومثل المسّ والبول في نقض الوضوء. فهذا وان حصل نزاع في كون الحكم وإن حصل واحدًا أو متعددًا، فالصواب أنها أحكام متعددة، وعلى ذلك نص الأئمة، كما قال الإمام أحمد في بعض ما ذكره: هذا مثل لحم خنزير ميّت، حرام من وجهين، فلو كان الحكم واحدًا لم يفرق بين الخنزير الميت وبين الميتة من غير الخنزير، بل أثبت فيه تحريمين. وكذلك حلّ الدم بالأسباب المجتمعة هو حلّ متعدد، ولكن ضاق المحل، ولهذا إذا زال الواحد بقي الآخر، ولو كان الحلّ واحدًا لوجب إذا زال أحدها أن يكون قد زال بعضه، فيكون الباقي بعض حلّ، فلا يباح، لكن قد تتداخل هذه الأحكام، فتداخلها لا يمنع تعددها. وعلى هذا، فإذا وجبت عليه حدود، فالواجب عقوبات متداخلة من جنس، وقول الفقهاء: تتداخل، كمن سرق ثم سرق، أو شرب ثم شرب، دليل على أن الثابت أحكام، لكن لاتحاد الجنس في مثل هذا تداخلت، وإلا فالشيء الواحد لا يُعقلُ فيه تداخلٌ، وإنما التداخل مع التعدد. وهذا كله مما يبين أن الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان، وكذلك الفعل الواحد والمفعول الواحد، لا يتصور أن يصدر عن فاعلين تامَّين، فالشخصان المتعاونان على حمل شيء يقوم بذات كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 منهما من الفعل ما لا يقوم بذات الآخر، فليس فعلهما واحدًا بل متعددٌ. وأما المفعول، وهو أثر فعلهما، وهو ما قام بالمحمول من الحمل، فأثرُ فعلِ أحدهما الموجود في المحمول ليس هو أثر فعل الآخر، بل هو غيره، والمحمول لم يكن محمولاً بفعل هذا وحده وأثره، ولا بفعل هذا وحده وأثره، بل بالمجموع، فليس كل منهما فاعلاً بل جزء فاعل، والفاعل مجموعهما، وليس كل منهما مستقلأً بالحمل في مثل هذا، بل المعلوم بالاضطرار أن المفعول بين فاعلين لا يكون كل منهما مستقلاًّ به، فإن المستقل هو الذي يفعل الفعل وحده، فإذا قُدّر أن له فيه شريكًا وقيل مع ذلك: إنه مستقل، كان جمعًا بين النقيضين، وكان التقدير أنه ما فعله إلا وحده، وأنه ما فعله إلا هو وغيره، فيكون فيه إثبات فعل الغير، وهذا جمعٌ بين النقيضين. وإذا لم يكن أحدهما مستقلأّ بالفعل في صورة التعاون، فهل يقال: لو انفرد أحدهما لاستقلَّ به؟ هذا قد لا يمكن في صور كثيرة، وفي صورٍ يمكن، كأن يكون حينئذ الفعلُ الموجود من المستقل أكملَ منه إذا كان له معين وشريك. وأما أن يقال: فعله إذا كان له شريك معاون، مثل فعله إذا كان مستقلاًّ، فهذا باطل، وفيه جمعٌ بين النقيضين أيضًا، لأنه إذا كان له شريك معاون، وقُدِّر أن المفعول الموجود معه هو مثل الموجود في صورة الاستقلال سواء، فإن لم يكن لهذا الشريك تأثيرٌ فيه لم يكن شريكًا، وإن كان له تأثيرٌ فقد فعل بعض المفعول، فلا يكون إلا فاعلاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 لبعضه، وفي الاستقلال فعله كله. ومن الممتنع أن يكون بأنه يفعل الجميع وحده، مساويًا لما به يفعل البعض من القدرة والعمل إذا كان له شريك، بل هو أكمل معه، كما نجده في الواقع أن الإنسان إذا فعل عملاً وحده ما كان يفعله هو وشريكه بغير عمله، ولم يكن حالى الانفراد مثله حال الاشتراك، كما يظهر ذلك في الاشتراك المعوق، كازدحام الرؤساء، فإنه إذا زال الشريك حصل بانفراد الرئيس راحة له وتمكن. كما يتمكَّن الشريكُ من التصرف في الملك المشترك إذا صار له وحده ما لم يكن يتمكَّن حين كان معه شريكه، وقد يعجز عن أن يفعل وحده ما كان يفعل هو وشريكه، وقد يَقدِر لكن بنوع من زيادة العمل، وهذا كله موجود. والمقصود هنا أنه من البيّن في بدائه العقول عند وجود التصرف أن الفعل الواحد لا يكون من فاعلين، ولا المقدور من الواحد قادر بينهما، لما اشتركا فيه وُجدَ من كل منهما بعضُه لا كله، إذ صدوره من كل منهما جمع بين النقيضَين، وبذلك يتبين أن الاشتراك في الفعل في كل من الشريكين، فإنه إذا لم يكن قادرًا على الفعل وحده كان عاجزًا، وإن كان قادرًا على العمل وحده فوجود الآخر معه منعه عن نفاذ قدرته، إذ هو لا يمكن مع معاونة الآخر أن يفعل الفعل كله، بل بعضه، فإن كان الكل مقدورًا كان ممنوعًا، وإن لم يكن الكل مقدورًا كان عاجزًا، والممنوع كالعاجز، فالمشاركة في العمل تقتضي عجز كل منهما، وعدم كمال قدرته على ذلك العمل حين الاشتراك. وهذا تمانع بأن المنع من فعل البعض كالمنع من فعل الجميع، فظهر أن الاشتراك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 نفسه مع التعاون والتناصر هو تمانع يقتضي عجز كل منهما. وأما التمانع الذي قدروه- أعني المتكلمين- فذاك تمانع الإرادتين، فهذا لا يكون إلا مفروضًا، لا يمكن أن يكون موجودًا، فلا يتصور صُدور العالم عن ربَّين متمانعين، بل المتمانعان لا يفعلان شيئًا. وظنهم أن هذه الآية هي دليل التمانع غلط عظيم، فإن التمانع لا يُقدّر في فعل موجود أصلاً، وقولهم: لو قدَّرنا ربَيْنِ لكان إذا أراد أحدهما تحريكَ جسم، وأراد الآخر تسكينه، إما أن ينفذ مرادهما، فيجتمع الضدان، أو لا ينفذ مرادهما، فيكونا عاجزين، أو ينفذ مراد أحدهما، فهو الرب القادر والاَخر مربوب عاجز= لا يدل (1) على امتناع الاشتراك فيما وجد، وإنما يدلّ على أن المتمانعين لا يفعلان شيئًا ما داما متمانعين، إذ حينئذ يلزم اجتماع الضدين أو عجز الربَّين، والعاجز لا يفعل، لكن ليس فيه ما يدلّ على أنهما إذا لم يتمانعا بل تعاونا أنهما لا يفعلان، فمن أين بدلّ هذا على أن الفعل الموجود لا يكون عن اثنين؟ لكن دَلُوا به من وجه اَخر، وهو أنهما لو وُجدَا لتمانعا في الفعل، فكان لا يوجد، وقد وُجدَ، فلم يتمانعا، فلم يوجَدا، فاستدلوا بوجود الفعل على انتفاء التمانَع. والتمانع إما أن يكون لازمًا لوجودهما أو ممكنًا، فإذا قُدّر لم يلزم محال، أو لا يكون ممكنًا، فيكون كل منهما غير قادر على منع الآخر من مراده، والعاجز لا يكون ربًّا، فثبت عجز   (1) السياق: "قولهم لو قدرنا .... لايدل " الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 كل منهما إذا لم يقدر على منع الآخر. وهذا بعينه هو العجز حال التعاون إذ كان كل منهما عاجزًا عن الفعل وحده، فظهر بما ذكرناه أن دليل التمانع إنما يصح إذا كان التمانع لازمًا لهما أو جائزًا عليهما، وأما إذا قدّر وجوب اتحاد الإرادتين، كان هو الدليل الأول المذكور في امتناع الفعل الواحد من فاعلين، ولزوم العجز للمتعاونين، لكن ذاك عجز عن الاستقلال بالفعل، وهذا عجز عن منع الآخر منه. وأيضا فإن المتعاونين لأنه لا يتميز مفعول أحدهما عن مفعول الآخر، فلا يكون الشيء الواحد الموجود في العالم واحدًا فِعْلَ أحدهما. ومعلوم أن العالم يتميز فيه هذا عن هذا، يدلّ عليه قوله: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ) (1) ، ولهذا قال الثنوية: بأن مفعول النور ليس هو مفعول الظلمة، بل زعموا باختلاط المفعولين وامتزاجهما مع التباين، كما زعم من زعم من الثنوية بأن نفس الأصلين امتزجا واختلطا ثم تميزا، فلم يقل أحد من العقلاء: إن المفعول الواحد صدر عن اثنين، وهذا توحيد الربوبية، وهو متفق عليه بين العقلاء، ولم يكن هو المقصود بالذكر ولا الاَية أنزلت لتقريره، كما يظنه من يظنه من المتكلمين، وإنما هي لتوحيد الإلهية المستلزم لتوحيد الربوبية، وهو الذي قصدناه في هذا الموضع.   (1) سورة المؤمنون: 91. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 فصل فنقول: كما استحال أن يكون ربَّانِ كل منهما فاعل الشيء، فكذلك يستحيل أن يكون إلهان كل منهما معبودٌ لشيء، كما قدمنا أنه إذا استحال كون كل من الشئين فاعلاً للآخر وعلة له، فيستحيل أن يكون كل منهما هو المقصود للآخر، والعلة الغائية له، لمفعول لهما، سواء اشتركا في مفعول أو انفرد كل منهما بمفعول مباين. وكذلك يستحيل أن يكون الشيء فاعلاً لنفسه محدثًا لها، ويستحيل أن يكون هو الغاية المقصودة من فعل نفسه لفاعلها، فكما لا يكون شيء من الموجودات ربًّا لنفسه فاعلاً، فلا يكون شيء منها مقصودًا لنفسه، هي الغاية المطلوبة من وجوده، بل كما وجب أن يكون لجميع المصنوعات ربٌّ غيرُها فعلَها وأحدثَها، وجب أن يكون ثبوته بعد أن خلقهم، إذ الحاجة إلى المقصود قبل الافتقار إلى ألوهيته، وهو أعظم الوجهين، فقد يكون لفعلهما جميعًا مقصودًا مرادًا غيرها. والخارج عن الممكنات المحدثات هو الله الذي لا رب غيره، ولا إله إلا هو، فهو ربها كلها وخالقها ومليكها، وهو إلهها جميعًا، الذي يجب أن يكون هو المعبود المقصود المراد بها جميعها، فهو نفسه هو الفاعل لأجل نفسه، إذ لا يجوز أن تكون الغاية المقصودة له غيره، كما لا يجوز أن يكون الرب الفاعل غيره. ومعلوم أن كل واحد من العلتين- الفاعل والغاية- خارج (1) عن   (1) في الأصل: "خارجًا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 الشيء المفعول، وإنما جزاَه المادة والصورة، إذ المادة والصورة هما ماهيته وحقيقته، فلا يجوز أن يكون في المخلوقات ما هو فاعل لها. كذلك لا يجوز أن يكون فيها ما هو المقصود المراد لفاعلها، ومن هنا تندفع مسائل الإرادة الموجبة بالذات والتعليل والتجوير، وتعليل أفعاله، فإن المعللين أوجب ذلك عليهم رعاية الحكمة، والمانعين أوجب المنع عليهم رعاية الغنى، فإن الفاعل لأجل غيره مفتقر إلى ذلك الغير، فأما إذا فعل لأجل نفسه كان غاية ما يقال: إنه فعل لنفسه، كما يقال: واجب بنفسه. وهذا خيال باطل، إنما يتوهَّم صدقُه لأنه يظن أن نفسه منفصلة عن نفسه، وأن الشيء الفاعل نفسه هو شيء متقدم عليها، والشيء المطلوب المقصود هو شيء منفصل عن نفسه التي لها القصد والإرادة. وكل ذلك باطل، بل هو سبحانه القائم بنفسه الذي هو موجود بها، ومريد لها، ومحب لها، ومسبح لنفسه، ومُثني على نفسه، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا أُحصِيْ ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك" (1) . ومن هنا يظهر الفرق بين ما يحبه ويرضاه، وبين ما يريده من غير محبته، فإن ذلك محبوب لنفسه مَرضِيٌّ لها، وهذا مراد من جهة الربوبية. لكن يُقال: هو فعل الأفعال بإرادته، فالوجود كله بمشيئته، لكنه   (1) أخرجه مسلم (486) من حديث عائشة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 يحب ويرضى شيئًا دون شيء، وذلك في مفعولاته وأفعال عباده، فهو فعل لوجود ما يحبه ويرضاه، ومراده وجود المحبوب المرضي، وهو ألوهيته وكونه هو المقصود المراد، وإن كان في ضمن ذلك قد فعل ما أراده، وهو لا يحبه ويرضاه، لأن فعله له وسيلة إلى ما يحبه ويرضاه، فهو مراد بالقصد الثاني. وقد بسطنا في غير هذا الموضع من كلامنا في القدر، وتكلمنا على أنواع تتعلق بذلك. ومن هنا يعرف قوله عليه الصلاة والسلام: "والشرّ ليس إليك" (1) ، فإن الله إليه المنتهى من جهة إلهيته، والشر لا ينتهي إليه، ولا يصعد إليه، ولا يصل إليه، ولا يحبه، ولا يرضاه، فهو قطع له من جهة الألوهية، وهذا نحو قول من قال: لا يتقرب به إليك، ألا ترى كيف قال في الأضحية: "اللهم منك ولك" (2) . لكن قد يُقال: المعروف إن قال: هذا العمل لله، فكان مناسبه أن يُقال: والشرّ ليس إليك. وأما "إلى" فيُعدَّى بها الفعل، كما قال الخليل عليه السلام: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)) (3) ، وقال: (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا) (4) . فيقال: وقد قال (5) :   (1) أخرجه مسلم (771) من حديث علي. (2) أخرجه أبو داود (2795) وابن ماجه (3121) من حديث جابر. (3) سورة الصافات: 99. (4) سورة الانشقاق: 6. (5) شطر بيت سبق ذكره وتخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 ربّ العبادِ إليك الوجهُ والعملُ وأما من جهة الربوبية فهي مخلوقة، لكن بالقصد الثاني لأجل غيره، وليس هو أيضَا مرادًا بالإرادة الأولى، ولا مخلوقًا بالقصد الأول، فليس هو مضافَا إليه من جهة كونه شرَّا، إذ لم يقصده ويُرِدْه من هذه الجهة، ولكنِ من جهة ما هو وسيلة إلى الخير الذي هو يبدئه، كما قال تعالى: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (1) ، وقال: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (2) ، وهو لم يقل: الشر ليس بك ولا منك ولا من عندك، بل قد يُقال: كل من عند الله في الحسنات والسيئات، التي هي المسارّ والمصائب، كما قد بينته في غير هذا الموضع. وقد يُعترض على هذا فيقال: قد فرق بينهما في قوله: (فمن الله) و (فمن نفسك) (3) في هذه الاَية، وفي قوله: (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ) (4) الاَية، و (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ) (5) ، وقد قال تعالى: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةً فَمِنَ الله) (6) ، وقال: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) (7) ولم يقل في الشرّ مثل ذلك.   (1) سورة السجدة: 7. (2) سورة النمل: 88. (3) سورة النساء: 79. (4) سورة النساء: 72. (5) سورة النساء: 73. (6) سورة النحل: 53. (7) سورة هود: 9. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 فالمقصود هنا أنه سبحانه كما أنه واجب بنفسه، فهو محبوب لنفسه، مَثنيّ على نفسه، ومن هذا صلواته بثنائه على نفسه وطلبه من نفسه، وهذا غير صلاته على عباده. 0. (1) يحب ما أمر به، ويحب عباده المؤمنين. وقد خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)) (2) ، وفي الصحيحين (3) عن معاذ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أتدري ما حقّ الله على عباده؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم ". وفي الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:"يقول الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئًا، وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما الذي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأتِ إلى الناس ما تُحِبُّ أن يُؤتَى إليك". فهو سبحانه قد جعل عبادته حقاً له على عباده، كما بيّن أنه خلقهم   (1) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة. (2) سورة الذاريات: 56، 57. (3) البخاري (128، 129) ومسلم (30) . (4) سبق تخريجه. وفي الأصل: "باب الدعاء". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 لعبادته، ومعلوم أن عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذلّ له، فهي متضمنة كونه هو المراد المقصود المحبوب المعبود. فإذا كان قد خلقهم لعبادته، وذلك يتضمن أنه أمرهم بها وأحبَّها ورضيَها وأرادَها إرادةَ شرعٍ، فمعلوم أنّ محبة الوسيلة تبعٌ لمحبة المقصود، فمن أحبَّ محبة محبوب ومُحِبِّي محبوب، كانت محبته لذلك المحبوب هي الأصل، وكانت ثابتة بطريق الأوًلى، وكان إنما أحبَّ أن يُحبَّ، وأحبَّ محبته لكونه محبوبًا له، وكان ذلك فرعًا لهذا الأصل. ولهذا كانت محبة المؤمنين لما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، والحب لله، والبغض دئه، والحب في الله، والبغض في الله، كل ذلك تبعٌ وفرعٌ على محبتهم لله، فإذا أحبوه أحبوا ما أحبه هو من الأعمال والأشخاص، إذ محبوب المحبوب محبوب، وبغيض المحبوب بغيض. وكذلك محب المحبوب محبوب، ومبغض المحبوب مبغض، فالمؤمنون يحبون ربهم، وكانت محبتهم لما يحبه الله ولما يحب الله فرعًا وتبعًا لمحبتهم له، والله تعالى يحبهم ويحب ما يحبونه وما يحبهم، حتى قال أبو يزيد: إن الله لينظر إلى رجال في قلوب رجال، وينظر إلى رجال من قلوب رجال. فالأول: حال من أحبه المؤمنون، فينظر الله إلى قلوبهم، فيجد فيها أولئك المحبوبين. والثاني: حال من أحب المؤمنين (1) ، فينظر إليهم من قلوب   (1) في الأصل: "المؤمنون". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 المؤمنين، فهو يرحم من يحبه أولئك، ومن يحبه أولياؤه، وإذا كان كذلك كانت محبته لما أحبه من الأعيان والأعمال ومحبته لمن يحبه تبعًا وفرعًا لمحبته لنفسه بطريق الأولى والأحرى، وذلك يتبيّن من وجوه: أحدها: أن كل محب فإما أن يحب الشيء لذات المحبوب أو لذات نفسه، فيحبه لمحبته لنفسه، والفرق بين الموضعين أن الأول يتنعم بنفس المحبوب، والثاني يتمتع بما يصل إلى نفسه من نفع المحبوب. فهذا أحَّط النفعَ الواصل، فكانت ذات ذلك وسيلة إليه لا غرض له فيها، بحيث لو حصل النفع بدونه لم يكن له بذاته محبة، وذاك أحبَّ نفسَ المحبوب، لا لأجل نفع يصل إليه سوى نفعه وانتفاعه بذاته، كما تنعَّم ذلك وانتفع بما وصل إليه من المحبوب، وهذا شبيه بمن يحب إحدى زوجتيه لتمتعه بجمالها، ويحب الأخرى لكونها تنفق عليه مالها، ويحب شخصًا لما فيه من العلم والدين، ويحب آخر لكونه محسنًا إليه. وقد جُبلَت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها. وإذا تبيّن ذلك فالله سبحانه إذا أحب شيئًا، فإن أحبه لأجل نفسه تعالى وجب أن تكون نفسه هي المحبوبة، حتى يصح أن يحب الغير لأجلها، ولا يمتنع أن يحب شيئًا لأجل شيء إن لم تكن الغاية هي المحبوبة ابتداءً. وهكذا كل من فعل شيئًا لكذا، فإنه يحب أن يكون المفعول له هو المراد ابتداءً، وهذه هي العلة الغائية، وهي متقدمة في الإرادة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 والقصد، ولكونها مرادة ابتداءً صار الفعل المؤدي إليها مرادًا، وإن قُدّر أنه تعالى يحب شيئًا لذات ذلك الشيء، فمن المعلوم أنه هو الذي خلق تلك الذات، وجعلها على الوجه الذي يحبه هو، فإذا كان محب المحبوب محبوب (1) ، فكيف بفاعل المحبوب ومُبدِعه وخالقه؟ فقد وجب أن تكون محبته لنفسه هي الأصل في القسمين، في الأول من جهة الغاية، وفي الثاني من جهة السبب، من جهة الألوهية، ومن جهة الربوبية. الوجه الثاني: أنه يحب من يحبه، ومن يتقرب إليه بما يحبه، كما ثبت ذلك بنصوص الكتاب والسنة، ومحبة محبِّ الشيء ومحبة المتقرب إلى الشيء والساير في مراضي الشيء، تبع وفرع على محبة ذلك الشيء محبوبًا، امتنع أن يحب محبه (2) ، ويحب من يتقرب إليه بمحابه، ويسعى في مراضيه، وإذا كان الله يحب من يحبه، ومن يتقرب إليه بمحابه ويسعى في مراضيه، كان هو أحقَّ بأن يكون هو المحبوب لنفسه المرضي، إذ هو المحبوب المقصود بالقصد الأول. الوجه الثالث: أنه يبغض ويمقت أعيانًا وأفعالاً، والموجود لا يُبغض إلا لكونه مانعًا من المحبوب. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع في "قاعدة المحبة" (3) ، وبيَّنا أن البغض تبعٌ للحب، وأن الحب هو الأصل، فإذا كان بغضه لأمور مستلزمًا محبته لأضدادها، فمحبة تلك الأمور مستلزمةٌ محبتَه لنفسه، كما تقدم.   (1) كذا في الأصل مرفوعًا. (2) كذا في الأصل، ولعل هنا سقطا. (3) في "جامع الرسائل" (2/193 وما بعدها) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 الوجه الرابع: أنه يحب من يبغض تلك الأمور، ويجاهد أهلها، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)) (1) ، وإنما أحبهم لإعانتهم على حصول محبوبه، فتكون محبته لنفسه التي أحب من أعان على محبوبها أولى وأحرى. فإن قيل: فتلك الأمور التي يبغضها هو خلقها بإرادته، فكيف يريد مايبغضه؟ فيقال: الشيء الواحد [قد] يكون (2) مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، كما يوجد في حقنا شرب الأدوية الكريهة، فإنها مكروهة من جهة إيلامها لنا، مرادة من جهة تحصيلها للدنيا في المستقبل، وهو سبحانه إنما خلق الحوادث وأرادها لحكمة فيها، فتلك الغاية التي هي الحكمة هي محبوبة له مرضية، وإن كان بعض ما هو وسيلة إليها قد يكون مكروهًا مبغضًا مع كونه مرادًا، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. وأما المأمورات فهي كلها محبوبة بتقدير وجودها، إذ هي الغايات، لكن قد يريد أن تكون إذا كانت الغاية المترتبة عليها مما يحبه ويرضاه، وقد لا يريد أن تكون في بعض الصور، وإن كانت لو وقعت لأحبها، لأن وجودها قد يكون مستلزمًا لوقوع ما يبغضه ويكرهه، فكما أن المكروه قد يُراد وقوعُه لأنه وسيلة إلى المحبوب، فالمحبوب   (1) سورة الصف: 4. (2) في الأصل: "لا يكون". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 لا يراد وقوعه [لأنه] وسيلة إلى مكروه، وإن كان لو تجرد عن تلك السيئة كان محبوبًا، كما قد يُقال في قوله: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) (1) ، وإن كان ذلك الانبعاث هو المأمور به، وإلا فيكون مكروهًا لنفسه إذا لم يكن على الوجه المأمور به. لكن قوله: (فَثَبَّطَهُمْ) هو دليل على أنه كره وقوعه كونًا، لما فيه من الشرّ بالمؤمنين، وذلك يقتضي أنه لو تجرد عن هذه العاقبة لم يكن وقوعه مكروهًا له كونًا، ولم يكن يثبط عنه، بل غايته أن يكون بمنزلة ما يقع من المعاصي المكروهة، فإنه قد لا يثبط عنها إذا كانت مُفضِيةً إلى ما يحبه. وأما هذا فثبط عنه لإفضائه إلى ما يكرهه بالمؤمنين. وهذا باب فيه بسط وتفصيل مذكور في غير هذا الموضع، وهو من المقامات الشريفة الهائلة، التي اضطرب فيها الأولون والاَخرون، مسألة اجتماع الشرع والقدر، وإنما المقصود هنا بيان أنه سبحانه هو المقصود المراد المحبوب لنفسه ممّا فعله خلقًا وأمرًا، وبهذا يتبين أن حقه على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا، ويظهر الفرق بين ما أمر به لأنه حق له، وبين ما أمر به لينتفع به العامل، وإن كانا متلازمين، كما بيناه في غير هذا الموضع. ولكن يظهر الفرق بحسب القصد الأول، فإذا كان حقه على عباده أن يعبدوه، وهو يستحق ذلك عليهم، علم أنه يحب ذلك ويطلبه ويريده منهم إرادةً دينية. ومن أحب حقه على غيره، وأنه يعطيه حقَّه، فمن المعلوم أنه لولا أنه يحب نفسه التي   (1) سورة التوبة: 46. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 لها الحق وإلا لما تصور أن يكون له حق، ولهذا الإنسانُ إنما يطلب حقوقَه التي يحبها ويرضاها، ولولا تعلق المحبة والرضى بتلك الأمور لما عقل كونها حقوقًا. ومن هذا الباب أنه يفرح بتوبة عبده التائب أعظمَ من فرح الفاقدِ لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا وجدها بعد اليأس، فهذا المثال فيه أنه فقد ما يحتاج إليه وتقوم به نفسه من المنفعة التي لا بد له منها، وهي الطعام والشراب، وما يدفع به المضرة، وهو الركوب للخلاص من تلك المفازة. ومعلوم أنه لولا محبته لنفسه لما أحب ما يجلب إليها من المنفعة، ويدفع عنها من المضرة. فإذا كان فرح الرب بتوبة التائب أعظم من ذلك، وهو سبحانه يحب التوابين ويحب المتطهرين، فمعلوم أن الفرح العظيم بحصول الشيء المحبوب فرع على المحبة العظيمة له، ومحبة المحبوب فرع على محبة النفس التي كان لها ذلك محبوبًا. فصل فإذا كان هو رب كل شيء ومليكه، ولا وجود لشيء إلا بقدرته ومشيئته، فهو إله الخلق كلهم، لا إله غيره، ولا صلاح للخلق إلا بأن يكون هو المعبود المقصود بالقصد الأول من جميع حركاتهم. فكما أن ما لا يريده ويشاؤه لا يكون، فما لا يراد لأجله ويقصد له فإنه فاسد لا صلاح فيه، فكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه. ومن المعلوم أن المخلوق لم يخلق نفسه، ولا وجد من غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 خالق، فلا بد له من خالق غيره خَلَقَه. كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) (1) ، فكذلك المخلوق ليس هو المقصود بوجوده وفعله، ولا وجد من غير مقصود، فوجب أن يكون المقصود بوجوده وفعله شيئًا غيره، كما تقدم بيانه. ثم إنه في نفسه، كما أنه لا يكون شيء من أفعاله إلا بإعانة الله، فلا يصلح شيء من حركاته وِأفعاله إلا أن يكِون لله، ولهذا [كان سرُّ] (2) القرآن في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) كما قال بعض السلف: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمعَ سرَّها في الكتب الأربع، وجمعَ سرَّ الأربعة في القرآن، وجمع سرّ القرآن في المفصل، وجمع سرّ المفصل في الفاتحة. ففرق بالنسبة إلى خالقه بين ربوبيته له وخلقه- وهو السبب- وبين مقصوده ومراده- وهو الغاية-. وفرق بالنسبة إليه بين فعله أنه لا يكون إلا بحبه، وبين فعله أنه لا يصلح إلا لإلهه، فلا يجوز إلا بمعونة الله، ولا يصلح إلا لوجه الله. ويتبين ذلك فيه بالنسبة إلى نفسه، كما يتبين بالنسبة إلى خالقه، وذلك أن فعله وقصده يمتنع أن يكون وُجدَ من غير سبب، ويمتنع أن يكون وُجدَ بقصدٍ منه وفعل آخر، لأنه يفضَي إلى التسلسل والدور، فلا بد أن يكَون وجوده بسبب من غيره، وهو داخل في جملته التي تناولها   (1) سورة الطور: 35. (2) بياض في الأصل بقدر كلمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 قوله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) (1) . وكل ما دلّ على أن الحوادث الممكنات مخلوقة لله، فهو يدلّ على أفعال العباد، إذ هي جزء من الحوادث الممكنات، فاستدلالُ بعضهم على ذلك لكونها ممكنة فتفتقر إلى مرجِّح- كما سلكه أبو عبد الله الرازي- ليس هو أبلغَ من الاستدلال على ذلك بكون ذلك محدَثًا بعد أن لم يكن، فيفتقر إلى مُحدِث، بل هو أبلغ وأكمل، فإن افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح، ولكن هو وطائفة من أهل الكلام قبله عكسوا الأمر في إثبات الصانع، فجعلوا طريقةَ الاستدلال بالمحدَث على المحدِث مبنيةً على طريقة افتقار الممكن إلى المرجح، وهذا غلط جدًّا، فإنه إذا قيل: إن تلك معلومة بالضرورة فالضرورة هنا أرجح بكثير، والمحدَث شيء موجود، كان بعد أن لم يكن، حدوثه أمر خارجي موجود في الخارج. وأما الممكن فإنما يقدَّر مستوي الطرفين في النفس، إذ هو في الخارج إما واجب بنفسه وإما ممتنع بنفسه، ولهذا منع طائفة من الفلاسفة أن يقال في الموجودات: إنها ممكنة بنفسها. وخالفوا ابن سينا في ذلك كما ذكره ابن رشد الحفيد. فالعلم بثبوت الممكن فيه من الصعوبة ما ليس في العلم بحدوث المحدث، فإن حدوث المحدثات مشهود بالحس، وهو صفة خارجية ثابتة ليست مقدرة في العقل. ثم افتقار المحدَث إلى مُحدِثٍ أظهر وأبين وأَبْدَهُ للعقل من كون   (1) سورة الطور: 35. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 الممكن المستوي الطرفين مفتقرًا إلى المرجح، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. وإنما المقصود هنا أن كل ما دلَّ في بعض الموجودات أنه مخلوق لله، فهو يدلّ على ذلك في أفعال العباد، فيعلم بذلك كثرة الأدلة وقوتها على هذا المطلوب. ولهذا قال من قال من أئمة السلف، كحماد بن زيد وغيره: من قال: أفعال العباد لم يخلقها [الله] ، بمنزلة من قال: السماء والأرض لم يخلقها الله. والمقصود هنا أنه إذا كان قصده وفعله مخلوقًا لله مربوبًا له، لا يوجد إلا بمشيئته وقدرته وربوبيته وإعانته، إذ يمتنع أن يكون حادثًا بنفسه، أو حادثًا من غير مُحدِث، فكذلك أيضًا يجب أن يكون لله، مُبتَغى به وجهُ الله، لا يفعل إلا لمحبته ورضاه وإلهيته وعبادته، فإنه لا يجوز أن يكون ليس فيه مقصود مراد، إذ القصد والعمل لغير مقصودٍ مرادٍ ممتنعٌ، كما أن الحادث من غير محدِثٍ ممتنعٌ. ولا يجوز أن يكون هو المقصود المراد المحبوب بعمله، كما لا يجوز أن يكون هو الخالق له، لأنه يفضي إلى التسلسل والدور، فكما قلنا: لو كان قصده حادثًا بقصد آخر، فإن كان ذلك القصد الثاني حادثًا بالأول لزم الدور، وإن كان حادثًا بغيره لزم التسلسل. فيقال: لو كان هو المقصود بذلك، فإما أن يكون مقصودًا لنفسه أو لأمرٍ آخر، ويمتنع أن يكون مقصودًا لنفسه، كما يمتنع أن يكون مُحدِثًا لنفسه، لأن المقصود يجب أن يتأخر عن القاصد، كما يجب أن يتقدم الفاعل على المفعول، فإذا لم يجز أن تَفعَلَ نفسُه نفسَه لم يجز أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 تقصد نفسُه نفسَه، لوجوب تأخر نفسه عن نفسه، ولوجوب تقدم نفسه على نفسه في العلم والقصد، وهذا بيّن، إذ لا بد أن يتأخر هذا المقصود عن وجود ذاته، فتكون ذاته قبل وجود هذا المقصود، فإذا كانت ذاته هي المقصود وهي القاصد، لزم أن لا تكون إلا متقدمة، وأن لا تكون إلا متأخرة، فتكون موجودة معدومة أربع مرات، كما تقدم بيانه. وقد يُقال: إن هذا ظاهر فيما إذا كان نفس ذاته هي العلة الغائية من وجودها، وهذا تقدم، وإنما الكلام هنا في قصده لفعل نفسه الذي يفعله هو. فيقال: مقصوده بفعله كإحداثه لفعله، كما أن مقصود فاعله به كإحداث فاعله له، وقد تبيّن أن حدوث قصده لا يجوز أن يكون ابتداءً منه بل من الله، وأن كونه منه يفضي إلى التسلسل والدور. فكذلك لا يجوز أن يكون هو منتهى قصده وإرادته بعمله، بل ذلك يُفضِي إلى الفسادِ وكونِ العمل غيرَ نافع بل ضارًّا، لأن المراد المقصود بعمله إما أن يكون مصلحة لنفسه، أو لا يكون، فإن لم يكن فيه مصلحة لنفسه كان عمله فاسدا باطلاً، وإن كان فيه مصلحة لنفسه، فإن كانت تلك المصلحة حاصلةً في نفسه قبل قصده وعمله كان هذا القصد والعمل باطلاً لا فائدة فيه أيضًا، وإن لم يكن حاصلاً في نفسه لم يكن في مجرد كون النفس هي منتهى القصد ما يوجب مصلحة، فإن النفس موجودة قبل ذلك، بل لا بد أن يطلب المصلحة بالقصد من غير النفس، فيكون ذلك هو المقصود لمصلحة النفس، فإن المطلوب لها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 إذا لم يكن فيها لا يطلب إلا من غيرها، وهذا مبين نظير ما قلناه في الأسباب، فإن المطلوب للنفس من المصلحة بهذا القصد والعمل إن كان حاصلاً فيها لم يكن في القصد والعمل فائدة، وإن لم يكن حاصلاً فيها لم يطلب حصوله بالقصد والعمل إلا من غيرها. فكما استدللنا على أن حدوث أفعال النفس لا تُوجَد بمجردها، بل لا بد من سبب منفصل، فكذلك نستدل على أن أفعال النفس لا تنفعها وتفيدها وتصلحها بمجرد النفس، بل لا بدَّ من غاية منفصلة يكون في قصدها صلاح النفس ومنفعتها وخيرها. ولهذا كل من عمل عملاً لنفسه كان طالبًا لمصلحتها من الأمور الخارجة عنها، مثل من يصنع الطعام للأكل، والثياب للباس، والكرسي للجلوس، فإن الغاية المقصودة للطعام هي الأكل، وغاية الأكل هي وجود اللذة والمنفعة بالاكل والشبع ودفع ألم الجوع، فهذه المنفعة واللذة المطلوبة للنفس لا تطلب من النفس، بل يُطلب حصولُها لها بسبب آخر غيرها، كما أن الإنسان لا تتحرك إرادته إلا بسبب منفصل، مثل أن يحس ما يوجب حركته أو يسمع بذلك، فإن الإرادة لا تتحرك إلا بشعور وإحساس، وذلك لا يكون ابتداءً إلا بأسباب منفصلة، إذ هي وحدها لا تقتضي الحركة والإرادة، كما أنها وحدها لا تحصل اللذة والمصلحة. يُبيِّن ذلك أنها إذا قصدت بفعلها أمرًا فالمقصود إن كان حاصلاً فيها كان ذلك تحصيلاً للحاصل، وهو محال، وإذا لم يكن المقصود فيها امتنع أن تكون هي منتهى القصد وغاية المراد، إذ المقصود المراد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 يُطلَب حينئذٍ لها من غيرها، فإذا جعل الإنسان غاية مقصوده هو نفسه وهوى نفسه، لم يقصد ما يصلح نفسه وينفعها، بل ما يضره أو لا ينفعها، كما قال تعالى: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) (1) . وبيان ذلك بالبرهان المشابه لبرهان الإحداث أن يقال: هو إذا فعل فعلاً فإما أن يصلح أن يكون ذلك الفعل بمجرده مقصودًا لنفسه، أو لا بد أن يقصد به شيئًا آخر، فإن صلح أن يكون مقصودًا لنفسه وغاية الفاعل، جاز في كل فعلٍ مقصود أن يكون مقصودًا لنفسه، وحينئذ فيلزم أن يصلح للنفوس كل ما يحبه ويهواه، ومعلوم أن هذا مستلزم للفساد، وإن لم يجز أن يكون مقصودًا لنفسه، بل وجب أن يقصد به شيئًا آخر، فإما أن يكون هوي نفسه ومراده أو أمرًا آخر، فأما الأول فيفضي إلى الدور، وذلك أنه إذا قصد بفعلِ أمرٍ لكون نفسه تهواه وتقصده وتحبه، فكونها تحب ذلك وتهواه وتقصده إما أن يجوز أن يكون غايةً مقصودةً بالفعل أو لا يجوز، فإن لم يجز ذلك بطل هذا، وإن جاز أن يكون غاية مقصودة بالفعل صلح في فعلها الأول الذي قصدت به هذا أن يكون لمجرد كونها تحبه وتقصده وتهواه. ومتى صلح ذلك لم يجب أن تكون لهذه الغاية ولا غيرها، فصار كون هذا مقصودًا لنفسه يمتنع أن يكون مقصودًا لنفسه، وذلك هو الدور. وصار كون الفعل يصلح أن يكون مقصودًا، وذلك يوجب أن لا يمنع متحرك من حركته التي يهواها، ومعلوم أن هذا مستلزم للفساد،   (1) سورة الحج: 13. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 فوجب أن يكون مقصودُه بذلك الفعل أمرًا آخر، لا مجرد ما تهواه نفسه وتحبه وتريده. وهذا يبيّن بالدليل العقلي أن اتباع الأهواء مطلقًا موجب للفساد، وأنه لا يصلح أن يعبد الإنسان مجرد ما يهواه، كما قال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (1) ، وأنه لا بد أن يكون المعبود المقصود يُعبَد لمعنًى فيه، لا لمجرد إرادة النفس وهواها، وحينئذ فذلك المعنى الذي اختص به وصار لأجله محبوبًا معبودًا إما أن يكون لنفع منه إلى المحب القاصد العابد، وإما أن يكون لذاته، بمعنى أن في قصده ومحبته صلاح القاصد العابد. أما الأول فقد تبين في المقام الأول أن الله هو رب، كل شيء وخالقه، فليس غيره مستقلاًّ بالنفع، وإن كان غيره سببًا فيه، فذلك النفع الذي يفعله إما أن ييسره الله أو لا يُيسِّره، فإن يسّره وصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، وإن لم يُيسِّره لم يصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، فلم يكن في عبادته ما يوجب وصول تلك المنفعة إليك. وأيضًا فذاك المعبود إما أن يَعلَم بعبادتك أو لا يَعلَم، فإن لم يعلم لم يجز أن يقصد إيصال النفع إليك، وإن علم فالعالم الشاعر لا يعمل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة. وكونك تعبده وتقصده وتجعله هو الغاية المطلوبة بعملك ليس له في هذا منفعة ولا مصلحة، لأنه لو جاز   (1) سورة الجاثية: 23. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 أن تكون نفسه غاية له مقصودةً بعمل غيره، لكان أن تكون غاية له بعمل نفسه أولى وأحرى. وقد تبين أنه لا يجوز أن تكون نفسه غاية نفسه بعمل نفسه، فأن لا تكون غاية له بعمل غيره أولى وأحرى. وهذا كما نقول في جانب الربوبية: إذا [كان] كل من المخلوقات فقيرًا عن أن يقيم نفسه، ويكون وجودها به، فهو عن أن يكون مقيمًا لغيره وجوده به أولى وأحرى، إذ ذاته أقرب إلى ذاته من غيره، فإذا لم يجز أن يكون فاعلاً لنفسه، ولا يصلح أن يكون غاية مقصوده لها بعمله، لم يجز أن يكون فاعلاً لغيره ومقصودًا لغيره. وقد تبين أن المخلوق إذا لم يكن له في مجرد كونه معبودًا مصلحة، فإن حصل له بعبادة غيره له غرض آخر من غيره، مثل إقامة رئاسته وتعظيمه عند الخلق، ونحو ذلك مما يلتذ به، كان ذلك إحسانًا إليه، وكان ما يعطيه إياه من باب المعاوضة، فالمعبود من الخلق مفتقر إلى شيء غيرِه منفصلٍ عنه يحصل به مقصوده من عبادة غيره الذي يحسن إليه بقوة نفسه، وهذا فقير إلى غيره في هذا كفقره إلى غيره في هذا. وأما ما يكون محبوبًا معبودًا لذاته، بأن يكون في مجرد ذلك مصلحة ومنفعة لقاصده، مع تقدير أنه لا يقصد نفع قاصده، فهذا كما يتمتع الإنسان بالنظر إلى المناظر الجميلة، ويتمتع بسمع الأصوات المطربة، وهذا قد يكون من الجانبين، كما أن كلاًّ من الزوجين يتمتع بالاَخر، فهذا يقصد انتفاعه بهذا، وهذا يقصد انتفاعه بهذا، إذ في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 مباشرة كل منهما للَاخر لذة وسرور. وكذلك المتعاونان على علم أو عبادة أو تجارة أو غير ذلك. ْوبالجملة فعامة أمور بني آدم إما معاوضة وإما مشاركة، وكل منهما يقصد ما ينتفع به من الآخر، لا يقصد نفع الآخر، لكن تارة يكون الانتفاع بذاته كما في الزوجين، وتارة بما منه كما في شريكي العنان. وكل من هذين النوعين لا يجوز أن يكون معبودًا محبوبًا لذاته، فإنه إنما يُحَبُّ لأمر عارض لذاته ليس بلازم لها، ثم ذلك المحبوب تنقضي محبته بحصول الغرض منه، كما ينقضي غرض أحد الزوجين من الآخر إذا انقضت المنفعة. وكذلك المتمتع بالنظر إلى منظر بهيج، وكلّ ما يُذكر عن عُشَّاق الصور والمال والرئاسة، فإنه لأمر عارض في المحبوب، وعارض في المحب، ليس لذات واحد منهما، ولهذا تكون المحبة في وقت دون وقت، وقد تتبدل بالبغضاء، وما كان الشيء فإنه باق ببقاء ذاته، وِإنما هذه المحبوبات تتناول لقضاء الحاجة، وإذا زادت على الحاجة ضرَّتْ على الإنسان وأفسدته. ولهذا يُقال: إنها في الحقيقة دفع آلام، ولا ريب أن لذَّات الدنيا متضمنةٌ دفعَ ألمٍ، بخلاف لذَّات الآخرة، فإنه يتمتع بها من غير دفع ألم، لكن مع هذا لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته في الأفعال الاختيارية، وذلك أن العلة أكمل من المعلول، سواءً كانت فاعلية أم غائية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 فكما أن الفاعل المبدع أكمل من المفعول، فالمفعول لأجله- الذي هو المحبوب المقصود المعبود- أكمل من الفاعل، بل العلة الغائية أكمل من العلة الفاعلية، فإنها هي التي جعلت الفاعل فاعلاً، ولولا ذلك لم يكن فاعلاً، وإن كان الفاعل مستغنيًا عنها من جهة نفسه، لا من جهة كونه فاعلاً، والغائية غير مفتقرة إلى، الفاعل من حيث كونها غاية ومطلوبة، بل هي في نفسها غاية ومطلوب، سواء قُدِّر وجود الفاعل أو عدمه، لكن لا ينال المقصود بها إلا بالفاعل، فحصول المقصود بها كحصول الفعل من الفاعل. فالفعل سبب ووسيلة إلى المقصود بها، ومعلوم أن المقاصد أشرف من الوسائل، ولهذا قدم سبحانه قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) لأن العبادة هي المقصود المطلوب، والاستعانة سبب ووسيلة إليها. وكونه سبحانه إلهًا معبودًا للخلق أكمل من جهة كونه ربًّا مُعِينًا لهم من جهتهم ومن جهته. أما من جهتهم فإن من لم يعبده منهم، فلم يؤمن به، ولم يطع رسله، يكون شقيًّا معذَّبًا، وإن كان مربوبًا مخلوقًا، وإنما سعادتهم إذا عبدوه فاَمنوا به وأطاعوا رسله. وأما من جهته فإنه يكون إلهًا يفتقرون إلى ذاته، ويكون ربًّا يفتقرون إلى ما منه، وكون الشيء مقصودًا لنفسه أشرف من كونه مقصودًا لغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 وبالجملة فمن المستقر في فِطَرِ الناس أنَّ ما يُطْلَب لغيره فذلك الغير أشرف منه، وأن المقاصد أشرف من الوسائل. ولهذا يقال: إن العالي لا يفعل لأجل السافل، وإذا كان كذلك، فكل ما يُقدر أنه هو المقصود المعبود لذاته دون الله تعالى، فإنه محتاج إلى ما يكون مقصودًا معبودًا لذاته، فإن الحي لا بد له من إرادة، ولا بد لكل إرادة من مراد لذاته، فإن المراد إما مراد لنفسه وإما مراد لغيره، واذا أريد لغيره فذلك الغير إما أن يكون مرادًا لنفسه أو لغيره، فإن كان ذلك الغير هو الأول لزم الدور القبلي، وان كان غيرًا آخر لزم التسلسل في العلل، وكلاهما ممتنع. وكل ما دل على أن كل محدَث فله محدِث، وكل ممكن فله واجب، وأن الممكنات المحدثات لا بد لها من قديم واجب بنفسه، قطعًا للدور القبلي والتسلسل في العلل، فإنه يدلّ على أن كل مريد فلا بد له من مراد، وكل متحرك بالإرادة فلا بد له من غاية، وأنه لا بد لجميع الإرادات والحركات الاختيارية من مراد لنفسه ينقطع به الدور القبلي في العلل، فإذن كل متحرك بالإرادة من المخلوقات، بل كل مريد فلا بد له من مراد لنفسه هي الغاية. والمراد لنفسه أكمل من المراد لغيره، فكل مريد من المخلوقات مفتقر إلى مراد لنفسه يكون أكمل منه، فلو كان شيء محبوبًا مرادًا لذاته لكان المحب له يحب محبوبه، لأن محبوب المحبوب محبوب، ومراد المراد مراد بطريق اللزوم. فإن استلزام الحب الأول للأول كاستلزام الحب الثاني للثاني، فكما أن المحبّ لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، فالمحبوب كذلك لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، ولا تتم مصلحة محبوبه إلا بحصول مصلحته، لأنه إذا فسد حال المحبوب فسد حال محبه، فإذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 قُدِّر أن من المخلوقات ما يحب لنفسه، وذلك مستلزم لمحبته محبوبه الذي هو أكمل منه، كان الاكمل محبوبًا مرادًا بطريق اللزوم والقصد الثاني، وكان الأنقص محبوبًا مرادًا بطريق الأصالة والقصد الأول. ومعلوم أن هذا فساد ينافي الصلاح، فإن الحب والإرادة إن لم يتعلق بالأشياء على ما تستحقه الأشياء، لزم حال الحب الفاسد. وأيضًا فالفطرة السليمة تنافي ذلك، ولا يقع مثل هذا إلا عند فساد الفطرة وتغيرها. وإلا فمن كان تلذذُه بالماَكل الرديئة دون تلذذِه بالمآكل التي هي أطيب منها، دلّ على نوع فساد فيه، وذلك يستلزم الفساد، كما يحصل للمريض من تلذذه بالماَكل الرديئة الضارة دون الجيدة النافعة. وكذلك القلوب فُطِرَتْ على الصحة، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل مولود يولد على الفطرة" (1) ، فهي مع السلامة لا تطمئن إلا بذكر الله، ولا تسكن إلا إليه، ولا تتألَّه إلا إياه، وافتقارها إلى معرفته وذكره وعبادته لا يشبهه شيء من الأشياء. فماذا قلنا: كافتقار الجائع إلى الطعام، والعطشان إلى الماء، والمغتلم إلى الجماع، كان ذلك كله تمثيلاً ناقصًا. وكما أن هذه المفتقرات إلى هذه الأمور تفسد إذا لم يحصل ما يصلحها، ففساد النفوس إذا لم تعرف الله وتحبّه وتعبده أعظم بكثير كثير، وهذا حال كل من في السموات والأرض من الملائكة والجن   (1) أخرجه البخاري (1358) ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 والإنس، لا يجوز أن يصلح حالهم إلا بأن يكون الله إلههم ومعبودهم، وتكون حركاتهم لأجله عبادة له تجمع كمالَ محبته وكمالَ الذلّ له، فإن العبادة تجمع كمال الحب وكمال الذلّ، وهذا شأن المراد لذاته المقصود لذاته، وكلّ ما سواه فمفتقر إلى هذا المراد المحبوب المعبود لذاته، فلا يكون هو مرادًا محبوبًا لذاته، فإن محبته مستلزمة محبة محبوبه ومعبوده الذي هو أكمل منه، بل هو معبود له. والفساد أن يكون كل من الشيئين محبوبًا، والتابع لغيره محبوب لذاته، والمتبوع محبوب لغيره. وهذا الأصل هو أصل أصول الشرائع والملك، فإن الرسل جميعهم إنما بعثوا لأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وكما أنه مبرهن بالمعقول والقياس والنظر، فهو أيضًا معروف بالوجد والإحساس والذوق، فإن العبد يحس من قلبه فقرًا ذاتيًّا إلى ذكره وعبادته، غير فقره إليه من جهة إعطائه سُؤلَه، وجلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فإن الفقر إليه من هذا الوجه هو أظهر في الابتداء، ولكن الإنسان يجد نفسه إلى أي موجود توجه بقلبه وذكره، لا يجد الطمأنينة ولا السكينة حتى يذكر الله ويُوجّهَ قلبه إليه، فإنه يجد الطمأنينة والسكينة فلا يبقى عنده منازعة إلى شيءآخر. فكما أن السائل الداعي الراغب في قضاء حاجته إذا توجّه إلى الله بصدقٍ اطمأنَّ طمأنينة من وصل إلى من نال منه المطالب والحاجات، فكذلك المريد المحب [السائل] (1) لما يطمئن إليه إذا توجه إلى الله   (1) بياض في الأصل بمقدار كلمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 بصدقٍ، اطمأنَّ طمأنينة من حصَّل بُغْيَته ووجد محبوبَه ومألوهَه وطَلِبَتَه، وهذا الأصل إنما يستقر لأهل المِلَلِ أتباع ملة إبراهيم، أهلِ الحنيفية، فأما غيرهم فلا، حتى المتفلسفة الإلهيونَ ومن سلك سبيلهم من أهل الملل مع دعواهم أنهم حققوا المعارف اليقينية والحكمة الحقيقية، وقالوا: سعادة النفوس كمالها علمًا وعملاً، هم من أبعد الناس عن هذا، وذلك أن عندهم غاية سعادة النفوس نيل العلم فقط، وحقيقة العلم بالكليات التي لا وجود لها في الخارج كليات، والوجود الذي يثبتونه لواجب الوجود هو من هذا النمط. ويقولون: غاية الإنسان أن يصير عاقلاَ معقولاً موازيَا للعالم الموجود. ويقولون: كمال الإنسان أن يتشبه بالخالق بحسب الإمكان. وقد سلك نحوَا من سبيلهم أبو حامد في "المقصد الأسنى (1) في شرح الأسماء الحسنى"، وهم يزعمون أن الأفلاك إنما تتحرك للتشبيه في قوتها، وهم في هذا ضالون من وجوه: أحدها: جعلهم غاية العبادة مجرد العلم، والنفس لها قوة العلم وقوة الحب والإرادة، فإذا حصل مجرد العلم من غير معلوم محبوبِ مراب لذاته فسدت النفس، فكيف يكمل مجرد ذلك؟   (1) في الأصل: "القصد". وانظر "المقصد الأسنى" (ص 45- 58) حيث ذكر أن كمال العبد وسعادته في التخلق باخلاق الله تعالى والتحلي بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يتصور في حقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 ومن هنا تجدهم معرضين عن العبادات، بل مستخفين بأهلها، وقد يظنون أن الرسل إنما أمروا بحفظ قانون يُستعان به على نيل الحكمة النظرية (1) فقط، كما ذكر ذلك من ذكره من متفلسفة المسلمين واليهود وغيرهم. وأما الرسل فأول دعوتهم الأمر بعبادة الله، ولهذا كان نهاية المتفلسف أول قدم يدخل به الإنسان في الإسلام. الوجه الثاني: أنهم جعلوا المعلوم الذي تكمل به النفوس هو العلم بالمجردات التي عند التحقيق لا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع. فاما الموجودات الخارجية فهم لا يعلمونها بأنفسها، ولا يعترفون بالله ولا ملائكته، وإنما يقرون بوجودِ مطلقٍ بشرط الإطلاق لا حقيقةَ له في الخارج. الثالث: جعلهم غاية كمال الإنسان التشبّه بالإله، وأن المتحركات العلوية إنما تتحرك للتشبُّه بمن فوقها، مع أنهم أشد الناس إنكار، للتشبيه، وأدخلهم في التعطيل، [فينكرون] (2) من التشبيه ما يخلقه الله، ويدعون من التشبيه ما يفعلونه بكسبهم. وقد استدل أبو حامد (3) بحديث ذكره مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تخلَّقوا بأخلاق الله " (4) .   (1) في الأصل: "والنظرية". (2) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة. (3) في المقصد الأسنى (ص 150) . (4) حديث لا أصل له قال ابن القيم في مدارج السالكين (3/341) : باطل، وانظر الضعيفة (2822) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 وأنكر أبو عبد الله المازري وغيره ذلك، وقالوا: ليس للرب خلق يتخلق به العبد. وتحقيق هذا في موضع آخر. وذكر هذا أبو طالب المكي، وأنكره عليه الشيخ أبو البيان الدمشقي، فيما أنكر عليه. الرابع: أن هذا القدر في ثبوته نزاع مذكور في غير هذا الموضع، كما قرره أبو حامد وغيره، فليس الكمال والسعادة في أن يقصد العبد التشبّه بالرب فقط، بل أن يقصد عبادته، فإنه بدون أن يكون معبودًا له مقصودًا، يفسد حاله، فلا تكون له سعادة بحال، وإذا عبده مع نقيض اتصافه بصفات الكمال حصل له من السعادة بقدر ما عبده، فإذا اتصف مع ذلك بما يحبه الرب كانت سعادته أكمل، وجميع ما في العباد من صفات المدح والكمال التي يوصف الرب بالكمال المطلق فيها كالعلم والرحمة والقدرة ونحو ذلك، إنما يصير صاحبها سعيدًا كاملاً نائلاً سعادته إذا قصد المقصود المعبود لذاته، فأما بدون ذلك فلا سعادة له أصلاً. فمثل هذه الصفات من توابع الكمال والسعادة ومكملات ذلك، وأما عبادة المعبود المقصود لذاته فإنه من لوازم السعادة والفلاح، لايتصور وجود السعادة والفلاح بدون ذلك. فالمتحركات العلوية جميعها حركاتها عبادة لله، كما وصف الله بذلك الملائكة وغيرهم، وقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ثم قال (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) (1) ، فبيّن بذلك أنه ليس   (1) سورة الحج: 18. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 المراد بالسجود مجرد دلالتها على الخالق وشهادتها، بل إن الحال له فإن هذا يشترك فيه جميع الناس (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)) (1) ، وقال تعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)) (2) . ولهذا عدل أبو الحكم بن بَرَّجان في شرحه للأسماء الحسنى من لفظ التخلق والتشبه إلى لفظ التعبد، فصار يذكر معنى الاسم واشتقاقه، ثم الاعتبار إثبات مقتضاه في المخلوقات، ثم تعبد العبد بما شرع له من مقتضاه. فقد تبيّن بذلك أنه لا يصلح أن يكون شيء من المخلوقات مقصوداً لنفسه، لا مقصوداً له ولا مقصوداً لغيره، وأن ذلك مستلزم لكون شيء من المخلوقات لا يكون ربًّا بنفسه، لا ربّا لنفسه ولا ربّا لغيره. لكن هذا ممتنع الوقوع كما اعترف به المشركون. وأما الأول فهو محرم الوقوع، بمعنى أنه إذا وقع كان فيه فساد، لكون الحركات إلى غير غاية نافعة، بل إلى غاية ضارة، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (3) ، ولم يقل: عُدِمَتا، إذْ لو جاز أن يشرع أن تكون المخلوقات آلهة مقصودة معبودة لذواتها لزم من   (1) سورة فصلت: 38. (2) سورة ص: 18، 19. (3) سورة الأنبياء: 22. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 ذلك تجويز عبادة كل شيء، وتجويز كل فعل وكل قصد، وذلك مستلزمٌ فساد السموات والأرض، قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (1) ، فإذا لم يكن الدين لله فتكون حركات العباد لغير الله، كانت الفتنة والفساد، فالصلاح أن تكون الحركات لله، والفساد أن تكون لغير الله، وهذا- والله أعلم- من أحسن الأمور، لكنه يحتاج إلى بسط وإكمال. ولهذا يستدل بالحركات السماوية على وجود الرب وعلى أنه هو الإله المعبود، فإن الحركة تستلزم وجود مبدأ هو السبب الفاعل، وغاية هي المنتهى المقصود، والمقصود بتلك الحركات لو كانت المتحركات يقصد بها غير الله لزم الفساد في المتحركات. كما بيناه في أنه متى قدر أن يكون المخلوق مقصودًا لذاته لزم الفساد، ومعلوم أن الحركات السماوية جارية على انتظام لا فساد فيها، فعُلِمَ أنها عائدة بهذه الحركات لله قاصدة له، كما دلّ على [ذلك] الكتاب والسنة، لا كما يقوله المشَّاؤون من الفلاسفة أن ذلك لاستخراج الأيُون والأوضاع، فإن ذلك من أفسد الكلام. وأما المبدأ فقد عُلِمَ أن الحركة ليست طبيعية، لأن تلك إنما تكون إذا خرج المتحرك عن مستقره، وذلك إنما يكون في الحركات المستقيمة، فأما إذا كان المطلوب من جنس المتروك امتنع أن يكون تاركًا لأحدهما طالبًا للَاخر، فعُلِمَ أن الحركة إرادية.   (1) سورة الأنفال: 39. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 والحركة الصادرة عن إرادة إما أن تكون الإرادة أحدثها ذلك المتحرك أو غيره من المخلوقات، لا يجوز أن يكون هو المُحدِث لها، ولا غيره من المخلوقات، لأن إحداثه لها يجب أن يكون بإرادة، فيلزم الدور والتسلسل، فوجب أن تكون تلك الإرادة المقتضية للحركة حدثت بإرادة من الله، وهذا هو المقصود. وأيضا فمن المعلوم أن كل واحد من ذوي الحركات المختلفة السماوية له حركة تخصه، فلا يجوز أن تكون حركة أحدهما بحركة الآخر، كحركة الشمس والقمر الخاصتين بهما، فتبين أنه ليس بعضها خالقًا لبعضٍ ومُحدِثًا لحركتِه، فيكون المُحدِث لذلك غيرها، وهو المقصود. ولا يجوز أيضا أن يكون المحدث لذلك هو الفلك الأعلى وحركته، لأنها حركة واحدة بسيطة متشابهة الأجزاء، ولو كانت هي المُحدِثة لما سواها لوجب أن تكون جميع الحركات من جنس واحد بسيطة، ومعلوم أن الأمر ليس كذلك، وهذا يبين أن حركات الأفلاك والكواكب الحركات المختلفة ليست صادرة عن الفلك، فعُلِمَ أن المحرِّك لها غير الفلك، وإذا ثبت أن المحرك لها غير الفلك التاسع، ثبت وجود موجود غير الفلك التاسع يكون مبدأ الحركات. ومعلوم أن حركة الفلك التاسع من جنس هذه الحركات، بل الفلك من جنس هذه الأفلاك، فإذا كانت هذه محدَثةً مخلوقة امتنع أن لا يكون الفلك التاسع وحركته محدثة مخلوقة، لأن القديم الواجب الوجود لا يكون مثل المخلوق المحدث، ولأن الفلك التاسع لو كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 وحده قديمًا واجبًا- وهو أيضا محرك للأفلاك، ولهذا أيضًا حركته من غيره- لكان في الأفلاك محرِّكانِ كل منهما قديم واجب الوجود، فإن اختلفا في الإرادة لزم تضادُّ الحركات والتمانع، وهو خلاف الواقع. وإن اتفقا في الإرادة لزم اتفاقهما في الفعل، والاتفاق في الفعل يوجب أن لا يكون أحدهما فاعلاً له مستقلاًّ به، لا هذا ولا هذا، وإذا كان ذلك يوجب عجز كل منهما عن أن يكون فاعلاً- والعاجز يمتنع أن يكون قديمًا واجب الوجود خالقًا- امتنع أن يكون الفلك كذلكْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح. وهذا المعنى قد تكلمنا عليه مرارًا في القواعد المتقدمة وغيرها، وفي مراسيل مكحول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من أخلصَ لله أربعين صباحًا تفجرتْ ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه " (1) ، هكذا رواه الإمام أحمد فيما رواه عنه المروذي في الإخلاص ونحوه من أعمال القلوب. وقد روي هذا- فيما أظن- من حديث يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس، ويوسف ضعيف ساقط. ولهذا ذكر أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث في "الموضوعات" (2) ، وطعن على الصوفية الذين جعلوه عمدتهم فيما يفعلونه من الخلوة أربعين يومًا، وأبو الفرج فيما ينكره على الصوفية في مثل "تلبيس إبليس" ونحوه، قد شاركه طوائف في إنكار ما أنكره، وكلّ من المُنكِرين والمُنكَر عليهم مجتهدون، لهم علم ودين، والصواب تارة يكون مع هذا الطرف، وتارة يكون كل منهما مصيبًا من وجه مخطئًا من وجه، فيقتسمان الصواب والخطأ، ويكون الصواب   (1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (13/331) وهناد في الزهد (678) وأبو نعيم في الحلية (10/70) عن مكحول مرسلاً. وإسناده ضعيف، انظر "المقاصد الحسنة" للسخاوي (ص 395) . (2) "الموضوعات" (3/144، 145) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 تارة في غير ما عليه الطائفتان المتقابلتان، وهذا في مواضع كثيرة، ولعل هذا منها. فأما الطعن في الإخلاص لله أربعين صباحًا فهذا ليس بسديد، فإن نفس الإخلاص وكونه أصل كل خير قد دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه الأمة، وسنذكر من ذلك ما شاء الله. وأما توقيته بأربعين ففيه هذا الحديث المرسل، ولكن لم يذكره أبو الفرج، فما أظنُّه بلغَه، ورآهم اعتمدوا حديثًا ضعيفًا، فكثيرًا ما يعتمدون على أحاديث واهية. ثم مراسيل مكحول فيها نظر، وفي الاستدلال بالمرسل نزاع، لكن يُقال: المرسل إذا عَضَدتْه أدلة أخرى استدل به. والأربعين فيها يتحول الإنسان من حال إلى حال، كما ثبت في الصحيحين (1) من حديث [ابن مسعود] ، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُجمَعُ خَلْقُ أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يُنفَخ فيه الروح ". ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن (2) : "مَن شرب الخمر لم تُقبَل له صلاةُ أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم   (1) البخاري (7454) ومسلم (2643) . (2) أخرجه أحمد (2/35) والترمذي (1862) من حديث ابن عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد روي نحو هذا عن عبد الله بن عمرو وابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم تُقبل له صلاةُ أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقا على الله أن يَسقِيَه من طِيْنةِ الخَبال ". وفي صحيح مسلم (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أتى عَرَّافًا فسأله عن شيء لم تُقبَل له صلاة أربعين يومًا". ومثل هذا كثير، وقد جمع الحافظ عبد القادر الرُّهاوي في أول كتابه في الأربعين حديثاً أربعين بابًا، في كل بابٍ حديثٌ فيه ذِكرُ الأربعين. فإخلاص أربعين يومًا له شواهد في أصول الشريعة، لكن الخلوة المعينة قد يشترطون فيها شروطًا مبتدعة خارجة عن المشروع، بل منهيًّا عنها، مثل اشتراط الصمت الدائم، والجوع الدائم، أو السهر الدائم، أو طعامًا مُعيَّنَ القدر والوصف، واشتراط شيخ يُدخِلُه الخلوة، وتسمية ذلك خلوة، ومثل ترك الصلاة في جماعة، وبعضهم قد يترك الجمعة. وبالجملة فالمشروع من هذا الباب هو الاعتكاف الشرعي الذي كان يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة، وأما ما كان يفعله بحِراءَ قبل المبعث، فلسنا مأمورين باتباع ذلك، فإنه من حين بُعِثَ إلى الخلق وجب على الخلق كلهم طاعته واتباعه، والعبادة بما شرعه بعد المبعث دون العبادة التي لم يشرعها هو، ولو أراد أحد أن يفعل بغار حراء ما   (1) برقم (2230) عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 كانوا يفعلونه فى الجاهلية من المجاورة فيه، وترإو الجمعة والجماعة، لنُهِيَ عن ذلك. وقد كانوا في الجاهلية، كما قال أبو طالب في قصيدته الطويلة (1) : وراقٍ ليَرقَى في حِرَاءٍ وَنَازلِ والمقصود هنا بيان ما دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع من أن إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى. وفي الحديث حكاية بلغَتْنا لا أعلم إسنادها هو ثابت أم لا، لكن المعنى المقصود منها صحيح، وهو أن أبا حامد الغزالي قال: لما بلغني هذا الخبر أخلصتُ أربعين صباحًا، فلم أجد شيئًا، فذكرت ذلك لبعض شيوخ أهل المعرفة، فقال لي: يابُنيَّ، إنك لم تخلص لله، وإنما أخلصتَ للحكمة. فإن هذا المعنى حق، وهو أن الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول، ثم الحكمة وغير ذلك يتبع ذلك، لا أن يكون غيره هو المقصود بالقصد الأول، ويجعل قصد الله وسيلة إلى ذلك. وإن كان الناس قد يؤمرون بما يؤمرون به من الطاعة والعبادة لأمور أخرى تكون هي، مطلوبهم ومقصودهم، بل قد ينازع الناس في   (1) في سيرة ابن هشام (1/272) . وصدر البيت: وثور ومن أرسى ثَبِيْرًا مكانَه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 أنه هل يمكن أن يكون الله سبحانه هو المقصود المراد بالقصد الأول، بحيث يُراد لذاته فيُحَبُّ لذاته؟ فذهب طوائف كثيرون من أصناف المتفقهة والمتكلمة وغيرهم إلى امتناع ذلك، وأنكروا أن يكون الله محبوبًا لذاته، وهذا هو المشهور من قول المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمة والجهمية والفقهاء وغيرهم، ولم يجعلوا المقصود بالقصد الأول- وهو الغاية التي يطلبها العباد- إلا ما يحصل من تنعمهم بالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، مما وُعِدُوا به في الجنة، وجعلوا جميع ما أمروا به من العبادات والطاعات تكاليفَ إنما تُفعَلُ لتحصيل هذه الغاية المطلوبة. وهؤلاء ينكرون أن يتنعم في الدنيا بعبادته وفي الاَخرة بالنظر إليه، بل قد ينكرون أن يتنعم بذكره ورحمته، اللهم إلا من جهة لذة جنس العلم الذي لا يمكن أن ينكرها من وجدها. وقد وافقهم على إنكار حقيقة المحبة لله وتوابعها طوائف من أصحاب الأئمة الأربعة. وأول من أنكر حقيقة المحبة لله الجعد بن درهم، الذي ضَحَّى به خالد بن عبد الله القَسْري بواسط في خطبة يوم الأضحى، وقال: "أيها الناس ضَحُّوا تقبَّلَ الله ضحاياكم، فإني مُضَح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا". ثم نزل من المنبر فذبحه (1) . فإنكار حقيقة الخُلَّة هو إنكار حقيقة المحبة. وهؤلاء ينكرون أن   (1) أخرج هذه القصة البخاري في "خلق أفعال العباد" (ص 7) وغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 يُحِبَّ وأن يُحَبَّ، ويتأولون ما ورد في ذلك على أنه يحب طاعته وعبادته، وهو يريد الإحسان إلى عبده. وأما من وافقهم وأثبت الرؤية، فقد ينكر- إن صحت الرؤيةُ- التمتعُّ (1) بها، كما ذكر ذلك أبو المعالي في "الرسالة النظامية"، وذكر أنه من أسرار التوحيد، وزعم أن المحدَث لا يتمتع بالقديم، ولكن يخلق الله مع الرؤية لذةً بشيءآخر. وكذلك قال ابن عَقِيل لرجل سمعه يقول: اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال: ويحك! هب أن له وجهًا، أتتلذذ بالنظر إليه؟ ومعلوم أن الدعاء النبوي قد ورد بهذا اللفظ في حديث عمار بن ياسر، وكذلك غيره- فيما أظن- والحديث في المسند والنسائي وغيرهما (2) ، وفيه: "اللهم بعلمك الغيبَ، وقدرتك على الخلق، أَحْينى ما كانت الحياة خيرًا لي، وتَوَفَّني ما كانت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسَألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، والقصدَ في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لاينفد، وقرةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضَرَّاءَ مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ".   (1) في الأصل:"نصحت الرؤية تمتع". (2) هو في المسند (4/264) وسنن النسائي (3/54) من حديث عمار بن ياسر، وأخرجه أحمد في المسند (5/191) والطبراني في المعجم الكبير (4932) والحاكم في المستدرك (1/516) من حديث زيد بن ثابت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 وأما المتفلسفة فالذي يعترفون به هو لذة العلم أيضًا فقط، إذ رؤيته عندهم بالعين ممتنعة، وكل من تكلم في لذة النظر والمشاهدة والتجلي ونحو ذلك من متصوفة المتفلسفة، فكلامه يعود إلى ذلك، وهو دونه، فإنه لا يثبت قدرًا زائدًا على ما أثبته المعتزلة، بل لا يكاد يصل إليهم، ولكن يُمَوِّهون بالتعبير على المعاني الفلسفية بالعبارات الإسلامية، وإلا فهم في الرؤية والمشاهدة لا يُجاوزون قول المعتزلة حيث يفسرونها بنوع من العلم. وفي كلام أبي حامد وأمثاله من ذلك أصناف، والفارابي. ومن تدبر كلام الفلاسفة كابن سينا ونحوه، وجد ما يثبتونه من اللذات العقلية إنما هو لذة العلم بالموجود من حيث هو موجود، لا اختصاص للرب بذلك، اللهم إلا من حيث يولد وجوده، وغايته تلذذ بامور كلية حاصلة في ذهن العالم لا وجود لها في الخارج، لا سيما إذا قالوا: إن النفس الناطقة لا تُدرِك المغيبات التي يسمونها الجزئيات، وإنما تُدرِك الكليات، لا سيما بعد المفارقة. والكليات لا تكون كليات إلا في الذهن، فلا تكون لذة النفس عندهم إلا بأمور مقيدة فيها متصلة بها، لا بعلم شيء موجود في الخارج عنها. وهذا في غاية البعد عن الحق، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وإنما هو إثبات النعيم بأمور مقدرة في الذهن، ولهذا كان الاتحادية وهم من خلاصة جَهْم، لا ينكرون اللذة بالمشاهدة، كما ذكر ذلك ابن العربي الطائي في بعض كلامه (1) أن المشاهدة ما التذَّ بها   (1) فى الفتوحات المكية (1/610) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 عارف قط. وأما أهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها، ومشايخ أهل التصوف والحديث، فلا ينكرون حقيقة محبة الله أصلا، وهؤلاء هم الباقون على ملة إبراهيم خليل الرحمن الذي قال الله تعالى فيه: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)) (1) ، وعلى أصل هؤلاء فيظهر أن يكون الله هو المقصود بالقصد الأول، المحبوب المطلوب لذاته. يبقى أن يقال: فالحب والإرادة فرع (2) الشعور، فكيف يكون هذا هو الأصل، وهو مسبوق بطلب وإرادة، وذلك مستلزم لحب؟ فلا بد أن يكون قد أحب شيئًا ما حتى أداه ذلك إلى هذه المعرفة المستلزمة محبةَ الله وقصدَه لذاته؟ فيجاب عن ذلك بوجهين: أحدهما: أن كون الإقرار بالله لا يكون إلا نظريًّا، إنما قاله طوائف من أهل الكلام كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وليس هذا قول سلف الأمة وأئمتها، ولا قول مشايخ التصوف ومشايخ أهل الحديث، ولا قول جميع أهل الكلام، بل طوائف كثيرة من أهل الكلام والنظر قد يقولون: إنها لا تكون نظرية بحال، بل لا تكون إلا ضرورية. والتحقيق أنها فطرية ضرورية، ولكن قد يحصل لبعض الفطر ما يُفسِدها، فيحيلنا إلى نظر، كما يقرن النظر بالضرورة، كما قال النبي   (1) سورة النساء: 125. (2) في الأصل:"قربه". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل مولود يولد على الفطرة- وفي لفظ: على هذه الملة، وفي لفظ: على فطرة الإسلام- فابواه يُهوّدانه ويُنصِّرانه ويُمجّسانه، كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةَ جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (1) . وذلك قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)) (2) . الوجه الثاني: أن الحب يتبع الشعور، فإذا شعر بالحق مجملاَ أحبه مجملاَ، وإذا شعر به مفصلاَ أحبه مفصلاَ، لا بد من الشعور به ومحبته ولو مجملاَ، وإن لم يكن ذلك أصل مقصوده كان معلولاَ، فإن من كان مطلوبه الحق من حيث هو حق، غير متبع لهواه المخالف للحق، فإنما مقصوده في الحقيقة هو الله، فإنه الحق المحض، إذ كل مخلوق فإنما قِوامُه به، وبه صار موجودًا، ثم إنه قد يشعر أولاَ بموجود قديم، أو موجود واجب، إذ الوجود شاهد بأنه لا بد فيه من قديم واجب، إذ يمتنع أن يكون الوجود كله مُحدَثَا ممكنًا، فإن ذلك لا يكون بنفسه، وهذا من أوضح المعارف الضرورية، فالإقرار بموجود   (1) سورة الروم:30. والحديث سبق تخريجه. (2) سورة الروم: 30- 32. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 قديم واجبٍ أمرٌ ضروري فطري في النفوس كلها. ولهذا تجد جميع الأمم معرفةً بالله فطريةً، فإن أخطأ بعضهم عينَه فاعتقده غير ما هو، فالمقصود الأول هو الله، والقلب مفطور على الحنيفية التي هي الإقرار بالله وعبادته المتضمنة معرفته ومحبته. ولكن قد يَعرِضُ للفطرة ما يغيرها، وإذا كان كذلك، فقد دلّ الكتاب والسنة- في غير موضع- على أن من كان هذا مقصوده، وكان مجتهدًا في ذلك، فإنه يحصل له الهدى، وأن من اتبع هواه فلم يكن الحق مقصوده، ضلّ عن سبيله، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (1) ، فإن المجاهد في الله لا بد له من شيئين: أحدهما: محبة الله وإرادته المستلزمة بُغْضَ عدوه. والثاني: الاجتهاد في دفع ما يبغضه الحق ويكرهه، بقهر عدوه، ليحصل ما يحبه الحق ويرضاه بعلو كلمته، وأن يكون الدين كله لله. فالمجتهد في تحصيل محبوبه ودفع مكروهه، هو المجاهد في سبيله، وهو الذي استفرغ وُسْعَه في ذلك حتى جاهد أعداءه الظاهرين والباطنيين، فيجتمع في المجاهد في سبيله شيئان: كمال القصد، وكمال العمل. فالأول: أن مقصوده هو الله، فهو معبوده ومحبوبه. والثاني؟ أنه يستفرغ مقدوره في تحصيل هذا المقصود.   (1) سورة العنكبوت: 69. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 فهذا يُهدَى سُبُلَ الله. وهذا مجرب في سائر المحبوبات، فكل من أحب شيئًا محبة شديدة ولَّد له شدةُ المحبة طُرقَ تحصيل المحبوب، وطُرقَ المعرفة به. وكذلك من أبغض شيئًا بغضًا شديدًا، ولَّد لهُ شدةُ البغضِ طُرُقَ دفعه وإزالته، ولهذا يُقال: الحبُّ يَفتِقُ الحيلة، كما يُقال: الحاجة تَفِتقُ الحيلة. فإن المحتاج محبّ لما احتاج إليه محبةً شديدة. وإنما يُوقع النفوسَ في القبائح الجهلُ والحاجةُ، فأما العالم بقبح القبيح الغني عنه فلا يفعله، قال الله تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)) (1) ، وقد قال في ضد هؤلاء: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)) (2) ، فبيّن أن اتباع الهوى يُضلّ عن سبيل الله، فمن اتبع ما تهواه نفسه أضلّ عن سبيل الله، فإنه لا يكون الله هو المقصود، ولا المقصود الحق الذي يوصل إلى الله، فلا قَصَد الحق، ولا ما يوصل إلى الحق، بل قصد ما يهواه من حيث هو يهواه، فتكون نفسه في الحقيقة هي مقصوده، فيكون كأنه يعبد نفسه، ومن يعبد نفسه فقد ضلّ عن سبيل الله قطعًا، فإن الله ليس هو نفسه. ولهذا لما كان حقيقة قول الاتحادية: إن الرب تعالى هو العَالَم نفسه، لا يميزون بين الرب الخالق وبين المخلوق المربوب، بل كل   (1) سورة الشورى: 13. (2) سورة ص: 26. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 موجود فهو عندهم الرب العبد، كان حقيقة قولهم إنكار محبة الله ومعرفته وعبادته. فجعلوا المعبود بذاته إنما هو الهوى، كما قال صاحب الفصوص "فصوص الحكم" ابنُ عربي: "وكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلّط موسى عليه، حكمةً من الله ظاهرة في الوجود، ليُعبَد في كل صورة، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد أما، تلبَّستْ عند عابدها بالألوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا عُبِدَ، إما عبادةَ تألُهٍ، وإما عبادةَ تسخير- إلى أن قال- وأعظم محل فيه عُبدَ وأعلاه الهوى، كما قال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (1) فهو أعظَم معبود، فإنه لا يُعبَدُ شيء إلا به، ولا يُعبَد هو إلا بذاته " (2) . وهذا جهل منه حيث قال: "لا يُعبَدُ إلا بذاته"، فإن الهوى نفسه إن عُنِيَ به المَهْوِيّ، فكل ما هُوِيَ فهو هَوى، فإذن كل ما هُوِيَ فقد هُوِيَ لذاته، فيبطل التخصيص. وإن عُنِيَ به نفس المصدر الذي هو نفس إرادة النفس مثلاً، فذاك هو القصد والإرادة التي تكون عبادة، فكيف تكون العبادة هي المعبود؟ وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا تكن ممن يتبع الحقَّ إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه. فإذن هو لايثاب على ما اتبعه من الحق، ويعاقب على ما اتبعه من   (1) سورة الجاثية: 23. (2) فصوص الحكم (1/194) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 الباطل، وذلك لأنه يكون إنما اتبع هواه في الموضعين، لم يتَّبع الحق لأنه حق. فلما كان اتباع الهوى يُضِلُّ عن سبيل الله أخبر بأن الضلال مع اتباعِ الهوى في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) (1) ، وقوله: (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (2) وقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)) (3) وقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) (4) . كما أخبر أن الهدى مع السنة التي هي اتباع سبيله، كقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)) (5) ، وقال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (6) ، وقوله: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)) (7) ، وقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (8) .   (1) سورة القصص: 50. (2) سورة الاْنعام: 119. (3) سورة المائدة: 77. (4) سورة الجاثية: 23. (5) سورة النساء: 66- 68. (6) سورة النور: 54. (7) سورة الشورى: 13. (8) سورة العنكبوت: 69. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 ولهذا كان السلف يُسمُّون أهلَ البدع أهلَ الأهواء، فإنهم على ضلال، والضلال مستلزم لاتباع الهوى، كما أن الهدى لازم لاتباع سبيله، وهذا الهدى الثاني كما في قوله: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)) (1) ، قال طائفة من التابعين: لزم السنة والجماعة. ومنهم [من قال:] من عَمِلَ بما عَلِمَ ورثه الله عِلْمَ ما لم يعلم. ومن أخلص لله أربعين صباحًا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. وذلك أن مخلص الدين لله محفوظ من الشيطان الذي يأمر باتباعِ الهوى، كما قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)) (2) ، والغي: اتباع الهوى. وقال عنه: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)) (3) ، فالمخلص لا يُغوِيه، فلا يتبع هواه، كما قال: (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (4) ، فصرف عنه الغيَّ لأجل إخلاصه. ولما كان الإخلاص أن يكون الدين كله لله، وعلى هذا أمر بالجهاد، وهذا يوجب الاجتماع والألفة، إذ ذلك هو دين الأنبياء الذي   (1) سورهَ طه: 82. (2) سورة الحجر: 42. (3) سورة ص: 82- 83. (4) سورة يوسف: 24. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 أُرسِلتْ به الرسل وأُنزِلتْ به الكتب، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:"إنا معاشرَ الأنبياء ديننا واحد" (1) . قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (2) ، وقال في الاَية الأخرى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (3) . فصل وإيضاح هذا الكلام أن يقال : الإنسان له فعلٌ باختياره وإرادته، وهذا ضروري له، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" أصدق الأسماء الحارث وهمَّامٌ " (4) ، بل وكل حيٍّ فهو كذلك. والفعل الاختياري له مبدأ، وهو الإحسالس والشعور المحرِّكُ للمحبة والإرادة والقدرة عليه، وله منتهى، وهو المقصود المراد المحبوب بذلك الفعل. وقد بينا- فيما تقدم- أن مبادىء الفعل لا يجوز أن تكون من العبد، لأن فعله لها حادث من الحوادث، فلا يجوز أن يَحدُث بنفسه، ولا يجوز أن يحدث فعله بمبادىء فعله، لأنه يلزم أن تكون تلك   (1) أخرجه البخاري (3443) ومسلم (2365) من حديث أبي هريرة بمعناه. (2) سورة الشورى: 13. (3) سورة الروم: 30. (4) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 المبادىء علةَ فعلِه ومعلولةَ فعلِه، وذلك ممتنع إن كانت هي إياها، وإن كانت غيرها لزم أن يكون فاعلاً لفعله بفعل. وكذلك الفعل بفعل آخر، وكذلك الفعل بفعل آخر، فتحدث تلك الإرادة بإرادة، وتلك الإرادة بإرادة، وهلمَّ جرا. وهذا يُفضِي إلى وجود حوادثَ لا تتناهَى في الإنسان، والإنسان متناهي، ويمتنع وجود ما لا يتناهى فيما يتناهى، فلا بد أن تنتهي تلك الأفعال إلى أسباب خارجة من العبد، وهذا خارج من قولنا، لأنه يفضي إلى التسلسل، فإن التسلسل إن أريد به تسلسل العلل التامة التي يجب وجودها في زمن واحد، لم يجب ذلك. وإن توقف الفعل الثاني على الأول جاز أن يكون من باب الشروط التي يجوز تقدمها، فتكون كوجود حوادث لا تتناهى. وهذا فيه نزاع، فمن جوَّزَه في القديم أو المحدث لم يصح أن يبطل التسلسل فيه. ومن لم يُجوِّزه يرد عليه سؤالات مذكورة في غير هذا الموضع. وإن شئت أن تقول: لأن الفعل القريب إما أن يكون مفعولاً عن الفعل الذي قبله بحيث يكون كل فعلِ علةً لما بعده أو شرطًا، فإن كان علة لزم وجودُ إرادات وأفعال لا تتناهى في زمان واحد، والإنسان يعلم بحسِّه وعقلِه أن الأمر بخلاف ذلك علمًا ضروريا. وإن كان شرطًا لزم ما لا يتناهى على التعاقب، وهو إما أن يكون ممتنعًا فيما يتناهى، وإن شئت أن تقول: التسلسل في الإنسان ممتنع، لأنه مستلزلم وجودَ ما لا يتناهى في زمن واحد، أو في أزمنةِ لا تتناهى في حق الإنسان، وذلك ممتنع في الوجهين. وهذا السؤال يَرِدُ على أبي عبد الله الرازي، فإنه يقرر خلق فعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 العبد بشبيهِ هذا، لكن لا يبين امتناعَ التسلسل اكتفاءً منه بما قرر في حدوث العالم، وذلك متنازع فيه بين المسلمين وغيرهم، أو لظهور ذلك في حق العبد، وهو يقرره بالإمكان، وتقريره بالحدوث أظهر. وقد ذكرنا غير مرة أن ما دلّ على حدوث الحوادث المشهودة وأنها خلقٌ لله، يدلّ على ذلك في أفعال العبد، لا فرق بين أفعاله وسائر صفاته. والمقصود هنا الطرف الثاني، وهو أن ذلك الفعل لا بد له من منتهى هو المحبوب المقصود المطلوب به. فنقول: كما أن العبد يُوجَد فعله تارة ويُعدَم أخرى، ففعله الموجود بإرادته قد يريد به ما يصلحه وينفعه تارة، وقد يريد به ما يفسده ويضره أخرى، وذلك لأنه إما أن يصلح له أن يفعل كل ما يهواه ويحبه ويريده من الأفعال، فيقصد ويعبد ويطلب كلّ ما يهواه، أو لا يصلح ذلك إلا في بعض الأمور دون بعض. والأول باطل، لأنه إذا فعل كل شيء يهواه ويحبه لزم وقوع الفساد المستلزم لنقيض ما يحبه ويهواه، بل لو وقع في الوجود كل ما يهواه كل إنسان لزم فساد العالم، كما قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) (1) ، وذلك أن أهواء النفوس ليس لها حدّ تقف عنده إذا أعطيت القدرة، بل هذا يهوى أن يغلب هذا فيقتله أو يأخذ ماله أو رئاسته، وهذا كذلك، وهذا يهوى أن ينال ما   (1) سورة المؤمنون: 71. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 اشتهاه من الفروج والصور، وهذا يهوى ذلك، فيلزم فساد الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وهذا يهوى أن يُعظَّم ويُعبَد من دون الله حتى لا يفعل أحد مصلحته، بل لا يفعل إلا ما يهواه، وهذا كذلك. ْوأمثال هذا مما يطول عدُّه. وما من عاقل إلا ويعرف ذلك. ولهذا اتفق العقلاء على أن بني آدم لا يعيشون جميعًا إلا بشرع يستلزمونه ولو بوضع بعض رؤسائهم، يفعلون ما يأمر به، ويتركون ما ينهى عنه، فإن تركهم بدون " ذلك مستلزم أن يفعل كل قادر منهم ما يهواه، وذلك يمنع بقاءهم، ويوجب فسادهم وهلاكهم، لأن أهواءهم وإراداتهم إذا لم تتعاونْ وتتناصرْ فإنها تتهاون تارة، وتتمانع تارة، وتتخاذل تارة، فإذا تهاونت فلم يُعِنْ هذا هذا، ولا هذا هذا، عجزوا عن مصالحهم التي لا بد لهم منها، فوقع الفساد، وإن تخاذلت فلم ينصر هذا هذا، ولا هذا هذا، لزم أن يستولي عليهم الحيوان الناطق والبهيم، بل ومن المؤذيات الجامدة ما يفسدهم ويهلكهم. وإذا تمانعت فلم يُمَكِّن هذا هذا من فعل ما يصلحه، ولم يُمكِّن هذا هذا من فعل ما يصلحه، لزم عجزهم عن جلب المنافع ودفع المضار. وإذا تغالبت فغلب هؤلاء هؤلاء تارة، وهؤلاء هؤلاء تارة، لزم فساد كل فريق إذا غُلبوا، بل وإذا غَلبوا أيضًا، إذا لم يكن لهم شرع يعتصمون به في تقاسم نفوس الأعداء وأموالهم، وأمثال ذلك. وبهذا وأمثاله يتبين أن الدين والشرع ضروري لبني آدم، لا يعيشون بدونه، وقد بسطناه في غير موضع، لكن ينقسم إلى شرعِ غايته نوع من الحياة الدنيا وشرع فيه صلاح الدنيا فقط، وشرعٍ فيه صَلاح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 الدنيا والاَخرة، ولا يتصوَّر شرعٌ فيه صلاح الاَخرة دون الدنيا، فإن الاَخرة لا تقوم إلا بأعمال في الدنيا مستلزمة لصلاح الدنيا، وصلاحها غير التناول لفضولها. وإذا تبين أن الإنسان لو فعل ما يريده ويهواه لزم الفساد والضرر المنافي لما يحبه ويرضاه، فإن المحبوب بالقصد الأول هو ما يصلحه وينفعه، فإذا كان فعله ما يهواه يستلزم وقوعَ ما يضره وخلافَ ما يهواه، كان وجود هذا مستلزمًا لضده ونقيضه في العاقبة، فلا يصلح أن يكون ذلك مقصودًا، لما فيه من الضرر والفساد المخالف للمقصود بالقصد الأول، ولأن كونه مقصودًا ينافي كونه مقصودًا، فإنه إذا فعل ما يحبه لمقصوده حصلَ المحبوب، فإذا كان حصول هذا المحبوب يستلزم نفي المحبوب ووقوعَ المكروه صار وجود هذه الغاية المقصودة مستلزمًا نقيضَ هذه الغاية وضدَّها، وما استلزم وجودُه عدمَه ووجودَ ضدِّه امتنع أن يكون علة غائية أو علة فاعلية أو غير ذلك. كما أن في العلة الفاعلية لو كانت إرادته حادثة بلا فاعل للزم جواز حدوث حادث بلا فاعل، ولو جاز ذلك لجاز أن لا يكون لفعله وغيره من الحوادث فاعل، فيلزم حينئذ جواز حدوث فعله بلا فاعل، فلا يجب أن يكون هو الفاعل له. ومن قال: إرادته حادثة بلا فاعل، قصد بذلك أن يكون هو المحدث لفعله، فإنه إذا جعل لها فاعلاً، صار ذلك هو الخالق لفعله، فصار ما جعله هو المحدث يستلزم أن لا يكون هو المحدث، فلا يكون صحيحًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 وهنا يصير ما جعل هو الغاية مستلزما أن لا يكون هو الغاية، بل تكون الغاية تقتضيه وضده، فلا يجوز أن يكون هو الغاية. وقولنا: لا يجوز أن يكون هو الغاية، يتضمن شيئين: أحدهما: لا يصلح للعبد أن يعتقد ذلك ويقصده. والثاني: أنه في نفسه لا يقع غاية، أي ما تهواه النفوس وتحبه إذا جعلته النفوس هو غايتها، لم تحصل محبوباتها وما تهواه. فهذا بيان أن هذه الغاية لا تحصل ولا تقع، وهي حصول المحبوب المطلوب. وإن كانت النفوس تفعل لأجلها، فالفعل إذا لم يحصل غايته كان باطلاً، وهي أعمال الكفار. وإن حصل ضدها كان فاسدًا. ولهذا قال الفقهاء: العقد والعبادة الباطلة ما لم يحصل به مقصوده، ولم يترتب عليه أثره شرعًا (1) . ولهم في الفرق بين الباطل والفاسد كلام ليس هذا موضعه. ف وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها، فهذا في الأفعال بالنسبة إلى الغاية، فاعتقادُ من اعتقد أنه خالق فعله بالنسبة إلى الفاعل، ووجودُ هذا الاعتقاد لا يمنع أن يكون الخالق غيره، وأنه ليس هو الخالق، وإن أخطأ في اعتقاده. كذلك عملُه لهذه الغاية الفاسدة المتناقضة، لا يمنع أن تكون الغاية   (1) في الأصل بعده: "ولهذا قال". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 الصحيحة غير هذه، وإن ضلَّ هو في قصد هذه والعمل لها. وإذا تبين أنه لا يمكن أن يكون ما تهواه النفوس هو الذي ينبغي أن يكون مقصودها ومرادها، بل ذلك يستلزم نقيض ما تهواه وتحبه، عُلِمَ بهذا أنه لا يصلح أن تكون الغاية من قصد الفعل وإرادته ومحبته هو كون النفس تحبه وتهواه وتقصده. كما تبين أنه لا يجوز أن يكون ذلك القصد حادثًا عن مجرد النفس، فكما أن مبدأ الفعل والفاعل ليس من الإنسان، فغايته ومقصوده لا يصلح أن يكون في الإنسان، فكما أنه ليس هو المباع لفعله، ليس هو الغاية لفعله، بل لا بد من غاية تكون معِبوده، كما أنه لاِ بد من مبدأ يكون مستعانه، كما قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) فلا يصلح أن يفعل الإنسان لأجل نفسه بمعنى أنها هي المعبود المقصود لذاته بذلك الفعل، فيفعل ما تحبه وترضاهُ مطلقًا، لكن يفعل لأجلها بمعنى أن يفعل ما يصلحها وينفعها، ويجلب لها الخير، ويدفع عنها الشر، وذلك أن يكون مقصوده بالفعل ما يحصل مصلحتها بقصده. وكما أن الإنسان ليس مُحدِثا لفعله بمعنى أنه هو الخالق المُباِع له ولمبادئه المستقل به، ولكن هو المُحدِث لفعله بمعنى أنه فعَله بقدرته ومشيئته واعتقاده، وذلك أنه كله مخلوق لله، فربُّه هو الربّ الخالق لفعله وإن كان هو فاعله، وإلهه هو المقصود المعبود بفعله، وإن كان العبد يقصد نفع نفسه. وكون الرب خالقًا وربًّا للفعل لا يمنع أن يكون العبد فاعلاً كاسبًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 له، وكذلك كون الرب هو الإله المقصود الذي يستحق ذلك العمل ويحبه ويرضاه ويفرح به، وهو غايته ومنتهاه، لا يمنع أن يكون للعبد فيه غاية من المنفعة والصلاح والخير واللذة. فتدبَّر هذا كله، فإنه جامع نافع، يتبين لك من هذا كون العبد إنما يعمل لنفسه مع كون الرب يستحق ذلك عليه ويطلبه منه طلب المستحقّ المحبّ المريد لما يستحقه ويحبه، كما تبين لك كون العبد فاعلاً حقيقة بقدرته ومشيئته، مع كون الرب هو الخالق لذلك، وهو ربه ومليكه. ويتبين لك أن قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (1) ، وقوله: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)) (2) ، وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (3) ونحو ذلك لا يُنافِي قولَه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (4) ، وقولَه: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)) (5) ، وقولَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "أتدري ما حق الله على العباد؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه لا يُشرِكوا به شيئًا" (6) .   (1) سورة البقرة: 286. (2) سورة النمل: 40. (3) سورة الإسراء: 7. (4) سورة الذاريات: 56. (5) سورة الكهف: 50. (6) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 وتبيَّن لك من غضب الله وعقابه على من أشرك به وكفر، ومحبته ورضاه وفرحه لمن أطاعه وأناب إليه وتاب إليه ونحو ذلك. كما تبيَّن لك أن آيات الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات المخبرة بأن العباد فاعلون، لا تُنافي آيات القدر المتضمنة أن الله خلق أفعال العباد، فإن كثيرًا من الناس تاهوا في الغايات المقصودة، كما تَاهَ كثير من الناس في الأسباب الفاعلة، ولا بد من توحيد الربوبية بأن يكون الله خالق كل شيء وبأن يكون الله هو المعبود المقصود بذاته بالأفعال لا سواه. ولا يدفع ذلك من إثبات فعل العبد وقدرته ومشيئته واعتقاده، كما أنه لا بد من إثبات انتفاع العبد بالفعل، وأنه يعمل مصلحته ومنفعته، وأنه وإن قصد غيره فمقصده هذا، لأن في كون ذلك مقصودًا معبودًا صلاحه وانتفاعه. فإن الناس يغلطون في هذا، فكثير من الصوفية لا يلحظون هنا إلاَّ (1) غاية الألوهية، ولا يستشعرون أن ذلك منفعة للنفس وصلاحها. وكثير من أهل الكلام كالمعتزلة وغيرهم لا يستشعرون أن لله في ذلك محبة ورضًى وفرحًا، بل لا غاية له إلا ما يعود على العبد. كما أنهم كذلك يتنازعون (2) في السبب الفاعل ما بين قدريَّةٍ مجوس وجَبْرِيَّةٍ نُفاة، ومنحرفو الصوفية يغلب عليهم في الموضعين نفيُ ما في العبد من سبب وغاية، كما أن منحرفي المتكلمين من   (1) في الأصل: "الأحاديث"، وهو تحريف. (2) في الأصل: "لا يتنازعون"، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 المعتزلة والرافضة يغلب عليهم نفيُ ما للرب من مبدأ ومنتهى من ربوبيته وإلهيته. وأما المثبتة من الأشعرية ونحوهم، ففي جانب القدر يوافقون الصوفية، وأما في جانب الغاية فقد يوافقون المعتزلة، فتدبر هذا فإنَّه أصلٌ عظيم. وهذا المعنى يستقرُّ في فطر الناس، كما أنه مستقر في فطرهم افتقار العبد في فعله إلى الله، ولهذا يحتملون المكاره طلبًا للمنافع، ويتقون الشهوات طلبًا لما هو أحب منها، ودفعًا لما هو أضرّ من تركها، ويقولون: فِعْلُ ما تهوى يمنعك ما تهوى، وأمثال هذا الكلام. وإنكارُ من أنكر من المرجئة لمعرفة حسن الفعل وقبحه بالفعل يتضمن إنكار هذه الغاية، كما أن إنكار القدرية لكون الله خالق أفعال العباد يتضمن إنكار السبب الفاعل. والفطرة والشريعة تَرُدُّ على الطائفتين، أولئك منعوا غايات الأفعال وعواقبها ومصالحها، وأنه يجب عقلاً الفرقُ بين فعل وفعل، ويجب عقلاً كون هذا الفعل مقتضيًا للمنفعة والصلاح، وهو حُسْنُه، وكون هذا الفعل مقتضيًا للمضرة والفساد، وهو قبحه، لكن ظن الأولون أن الحسن والقبح في حق الخالق والمخلوق قد يكون لذات الفعل، أو لصفة فيه، لا لغاية محبوبة أو مسخوطة، وهذا الظن الفاسد أوقع هؤلاء في نفي التفريق بين الحسن والقبيح، وسلموا الغاية الملائمة والمنافرة، لكن ظنوا أن الحسن والقبح في الشرع بغير المعنى، أو أن له حقيقة وراء هذه، وليس الأمر كذلك، بل الحسن مطلقًا هو الملائم النافع المحبوب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 المرضي، والقبيح ضد ذلك، وصفات الكمال تعود إلى ذلك. فالحسن والقبح متعلقان بالعلة الغائية مطلقًا، وقد بسطنا هذا في غير موضع، كقاعدة مفردة في غير ذلك. والقدرية لم ينبتوا الغاية كما ينبغي، بل تَخبَّطوا فيها، وإن كانوا من الحسن والقبح بَأصله دون تفصيله الصحيح، ثم عدلوا الله بخلقه تشبيهًا باطلاً مع غلوِّهم في إنكار التشبيه في الصفات، وإن كانوا أثبتوه هنا أصلاً، كما له أصل في الصفات، ولكن جهلوا التفصيل هنا، كما جهلوا هناك الأصل، وأنكروا أن يكون الله نفسه هو الغاية المقصودة، وأنكروا السبب، فأنكروا كونه خالقًا لأفعال العباد (1) . وإذا لم يصلح أن يكون هوى العبد هو الغاية المقصودة لذاتها مطلقًا، تبين فسادُ حالِ من اتخذ إلهه هواه، ومن عَبَدَ ما استحسن من دون الله، وهؤلاء المشركون المتبعون لأهوائهم المتخذون آلهتهم أهواءهم. ويُحكى ذلك عن البراهمة منكري النبوات، كما حكاه أبو الحسن الرَّبَعِي في كتاب "اتباع المرسلين في الاحتياط للدين "، قال: وقال قوم يُقال لهم البرهمية بقول عبدة الأصنام: ما استحسنه العبد فهو معبوده. وهذا أيضًا حقيقة قول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، إذ عندهم كل ما كان موجودًا يصلح أن يكون لكل عابد معبودًا، وإن كان عندهم كل عابد فهو أيضًا معبود، كما قال شيخهم صاحب الفصوص:   (1) بعده بياض بقدر سطر ونصف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 "فليعبدني وأعبده" (1) . وقال: "أعظم معبود عبد فيه الهوى" (2) . وإذا تبين أنه لا يصلح أن يكون كل ما يهواه العبد ويريده مقصودًا ... (3) تبين من ذلك أنه لا يصلح أن يكون ما يوجد من اللذة هي الغاية المقصودة بفعله، لأن اللذة تتبع الشهوة، فإذا حصل ما يشتهيه وجد اللذة، فإذا امتنع أن يكون المنتهى مطلقًا مقصودًا، امتنع أن تكون اللذة مطلقًا غاية مقصودةً، لما بيناه من أن وجود ذلك يمنع وجوده، لما فيه من الفساد، ولكن لا بد في فعله من حب، ولا بد له من لذة، فالشهوة واللذة سببان في فعله، ذلك سببٌ فاعليّ، وهذا سببٌ غاليّ، بهما كان الإنسان من وجهٍ فاعلاً لفعله، ومن وجهٍ غايةً لفعله، كما تقدم بيانه. لكن كما بينا أن هذا السبب فيه لم يحصل به مستقلاًّ، بل بالرب الذي خلقه وأعانه، فكذلك هذه اللذة لم يحصل الفعلُ لأجلها فقط، بل للغاية التي هي الرب الذي هو إلهه. وكما أنه بدون الرب يمتنع الفعل، فبدون الإله لا يصلح الفعل، بل لا يكون إلا فسادٌ، فإن ما في العبد من القوة والإرادة مُحدَثٌ من جهة الله، كذلك كون لذته العاجلة غاية إنما كان لغاية أخرى من جهة الله، وذلك أنه كما كان المُحدَث عن عدم فلا بد له من مُحدِث، فهذه الغاية منقطعة يتعقبها العدم والزوال، فلا بد له من غاية أخرى باقية   (1) فصوص الحكم (1/83) . (2) فصوص الحكم (1/194) . (3) بياض في الأصل بقدر كلمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 دائمة، إذ كل ما يمنع أن تكون الحوادثُ مستغنيةً عن الفاعل يمنع أن تكون المنقطعة مقصودة بالذات، فجَعْلُه نفسه الغاية مثل جَعْلِه نفسه السبب، فكما أنه لا يجوز أن يكون مُعِينُه ومُمِدُّه لحصول قوته وقصده وعمله هو نفسه، بل من توكل على [نفسه] خذل، كذلك لا يجوز أن يكون ما يطلبه ويقصده ويحبه ويعمله هو نفسه، بل مَن عَبدَ نفسه واتبع هواه ضلّ وخسر، وما أكثر ما يتخذ العبد إلهه هواه، فيكون ما يهواه إلهه، وهو يهوى نفسه كثيرًا، فيعبد نفسه. كما يستعين بنفسه إذا أُعجِبَ بها. وكذلك لو أدخل واسطةً، مثل الذي يستعين بغيره، وهو الذي يُعِين ذلك الغير، وذلك الغير يستعين به، فهو في الحقيقة إنما يستعين بنفسه. وكذلك إذا عمل لذلك الغير، وهو يقصد أن يكون عمل ذلك له، فهو إنما عمل لنفسه. ونُبيِّن ذلك، فإن هذا لم يتقدم بعدُ الكلامُ فيه، بل قد تكلمنا في بيان الغاية الإلهية بكلام ثم كلام، ولم يتحقق ذلك على الوجه إلى الآن، فنقول في هذا الكلام الثالث: كما أن الشيء لا يُوجَد من معدوم، فلا يُوجَد لمعدوم، إذ إيجاد الشيء للعدم كوجوده من العدم، فمن قصد الشيءَ لنفيه كان بمنزلة من لم يقصده، ولذا لا يفعل هذا عاقل بل سفيه، لأنه إذا قصد وجوده ليعدمه كان عدمه هو المقصود بالقصد الأول، والعدم (1) لا يصلح أن يكون مقصودًا، كما لا يصلح أن يكون فاعلاً، لأنه لا شيء، وما ليس   (1) في الأصل: "العمل" تحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 بشيء لا يكون سببَا فاعليَّا ولا غاليًّا للموجود، فإن الموجود لا تكون أسبابه عدمية، كيف والأسباب الفاعلية والغائية أكمل من المسبب المفعول لغيره. وهذا ظاهر. وأيضًا ف من كان قصده العدم لم يفعل شيئًا، بل يترك الأمر على ما هو عليه من العدم المستمر، فاما أن يقصد أن يفعل لأن يعدم فهذا إما سفيه جاهل قد تناقض في فعله، وإما مَكَّارٌ مخادع يُظهِرُ قصدَ شيء وغرضُه غيره. وبالجملة فهذا القصد إما أن لا يكون، وإن ادعَى كونَه كان كاذبًا، كالمخادعين في الحيل المحرمة، وإن كان من الفقهاء من يظن أن القُصُود غير معتبرةٍ في ذلك، فهذا مخالف لما اقتضته الشريعة والفطرة من كون الأعمال لا تكون إلا بالنيات، مع قول الشارع: "إنما الأعمال بالنيات" (1) ، وهي من أجمع الكلمات وأجلِّها وأعظمِها قدرَا. وإما أن يكون هذا القصد من جاهل سفيه يقصد النقيضين ولا يشعر تناقضهما، فتناقض الاَدميين في المقاصد والنيات كتناقضهم في الاَراء والاعتقادات، كثيرًا ما يريدون النقيضين في وقت أو وقتين. وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، تبين بذلك دلالة القرآن على هذا المجنى في مثل قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (2) ، وفي قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)) (3) ،   (1) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1957) من حديث عمر بن الخطاب. (2) سورة ص: 27. (3) سورة القيامة: 36. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 وقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) (1) ، وقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)) (2) . وإن كان قوله: (بِالْحَقِّ) أي بقوله الحق، فهذا إشارة إلى شيء من السبب الفاعل، والآية أعم من هذا، فإن الباء باء السبب، والسبب يتناول الفاعل والغاية، فإن الغاية سبب فاعل للسبب الفاعل، ولهذا يُقال: جئتُ بسبب زيد، وبسبب تخليص هذا المال، وبسبب دفع العدو، ونحو ذلك. والحق يعمُّ الحق المقصود والحقَّ الموجود، فالحق المقصود هو الغاية، وهو نقيض الباطل الذي في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:"كل لَهْو يَلْهُو به الرجل فهو باطل، إلا رَمْيَه بقوسه، وملاعبتَه امرأته، وتأديبَه فرسَه، فإنهن من الحق" (3) . وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. ويتبين أن النظر والاعتبار قد يُعلَم به المعاد، كما يُعلَم به مبدأُ العباد، كما عُلِمَ بالنظر والاعتبار ابتداء خلق العباد، بل الفطرة تقضي بذلك كما تقضي بالابتداء، وأن الذين أنكروا هذا من متكلمة أهل الإثبات، وقالوا لا نعلم ذلك إلا بالسمع، فذلك كقولهم: لا نعلم   (1) سورة الدخان: 38، 39. (2) سورة الحجر: 85. (3) أخرجه أحمد (4/144، 148) والدارمي (3415) والترمذي (1637) وابن ماجه (2811) من حديث عقبة بن عامر. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 الأحكام إلا بالسمع، وهم في ذلك قصدوا مناقضةَ القدرية الذين أوجبوا المعاد والجزاء بالعقل، كما أثبتوا الأحكام بالعقل. والفلاسفة أيضا يثبتون شريعة عقلية بآرائهم، كما يثبتون معاذا عقليًّا باَرائهم، إذ الجزاء في المعاد مبنى على حسن الأفعال وقبحها، والأمر بها والنهي عنها، زيادة على ما في ذلك من صلاح الدنيا. ولهذا أوجب الفلاسفة النبوة لصلاح العباد في الدنيا بقانون العدل المشروع لهم، ثم إنهم مع ذلك عَمُوا- أو من عَمِيَ منهم- عمَّا في الشريعة من مصالح العباد، وإن كانوا يقولون: الشريعة قصدَتْ ذلك أيضا للعامة. لكن آفتهم من دعوى الاختصاص بما يتسلَّون به في الباطن من أخبار الرسل وأوامرها، فهم في الحقيقة يوجبون اتباع الشرائع على الجمهور، ويدَّعون أنهم أجلّ من ذلك، وهذا لما بَهَرَهم من منفعة الشرائع وحاجة العباد إليها، ثم عَمُوا مع ذلك عن حاجتهم هم بخصوصهم إليها، ووجود منفعتهم بكمالها فيها، فظنوا أنها لا تقوم بجميع مطالبهم وحاجاتهم ومصالحهم من العلم والعمل، فابتدعوا وبدَّلوا وحرَّفوا واعتدَوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، كما لا يصدر الوجود عن العدم، عُلِمَ أنَّ ما يوجد في النفوس من لذات منصرفة لا يجوز أن تكون هي الغاية، كما أن ما فيها من قصد محدث لا يجوز أن يكون هو الخالق، وذلك أنَّ ما وُجِدَ ثم عُدِمَ من غير أن يترتب على وجوده الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 مقصودٌ آخر كان وجوده ثم عدمه بمنزلة عدم وجوده، إذ قد بينا أن العدم لا يكون مقصودَا، وعِلْمُ القاصدِ بأن هذا يُعدَم بعد وجوده يمنعه أن يكون هو المقصود بالقصد الأول له، لأنه إذا علم أنه سيعدم، علم أنه حالَ عدمِه لا يكون فيه ما يقصده، بل يكون تلك الحال كحاله قبل وجوده، فلا يقصد أن يفعل ما يكون حاله بعد وجوده وعدمه كحاله قبل وجوده، إذ هذا أيضَا عبثٌ وسَفَهٌ، فكما أنه لا يقصد بالوجود العدم، فإذا علم أن الوجود يتعقبه العدم لم يقصده، إذ كان حاله بعد عدمه كحاله بعد وجوده، فإنه يكون قد قصد ما لا يفيد قصدُه فائدةَ، وإنما يقصد ذلك لأنه يحصل بوجوده مقصودٌ يبقى بعد عدمه، فإذا كان المقصود يحصل بعد عدمه أمكن أن يقصد وجوده وإن عدم، ويكون هذا الوجود مقصودَا بالقصد الثاني، والمقصود بالقصد الأول هو ما يبقى بعد العدم. وهذا أمر بين يجده الإنسان ويعلمه بعقله وفطرته، ولهذا اتفق عقلاء الناس على أن الأمور المنقضية المنصرفة لا تكون هي غايةَ مقصودِ العامل ومنتهى مراده، لأنها إذا كانت منتهى قصده وإرادته كان حاله بعد عدمها كحاله قبل وجودها، وإنما يقصدونها ليستعينوا بها على أمور غيرها. ثم إن الزهاد منهم يذمون المحبوبات والملذوذات المنصرفة وإن لم تكن نهايةَ المقصود، لما فيها من شَغْلِ النفوس بها عما تحتاج إليه، ومن أَلَمِ التركِ وغير ذلك، لكن الحال حال الكافرين بالمعاد، فإنه إذا لم يكن الموت ما يقصدونه ويرجونه كحال الذين لا يرجون لقاء الله، ويظن أحدهم أن لن يَحُور، فهم يجعلون المنصرفات نهايةَ مقصودهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 وهؤلاء الذين قال الله فيهم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)) (1) ، وقال تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)) (2) ، فهذا حال من لم يُحقِّق الإيمانَ بالله واليوم الآخر، فأعرض عن ذكر ربه والعمل لمعاده، كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) (3) ، فاتباع هواه هو اتباع متاع الحياة الدنيا. وقد يُقال هذا معنى الأول والاَخر، فالأول ليس قبله شيء، إذ هو خالق كل شيء، والاَخر ليس بعده شى، أي إليه يَصير العبادُ وتنتهي الحركاتُ، كما قال: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)) (4) ، أي الغاية، لا يراد بذلك أن الأشياء تُعدَم، ويكون هو بعد وجودها، وإنما هو آخرها كما كان أولها، فمنه ابتدأت واليه تعود، كما يقال: ما بعد هذا غاية. فالاَخر قد يُعنَى به في الوجود، وقد يُعنَى به في الغايات المقصودة، فإذا عُنِي به أنت الآخر بعد كل موجود، لم يدل على الغاية، وإذا قيل: أنت الآخر أي الغاية والمنتهى لكل موجود، فليس بعدك ما يوجد ويطلب، كان هذا المعنى أبلغ، مع أن قوله "الآخر" يعمُّ   (1) سورة هود: 15، 16. (2) سورة النجم: 29، 30. (3) سورة الكهف: 28. (4) سورة النجم: 42. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 القسمين، كما أن قوله "الأول " ظاهر في كونه موجودًا أولاً، وقد تضمن أنت الأول في المقصود، كما قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وغيرك إنما يُقصد بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، لكن هذا المعنى ليس وحده ظاهر الحديث (1) ، لكن يُقال: الحديث أشار إليه مع المعنى الظاهر. وأما قوله: "وأنت الآخر فليس بعدك شيء"، فظهورُ الاَخرية في كونه الغايةَ المقصودةَ أظهرُ من ظهور الأولية في كونه أولاً في القصد والإرادة. ومما يبين هذا أن الأفعال إنما تتفاضل وتُحمَد وتُذَمُّ ويُؤمَر بها ويُنهَى عنها باعتبار غاياتها وعواقبها المقصودة منها، فما كانت عاقبتُه وغايتُه أكملَ كان أعلى وأفضل عند الشارع. ولهذا ذكرنا فيما تقدم من القواعد أنه أيُّ العملينِ كان لله أطوعَ ولصاحبه أنفعَ فهو أفضل، فإن منفعته لصاحبه تكون مصلحة وخيرًا، وبامر الشارع به يكون طاعة ودينًا وقُربةً، وهما متلازمان، فالله تعالى إنما أمر العبد بما إذا فعله العبد كان مصلحة له، ونهاه عما إذا فعله كان مضرة له، كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم حاجةً إليه، ولا نهاهم عما نهاهم بخلاً به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادهم. ولهذا إذا وقع التنازع في كون العمل هو طاعة وقربة أم لا؟ إذ كان   (1) أخرجه مسلم (2713) من حديث أبي هريرة. وفيه لفظ "الأول" "والاَخر" ضمن الدعاء المأثور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 المجتهدون قد تنازعوا فيه، فإنه يُستدل على ذلك تارةً بالأدلة السمعية الدالة على كونه طاعةً أو ليس كذلك، وتارةً بالأدلة النظرية، وهو ما ترتب على ذلك العمل من المصلحة والمفسدة، كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)) (1) ، فأخبر أنه سيُرِي الآيات الأفقية والنفسية التي بيَّن فيها أن القرآن حق، وهو ما فيه من الخبر والأمر والوعد والوعيد. وذلك لما يُحدِثه الله من نصر المؤمنين وجَعْلِ العاقبة لهم وعقوبةِ الكافرين، فجعل سبحانه ما يُشهَد ويُرَى من عواقب الأعمال والكمال مما يتبيَّن به الحقُّ من الباطل. ثم قال: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)) ،وهو شهادته بذلك في كلامه المسموع. فهذه الأدلة السمعية الشرعية، ولهذا قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (2) ، وقال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) (3) ، وكما أنه يُستدَل بالأدلة السمعية والبصرية على الفرق بين المؤمن والكافر، فُيستدَل بها أيضًا على البر والفاجر من المسلمين، وعلى المطيع والعاصي، وعلى المصيب في اجتهاده   (1) سورة فصلت: 53. (2) سورة ق: 36، 37. (3) سورة الحج: 46. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 والمخطىء، والفاضل والمفضول. كما يُستدل مع الأدلة السمعية الشرعية على فضيلة أبي بكر وعمر بما أراه الله في الاَفاق وفي الأنفس، من صلاح أعمالهما وجميل سيرتهما، وفضل علمهما وقصدهما وعملهما وقدرتهما، فإن ظهور رجحان ذلك على سيرة عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين بَيّن واضح. وكما يُستدل على [أنّ] القتال في الفتنة الكبرى وغيرها لم يكن في نفس الأمر مصلحة ولا مامورًا به، وإن اجتهد فيه من اجتهد من المغفور لهم، فيُستدل على ذلك مع الأدلة الشرعية، وهو ما ورد من الأحاديث الصحيحة في النهي عن القتال في الفتنة، وأن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من المُوضِع (1) ، وأنه ليس في الشريعة أمرٌ بذلك، كما فيها أمرٌ بقتال الخوارج ... (2) وأن من ظن أن قتال البغاة المأمور به في القرآن يتناولها، فقد وضع النص في غير موضعه، فإن القرآن لم يأمر بالقتال ابتداءً، لكن إذا اقتتلت الطائفتان فإنه أمرَ بالإصلاح، ثم أمرَ عند ذلك بقتال الباغية، فكان البغي في الاقتتال. وعلى ذلك ما وِرد من أن عمّارًا تقتله الفئة الباغية (3) ، فأما أن يكون قبل القتال من بَغى يُقاتل ابتداءً فهذا لم يأمر الله به ولا رسوله، بل هذا على إطلاقه خلاف   (1) أخرجه البخاري (3601) ومسلم (2886) من حديث أبي هريرة. (2) بياض في الأصل بقدر كلمتين. (3) أخرجه البخاري (447، 2812) ومسلم (2915) من حديث أبي قتادة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 الإجماع. والفرق بين البغي بلا قتال والبغي في القتال واضح، وعلى هذا فإذا قيل: كان مأمورًا بالقتال بعد البغي فيه أمكن ذلك، ولكن تلك الحالَ عَصَتِ الطائفة العراقية فنَكَلَتْ عن القتال، فحالَ القتالِ لم يكن أمر، وحالَ الأمر لم تكن طاعةُ الأمر، وذلك يُستدل به على حكم الشارع في نحو ذلك، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. والمقصود هنا أن عواقب الأفعال وغايتها تُبيِّن ما كان منها محمودًا وأحمدَ، فمن وُفِّق لذلك في الابتداء فليحمد الله، وإلا فعليه بالتوبة والاستغفار، فإن الله يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)) (1) ، وهذا يستقيم لمن لم يتبع هواه، فقد تقدم بالبرهان العقلي المعلوم من الآيات المرئية في الأنفس والاَفاق ما يوافق ما شهد الله به في كتابه، أن اتباعَ الهوى بغير هدًى من الله ضلال عمّا ينفع العبد، وسُمِّي ضلالاً لأن متبع هواه إنما يقصد لذته بنيل ما يهواه، لكن ينبغي أن يعرف أن لذته ومنفعته ليست في نيل ما يهواه، إلا أن يكون بهُدًى من الله، وهو ما أمر به أو أباحه، دون ما نهى عنه وحظره، فإذا خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى. والأهواء في الدين والآراء والاعتقادات والأذواق والعبادات أعظم من الأهواء في الدنيا. وأكثر ما ذُكِر في القرآن من ذم اتباع   (1) سورة الزمر: 53. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 الأهواء يتعلق بالقسم الأول، وإن كان أيضًا يتناول القسم الثاني، كما قال الله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ … ) (1) . وإذا تبين ذلك عُلِمَ أن الإرادة لا بد أن يكون لها مقصودٌ لذاته، خارج عن اللذة المنقضية، إذ اللذة المنقضية لا يجوز أن تكون مقصودةً لذاتها، كما لا يجوز أن يكون القصد الحادث حادثًا بذاته، كما تقدم من أن ما يُعقِبُه عدمٌ لا يجوز أن يحدث بذاته، ومن المعلوم أن كل مقصود فإما أن يُقصَد لنفسه أو لغيره، وعلى التقديرين يلزم وجود الموجود بنفسه، وذلك أنه إذا قصد المقصود لغيره، فذلك الغير إما أن يكون مقصودًا لنفسه، فثبت المقصود لنفسه، وإما أن يكون مقصودًا لغيره، فإن كان الغير هو الأول لزم الدور، وهو أن يكون هذا مقصوذا لأجل هذا، وهذا مقصودًا لأجل هذا، وقد تقدم بيان استحالة أن يكون كل شيء من الشيئين علة للآخر علة فاعلية أو غائية. وإن كان غير الأول لزم أن يكون لذلك المقصود مقصودٌ، ولذلك المقصود مقصودٌ، ويلزم تسلسل العلل الغائية. ومن المعلوم أن المقصود يتقدم في العلم والقصد، فيلزم أن يجتمع في علم الإنسان وقصده مقصودٌ لا يتناهى في آنٍ واحد. وأيضا فالمقصود يتعقب الفعل الذي هو السبب التام، ثم المقصود يتعقب الآخر، كما أن السبب التام يتعقبه المسبب، فيلزم   (1) سورة ص: 26. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 اجتماعُ معلولاتٍ لا تتناهى في اَن واحد، وهذا محال كاستحالة اجتماع علل لا تتناهى. ثم إن ثبوت هذا فطري، كثبوت الواجب الوجود بنفسه. وإذا كان وجود المقصود لنفسه- وهو المعبود- ضروريًّا (1) في وجود الحركات كلها، إذ جميع الحركات إنما تصدر عن إرادة، فإنها ثلاثة: قَسْرِي، وطبعي، وإرادي. أما القسري فتابعٌ للقاسر، وأما الطبعي فإنما يتحرك إذا خرج عن مركزه، فهو فرع على غيره. وإذا كان كل من الحركتين الطبعية والقسرية تابعًا للغير وفرعًا عليه ومستلزمةً له، فلا بد من الحركة الإرادية، فتكون هي الأصل. وإذا ثبت أن جميع الحركات صادرة عن الإرادة، وثبت أنه لا بد في الإرادة من مقصود معبود، وتبين أن ما يتعقبه عدمٌ من اللذات الموجودات لا يجوز أن يكون مقصودًا لذاته، ثبت أن المقصود المعبود لذاته يجب أن يكون باقيًا أبديًّا، كما ثبت أن الموجود بنفسه يجب أن يكون قديمًا أزليًّا. كما قال الخليل عليه السلام: (لَاَ أُحِبّ اَلأَفِليِنَ) (2) . ثم إنه كما امتنع أن يكون المخلوق ربًّا خالقًا، يمتنع أن يكون إلهًا معبودًا من جهة كونه لا يستقل بجلب المنافع ودفع المضار، ومن جهة أنه في نفسه يمتنع أن يكون هو الغاية المقصودة لغيره بالأفعال، وذلك لأنه هو في نفسه ليس الغاية المقصودة لفاعله، ولا هو أيضًا الغاية المقصودة لفعله، فإنه يمتنع أن تكون ذاته هي الغاية المقصودة له.   (1) لأصل "ضروري". (2) سورة الأنعام: 76. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 أما أولاً فلأن ذاته ليست فعلَه ولا نتيجة فعلِه، فيمتنع أن تكون هي الغاية المقصودة بفعله. وأما ثانيًا فلأنه يمتنع أن يكون الشيء الواحد علةً معلولاً، فاعلاً مفعولاً، وقاصدًا ومقصودَا كما تقدم بيان ذلك. وإذا امتنع أن تكون ذاته هي العلة الغائية لذاته ولفاعله، امتنع أن تكون هي العلة الغائية لغيره بطريق الأولى، وهو وإن كان قد يفعل للذة التي تحصل فتكون لذاته غاية له، كما يكون قصده سببًا لفعله، فيمتنع أن تكون نفسُ لذته غايةً مقصودةَ لغيره. كما يمتنع أن يكون مجرد قصده قصدًا لغيره، إذ الشهوة واللذة القائمة بالشيء، وهي القصد والغاية، لا تكون بعينها شهوةً لغيره ولذةً له وقصدًا له وغايةً، ولكن يكون له نظيرها، وذلك لا يوجب أن يكون هو المقصود. ويمكن أيضًا أن يكون في ذاته ما يكون مقصودًا بقصد لأمرٍ آخر، كما هو الموجود في كل المحبوبات من المخلوقات، فإنها تُحَبُّ لأمرِ آخر لا يصلح أن تكون هي منتهى المراد المقصود، ومن أحب مخلوقَا جعله غايةَ المطلوب المراد، فهذا هو الفساد الذي بينته. كما أن من جعله هو الرب المحدث، فهذا فساد أيضًا، ولكن كما أنه يكون مُحدَثَا بفاعل غيرهَ خلقه، كذلك يكون مقصودًا لمقصود آخر هو المعبود، كما يحب الأنبياء أو المؤمنون لله، وكما يطاعون لطاعة الله. وما تحبه النفوس من المطاعم والمشارب والمناكح فانه مقصود لغيره، وهو صلاح الأجساد، ومثل الذات التي يستعان بها على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 المقصود لذاته. ولهذا كان الإنسان إذا أحسن إلى غيره، فإما أن يقصد به معاوضته، فيكون العوض هو المقصود الأول، وإما أن يقصد به غير ذلك، إما طلب عوض من غير ذلك الشخص، وإما لما في قلبه من الرحمة والرّقة، فيقصد بذلك تسكين قلبه ولذة نفسه بالإحسان إليه، وزوال الألم عن نفسه، كما يقصد ما هو نحو ذلك، وإما أن يقصد به التقرب إلى الله. والإنسان في لذته مثل ما هو في إرادته وشهوته، فإن هذا سبب، وهذا غاية، لكن تقدم أن اللذات المنصرمة لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته، فكل ما يقصده الإنسان بالإحسان إلى غيره هو أمر منصرمٌ إلا إرادة وجه الله، فإن لم يقصد ذلك أو يقصد ما يستعين به على ذلك حتى يكون مقصودًا لذلك، كان من الأعمال الباطلة الفاسدة، كما تقدم. ومما يبين أن المخلوق لا يكون مقصودا بالقصد الأول لذاته لا لنفسه ولا لغيره ولا لفاعله، كما لا يكون فاعلاً مستقلاًّ لا لنفسه ولا لغيره ولا لمعبوده الذي هو مقصوده= أن نفسه أقرب إلى نفسه من غيره إلى نفسه، فلو كان يستحق أن يكون محبوبًا لذاته مرادًا لذاته لكانت ذاتُه أحقَّ بأن تكون هي المحبة المريدة له، لأنها أقرب وأعلم، فلما تبرهنَ امتناعُ ذلك فيه كان في غيره أعظمَ امتناعًا. وقد تبين لنا أيضًا أنه كما أن الحادث المنصرم لا يجوز أن يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 مطلوبًا لذاته، فالحادث مطلقًا لا يجوز أن يكون هو العلة الغائية، وإن كان يحدث ما يتعلق بها مما هو مقصود الفاعل، بل العلة الغائية يجب أن تكون متقدمة، وإن كان ما يقصد بالفعل لها يكون بعد الفعل، لكن لا بد من مقصود مراد متقدم بالذات على الفعل، وذلك لأن العلة الغائية هي علة ماهيتها وحقيقتها لفاعلية العلة الفاعلية، فإنما صار الفعل فاعلاً لأجلها، والعلة يجب تقديمها على المفعول. فإن قيل: الفاعل فعلها ويتصورها، فهي متقدمة في ذلك على الفعل، وإن كانت في الوجود تتأخر عن الفعل. قيل: هذا يكون في المقصود من الغاية لا في ذاتها، وهذا كما أن الإنسان يحب المحبوب مثلاً، فيقصد الاتصال به، كما يحب المرأة فيريد مباشرتها، فالذات المحبوبة هي الغاية متقدمة على الفعل، وأما المقصود منها كلذة المباشرة فهي تتأخر عن الفعل، وليس إذا كانت اللذة الحادثة للفاعل حادثةً بعد فعله يجب أن تكون نفس الغاية حادثة، كما أن فعل العلة الفاعلية إذا كان حادثًا لم يجب أن تكون هي حادثة. يُبيِّن هذا أن العلة الغائية إذا كانت سابقة في العلم والتصوير والقصد والإرادة، فلا بد أن يكون لها حقيقة يجب أن تراد لأجلها، إذ العدم المحض لا يتصور هذا فيه، ولا يجوز أن يكون إنما صارت مطلوبة لإرادة الفاعل، لأن هذا يستلزم الدور، فإنه إنما أرادها لأنها تستحق أن تُراد، فعُلِم أنه لا بد من ثبوت حقيقة موجودة قبل الفعل تكون هي التي يُفعَل الفعلُ لأجلها، وتكون مرادة لذاتها، واللذة تحصل عقيب الفعل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 فقد تبين أن مَن عبدَ المخلوقات عبادةَ العبد لربه الذي يسأله ويرغب إليه في تحصيل ماَربه، أو عبادتَه لإلهه الذي هو مع ذلك يعبده لذاته ويحبه لذاته، كان ذلك موجبًا لفساده. والمعبود إذا رضي أيضًا بذلك لزم أيضًا فساده، بمنزلة من جعل المعدوم مقصودًا لذاته، فإن الحركة الإرادية تطلب مرادًا يكون به صلاح المريد ونفعه، فإذا لم يكن فيه لزم الفساد، وإن وجد في ذلك لذة فإنه يَستعقبه ألمًا وضررًا، بمنزلة من أكل ما يظنه عسلاً وكان فيه حلاوة، وكان سمًّا، فإنه يهلكه ويقتله. فقد تبين بالقياس العقلي امتناعُ أن يكون معبودٌ إلا الله، كما امتنع أن يكون رب إلا الله، وهذا قصد بقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (1) قصد نفي إله سواه. ولهذا قيل: (لَفَسَدَتَا) وهذا يتضمنُ نَفْيَ رب غيره. والمتكلمون قَصَّروا في معنى الاَية من وجهين: أحدهما: من جهة ظنهم أنه إنما معناها نفي تعدُّدِ الأرباب فقط، كما أقاموا هم الدليل على ذلك. والثاني: ظنهم أن دليل ذلك هو ما ذكروه من التمانع، وليس كذلك، فإن التمانع يوجب عدم الفعل، والتقدير أن الفعل قد وُجد، ثم الاشتراك في الفعل يوجب العجز فيهما، والقرآن إنما أَخبر بفسادهما، لم يخبر بعدمهما، والفساد يكون عن الإرادات الفاسدة،   (1) سورة الأنبياء: 22. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 وهو ضد الصلاح الذي يكون عن الإرادات الصالحة، والله قد أمر بالصلاح ونهى عن الفساد في غير آية. قال الله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)) (1) ، وقالت الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (2) ، وقال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (3) ، وقال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)) (4) ، وقال: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) (5) ،وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (6) ، وقال (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)) (7) ، وقال: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)) (8) .   (1) سورة البقرة: 205. (2) سورة البقرة: 30. (3) سورة المائدة: 32. (4) سورة القصص: 4. (5) سورة الإسراء: 4. (6) سورة البقرة: 11، 12. (7) سورة البقرة: 27. (8) سورة القصص: 77. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 فسبب الفساد هو معصية الله، كما أن سبب الصلاح هو طاعة الله، ورأس الفساد والمعصية هو أن تعبد غير الله، وذلك هو الفساد الناشىء من أن يكون فيهما آلهة إلا الله، فإنه كما تكون حركات المتحركين صادرة عن الارادة والمحبة صارت بالقصد الأول لعبادة تلك الأمور التي لا تصلح لأن تكون هي المقصودة، بمنزلة من لا يتقوَّتُ إلا بالزجاج، ولا يشرب إلا الماء الزُّعَاق، أو لا يدفع البردَ في الأرض الباردة إلا بالثياب الرقاق، أو لا يدفع عدوَّه عنة من القتال إلا بالأيدي، ونحو ذلك من الأفعال التي يُقصَد بها جلب منفعة يحتاج إليها، ودفع مضرة لا تكون محصلة لذلك، فهذا يوجب الفساد. وقصد غير الله بالعبادة يتضمن هذا كلَّه وأضعافَه، ولهذا قيل: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)) (1) . فصل وإذا كان قد تبين أن الفعل الواحد ألا، يكون من فاعلين مستقلينِ، ولا يكون مقدور واحد من قادرينِ على ذلك المقدور حالَ الاشتراك، فكذلك الفعل الواحد والقصد الواحد لا يكون لمقصودينِ مستقلين، بل كما تبين أن الحكم الواحد بالعين لا يكون لعلتين مستقلتين، فسواء في ذلك العلة الفاعلية والعلة الغائية، فمتى قصد بالفعل اثنين لم يكن الفعل لا لهذا ولا لهذا. وهذا هو الإشراك الذي تبرأ الله منه، كما في الحديث   (1) سورة لقمان: 13. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 الصحيح (1) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يقول الله تعالى: أنا أغنَى الشركاءِ عن الشرك، من عَمِلَ عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك " أي أشركه، فإنه سبحانه لا شريك له، فكما لا يجوز أن يكون معه شريك في فعله لا يصلح أن يجعل له شريك في قصده وعبادته، قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)) (2) ، وقال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) (3) ، وهذا كثير في القرآن، بل هو المقصود الأعظم بتنزيل القرآن. والمقصود هنا أن الفعل الواحد كما لا يتصور أن يكون من اثنين لا يتصور أن يكون لاثنين، فمن عمل لله ولغيره فما عبدَ الله ولا عَمِلَ له عملاً، كما أن ما تعاون عليه اثنان فما فعله أحدهما، ولا هو ربه، فكما أنه لو قُدّر أن معه شريكًا في الفعل لم يكن هو رب ذلك المفعول ومليكه، فكذلك إذا جُعِلَ له شريك في القصد والعمل، لم يكن هو إله ذلك العابد ولا معبوده، فلا يتقبل ذلك العمل، وإنما يتقبل ما كان خالصًا لوجهه. يُوضّح هذا أنه هو الرب المليك الخالق، فلو قُدر في الذهن أن معه شريكًا في الفعل امتنع أن يكون هو ربه ومليكه وخالقه، واذا امتنع   (1) مسلم (2985) . (2) سورة سبا: 22. (3) سورة الزمر: 29. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 ذلك بطل وجود الفعل، لأنه قد علم أن غيره لم يفعل شيئًا، فإذا كان على هذا التقدير هو أيضًا ليس برب فاعل لم يكن للفعل وجود، كذلك إذا كان هو الإله المعبود المقصود، فإذا جعل معه من يشرك به، وعبادة ذلك فاسدة باطلة، لم يَصِرْ هو معبودًا بذلك العمل، وما عمل لذلك الغير باطل فاسد، فلا يكون الفعل عبادةً ولا عملاً صالحًا، فلا يتقبل. ولا يمكن أن يقال: لِمَ لا أخذَ نصيبه منه؟ لأنه مع تقدير الاشراك يمتنع أن يكون له منه شيء، كما أنه بتقدير الإشراك في الربوبية يمتنع أن يصدر عنه شيء، فإن الغير لا وجود له، وهو لم يستقلَّ بالفعل، كذلك هنا هو لم يستقل بالقصد، والغير لا ينفع قصده. ولهذا نظائر كثيرة في الشرعيات والحسيّات إذا خُلِط بالنافع الضارُّ أفسده، كما يُخلَط الماء بالخمر، بخلاف الشركة الصحيحة، كاشتراك الناس فيما يصلح اشتراكهم فيه، فإن هذا لا يضر. يُبيِّن هذا أنه لو سأل الله شيئًا فقال: اللهم افعلْ كذا أنتَ وغيرُك، أو دعا الله وغيرَه فقال: افعلا كذا= لكان هذا طلبًا ممتنعًا (1) ، فإن غيره لا يشركه، وهو على هذا التقدير لا يكون فاعلاً له، لأن تقدير وجود الشريك يمنع أن يكون هو أيضًا فاعلاً، فإذا كان يمتنع هذا في الدعاء والسؤال، فكذلك يمتنع في العبادة والعمل أن يكون له ولغيره. وقد مرَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسَعْدٍ وهو يدعو ويشير بإصبعين، فقال: "أَحِّدْ أَحِّدْ" (2) .   (1) في الأصل: "طلب ممتنع". (2) أخرجه أبو داود (1499) والنسائي (3/38) من حديث سعد بن أبي وقاص. وإسناده صحيح. وأخرجه الترمذي (3552) والنسائي (3/38) من= الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 ولهذا سنَّ الإشارة بالسبَّاحة في الدعاء. وكذلك إذا كان قد تبيَّن أن الشيئين لا يكون كل منهما للَاخر علة فاعلية، فكذلك ألا يكون، كل منهما للَاخر علة غائية، كما تقدم بيانه. وكذلك الشيء الواحد لا يكون علةً لنفسه، ولا معلولاً لنفسه، فلا يكون لنفسه علة فاعلية ولا علة غائية، فإن الأول يقتضي تقدمه على نفسه وتأخره عن نفسه، فيلزم أن يكون موجودًا معدومًا إذا قُدّر فاعلاً، وإذا قُدِّر مفعولاً، فيلزم اجتماع النقيضين مرتين. والعلة الغائية يجب تأخرها عن المعلول، فإذا كانت نفسه هي معلول نفسه لزم تاخرها وتقدمها، فيلزم أن يكون متاخرًا عن وجود نفسه ومتقدمًا على وجود نفسه، فيلزم أيضًا اجتماع النقيضين مرتين. وأيضًا فالعلة الغائية متقدمة في التصور والقصد، فيلزم أن يكون تصور الفاعل وقصده له قبل ما يكون متصوَّرًا مقصودًا له، ويكون تصوره وقصده له بعد تصوره وقصده، لأنه يتصور أولاً ويقصد الغاية، ثم يتصور المفعول ويقصده، فإذا كان هو المفعول وهو الغاية، فيلزم اجتماع النقيضين أيضًا في التصور والقصد مرتين، وقد تقدم هذا. وإنما المقصود هنا شيء آخر، وهو أنه كما يمتنع أن يكون الشيء علة لنفسه معلولاً له، أو أن يكون الشيئان كذلك، فيمتنع أيضًا أن يكون جزء علة أو شرط علة، فإن جزء العلة وشرطها يجب أيضًا أن يتقدم المعلول، كما يجب تقدم ذات العلة، فيلزم ما تقدم من الدور   =طريق أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 الممتنع، لكن لا يمتنع أن يكون كلّ منهما شرطًا للَاخر، وتكون العلة أمرًا غيرهما، فيجوز أن يكون وجود أحد الشيئين مشروطًا بالاَخر، وهو الدور المعي. ولا يجوز أن يكون شرطًا في علته لا الفاعلة ولا الغائية، وهو الدور القبلي. فالفاعلان المتعاونان يجوز أن يكون فعل أكل، واحد لما يفعله مشروطًا بالاَخر، بحيث يكون لا يحصل إلا باجتماع الفعلين، كالأمور التي يعجز عنها الواحد في الاَدميين، وإنما يقدر عليها عدد، ولكن لا يجوز أن يكون أحد المتعاونين مستفيدًا لا يحتاج فيه إليه من الآخر المحتاج إلى مشاركته، فإذا كان كل منهما محتاجًا إلى معاونة الآخر لم يجز أن يكون الآخر هو الفاعل لما يحتاج إليه، لاستلزامه أن يكون كل منهما معلولاً لذلك، فإنه إذا قدر أن أحدهما محتاج إلى شيء من المعونة، وأنه يستعين بالاَخر على حصولها، فلو كان ذلك الآخر يستفيدها من الأول لم يكن هو قادرًا عليها، فلا يعين، ولكان الأول قادرًا عليها فلا يحتاج إليها، ولا يدخل في هذا ما يُعِين به أحدهما الآخر من الأسباب، مثل الاَلات ونحوها، فذاك ليس من هذا. وكذلك ما يحصل لأحدهما معاونة الآخر من القوة، فتلك القوة تأثير الاجتماع والتعاون، ليس أحدهما مستقلاّ بها، ولكن هو من الفعل المشترك، لكل منهما، أو في بعضه. وكذلك كما لا يصلح أن يكون كل منهما الغاية المقصودة، فلا يكون بعض الغاية المقصودة، لما تقدم في ذلك من الدور الممتنع أربع مرات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 وإذا قدر فاعلان متعاوضان أو متعاونان كل منهما يفعل ما يحبه الآخر ويرضاه، فلا بد أن يكون مقصود كل منهما غاية غير محبة الآخر ورضاه، فإنه إذا كان نهاية مقصود كل منهما غاية محبة الآخر ورضاه ولذته ونحو ذلك، لزم أن تكون هذه علة مقصودة لهذه ومعلولة لها، وهذه مقصودة لهذه ومعلولة لها، ويمتنع كون كل من الشيئين معلولاً للاَخر، ولو كان كذلك لزم أن لا تحصل واحدة من المحبتين واللذتين، وإنما يكون كل منهما مع قصده ومحبته الآخر ولذته له هو مقصود آخر، هو منتهى قصده، يكون هو محبوبه وفيه لذته، كالزوجين المتناكحين. وإن فُرِض أن كلاًّ منهما يقصد إنالتَه الآخر لذَّتَه، فهو لا يقصد ذلك إلا لعوض، إما أن يقصد بذلك الأجر، أو أن يقصد نيل لذته بهذا الطريق، فيجعل ما ينيلُه لذاك من اللذة وسيلةً إلى ما يناله هو، كما هو الواقع في جميع المعاوضات والمشاركات التي بُني عليها صلاحُ العالم، فإن أحد المتعاوضين والمتشاركينِ مقصوده بالقصد الأول ما يحصل له هو من المحبوب المطلوب الذي يلتذ هو بوجوده، ولكن يقصد ما هو للَاخر كذلك من باب الوسيلة والطريق، وبهذا يتعاوضان ويتشاركان، وكل منهما محتاج إلى الآخر لا حاجةَ العلل إلى المعلول، لكن حاجة الشروط إلى المشروطات، والعلة الفاعلة والغائية لكل منهما غير الآخر. فهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وليس ما لهذا من هذين مستفادًا من هذا، ولا بالعكس، ولكن لا يحصل مقصود كل منهما إلا باجتماع هذين القصدين والعملين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 واعلم أنه كما يُعقَل امتناع الدور في العلل الفاعلة التي هي الأسباب، والغائية التي هي الحكم والمقاصد، من اثنين، فكذلك يُعقَل امتناع الدور فيهما من واحد، وذلك أن الفاعل الواحد قد يفعل. الشيء بسبب آخر، كما يخلق الله سبحانه النبات بالمطر، والمطر بالسحاب، وكما يخلق الولد بالوالدين، وكما يخلق سبحانه الشيء لحكمة وهي عامة مقصودة ... (1) فيمتنع أن يكون كل من الشيئين سببًا للَاخر، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين حكمةً وغايةً للَاخر. ولا يمتنع أن يكونا جميعًا عن سبب واحد غيرهما، ولا أن يكونا جميعًا لحكمة واحدة غيرهما، ولا أن يكون أحدهما شرطًا للَاخر بحيث لا يكون هذا السبب إلا مع ذلك السبب لا به، وأن تكون هذه الحكمة والغاية مع تلك لا لأجلها. فليتدبر اللبيب هذه الحقائق، ينتفع بها في معرفة أن الله هو إله كل شيء، وأن جميع المخلوقات غايته له، مُسبِّحةٌ بحمده، قانتةٌ له، وأن الحركات الموجودة في العلو والسفل إنما أصلها عبادة الله وقصده. كما دلّ القرآن على ذلك في غير موضع، وهذا شيء اَخر غير كونها مربوبة له ومقدورة ومقهورة، وغير ذلك من معاني ربوبيته وقدرته التي هي منتهى نظر أكثر المتكلمين والمتفلسفة، حتى يظنوا أن هذا هو تسبيحها، وأن دلالتها على وجود الرب وقدرته هو تسبيحها بلسان الحال فقط، وإن كان ما أثبتوه حقاً، فليس الأمر كما زعموه، بل على ما أخبرت به الرسل ودلت عليه، كما نطقت به الكتب الإلهية، ودلت   (1) بياض في الأصل بقدر كلمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 عليه البراهين العقلية، كالأمثال المضروبة التي بيَّنها الله تعالى في كتابه، وعرف ذلك أهل العلم والإيمان الذين قال الله فيهم: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) (1) ، وقال: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) (2) ، وقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)) (3) . فإن قيل: فقد ذكرتم أن الموجودينِ كما لا يكون أحدهما فاعلاً للاَخر ولا سببا له، فلا يكون كل منهما معلولاً للآخر ومقصودًا له هو منتهى إرادته، ولا يكون كل منهما هو المقصود بالاَخر من فاعل واحد، وأنتم تعلمون أن التحابَّ من الجانبين موجود في نفوس الحيوان، كما أن الزوجين الذكر والأنثى من الناس والبهائم يحب كل واحد منهما الاخر، كما قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (4) ، بل كل من الزوجين قد يكون الآخر محبوبًا له معشوقًا لذاته، وهو غاية مقصودة، لا يحبه ويقصده لشيء آخر غير نفسه والاتصال به، ويوجد مثل ذلك في أنواع التحاب والتعاشق الذي هو محرم ومكروه في العقل والدين، إذ المقصود هنا ذكر الواقع. قيل: المحب والعاشق لزوجه لا يجوز أن يحبه ويعشقه لذاته   (1) سورة سبأ: 6. (2) سورة الرعد: 19. (3) سورة العنكبوت: 43. (4) سورة الروم: 21. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 ونفسه، فإن الله إنما جعل المودة بين الزوجين لتتم مصلحتهما من المعاشرة والمناكحة، فيحصل لكل واحد منهما من اللذة ما هو موجود في نفسه، وما يمكن تحصيله من غير هذا المحل، كما يحصل للَاكل مطلوبه في الطعام المعين والشراب المعين، فإرادته إنما هو لما يحصل في نفسه من اللذة، سواء حصل بهذا المعين أو بغيره. ثم هذه اللذة لا ريب أن الحيوان يقصدها لوجود اللذة، لأن كل ما يتنعم به الحي يقصد وجود اللذة به، إذ اللذة غاية مطلوب الحي، ومن حكمة هذا ... (1) أراها الله سبحانه بخلق هذا وجود التناسل الذي به يدوم نسل الحيوان، كما أن من حكمة الأكل أن يستخلف بدن الحيوان بدل ما تحلل منه، إذ كانت الحرارة تحلل الرطوبة دائماً، فإن لم يحدث بدل المتحلل وإلا فسد بدن الحيوان، فهذه الحكمة موجودة في الدنيا. ومن هنا جهل من جهل من الكفار والمنافقين من المتفلسفة الصابئة، ومن اليهود والنصارى، الذين أنكروا وجود الأكل والشرب والنكاح في الجنة، مع أن اليهود والنصارى يثبتون معاد الأبدان، وأما أولئك المتفلسفة فإنهم منافقون لأهل المللَ مع دعواهم التحقيق، يقولون: إن الذي أخبرت به الرسل من أنواع هذا النعيم إنما هو أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني، وهذه من شبههم، وهو أن الأكل والشرب والنكاح علتها الغائية وجود النسل وثبات الأبدان، وهذا   (1) بياض في الأصل بقدر كلمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 مفقود في الأخرة، وهذا جهل منهم، وهم يقولون: إن هذه اللذات البدنية ليست لذَّات حقيقية، وإنما هي مجرد دفع آلام، فإن الاكل يدفع ألم الجوع، والنكاح يدفع ألم الشبق، ولا ريب أن هذه مكابرة لما هو من أظهر الحسيات الذوقيات الموجودات، فإن إحساس الحيوان باللذة من أعظم الإحساس، وإحساسه لذة الأكل والنكاح أمر هو أظهر عند الحيوان من أكثر الأشياء، فقول المتحذلق: إن هذه ليست لذة وإنما هي دفع اَلام، كلام فاسد، فإنه لا ريب أن هنا لذة، وهنا فقد ألم، فالأمران موجودان. وإن قال: لولا ذاك الألم لم تحصل هذه اللذة. فإن أراد أن الموجود في الدنيا كذلك، فهذا صحيح، لكن كون هذه اللذة في الدنيا إنما توجد بعد ألم، لا يمنع وجودها في دار الحيوان التي لا ألم فيها بلا ألم، فإن الألم سبب هذه اللذة في الدنيا، وكمال البدن والنسل هو العلة الغائية لهذه اللذة، ولكن كونها في الدنيا لا تُوجَد إلا بسبب قبلها هو الألم، وحكمة بعدها هي النسل وثبات الجسد، لا يمنع أن يوجد في الآخرة بدون هذا السبب ودون هذه الحكمة، كما أن كل موجودات الدار الاَخرة ومن يوجد فيها بدون ما اقترن بها في الدنيا من أسبابها وغاياتها، وعدم وجود الشيء شيء، والعلم بامتناعه شيء اَخر، ولا ريب أن الموعود به في الجنة ليست حقائقه وغاياته وأسبابه مماثلاً لما هو في الدنيا، كما قال ابن عباس: "ليس في الدنيا شيء مما في الاَخرة إلا الأسماء" (1) . وإنما أخبرنا منها   (1) أخرجه هناد في الزهد (3، 8) وغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 بما له في الدنيا ما يشبهه من بعض الوجوه، ثم قيل: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (1) . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:"يقول الله: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشر". (2) ولهذا أخبر الله بوجود هذا النعيم واللذات في الجنة مع نفيه لما يقترن به في الدنيا من سبب وغاية، كما نفى عن الأشربة واللباس وغير ذلك آفاته، إذ هي دار نعيم لا آفة فيها بحال، فالتحاب بين الزوجين ونحوهما في الدنيا وإن أعقب لذةً مطلوبةً لنفسها، فليس أحدهما محبا للآخر لذاته، بل لقضاء الوطر منه، كما تقدم، وهو نوع من المعاوضة كالتعاوض بالأموال، ولهذا كان عقد النكاح يوجب المعاوضة من الطرفين، كما قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (3) فإن قيل: فالعشق الموجود، وهو محبة المعشوق لنفسه، وكما قد يتحابُّ الشخصان لذواتهما لا لأجل نكاح وتناسل، فيحبُّ كلّ منهما الآخر لنفسه. قيل: هذا قصد فاسد، وحبّ فاسد، وإرادةٌ فاسدة، فإن كل من أحب مخلوقًا لنفسه لا لأمر آخر وراء ذلك، فحبه فاسد، وقصده   (1) سورة السجدة: 17. (2) أخرجه البخاري (3244) ومسلم (2824) من حديث أبي هريرة. (3) سورة البقرة: 228. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 فاسد، ونحن إنما ذكرنا امتناع الدور الغائي لبيان فساد هذا ونحوه، وامتناع أن يكون لله ندٌّ يُحَبُّ كحبّ الله الذي تجب محبته لذاته، ونحن إذا قلنا: إن الدور في العلل الغائية ممتنع، كان المراد به أنه يمتنع أن يكون كل منهما مرادَاً مطلوبًا للاَخر محبوبَا للَاخر بإرادة صحيحة، وقصد صحيح، ومحبة صحيحة، فأما الفاسد من الإرادة فهو نظير من يعتقد جواز كون كل من الشيئين علة للَاخر، وقد منعنا أن يكون علة في نفس الأمر أو فاعلاً له في نفس الأمر، وإن كان من الناس من يعتقد أنه فاعل له ورب له، لكن هذا اعتقاد فاسد، فكذلك من ظن في شيء غيرِ الله أنه مقصود لنفسه، معبود لنفسه، محبوب لنفسه، حتى أحبَّه وعبدَه وعَشِقَه، فهذا أيضًا جاهلٌ في ذلك ضال فيه، كما أن الأول جاهل في ظنه أن غير الله رب. ولهذا لما تكلم الناس في العشق [هل] هو لفساد الإدراك، وهو تخيُّل المعشوق على خلاف ما هو به، أو لفسادٍ في الإرادة، وهو المحبة المفرطة الزائدة على الحق= كان الصواب أن العشق يتناول النوعين، وهو فساد في الإدراك والتصور، وفساد في الإرادة والقصد، ولهذا كان سُكْرًا وجنونًا ونحو ذلك مما يتضمن فساد الإدراك والإرادة، حتى قيل (1) : قالوا جُنِنتَ بمن تَهوى فقلتُ لهم العشقُ أعظمُ مما بالمجانينِ ولهذا سماه الله مرضًا في قوله: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (2) ، ولهذا إنما يوجد كثيرًا في أهل الشرك الذين ليس في قلوبهم ما تسكن   (1) البيت لمجنون ليلى في ديوانه (ص 281) والأغاني (2/36) وغيرهما. (2) سورة الأحزاب: 32. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 إليه من إخلاص العبادة لله والطمأنينة بذكره، كما ذكر الله ذلك في كتابه عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي كن مشركات، وأخبر عن نوع هؤلاء بالسكر والجهل كما في قوله تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (1) . وبهذا الفرقان يتبين أن القول الحق أنه لا إله إلا الله، مع كون المخلوقات فيها ما اتخذ آلهة من دون الله، فإن الإله يجب أن يكون معبودًا، وهو المعبود لذاته الذي يُحَبُّ غاية الحب بغاية الذل، وهذا لا يصلح إلا لله، ومن عبدَ غيرَه واتخذه إلهًا فهو لفساد عمله وقصده، حيثما اتخذ إلهًا فأحبه لذاته، وبذل له غاية الحب بغاية الذل لجهله وضلاله، ولهذا سموا جاهلية إذ كان أصل قصدهم جهلاً لا علمًا. وكون الشيء مقصودًا ومحبوبًا ومعبودًا ولذيذًا ونحو ذلك لا يثبت له في الحقيقة بحال من فسد إدراكه كالمطعومات، فإنه إذا قيل في الحلاوة واللحم ونحو ذلك: إنه طيب ولذيذ ومحبوب ونافع ونحو ذلك، كان ذلك حقاً، لأن الأبدان الصحيحة تجده كذلك، ولا يندفع ذلك ببغض المريض ووَجْدِه إياه مُرًّا لما خالطه من المِرَّة الصفراء. وكذلك من تلذذ بأكل الطين وغيره من الخبائث لفساد مزاجه، لم يمنع ذلك أن يقال: هذا غير طيب ولا لذيذ ولا مطلوب ولا مراد ولا محبوب، ولأجل هذا إنما حُمد من ذلك ما كان لله. وجاء في الأحاديث من مدح المتحابين لله والتحابِّ في الله ما هو   (1) سورة الحجر: 72. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 كثير مشهور، كقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يَروي عن ربه تعالى: "حُقَّتْ محبتي للمتحابّين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتزاورين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتجالسين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتباذلين فيَّ " (1) . وكقوله: "إن لله عبادا ليسوا بأنبياءَ ولا شهداء، يَغْبطُهم الأنبياء والشهداء بقربهم من الله "، فقيل: من هم يا رسول الله؟ صِفهم لنا، جَلِّهم لنا، لعلنا نحبهم! قال: "هم قوم تحابُّوا بروح الله على غير أموال تباذلوها ولا أرحامِ تواصلوها، هم نور، ووجوههم نور، على كَراسِيَّ من نور، لا يحزنوَن إذا حزن الناس، ولا يخافون إذا خاف الناس "، ثم قرأ قوله: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (2) . وكقوله في صحيح مسلم (3) فيما رواه أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن عبدًا زار أخًا له في الله، فأرصدَ الله على مَدْرجتِه ملكًا، قال: أين تريد؟ قال: أزور أخًا لي في الله، قال: هل لك عنده من نعمةٍ تَرُبُّها؟ قال: لا، قال: فهل بينك وبينه رَحِم؟ قال: لا، ولكني أحبه في الله، فقال: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبَّك ". وفي الترمذي (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أحبَّ لله، وأبغضَ لله،   (1) أخرجه أحمد في المسند (5/229) من حديث عبادة بن الصامت، وصححه الحاكم في المستدرك (4/170) ووافقه الذهبي. (2) أخرجه أبو داود (3527) من حديث عمر. والاَية من سورة يونس: 62. (3) برقم (2567) . (4) برقم (2521) من حديث معاذ الجهني. وقال الترمذي: هذا حديث منكر. وأخرجه أبو داود (4681) من حديث أبي أمامة. قال المنذري في مختصر= الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ". وفي الحديث في الترمذي (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوثقُ عُرَى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله ". وفي الصحيحين (2) عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلْقَى في النار". فإن هذه المحبة أصلها محبة الله، والمحبوب لغيره ليس محبوبا لذاته، وإنما هو محبوب لذلك الغير، فمن أحب شيئا لله فإنما أحب الله، وحبه لذلك الشيء تبعٌ لحبه لله، لا أنه محبوب لذاته. لكن قد يظن كثير من الناس في أشياء مما يهواها أنه يحبها لله، وإنما يكون محبا لما يهواه، ولهذا كان أعظم ما تجب محبته من المخلوقات هو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق عليه (3) عن أنس: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من   = السنن (7/51) : في إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الشامي. وقد تكلم فيه غير واحد. وصححه الألباني في الصحيحة (380) لطرقه. (1) لم أجده في سننه، وقد أخرجه الطبراني في الكبير (10/220) والأوسط (4476) والصغير (624) من حديث ابن مسعود. وصححه الألباني في الصحيحة (1728) لطرقه. (2) البخاري (16) ومسلم (43) . (3) البخاري (15) ومسلم (44) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 ولدِه ووالدِه والناسِ أجمعين ". وفي صحيح البخاري (1) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: يا رسول الله! فلأنتَ أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك "، فقال: فلأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، قال: "الاَن يا عمر". ومحبتُه رضي الله عنه إنما هي تابعة لمحبة الله، كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) (2) . وأما محبة الله فهي الأصل، فإنه يجب أن يُحَبَّ لذاته، وليس هذا لغيره، وهي أصل التوحيد العملي، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (3) ، وقال: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) (4) . ونحن بيّنَا بما ذكرناه من البرهان امتناع الدور، وأنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين سببًا للَاخر وعلة له ولا حكمة له ومعلولاً له،   (1) برقم (6632) . (2) سورة التوبة: 24. (3) سورة البقرة: 165. (4) سورة المائدة: 54. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 سواء كان هذا من فاعلين أو من فاعل واحد. فأما كون بعض بني آدم قد يجعلون ما ليس سببًا سببًا، وما ليس مقصودًا مقصودًا، فهذا هو الشرك الذي ضلّ به بنو آدم من الأولين والاَخرين، حيث جعلوا بعض المخلوقات علةً تامةً لبعض، إما فاعلاً ربًّا، وإما إلهًا معبودًا. وهذا هو الباطل، أعني هذا باطل في نفسه، والجاعلون لذلك مفسدون في اعتقادهم وإرادتهم، فإن من قصد وأراد بالقصد التام ما لا يصلح أن يُقصَد ويُراد فإن عمله فاسد، كمن أحبَّ الأشياء التي تضره وتفسده دون الأشياء التي تصلحه وتنفعه، فإنه وإن أحبَّها وقصدَها وعَمِلَ لها فهذا هو الفساد. وإذا ضُرِبَ مَثَلُ ذلك بمُحِبِّ العسل المسموم وآكله، كان في هذا المثل بعض الشبه، وإلا فالأمر فوق ذلك. ولو قيل: هو مثل محبة الفراشِ للنار التي تحرقه، كان الأمر فوق ذلك. ونحن في هذا الموضع إنما أصل كلامنا في الدور، وهو أنه يمتنع أن يكون كلّ من الشيئين سببًا للَاخر أو مقصودًا له، ولا يمتنع أن يكون الشيئان متعاونين على مقصودهما، فيكونان مشتركين فيما هو سبب لهما وفيما هو مقصود لهما، ثم أحدهما يقصد الآخر لذلك، كمحبة الشيء لغيره، كما أن أحدهما يعين الآخر، فهذا تعاون وتشارك في المحبوب وفي سببه. وبهذا البرهان يتبين أنه لا بد في الوجود من إله يجب أن يكون هو منتهى قصد القاصدين، وعبادة العابدين، وإرادة المريدين، ومحبة المحبين، كما أنه منتهى سؤال السائلين، وطلب الطالبين، لأنه الخالق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 القديم الواجب بنفسه، الذي هو فاعل للممكنات والمحدثات وربُّها وخالقها. إذ الوجود فيه أشياء مُحدَثة، ولا بد لها من مُحدِث، وفيه حركات موجودة، ولا بد لها من غاية، فإن الحركات إما إرادية وإما طبعية وإما قَسْرية، لأنها إن كان المتحرك شاعرًا فهي الإرادية، وإن لم يكن شاعرًا، فإن كانت بلا شعور على خلاف طبعها فهي القسرية، كحركة الحجر إلى فوق، وإلا فهي الطبعية، كحركته إلى أسفل، لكن القسرية تابعة للقاسر. وأما الطبعية فلا تكون إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه ومستقره، كخروج التراب والحجارة عن مركزها إلى فوق، وكذلك الماء. فبطلت بطبعها أن تعود إلى مركزها ومستقرها، فلو لم تُحرَّك أولاً عنه لما خرجت، فتبين أن الطبعية والقسرية تابعتان، فعُلِمَ أن كل حركة في العالم عن إرادة، وتلك حركات الملائكة الذين أخبر الله عنهم في كتابه عما يدبرونه بإذنه وأمره من أمر السموات والأرض، كما قال تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)) (1) ، فأقسم بالمخلوقات طبقًا بعد طبق، بالرياح ثم بالسحاب ثم بالنجوم وأفلاكها، ثم بالملائكة المقسمات أمرًا. وكذلك قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)) (2) . ونصوص الكتاب والسنة في ذلك أكثر من أن يمكن ذكرها هنا، فإذا كانت جميع الحركات هي عن إرادات، ولا بد للمريد من غاية هي   (1) سورة الذاريات: 1- 4. (2) سورة النازعات: 1- 5. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 مراده ومقصوده الذي هو معبوده، فلا بد للموجودات من إلهٍ هو إلهها ومعبودها سبحانه وتعالى. ومن المعلوم بالبديهة أن الشيء لا يكون فاعلاً لنفسه، ولا يكون حادثًا من غير محدث، وكذلك من المعلوم بالبديهة أن المتحرك لا يكون متحركًا إلى نفسه، ولا يكون متحركا بإرادته إلى غير شيء، فكما أن الكائن بعد أن لم يكن لا يكون موجودًا بنفسه ولا من غير شيء، كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) (1) ، فالمتحرك بإرادته بعد أن لم يكن متحركًا لا يجوز أن يكون متحركًا مريدًا لنفسه، ولا يجوز أن تكون حركته وإرادته لغير شيء، لأن ونفسه كانت موجودة قبل حركته، وكونها هي المراد بما أحدثه يقتضي حدوثها بعد حركته، فيقتضي أن تكون موجودة معدومة معا. كما أنه إذا قُدِّر أنه فاعل نفسه لزم أن يكون متقدمًا على نفسه، لكونه فاعلاً، ومتأخرًا عن نفسه، لكونه مفعولاً، فهذا الذي ذُكِرَ من (2) كون الإنسان يمتنع أن يكون فاعلاً مفعولا يقتضي امتناعَ كونه عابدًا معبودًا. وكذلك يقال في كل ممكن ومُحدَث، وهذا أيضا يدخل في الدور الممتنع، وما ذُكِرَ أولاً هو دور بين اثنين من فاعلين أو من فاعل واحد. وكل ذلك يُستَدل به على إثبات الإله المعبود الخالق للممكنات والمحدثات.   (1) سورة الطور: 35. (2) في الأصل: "في". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 فصل وكذلك كما يمتنع أن يكون في الشخص الواحد أن يكون علة لنفسه ومعلولاً لها في الفاعل والغاية، يمتنع أن يكون جزء علته أو شرط علته، فلا يكون فعل فاعله محتاجًا إلى وجود شيء منه، ولا يكون في المقصود شيء منه، وكذلك أفعاله، كما لا يجوز أن يكون حدوث اعتقاده وقصده وقدرته منه، فلا يجوز أن يكون علة كل فعله حادثًا بفعله الذي حدث بفعله، ولا يجوز أن يكون حادثًا بعلة فعله جزؤها أو شرطها المتقدم على المعلول، لكن يجوز أن يكون هو فعلاً في حدوث المعلول بحيث لا يحدث هذا الفعل إلا مع هذا الفعل أو نحو ذلك، فإن الشرط إنما يجب أن يقارن المشروط، لا يجب أن يتقدم عليه. وأما العلة فيجب تقدمها عليه، فلو كان الفعل علة أو جزء علة لزم تقدم كل منهما على الآخر. وأما كون أحد الفعلين مشروطا بالآخر فهذا لا محذور فيه، وكذلك لا محذور في كون الفعل يحدث بأسباب بعضها من الإنسان، ويكون ذاك السبب متقدمًا على الفعل، فكذلك لا يجوز أن تكون لذته المنقضية هي العلة الغائية مطلقًا، لوجود قصده وعمله، ولا جزءًا من العلة، وإن كانت شرطًا في وجود المعلول الذي هو المقصود لذاته. ولهذا يوجد بعد حصول اللذة نفسه تطلب أمورًا أخرى وتقصدها، ولا تطمئن القلوب وتسكن إلا إلى الله، كما قال: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)) (1) ، وذلك لأن ما يتعقبه العدم لا يصلح أن يكون   (1) سورة الرعد: 28. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 مقصودًا لذاته، فإنه لو كان هو المقصود بالذات، لكان حال القاصد له بعد عدمه كحاله قبل وجوده، فيمتنع أن يكون مقصودًا، لأن ذلك عَبَثٌ وسَفَهٌ، كما تقدم بيانه، وإنما يقصد لأنه بعد عدمه يبقى أمر موجود يصلح أن يكون مقصودًا، كما أن الأكل والشرب ولذة ذلك وإن كانت منقضية، ولذة الوقاع وإن أكانت، منقضيةً، فليست هي المقصودة من هذا الفعل بالذات، بل وإن قصدها الحيوان لما فيها من اللذة، فالمقصود مع ذلك ثبات جسمه وبقاؤه ووجود النسل، وهذه الغاية فإن لم يقصدها الحيوان الفاعل، فهي مقصودة لخالق الفعل وغيره، وذلك أن الحيوان لما لم يكن مستقلاًّ بالفعل، لم يجب أن يكون مستقلاًّ بالقصد الذي هو مبدأ الفعل، بل كما أن فعله لغيره فيه تأثير، فلغيره مقصود، فالسبب الفاعل كالسبب الغائي، ثم الإنسان إذا لم يقصدها، لا يمتنع وجود الفعل، بل يقتضي ذلك فساد حاله، فإنه من لم يقصد بأفعاله إلا نيل اللذة العاجلة فهذا أفعاله فاسدة باطلة، وهي حال من اتبع هواه، ومن كان لا يريد إلا العاجلة. ونحن إنما قصدنا تبيين فساد مثل هذا القصد والعمل، وأنه لا يصلح حال صاحبه، لا تبيين امتناع الفعل بدونه، فإن امتناع الفعل ووجوده يتعلق بخلق الله وما ييسره من الأسباب، فهناك يتبين أنه لو كان هو الغاية أو جزؤها لامتنع أن يكون موجودًا مخلوقًا. وأما في قصد الإنسان فتبين أنه يكون فسادًا وضررًا وشرّا كما تقدم، فإن الموجودات لا توجد بدون أسبابها الفاعلة، ولا تكون موجودةً من الله بدون غاياتها المقصودة، وهو الحكيم في تلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 الغايات. وأما الحيوان فلا بد له من مقصود بفعله، لكن لا يجب أن يكون ذلك الذي قصده مصلحةً له ونافعًا له، كما أنه لا بد له من قصدٍ وقوةٍ، لكن لا يجب أن يكون مقرًّا بأن ذلك بإعانة الله وقدرته. وإذا تبين أنها ليست مقصودة بالذات، فالمقصود بالذات لا بد أن يكون باقيًا أبديًّا، كما بينا أن ما يتعقبه العدم لا يكون مقصودًا بالذات، وكذلك أيضًا لا بد أن تكون ذات العلة الغائية متقدمة على الفعل، وإن كان ما يطلب بالحركة إليها يكون لذة حادثة، وإن كانت متواصلة، وهذا مما نُبيِّنه هنا، وإن لم يكن مبينًا فيما مضى، وذلك أن العلة الغائية هي علة بماهيتها وحقيقتها المقصودة لفاعلية العلة الفاعلية، إذ لولا كون تلك الحقيقة تستحق أن تُطلَب وتُقصد لامتنعَ أن يقصدها الفاعل، فامتنع فعلها، ولا يجوز أن يكون الفاعل بإرادته وفعله جعلها مقصودة مرادة، لأن إرادته متوقفة على كون المراد يجب أن يكون مرادًا، فلو كان كون المراد مرادًا حاصلاً بإرادته لزم الدور، وإذا كانت إرادته هي [التي] جعلتِ المرادَ مرادًا، والمراد هو الذي جعل الإرادة مريدة، بل لابد من حقيقة تكون هي بنفسها تستحق أن تكون مرادة مقصودة، وحينئذ يراد ويقع الفعل، كما أنه لا بد من حقيقة ... (1) فاعلة، وحينئذ فيفعل أفعالاً، فلا يجوز أن يكون مفعولها أحدثها وفعلها. و الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل، فإن المراد   (1) بياض في الأصل بقدر كلمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 هو الذي يوجب الإرادة، يوضح ذلك أن العلة الغائية إذا كانت لا بد من تقدمها في العلم والقصد، فالعلم والقصد لا يتعلق بالعدم المحض ابتداءً، بل المقصود إنما يعلم بطريق التمثيل بالموجود، ولذلك إنما يقصد بالغرض، فيكون الغرض من عدم أحد الضد وثبوت الضد الآخر، كما يقصد عدم المانع. أما أن يكون العدم مقصودًا بالقصد الأول أو معلومًا بالعلم الأول، فهذا محال. وإذا كان كذلك، فالغاية التي لا توجد إلا بعد الفعل تكون حالَ العلم والقصد معدومة، فإنما يعلم بالقياس إلى غيرها، وإنما يقصد لقصد أمر وجودي، وإلا فالعدم المحض إذا قُصِدَ إيجاده لا لقصد أمر موجود، لزم أن يكون في العدم المحض ما يتميز فيه مقصود عن مقصود، وهذا ممتنع. ومن هنا غلط الغالطون القائلون بأن المعدوم شيء، وأهل الإثبات وإن قالوا: هو ثابت في العلم، فالقصد يتوجه إلى المعلوم، لكن يقال: العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فكذلك المعلوم لِمَ كان مقصودًا دون غيره، وليس في العدم المحض تميز، بل لا بد أن يكون المقصود أمرا وجوديًّا، ثم أريد حصول فعل وغاية قريبة لحصول ما يطلب من العمل للغاية المقصودة لذاتها. ولهذا مكة موجودة قبل سعي الحاج إليها، فهي الغاية، وإن كان وصوله إليها، وأعمال المناسك هي غاية عمله لها، وهذه هي الغاية التي تتأخر عن العمل، لكن نفس الغاية المقصودة لذاتها لا بد أن تتقدم الفعل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 وهذا أصل عظيم، يسَّر الله بيانه بعد كثرة تحويم القلوب عليه، وهو نافع في أصلين عظيمين: أحدهما: أن الله هو الإله المعبود لذاته. والثاني: أنه هو المحبوب لذاته، فإليه تصير الأمور، وإليه المنتهى في أفعاله وأفعال عباده، كما أنه رب ذلك كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 الحمد لله رب العالمين. قال الشيخ الإمام العالم المحقق أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله: فصل قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله وطلبه والتعليل به ونحو ذلك قد ذكرتُ بعض ما يتعلق بذلك عند الكلام في العلم بالمعدوم، ومسألة النهي هل هو طلب العدم أو الوجود، وعند الكلام في إحسان الله لخلق كل شيء، وأنه إنما لا يُصرَف إليه المعدوم ونحو ذلك. ونحن نذكر هنا قاعدة، فنقول: الصفات المتعلقة بالوجود مثل: العلم والإرادة والأمر والقدرة والفعل والسبب الفاعل كيف يتعلق بالعدم؟ أما العلم فقد قررنا في غير هذا الموضع أنه إنما يُعلَم المعدومُ بطريق التَّبع للعلم بالوجود، وكذلك قررنا أنه إنما يُراد المعدومُ بطريق التَّبع للموجود، فإن الشاعر منا لا يُدرِك بنفسِه ابتداءً عدمَ شيء، وإنما يُدرِك الوجود، ثم يُقَدِّر في نفسه ما يُركِّبُه أو يُفرِّعُه منَ أجزاء الوجود، مثل تقدير إلهٍ آخر، أو نبى بعد محمدٍ، أو جبلِ ياقوت، أو بحرِ زئْبقٍ، فحينئذٍ يعلم أنه لا إله إلا الله، وأنه لا نبي بعد محمد، وأنه ليس هنا جبل ياقوت وبحرُ زئبق، وإنما يَعلم ذلك بعد أن يكون عَلِمَ إلهًا موجودًا ونبيًّا موجودًا وبحرًا وجبلاً وياقوتًا وزِئبقًا، وأما ما لم يتصور مفرداته من الموجود فإدراكُ عدمِه مثلُ عدمِ إدراكِه، كما قال تعالى: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (1) ، فعدم علمه بوجودِ ذلك مثلُ علمه بعدمِه. وهذا في حق الله تعالى، لأنه بكل شيء عليم، لا يَعزُب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فما لم يعلمه من الأشياء يعلم أنه ليس في الأشياء. وكذلك الإرادة، فإن الحيَّ إنما يُريد بالقصد الأول ويحبّ ما يناسبه أو .... (2) ، فلا يحبُّ ويريد بذاته إلا ما يطلب وجوده، ثم قد تُعارِضه أشياءُ فيكرهها ويُبغِضها ويُريد أن لا تكون. ثم إذا كَرِهَ هذه الأشياء قبلَ كونها أو بعدَ كونها فإنه يَسعَى في إبطالها، وقد يكون قادرًا على ذلك ويَنهى عنها غيرَه. فاختلف النالس في هذا المقام: منهم من قال: القدرة لا تكون قدرةً على العدم، ولا الفعلُ يكون فعلاً للعدم، ولا الإرادة تكون إرادة للعدم، لأن العدم لا شيء، والقدرة على ما هو لا شيء لا شيء، فتكون القدرة على العدم كعدم القدرة، وكذلك فِعْلُ ما هو لا شيء وإرادة ما هو لا شيء بمنزلة وجوده، فإن هذا مما لا يستريب الناسُ فيه أنه لا يحتاج إلى فاعل وقادر، بل يكفي في عدمِه عدمُ مُقتضِيهِ ومُوجبه، ولهذا نقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فنُضِيف عدمَ الكَونِ إلى عدم المشيئة. لا يُحتاج أن يقال: وما شاء أن لا يكون لم يكن. وهذا قول كثير من المتكلمة والمتفقهة من المعتزلة والأشعرية   (1) سورة يونس: 18. (2) هنا كلمة رسمها: "يحابنا"، ولعلها "يجانسه ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 والحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم. ثم اختلف هؤلاء فيما إذا أرادَ الله أن يُفنِيَ شيئًا ويُعدِمَه: فقال البصريون من المعتزلة: يُحدِثُ فَناءً لا في محلٍّ، فيَفنَى به. كما يقولون في الإيجاد: إنه أَحدثَ لا في محلٍّ، فَحَدَثَ به. وهذا عند العقلاء معلوم الفساد بالضرورة والنظر من وجوهٍ كثيرة، كما ذلك معلوم الفساد في الإرادة، فإنّ قيامَ الصفات بغير محلٍّ وحدوثَ شيء بلا إرادةٍ ومنافاةَ شيء سمَّوه الفناءَ لجميع الكائنات= كل هذا مما يُعلَم فسادُه عند تصوُّرِحقيقته. وقال كثير من متكلمة الإثبات من الأشعرية والحنبلية: عدمُه وفناؤُه بأن لا يُحدِث سببَ بقائِه، إمّا أن لا يُحدِث البقاءَ عند من يقول منهم: إن الباقي باقٍ ببقاءٍ، وإمّا أن لا يُحدِثَ الأعراضَ عند من يقول منهم: إن العَرَضَ لا يَبقَى زمانَيْنِ. فإن هؤلاء يقولون: إنما بقاءُ الأعيان التي هي الجواهر بما يُحدِثُه له من الأعراض، أو بما يُحدِثُه من البقاء، فإذا انتفَى شرطُ بقائها انتفَتْ وعُدِمَتْ، وانتفاءُ شرطِ البقاءِ يكفي فيه أنه لا يفعله ولا يُريدُه. وحقيقة قولهم أن العدمَ الطارىءَ المتجددَ بمنزلةِ العدم الدائمِ المستمرّ، يكفي فيه عدمُ الإرادةِ للإيجادِ والإبقاءِ وعدمُ إيجادِه وإبقائِه. فالمعتزلة قالوا: يُفنِي الأشياءَ ويُعدِمُها بإحداثِ ضِد يُنافيها هو الفناءُ، وهؤلاء يقولون بفَواتِ شَرْطِها ومقتضاها، فالنزاع بينهم هل الإعدامُ والإفناءُ لإيجادِ مانع أو لعدمِ شرطٍ، وكلُّهم فَرُّوا من كون نفس المعدوم مفعولاً بنفسِه أو مرًادًا بنفسِه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 فهذا أحد القولين، وهؤلاء يقولون: المطلوبُ بالنهي أو المرادُ بالنهي ليس عدمَ المنهيّ عنه، وإنما هو فِعلُ ضِدٍّ من أضدادِ المنهيِّ عنه: إمّا الامتناع من الفعل، وإمّا البُغْضُ له والكراهة ونحو ذلك، حتى يصحَّ أن يكون مطلوبًا مرادًا للناهي، ويصحّ أن يكون مقدورًا مفعولاً مرادًا للمنهيِّ. فعلى قول هؤلاء كما أن العلة الفاعلية للأمر الموجود لا تكونُ عدمًا بالاتفاق، وإلاّ لصحَّ [نسبة] الحوادث إلى معدوم، فيَبطُل الاستدلالُ بها على الخالق البارىء المصور. كذلك يقولون: العلة الغائية لا يصحُّ أن تكون عدمًا أيضًا، إذْ هي مطلوبُ الفاعل ومرادُه، والمعدوم لا يكون مطلوبًا ولا مرادًا. والقول الثاني في أصل المسألة: إن العدم نوعان كما أن الوجود نوعان، فكما أن الوجود بنفسه هو غنيّ عن الفاعل، وهو الله سبحانه، والممكن بنفسه مفتقر إلى الفاعل محتاج إليه. فكذلك العدم نوعان: أحدهما: ما انعقَدَ سببُ وجودِه التامّ أو المقتضي، وُجِدَ أو لم يُوجَد. والثاني: ما لم ينعقد سببُ وجودِه. فما لم ينعقد سبب وجودِه يكفي في عدمِه عدمُ سببِه، لا يحتاج إلى فاعلٍ ولا مريدٍ لعدمه. وأما ما انعقد سببُه التامُّ فوُجِدَ، أو انعقد سببُه المقتضي فهو معترض للوجود، فهذا إن لم يوجد ما يُعارِضُه ويُنافِيه لم يُعدَم. فالعدم الحادث الطارىءُ كالوجودِ الحادثِ الطارىء، كلّ منهما لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 بدَّ له من سبب، لكن الوجود يتوقف على وجود السبب وانتفاء المانع، والعدم يكفي فيه كلُّ واحدٍ من عدم المقتضي ووجود المانع، فالوجود مفتقرٌ إلى الأمرين كليهما، والعدم يكفي فيه أحدهما إذا عُنيَ بالسبب العلة المقتضية دون التامة، وأما إذا عُني به العلة التامة فهذه العلةُ يلزم من وجودها وجودُ المعلول، ومن عَدَمِها عدمُ المعلول، فالوجود لا يقف إلا على وجودها، والعدم لا يقف إلاّ على عدمها. وبهذا التفسير تزول الشبهةُ الواقعة بين كثير من الناس في مثل هذه المَحارات والمضطربات التي يكثر فيها النزاعُ والجدال، وينتشر فيها القيل والقال، ويحصل فيها التفرق والاختلاف، ويزول بها الاجتماع والائتلاف، فإذا فُسِّرت الأسماءُ المشتركة وفُصلَ الحقُّ من الباطل وحُكِمَ بالعدل بين الفِرَق والمقالات ظهر الكتابُ والسنة والجماعة، وزال الضلالُ والبدعة والفرقة. فنقول: العلة والموجب والمقتضي والباعث والسبب والمناط والمحرِّك والداعي ونحو ذَلك من الأسماء هي أسماءٌ متقاربة، تكون مترادفةً من وجهٍ ومتباينةً من وجهٍ، وفيها تقسيمان: أحدهما: أن العلة تنقسم إلى تامة موجبة يُوجد بها المعلولُ لا محالةَ، وإلى مقتضيةٍ قاصرةٍ تَقِفُ على شروطٍ وانتفاءِ موانع. ولفظ العلة يُعبَّر به عن كلِّ من المعنيين في أصولِ الدين وأصولِ الفقه وفي الكلام والفلسفة وغيرِ ذلك. فأما الأولى فلا تُوجَد إلاّ مجموع أمور، وما ثمَّ سبب واحدٌ يُوجب مسبَّبَه لا محالةَ وينتفي مسبّبه عند انتفائه إلاّ مشيئة الله، فإنه ما شاءَ كَان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانَه فعَّالٌ لما يشاءُ، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) (1) ، (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) (2) ، وقال تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) (3) . وهذا كثير في الكتاب والسنة وعلى اتفاق الملل وأهل الفطرة السليمة، لم يخالف فيه إلاّ القدريةُ من جميع الطوائف الذين يزعمون: قد يُرِيد ما لا يكون، ولا يُفرقون بين الإرادة الكونية والإرادة الدينية. فإرادته سبحانه ومشيئته هي السبب والعلة الكاملة التامةُ وجودُها، ومحبوبُه ومرضيُّه هي الحكمة والغايةُ التامةُ الكاملة. هذا في العلة السببيةِ، وأما الغائية فهو كذلك أيضًا، غالبُ التامِّ منها مركَّبٌ، وما ثمَّ ما هو العلة الغائية على الإطلاق إلاّ محبوبُ الله ومرضيه، وإن كان الحب والرّضا يستلزم ... (4) ، فإن عبادته وطاعته وطاعة رُسُلِه هي غايةُ الأعمال في الدنيا، والتلذذ بالنظر إليه هو غاية المطلوب في الاخرة. وأما ما فى حق الربّ وأمره فإن محبوبه ومرضيّه هو الغاية المرادة من ذلك كله، وإن كان من الأسباب والوسائل ما هو مرادٌ غيرُ محبوبٍ ولا مرضى، فإن الشيء المحبوب المُشْتهَى قد   (1) سورة يونس: 107. (2) سورة الزمر: 38. (3) سورة الكهف: 39. (4) هنا بياض في الأصل بقدر كلمتين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 يتوقف حبه على وجودِ شرط وانتفاء موانع غير محبة الله تعالى، مثل اقتضاء النارِ الإحراقَ والماءِ الإغراقَ، والطعام والشراب للشِّبَع والرّيِّ، والشعاع للتسخين، والأعمال الصالحة للثواب، والأعمال السيئة للعقاب، ونحو ذلك. فكلّ هذه الأمور قد يتخلَّفُ مقتضاها لفواتِ شرط أو وجود مانع. وكذلك في الغائيات، فإن جعلتَ العلةَ مجموعَ الأمور التي يجبُ عندها الحكمُ فهي العلةُ التامة، وإن جعلتَها الأمرَ المقتضيَ للحكم لولا المُعارضُ المقاوِمُ فهي العلة المقتضية الناقصة. وبهذا التقسيم يُعرف اختلافُ العلماء من أصحابنا وغيرهم في العلة هل يجوز تخصيصها، فإن عنِي بالعلةِ التامَّةُ فتلك لا تَقبلُ التخصيصَ، وإن عُنِي بها المقتضيةُ فإنها تقبل التخصيص. وهذا عامٌّ في العلل الكونية والدينية، الطبعية والشرعية، العقلية والسمعية. فإن قلت: فإن كثيرًا من أصحابنا وغيرهم يقولون: العلة العقلية تُوجِبُ معلولَها، لا يتخلف عنها، ولا يقف على شرط، ولا لها مانع، بخلاف العلة الشرعية. قلتُ لك: هؤلاء مرادُهم بالعلة الصفاتُ التي تُوجب الأحوالَ، مثل أن العلم علةُ كونِ العالم عالمًا، والحركة علةُ كَونِ المتحرك متحركًا، مبنية على ثبوت الأحوال في الخارج معاني غير الصفات. فمن أثبت الأحوالَ من متكلمة المعتزلة ومتكلمة الصفاتية من أصحابنا وغيرهم فإنه يفرّق بين العلم والعالمية والقدرة والقادرية، ويجعل الصفاتِ توجب الأحوال. ومن نفى الأحوال فإن عنده العلم نفس كون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 العالم عالمًا، والحركة نفس كون المتحرك متحركًا، ليس عندهم هنا شيئانِ أحدُهما علةٌ والآخرُ معلولٌ. وأما العلل الطبعية الموجودة في الخارج، مثل كون الأكل والشرب علةً للشَبَع والريّ، والإحراق والإغراق علة للحرق والغرق، فكثير من متكلمة أهل الإثبات من أصحابنا وغيرهم لما ناظروا أهلَ الطبع وأهلَ القدر في أن الله خالقُ كلِّ شيء أنكروا أن يكون في العلم علةٌ أو سبب، وقالوا: إن الله يخلق هذه الآثار عند هذه الحوادث، فهؤلاء إذا تكلموا في العلة والسبب لم يدخل هذا في كلامهم، وهذه طريقة كثير من الفقهاء الحنبلية والمالكية والشافعية ومتكلمة أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم. فإذا وجدتَ في كلام القاضي أبي بكر ابن الباقلاني أوالقاضي أبي يعلى أو القاضي أبي الطيب أو أبي إسحاق الفيروزابادي أو أبي الخطاب أو ابن عقيل أو نحو هؤلاء الفرقَ بين العلل العقلية والشرعية فهذا مرادهم. وأما جمهور العقلاء من أهل الإسلام وسائر الملل وإن كانوا يردّون على أهل الطبيعة الذين يُضيفون الحوادثَ إلى ما دون الله من جسمٍ أو طبعٍ أو فلكٍ أو نجمٍ أو عقلٍ أو نفسٍ، وعلى القدرية الذين يزعمون أن أفعال الحيوان لم يَخلُقْها الله ولا يَقدِر على خَلْقِها، ويعلمون (1) أن الله خالقُ كلِّ شيءٍ = فلا يُنكِرون ثبوتَ الأسباب وأنّ الله يخلق الأشياء بها، كما نطقَ بذلك الكتاب والسنة، وكما اتفق عليه   (1) عطف على "يردون ... ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 سلفُ الأمة والسَّالِمُو الفطرةِ من أهل الملة. قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) إلى قوله: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) (1) ، وقال تعالى: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (2) ، وقال: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) (3) ، وقال تعالى: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)) (4) ، وقال تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَام) (5) ، وقال تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) (6) . وهذا كثير في الكتاب والسنة. فمن قال: لا يقال: إن الله يَفعل بها، وإنما يَفعل عندها لا بها، فقد خالف الكتاب والسنة وفِطَرَ العقلاء. فإن قلتَ: قد ذكرتَ أنه ليس في الوجود علةٌ تامة وحدَها إلا مشيئة الله، فكيف تَصنع بالإحراق والإغراق والإزهاق والتكسير والتعليم ونحو هذه الأفعال التي لها أفعال مطاوعة، فإن الكسر مستلزمٌ للانكسار، والإحراق مستلزمٌ للاحتراق، والإزهاق مستلزمٌ للزهوق، ونحو ذلك. قلتُ: الإحراق ونحوه إما أن يُعنَى به فِعلُ المحرِق فقط، أويُعنَى   (1) سورة الأعراف: 57. (2) سورة البقرة: 164. (3) سورة النمل: 60. (4) سورة ق: 9. (5) سورة المائدة: 16. (6) سورة البقرة: 26. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 به فِعلُه وقبولُ المحترق، فإن عُنِيَ به فِعلُ الفاعلِ فقط فهو من العلل المقتضية لا الموجبة، يقال: أحرقتُه فلم يَحترِقْ، وعلَّمتُه فلم يتعلَّم، وكسرتُه فلم ينكسر، وإن عُنِي به فعلُ الفاعل وقبولُ القابل فهما أمرانِ مركَبانِ. وهذا طردُ قولنا : ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى، وقد تقدم الكلام على الصفات والأحوال هل تدخل في العلل أم لا. فهذا أحد القسمين. التقسيم الثاني: أن الشيء ليس له خارج عن نفسه علتان: علة فاعلة وعلة غائية، ويُسمّي الفقهاءُ الفاعلةَ السبب والموجب، ويُسمُّون الغائيةَ الحكمة والمراد والمقصود. أما المادة والصورة فذلك علتان للمركب في نفسه، فالمركب كالخاتم مثلاً مركّبٌ من الفضة التي هي المادة، والصورة التي هي القالَبُ (1) ، وتسمية هذا عللاً ليس من اللغة المعروفة ولا من المعروف في الفعل، وإنما هو اصطلاحٌ لطائفة من النظار من المتفلسفة وغيرهم، وإنما العلة المعروفة ما كان مغايرًا للمعلول، فالإنسان بعقلٍ يفعل فعلاً لمقصودٍ، فهو الفاعل له، والمقصود هو الغاية المقصودة به، والعلة الغائية علة العلم وفاعلية العلة الفاعلية، فإنه لولا المقصود والفاعل لما فعلَ الفاعلُ، وهي [أوّلٌ] في القصد آخرٌ في الوجوِد والفعل. ولهذا قال تعالى: في أم الكتاب: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) ، فإن الله سبحانه هو   (1) في الأصل: "البالف". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 الإله المعبود بجميع الأعمال الصالحة، وهو الخالق الربُّ المُعِين عليها، فله الدعاءُ وحدَه لا شريكَ له دعاء العبادةِ والتألُه لألوهيتِه، ودعاء السؤالِ والطلب لربوبيتِه الداخلة في ألوهيته. وهو ربُّ العالمين وخالق كل شيء، وَلهذا قال: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (1) ، وقال: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)) (2) ، وقال: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)) (3) . إذا عُرِف ذلك فالعلل في اصطلاح الفقهاء في الدين والشريعة قد يُرادُ بها الأسباب التي هي بمنزلة الفاعل، كما يقال: مِلك النصاب سببٌ لوجوب الزكاة، والزنا سببٌ لوجوب الحدّ، والقتل العمد سببٌ لوجوب القَوَد. وقد يُراد بها الحكمةُ المقصودة التي هي الغاية، كما يقال: شرِعَت العقوباتُ للكفِّ عن المحظورات، وشُرِعَت الضماناتُ لإقامة العدل في النفوس والأموال، وشُرِعَت العباداتُ لأن يُعبَد الله وحدَه لا شريك له، وشُرِع الجهادُ لتكون كلمةُ الله هي العليا ويكون الدين كلُّه لله. وهذه الحِكَم والمصالح التي هي الغايات تكون مقصودة مرادةً للشارع الاَمِر وللفاعل المطيع، ولكن تحصل بدونِ قصدِه، كما يَحصُل ثوابُ كثيرِ من الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة لمن أطاعَ الله ورسوله في أَفعالٍ كثيرة، وإن كان لم يعلم ذلك فضلاً عن أن   (1) سورة هود: 123. (2) سورة هود: 88، سورة الشورى: 10. (3) سورة الرعد: 30. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 يَقصِدَه. وقد تنازع الفقهاء هل يجوز تعليلُ الوجود بالعدم، فذهب طوائف من أصحابنا وغيرِهم إلى جواز ذلك، وذهب طوائف إلى أنه لا يجوز. ثم منهم من يقول: يجوز أن يكون العدمُ جزءاً من العلة أو شرطًا، ومنهم من يمنع ذلك، ومنهم من يمنع الجزءَ دون الشروط. وفصَّل أبو الخطاب أن ذلك يجوز في قياس الدلالة بلا ريب، فإن قياس الدلالة المشترك بين الأصل والفرع دليلٌ على العلة وإن لم يُذكَر نفس العلة، والدليل يجوز أن يكون وجودًا وعدمًا، سواء كان المدلول وجودًا أو عدمًا. ومن جعلَ عِللَ الشرعِ كلَّها أماراتٍ ومُعرِّفاتٍ من أصحابنا وغيرهم فجميع الأقيسة عندهم قياس دلالة، وجميع العلل عندهم مجرد أدلة. لكن هذا قول ضعيف. وأما في قياس العلة فيمتنع أن يكون العدم فاعلاً للوجود، وهذا معلومٌ ببديهة العقل، ولو جاز ذلك لجاز إسنادُ الحوادث إلى معدوم، فامتنع بهذا أن تكون العلة العدمية بمعنى الفاعل علة لوجود. لكن هل يكون العدم شرطًا أو جزءًا؟ فهذا ينبني على ما تقدم أن العلة إذا عُنِيَ بها الموجبة التامَّة لم يمتنع أن يكون العدم جزءاً منها، وإن عُنِيَ بها المقتضي لم يمتنع أن يكون العدمُ شرطا في تأثيرِها، فإن تأثير السبب المقتضي لأثرِه قد يَقِفُ على انتفاءِ الضدّ المعارض. ثم إنه كثيرًا ما يكون قد انعقدَ سببُ الشيء، وإنما تخلف الحكمُ لمانعٍ [أو] لمعارضٍ، فإذا انتفَى ذلك المانعُ أضِيف الحكمُ إلى انتفاء المانع، وهو في الحقيقة جزء العلة أو شرطها، ويُجعَل علةً في اللفظ عند النزاع، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 لأن الجزء الآخر قد عُلِمَ وجودُه واتُّفِق عليه، مثل أن يقال: يُباحُ دَمُه لأنه ليس بمسلمٍ ولا مُعاهَد، أو تجب عليه الزكاةُ لأنه ليس بمَدِيْن، أو يُعزَّر لأنه ليس بمُحْصَن، ونحو ذلك. وأما العلة التي هي الحكمة الغائية فهل يجوز أن تكون علة الوجود، بمعنى أن يكون مقصودُ الفاعل ومرادُه العدمَ، فهذا يتعلق بالقاعدة التي تكلمنا فيها، وبَيَّنا أن العدم لا يكون مقصودًا لنا ومرادًا ابتداءً، لأنه ليس فيه لنا فائدة ولا مناسبة، وإنما نَقصِدُه ونُرِيدُه إذا كان في الوجود ضررٌ، فنُريد زوال الضرر وعدمَه، فيكون أعدم، الضرر علة غائية مقصودة بهذا الاعتبار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 فصل في الإسلام وضدّه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 فصل في الإسلام وضدّه قد كتبنا في غير هذا الموضع في مواضعَ أن الإسلام هو الاستسلامُ لله وحدَه، فهو يجمعُ معنيين: الانقياد والاستسلام، والثاني إخلاص ذلك لله، كما قال تعالى: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) (1) أي خالصًا له، ليس لأحدٍ فيه شيء. وإنه يُستعمل لازمًا ومتعديًا، فالأول كقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)) (2) ، وقوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)) (3) ، وقوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) إلى قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (4) . وهو هذا الإسلام الذي هو الاستسلام لرب العالمين. وقد يُستعمل متعديًا في مثل قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (5) ، وفي قوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (6) . فهنا لما كان مقيَّدًا بإسلام الوجه قرن به الإحسان، لأن إسلام الوجه له هو يتضمن إخلاص القصد له، فلا بدَّ مع ذلك من الإحسان، ليكون   (1) سورة الزمر: 29. (2) سورة البقرة: 131. (3) سورة غافر: 66. (4) سورة آل عمران: 83- 85. (5) سورة النساء: 125. (6) سورة البقرة: 112. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 عملُه صالحًا خالصًا لله. وهذا الإسلام الذي هو الإسلام لله- إذْ إسلام الوجه لله وهو محسنٌ يستلزمُ أصلَ الإيمان- لا يمكن أن يكون صاحبُه منافقًا محضًا، فإن المنافق المحض لا يكون مسلما لربّ العالمين ولا مسلمًا وجهَه لله، لكن قد شارك أصحابَه في الإيمان، لأن الإسلام قد يتضمن القصد والعمل، والإيمان يتضمن العلم والحبّ، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه أحمد في المسند (1) : "الإسلام علانيةٌ، والإيمان في القلب ". وكذلك حديث جبريل (2) . فصاحبه قد يكون معه أصلُه لا كمالُه. وأما مطلق لفظ المسلم فقد يكون أسلم رغبةً أو رهبةً من الخلق ولم يُسلِم لله، وهذا قد يكون منافقًا محضًا. وأما لفظ الإسلام المطلق فقد يكون لله، وقد يكون لغير الله، وقد يُظهر صاحبُه أنه أسلم لله، قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) الاَية (3) ، وكذلك قال في قصة لوط: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (4) . وكذلك حديث سعد بن أبي وقاص الصحيح (5) : لما أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجالاً ولم يُعطِ رجالاً كان أعجب إلى سعد مما أعطى، فقلت: ما لكَ   (1) 3/134 من حديث أنس. (2) أخرجه البخاري (50) ومسلم (9) عن أبي هريرة. (3) سورة الحجرات: 14. (4) سورة الذاريات: 35- 36. (5) البخاري (27) ومسلم (150) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 عن فلان عن فلان، إني لأراه مؤمنًا، فقال: "أو مسلمًا" مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: "إني لأعطِي الرجلَ وأَدعُ من هو أحبُّ إليَّ منه، أُعطِيه لما في قلبه من الهلَع والجزَع " أو كما قال. فامرأة لوط كانت منافقةَ كافرةً في الباطن، وكانت مسلمة في الظاهر مع زوجها، ولهذا عُذِّبت بعذاب قومِها. فهذه حال المنافقين الذين كانوا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستسلمين له فيَ الظاهر، وهم في الباطن غير مؤمنين. والأعراب قد نَفى الله عنهم الإيمان بقوله (لَمْ تُؤْمِنُوا) ، وأمرهم أن يقولوا: أسلمنا، ثم قال: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) . و"لمَّا" يُنفَى بها ما يفوت وجودُه ويُنتظَر وجودُه، فيكون دخولُ الإيمان في قلوبهم منتظَرًا مَرجُوا، وقد قال لهم: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) وظاهره أنهم إذا أطاعوه في هذه الحال أُثيبوا على الأعمال. ثم قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)) (1) . وهذا هو الإيمان الواجب، وقد يكون مع كثير من الناس شيء من الإيمان ولم يَصِلْ إلى هذا، كالذين قال فيهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَخرجُ من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرةً، أو من كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من إيمان " (2) . فسَلْبُ الإيمان عنهم لا يقتضي سلبَ هذا المقدار من الإيمان، بل هذه الأجزاء اليسيرة من الإيمان قد يكون في العبد ولا يَصِلُ بها إلى الإيمان الواجب، فإنه إذا انتفت عنه جميع   (1) سورة الحجرات: 15. (2) أخرجه البخاري (44) ومسلم (193) من حديث أنس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 آجزاء الإيمان كان كافرًا. وقد رُوِي عن حذيفة قال (1) : "القلوب أربعة: قلبٌ أغلف، فذاك قلب الكافر؟ وقلبٌ مصفح، فذاك قلب المنافق؟ وقلبٌ أجرد فيه سراج يزهر، فذاك قلب المؤمن؟ وقلب فيه نفاق وإيمان، فَمثَلُ الإيمان فيه كمثلِ شجرةٍ يَمُدُّها ماءٌ طيب، ومَثَلُ النفاق فيه كمثل القرحة يَمُدُّها قَيْحٌ ودمٌ ". وفي روايةٍ: "فأيُّ المادَّيْنِ غَلَبَ كان الحكمُ له ". وفي رواية: "وقلبٌ فيه مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، فأولئك قومٌ خلطوا عملاً صالحًا وآخرَ سيئًا". وهذا- والله أعلم- معنى كلامٍ قاله بعضُ السلف والأئمة في الزاني والسارق والشارب: أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وأن الإيمان يصير على رأسه مثلَ الظلَّةِ. فإنهم لم يريدوا بذلك الإسلام الظاهر المحض الذي يكون للمنافق المحض، لأن الكلام فيمن هو مُقِرٌّ في باطنه بما جاء من عند الله، لكن ارتكب هذه الكبائر، فعُلِمَ أنه يَخرجُ إلى الإسلام الذي يكون معه أصلُ الإيمان وبعضُه، ولكن لا تكون معه حقيقته الواجبة. ويُشبِه أن يكون إسلامُ الأعراب من هذا الباب، فإن الإنسان قد يُسلم للهِ حقيقةً فينقادُ ويَستسلم، ومع هذا لا يكون في قلبه من الهدى والعلم ما يمنع ورودَ الذنب عليه، ولا يكون في قلبه من المحبة ما يوجب صبره على الجهاد، إذ الإسلام هو الدين، والدين هو العمل والخلق، ومثل هذا قد يكون عن علمٍ ويقين وحبّ، وقد يكون   (1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1439) وأبو نعيم في الحلية (1/376) عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 عن نوع اعتقادٍ ونوع إرادة. وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذا، وإنما الغرض ما يأتي بعد. فصل المقصود هنا أنّا قد نبّهنا عليه غيرَ مرَّة أن الإسلامَ له ضدّان: الإشراك والاستكبار، لأنه الاستسلام لله وحده كما يترجم فيه شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله، فمن استسلم لله ولغير الله فقد أشرك بالله وجعَل له عِدْلاً وندًّا وشريكًا، ومن لم يستسلم بحالٍ فقد استكبر كحال فرعون وغيره. ولهذا قال: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)) إلى قوله: (إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)) (1) . وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)) (2) . وكلّ من الشرك والكبر كفرٌ يضادُّ الإيمان والإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يدخل النارَ من في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبْر"، فقال رجلٌ: يا رسول الله! إني أحبُّ أن يكون قولي حسنًا وفعلي حسنًا، أذلك من الكبر؟ فقال: "لا، إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكِبرُ بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس ". ولهذا قُرِنَ هذا في شعار الإسلام الذي هو   (1) سورة الدخان: 17- 19. (2) سورة غافر: 60. (3) مسلم (91) عن ابن مسعود. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 الأذان بين التكبير والتهليل، فإن التكبير- وهو قول "الله أكبر"- يمنع كبرَ غيرِ الله، وقول لا إله إلا الله يوجب التوحيد، وهاتان الكلمتان قرينتان، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبتنّا اقتران التهليل والتكبير كاقتران التسبيح والتحميد. و قد يقال: الشرك أعمُّ، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد، فإن المشرك قد يكون متكبرًا وقد لا يكون، وأما المستكبر فلا بدّ أن يكون فيه شرك، فذَمُّ المشرك يدخل فيه ذمُّ المستكبر من أهل الكتاب، وذمُّ المستكبر لا يدخل فيه ذمُّ المشرك الذي ليس مستكبرًا، ولهذا يُكتفَى بكلمة التوحيد التي هي لا إله إلا الله عن كلمة التكبير، من غير عكس، كما قال تعالى عن النصارى: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)) (1) ، وقال في وصفهم: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (2) ، وقال فيهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (3) ، فوصفَهم بالشركِ وتركِ الكبر، وهذا ظاهرٌ من حالِ كثيرٍ منهم أن فيهم شركًا وتواضعًا، لكن الشرك من أعظم الفساد لصاحبه، إن لم يُرِد علوًّا في الأرض فقد أراد فسادًا. لكن هذا في مشركي أهل الكتاب، إذ الشرك مبتدعٌ في دينهم لا   (1) سورة المائدة: 82. (2) سورة الحديد: 27. (3) سورة التوبة: 31. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 أصل له، فأما المشركون من غيرهم فقد قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (1) . وأما اليهود فقد وصفهم بالاستكبار والعلوّ في الأرض في مثل قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)) (2) ، كما وصف فرعون بذلك في قوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا) إلى قوله: (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)) (3) ، فوصفَه بالعلو والفساد كما وصفَهم. وقال في اَخر السورة: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) الاَية (4) ، وقال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) إلى قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)) (5) ، فهم استكبروا عما جاءت به الرسل، فقتلوا فريقًا من الرسل وكذّبوا فريقًا. والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح بن مريم. وقد قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا   (1) الصافات: 35- 36. (2) سورة الإسراء: 4. (3) سورة القصص: 4. (4) سورة القصص: 83. (5) سورة البقرة: 83- 87. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 عَنْهَا غَافِلِينَ (146)) (1) ، فوصف الله المستكبرين بالتكذيب بآياته والغفلة عنها، لأن الكبر- كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - بطر الحق وغمط الناس (2) ، وبَطرُ الحقّ جَحْدُه ودَفْعُه، وهذا هو التكذيب، وأعظم من ذلك التكذيب بآيات الله، قال تعالى عن قوم فرعون: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)) (3) ، وقال عن المشركين: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الاية (4) ، وقال: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)) (5) وإنمَا يقَال: إن المسَتكبر لا بد أن يكون مشركًا، لأن الإنسان حارثٌ همّامٌ، فلا بدَّ له من حَرْث هو عملُه وحركتُه، ولا بدّ لذلك من همّ هو قصدُه ونيَّته وحبه، فإذا استكبر عن أن يكون الله هو مقصوده الذي ينتهي إليه قصدُه وإرادتُه، فيُسلم وجهَه لله، فلابدَّ أن يكون له مقصودٌ آخر ينتهي إليه قصدُه، وذاكَ هو إلهه الذي أشرك. ولهذا كان قوم فرعون الذين وصفهم بالاستكبار والعلوّ في الأرض وهم الذين استعبدوا بني إسرائيل، كانوا مع ذلك مشركين بفرعون اتخذوه إلهًا وربًّا، كما قال لهم: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (6) ، وقال لهم:   (1) سورة الأعراف: 146. (2) أخرجه مسلم (91) من حديث ابن مسعود. (3) سورة النمل: 14. (4) سورة الأنفال: 47. (5) سورة الأنعام: 33. (6) سورة القصص: 38. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)) (1) ، وقال: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)) (2) . وفرعون نفسه الذي كان هو المستكبر الأعظم على قومه وغيرهم، كان مع هذا مشركا، كما ذكر ذلك تعالى عنه في قوله: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ) (3) ، قيل: كان له آلهةٌ يعبدها سرًّا. وقد وصفهم جميعًا بالإشراك في قول الرجل المؤمن: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)) (4) . وقال قبل هذا: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ) الاية (5) ، وقد ذكر الله قول يوسف: (السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ) الاَية (6) . وهذا إخبارٌ عن جميعهم بالشرك واتخاذ آلهةٍ يدعونها من دون الله. وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) الاَية (7) ، وهذا يبين   (1) سورة النازعات: 24. (2) سورة الزخرف: 54. (3) سورة الأعراف: 127. (4) سورة غافر: 41- 43. (5) سورة غافر: 34. (6) سورة يوسف: 39- 40. (7) سورة النحل: 36. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 أن جميع الرسل بُعِثوا بالتوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده، كما قال تعالى في سورة هود بعد أن ذكر الأنبياء وأممهم ثم قال: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)) الايات (1) ، يُخبر تعالى فيها عن جميعهم بالشرك واتخاذ آلهة. ولو لم يكن المستكبر يعبد غيرَ الله فإنه يعبد نفسَه ولا بدَّ، فيكون مختالاً فخورًا متكبرًا، فيكون قد أشرك بنفسه إن لم يشرك بغيره. وإبليس هو أول المستكبرين، قال تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)) (2) . ومَن بَطِرَ الحقَّ فجحَدَه فإنه يضطرُّ إلى أن يُقِرَّ بالباطل، ومَن غمطَ الناسَ فاحتقرهم وازدراهم بغير حق فإنه يضطرّ إلى أن يُعظّم آخرين بالباطل، وهذا من الشرك. فمَن غَمَطَ الناسَ جَحدَ حقَّهم ليُعظم نفسه بذلك، وهذا هو الاستكثار والاختيال، فلا بدَّ له ممن يُعينه على استكباره واختياله للشرك به، وهو يفرح بمن يحمده ويثني عليه ويعظمه، ويَشْنَأ من يَذُمه ويُبغِضه ويعيبه، فيكون من أعظم رياء وسمعة، والرياء والسمعة من الشرك، فالمستكبر من أعظم الناس شركًا ورياءً وسمعةً. وإبليس هو الذي يُزيِّن كلَّ شركٍ وكلَّ كبرٍ لبني آدم، وينفخ في أحدهم حتى يتعاظم، ويدعوهم إلى الإشراك بالله ويأمرهم بذلك، كما قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ   (1) سورة هود: 100. (2) سورة البقرة: 34. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ) (1) . وهذا من أعظم الشرك بغير الله، وإن كان قد يشرك به أيضًا، فهو يجمع الإشراك بالله وبغيره ممن أطاعَ الخلقَ وعظَّمهم، فمن أطاعهم اقتدى بهم، ومن أطاع الرسلَ اقتدى بهم في توحيدهم وطاعتهم لربهم، ومن عصاهم ضلَّ، فجميع من عَصى الرسلَ ولم يقتدِ بهم فهو مشرك. وقد استقرت الشريعة على أن كل من ليس من أهل الكتاب فهو مشرك يعبد ما يستحسن، كما يذكر الفقهاء ذلك في باب أخذ الجزية، فليس لأحدٍ أن يُخرِج أحدًا من هؤلاء عن الإشراك، وذلك لأن العبد هو حارث وهمَّام حسّاس متحرك بالإرادة، وليس كل مرادٍ مرادًا لغيره، بل لا بدَّ أن تنتهي الإرادة إلى مرادٍ لذاته هو المطاع المحبوب المعظم، وذلك هو إله العبد الذي يعبده. فكلّ من لم يكن الله إلهه الذي يعبده الذي هو منتهى قصدِه وإرادتِه، فلا بدَّ أن يكون مشركًا ينتهى قصدُه وإرادته إلى غيرِه، سواء كان مَلِكًا له أو وثنًا أو غيره. ومن هذا الباب قول فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (2) ، وقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)) (3) . ويُشبهه في ذلك من بعض الوجوه النمروذ وجنكزخان ملك المغل من الترك وأمثاله، فهؤلاء قومهم مشركون بهم، وقد قال تعالى في النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)   (1) سورة الأنفال: 47. (2) سورة القصص: 38. (3) سورة النازعات: 24. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 الآية (1) ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عبادتهم إيّاهم: "إنهم أحلُّوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرَّموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم " (2) . فكيف بمن يكون هو المطاع المطلق في أمره ونهيه وتحليله وتحريمه؟ ويكون قومه يقاتلون الناسَ على أن يكون الدين والطاعة لله وحده بحيث يستبيحون دم كلِّ من خرج عن طاعته! فصل ومن المعلوم أن الشرك ظلم عظيم، بل هو أعظم الظلم، كما قد ذكر الله ذلك في كتابه، وتكلمنا على ذلك في مواضع متعددة. والإسلام هو التوحيد لله، وهو أصل العدل والقسط، والاستكبار أيضًا من أعظم الظلم، ولو لم يكن فيه إلا الاستكبار على بعض الناس، فإن أدنى ما فيه تفضيل نفسه على نظيره بغير حق، ولقَصْده العلوَّ على غيره يجحدُ الحقَّ ويَغمطُ الخلق، فلهذا يوجد في الناس اَحادِهم وأممهم أن كل من كان أعظم تحقيقا للإسلام كان أبعدَ عن الشرك والكبر، وكلَّ من كان أبعدَ عن الإسلام كان أقرب إلى الشرك والكبر، فإن الإسلام هو أن يستسلم العبدُ لله رب العالمين، فلا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستكبر عن عبادته وطاعته وطاعة رسله التي جماعُها العدلُ، كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ   (1) سورة التوبة: 31. (2) أخرجه الترمذي (3595) عن عدي بن حاتم. وقال: هذا حديثٌ غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (1) ، وقال: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (2) . ولهذا أمر الله رسولَه أن يقول لأهل الكتاب: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) الاَيةَ (3) . ف الإسلام يتضمن العدلَ، وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المتفاضلين من المخلوقات، إذ ذلك من الإسلام لله ربّ العالمين وحدَه، فإنه إذا كان الدين كله للهِ وكانت كلمةُ الله هي العليا كان الله يأمر بالعدل وينهى عن الظلم. وأصل العدل هو القسط، والقسط هو الإقساط في حق الله تعالى بان لا يُعدَلَ به غيرُه ولا يُجعَلَ له شريك، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "حقُّ اللهِ على عبادِه أن يعبدوه لا يُشرِكون به شيئا" (4) . فإذا لم يُسلِموا له بل عَدَلوا به غيرَه كان ذلك ظلمًا عظيمًا، وإذا فعلوا هذا الظلمَ في حق الله فهم في حقوقِ العباد أظلم، والتسوية بين المتفاضلين ظلم، كما أن التفضيل بين المتماثلين ظلم، والشركُ من نوع الأول كما قال تعالى: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)) (5) ، والاستكبار قد يكون من نوع الثاني، والإسلام يتضمن العدلَ كلَّه، كما أنه ينافي الشرك والكبر.   (1) سورة الحديد: 25. (2) سورة الأعر اف: 29. (3) سورة اَل عمران: 64. (4) سبق تخريجه. (5) سورة الشعراء: 98. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 فصل والمقصود هنا أن يَعرف المؤمنُ حالَ الناس الذينِ يحتاج إلى معرفة حالهم، ويعمل معهم ما أمر الله به، ويكون فيمن مَضى عبرةٌ له، فآل فرعون لما كانوا أبعدَ الخلق عن الإسلام الذي هو دين الله جعلهم الله في أشدِّ العذاب، كما قال تعالى: (أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)) (1) ، لأنهم كانوا من أعظم الخلق استكبارًا وإشراكًا، حيث جعلوا واحدًا من جنسهم إلههم وربَّهم، فأطاعوه واتبعوا أمره الذي ليس برشيد، واستكبروا قبل مجيىء الرسولِ إليهم على من هو من جنسهم، فاستعبدوهم بغير حق وكانوا خَوَلَهم، وبعد مجيىء الرسول عَلَوا على ربِّهم وعلى رسوله. وكذلك بنو إسرائيل لما بُعِثَ إليهم المسيح كان من استكبارِهم على رسولهم سؤالهم المائدة وعبادتهم الطاغوت كما ذكره الله عنهم في كتابه، ولما كانوا أبعد الناس عن الإسلام إذ ذاك قال الله لهم: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)) (2) . وكذلك الذين بعث إليهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان فيهم من الشرك والكبر ما هو معروف، وقد دلَّ كتاب الله من ذلك على ما فيه عبرة. والمنافق أسوأ حالاً في الآخرة من الكافر، كما قال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ   (1) سورة غافر: 46. (2) سورة المائدة: 115. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الاَية (1) . وقد رُوِي في الحديث عن عبد الله بن عمرو: "إنّ أشدَّ الناس عذاباً يومَ القيامة آل فرعون ومن كفر من أهل المائدة والمنافقون من هذه الأمة" (2) . فإن هؤلاء عاندوا الرسل الثلاثة الكبار أهل الشرائع موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام في وجوههم، وباشروهم بذلك. والمشركون الذين خرجوا على ديار الإسلام عبيد جَنْكِسْخان، وهو الذي استخفَّ قومه فأطاعوه من الترك وأشركوا به، حتى اعتقدوا فيه أن أمَّه أَحْبَلَتْها الشمسُ، إذ لا يُعرف له أبٌ بينهم، وإنما كانت أمُّه بغيًّا فَجَرَتْ ببعض الترك، ثم كتمتْ ذلك وأظهرتْ غيره، وكانت ذاتَ مكر وكيدٍ. وقد ذكر الله في كتابه قول العزيز: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)) (3) . ولهذا لما علا ابنُها وقَهَر الأممَ المجاورةَ له كان من سنتهم تعظيم النساء وطاعتهن. ولما كانوا من أبعد الخلق عن الإسلام كانوا من أعظم الأمم كِبرًا وشركًا، فهم مطيعون لمن قَهَرهم وأذلَّهم واستعبَدهم كطاغوتهم الأعظم جنكسخان طاعةً وعبادةً وتألهًا، فهم بذلك من أعظم المشركين، وهم مع ذلك مستكبرون على من قَهَروه من جنسهم وغيرِ جنسهم استكبارا وعلوًّا.   (1) سورة النساء: 145. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (9/132) عنه. (3) سورة يوسف: 28. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 فصل كل مشركٍ فإنه مكذِّبٌ بالاَخرة، إذ لو كان مؤمنًا بها لما أشرك بالله شيئًا، وهذا الشرك يدخل في العلم والعمل. ومن فضائل توحيد الإلهية أنه ليس لغير الله مطلقًا ولا مقيَّدًا، وأما توحيد الربوبيةِ فهو لغيره مقيَّدًا، كقول الذين جعلوا لله أندادًا، وقد أخبر عن الكفار أنهم لم يشركوا به في توحيد الربوبية. فصل ومما ينبغي أن يُعلم أن كثيرًا من الناس لا يعلمون كونَ الشرك من الظلم، وأنه لا ظلمَ إلا ظلم الحكّام أو ظلم العبد نَفسَه، وإن علموا ذلك من جهة الاتباع والتقليد للكتاب والسنة والإجماع لم يفهموا وجهَ ذلك، ولذلك لم يسبق ذلك إلى فهم جماعة من الصحابة لما سمعوا قوله: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) (1) ، كما ثبتَ ذلك في الصحيحين (2) من حديث ابن مسعود أنهم قالوا: أيُّنا لم يَظلِم نفسه؟! فقال رسول الله: "ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (3) ؟ ". وذلك أنهم ظنوا أن الظلم- كما حدَّه طائفةٌ من المتكلمين- هو إضرارُ غيرِ مستحقّ، ولا يرون الظلم إلاّ ما فيه إضرارٌ بالمظلوم، إن كان المراد أنهم لن يضروا دين الله وعباده المؤمنين، فإن   (1) سورة الأنعام: 82. (2) البخاري (4476) ومسلم (124) . (3) سورة لقمان: 13. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 ضرر دين الله وضرر المؤمنين بالشرك والمعاصي أبلغ وأبلغ. ومعلوم أن الله سبحانَه لا يضرهُ عبادُه ولا ينفعونه، وإنما يضرون أنفسهم، ولهذا قال: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ) (1) ، فأخبر أن الكافر الذي كفر بربه وتركَ حقَّه وأشركَ به وعبدَ غيرَه وتعدَّى حدودَه وانتهكَ محارمَه لا يضرُّه شيئا، كما يَضرُّ المخلوق من السادة ونحوهم من يجحد حقوقهم ويكفُر نِعمَهم ويَعتدِي عليهم، فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ولا تُضْرَب له الأمثالُ. ولهذا قال تعالى في الحديث الصحيح (2) عن أبي ذر- وهو أشرف حديث رواه أهل الشام-: "يا عبادي! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّماً، فلا تظالموا" الحديث إلى قوله: "يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني " إلى قوله: "فمن وجدَ خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ". وكذلك أخبر في القرآن أنه غنى عن خلقِه، لن يبلغوا نفعَه فينفعوه، كما يبلغ بعضهم نفع بعض، كما قال: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (3) ، وقال (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (4) ، وقال موسى: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ   (1) سورة آل عمران: 176. (2) أخرجه مسلم (2577) . (3) سورة آل عمران: 97. (4) سورة الزمر: 7. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)) (1) بعد أن أخبرهم أن ربهم تأذَّن (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)) (2) وقال سليمان: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)) (3) . وقال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ) الاَية (4) . وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) الآية (5) . وقال: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (6) . وقال عن بني إسرائيل: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)) (7) ، فهذا نصٌّ في أنهم لم يظلموا الله وإنما ظلموا أنفسهم. وقال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)) (8) . ولكن عبادته وحده حقٌّ استحقَّه عليهم لذاته، كما قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) (9) ، فأخبر أنه إنما خلق الخلق لعبادته، وأخبر أن الذي خلقه لهم وأمره بهم ورضيه وأحبَّه وأراده بأمره   (1) سورة إبراهيم: 8. (2) سورة إبراهيم: 7. (3) سورة النمل:40. (4) سورة فصلت: 46. (5) سورة الإسراء: 7. (6) سورة البقرة: 286. (7) سورة البقرة: 57. (8) سورة الصافات: 22-23. (9) سورة الذاريات: 56-58. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 منهم هو عبادته، لم يُرِد منهم رزقًا ولا أن يطعموه، والرزق يَعُمُّ كلَّ ما ينتفع به الحيُّ ظاهرًا وباطنًا، فلم يُرِد منهم ما يريده السادةُ والمخلوقون من عُبَّادِهم، من جَلْب المنفعةِ إليهم التي هي الرزق. وقال تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) الاية (1) فأخبر تعالى أنهم علموا يومئذٍ أن الحق لله، وأن أولئك الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله لم يكن لهم في ذلك الحقّ شي، بل كان دعواهم أن لهم حقا افتراءً افْتَرَوه، فضلَّ عنهم وقتَ الحقيقة ما افتَرَوه. وفي الصحيحين (2) عن معاذ بن جبل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "هل تدري ما حقُّ اللهِ على العباد؟ "، قلت: الله ورسولُه أعلمُ، قال: "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا" وذكر الحديث. ولهذا يكثر من ذكر الشرك والكفر وأنواعه في القرآن، ويخبر بأنه ظلم، وأنه من أعظم الظلم، كقوله: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)) " (3) ، وقوله: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) إلى قوله: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)) (4) . وقد أخبر المسيح أن العبادة ليست بحق للمخلوق، وإنما هي حقّ للخالق تعالى، في قوله: (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا   (1) سورة القصص: 74،75. (2) سبق تخريجه. (3) سورة البقرة: 254. (4) سورة الفرقان: 27. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) (1) . وفي الحديث الصحيح (2) : "ومن أظلمُ ممن ذهب يخلق كخلقي ". وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ) الاَية (3) . وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)) (4) . وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ) الآيات (5) . وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين (6)) . وقوله في الذي آتاه الله الملك: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (7) . وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) الآية (8) . وقوله: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)) (9) . وقوله: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)) (10) . وقال: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (11) . وقوله: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا   (1) سورة المائدة: 116. (2) أخرجه البخاري (5953) ومسلم (2111) من حديث أبي هريرة. (3) سورة الأنعام: 93. (4) سورة السجدة: 22. (5) سورة الكهف: 57. (6) سورة الصف: 7. (7) سورة البقرة: 258. (8) سورة البقرة: 165. (9) سورة الزخرف: 39. (10) سورة النجم: 52. (11) سورة النمل: 14. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 جِثِيًّا (72)) (1) ، (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) (2) . وقال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) (3) ، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)) (4) . وقال: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)) (5) ، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً) (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)) (6) . وقوله: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)) (7) . وقوله: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)) (8) . وقول أهل الأعراف: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)) (9) . وقوله: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)) (10) . وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)) (11) َ (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) (12) (وَوَقَعَ الْقَوْلُ   (1) سورة مريم:72. (2) الكهف:59. (3) الكهف: 29. (4) طه: 111. (5) مريم: 38. (6) الأنبياء: 3، 11، 46. (7) المؤمنون: 28. (8) المؤمنون: 93- 94. (9) الأعر اف: 47. (10) الشعراء: 227. (11) الفر قان: 37. (12) النمل:52. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا) (1) . وقوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) (2) . والآيات في هذا كثيرة. وهؤلاء الذين قالوا: إن الظلم إضرار غير مستحق، قصدوا بذلك الظلم المعروف بينهم، وهو ظلم العباد الذين يتضررون بالظلم في حقوقهم. وأما الظلم في حق الله تعالى فلم يستشعروه ولم يقصدوه، ولعلهم لا يعدُّونه ظلمًا، كما هو في أكثر النفوس العامية، بناءً على أن الله غني لا يلحقه ضرر، لكن أكثر هؤلاء مع هذا يوجبون شكره على إحسانه إليهم بالعقل المجرد قبل ورود شرع إذا فُرِضَ خُلُوُّ العباد عن شرع يجعلون العقل معرِّفًا لوجوب ذلك معً الشرع، كما تُعرف بالعقل أمورٌ كثيرة تُعرف بالشرع أيضًا، مع علمهم بأنه سبحانه لا ينتفع بشكر الشاكرين، ولا يتضرر بكفر الكافرين. ومعلومٌ أن تركَ الحق الواجب ظلمٌ، فيناسب أصولهم أن لا يكون الظلم مجردًا لإضرار غير المستحق، بل يدخلُ فيه تركُ ما يُحَبّ لذاته وفعلُ ما يقبح لذاته عندهم. ولهذا يقولون: إنه عُرِف بالعقل أن الظلم من الله قبيح وإن كان لا يتضرر بفعله. وهذا فيه حقٌّ، لكنهم يعنون بذلك أن الظلم منه نظير الظلم من العباد بعضهم بعضًا، فيجعلون لله أندادًا، ويُمثلّونَه بخلقِه، ويَضرِبون له الأمثال، ومن هنا وقعوا في الضلال، وصاروا من القدرية المجوسية المنكرين لمشيئته النافذة وقدرته الكاملة وخلقه للأفعال. ومنهم من ينكر علمه القديم وكتابه المحيط بجميع الأحوال.   (1) سورة النمل: 85. (2) سورة القصص: 40. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 وقد عارضَهم آخرون من المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، وهم فيما أثبتوه "من علم الله ومشيئته وقدرته وخلقه على الصواب الموافق للكتاب والسنة وإجماع الأمة، لكن نازعوهم فيما تنزه الله عنه من الظلم، وفيما يجب له على خلقِه من الحق، نزاعًا فيه نوع من الباطل في الجدال، وقالوا: إذا كان الله لا يتضرر بما يفعله ولا ينتفع به ولا يأمر به، فلا معنى لتنزيهه عن فعل قبيحٍ أوتسمية شيء مما يقدر عليه قبيحًا أو ظلمًا أو سَفَهًا، لأنه لا يتضرر بهذه الأشياء ولو نسبت إليه، إذ هذه الأسماء لا تكون إلا لمن ينتفع بفعله ويتضرر به، أو لمن فوقَه آمِر مُطاع أمرُه يخافُه، وإذا كان لا ينتفع بشيء من معرفةِ عباده وعبادتهم وشكرهم فلا معنى لإيجاب شيء عليهم له. وإذا كان لم يأمرهم ولم ينههم فلا معنى لقُبحِ شيء منهم، ولا معنى لقبح فعل العبد إلا كونه منهيًّا عنه، ولا معنى لحبّه إلا كونه مأمورًا به. وهؤلاء وإن كان في كلامهم نوعٌ من المردود المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فالحق الذي معهم أضعافُ الحق الذي مع الأولين، وهم الذين يجعلون العقل معرِّفًا، وهم الذين قالوا: إضرار غير مستحق. فإن مخالفة أولئك للكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة أوقعَهم في أمورٍ عظيمة، وعَظُمَ الذمُّ لهم بسبب ذلك. وأما هؤلاء فقصَّروا نوعَ تقصيرٍ لدقةِ الأمر وغموضِه، وحصلَ منهم نوعُ تعدٍّ باجتهادٍ قَلَّ أن يَسْلَم منه في هذه المضايقِ إلا من شاء الله، ولهذا كانوا مضافين إلى السنة والجماعة، وكان الأولون داخلين في الفرقة والخروج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 وقد تكلمتُ على مسألة التحسين والتقبيح العقلي وعلى مسألة تنزيه الربّ عن الظلم في غير هذا الموضع بما يُوقِفُ مُريدَ الحق على حقيقة الأمر إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولم يكن الغرض هنا ذِكر هذا، وإنما بيَّنّا ذلك لاتصال الكلام به، لأنه بسبب كونِ الظلم في النفوس عامةً مستلزمًا لاحتراز المظلوم من الظلم، َ وكونِ الحق مستلزمًا لنفع المستحقِّ، ولم يَهتدِ أكثرهم إلى كونِ عبادةِ الله وحدَه حقاً له، وكونِ الشركِ ظلمًا في حقه. ثم اضطربوا في وجه التكليف وجنسه، فزعمت المعتزلة ونحوهم ممن يتكلم في التعديل والتجويز (1) أن ذلك لما فيه من تعريض المكلَّف للنفع الذي لا يحصل بدونه، وكان هذا الكلام من اللغو بيَّن الناس بطلانه من وجوهٍ كثيرة. هذا مع أنهم يُوجِبون شُكره بدون التكليف الشرعي، وهذا تناقضٌ بيِّن. وقال آخرون من المنتسبين إلى السنة: إن ذلك محض المشيئة وصدق الإرادة، وهذا الإطلاق غالب على أهل السنة الظاهرين من فقهاء أهل السنة ومتكلميهم، ومعلومٌ أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لكن لا ينكر العاقل ما في خلقه وأمره من أنواع الحكمة والمصالح لخلقه، بل إخلاء الوجود من الوجوه التي فيها المناسبة لأحكامها من الظلم، فقد سلمت الشريعة لبابها وحرر الفقه في الدين صاحبه، ولم يفهم المعارض كون السنة التي سنَّها الرسول هي   (1) في هامش الأصل: "أي يقولون هذا يُجؤز هذا، وهذا يَجُوز أن يكون ويجوز أن [لا] يكون ". ولعل الأرجح: "التجوير" من الجور، انظر (ص 50) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 الحكمة، وأن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة. ثم من تدبَّر قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (1) وقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)) (2) وقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) (3) وقوله: "أتدري ما حق الله على عباده " (4) = عَلِمَ أنه يستحق أن يُعبَد، وأن في الشرك والفواحش ما يوجب قبحها وقبحه وتحريمه، وظَهر له الفرقُ بين ما اتفقت عليه الرسل من الأمر الذي لا يقبل النسخ، مثل الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح الذي أصله عبادةُ الله وحدَه لا شريك له، وما فيه من تحريم قتل النفس بغير حق والزنا والكذب والظلم وغير ذلك مما أنزل الله فيه السور المكية المشتملة على أصول الدين، وما شرعت فيه شرائع الرسل مثل صفة العبادات وأقدارها ومقادير العقوبات وأنواعها وغير ذلك مما أنزله الله في السور المدنية، وأنزل فيها ما جعله لأهل القرآن من الوجهة والشرعة والمنهاج والمنسك، وفضَّلهم بذلك على سائر الأمم. والحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتمَّ علينا نعمتَه ورضيَ لنا الإسلام دينًا.   (1) سورة الأعراف: 28. (2) سورة لقمان: 13. (3) سورة الذاريات: 56. (4) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 فصل ولهذا قال اَخرون من المُتَسننة: إن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كما يقول العرب (1) : "مَن أشبَه أباه فما ظلم " أي ما وضعَ الشَّبَهَ في غير موضعه. وهذا الحدُّ أسلمُ من الأول الذي تكلمنا عليه في الفصل قبله، لكن فيه إجمالٌ، فإنه يحتاج إلى بيان موضع الشيء، وهو يرجع إلى معرفة الحق، فكأنه قال: الظلم تركُ الحق. ولكن هذا الإجمال لا يمنع أن يكون كلامًا سديدًا، وأن هذا الأمر العام لا يُعبَّر عنه إلاّ بمثل هذه العبارة الجامعة، وأما التفصيل ففي كلّ موضعٍ بحسبه. ولهذا كان الحدُّ الأول فيه هذا، وهو قوله في الفصل قبله: "إضرار غير مستحق "، فإن قول القائل: "إضرار غير مستحق " فيه من الإجمال نحو هذا، فلا بدَّ من معرفة المستحق، فيحتاج إلى بيان الحق والعدل المضادّ للظلم. فإذا كان كلٌّ من الحدَّين موقوفًا على معرفة الحق، وكان الأول هو الجامع للمعنيين، كان أَحكم، ولذلك قال بعضهم: الظلم نقص الحق أو النقص عن الواجب أو نحو ذلك، مستشهدين بقوله: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (2) أي لم تنقص منه شيئًا. وهذا وإن كان صحيحًا فظاهره إنما يتناول أحدَ نوعي الظلم، وهو ترك   (1) انظر: الحيوان (1/332) وأمثال أبي عبيد (ص 145، 160) وفصل المقال (ص 185) وجمهرة الأمثال للعسكري (2/244) ومجمع الأمثال للميداني (2/300) . (2) سورة الكهف: 33. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 الواجب، وقد يستلزم الآخر، وهو تعدِّي الحدّ، فإن من تعدَّى الحدَّ لا بدَّ أن ينقص حقَّ المتعدَّى عليه، فنقصُ الحقّ ملازمٌ لمسمَّى الظلم، وهو فساد الحدّ الثاني في العموم، فإن وضع الشيء في غير موضعه نقصٌ وخلوٌّ لموضعه منه. وربّما يقال: هو أعم منه (1) لأن نقص الحق قد يكون تركًا له بالكلية، وقد يكون نقلاً له إلى موضع آخر، وقد يقال: لا يكون إلاّ أمرًا موجودًا ثابتا، وإن استلزم عدم أمورً أخرى، فلا بدّ له من محلّ، فإذا لم يوضع في موضعه وُضِع في غيره، وهو الظلم. أما العدم المحض الذي لا يستلزم حقاً مرتبًا وأمرًا وجوديًّا فليس بشيء أصلاً، فلا يقال فيه: إنه ظلمٌ ولا إنه غيرُ ظلمٍ. وهذه معانٍ فيها دقةٌ، قد تكلمتُ على أصلها في "قاعدة العلم والإرادة وتعلقهما بالموجود والمعدوم "، فقد عاد معرفة الظلم مفتقرًا إلى معرفة الحق. وقد تكلمتُ على معنى الحق في غير هذا الموضع، وأنه يُعنَى به الموجود تارةً وما يَستحقّ الوجود، أي أن يُوجد منا فعلُ الطاعة، وهو المانع أخرى. ففي الكلام الخبري الحقُّ هو الثابت والعلم به والخبر عنه. وفي الكلام الطلبي الحقُّ هو ما يُبتغى وجودُه أو ما يستحق الوجود كالنافع للعبد، وهو الخير وهو الحق وإرادته والأمر به، الباطل يُضادُّه، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل لهوٍ يَلْهُو به الرجلُ فهو باطلٌ إلأَ رَمْيَه بقوسِه وتأديبَه فرسَه وملاعبتَه امرأتَه، فإنّهن من الحق" (2) ، أي أن اللهو لا منفعةَ فيه ولا فائدةَ له إلاّ في هذه الأمور. وكذلك قوله:   (1) في هامش الأصل: "أي أن الظلم قد يقع عاما في جميع الأشياء". (2) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 "الوتر حق " (1) ونحو ذلك مما يَصِفُ فيه الأفعالَ بأنها حقٌّ أو باطلٌ، كما وصف الله أعمال الكفّار بانها باطلٌ، ولهذا يقول الفقهاء: عملٌ وعقدٌ صالح وصحيح، وبإزائه الباطلُ، فما حصلَ به مقصودُه وتَرتَّبَ عليه أثرُه فهو الصحيح وهو الصالح، وما لم يحصل به مقصودُه ولا تَرتَّبَ عليه أثرٌ فهو باطلٌ. إذا تقررتْ هذه الأمور فاعلم أن العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق، ويكون بدون ذلك في الجمادات والحيوانات في كل يابسٍ ورَطْب، فليس كل من وقعَ الظلمُ في حقِّه يكون متضررًا به، وإنما حَصَلَ الضررُ لغيرِه لعدمِ العدلِ فيهِ. وتدبَّرْ هذا في الاَنية والأطعمة والملابس والأشجار والثمار والزروع ونحو ذلك، فإنّ البيت المبنيَّ إذا نقصَ أحدُ الحائطَينِ المتناظرينِ عن الآخر أو جُعِلَ السَّقفُ أو بعضُ جذوعِه أقصرَ مما بين الحائطينِ كان هذا تركًا للعدلِ والحقِّ الذي يقوم به ذلك البناءُ، وكان هذا ظلمًا لأحد الحائطينِ ولأحد الجذعَينِ، ويقال فيه: هذا لا يصلحُ، ويقال: هذا الجذع يستحق أن يُوضَع هنا، وهذا الحائطُ يستحق أن يُجعَل بقدرِ هذا، ونحو ذلك من المعاني التي يُذكَر فيها الاستحقاق والمراد، ويُجعَل ذلك من العدل بينها، ويجعل بعضها يُطلَق إذا ما نقصَ عمَّا يستحقه أو وُضِعَ في غير موضعه. وذلك كلُّه مستلزمٌ ضرَر الساكن في   (1) أخرجه أحمد (5/418) وأبو داود (1422) والنسائي (3/238) من حديث أبي أيوب الأنصاري. وأخرجه أحمد (5/357) وأبو داود (1419) من حديث بريدة بن الحصيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 ذلك المسكن أو فواتَ الانتفاع المقصود، لأنه لم يُفعَل الشيء الذي ينتفع به، فنَقْصُ منفعتِه ظلمٌ. وكذلك في اللباس، لو نَقَصَ أحدُ جانبَي الثوب عن الآخر، أو نقصَ ما يتمُّ به من خياطةٍ وقَدْرٍ، أو نقصَ الثوبُ عما يستحقه من النَّسْجِ أو الغَزْل أو نحوه= قيل فيه: لم يُعْطَ حقَّه، وكان حقه أن يُفعَل به كذا وكذا، وكان الواجب أن يُسوىَ بين هذا وهذا، وهذا عدلٌ وهذا ظلمٌ، وقد ظلم هذا الجانب هذا الموضع ونحوه. وكذلك في الأطعمة، في أجزاء الطعام ومقدارِ طَبْخِه ونحو ذلك، لها حقوقٌ مبناها على العدل. وكذلك في الزُّروع إذا أُثيرت الأرضُ وبُذِرتْ وسُقِيَ الزرعُ ونُظّفَ على الوجه الذي يستحقه، وإلاّ قيل: هذا كان يستحقُّ كذا وكذا، وهذا الزرع لم يُعطَ حقَّه، ونحو ذلك. فإذا عُمِلَ كما يستحقه وأخرج الثمر قيل: أخرج ثمره ولمِ يظلم منه شيئًا، كما قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (1) ، فهنا جعل الظلم من نفس الجماد، لأنه لما أُعطِي حقه من عمل العبد فيه لم يظلم عامله شيئًا، كما قد يُجعَل لها فتكون ظالمةً تارةً ومظلومةً أخرى، كما قال النابغة (2) : وَقفتُ فيها أُصَيلاَلاً أُسَائِلُها عَيَّتْ جوابًا وما بالرَّبْعِ من أحدِ   (1) سورة الكهف: 32، 33. (2) ديوانه (ص 14، 15) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 إلاّ الأوارِيَّ لأيًا ما أُبَيِّنُها والنُّوي كالحوضِ بالمظلومةِ الجلدِ وما كان أشرف في ذاتِه مثل الخبز إذا أنتنَ أُلقِيَ في النتن وأُكرِمت العذرةُ ونحوها وفُضلت عليه في المكان وغيره= كان هذا ظلمًا له وتركًا لحقِّه، وإن لم يكن هو متضررًا في ذلك، وإنما المتضرر الظالم. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشةَ لما رأى لُقمةً مُلقاةً: "يا عائشة، أَحسنِي جِوارَ نِعَم الله عندكِ، فإنها قَلَّ نِعمةٌ فارقَتْ قومًا (1) فعادت إليهم " (2) . وقد ذمَّ الله قومًا بدَّلوا نِعَمَه كفرًا، وإن لم تكن بعض النعم متضررة، ولهذا ينهى عن الاستنجاء بما لهُ حرمةٌ، حتى الرَّوث والعظام التي هي طعام الجن وطعام دَوابِّهم، فكيف طعام الإنس وطعام دوابهم؟ وذلك وإن كان لما فيه من تفويت منفعتها على الجن فلها شَرَفٌ بذلك، حتى لو فوّتها الإنسان بغير الاستنجاء- مثل الكَسْر والتفتيت- لم يكن في ذلك بمنزلة المستنجي بها. ف كلُّ ما كانت المنفعةُ به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك، واستحقَّ ما لم يستحقَّه ما هو دونَه، وإن كان هو في نفسه لا يتضرَّرُ بتفويتِ حقِّه، سواء كانت ذاته ينتفع بها أو كانت المنفعة منه، وإن كان هو لا يتضرر بتفويت حقه، وقد قالت عائشة: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ننزِّلَ الناسَ منازلَهم، رواه أبو داود وغيره (3) . وكان قد وقف على بابها   (1) في الأصل فوقها: "رواية: نفرت عن قوم". (2) أخرجه ابن ماجه (3353) عن عائشة. وضعَّفه الألباني في الإرواء (7/25) . (3) أخرجه أبوداود (4842) من طريق ميمون بن أبي شبيب عن عائشة، وقال: ميمون= الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 سائلانِ أحدُهما أشرفُ من الآخر، ففضَّلَتْه في العطاء. وقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (1) ، فأخبر أن الإفك عليهم- وهو من أعظم الظلم- هو خير لهم لا شر. لكن هذا قد يقال فيه: إنه وإن تضرر الإنسان بالكذب عليه، لكن لما كانت عاقبته منفعةً زائدةً كان خيرًا لا شرًّا. وقد قال تعالى: (وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى) الاَية (2) ، فأخبر أنهم لن يضروا المؤمنين إلاّ أذى، وإن كانوا مع هذا ظالمين للمؤمنين بالكذب والفجور. وقالي تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (3) ، فأخبر سبحانه أن الضالين لا يضرون المهتدين، وإن كانوا قد يؤذونهم، فالأذى ليس هو الضرر، وإن كانوا مع هذا ظالمين لهم بأنواع من الظلم، كما يظلم الكفّار المحاربون والمنافقون المؤمنين، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) إلى قوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) (4) . فأخبر عن هؤلاء المنافقين الظالمين للمؤمنين بما   لم يدرك عائشة. وعلَّقه مسلم في مقدمة صحيحه (1/6) . (1) سورة النور: 11. (2) سورة آل عمران: 110- 111. (3) سورة المائدة: 105. (4) سورة آل عمران: 118- 120. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 ذكر، وأن المؤمنين إذا صبروا واتقوا لا يضرهم كيدهم شيئًا. فعُلِمَ أنه ليس كلُّ ظالم يضرُّ المظلومَ البتةَ، بل قد لا يضرُّه ظلمُه شيئًا وإن قَصَدَ الظالمُ إضرارَه، ومنه قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) الاَية (1) . ومعلومٌ أن ذلك من ظلمهم، ومع هذا فلا يضرونه. وفي صحيح مسلم (2) عن سعد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أكلَ سبعَ تمراتٍ مما بينَ لابَتَيْها حينَ يُصبح لم يَضُرَّه سُمٌّ حتى يُمسِيَ ". والسُّمّ قد يكون من شقي ظالم. وفي الصحيح (3) : "من قال إذا نزلَ منزلاً: أعوذ بكلمات الله التاماتِ من شر ما خلق، لم يضرَّه شيء في ذلك المنزل حتى يَرْتَحِلَ منه ". وقد يعرض له ظالمٌ من الإنس أو الجن بظلمٍ أو أذى ولا ... (4) وقد أمر الله بالاستعاذة من شرِّ ما خلق، وشرّ النفاثات في العقد، وشرِّ حاسدٍ إذا حسد، ومن أعاذه الله لم يَضُره ذلك، وهو كله ظلم. وكذلك قوله في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة: "لا يضرهم من خَذَلَهم ولا من خالفَهم " (5) ، فهم يُضَرون ويُخالَفون، وذلك ظلم،   (1) سورة النساء: 113. (2) برقم (2047) . (3) مسلم (2708) عن خولة بنت حكيم. (4) هنا كلمة مطموسة في الأصل. ولعلها:" يضره ذلك ". (5) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 ولكن لا يضرُّهم ذلك. فإذا كان الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم، ولا أن يكون مما يضرُّ المظلوم، أو يكون المظلوم ممن يتضرر به، فالظلم في حق الله تعالى أولى أن يكون كذلك، فإن الله لا يضرُّ العباد أو يظلمهم، وإنما العباد يتضررون بترك الحق الذي استحقه لذاته، ويتضرر العبد بتركه، فإنَّ تَرْكَ حقِّ من يحتاج إليه العبد يَضرُّ العبد، والعبدُ لا صلاحَ له ولا قيامَ إلاّ بعبادة الله الجامعة لمعرفته ومحبته والذلِّ له، فتفويتُه هذا ظلمٌ عظِيمٌ فيه عليه الضرر العظيم الذي لا ينجبر. ويُشبِهه من بعض الوجوه من كان عنده ما يحتاج إليه من الطعام والشراب فأتلفَه، واعتاض عنه بما ظنَّ أنه يقوم مقامَه من العَذِرَةِ والبول، فهذا ظلمٌ في حقِّ القوت ضَرَّ صاحبَه، والمستحق إذا ظلمَ حقّه فقد فوّت ما هو بالنسبة إليه كمالٌ مطلوب له ومحبوبٌ من جهته، فإن الجامدات إذا تُرِكَ ما تَستحمه بقيت ناقصةً عن كمالها الذي لها، والإنسان إذا ظُلِمَ حقَّه وإن لم يَضُرَّه فلابدَّ أن يكون قد فُوِّتَ ما هو محبوبٌ له وصلاح له. والله سبحانه يحبُّ ما أمر به من الحسنات ويرضاه، وهو سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تابَ إليه أعظمَ مما يَفرحُ مَن أضلَّ راحلتَه التي عليها طعامُه وشرابُه في مفازة مهلكةٍ ثم وجدَها، وهذا أمر عظيم حيث كانت محبته ورضاه بإيمان العبد وطاعتِه أعظمَ من محبة العبد الفاقد الواجدِ لما لا بُدَّ له منه ولا قِوامَ له إلاّ به من القُوتِ والشراب والمركب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 والسلامة. ولهذا يضحك الله إلى رجلين يَقتُلُ أحدُهما الآخر كلاهما يَدخُلُ الجنة، ونظائره كثيرة متعددة. وكذلك (1)   (1) هنا ينتهي الكلام في النسخة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 مسألة في مقتل الحسين وحكم يزيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 سُئل- رحمه الله ورضي عنه- عن مَقتل الحسين- رضي الله عنه- وما حكمُه وحكمُ قاتلِه؟ وما حكمُ يزيد؟ وما صحَّ من صفة مقتل الحسين وسَبْي أهلِه وحملهم إلى دمشق والرأس معهم؟ وما حكمُ معاوية في أمر الحسن والحسين وعلي وقتل عثمان ونحو ذلك؟ فأجاب- رضي الله عنه- الحمد لله. أما عثمان وعلي والحسين- رضي الله عنهم- فقُتِلوا مظلومين شهداءَ باتفاق أهل السنة والجماعة، وقد ورد في عثمان وعلي أحاديث صحيحة في أنهم شهداء وأنهم من أهل الجنة، بل وفي طلحة والزبير أيضا، كما في الحديث الصحيح (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للجبل لما اهتزَّ ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي: "اثبُتْ حِرَاءُ- أو أُحُدُ- فإنما عليك نبيٌّ وصدّيقٌ وشهيدان ". بل قد شهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة للعشرة (2) ، وهم: الخلفاء الأربعة وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح. أما فضائل الصدِّيق فكثيرة مستفيضةٌ، وقد ثبتَ من غير وجه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال (3) : "لو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذتُ   (1) أخرجه البخاري (3675) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه مسلم (2417) عن أبي هريرة بنحوه. (2) أخرجه أحمد (1/189) وأبو داود (4648) والترمذي (3748) وابن ماجه (133) من حديث سعيد بن زيد. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (3) أخرجه البخاري (466، 3654) ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد= الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله " يعني نفسَه. وقال: "إنَّ أَمَنَّ الناسِ علينا في صُحبتِه وذاتِ يدِه أبو بكر". وقال: "لا يبقينَّ في المسجد خَوخَة إلأَ سُدَّتْ إلأَ خوخة أبي بكر". وقال لعائشة (1) : "ادْعِيْ لي أباك وأخاكِ، حتى أكتُبَ لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي ". ثم قال: "يأبي الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر". وجاءتْه امرأة فسألَتْه شيئًا، فأمرَها أن تَرجعَ إليه، فقالت: أرأيتَ إن جئتُ فلم أجدْكَ؟ - كأنها تَعنِي الموت- قالَ: "إن لم تجديني فائْتِي أبا بكر" (2) . وقَال: "أيها الناس، إني جئتُ إليكم فقلتُ: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ، ووَاسَانِي بنفسِه وماله، فهل أنتم تَارِكُو لي صاحبي؟ " (3) . وهذه الأحاديث كلها في الصحاح ثابتة عند أهل العلم بالنقل. وقد تواترَ أنه أمره أن يُصلِّي بالناس في مرضِ موته، فصلَّى بالناس أيامًا متعددةً بأمرِه، وأصحابُه كلُّهم حاضرون- عمر وعثمان وعلي وغيرهم- فقدَّمَه عليهم كلِّهم. وثبت في الصحيح (4) أن عمر قال له بمحضرٍ من المهاجرين والأنصار: "أنتَ خيرُنا وسيِّدُنا وأحبُّنا إلى   = الخدري بنحوه إلاّ جملة "لكن صاحبكم خليل الله "، فهي في حديث جندب بن عبد الله عند مسلم (532) . (1) أخرجه مسلم (2387) من حديث عائثة. ورواه البخاري (7217) بنحوه. (2) أخرجه البخاري (3659) ومسلم (2386) من حديث جبير بن مطعم. (3) أخرجه البخاري (3661) من حديث أبي الدرداء. (4) البخاري برقم (3668) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وثبت في الصحيح (1) : أنَّ عمرو بن العاصي سألَه عن أحبِّ الرجال إليه، فقال: "أبو بكر". وفضائل عمر وعثمان وعلي كثيرة جدًّا ليس هذا موضع بَسطِها، وإنما المقصود أن من هو دون هؤلاء- مثل طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف- قد تُوفَي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عنهم راضٍ، كما ثبت ذلك في الصحيح (2) عن عمر أنه جعلَ الأمر شورى في ستَهٍ: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، وقال: هؤلاء الذين توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عنهم راضٍ. بل قد ثبتَ في الصحيح (3) من حديث علي بن أبي طالب أن حاطب بن أبي بَلْتَعَة قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه شهدَ بدرًا، وما يُدريك أنّ الله اطَّلع إلى أهلِ بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم ". وكانوا ثلاث مئة وثلاثة عشر. وثبت في صحيح مسلم (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يَدخلُ النارَ أحدٌ بايعَ تحتَ الشجرة". وكان أهل الشجرة ألفًا وأربعمئةٍ كلهم رضي الله عنهم ورَضُوا عنه، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، فهم أعظم درجةً ممن أنفقَ من بعد الفتح وقاتلَ. وثبتَ في الصحيح (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه   (1) البخاري (3662) ومسلم (2384) . (2) البخاري (3700) . (3) البخاري (3983) ومسلم (2494) . (4) برقم (2496) عن أم مبشر. (5) البخاري (3673) ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 قال: "لا تَسُبُّوا أصحابي، فلو أنفقَ أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيْفَه ". وثبت في الصحيح (1) أن غلامَ حاطبٍ قال: والله يا رسول الله، ليَدخلَنَّ حَاطبٌ النارَ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: "كذبتَ، إنه قد شهدَ بدرًا والحديبية". وهذا وقد كان حاطبٌ سَيئ المَلكَةِ، وقد كاتبَ المشركينَ باخبار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوةِ الفتح، ومع هذه الذنوب أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ممن يدخلُ الجنَّة ولا يدخلُ النار، فكيف بمن هو أفضَلُ منه بكثير؟ كعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف. وأما الحسين فهو وأخوه سيّدا شباب أهل الجنة (2) ، وهما رَيْحانةُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدنيا، كما ثبت ذلكَ في الصحيح (3) . وثبتَ في الصحيح (4) أنه أدارَ كساءَه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين، وقال: "الَّلهمّ هؤلاء أهلُ بيتي، أَذهِبْ عنهم الرجسَ وطهِّرهم تطهيرًا". وإن كان الحسنُ الاكبر هو الأفضل، لكونه كان أعظمَ حلمًا وأرغبَ في الإصلاح بين المسلمين وحَقْنِ دماءِ المسلمين، كما ثبتَ في صحيح البخاري (5) عن أبي بكرة قال: رأيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر   (1) مسلم (2195) من حديث جابر. (2) أخرجه أحمد (3/3، 62، 64، 84) والترمذي (3768) والنسائي (5/ 50) من حديث أبي سعيد الخدري. وصححه الترمذي. وفي الباب عن غيره من الصحابة. (3) البخاري (3753، 5994) عن ابن عمر. (4) مسلم (2424) عن عائشة. (5) برقم (2704) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 والحسنُ بن علي إلى جانبه، وهو يُقبلُ على الناس مرةً وعليه أخرى، ويقول: "إنَّ ابني هذا سيد، ولعلَّ الله أن يُصلحَ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ". وفي صحيح البخاري (1) عن أسامة قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذني فيُقعِدني على فخذِه، ويُقعِد الحسنَ على فخذِه الأخرى، ويقول: "اللهمَ إني أحِبُّهما، فأَحبهما، وأَحِبَّ من يُحِبُّهما". وكانا من أكرهِ الناس للدخول في اقتتال الأَمة. والحسين- رضي الله عنه- قُتِل مظلومًا شهِيدًا، وقتَلَتُه ظالمون متعدُّون، وإن كان بعض الناس يقول: إنه قُتِلَ بحق، ويحتِجّ بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من جاءكم وأمرُكم على رجلٍ واحدٍ يُرِيد أن يُفرِّق بين جماعتكم فاضربوا عُنُقَه بالسيف، كائنًا من كان ". رواه مسلم (2) . فزعم هؤلاء أن الحسين أتى الأمةَ وهم مجتمعون، فأراد أن يُفرِّق الأمة، فوجبَ قتلُه. وهذا بخلاف من يتخلَّف عن بيعة الإمام ولم يَخرُج عليه، فإنه لا يجب قتلُه، كما لم يقتُل الصحابة سعد بن عُبادة مع تخلُّفِه عن بيعةِ أبي بكر وعمر. وهذا كذِبٌ وجهل، فإن الحسين رضي الله عنه لم يُقتَل حتى أقامَ الحجةَ على من قتلَه، وطلبَ أن يذهبَ إلى يزيدَ أو يرجعَ إلى المدينة أو يذهبَ إلى الثَّغْر. وهذا لو طلبَه آحادُ الناس لوجبَ إجابتُه، فكيف لا يجب إجابةُ الحسين رضي الله عنه إلى ذلك وهو يطلب الكفَّ والإمساك؟   (1) برقم (3735) . (2) برقم (1852) عن عرفجة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 وأما أصل مجيئه فإنما كان لأن قوماً من أهل العراق من الشيعة كتبوا إليه كتبًا كثيرة يشتكون فيها من تغيُّرِ الشريعة وظهور الظلم، وطلبوا منه أن يقدمَ ليبايعوه ويعاونوه على إقامة الشرع والعدل، وأشار عليه أهلُ الدين والعلم- كابن عباس وابن عمر وابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- بأن لا يذهب إليهم، وذكروا له أن هؤلاء يَغُزُونَه، وأنهم لا يُوفُون بقولهم، ولا يَقدِر على مطلوبه، وأن أباه كان أعظمَ حرمةً منه وأتباعًا ولم يتمكَّن من مرادِه. فظنَّ الحسين أنه يَبلُغ مرادَه، فأرسلَ ابنَ عمّه مسلم بن عَقِيل، فاَوَوه أوّلاً ثمَّ قتلوه ثانيًا، فلما بلغَ الحسينَ ذلك طلبَ الرجوعَ، فأدركَتْه السريَّةُ الظالمةُ، فلم تُمكِّنْه من طاعة الله ورسوله، لا من ذهابه إلى يزيد، ولا من رجوعِه إلى بلدِه ولا إلى الثَّغْر. وكان يزيدُ لو يجتمعُ بالحسين من أحرصِ الناس على إكرامِه وتعظيمه ورعايةِ حقِّه، ولم يكن في المسلمين عنده أجلُّ من الحسين، فلما قتله أولئك الظَّلَمة حَملُوا رأسَه إلى قدّام عبيدِ الله بن زياد، فنكَتَ بالقضيب على ثناياه، وكان في المجلس أنس بن مالك فقال: إنك تنكتُ بالقضَيب حيثُ كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقبِّلُ. هكذا ثبتَ في الصحيح (1) ، وفي المَسند (2) أن أبا بَرْزَةَ الأسلمي كان أيضًا شاهدًا. فهذا كان بالعراق عند ابن زياد. وأما حملُ الرأس إلى الشام أو غيرها والطوافُ به فهو كَذِبٌ، والروايات التي تُروَى أنه حُمِلَ إلى قُدَّام يزيدَ ونكتَ بالقضيب=   (1) البخاري (3748) عن أنس. (2) لم أجده فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 روايات ضعيفةٌ لا يَثبتُ شيء منها، بل الثابتُ أنه لما حُمِلَ علي بن الحسين وأهلُ بيته إلى يزيد وقعَ البكاءُ في بيتِ يزيد، لأجل القرابة التي كانت بينهم، لأجل المصيبة. ورُوِي أن يزيد قال: لعنَ الله ابنَ مَرجانة- يعني ابنَ زياد-، لو كان بينه وبين الحسين قرابةٌ لما قتلَه. وقال: قد كنت أرضَى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين. وأنه خيَّر علي بن الحسين بين مُقامِه عنده وبين الرجوع إلى المدينة، فاختار الرجوع، فجهَّزه أحسن جهاز. ويزيدُ لم يأمر بقتل الحسين، ولكن أمرَ بدفعِه عن منازعتِه في الملك، ولكن لم يَقتُل قَتَلةَ الحسين ولم يَنتقِم منهم، فهذا مما أُنكِر على يزيد، كما أُنكِر عليه ما فَعَلَ بأهلِ الحرَّةِ لمّا نكَثوا بيعته، فإنه أمرَ بعد القدرة عليهم بماباحةِ المدينةِ ثلاثًا. ولهذا قيل لأحمد بن حنبل: أيُؤخَذُ الحديثُ عن يزيد؟ فقال: لا، ولا كرامةَ، أوَ ليس هو الذي فعلَ باهل المدينة ما فعل؟ وقيل له: إنّ قومًا يقولون: إنّا نُحِبُّ يزيدَ، فقال: وهل يُحِبُّ يزيدَ مَن يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر؟ فقيل له: أوَ لا تلعنُه؟ فقال: متى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟ ومع هذا ف يزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات كما لغيره من الملوك، وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن عبد الله بن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أولُ جيشٍ يَغزو القُسطَنطينية مغفورٌ له ". وأولُ جيشٍ غزاها كان أميرهم يزيد، غزاها في خلافة أبيه معاوية، ومعه أبو   (1) برقم (2924) ولكن عن أم حرام بنت ملحان لا ابن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 أيوب الأنصاري ومات ودُفِن هناك. ويزيد هذا ليس هو من الصحابة، بل وُلِد في خلافة عثمان، وأما عفُه يزيد بن أبي سفيان فهو من الصحابة، وهو رجلٌ صالح، أمَّره أبو بكر في فتوح الشام ومَشى في ركابه، ووَصَّاه بوصايا معروفةٍ عند الفقهاء يعملون بها، ولما مات في خلافة عمر وَلَّى عمرُ أخاه معاويةَ مكانَه، ثمَّ وَلِي عثمانُ فأقره وولاه إلى أن قُتِل عثمان، ووُلِد له يزيد ابنُه في خلافة عُثمان. و لم يُسْبَ قطُّ في الإسلام أحدٌ من بني هاشم، لا علوي ولا غير علوي، لا في خلافة يزيد ولا غيرها، وإنما سَبَى بعضَ الهاشمياتِ الكُفَّارُ من المشركين وأهلِ الكتاب، كما سَبَى التركُ المشركون من سَبَوه لما قَدِموا بغداد، وكان من أعظم [أسباب] سَبْي الهاشميات معاونةُ الرافضةِ لهم كابن العَلْقَمي وغيرِه. بل ولا قَتَلَ أحدٌ من بني مروان أحدًا من بني هاشم- لا علويّ ولا عباسيّ ولا غيرهما- إلاّ زيدَ ابن علي، قُتِلَ في خلافة هشام. وكان عبد الملك قد أرسلَ إلى الحجاج: إيَّايَ ودماء بني هاشم، فلم يَقتل الحجاجُ أحدًا من بني هاشم لا علويّ ولا عباسيّ. بل لمّا تزوج بنتَ عبدِ الله بن جعفر فأمره عبد الملك أن يُفارقَها، لأنه ليس بكُفْؤٍ لها، فلم يروه كُفْوا أن يتزوج بهاشمية.. وأما معاوية لما قُتِلَ عثمانُ مظلومًا شهيدًا، وكان عثمان قد أمرَ الناس بأن لا يُقاتِلُوا معه، وكَرِهَ أن يُقتَل أحدٌ من المسلمين بسببه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بَشَّره بالجنَّة على بَلْوى تُصِيبُه (1) ، فأحبَّ أن يَلقَى الله سالمًا من دماءِ المسلمين، وأن يكون مظلومًا لا ظالمًا، كخيرِ ابنَيْ اَدمَ الذي قال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)) (2) . وعلي بن أبي طالب بريءٌ من دمه لم يَقتُلْه ولم يُعِنْ عليه ولم يَرضَ، بل كان يَحلِفُ وهو الصادق المصدوقُ أني ما قتلتُ عثمانَ ولا أَعَنتُ على قتلِه ولا رضيتُ بقتلِه. ولكن لمَّا قُتِلَ عثمان وكان عامة المسلمين يحبون عثمانَ لحِلْمِه وكرمِه وحسنِ سيرتِه، وكان أهلُ الشام أعظمَ محبةَ له، فصارت شيعةُ عثمانَ إلى أهل الشام، وكثُر القيلُ والقالُ كما جَرتِ العادةُ بمثل ذلك من الفتن، فشَهِدَ قوم بالزُّور على علي أنه أعان على دم عثمان، فكان هذا مما أوغَرَ قلوبَ شيعة عثمان على عليّ، فَلم يبايعوه، وآخرون يقولون: إنه خَذَلَه وتَرَك ما يَجبُ من نَصْرِه، وقَوىَ هذا عندهم أنَّ القَتَلَة تحيَّزتْ إلى عسكرِ عليَّ، وكان عليّ وطلحة والزبيرُ قد اتفقوا في الباطن على إمساك قَتَلَةِ عثمان، فسَعَوا بذلك، فأقاموا الفتنةَ عامَ الجمل، حتى اقتتلوا من غير أن يكون عليٌّ أرادَ القتالَ ولا طلحةُ ولا الزبيرُ، بل كان المحرِّكُ للقتال الذين أقاموا الفتنةَ على عثمان. فلمَّا طلبَ عليّ من معاوية ورعيتِه أن يبايعوه امتنعوا عن بيعته، ولم يبايعوا معاويةَ، ولا قالَ أحدٌ قطُّ: إن معاويةَ مثلُ علي، أو إنّه أحق من علي بالبيعة، بل الناس كانوا متفقين على أن عليَّا أفضلُ وأحق،   (1) أخرجه البخاري (3674) ومسلم (2403) من حديث أبي موسى الأشعري. (2) سورة المائدة: 28. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 ولكن طلبوا من علي أن يُقيمَ الحدَّ على قَتَلَةِ عثمانَ، وكان عليٌّ غيرَ متمكن من ذلك لتفرُّقِ الكلمةِ وانتشار الرعيَّةِ وقوة المعركةِ لأولئك، فامتنعَ هؤلاءِ عن بيعته، إمّا لاعتقادهم أنه عاجزٌ عن أخذِ حقِّهم، وإما لِتوهُّمِهم محاباةَ أولئك، فقاتلَهم عليٌّ لامتناعِهم من بيعتِه، لا لأجلِ تأميرِ معاوية. و عليٌّ وعسكره أولَى من معاويةَ وعسكرِه، كما ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "تَمْرُقُ مارقةٌ على حينِ فُرقة من المسلمين، تَقتُلُهم أَولَى الطائفتينِ بالحق ". فهذا نَصٌّ صريحٌ أن علي ابن أبي طالب وأتباعه أولَى بالحقّ من معاويةَ وأصحابه. وفي صحيح مسلم (2) وغيرِه أنه قال: "يقتلُ عمارا الفئةُ الباغيةُ". لكن الفئة الباغية هل يجب قتَالُها ابتداء قبلَ أن تَبدأ الإمامَ بالقتالِ، أم لا تُقاتَل حتى تبدأ بالقتال؟ هذا مما تنازع فيه العلماء، وأكثرهم على القول الثاني، فلهذا كان مذهب أكابر الصحابة والتابعين والعلماء أنَّ تَرْكَ على القتالَ كان أكملَ وأفضلَ وأتمَّ في سياسة الدين والدنيا. ولكنْ عليٌّ إمامُ هدَى من الخلفاء الراشدين، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تكون خلافة النبوة ثلاثين سنةً، ثمَّ تصِيرُ مُلْكًا". رواه أهل السنن (3) ، واحتجَّ به أحمد وغيرُه على خلافةِ عليّ والردّ على من طعنَ فيها، وقال أحمد: من لم يُرَبِّعْ بعلي في خلافته فهو أضلُّ من حمارِ أهلِه.   (1) مسلم (1065) عن أبي سعيد الخدري. (2) برقم (2915، 2916) عن أبي سعيد الخدري عن أبي قتادة وأم سلمة. (3) أخرجه أبو داود (4646، 4647) والترمذي (2226) وغيرهما عن سَفِينة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 والقراَن لم يأمر بقتالِ البغاة ابتداءً، بل قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)) (1) . وما حرَّمه الله تعالى من البغي والقتل وغير ذلك إذا فعلَه الرجلُ متأوِّلاً مجتهدًا معتقدًا أنه ليس بحرامٍ لم يكن بذلك كافرًا ولا فاسقًا، بل ولا قَوَدَ في ذلك ولا ديةَ ولا كفارة، كما قال الزهري: وَقَعتِ الفتنةُ وأصحابُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوافرون، فأجمعوا أن كلَّ دم أو مالٍ أو فرجٍ أصيبَ بتأويل القرآن فهو هدر. وقد ثبتَ في الصحيح (2) أن أسامةَ بن زيدٍ قَتَلَ رجلاً من الكفار بعد ما قال "لا إله إلاّ الله "، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أسامةُ، أقتلتَه بعد ما قال لا إله إلاّ الله؟! " قال؟ فقلتُ: يا رسول الله، إنما قالَها تَعوُّذًا، فقال: "هلاَّ شَقَقْتَ عن قَلْبه". وكرَّرَ عليه قوله: "أقَتلتَه بعد ما قال لا إله إلاّ الله؟ ". ومع هذا فلمَ يحكم عليه بقَوَدٍ ولا دِيةٍ ولا كفارةٍ، لأنه كان متأوِّلاً اعتقدَ جوازَ قتلِه بهذا. مع ما رُوِيَ عنه أنّ رجلاً قال له: أرأيتَ إن قَطعَ رجل من الكفَّار يدي ثمَّ أسلمَ، فلما أردتُ أن أقتلَه لاَذَ منّي بشجرةٍ، أأقتُلُه؟ فقال: "إن قَتلتَه كنتَ بمنزلتِه قبلَ أن يقولَ ما قال، وكان بمنزلتك قبلَ أن تَقتلَه " (3) . فبيَّن أنك تكونُ   (1) سورة الحجرات: 9، 10. (2) البخاري (4269، 6872) ومسلم (96) من حديث أسامة بن زيد. (3) أخرجه البخاري (4019، 6865) ومسلم (95) من حديث المقداد بن= الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 مُباحَ الدم كما كان مُباحَ الدم، ومع هذا فلما كان أسامةُ متأوِّلاً لم يُبِحْ دمه. وأيضًا فقد ثبتَ (1) أنه أرسلَ خالد بن الوليد إلى بني جَذِيمةَ، فلم يُحسِنُوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صَبَأْنا صَبَأْنا، فلم يجعل خالد ذلك إسلامًا، بل أمرَ بقَتْلِهمِ، فلما بلغَ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك رَفعَ يديهِ إلى السماء وقال: "اللهم إني أبْرَأُ إليك مما فَعَلَ خالد"، وأرسلَ عليًّا فوَدَاهُم بنصفِ ديَاتِهم. ومع هذا فلم يُعاقِبْ خالدا ولم يَعْزِلْه عن الإمارة، لأنه كان متأوِّلاً. وكذلك فَعَلَ به أبو بكر لما قَتَلَ مالك بن نُوَيرةَ، كان متأوِّلاً في قتلِه فلم يُعاقِبْه ولم يَعْزِلْه، لأنَّ خالدًا كان سيفًا قد سلَّه الله تعالى على المشركين، فكان نفعُه للإسلام عظيما، وإن كان قد يُخطىء أحيانًا. ومعلومٌ أن عليًّا وطلحة والزبير أفضلُ من خالدٍ وأسامةَ وغيرِهما. ولما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحسن: "إن ابني هذا سيد، وسيُصلحُ الله به بين فئتينِ عظيمتين من المسلمين "، فمدحَ الحسنَ على الإصلاح، ولم يَمدَح على القتال في الفتنة= علمنا أن الله ورسوله كان يحبُّ الإصلاح بين الطائفتين دون الاقتتال. ولما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (2) في الخوارج: "يَحقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم وقراءتَه مع قراءتِهم، يَقرءون القرآنَ لا يُجاوِزُ حَنَاجِرَهم، يَمرُقون من الإسلام   = الأسود. (1) أخرجه البخاري (4339، 7189) من حديث عبد الله بن عمر. (2) البخاري (693) ومسلم (1066) من حديث علي بن أبي طالب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 كما يَمرُقُ السَّهمُ من الرَّمِيَّةِ، أينما لَقِيْتمُوهم فاقتلوهم، فإنَّ في قَتْلِهم أجرًا عند الله لمن قَتَلَهم يومَ القيامةِ"، وقال (1) : "يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق " ورُوِيَ (2) : "أَولَى الطائفتينِ بالحق " من معاوية وأصحابه- أعلَمَ أن قتالَ الخوارج المارقةِ أهلِ النهروان الذين قاتلَهم علي بن أبي طالب، كان قتالُهم مما أمر الله به ورسولُه، وكان عليّ محمودًا مأجورًا مُثَابًا على قِتالِه إيّاهم. وقد اتفق الصحابة والأئمةُ على قتالِهم، بخلاف قتالِ الفتنة، فإن النصَّ قد دلَّ على أنَ تركَ القتالِ فيها كان أفضلَ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" ستكونُ فتنة القاعدُ فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي " (3) ومثل قوله لمحمد بن مسلمة: "هذا لا تَضُرُّه الفتنةُ" (4) ، فاعتزلَ محمد بن مسلمةَ الفتنةَ، وهو من خيار الأنصار، فلم يُقاتِل لا مع هؤلاءِ ولا مع هؤلاء. وكذلك أكثر السابقين لم يُقاتِلوا، بل مثل سعد بن أبي وقّاص ومثل أسامة وزيد وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين، ولم يكن في العسكرينِ بعد عليٍّ أفضلُ من سعد بن أبي وقاص ولم يقاتل، وزيد بن ثابت، ولا أبو هريرة ولا أبو بكرة ولا غيرهما من أعيانِ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهْبانَ بن صَيْفِي: "خُذْ هذا السيفَ فقاتِلْ به المشركين، فإذا اقتتلَ المسلمون فاكسِرْه"، ففعلَ ذلك ولم يُقاتِلْ في الفتنة (5) .   (1) أخرجه مسلم (1065/149) عن أبي سعيد الخدري. (2) أخرجه مسلم (1065/152) عن أبي سعيد. (3) أخرجه البخاري (3601) ومسلم (2886) من حديث أبي هريرة. (4) أخرجه أبو داود (4663) من حديث حذيفة بن اليمان. (5) أخرجه أحمد (5/69، 6/393) والترمذي (2203) وابن ماجه (3960) = الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُوشِك أن يكون خيرَ مالِ المسلم غنمٌ يَتبعُ بها شَعَفَ الجبالِ ومَواقع القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينه من الفِتن ". وفي الصحيح (2) عن أسامة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إني لأرى الفتنةَ تَقَعُ خِلالَ بيوتكم كمواقع القَطْرِ". والأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرة في إخبارِه بما سيكون في الفتنة بين أمتِه، وأمرِه بتركِ القتال في الفتنة، وأن الإمساك عن الدخول فيها خيرٌ من القتال. وقد ثبتَ عنه في الصحيح (3) أنه قال: "سألتُ ربّي لأمتي ثلاثًا، فأعطاني اثنين ومَنَعَني واحدًا، سالتُه أن لا يُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من غيرهم، فأعطانيها، وسالتُه أن لا يُهلِكَهم بسَنَةٍ عامَّةٍ، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يَجعلَ بأسَهم بينهم، فَمَنَعَنِيْها". وكان هذا من دلائل نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفضائل هذه الأمة، إذ كانت النشأة الإنسانية لا بدَّ فيها من تفرُّقٍ واختلافٍ وسَفْكٍ دماء، كما قالت الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (4) . ولما كانت هذه الأمة أفضل الأمم وآخر الأمم عَصَمَها الله أن تجتمعَ على ضلالةٍ، وأن يُسلَّط عدوٌّ عليها كلِّها كما سُلطَ على بني إسرائيل، بل إن غُلِبَ   = عن أهبان. (1) البخاري (19 ومواضع أخرى) من حديث أبي سعيد الخدري. ولم أجده في صحيح مسلم بهذا اللفظ، وهو فيه بمعناه (1888) . (2) البخاري (3597) ومسلم (2885) . (3) مسلم (2890) عن سعد بن أبي وقاص. (4) سورة البقرة: 30. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 طائفة منها كان فيها طائفةٌ قائمةٌ ظاهرة بأمر الله إلى يوم القيامة، وأخبرَ أنه "لا تزالُ فيها طائفةٌ ظاهرةٌ على الحقّ حتى يأتيَ أمر الله " (1) ، وجعلَ ما يستلزمُ من نشأة الإنسانية من التفرق والقتال هو لبعضها مع بعض، ليس بتسليط غيرِهم على جميعهم، كما سَلَّطَ على بني إسرائيل عدوًّا قَهَرَهم كلَّهم. فهذه الأمة- ولله الحمدُ- لا تُقْهَرُ كلُّها، بل لا بُدَّ فيها من طائفةٍ ظاهرةٍ على الحق منصورةٍ إلى قيام الساعة إن شاء الله تعالى. والله أعلم.   (1) أخرجه البخاري (3640) ومسلم (1921) عن المغيرة بن شعبة. وفي الباب عن غيره من الصحابة في الصحيحين وغيرهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 مسألة في الاستغفار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 قال (1) الوليد: قلتُ للأوزاعي: ما الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفرُ الله أستغفر الله. فهذا حديث صحيح في تكرير الاستغفارِ ثلاثًا دبرَ الصلاةِ، فتكريرُ الاستغفار في الصلاة أوكدُ، كما أنه [لما] سُنَّ تكريرُ التسبيح في الصلوات كان تكرير التسبيح في الركوع والسجود أوكد. وفي صحيح مسلم (2) من حديث الأغرّ المزني- وكانت له صحبة- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئةَ مرَّةٍ". وفيه (3) من حديث عمرو بن مُرَّةَ عن أبي بُردة قال: سمعتُ الأغرّ- وكان من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - يحدث ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أيها الناسُ! تُوبُوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مئة". قال الحميدي (4) : وقد أخرجه البخاري في تاريخه من هذين الوجهين، ولم يُخرِجه في الجامع، وهو لاحِقٌ بشرطه فيه. وفي الصحيح (5) أيضًا: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرَّةً". وقد أُمِرَ أن يَختِم عملَه الخاصَّ والعامَّ بالاستغفار، فكان الاستغفارُ نهايةَ أمرِه. وتارة يجمع بين التوحيد والاستغفار، فقال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (6) ، وقال: (أنما   (1) من هنا تبدأ القطعة الموجودة من الأصل. (2) برقم (2702) . (3) برقم (2702/42) . (4) في "الجمع بين الصحيحين " (3/522) . وانظر "التاريخ الكبير" (2/43) . (5) البخاري (6307) من حديث أبي هريرة. (6) سورة محمد: 19. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) (1) . فهذان الأمرانِ جماعُ الدين، كما يُروَى أن الشيطانَ قال: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلاّ الله والاستغفار، فلما رأيتُ ذلك بَثَثْتُ فيهم الأهواء، فهم يُذنبون ولا يتوبون، لأنهم يَحسبون أنهم يُحسِنون صنعًا. وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (2) . فالتوحيد هو جماع الدين الذي هو أصلُه وفرعُه ولُبُّه، وهو الخير كلُّه، والاستغفارُ يُزيلُ الشرَّ كلَّه، فيحصلُ من هذين جميعُ الخَيْر وزوالُ جميع الشرّ. وكلُّ ما يُصيبُ المؤمنَ من الشرِّ فإنما هو بذنوبه. و الاستغفار يَمحُو الذنوبَ فيُزيلُ العذابَ، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (3) . وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطلُب من الله المغفرة في أول الصلاة في الاستفتاح، كما في حديث أبي هريرة الصحيح (4) وحديث علي الصحيح (5) في أول ما يكبِّر، ثم يطلب الاستغفار بعد التحميد إذا رفعَ رأسَه، ويطلب الاستغفار في دعاء التشهد كما في حديث علي (6) وغيره، ويطلب الاستغفار في الركوع   (1) سورة فصلت: 6. (2) سورة النساء: 48. والحديث أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (7) من حديث أبي بكر مرفوعًا، وهو ضعيف بل موضوع. (3) سورة الأنفال: 33. (4) أخرجه البخاري (744) ومسلم (598) . (5) أخرجه مسلم (771) . (6) هو الحديث السابق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 والسجود كما في حديث عائشة الصحيح (1) ، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وروى مسلم وأبو داود (2) عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في سجوده: "الَّلهمَّ اغفِرْ لي ذنبي كُلَّه، دِقَّهُ وجِلَّهُ وأوَّلَه وآخرَه وعلانيتَه وسِرَّه". فلم يَبقَ حالٌ من أحوال الصلاة ولا ركنٌ من أركانِها إلاّ استغفرَ الله فيه، فَعُلِمَ أنه كان اهتمامُه به أكثرَ من اهتمامِه بسائرِ الأدعية. ويميز ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استغفر لرجلٍ كان ذلك سببًا لوجوبِ الجنة له، مثل أن يُسْتَشهدَ، كما في حديث سلمة بن الأكوع (3) . وكان استغفارُه للرجلِ أعظمَ عندهم من جميع الأدعية له، كما في صحيح مسلم (4) عن عبد الله بن سَرْجس قال: رأيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكلتُ معه خبزًا ولحمًا -أو قال: ثَرِيدًا- فقلتُ: يا رسول الله! غفرَ الله لك، قال: ولك. قال: فقلتُ له: أَسْتَغْفَرَ لك رسولَ الله؟ قال: نعم ولَكَ، ثمَّ تَلاَ هذه الآية: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (5) . وهذا أيضًا توكيد له، حيثُ أمرهُ الله بالاستغفار للمؤمنين، وخصَّ ذلك بسائر الأدعية. وكذلك أخبر عن ملائكته أنهم يستغفرون للمؤمنين، وذلك أن المغفرةَ مشروطة بالإيمان، فلا تكون إلا لأهل   (1) أخرجه البخاري (794 ومواضع أخرى) ومسلم (484) . وأبو داود (877) والنسائي (2/190) وابن ماجه (889) . (2) مسلم (483) وأبو داود (878) . (3) أخرجه مسلم (1802) . (4) برقم (2346) . (5) سورة محمد: 19. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 الإيمان، بخلاف العافية والرزق والهداية العامة، فإنها تحصلُ بدون الإيمان، فإن الكافر قد يهديه الله فيصير مؤمنًا، وقد يُعافيه ويرزقه مع كفره، وقد يُجابُ دعاؤه. والمغفرةُ إنما هي للمؤمنين، فهي النهاية. ولهذا قال في المنافقين (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (1) ، وقال فيهم: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (2) ، وقال: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) (3) ، وقال: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية (4) . فأمرهم الله بالاقتداء بهم إلا في الاستغفار للمشركين. وفي الصحيح (5) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "استأذنتُ ربي في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، واستأذنتُه في أن أزور قبرها فأذن لي". وفي الصحيح (6) أنه قال لأبي طالب: "لأستغفرنّ لك ما لم أنْهَ عنك"، فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (7) . وفي   (1) سورة التوبة: 80. (2) سورة المنافقون: 6. (3) سورة التوبة: 113. (4) سورة الممتحنة: 4. (5) مسلم (976) عن أبي هريرة. (6) البخاري (1360 ومواضع أخرى) ومسلم (24) عن المسيب بن حزن. (7) سورة التوبة: 113. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 الصحيح (1) أنه صلَّى على ابنِ أُبيّ وألبسَه قميصَه وتَفَلَ في فيه واستغفرَ له، ثم قال: "وماذا يُغنِي عنه ذلك من الله؟ ". وكذلك استغفر للذين اعتذروا إليه لما رَجَعَ من غزوة تبوك، ثم أنزلَ الله فيهم بعد ذلك ما أنزلَ، فلم ينفعهم ذلك (2) . فإذا كان استغفار الإنسان لغيره لا ينفعه إلاَّ مع الإيمان، بخلاف الأدعية المروية في هذا الحديث من العافية والرزق والهداية والرحمة، إذا أريدَ بها رحمة الدنيا أو الرحمة من الدين تصيب الكافر، وأما إذا أريد بها أنه لا يُعذَّبُ أو يَدخُلُ الجنة فهذا لا يصلح. بل استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين: أحدهما: أن استغفاره لنفسه يُغفَر له به جميعُ الذنوب إذا كان على وجه التوبة، حتى إنّ الكفّار إذا استغفروا لأنفسهم نفعَهم ذلك، وكان سببَ نجاتِهم من عذاب الدنيا. وعذابُ الآخرة إنما يُنجي منه الاستغفار مع الإيمان. وهذا أيضًا من خصائص التوحيد، فإن اَلمكلَّفَ لا ينفعُه توحيدُ غيرِه عنه، ولا يُنجِيه ذلك من عذاب الله عز وجل، بل لا يُنجيه إلاّ توحيدُ نفسِه، ولا ينفعُه مع عدمِ التوحيد الاستغفارُ عنه، بل لاَ ينفعُه إلا استغفارُه الذي تضمن توحيدَه وتوبتَه من الشرك. فصارَ الاستغفارُ مقرونًا بالتوحيد من بدايةٍ، لا تُقبَل النيابةُ فيه ولا يُهدَى إلى الغير إلاّ إذا أتى هو به، فإذا كان هو من أهل ذلك نفعَه حينئذٍ ما يريدُه   (1) البخاري (5795) ومسلم (2140) من حديث جابر بن عبد الله. (2) أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769) من حديث كعب بن مالك مطوّلاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 غيرُه من ذلك، بخلاف الأعمال والأدعية التي تُفعَل عن الغير وتُهدَى له وإن لم يأتِ بأصلِها. وإنما كان الاستغفار هو النهاية من العبد لأن الذنبَ لازمٌ لجميع بني آدم، وإنما كمالُ المؤمنين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في التوبة من الذنب والاستغفار، كما قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) إلى آخر السورة (1) . وقد أخبر تعالى أنه يُبدِّلُ سيئاتِ التائب حسناتٍ، وأنه يَفرح بتوبة العبد أشدَّ فرحٍ يُقدَّر. فالذنوب إذا كانت مغمورةً بالحسنات لم يُعاقَب صاحبُها بالنار، لكن يكون تأثيرها في تفاوتِ الدرجات، فأعلَى الخلقِ منزلةً العبدُ الذي غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وبذلك وصفه الرسول الذي قبلَه (2) الذي دلَّ عليه والطالبون للشفاعة منه، وجعل ذلك هو السبب في كونه يكون شفيعَ الخلائق، لأنه لما غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر لم يبقَ يَحتاجُ إلى أن يَشفع لنفسِه ويَستغفر، فأمكنَه أن يَشفعَ لغيرِه، بخلافِ من يقول: نفسي نفسي، فإنه يكون محتاجًا إلى الشفاعة حينئذٍ لنفسِه ويستغفر لنفسه، فلا يشفع لغيره في هذا المقام، وإن كان يشفع بعد ذلك، فإن الله سبحانه لا بُدَّ أن يَغفِر جميع هذه الذنوب وما هو أعظمُ منها، لكن يتأخَّرُ ذلك عن مقامِ الشفاعة، بخلافِ الذي غُفِر له ما   (1) سورة الأحزاب: 72. (2) هو عيسى عليه السلام، كما في حديث الشفاعة المشهور الذي أخرجه البخاري (7410، 7440) ومسلم (193/324) عن أنس بن مالك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 تقدمَ من ذنبه وما تأخرَ قبلَ هذا المقام، فإنه سائر في مقام المغفرة. ولهذا قال اَلخليل -وهو أحد الرسل الكبار المطلوب منهم الشفاعةُ يومئذٍ-: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (1) ، فالمغفرة التي رجاها تكون يومَ الدين، وهي واقعةٌ بعد شفاعة سيّد ولد آدمِ، فإنه قبل ذلك يقول (2) : إنّ ربّي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يَغضبْ قبله مثلَه ولن يغضبَ بعدَه مثلَه، ويذكُر خطيئتَه: نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى. وهذا كلُّه مما يؤكَدُ أمرَ الاستغفار ويُبيِّن أنه نهايةُ الأمر، وأنّ السائرَ فيه هو من سائر السابقين، فتكريره يوجب من ذلك ما لا يُوجبه غيرُه. والله أعلمُ.   (1) سورة الشعراء: 82. (2) كما في حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 مسائل في الصلاة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 ذكرٌ (1) إلا في فعلٍ من أفعالها، وليس فيها فعلٌ خالٍ من ذكرٍ إلاّ جلسة الاستراحة حيث تُفعل، فإنها فعلٌ لا ذِكرَ فيه لقِصَرِه، ومثل تكبيراتِ الانتقال، فإنها ليست في فعلٍ مستقرّ. وقد تنازعوا في الجهر والمخافتة في الصلوات هل هما واجبانِ تَبطُل الصلاةُ بتعمُّدِ مخالفتهما أم هما سنة؟ وفي ذلك خلافٌ مشهورٌ في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، والمشهور أنهما سنة، وكذلك دعاء الاستفتاح سنة. ومن السنن الراتبة المتفقِ عليها: المخافتةُ بالذكر والدعاء في الركوع والسجود، والاعتدال فيهما وفي التشهدين، ومخافتة المأموم بقراءته ودعائه، وأما المنفرد فقد تنازعوا هل الأفضل له المخافتة بالقراءة أو الجهر بها؟ والاستعاذة السنةُ المخافتة بها عند الجمهور، وقيل: يتعوَّذ بين المخافتة والجهر. والبسملة عند الذين يقرؤونها -وهم الجمهور- سنتها الراتبة المخافتة، وقيل: الجهر، وقيل: يُخيَّر بين الأمرين. وكذلك التأمين سنتُه الجهرُ به عند أحمد والشافعي، وأصحّ قوليه للإمام والمأموم، وقيل: المخافتة به لهما، وقيل: يخافت به المأموم دون الإمام تبعًا لقراءته. والدليل على أن سنة الاستفتاح المخافتة ما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم بَاعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب … " إلى آخره، وظاهره أنه لم يكن   (1) من هنا تبدأ القطعة الموجودة من الأصل. (2) البخاري (744) ومسلم (598) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 يجهر بالاستعاذة أيضًا، لقوله "بين القراءة والتكبير". وكذلك سائر الأحاديث الصحاح التي فيها المخافتة بالبسملة، مثل حديث عائشة (1) وأنس (2) وأبي هريرة (3) وغيرها، تدكُ على ذلك. وكذلك حديث سمرة بن جندب وأبي بن كعب، قال سحمرة: حفظتُ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكتتينِ، وهو في السنن (4) . وأما لعارضٍ فقد ثبت في الصحيح (5) أن عمر كان يجهر بدعاء الاستفتاح مراتٍ كثيرةٍ، فكان يقول: الله أكبر، "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك". وكان طائفة من الصحابة يجهرون بالبسملة، كابن الزبير وغيره. وقد رُوِيَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يجهر بها بمكة، ورُوِيَ في جهرِه بها بالمدينة أحاديثُ ضعيفةٌ ضعَّفها أهل الحديث (6) . وثبتَ في الصحيح (7) عن أبي قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُسمِعُهم الآية أحيانًا من صلاةِ الظهر والعصر، وثبت في صحيح البخاري (8) أن ابن عباس جهرَ بالقراءة على الجنازة بفاتحة   (1) أخرجه مسلم (498) . (2) أخرجه البخاري (743) ومسلم (399) . (3) أخرجه أحمد (2/299، 321) وأبو داود (1405) والترمذي (2891) وابن ماجه (3786) . وانظر "نصب الراية" (1/334، 335) . (4) أخرجه أبو داود (779، 780) والترمذي (251) وابن ماجه (844) وأحمد (5/7، 11، 15، 21، 23، 20، 22) . (5) مسلم (399) . (6) انظرها مع الكلام عليها في نصب الراية (1/341- 356) . (7) البخاري (759) ومسلم (451) . (8) برقم (1335) من حديث طلحة بن عبيد الله. أخرجه أيضًا النسائي (4/= الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 الكتاب وقال: لِتَعلموا أنها السنة. فمثلُ هذا الجهر إذا كان لتعليم المأمومين يَحسُنُ، ولو كان لمصلحةٍ أخرى فهو حسنٌ أيضًا، فإنه قد يكون الجهرُ أعونَ على القراءة، كما قال عمر: أُوقِظُ الوسنانَ وأُرضِي الرحمن وأَطرُد الشيطان (1) . فقد يكون الجهر أبلغ في تعليمه، وقد يكون عليه في المخافتة مشقة، ومهما استجلبَ به الخشوع والبكاء من خشية الله وكان أنفع للمأمومين جاز، ولا يداوم على ذلك في أكل، وقت، كما يداوم على قراءة الفاتحة وعلى الركوع. ومما يدلُّ على جواز الجهر بالاستفتاح وغيره أحيانًا ما في الصحيح (2) عن أنس أن رجلاً جاء إلى الصلاة وقد حَفَزَه النَّفس، فقال: الله أكبر، الحمد لله حمدًا كثيرًا طبياً مباركًا فيه مُباركًا عليه كما يُحبُّ ربُّنا ويَرضى، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتَه قال: "أيُّكم المتكلِّمُ بالكلمات؟ لقد رأيتُ اثْنَي عشرَ ملكًا يبتدرونَها أيُّهم يَرفعُها". فهذا مأمومٌ جهرَ بهذا الذكر بعد التكبير، وقد أثنى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه بذلك، وهذا دليلٌ على جواز الجهر أحيانًا في المواضع التي يُخافَتُ فيها، وأن الرجل إذا ذكر الله في الصلاة بما هو من جنسها كان حسنًا وإن لم يُؤمَر به. وهذا موافقٌ لجهر عمر بالاستفتاح.   =74، 75) والحاكم في المستدرك (1/358) من طريق سعيد بن أبي سعيد. (1) أخرجه أبو داود (1329) والترمذي (447) من حديث أبي قتادة. (2) مسلم (600) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 وكذلك ما رواه البخاري (1) من حديث رفاعة بن رافع قال: كنا نصلِّي وراء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجلٌ وراءه: ربنا لك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما قضى صلاتَه قال: "مَن المتكلِّمُ؟ رأيتُ بضعَةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها". فهذا أيضًا جهرٌ من المأمومَ بالتحميد الذي هو ليس المأمور به، ولكنه من جنس المأمور به، فإن النبي لم يُنقَل عنه مثله. وأيضا فالذين ذكروا أنهم صلَّوا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلموا ما كان يفتتح به، وما كان يقوله في ركوعه وسجودهِ واعتداله، مثل حديث جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلّي فقال: "الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثِه". رواه أهل السنن (2) ، وهو حديث حسن. فلولا أنه جهر بذلك لما سمعه يقول ذلك، إلا أن يُخبِره به بعد الصلاة، ولو أخبره كما أخبر أبا هريرة لبيَّن ذلك، ولأنه لم يكن ليُخبِره من غير استخبارٍ عن الاستفتاح وحدَه دون بقية أذكار الصلاة، إذ لا مُوجِبَ للتخصيص. وكذلك حديث حذيفة (3) أنه صلَّى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يقول في ركوعه: "سبحانَ ربي العظيم"، وفي سجوده: "سبحانَ ربي الأعلى"،   (1) برقم (799) . (2) أخرجه أبو داود (764) وابن ماجه (807) وأحمد (4/80، 85) . (3) أخرجه مسلم (772) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 وما أتَى على آيةِ رحمةٍ إلا سألَ، ولا على آيةِ عذاب إلا تعوَّذ، وهذا كان في قيام الليل. وهو حديث صحيح. وكان يقول بين السجدتين: "ربِّ اغفرْ لي، ربِّ اغفرْ لي" (1) ، وهذا بيِّنٌ أنه كان يُسمَع منه ما قاله في ركوعه وسجودِه وبين السجدتين، وكذلك دعاؤه عند آية الرحمة والعذاب. فهذا يقتضي جواز الجهر بذلك. وكذلك حديث ابن أبي أوفى (2) أنه كان إذا رفع ظَهرَه من الركوع قال: "سمعَ الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد مِلْءَ السماواتِ ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما شِئتَ من شيء بعدُ"، وفي حديث أبي سعيد (3) : "أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد" إلى آخره. وهذا يدلُّ ظاهرُه على أنهم سمعوا ذلك منه يقوله في الصلاة من غيرِ إخبارٍ منه لهم. وكذلك حديث عائشة الذي في الصحيح (4) أنه كان يُكثِر أن يقول في ركوعه وسجودِه: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهمَّ اغفرْ لي" يَتَأَوَّلُ القرآن. وقولها في الصحيح (5) : كان يقول في ركوعه وسجوده: "سُبُّوحٌ قدوسٌ ربّ الملائكة والروح". وأصرحُ من ذلك ما رواه   (1) أخرجه أحمد (5/398) وأبو داود (874) والنسائي (2/231) وابن ماجه (897) من حديث حذيفة. وإسناده صحيح. (2) أخرجه مسلم (476) . (3) أخرجه مسلم (477) . (4) البخاري (817) ومسلم (484) . (5) مسلم (487) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 مسلم (1) عنها قالت: فَقدتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةً على الفِراش، فالتمستُه، فوقَعتْ يدي على بطنِ قدميه وهو في السجود وهما منصوبتانِ، وهو يقول: "اللهمَّ إني أعوذ برِضاكَ من سَخَطِكَ" إلى آخره. فهذا صريحٌ في أنه جَهَرَ بهذا الدعاء في سجودِه، حتى سمعت ذلك عائشة. فإن كان الإمام ضعيفًا أو صوتُه لا يَبلُغ المأمومين جاز أن يُبلِّغ بعضُهم بعضًا بالتكبير، كما كان أبو بكر يُبلِّغ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التكبير في مرضِه لما خَرَج وأبو بكر يُصَلِّي بالناس، وبنى على صلاةِ أبي بكر. وأما الإمام فالسنة في حقه الجهرُ بالتكبير باتفاق العلماء، وفي حديث أبي هريرة الصحيح (2) : كان رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام [إلى] الصلاة يُكبّرُ حينَ يقوم وحينَ يركع، ثم يقول: "سمعَ الله لمن حمده" حين يرفعُ صُلْبَه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: "ربَّنا ولكَ الحمدُ"، ثم يكبّر حين يَهوِيْ وحين يرفعُ رأسَه، ثمّ يكبِّر حين يسجد، ثمّ يكبّر حين يرفع رأسه. وكذلك ذكره أبو حُميد الساعدي (3) . وكذلك حديث أبي موسى في صحيح مسلم (4) يبين هذا: "إذا صليتمِ فأقيموا صفوفكم، ثُمَّ ليؤمَّكم أحدُكم، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: (وَلا الضَّالِّينَ) فقولوا "آمين" يُجِبْكم الله، فإذا كبَّر وركعَ فكبِّروا واركعوا، فإذا قال   (1) برقم (486) . (2) أخرجه البخاري (789) ومسلم (392) . (3) أخرجه البخاري (828) . (4) برقم (404) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 "سمع الله لمن حمده" فقولوا "ربنا ولك الحمد" يسمع الله لكم". ففي هذه الأحاديث بيان جهر الإمام بالتكبير حتى يسمعوه. فصل وأما مقدار الكلم والعمل فإن السنة التي اتفق عليها العلماء في صلاة المغرب أن قراءتها أقصرُ من قراءة غيرِها، كما اتفقوا على أنّ سنتها التعجيلُ من أول الوقت، وإن كان تأخيرُها إلى وقتِ العشاءِ جائزًا، كما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحيحة في إمامةِ جبريلَ النبيَّ صلى الله عليهما وسلم، ويُكرَه تأخيرُها عن أوَّلِ وقتِها من غيرِ عُذْرٍ، بخلافِ غيرِها من الصلوات. وقد روى الإمام أحمد (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "المغربُ وِتْرُ النهار، فأوتروا صلاةَ الليل". فإذا كانت وِتْرَ صلاة النهار كان تعجيلُها مع عمل النهار هو السنة، ومع هذا فقد ثبتَ في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ فيها بطُولَى الطُولَيَيْنِ، وفي الصحيح عنه أنه كان يقرأ فيها بالمرسلات (3) وبالطور (4) . وأما صلاة الفجر فالسنة فيها التي استفاضت بها الأحاديث واتفقَ عليها العلماءُ إطالةُ القراءةِ فيها زيادة على غيرِها، حتى قيل: إنها إنما جُعِلتْ ركعتين لأجلِ طولِ القراءة فيها. وفي   (1) في المسند 2/30، 32، 41، 82، 154 من حديث ابن عمر. (2) أخرجه البخاري (764) من حديث زيد بن ثابت. (3) كما في حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري (763) ومسلم (462) . (4) كما في حديث جبير بن مطعم الذي أخرجه البخاري (765) ومسلم (463) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 الصحيح (1) من حديث أبي بَرْزَة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ فيها ما بينَ الستّين إلى المئة، وتارةً بقاف، وهو في الصحيح أيضًا عن جابر بن سمرة (2) . وتارةً بالمؤمنين (3) ، وتارةً بغيرها. وفي مسند أحمد (4) أنه قرأ فيها بالروم، وكان يأمرهم بالتخفيف، ويَؤُمُّهم بالصَّافّات. فالتخفيف الذي أراده منهم هو أن يقرأ بقدر الصافّات. وقرأ فيها في السفر بـ (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ اَلْفَلق) و (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، كما رواه أهل السنن (5) عن عقبة بن عامر قال: كنتُ أقودُ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقتَه في السفر، فقال لي: "يا عُقْبة، إلا أُعلِّمك خيرَ سورتين قُرِئتَا؟ "، فعلَّمني "قل أعوذ برب الفلق" و"قل أعوذ برب الناس"، فلما نزلَ إلى صلاة الصبح صلِّى بهما. والسفر قد وُضِعَ فيه عن المسافر شَطْرُ الصلاة، فكذلك يُوضع عنه إطالةُ القراءةِ فيه في الفجر. وكان يخفف الصلاة لأمرٍ عارض كبكاء الصبي (6) ، فإن تخفيف الصلاة لئلاّ يشقّ على المأمومين من السنة. وفي حديث عائشة (7) أنه كان يصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعةً، وفي حديث ابن   (1) البخاري (771) ومسلم (461) . (2) أخرجه مسلم (458) . (3) أخرجه مسلم (455) عن عبد الله بن السائب. (4) 3/471 و 5/368، وأخرجه أيضَا النسائي (2/156) كلاهما من طريق شبيب أبي روح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا. (5) أخرجه أبو داود (1462) والنسائي (2/158) . (6) أخرجه البخاري (759، 715) ومسلم (470) عن أنس. (7) أخرجه البخاري (1147) ومسلم (738) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 عباس (1) : ثلاث عشرة ركعة، وكان يفتتح قيام الليل بركعتين خفيفتين (2) ، فلعلَّ هذه هي محلّ الاختلاف، وكان يصلِّي بعد وترِه سجدتين وهو جالسٌ. قال: وقد أطلق بعضُ العلماء أن التطوُّعات قبل الصلوات وبعدها أفضل التطوع. قال الشيخ: وليس كذلك، بل قيامُ الليل أفضل التطوعات، كما ثبت في الصحيح (3) عنه أنه سُئِل أيُّ الصلاة أفضلُ بعد المكتوبة؟ فقال: "صلاة الليل". وأفضل الرواتب الوتر وركعتا الفجر، وهذا هو الذي لم يكن يتركه سفرا ولا حضرًا، بل كان في السفر يُوتر على راحلته، وكان يصلي ركعتي الفجر، حتى قضاهما لما نام عنهما، حينَ نام هو [و] أصحابه عن صلاة الفجر لما قَفَلَ عن خيبر، وقال عنهما: "لا تَدَعُوهما ولو طَرَدَتْكم الخيلُ " (4) . وقد كان مالك لا يسمِّي سنة إلا هما خاصة، فهما أول العمل، والوتر آخره. و [لم] يحفظ أحدٌ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى مع الظهر والعصر والمغرب والعشاء شيئًا من الرواتب في السفر، وكان يُصلِّي صلاةَ الليل على راحلته، بل ثبت عنه في غير حديث صحيح أنه كان يصلّي المغرب والعشاء ولا يصلِّي معهما شيئًا، وأنه لم يكن في السفر يزيد على ركعتين. وأقصى ما في   (1) أخرجه البخاري (183 ومواضع أخرى) ومسلم (763) . (2) أخرجه مسلم (767) عن عائشة. (3) مسلم (1163) عن أبي هريرة. (4) أخرجه أحمد (2/405) وأبو داود (1258) عن أبي هريرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 الأحاديث الصحيحة أن تطوع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع ركعات الفرض أربع وأربعون ركعةً، وعائشة كانت أعلمَ بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل من غيرِها. فصل وصف الله سبحانه أنبياءَه ورُسُلَه والعلماءَ من عبادِه بأنهم إذا سمعوا آيات الله خرُّوا سُجَّدا وبُكِيُّا، كما قال تعالى لما ذكر الأنبياء في سورة مريم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)) (1) . وصف جميع هؤلاء الذين هم صَفوةُ خلقِه وخيرهم بأنهم إذا سمعوا آياتِ الرحمن خَرُّوا سُجَّدا وبُكِيّا، وهذا نظير ما وصف به علماءَ أهل الكتاب بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)) إلى قوله: (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)) (2) ، أي إذا سمعوا القرآن سجدوا وبكَوا. وهذا مما أمر الله به الناس عموما، وذمَّ من لم يفعل ذلك في قوله: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ (21)) (3) . فذمَّ من إذا قرىء عليه القرآن لا يَسجُد، كما مدح النبيين وغيرهم من المؤمنين بالسجود إذا سمعوه. والسجود وإن كان مشروعًا عند استماع هذه الآيات السجدات وواجبٌ عند بعض العلماء، فلا يجوز أن يكون   (1) سورة مريم: 58. (2) سورة الإسراء: 107- 109. (3) سورة الانشقاق: 25- 21. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 المراد بهذه الآيات ونحوها مجرد سجود التلاوة، لأنه تعالى وصفهم بأنهم إذا تُلِيت عليهم خَرُّوا سُجَّدًا، وأخبر أنه لا يؤمن بآياته إلا الذين إذا ذُكّروا بها خَرُّوا سُجَّدًا، وهذا يَعُمُّ الآيات التي شُرِعَ فيها سجودُ التلاوة وغيرَها، ولا يجوز حملُه على تلك الآيات فقط، لأنها قليلة يسيرةٌ من حيث آيات الله عز وجل. وكذلك ما وَصَفَ به أهلَ العلم وكذلك ما حَضَّ عليه الناسَ بقوله: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ) (1) ، فيه من العموم والتحضيض ما لا يجوز حمله على مجرد سجود التلاوة، يُوضح ذلك أنه لما أثنى على النبيين وأهل العلم وصفَهم بالسجود والبكاء، ولمّا أخبر عما لا بُدَّ منه من الإيمان وما يُذَمُّ من تركه ذكر السجود فقط، فقال: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)) (2) ، وقال: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ (21)) (3) . بل هذا- والله أعلم- كما شِرعَه لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)) إلى أن قال: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (4) ، فأمره بالقراءة والسجود، وعلى ذلك بنيَتِ الصلوات، فاعظم أركانها القولية القراءة، وأعظم أركانها الفعلية السجود، وهما أفضل أعمال الصلاة. وقد تنازع [العلماء] أيُّما   (1) سورة الانشقاق: 20- 21. (2) سورة السجدة: 15. (3) سورة الانشقاق: 21. (4) سورة العلق: 1، 19. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 أفضل: طولُ القراءة أو كثرة الركوع والسجود أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال، أصحها التسوية، كما كانت صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع. فصل والصلوات المشروعة مشتملة على ذلك، على استماع لقراءة آيات الله وعلى السجود، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (1) ، فعُلِمَ أن ما وصف به الذين أنعم عليهم قبل ذلك ضد الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فنَعَتَ النبيين وأتباعهم بإقام الصلاة والمحافظة عليها. ولهذا لما احتج بهذه الآيات ونحوها من أوجبَ سُجودَ التلاوة أجابَ عن ذلك من لم يُوجِبْه بأن المراد بها سجودُ الصلب المفروض في الصلوات والقعود للثناء ما يتضمن الجمع بين القراءة والسجود، كما تضمَّن ذلك أول سورة أنزلت. ومما يُشبه هذه الآيات الثلاث قولُه في آخر النجم: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)) (2) . يذمُّ تعالى من يعجب من القرآن، ويضحك ولا يبكي بل يلهو، وأمر بالسجود لله والعبادة له. وهذا متضمن (3) للسجود عند سماع هذا الحديث، كما وُضِعَت الصلاة على ذلك.   (1) سورة مريم: 59. (2) سورة النجم: 59- 62. (3) في الأصل: "متضمنا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 وقد أخبر تعالى في قوله أنه لا يكون مؤمنًا بآياته إلا من يسجد عند ما يُذَكَّر بها، فقال: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)) (1) . وهذه الآية يُستدلُّ بها على أن من لم يسجد لله فليس بمؤمن، وهذا يَقتضي كفر تارك الصلاة، وقوله: (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يقتضي أن التسبيح واجب، وذلك يقتضي وجوبَ التسبيح مع السجود، والركوع يدخل في مسمَّى السجود عند الانفراد، فيقتضي وجوبَ التسبيح في الركوع والسجود. وأما قوله: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (2) فإنه داخل في حيز "الذين" أيضا، وذلك يجعل للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لصلاة الصبح وصلاة العشاء، وكلّما أُخِّرتْ هذه وقُدِّمتْ هذه كان أشد للتجافي عن المضاجع. فصل وقد وُضِعت الصلاة على السجود بعد القراءة، فإن الركوع والسجود- كما قدَّمنا- كلاهما يدخلُ في اسم الآخر [عند] الانفراد، وإن مُيِّزَ بينهما عند الجمع، كما في لفظ الفقير والمسكين، كما قال تعالى: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) (3) ، قيل: المراد به الركوع، لأن الساجد على الأرض لا يمكنه الدخول لذلك، ومنه قول   (1) سورة السجدة: 15. (2) سورة السجدة: 16. (3) سورة البقرة: 58. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 العرب: سَجَدتِ النَّخلةُ، إذا مالت، فهذا إدخال الركوع في مسمى السجود، فإنه مبدؤه وأوله. وأما الآخر فكقوله في قصة داود: (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (1) ، وإنما هو سجودٌ بالأرض، كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح (2) أنه قال: "سَجَدَها داودُ توبة، ونحن نسجدها شكرًا"، فإن الركوع يحصل بالانحناء، والزيادة على ذلك إلى حدّ الأرض زيادةٌ فيه. ويُعبَّر عن الصلاة تارة بلفظ الركوع، كما في قوله: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (3) ، وقوله: (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (4) . ولهذا إذا كانت السجدة في آخر السورة أجزأ ما في الصلاة من السجود والركوع عن سجود التلاوة، كما يُروى ذلك عن ابن مسعود، وهذا هو المنصوص عن أحمد، وهو قولُ من قال من فقهاء العراق وغيرهم، لكن هل المجزئ عن سجود التلاوة هو الركوع أو سجود الصلب أو كلاهما؟ فيه نزاعٌ ليس هذا موضعه. وممّا يبيِّن أصلَ الكلام أن ما في القرآن من الأمر بالسجود- كقوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (5) - هو أمرٌ بركوع الصلاة وسجودها، والله سبحانه وتعالى كما يَقرِنُ بعض أركان الصلاةِ ببعض- كما قَرَنَ بين   (1) سورة ص: 24. (2) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في الكبرى (11374) من حديث ابن عباس. ورواه البخاري (4807) بمعناه. (3) سورة البقرة: 43. (4) سورة آل عمران: 43. (5) سورة الحج: 77. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 القراءة والسجود، وبين الركوِع والسجود- فإنه يَقرِن بين الصلاة وبين غيرها من الشرائع، كما قرن بينها وبين الزكاة، وبينها وبين الصبر الداخل في الجهاد والصوم وغيرهما، وأكثر الأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة والجهاد، وقد قرن بينهما فى قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) هو الآية (1) ، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) الآية (2) ، وقال تعالى: (عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) (3) ، وقال في القرآن: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (4) . فصل الذي تواتر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتفقت عليه الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن يَقنُتُ دائمًا في صلاة الفجر ولا غيرها، لكن كان يُطِيل الفجرَ بالقراءةِ أكثرَ من غيرها، وقد ثبت في الصحيح (5) عن أنس أنه لم يَقنُت بعد الركوع إلا شهرًا، والعلمُ بعدم قنوتٍ راتبِ كالعلم بعدم قنوته في العشاء والمغرب دائمًا، إذ لم يَنقل عنه مسلم كلمةً تُقال في القنوتِ الراتب، وقد نقلوا عنه قنوت الوتر.   (1) سورة الحج: 77- 78. (2) سورة المائدة: 35. (3) سورة الفتح: 29. (4) سورة الفرقان: 52. (5) البخاري (1002) ومسلم (677) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 وقد تنازع الناس هل كان قنوته راتبًا أو منسوخًا أو كان لسبب عارض ثم تركه لزوالِه؟ على ثلاثة أقوال، والثالث قول أهل الحديث، وهو الصواب، وهو قنوت النوازل، كقُنوته على الذين قتلوا القراء يومَ بئر مَعُونةَ، فقنتَ شهرًا بعد الركوع يدعو عليهم، وكقُنوتِه يدعو للمستضعَفين بمكة، فكان يدعو في قنوته لقومٍ، ويدعو على قومِ من الكفار ليُنْصَر عليهم. وكذلك عمر بن الخطاب كان يقنت إذا أرَسلَ جَيْشًا إلى الشام بالقنوت الذي فيه الدعاءُ على أهل الكتاب، وهو من قنوته موقوف عليه ليس مرفوعًا. وكذلك عليٌّ قنتَ في حروبه. وقد سأل أبو ثور الإمام أحمد عن القنوت فقال: في النوازل، فقال: وأيُّ نازلةٍ أعظمُ من نازلتنا؟ قال: فاقنُتوا إذًا، أو كما قال، يُريد بذلك امتحان الجهمية للمسلمين. فإذا نزل بالمسلمين أمر عامّ قنَتُوا فيه، كما إذا ظَهرَ قوم من المبتدعة والمنافقين قنتَ المؤمنون، وكذلك في الفتن التي تقعُ بين المسلمين من الافتراق والاختلاف. لكن لما وقعت الفُرقة في زمنِ علي هل قنتَ الناس للجماعة والائتلاف كما قَنتَ الطائفتان المقتتلتان؟ أو قنتَتْ كل طائفةٍ تطلُبُ النصرَ على الأخرى؟ وفي حروب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الأحزاب ونحوِه لِمَ لَمْ يَقنُت أو لِمَ لَمْ يُنقَل قنوتُه؟ فإن المأثور عنه القنوتُ حيثُ لم يُمْكِنْه النصرة بالقتال، كقنوته على الذين قتلوا القراء، وللمستَضعفين الذين بمكة من المؤمنين بخلاصهم. وكذلك عمر كان يَقنُت لجنودِه، ويدعو لهم بالنصر، ويدعو علي الكفار بالخذلان والنكال، وهذا عِوَض عن مباشرتِه القتال بنفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 فصل في الصلاة الوسطى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 فصل في الصلاة الوسطى قد ثبت في النصوص الصحيحة المستفيضة أن الصلاة الوسطى هي العصر، كما صرّح به في حديث عليّ المتفق على صحته (1) ، وحديث ابن مسعود: "الصلاة الوسطى هي العصر" (2) . والعصر ثبتَ لها خصائص، كقوله في الحديث الصحيح (3) : "من تركَ صلاة العصر حَبطَ عملُه"، وكذلك في الصحيح (4) : "الذي تفوتُه صلاةُ العصر كأنما وُترَ أهله وماله"، وقوله (5) : "إن هذه الصلاة عُرِضتْ على من كان قبلكم فضيَّعُوها، فمن حافظ عليها كان له الأجرُ مرَّتين، ولا صلاةَ بعدها حتى يَطلعَ الشاهدُ". والشاهد: النجم. ولهذا قال علي: هي الصلاة التي شُغِلَ عنها سليمانُ حتى توارتْ بالحجاب (6) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، يَرقُبُ الشمسَ حتى إذا اصفرَّتْ وكانت بين قَرنَيْ شيطانٍ، قامَ فنقَر أربعًا لا يذكرُ الله فيها إلا قليلا" (7) . وهي الصلاة التي قال الله فيها في القرآن:   (1) البخاري (2931) ومسلم (627) . (2) أخرجه مسلم (628) . (3) أخرجه البخاري (553، 594) من حديث بريدة. (4) أخرجه البخاري (552) ومسلم (626) من حديث ابن عمر. (5) أخرجه مسلم (830) من حديث أبي بصرة الغفاري. (6) أخرجه ابن أبي شيبة (2/505) والطبري في تفسيره (5/170) . (7) أخرجه مسلم (622) من حديث أنس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) (1) . وقد ثبتَ في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله ولا يَنظُر إليهم يومَ القيامة، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم: رجلٌ حَلَفَ على سِلْعَة بعد العصر كاذبًا لقد أُعطِيَ بها أكثر مما أعطي. ورجل على فَضْلِ ماءٍ يمنعُه من ابن السبيل، فيقول الله له: اليومَ أَمْنَعُك فَضْلِي كما مَنَعتَ فَضْلَ ما لم تَعملْ يداك. ورجل بايعَ إمامًا لا يُبايعُه إلا للدنيا، إن أعطاه رَضِي، وإن مَنَعَه سَخِط". فذكر اليمين الفاجرةَ بعد العصر. ويُقال: إنّ وقتَها وقمت تُعظمُه الأممُ كلُّها، ولذلك أمر الله بالاستحلاف فيه لغير المسلمين. والمحافظة على الصلاة تُوجبُ تعظيمَه وحِفْظَ وقتِها حتى لا يُضيعَ حتى يخرج الوقت، وليسَ في مواقيت الصلوات ما لا يتميَّز أولُه بفصلٍ يُحَسُّ إلا وقت العصر، فإن الفجر يتميزُ أولُ وقتِها وآخرُه بطلوع الفجر وطلوع الشمس، والظهر يتميزُ أولُ وقتها بالزوالِ، وآخرُ وقتِها وإن لم يكن متميزًا فيجوز تأخيرُها إلى وقت العصر للعذر، فلا يفوت إلا بفوات وقت العصر. والمغربُ يتميزُ أولُ وقتِها وآخرُه بغروب الشمسِ وغروب الشفَق. وعشاءُ الآخرة يتميزُ أولُ وقتِها بمغيب الشفق، وآخرُ وقتهَا وإن لم يتميَّزْ تميُّزًا في الحسّ لكنّه يُمَدُّ للعذَر إلى طلوع الفجر كالظهر. والصلاة التي يُمكِن تأخيرُها إلى ما بعد الوقت الخاصّ للعذر، لا يُخاف من فوتها ما يُخاف من فوتِ الصلاة التي لا يُمكن تأخيرها،   (1) سورة المائدة: 156. (2) البخاري (2358) ومسلم (106) عن أبي ذر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 فالظهر والعشاء يجوز تأخيرُهما عن وقت الاختيار، وإن جاز تقديمُ العشاء، بخلاف العصر فإنه لا يجوز تأخيرُها عن وقتِها بحالٍ من الأحوال، وأولُ وقتها ليس يميز، مع أنه أقصرُ من وقت العشاء والظهر، ووقتها يكون الناس فيه مشتغلين بالأعمال في العادة، لا يكونون في وقتِ صلاةٍ أَشْغَلَ منهم في وقتها، وإن كان ذلك يختلف باختلاف الأحوال والآحاد في بعض الصلوات، لكن هذا هو الغالب. فالمحافظة عليها بسبب الوقت وقِصَرِه ووجودِ الشغل فيه. ولهذا لم يشتغل نبيُّنا عليه السلام عن صلاة من الصلوات حتى نَسِيَها إلا صلاة العصر يومَ الخندق، كما أنه لم يَنمْ عن صلاةٍ إلا عن صلاة الفجر، وقال (1) : "من نامَ عن صلاة أو نَسِيَها فلْيُصَلِّها إذا ذكرَها، لا كفَّارةَ لها إلا ذلك"، وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام عن الصلاة مرةً ونَسِيَها أخرى. ولهذا قال لأصحابه: "لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصر [إلا] في بني قُريظةَ"، فأدركَتْهم العصرُ في الطريق، فمنهم من صلَّى في الوقت، ومنهمِ من أخَّرها حتَّى صلاها بعد المغرب هناك، فلم يُعنِّفْ واحدةَ من الطائفتين (2) . ولهذا تنازع العلماء هل يجوز في حال شدَّةِ الخوف تأخيرُ الصلاةِ عن وقتها أو يَجبُ فعلُها في وقتها بحسب الحال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.   (1) أخرجه البخاري (597) ومسلم (684) عن أنس بن مالك. (2) أخرجه البخاري (946، 4119) من حديث ابن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 إحداهما: أنه يُخيَّر بين تعجيلها بحسب الحال وبين تأخيرِها، كما أن الصحابة منهم من صلَّى في الوقت ومنهم من صلَّى بعد الوقت، لكن أولئك صَلَّوا صلاةً كاملةً، لكونهم لم يمنعوا عن ذلك. والثاني: أنه يجب فعلُها في الوقت بحسب الحال، وأن ذلك التأخير كان منسوخًا بقوله بعد ذلك: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (1) ، فأمرهم بالمحافظة التي هي فِعلُها في الوقت. ولأنه بذلك يجمع بين الواجبين: الصلاة والجهاد بحسب حاله، وإتيانُه بالواجبين أولَى من تفويتِ أحدهما، ووقتُ الصلاة أعظمُ فروضها، ولا تَسقُط بحالٍ، ولهذا تُفعَل على أيِّ حالٍ أمكنَ في الوقت، ولا تُؤخَّر صلاةُ النهار إلى الليل، ولا صلاةُ الليل إلى النهار، لا لاشتغال مفرط ولا غير ذلك. وأما الجمع بين الصلاتين فهو فِعل لها في وقتهما، إذ الوقتُ ينقسم إلى وقتِ اختيار ووقتِ اضطرار، ولهذا قلنا في المُحْرِم إذا خاف إن صلَّى العشاء أن يفوتَه الوقوفُ بعرفةَ، وإن بادرَ إلى إدراكِ الوقوف قبل صلاةِ الفجر فاتته العشاءُ= إنه يجمع بين الواجبين الصلاة والحج، فيُصلي بحسب حالِه ويُدرك الوقوف. وهذا القول خيرٌ من قولِ من قدَّم الصلاةَ وفوَّتَ الحج، أوَ قدَّمَ الحج وفوَّتَ الصلاةَ، إذ كلٌّ من الوقوِف والصلاة له وقتٌ لا يجوز تأخيرُه عنه. وبعد هذا القوِل قول من سَوغَّ تأخيرَ الصلاة لإدراك الحج، فهو شبيهٌ بقولِ من سَوغَّ تأخير   (1) سورة البقرة: 238. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 الصلاة لأجلِ الجهاد. وأما من أمرَ بفعل الصلاة وتفويت الحج فهو يقول: لا يَخرُج عن الإحرام بذلك، بل ينتقلُ عن الحج إلى العمرة. وهذا ضعيفٌ، فإنّ ذلك لا يجوز مع القدرة بحالٍ. ومن العلماء مَن جَعَلَ فِعلَ الصلاةِ يوم بني قُريظةَ من الصحابة فِعْلَ اجتهادٍ، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُسوِّغ الفعلينِ جميعًا حتى جَعَلَهم مُخيَّرين، ولكن لما اجتهدوا أقرَّ كلاًّ منهما على اجتهاده. وجعلوا هذا الحديث أصلاً في تقرير المجتهدين على اجتهادهم. وهذا وإن كنتُ قد ذكرتُه في بعض كلامي قبلَ هذا ففيه نظرٌ، لأن المجتهدين إنما يُقَرُّون إذا عُدِمَتِ النصوصُ، فلو كان هذا من باب الاجتهاد لكان أحدهما هو المصيب دونَ الآخر، فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَوِّبُ فِعْلَ إحدى الطائفتين ويَعذُر الأخرى، لا يُسَويّ بين الطائفتين التي اختصَّتْ إحداهما بالإصابة في مواردِ الاجتهاد. والمقصود الكلامُ على "الوُسطَى"، وأنها مما قد يشتغلُ عنها الأنبياء والصالحون، كما نَسِيَها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن نَسِيَها من أصحابه يومَ الخندق، وكما نَسِيَها سليمانُ يومَ عُرِضتْ عليه الخيلُ. فتخصيصها بالأمر بالمحافظة عليها مناسبٌ، كما هو قول أهل الحديث والسلف. ويليه قولُ من قال: إنها الفجر، فإنه أيضًا قولُ طائفةٍ من الصحابة والعلماء المتبوعين. والفجر أحق الصلوات بذلك بعد العصر، فإن هاتين الصلاتين بينهما من الاشتراك الذي اختصَّا به ما ليس لغيرهما من الصلوات، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1) : "لَن يَلِجَ النارَ   (1) مسلم (634) عن عمارة بن رُوَيبة الثقفي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 أحدٌ صلَّى قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها" يعني الفجر والعصر. وقال في الحديث الصحيح (1) : "من صلَّى البَرْدَينِ دخلَ الجنةَ". وقال (2) : "إنكم سَتَرَون ربّكم كما ترون القمرَ ليلةَ البدر، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها فافعلوا"، ثم قرأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (3) . وقال في الحديث الصحيح (4) : "من أدرك [ركعةً] من الفجر قبلَ أن تطلع الشمسُ فقد أدرك، ومن أدرك ركعةً من العصر قبلَ أن تغربَ الشمسُ فقد أدرك". وذلك أن الله أمرَ بالصلاة قبلَ طلوع الشمس وقبل الغروب، وهذا يتناول هاتين الصلاتين قطعًا، وإن كانت صلاةُ الظهر قد تدخل في ذلك. وكذلك قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) (5) ، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) (6) و (بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ) (7) ، ونحو ذلك يتناول الفجر والعصر قطعًا، والظهر وإن دخلَتْ في ذلك فوقتُها وقتُ العصر حينَ العُذر، كما أن وقت العصر هو وقتها حالَ العذر فوقتُ هاتين الصلاتين واحد من وجهٍ. ومن خصائص هاتين الصلاتين أن كلاًّ منهما لا يجوز تأخيرها عن   (1) البخاري (574) ومسلم (635) عن عبد الله بن قيس. (2) أخرجه البخاري (554) ومسلم (633) من حديث جرير بن عبد الله. (3) سورة طه: 130. (4) البخاري (579) ومسلم (608) من حديث أبي هريرة. (5) سورة غافر: 55. (6) سورة هود: 114. (7) سورة الأعراف: 205، سورة الرعد: 15، سورة النور: 36. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 وقتها بحال ولا لسبب من الأسباب، كما تؤخَّر الظهرُ [إلى العصر] ، والمغربُ إلى العشاء للعذر، ولهذا خصَّهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: "من أدرك ركعةً من الفجر قبل أن تطلع الشمسُ فقد أدرك، ومن أدرك ركعةً من العصر قبلَ أن تَغْرُب الشمسُ فقد أدرك"، إذْ سائر الصلوات لا تحتاج إلى مثل هذا. فهذه صلاة النهار لا تؤخَّر إلى الليل، وتلك صلاة ليلٍ من بعض الوجوه لأجل الجهر فيها، وصلاة نهارٍ من بعض الوجوه لكونها بعد طلوع الفجر، وإن كانت معدودةً من صلوات النهار كما قد نصَّ عليه أحمد وغيرُه، لكن فيها شَبَهٌ من صلاة الليل. وذلك أن لفظ "الليل" "والنهار" فيهما اشتراكٌ، فقد يُراد في الشريعة بالنهار ما أولُه طلوع الفجر، كقوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) (1) الطرف الأول فيه صلاة الفجر، وهذا هو المعروف في باب الصيام، إذ [إنا] نصوم النهارَ ونقوم الليلَ، فصيامُ النهار أولُه طلوع الفجر، وقيامُ الليل ينتهى بطلوع الفجر. وقد يُراد بالنهار ما أولُه طلوع الشمس، كما يجيىء في الحديث: فعلَ كذا نصفَ النهار، ولما انتصفَ النهار، وقبلَ نصفِ النهار، فأراد نصف النهار الذي أوله طلوع الشمس، إذ زوالُ الشمس مُنتصَفُ هذا النهار، لا مُنتصَف النهار الذي أوله طلوع الفجر. فلهذا كان وقت الفجر فيه اشتراكٌ بين الليل والنهار، وإن كانت الفجر معدودةً من صلوات النهار، وهذا مما قيل في معنى توسُّطِها، قالوا: لأنها بين صلاتَي الليل وصلاتَيْ نهار، وهو معنًى مناسبٌ، لكن العصر أحقُّ بالتوسُّط كما دلَّ عليه الأحاديث، وكما قال من قال من   (1) سورة هود: 114. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 السلف لمن سأله عن ذلك وقيل له، فأومأ بأصابعه، فأشار بالخِنْصر وقال: هذه الفجر، وأشار إلى البنْصِر وقال: َ هذه الظهر، وأشار بالوسطى إلى العصر وقال: هذه العَصر، وأشار إلى المغرب وقال: هذه السبَّاحة، ولأنها وتْرٌ، والسبَّاحة تُشِير بالتوحيد، وأشار إلى الإبهام وقال: هذه العشاء. وهذا صحيح، فإن أوَّل الصلوات هي الفجر، وهي ركعتان، لتنتقلَ النفسُ منها على التدريج إلى ما هو أكثر منها، ولهذا قدَّمَها في الترتيب بعض المصنِّفين، وذلك أحسنُ ممن قدَّم الظهر، فإن الذين قدَّموا الظهرَ اتَّبعُوا ما فعلَه جبريلُ والنبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينَ أمَّه وأقامَ له مواقيتَ الصلوات. والذين قدَّموا الفجرَ تَبِعُوا فيها الأحاديث الثابتة الصحيحة، مثل حديث بُرَيدة (1) وأبي موسى (2) وحديث ابن عمرو (3) وأبي هريرة (4) -إن ثبتَ-، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ فيها بالفجر في قوله وفعلِه. وأما تسمية الظهر الأولى فليس هو تسمية سنةٍ عنه عليه السلام، وإنما هو قول بعض السلف، كما في الصحيح (5) عن أبي بَرْزَة أنه قال:   (1) أخرجه مسلم (612) (2) أخرجه مسلم (614) . (3) أخرجه مسلم (612) . (4) أخرجه الترمذي (151) من طريق محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. قال الترمذي: سمعت محمدا (أي البخاري) يقول: حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصحُّ من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ، أخطأ فيه محمد بن الفضيل. (5) البخاري (547) ومسلم (647) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلِّي الهَجيرَ التي تَدعُونها الأولى". فجعلَ دعاءَها بهذا الاسم من قول المخاطَبين، لا من قول الشارع، كما قال: "وكان يُصلِّي العشاءَ التي تَدعُونها العَتَمَة"، مع أنّ تسمية هذه الصلاة بالعَتَمة وإن وردَ النهيُ عن ذلك (1) لئلاَّ يَغْلِب عليه، فقد وردَ فيه أحاديثُ صحيحةٌ لم يَرِدْ مثلُها في تسمية الظهر بالأولى. وأما فعلُ جبريل فعنه جوابان: أحدهما: أن ذلك كان ليلةَ المعراج حينَ فُرِضت الصلواتُ الخمسُ، ولم يكن المسلمون قد علموا بهذا الفرض حتى طلعَ النهارُ، فلما طلعَ أقامَ لهم الصلوات، فكان ابتدأ حينئذ بالظهر. والثاني: أن ذلك كان متقدمًا قبل تكميل عدد الصلوات وأوصافها، وكانت الصلاة ركعتينِ ركعتينِ، ثمَّ إنّ الله بعد ذلك أكملَ عددَ الصلوات، وإنما أُخِذَ بالآخر من أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد قال: "المغربُ وِتْرُ النهار، فأوتروا صلاةَ الليل"، رواه أحمد (2) . ولو كانت الظهر أول الصلوات لم تكن الفجرُ داخلةً لا في وتر الليل ولا في وتر النهار. وأيضًا فمعلوم أن أول النهار طلوعُ الفجر، فصلاةُ ذلك الوقت تكون أول الصلوات، والإنسان حينئذٍ يكون كالميت. ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استيقظَ يقول (3) : "الحمد لله الذي أحيانَا بعدَ ما أماتَنا، وإليه   (1) أخرجه مسلم (644) من حديث ابن عمر. (2) في المسند (2/30، 32، 41، 82، 154) عن ابن عمر. (3) أخرجه البخاري (6312) عن حذيفة، ومسلم (2711) عن البراء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 النُّشُور". فكان أول الصلوات هي الفجر، وإذا كانت الفجر أولَها كانت العصر أوسطها، فالمحافظة عليهما في أول وقتهما أولَى من غيرهما، لأن وقتهما ليس بالطويل الممتدّ كالظهر والمغرب والعشاء، فلا يجوز. تأخيرهما عنه، فلهذا كان توكيد المحافظة عليهما متعيِّنًا، فإنّ المحافظة تتعلق بالوقت. والفجر لها خصائص تتميز بها عن العصر، مثل كون القراءة فيها طويلةً، كما قال تعالى: (إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)) (1) . وفي السنن (2) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تَشهدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار"، وفي روايةٍ: "يَشهدُه الله وملائكتُه". ومن خصائصها أنها لا تُجمَع إلى غيرِها. ومن خصائصهما أنه يجتمع فيهما ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهار، كما في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيَعْرُج الذين باتوا فيكم، فيَسألُهم -وهو أعلمُ منهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلُّون، وتركناهم وهم يُصلُّون". ومن خصائصهما تركُ الصلاةِ بعدهما، كما في حديث ابن عباس (4) وأبي سعيد (5) وغيرهما من النهي عن ذلك. والله سبحانَه أعلم.   (1) سورة الإسراء: 78. (2) الترمذي (3134) ، وقال: حسن صحيح. (3) البخاري (555) ومسلم (632) من حديث أبي هريرة. (4) أخرجه البخاري (581) . (5) أخرجه البخاري (586) ومسلم (827) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 فصل يتعلق بما قبله من اجتماع الصلاة والجهاد وذلك أنَّ الله أمرَ بالمحافظة على الصلاة، والمحافظة عليها فِعلُها في أول وقتها. والوقتُ وقتانِ: وقت يتقدَّرُ بالزمان، فلا يجوز تأخُّرُها عنه بحالٍ، والوقت الثاني يتقدَّرُ بالفعل، وذلك نوعانِ: أحدهما أنه إذا أُقيمتِ الصلاةُ فلا صلاةَ إلا التي أقِيمتْ، لأن الإقامة مختصَّة بها بعينها، فصار ذلك الوقتُ وقتَها المقدر لا يَسَعُ لغيرها، فلا يُفعَلُ فيه غيرُها لا تطوُّعٌ ولا غيرُه. ولهذا تنازع العلماءُ فيما إذا ذكرَ العبدُ فائتةً بعد أن أقيمت الحاضرةُ، لأنَّ كلاهما واجبٌ، وقد ضاق الوقت عنهما، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَها فليُصلها إذا ذكر، فإن ذلك وقتُها، لا وقتَ لها إلا ذلك" (1) . فأوجبَ فِعْلَها وقضاءَها على الفور، وهذا مما يُحتجُّ به على الترتيب في قضاء الفوائت، كما هو مذهبُ أكثرِ الفقهاء في الفوائت القليلة، ومذهبُ بعضهم في الفوائت القليلة والكثيرة. كما إذا ذكرها بعد ضِيق الوقتِ المقدَّر بالزمن، هل يُقدم الفائتةَ لتقدُّمِ وجوبها، أو يُقدمُ الحاضرةَ خوفَ فواتِها وخروجها عن وقتها فتصير فائتتين، أو يُصلي الحاضرةَ مرتين، فيفعلُها مرةً لأنه وقتها، ثمَّ يُصليها بعد أن يُصلِّيَ الفائتة لأجلِ مراعاةِ الترتيب؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. وقد رأى أبو هريرة رجلاً خرجَ من المسجد بعد النداء فقال: "أما هذا فقد عَصَى أبا   (1) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 القاسم" (1) . لأن النداء إليها عينُ وقتِها، ولهذا نُهُوا يومَ الجمعة عن البيع بعد النداء، لأن ذلك وقتُ الصلاة المعيَّن المقدَّر. فصل وإذا كانت الصلاةُ على ما ذُكِرَ من توسيع الوقتِ تارةً وتقديرِه أخرى، فلا تُؤخَّر عن الوقتِ الموسَّع، بل المحَافظةُ عليها في الوقت أمر واجبٌ على كل حال، كما أمر به القرآنُ فقال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) (2) ، وقال: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)) (3) ، وقال: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (4) ، وقال: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)) (5) ، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)) (6) ، مستثنيًا هؤلاء ممن خلف هؤلاء، وعاد ذاكرًا لهم في "الوارثين الذين يرثون الفردوس". وكما قال: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) (7) ، وقال: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (8) ، وقال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ   (1) أخرجه مسلم (655) . (2) سورة البقرة: 238. (3) سورة الماعون: 4-5. (4) سورة مريم: 59. (5) سورة المعارج: 23. (6) سورة المؤمنون: 9. (7) سورة الإسراء: 78. (8) سورة هود: 114. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 غُرُوبِهَا) الآية (1) . ومثلها في (ق) (2) ، وقال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)) (3) ، وقال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)) (4) ، وقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)) (5) . فأمر بفعل الصلوات في مواقيتها مطلقًا وعمومًا، وأمر به مفصلاً وخصوصًا في الآيات التي عينتها. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه سيكونُ عليكم أُمَرَاءُ يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتِها، فصَلُّوا الصلاةَ لوقتِها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً" (6) . وقال: "من نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَها" الحديث (7) . وقال: "ليس في النوم تفريطٌ، إنما التفريطُ في اليقظة، أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقتُ التي تلِيها" (8) . وقال: "من فاتَتْه صلاةُ العصر فقد حَبِطَ عملُه" (9) ، و"من فاتتْه صلاةُ العصر فكأنما وُترَ أهله وماله" (10) ، وقال: "الوقتُ ما بين   (1) سورة طه: 135. (2) سورة ق: 39. (3) سورة الطور: 48-49. (4) سورة غافر: 55. (5) سورة النساء: 103. (6) أخرجه مسلم (648) عن أبي ذر. (7) سبق تخريجه. (8) أخرجه أحمد (5/305) وأبو داود (441) والترمذي (177) والنسائي (1/ 294) من حديث أبي قتادة. (9) سبق تخريجه. (10) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 هذين" (1) ، إلى أمثال ذلك. فالجهاد واجبٌ على الفور تارةً وعلى التَّراخِي أخرى، وعلى الأعيان تارةً وعلى الكفاية أخرى، وهو سَنَامُ الدين، كما أن الصلاة عمودُ الدين، والإسلام رأسه. ولهذا كانت غايةُ أحاديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكثرها وآكدها في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضًا قال: "اللهمَّ اشْفِ عبدَك هذا يَشْهَد صلاةً ويَنْكَأ لك عَدُوًّا" (2) . وكانت السنةُ أن الإمام هو الذي يُقيم للناس الصلاةَ ويُجاهِدُ بهم العدوَّ، فأمير الحرِب والصلاة واحدٌ، كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)) (3) ، فاخبر أنه أنزل الكتابَ والميزان والحديدَ، ولهذا كان قِوامَ الدين كتابٌ يَهدِي وعدلٌ يُعملُ به وحديدٌ ينصر، (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)) (4) . والجهاد يلزم بالشروع، كما أن الكتاب يلزم بالشروع، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ القرآن ثمَّ نَسِيَه لَقِيَ الله وهو أَجْذمُ" (5) ، فقد قال: "من تعلَّم الرميَ ثمَّ نَسِيَه فليس منا"، وفي رواية: "فقد عصى"، وهو   (1) أخرجه مسلم (614) عن أبي موسى الأشعري. (2) أخرجه أحمد (2/172) وأبو داود (3107) عن عبد الله بن عمرو. (3) سورة الحديد: 25. (4) سورة الفرقان: 31. (5) أخرجه أحمد (5/284، 285) والدارمي (3343) من حديث سعد بن عبادة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 في الصحيح (1) . وإذا كانت الصلاة التي يُتلَى فيها الكتابُ يتعيَّنُ وقتُها بالفعل، فتلزم بالشروع، فكذلك الجهاد، فإذا صار المسلمون حَذْوَهم أو حاصروا حصْنَهم لم يكن لهم الانصرافُ حتى يُقضَى الجهاد، كما قال تعالى: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)) الآية (2) . وقد أمر سبحانَه بالأمرين في حال القتال، فقال: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) (3) ، فأمر بالثبات الذي هو مقصود الجهاد، وبذكْره الذي هو مقصود الصلاة، كما قال ابن مسعود: ما دُمْتَ تَذكرُ الله فَأنتَ في صلاة ولو كُنتَ في السوق. ولهذا يَقرنُ سبحانَه كثيرا بين الأمر بالصلاة والأمر بالصبر الذي هو حقيقة الجهَاد، كقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (4) ، (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)) (5) ، وقال: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) إلى قوله: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (6) ، وقال: (فَأصْبرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْد رَبّكَ قبْلَ طلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (7) ، وكذلك في (ق) (8) والطَورَ (9)   (1) مسلم (1919) عن عقبة بن عامر. (2) سورة الأنفال: 15. (3) سورة الأنفال: 45. (4) سورة البقرة: 45. (5) سورة البقرة: 153. (6) سورة هود: 114، 115. (7) سورة طه: 135. (8) آية: 39. (9) آية: 48. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 وغافر (1) ، وقوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)) إلى قوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)) (2) ، وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) (3) . فأمر سبحانه بهذا وبهذا، وكلاهما وإن كان ينقسم بحسب فعلِه ووقتِه إلى مُوَسَّعٍ ومقدَّرٍ، وبحسب فعلِه إلى معيَّنٍ ومخيَّرٍ، وبحسب فاعلِه إلى واجب على الأعيان وواجبٍ على الكفاية، فهما مشتركان في أنَّ ما كان كذلكَ يلزم بالشروع فيه إتمامه، فما كان وقتُه موسَّعًا يتعيَّن بالدخول فيه، وما كان واجبًا على الكفاية يتعيَّنُ على من باشرَه. والمقصود ههنا أنه قد يجتمع الواجبان في وقتٍ واحدٍ، وله صورتان: إحداهما: أن لا يكون مباشرًا للجهاد، بل مصابرًا للعدوّ، فهذا يُصلِّي صلاة الخوف إذ كان ... (4) له، كما صلاَّها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيرَ مرة على وجوهٍ خلاف الوجوه المعتادة في الأمن، فيَسُوغ فيها استدبارُ القبلةِ، والعملُ الكثير في نفس الصلاة، ومفارقةُ الإمام قبلَ السلام، واقتداء المفترض فيها بالمتنفل، والتخلُّف عن متابعة الإمام حتى يُصلِّي ركعة. وهذه الأمور فيها ما لا يُفعَل إلا لعذر بالاتفاق، وفيها ما   (1) آية: 55. (2) سورة المزمل: 8-10. (3) سورة الإنسان: 23-26. (4) هنا في الأصل كلمة رسمها: "مزاييا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 لا يُسوغ فعلَه أكثرُ العلماء. والثاني: أن يكون محتاجًا إلى مباشرة القتال في حال الصلاة، وهو الذي قصدناه بهذا الفصل، فهذه تُسمى صلاة المسايَفَة، لأن المسايفة هي أحوال المقاتلين، وإلاّ فالمطاعنةُ والمداناة والمضاربة بالمثقَّلات من الحجارة والدبابيس ونحو ذلك، سواء كان القتال بمحدد أو مثقلِ أو ما يجمعهما، فيه ثلاثة أقوال: أحدها -وهو المشهور من مذهب أحمد، وهو مذهب الشافعي- أنه يأتي بالواجبَيْنِ جميعَا، وأن تأخير الصلاة منسوخٌ بآية المحافظة. والثاني -وهو الرواية الأخرى عن أحمد- أنه يُخيَّر بينَ تقديم الصلاة وتأخيرِها، لحديث بني قريظة. والثالث -وهو قول طائفة- أنه يؤخّر الصلاةَ على ظاهر الأمر، وهذا قول جماعة من أهل الرأي وأهل الظاهر. فصل والمؤمن له ثلاثة أعداء: شياطينُ الإنس والجنّ والدوابّ، وقد وردتِ السنةُ بجهاد الثلاثة في الصلاة، فيجمع بين مناجاة ربه وبينَ دَفْع عدوه من جميع الحيوان. أما قتال الإنس فقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) (1) . وفي حديث ابن عمر: فإن كان خوفا شديدا صلّوا (2) .   (1) سورة البقرة: 238-239. (2) انتهى ما في الأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين أصل ذلك أن الله أمر بالصلاة في مواقيتها، كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة، وجعل الصلوات خمس صلوات كما فرضها سبحانه على المؤمنين ليلة المعراج، وجعلها خمسًا في العمل وخمسين في الأجر. وقد ثبت في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها أن الصلاة فُرِضت أول ما فُرضت ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقِرَّتْ صلاة السفر. وروي فيه في الصحيح (2) أن صلاة الحضر جعلت أربعًا لما هاجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة إلى المدينة. وفي السنن (3) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة النحر ركعتان، تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم. ولهذا كان أصح قولي العلماء أن الفرض على المسافر ركعتان، وأن صلاته ركعتين لا يحتاج إلى النية، بل لو نوى أربعًا كان السنة في حقه أن يصلي ركعتين. وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد على مقتضى نصوصِه، وهو قول أكثر قدماءِ أصحابه كأبي بكر عبد العزيز وغيره. وقال طائفةٌ منهم كالخرقي والقاضي أبي يعلى وغيرهما: إنه يفتقر إلى النية، موافقةً للشافعي، إذ كان أصله أن   (1) البخاري (350، 1090) ومسلم (685) . (2) البخاري (3935) ومسلم (685/2) . (3) أخرجه النسائي (3/111، 118، 183) وابن ماجه (1063، 1064) وأحمد (1/37) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 فرض السفر أربع، وإنما تصير ثنتين بالنية، وهؤلاء [لا] يكرهون الأربع، بل للشافعي قول: إن الأربع أفضلُ، وحُكِيَ عنه قول إنه لا يجوز القصرُ إلا مع الخوف كقول بعض الخوارج. لكن الأظهر أن هذا كذب على الشافعي، فإن الشافعي أجل قدرًا من أن يقول مثل هذا. وظاهر مذهبه أن القصر أفضل، وهو مذهب أحمد بلا خلافٍ عنه، بل قد نصَّ أحمد على أن الأربع مكروهة، كما نقلَ ذلك عنه الأثرمُ، وتوقفَ أيضًا في بعض أجوبته هل تُجزِئُه الأربعُ. وما توقفَ فيه من المسائل يُخرجُه أصحابُه على وجهين أيضًا. ومذهبُه في هذا كمذهب مالك، قيل: إن الإتمامَ لا يجوز، وقيل: يُكره، وقيل: هو تركُ الأولى. وبالجملة فعامةُ العلماء على أنه ليس القصر كالجمع، كما تواترتْ بذلك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قد تواترتِ السنةُ على أنه إنما كان يُصلي في السفر ركعتين في جميع أسفارِه، وما روى عنه أحدٌ من علماء الحديث أنه صلى في السفرِ أربعًا قَطُّ. والحديث الذي يُروى عن عائشة (1) أنه كان يصوم ويُفطِر ويَقْصُر ويتِمُّ ضعيف، ولفظُه أنها قالت: قلتُ له: أفطرتُ وصمتُ وقَصَرتُ وأتممتُ، فقال: "أحسنتِ يا عائشةُ". فأخبرتْهُ أنها هي التي أتمَّتْ وصامتْ، مع أن هذا ضعيفٌ بل كذبٌ على عائشة، كما ذُكِرَ في موضعِه. بل من تتبَّعَ سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ أنه من روى عنه أنه صلَّى أربعًا في السفر فقد كذبَ عليه. ولمَّا حجَّ كان يُصلّي بمكةَ وبمنى ركعتينِ،   (1) أخرجه النسائي (3/122) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 ولمَّا فتحَ مكةَ كان يُصلّي ركعتين، وأقام بها تسعةَ عشرَ يومًا يُصلّي بها ركعتين، وقال لأهل مكة: يا أهل مكةَ أَتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سَفرٌ (1) . وأما في حجة الوداع فكان يُصلّي بعرفةَ ومزدلفةَ ومِنى ركعتين، ويُصلِّي وراءَه الحجَّاج من أهلِ مكة وغيرِهم، ولم يقل لهم: أَتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سفرٌ، ولا روى ذلك أحدٌ من أهل الحديث، ولكن ذكرَ ذلك بعضُ المصنِّفين في الرَّأي، واشتبَه عليه قولُه لهم بمكة في غزوة الفتح، فظنَّ أنه قال في سفرِه بهم إلى عرفةَ ومزدلفة ومنى. وكذلك ذكر بعضُهم أن عمر بن الخطّاب قال ذلك بمنى في حجه، وهذا خطأٌ رواه بعض العراقيين، والصواب الثابت الذي رواه مالك وغيرُه أن عمر إنما قال ذلك بمكة (2) . ولهذا كان أصحّ أقوال العلماء أن أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ، كما هو مذهب أكثر فقهاء مكة والمدينة، وهو مذهب مالكٍ وغيرِه وقولُ طائفةٍ من أصحابِ أحمد كأبي الخطاب في "العبادات الخمس". وقيل: يجمعون ولا يَقصُرون، كقولِ أبي حنيفة، وهو المنقول عن أحمد، وقد أجاب بأنهم لا يقصرون، ولم يَنْهَهم عن الجمع. ولهذا جَزَمَ أبو محمد وغيره من أصحابِ أحمد أنهم يجمعون، وخَطَّأَ   (1) أخرجه أحمد (4/432) وأبو داود (1229) من حديث عمران بن حصين. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وقد تكلم فيه غير واحدٍ من الأئمة. (2) الموطأ (1/149) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 من قال: لا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب الشافعي. والقول الثالث: إنهم لا يَقصرون ولا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب الشافعي وبعض أصحابِ أحمد. وهو أضعف الأقوال المخالِفة للسنة المعلومة من وجهين. والذين قالوا: يَقصُرون، منهم من قال ذلك لأجل النسك، كما قال مالك وبعض أصحاب أحمد. ومنهم من قال ذلك لأجل السفر، كما قال ذلك كثيرٌ من السلف والخلف، وهو قول بعض أصحابِ أحمد، وهو أصحُّ الأقوال. وكذلك جَمْعُهم، فإنّ من العلماء من قال: جمعُهم لأجلِ النسك، كما يقولُه أبو حنيفة وغيرُه فلم يُجوز الجمع إلا بعرفةَ ومزدلفة خاصةً. والجمهور قالوا: بل الجمعُ كان لغير النسك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء منهم من قال: الجمعُ كان لأجل السفر، ومن قال: الجمعُ يجوز لأهل مكة، [ومن] قال: يجوز الجمعُ في السفر الطويل والقصير، ومن قال: لا يجوز الجمعُ إلا في الطويل. وهما وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد. والصواب أن كلَّ واحدٍ من القصر والجمع لم يكن لأجل النسك، بل كان القصرُ لأجل السفر فقط، وأما الجمعُ فلأجل الحاجة أو المصلحة الشرعية، وذلك أن القصر يدور مع السفر وجودًا وعدمًا، والقصر معلقٌ به بالنصّ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله وضعَ عن المسافر الصومَ وشطْرَ الصلاة". وهو حديث حسن ثابتٌ من رواية أنس بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 مالك الكعبي (1) ، وكذلك أخبر عنه أصحابه، كقول عمر بن الخطاب: "صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان تمامٌ غير قصر على لسانِ نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (2) . وكذلك قال ابن عمر: "صلاة السفر ركعتان، من خالفَ السنةَ كفر" رواه مسلم وغيره (3) . ومعناه: من اعتقد أن الركعتين لا تُجزِىء فقد كفرَ، لأنه خالفَ السنة المعلومة، كما لو قال: إنّ الفجر لا تُجزىء فيه ركعتانِ، وإن الجمعة والعيد لا تُجزِىء فيه ركعتان. وهذا يُحكى عن بعض الخوارج الذين زعموا أنهم يتبعون ظاهرَ القرآن وإن خالفَتْه السنةُ المتواترة. وهؤلاء ضالُون في فهمهم للقرآن وضالُّون في مخالفة السنة. وقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (4) لم يذكر فيها أنه قصر للعدد، والصحابة عمر وغيره جعلوا صلاةَ المسافر ركعتين تمامًا غيرَ قصرٍ. وهذا قاله عمر بعد سؤالِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ثبتَ في الصحيح (5) عن يعلى بن أمية سأل عمرَ عن هذه الآية (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم، فاقبلوا صدقتَه". فكأنّ المتعجب ظنَّ أن القصر   (1) أخرجه أحمد (3/347، 5/29) وأبو داود (2408) والترمذي (715) وابن ماجه (1667، 3299) والنسائي (4/190) . (2) سبق تخريجه. (3) أخرجه بهذا اللفظ عبد بن حميد في مسنده (829) ولم يخرج في صحيح مسلم. (4) سورة النساء: 151. (5) مسلم (686) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 قصر العدد [و] أنه معلَّقٌ بالسفر مع الخوف، كما ظنَّ بعضهم أن الجُنُب لا يتيمَّمُ، وظنَّ عمّارٌ أنه يتيمَّم عن الجنابة بالتمرُّغ في التراب كما تتمرَّغُ الدابة، وظنَّ عمارٌ وغيره من الصحابة أن التيمُّم يمسح فيه اليدين إلى الآباط، فلما سألوا النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيَّن لهم أنه يُجزِىء المسحُ إلى الكُوعَيْنِ وأن الجنب يتيمَّم كذلك (1) ، وكان ما ذكرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موافقًا لما دلَّ عليه القرآن، لا يخالفُه لا لباطنِه ولا لظاهرِه، ولكن كلّ أحدٍ منهم يفهم ما دلَّ عليه القرآن، فقد يظهر له معنًى يظنُّ أن ظاهر القرآن دلَّ عليه، ويكون من نَقْصِ فهمِه لا من نقصِ دلالةِ القرآن. كمن ظنَّ أن قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (2) يَمنَع الفسخَ الذي أمر [به] النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابَه، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطوعُ الخلق لربِّه وأتبعُهم لهذه الآية، فكيف يأمرهم بأن لا يتمُّوا الحج والعمرة لله؟ والذي لا يتم هو الذي يَحِلُّ بعمرةٍ لا يتمتع بها أو بلا عمرةٍ، وهذا لا يجوز بالإجماع. وأما من أحلَّ بعمرةٍ وتَمتَعَّ بها فعمرتُه جزءٌ من الحج، وهو ...... (3) بصوم الأيام الثلاثة التي قيل فيها: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) (4) ، وعمرتُه قد دخلتْ في حجته، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دخلَتِ العمرةُ في الحج إلى يوم القيامة" (5) ، كما دخلَ الوضوء في الغسلِ غُسلِ الجنابة وغُسل   (1) أخرجه البخاري (338) ومسلم (368) . (2) سورة البقرة: 196. (3) هنا كلمات غير واضحة في الأصل. (4) سورة البقرة: 196. (5) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (1/236، 253، 259، 341) من حديث ابن عباس، وأخرجه أيضًا مسلم (1241) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 الميت، وتحلُّلُه في أثناء الإحرام تحلُّلُ مَن يَقصِدُ أنه يَحِلُّ ثمَّ يُحرِمُ بالحج بعد ذلك، لا يجوز له التحلُّلُ بدونِ ذلك، فدخلَ الحِلَّ رحمةً من الله. والحاجُّ يتحلَّلُ التحلُّلَ الأول وقد بقيَ عليه الطواف والرمي، وإن فعلَ ذلك بلا إحرام فهو من الحج، لكن من تحلل [بعمرة] لم يبقَ عليه بعضُ الحج، بل المتمتع يتحلل أولاً حلاًّ تامًّا، ثم عليه أن يُحرِم بعد ذلك التحلل الثاني بعد رمي جمرة العقبة، ثم عليه الطوافُ والرميُ وهما من الحج. وكذلك من ظَنَّ أن ظاهر القرآن يُخالِفُه قوله للمبتوتة: "لا نفقةَ لكِ ولا سُكنى" (1) ، والقرآن لا يدلُّ على إيجاب نفقة وسُكنى للمبتوتَةِ أصلاً، وإنما المطلَّقة المذكورة في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ) (2) هي الرجعية كما يدلُّ عليه سياقُ الكلام، والإنفاقُ على ذواتِ الحمل إنما كان لأجل الحمل. ولهذا كان أصحّ قولَي العلماء أن النفقةَ للحمل نفقةُ والدٍ على ولدِه، لا نفقةُ زوج على زوجته، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه التي اختارها أصحابُه، وهو أحدُ قولَي الشافعي. ومن أوجبه للزوجات فإنه لم يخص به الحامل، كما قال من يوجب النفقةَ للمبتوتة، لم يكن للحمل عنده تأثير. ومن قال: نفقة زوج لأجل الحمل فقوله متناقضٌ غير معقول، والقرآنُ علَّق النفقةَ بالحمل والإرضاع، والمعلَّق بالإرضاع نفقةُ والد على ولدِه باتفاق المسلمين، فكذلك نفقة الحمل، ومن علَّقَها بالزوجيةِ فهو مخالفٌ   (1) أخرجه مسلم (1480) عن فاطمة بنت قيس. (2) سورة الطلاق: 1. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 للكتاب والسنة. ونظائرُ هذا كثيرة مما يظنه بعض الناس أن السنة خالفَتْ فيه ظاهرَ الكتاب، ولا يكون الأمر كما قاله، بل تكون السنة موافقةً لظاهرِ القرآن. والمقصود هنا ذِكرُ الجمع وذِكر القصر تبعًا. فقوله تعالى: (أَنْ تَقْصُرُوا) (1) مطلقٌ مجملٌ قد يُراد به قَصْر العمل والأركان، وذلك لا يجوز إلا في الخوف، فإن المسافر ليس له لأجلِ سفرِه أن يقصر عملَ الصلاة كما يَقصره الخائف، وأما الخائف فيجوز له القصرُ كما قال تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) إلى قوله تعالى: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (2) . فالصلاة مع الأمن صلاة مُقَامَةٌ إقامةً مطلقةً وهي التامَّة، ومع الخوف مقصور، وإذا ضربوا في الأرض وكانوا خائفين قَصَروا لأجل الخوف مع صلاةِ ركعتين، فإن كانت الركعتان لا تسمَّى في السفر قصرًا، فإنه بين حال الخوف في السفر، كما بيّن التيمم عند عدم الماء في السفر، لأن ذلك هو الذي يحتاج إلى بيانه في العادة العامة، فأما عدمُ الماء في الحضر فنادر، واحتياج المقاتل لصلاة الخوف نادر. ودلَّ القرآن على أن مجرَّد الضرب في الأرض ليس نسخًا للقصر المذكور في القرآن، وليس في القرآن أنه لا قصرَ إلا قصر المسافر، بل قصر الخائف قصرٌ، وصلاتُه ناقصة بالكتاب والسنة والإجماع. وأما   (1) سورة النساء: 151. (2) سورة النساء: 102. 103. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 المسافر ففي تسمية صلاته قصرًا نزاع وتفصيل، ومن لم يُفرَض عليه إلا ركعتان مع قدريه على الأربع وتيسُّرِ ذلك عليه لم يكن قد نقصَ مما أُمِرَ به شيئًا، كمن صلَّى الفجر والعيد ركعتين والجمعة ركعتين، بخلاف الخائف والمريض ونحوهما، فإنه إنما أبيح لهما نقصُ الصلاةِ لأجل العجز عن إكمالِها، والمسافر يُباح له ذلك مع القدرة، كما أبيح له الفطرُ، واستُحِب له أو وجبَ عليه ذلك عند طائفة. وإن كان المسافر إنما وُضِعَ عنه الصومُ وشَطْرُ الصلاة لكون السفرِ مَظِنَّة الحاجة إلى التخفيف فهذا حكمٌ عامٌّ لكل مسافرٍ معلَّقٌ بجنس السفر، إما لكون السفرِ قطعةً من العذاب فتكون الحكمةُ عامةً، أو لكونه مظنَّةً كما يظنُّه بعض الناس، وإن تخلَّفتِ الحكمةُ في آحاد الصُّوَر. وهذا بمنزلة المسافر ليس عليه جمعة، وأن عرفة ومنى لا جمعةَ فيهما، وأن المسافر يمسح على الخفَّين ثلاثةَ أيام ولياليهنّ والمقيم يمسح يومًا وليلةً، ونحو ذلك من الأحكام التي فرَّق الله فيها بين حكم المقيم والمسافر. وإذا كان قَصْرُ العدد أمرًا معلَّقًا بالسفرِ يثبت به ولا يثبت بدونه كان السفر هو المؤثِّر في قصر العدد، فأما النسك فلا تأثير له في قصر العدد، بل كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْصُر قبلَ أن يُحرِم بالحج هو وأصحابه، ولم يزل يَقصُر إلى أن رجعَ إلى المدينة، فقَصَرَ قبلَ إحرامِه وبعدَ تحلُّلِه، وقَصَرَ معه أهلُ مكة، كما قَصَرَ معه سائرُ من حَجَّ معه. فعُلِمَ أن ذلك كان لأجل سفرِهم من مكة إلى عرفةَ، لا لكونهم حُجَّاجًا. ولهذا لو أحرموا بالحج وهم مقيمون بمكة لم يجز لهم القصرُ عند أحدٍ من العلماء، فعُلِمَ أن ذلك لم يكن لأجل النسك. فمن جعلَ قَصْرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفةَ ومزدلفةَ ومنى إنما كان لأجل النسك لا السفر فقد علَّق الحكمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 بوصفٍ عديمِ التأثير فيه، ولم يُعلقه بالوصف المؤثِّر فيه بالنصّ والإجماع. ولهذا نظائرُ يَغْلَطُ فيها من يُعلِّق الحكم بالوصف الذي لم يؤثِّر فيه، دون الوصف المؤثِّر فيه، كمن علَّق على استئذان الصغيرة في النكاح بالبكارة دون الصِّغَر، وهذا خلاف النصوص والأصول، فإنها إنما علَّقتْ ذلك بالصغر، فأما البكارة فإنما عُلِّقتْ بها صفة الاستئذان فقط، وهو كونُ سكوتها إقرارَها. وكذلك من علَّق بعض الأحكام في الطلاق والخلع والكناية أو غير ذلك بكونه تعليقًا بشرط، وفرَّق بين أن يكون العقد بصيغة تعليق أو بغير صيغة تعليق. وهذا رَبْطُ الحكم بوصفٍ عديمِ التأثير في الكتاب والسنة، وإنما رَبَطَ الله الأحكامَ بمعاني الأسماء المذكورة في النص، مثل كونها طلاقًا وخلعًا وكنايةَ ويمينًا وغير ذلك، فما كان من هذا النوع علَّق حكم ذلك به، سواء كان بصيغة الشرط، وإن لم يكن من هذا النوع لم يدخل فيه بأيّ صيغةٍ كان. فصل وأما الجمع بين الصلاتين فلم يُعلَّق بمجرَّد السفر في شيء من النصوص، بل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجمع في حجته إلا بعرفة والمزدلفة، وكان بمنى يقصر ولا يجمع، وكذلك في سائر سفر حجته، ولا يجمع لمجرد النسك، فإن الناسك هو في النسك، وإنما جَمَع بعرفةَ لما كان مشتغلا بالوقوف، وجمعَ بجَمْع لما كان جادًّا في السير من عرفةَ إلى مزدلفة. وهكذا ثبت عنه في الصحاح (1) من حديث ابن عمر أنه كان إذا   (1) البخاري (1091 ومواضع أخرى) ومسلم (703) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 جدَّ به السيرُ أخَّرَ الظهر إلى وقت العصر، ثم نزلَ يجمع بينهما، وكذلك إذا جدَّ به السَّيرُ جمعَ بين المغرب والعشاء، وكذلك يجمع في سفرِه إذا جدَّ به السير، كما فعلَ بمزدلفة. وكذلك ثبت في الصحيح (1) من حديث أنس عنه أنه كان إذا ارتحل قبلَ أن تَزِيغَ الشمسُ أخَّرَ الظهرَ إلى وقت العصر، ثمَّ نزلَ فصلاَّهما جميعًا. وثبتَ في الصحيح (2) عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلَّى بالمدينة سبعًا جميعًا وثمانيًا جميعًا، أراد بذلك أن لا يُحرِج أمته. وثبت في الصحيح (3) من حديث معاذ أنه جمعَ في غزوة تبوك جَمْعَ التأخير. وروى أبو داود (4) وغيرُه بإسنادٍ حسنٍ جَمْعَ التقديم من غير طريقٍ، فنبَّه الذي أنكر عليه، وكان هذا موافقًا لجمعِه بعرفةَ، وجمعُ التأخير أشهرُ، وقد رُوِيَ عنه أنه كان يجمعُ بالمدينة بالمطر، كما استدلَّ بذلك من حديث ابن عباس (5) . وكان سلف أهل المدينة يجمعون في المطر بين المغرب والعشاء، ويجمع معهم ابن عمر وغيره من الصحابة مُقرِّين لهم على ذلك، مع أن الأمراء كانوا إذا خالفوا السنة أنكروا ذلك عليهم، [كما أنكروا عليهم] لما أذّنوا للعيد، وأنكروا عليهم لما قدَّموا الخطبة في العيد ولمّا أخرجوا المنبر لصلاة العيد، بل وأنكر ابن عمر قنوتهم في الفجر وغير   (1) البخاري (1111) ومسلم (704) . (2) مسلم (705) . (3) مسلم (706) . (4) في سننه: باب الجمع بين الصلاتين. (5) أخرجه مالك في الموطأ (1/144) ومن طريقه مسلم (705) وأبو داود (1210) والنسائي (1/290) . قال مالك: أرى ذلك كان في مطر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 ذلك، ولم ينكروا جمعَهم للمطر، فدلَّ ذلك على أنه كان من السنن الموروثة عندهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي السنن (1) أنه قال للمستحاضة: "سآمرُكِ بأمرين أيَّهما فعلتِ أجزأ عنك من الآخر"، فخيَّرها بين أن تصلِّي كلَّ صلاةٍ في وقتها بوضوءٍ، وبين أن تؤخِّر الظهرَ وتعجِّلَ العصرَ وتجمع بينهما بغُسلٍ، وتُؤخِّر المغربَ وتعجِّل العشاءَ وتجمعَ بينهما بغُسلٍ، قال: "وهذا أحبُّ الأمرين إليَّ". فاختارَ الجمعَ بين الصلاتين بغُسلٍ على التفريق بالوضوء، وكان هذا مما يُستدلُّ به على أن الجمع مع إكمال الصلاةِ أولَى من التفريقِ مع نقصِها، فإنه لا سببَ هنا للجمع إلا الاغتسال الذي هو أكملُ للمستحاضة من الوضوء، مع أن الاغتسال ليس بواجب عليها، والغسلُ مع تيقُّن الحيض واجب، وأما في هذه الصورة فيُستحبُّ احتياطًا، لإمكان أن يكون دمُ الحيض قد انقطعَ حينئذٍ، ولهذا يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة. وهذا بمنزلة الشاكّ هل أحدثَ أم لا؟ بعد تيقُّن الطهارة، فإن الوضوء أفضل له، وإن استصحبَ الحالَ أجزأهُ عند الجمهور، وهو الصواب، كما أجزأ المستحاضةَ أن تصلِّيَ إذا اغتسلتْ، وإن جاز أن يكون الدمُ الخارجُ بعد ذلك دمَ حيض. ومعلوم أن كلَّ ما أمر الله به في الصلاة وإنما رخص في تركه للعذر   (1) أخرجه أبو داود (287) والترمذي (128) وابن ماجه (627) وأحمد (6/ 439) من حديث حمنة بنت جحش. وقال الترمذي: حسن صحيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 فالصلاةُ معه أكملُ، كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد". وهذا قيل: إنه المتطوع غير المعذور، وجوز من قال: إن الصحيح يتطوع مضطجعًا، وهو قولٌ لبعض أصحاب الشافعي وأحمد، وهو غلط مخالفٌ لما عليه سلفُ الأمة وأئمتُها وما عليه عملُ المسلمين دائمًا أن أحدًا لا يتطوع مضطجعًا مع قدرتِه على القيام والقعود. وهذا الحديث إنما كان في المعذور، وكذلك جاء مصرَّحًا به أنه خرجَ عليهم وهم يصلُّون قعودًا بسببِ مرضٍ عرضَ لهم، فذكر هذا القول. وأما قوله: "إذا مرِضَ العبدُ أو سافرَ فإنه يُكتَب له من العمل ما كان يَعمل وهو صحيح مقيم" فهو حديث صحيح متفقٌ عليه (2) ، لكن فيه أن العبد إذا كان عادتُه أن يعملَ عملاً وتركَه لأجل السفر أو المرض كُتِبَ له عملُه لأجل نيتِه وعادتِه، ليس فيه أن كلَّ مسافرٍ أو مريضِ يُكتَب له كعمل الصحيح. ولهذا إذا مَرِضَ أو سافرَ ولم يكن عادتُه أَن يقوم الليل لم يُكتَب له قيام، وإذا لم يكن عادتُه أن يُصليَ في الجماعة لم يُكتَب له صلاة الجماعة. فإن كان عادتُه [أن] يُصلِّي قائمًا وصلَّى قاعدًا لأجل المرض كُتِبَ له مثل أجر صلاةِ القائم، كما أنه لو عجزَ عن   (1) مسلم (735) من حديث عبد الله عمرو، وليس فيه الجزء الأخير من الحديث. وأخرجه البخاري (1115) من حديث عمران بن حصين بمعناه. (2) أخرجه البخاري (2996) من حديث أبي موسى الأشعري. ولم أجده في صحيح مسلم. ورواه أيضًا أحمد (4/410، 418) وأبو داود (3091) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 الصلاةِ بالكلية كُتِبَ له مثلُ ما كان يُصلّي وإن لمِ يُوجد منه صلاة. وكما يُكتَب لمن خرجَ ليُصلِّي في جماعةٍ وإذا أدركهم سلَّموا مِثلُ أجرِ من شهِدَ الجماعة وإن كان لم يُصلِّ في جماعة. وهكذا من لم يُدرِك ركعةً من الجماعة فإنه لا يكون مدرِكًا لها إلا بركعةٍ، لا في الجمعة ولا في الجماعة، في أصحّ أقوال العلماء الذي دلَّ عليه النصُّ وأقوالُ الصحابة، وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى عنه الفرقُ بين الجمعة وغيرها، كظاهرِ مذهب الشافعي، وفي مذهبه قول ثالث: إنه يكون مدركًا للجمعة بتكبيرةٍ، كقول أبي حنيفة. والذي دلَّ عليه النصُّ وآثار الصحابة والقياس هو القول الأول. ومع هذا فيُكتب له أجرُ من شهدَ إذا جاءَ بعد الفوات لأجل نيته، فإن القاصد للخير الذي لو قدَر عليه لفَعلَه وإنما يتركُه عجزًا يُكتَبُ له مثلُ أجرِ فاعلِه، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ بالمدينة رجالاً ما سِرْتُم مَسِيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم"، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة، حَبَسَهم العذرُ" (1) . وفي حديث كَبْشَة الأنماري الذي صححه الترمذي (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلمًا، فهو يتَّقي في ذلك المال ربَّه ويَصلُ فيهِ رَحِمَه، فهذا بأشرف المنازل؛ ورجل آتاه الله علمًا ولم يُؤته مالاً، فيقول: لو أنَّ لي مالاً لعَمِلتُ فيه بعَملِ فلانٍ. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فهما في الأجر سواء؛ ورجل آتاه الله مالاً ولم يُؤته علمًا،   (1) أخرجه مسلم (1911) من حديث جابر. (2) برقم (2325) . وأخرجه أيضًا أحمد (4/231) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 فهو لا يتقي في ذلك المال ربَّه ولا يَصِل فيه رَحِمَه، فهذا بأخبثِ المنازل؛ ورجل لم يُؤته الله مالاً ولا علمًا، فيقول: لو أنّ لي مالاً لعمِلتُ مثل عملِ فلان. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فوِزْرُهما سواءٌ". فالثوابُ الذي يُكتَب بالنية غير الثواب المستحق بنفس العمل، فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاةُ القاعد على النصف من صلاةِ القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد" كلامٌ مطلقٌ، وقد عُلِمَ بأدلَّةٍ أخرى أن هذا لا يجوز في الفرض إلا مع العذر، كما قال لعمران بن حُصَين: "صَل قائِمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب" (1) . وعُلِمَ أن تطوُّع الجالس يجوز مع القدرة بدليل آخر، كما عُلِمَ أن صلاة النافلة في السفر تجوز على الراحلة، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلِّي التطوع على راحلتِه قِبَلَ أيِّ وجهٍ توجَّهتْ، غير أنه لا يُصلِّي عليها المكتوبة، وكان يوترُ عليها. ونظير هذا قوله: "صلاة الجماعة تَفْضُل على صلاة الرجل وحدَه بخمسٍ وعشرين درجة" (2) ، فإنّ هذا مطلقٌ، لم يدلَّ على صلاة الرجل وحده، [كما] يعلم بدليل آخر، فإذا دلَّ دليلٌ آخر على أن المنفرد لا يُجزِئُه صلاتُه إلا مع العذر، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن سَمِعَ النداءَ ثمَّ لم يُجِبْ بغير عذرٍ فلا صلاةَ له" (3) ، ولأن الجماعة إذا كانت واجبةً، فمن تَركَ   (1) أخرجه البخاري (1117) عن عمران. (2) أخرجه البخاري (477، 647) ومسلم (649) من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري (646) من حديث أبي سعيد الخدري. (3) أخرجه ابن ماجه (793) من حديث ابن عباس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 الواجبَ لم تَبْرَأْ ذِمَّتُه إلا بأدائه، كما يقول كثيرٌ من السلف والخلف من أصحاب أحمد وغيرهم= لم يكن في ذلك تناقض بين أقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل ذلك لمن فَهِمَه يَدُلُّه على أن ذلك كلّه جاءَ من عند الله، ولو كان من عندِ غيرِ الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا. وكذلك الصلاة بالوضوء والغسل أكملُ من الصلاة بالتيمم، والصلاةُ في الأماكن التي لم يُنه عنها أكمل من الصلاة في مواضع النهي، كالحمام والمقبرة وأَعْطَانِ الإبل. والصلاة في الجماعة أكملُ من صلاة الرجل وحدَه، وفَضْلُ الفاضِل هنا على المفضول أبلغُ من فضلِ صلاة المستحاضة بغسل على صلاتها بغير غُسلٍ، لأن الكمال هنا لاحتمال وجوب الغسل لا للعجز عنه، ولما شكّ في وجوبه جاز تركُه مع القدرة، وما لا يجوز تركُه مع القدرة أولَى مما يجوز تركُه مع القدرة، والمستحبُّ المحضُ دُونَ ذلك. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمعَ بين الصلاتين بعرفةَ في وقت الأولى، وهذا الجمع ثابتٌ بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين عليه، ومعلومٌ أنه قد كان يُمكِنُه أن يتركَ العصرَ فيُصلِّيها في وقتها المختصّ، لكن عَدَلَ عن ذلك إلى أن قدَّمَها مع الظهر لمصلحة تكميلِ الوقوف، لِعلمِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنّ اتّصال الوقوف إلى المغرب بغيرِ قَطْع له بصلاةِ العصر في أثنائِه أحبُّ إلى الله من أن يُصلِّي العصرَ في وقتها الخاصّ، ولو أخَّرَ مؤخِّر العصرَ وصلاَّها في الوقت الخاصّ وقَطَعَ الوقوفَ لأجزأه ذلك فيما ذكره العلماءُ من غيرِ نزاع أعلمه، ولكن تَركَ ما هو أحبُّ إلى الله ورسولهِ، فإنه لو قَطَعَ الدعاءَ والذكرَ لبعض أعمالِه المباحة ووَقَفَ إلى المغرب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 لم يَبْطُل بذلك حَجُّه، فأنْ لا يَبْطُلَ بتركِ ذلك لصلاة العصر أولَى وأحرى. ودَلَّتْ هذه السنة الثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن الجمع يكون للحاجة والمصلحة الشرعية، فلما لم يكن لمجرد السفر فلم يكن لمجرد النسك. وقد أخذَ جمهورُ العلماء بالسنن الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجمع، وأحمد أعظمُهم أخذًا بما وردَ كلّه، فإنه يُجوِّز الجمعَ للمسافر في وقت الثانية، كما ثبتَ في الصحيح. وأما الجمع للنازلِ في وقت الأولى كما رُوِي في السنن ففيه عنه روايتانِ: إحداهما الجواز كقول الشافعي، والثانية المنعُ كقولِ مالك. وهل المباحُ للسفر مختصٌّ للطويل؟ فيه وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد، ومذهبُ مالك أنه لا يختصُّ بالطويل، وهو الصحيح الذي تدلُّ عليه الأدلةُ الشرعية. "وثلاثتُهم يُجوِّزون الجمع بين المغرب والعشاء، وأمّا صلاتا الظهر والعصر ففيهما نزاعٌ بينهم، وعن أحمد فيها روايتان. ومالك وأحمد يُجوِّزانِ الجمعَ للمريض، وهو قولُ طائفة من أصحاب الشافعي. وجوَّز أحمد الجمعَ للمستحاضة، كما في الحديث الذي في السنن سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي وصححه ورواه أحمد من حديث حَمْنَة بنت جَحْشٍ (1) ، قالت: كنتُ أُستحاضُ حيضةً شديدةً، فأتيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أستَفْتِيه، فقلتُ: إني أُستحاض حيضةً كثيرةً فما تأمرني فيها؟ فقد مَنَعَتْني الصيامَ والصلاةَ، قال: أَنْعَتُ لكِ الكرسُفَ، قالت:   (1) أبو داود (287) وابن ماجه (627) والترمذي (128) ومسند أحمد (6/ 439) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 هو أكثرُ، قال: فاتخذِي ثوبًا، قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثجُّ ثَجًّا، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سَآمُرُكِ بأمرين أيَّهما صنعتِ أجزأَ عنكِ، فإن قَوِيْتِ عليهما فأنت أعلمُ"، فقال: "إنما هي ركضةٌ من الشيطان، فتَحيضِي ستةَ أيام أو سبعةَ أيامٍ في علم الله، ثم اغتسلي، فإذا رأيتِ أنكِ قد طَهُرتِ واستنقَأتِ فصلّي أربعًا وعشرين ليلةً أو ثلاثًا وعشرين ليلةً وأيامَها، وصُومي وصَلِّي، فإن ذلك يُجزِئكِ، وكذلك فاغتسلي كما تحيض النساءُ وكما يَطهُرن لميقاتِ حيضِهنَّ وطهرِهنَّ، فإن قَوِيتِ على أن تُؤَخِّرين الظهر وتُعجلين العصرَ ثمَّ تغتسلي حتى تَطْهُرِين، فتُصلين الظهر والعصر جميعًا، ثمَّ تُؤخِّرينَ المغربَ وتُعجلينَ العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين بغُسْلٍ، وتغتسلين مع الصبح وتُصلين، فكذلك فافعلي وصُومِي إن قَدرتِ على ذلك، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وهو أعجبُ الأمرينِ إليَّ". وعن عائشة رضي الله عنها أن سَهْلة بنت سُهَيل استُحِيْضَتْ، فأتتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرَها أن تَغتسلَ عند كل صلاةٍ، فلما جَهَدَها ذلك أمرَها أن تجمعَ بين الظهر والعصرِ بغُسلٍ، والمغرب والعشاء بغُسلٍ، وأن تغتسل للصبح. رواه أحمد والنسائي وأبو داود (1) ، وهذا لفظه. وأصلُ هذا الباب أن تعلمَ أن وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر. فالوقت في حال الرفاهية خمسةُ أوقاتٍ، كما ثبتَ في صحيح مسلم (2) عن عبد الله بن عمرو عن النبي   (1) أحمد (6/119، 139) والنسائي (1/184) وأبو داود (295) . (2) برقم (612) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "وقتُ الظهر ما لم يَصِرْ ظِلُّ كلِّ شيء مِثلَه، ووقتُ العصرِ ما لم تَصْفَرَّ الشمسُ، ووقتُ المغرب ما لم يَغِبْ نُورُ الشَّفَقِ، ووقتُ العشاءِ إلى نصفِ الليل، ووقتُ الفجر ما لم تَطلُع الشمسُ". وقد رُوِيَ هذا الحديث من حديث أبي هريرةَ في السنن (1) ، ولم يُروَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثٌ في المواقيت من قوله إلا هذا، وسائرُ ما رُوِيَ فِعْل منه، والأحاديثُ الصحيحةُ المتأخرة من فعلِه تُوافقُ هذا الحديث. ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بل أصحُّهما. والنزاعُ بين العلماء في آخر وقت الظهر، وأوّلِ وقتِ العصر وآخرِه، وآخرِ وقتِ المغرب، وآخرِ وقتِ العشاء، وآخرِ وقتِ الفجر. فالجماهيرُ من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقتُ الظهر عندهم من الزوالِ إلى أن يصيرَ ظِلُّ كلِّ شيء مثله سوى الفيْء الذي زالت عليه الشمسُ. وهذا مذهب مالك والشافعي وأَحمد وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: إلى أن يَصِيرَ ظِلُّ كلِّ شيء مِثلَيْه. ثم يدخلُ وقتُ العصر عند الجمهور، وعند أبي حنيفة إنما يدخلُ إذا صارَ ظِل كل شيء مثلَيْه. ونُقِلَ عنه أنَّ ما بين المثلِ إلى المثلَيْن ليس وقتًا لا للظهر ولا للعصر. وعلى قول الجمهور هل هذا آخرُ هذا أَو بينهما قَدْرُ أربع ركعاتِ مشترك؟ فيه نزاعٌ، فالجمهور على الأول، والثاني منقول عن مالك. وإذا صار ظلُّ كلّ شيء مثلَيْه خرجَ وقتُ العصر في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلافٍ في   (1) الترمذي (151) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 مذهبهما، والصحيح أن وقتها ممتدٌّ بلا كراهة إلى اصفرار الشمس، وهو الرواية الثانية عن أحمد، كما نطقَ به حديث عبد الله بن عمرو (1) بما عمل به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة بعد عملِه بمكة، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن. فلم يكن للعصر وقتٌ متفقٌ عليه، ولكن الصواب المقطوع به الذي تواترت به السننُ واتفق عليه الجماهير أن وقتها يدخل إذا صار [ظلُّ] كل شيء مثله، وليس مع القول الآخر نقلٌ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا صحيحٌ ولا ضعيفٌ، ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخِّرون الصلاة لمَّا اعتادوا تأخيرَ الصلاة [و] اشتهر ذلك صار يظنُّ من ظنَّ أنه السنة، وقد احتج له بالمثل المضروب للمسلمين وأهل الكتاب (2) ، ولا حجةَ فيه باتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطولُ من وقت العصر الذي أولُه إذا صار ظلُّ كل شيء مثلَه. وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة: من الزوال إلى الغروب، ومن المغرب إلى الفجر، ومن الفجر إلى طلوع الشمس. فالأول وقت الظهر والعصر -عند العذر- واسع فيهما من وجهين: أحدهما: تقديم العصر إلى وقت الظهر، كما قدَّمها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومِ عرفة، وكما كان يُقدِّمها في سفَرةِ تبوك إذا ارتحلَ قبلَ أن تَزِيغ الشمسُ، أو تقديم العشاء إلى المغرب في المطر. فهذا جمعُ تقديم. والثاني: جمعُ تأخير العصر فيها إلى المغرب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في   (1) أخرجه مسلم (612) . (2) أخرجه البخاري (558، 2271) من حديث أبي موسى الأشعري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 الحديث الصحيح (1) : "مَن أدركَ ركعةً من الفجر قبلَ أن تَطْلُعَ الشمسُ فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تَغرُبَ الشمسُ فقد أدركَ العصرَ". هذا مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (2) : "وقتُ العصر ما لم تَصْفَرَّ الشمسُ". وأنه لم يُؤخر الصلاةَ قَط إلى الاصفرار، ويومَ الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب، وهو منسوخٌ في أشهرِ قولي العلماء بقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (3) . وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقيل: يُخيَّر حالَ القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان، وهو الرواية الأخرى عنه. وقيل: بل يؤخرها، وهو قول أبي حنيفة أيضًا، ففي الحديث الصحيح (4) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، يَرقُبُ الشمسَ حتى إذا كانت بينَ قَرْنَي الشيطان قامَ، فنَقَرَ أربعًا لا يذكرُ الله فيها إلا قليلاً". فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنَّقْر، فدلَّ على المنع من هذا وهذا، فلما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا وهذا عُلِمَ أن الوقتَ وقتانِ، فمن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغربَ الشمس فقد أدرك مطلقًا، وليس له أن يُؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبلَه، بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبلَ ذلك، كالحائض إذا طَهُرَتْ، والمجنون يُفيق، والنائم يستيقظ، والناسي يذكر. فدلَّ تقديمُه للعصر يومَ عرفةَ على أنها تُفعَل في موضعٍ مع الظهر عقيب   (1) سبق تخريجه. (2) سبق تخريجه. (3) سورة البقرة: 238. (4) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 الزوال، ودلَّ هذا الحديث على أنها يُدرَك وقتها بإدراك ركعة منها قبل الغروب، مع أنه جائز (1) بقوله وفعله أن وقتَها إذا صارَ ظِل كل شيء مثلَه ما لم تَصْفرَّ الشمسُ، فدلَّ على أنَّ هذا الوقت المختصَّ بها وقتٌ مع التمكن والرفاهية، ليس لأحد أن يؤخِّرها عنه ولا يُقدِّمها عليه. وقد عُرِف عن الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا في الحائض: إذا طَهُرتْ قبلَ غروب الشمس تصلي الظهر والعصر، وإذا طَهُرتْ قبل طلوع الشمس (2) صلَّت المغرب والعشاء. ولم يُعرَف عن صحابي خلافُ ذلَك، وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد. وهذا مما يدلُّ على أنه كان الصحابة [يرون] أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء وإلى الفجر، والنصف الثاني من النهار مشترك عند العذر بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب، كما دلَّ على ذلك السنة، والقرآن يدلُّ على ذلك، قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (3) ، فالطرف الأول صلاة الفجر، فإن صلاة الفجر من النهار، كما قد نصّ على ذلك أحمد، فإن الصائم يصوم النهار، وهو يصوم من طلوع الفجر، والوتر يصلَّى بالليل. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاةُ الليل مَثْنى مَثْنى، فإذا خفتَ الصبحَ فأوترْ بركعة" (4) . فليس لأحد أن يتعمَّد تأخير   (1) كذا في الأصل. (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "الفجر". وانظر هذه الآثار في "شرح العمدة" (كتاب الصلاة) للمؤلف (ص 230) . (3) سورة هود: 114. (4) أخرجه البخاري (1137) ومسلم (749) من حديث ابن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 الوقت إلى ما بعد طلوعِ الفجر عند جماهير العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه. وإذا قيل: "نصف النهار" فالمراد به النهار المبتدىء من طلوع الشمس، فهذا في هذا الموضع، ولفظ "النهار" يُراد به من طلوعِ الفجر، ويُراد به من طلوع الشمس، لكن قوله (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) أريد به من طلوع الفجر بلا ريب، لأن ما بعد طلوع [الشمس] ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة بل ولا مستحبة، بل الصلاة في أول الطلوع منهيّ عنها حتى ترتفع الشمسُ. وهل تُستحبّ الصلاة لوقت الضحى أو لا تُستحبّ إلا لأمرِ عارضِ؟ فيه نزاعٌ ليس هذا موضعه. فعُلِم أنه أراد بالطرف الأول من طلوع الفجر، وأما الطرف الثاني فمن الزوال إلى الغروب، فجعل الصلاة وأشرك بينهما فيه، ثم قال: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) وهي ساعات من الليل. فالوقت هنا ثلاثة، وكذلك في قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)) (1) . فالدلوك: الزوال عند أكثر السلف، وهو الصواب، يقال: دَلَكَتْ وهي الشمسُ إذا زالت. وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمتُه. فالأول يتناول الظهر والعصر تناولاً واحدًا، والثاني [يتناول المغرب والعشاء] تناولا واحد، ثم قال: (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ) وهي صلاة مفردة لا تُجمَعُ ولا تُقْصَر.   (1) سورة الإسراء: 78. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 وقال تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ) (1) . فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء، فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة. وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت. وقد دلَّ على المواقيت في آياتٍ أخرى، كقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)) (2) ، فبيَّن أن له التسبيح والحمد في السموات والأرض حينَ الصباحِ وحينَ المساءِ وعشيًّا وحينَ الإظهار، فالمساء يتناول المغربَ والعشاء، والصباح يتناول الفجر، والعشي يتناول العصر، والإظهار يتناول الظهر. وقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (3) ، وفي الآية الأخرى: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) (4) . فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، وقبل غروبها هي العصر، وكذلك فسَّرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق على صحته (5) من حديث   (1) سورة النور: 58. (2) سورة الروم: 17، 18. (3) سورة طه: 130. (4) سورة ق: 39-40. (5) البخاري (554) ومسلم (633) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 جرير بن عبد الله قال: كنّا جلوسًا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ نظر إلى القمر ليلةَ البدر، فقال: "إنكم سترون ربَّكم كما ترون القمرَ ليلةَ البدر، فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبلَ غروبها فافعلوا"، ثم قرأ قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (1) . و"من آناء الليل" مطلقٌ في آناء الليل يتناول المغرب والعشاء. والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك ويقولون: ليس لكل منهما إلا وقتٌ يخصُّها، يقولون: الفرض إنما ثبت بالقرآن، والقرآن أوجبَ مطلقَ الذكر في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)) (2) ، فلا مُوجبَ لخصوص التكبير عندهم، بل مطلق الذكر. فمان كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُصل قَط إلا بتكبير، ولا أحدٌ من خلفائه ولا أحدٌ من أئمة المسلمين ولا آحادِهم المعروفين يُعرَف أنه صلَّى إلا بتكبير، ومع هذا فيُجوزونه بمطلق الذكر لأن القرآن مطلق في الذكر= فيقال لهم: القرآنُ مطلقٌ في آناء الليل وفي غسق الليل، ومطلقٌ في الأول وفي الطرف الثاني، فدلَّ على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قُدِّر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوَمَ على التفريق، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمعَ بينهما في الوقت الأول غيرَ مرَّة، وفي الوقت الثاني غيرَ مرَّة؟ وكذلك يقولون: قوله تعالى: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (3) مطلقٌ،   (1) سورة طه: 130. (2) سورة الأعلى: 14، 15. (3) سورة الحج: 77. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 فهو الفرض، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحدٌ، فيفيد الوجوبَ دون الفريضة. وكذلك يقولون في الفاتحة: إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسَّر منه، مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين من بعدِه لم يُصلُّوا إلا بالفاتحة، ومع قوله: "لا صلاةَ إلا بأمّ القرآن" (1) وأن "كلَّ صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ فهي خِداجٌ فهي خِداجٌ" (2) ، ويقولون: هذا يفيد الوجوب دون الفريضة، وهذا خبر واحد لا يُقيَّد به مطلقُ القرآن. ومعلومٌ أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا، وليس معهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يُوجِبُ فِعْلَ كلِّ واحدةٍ من الأربع في الوقت الخاصّ إلا فِعْله المتواتر، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد، مع ما فيه من الإجمال، كقوله لما بيَّن المواقيت الخمسة: "الوقتُ ما بين هذين" (3) ، وقوله: "ما بين هذين وقت" (4) ، دلالتُه على وجوب الصلاة في هذا الوقت دونَ دلالةِ قوله: "لا صلاةَ إلا بأمّ القرآن" وقوله: "من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ". وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (5) : "سيكون بعدي أُمَراء   (1) متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه البخاري (756) ومسلم (394) . (2) أخرجه مسلم (395) من حديث أبي هريرة. (3) سبق تخريجه. (4) سبق تخريجه. (5) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتِها، فصلُّوا الصلاةَ لوقتِها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً"، وهو الوقت الذي بيَّنه لهم. والأمراء إنما كانوا يُؤخِّرون الظهرَ إلى وقت العصر، أو العصرَ إلى آخر النهار. ودلَّ هذا على أن من فَعلَ هذا لم يُقاتَل، لأنهم سألوه عن الأمراء نُقاتِلُهم؟ قال: "لا، ما صَلَّوا"، وهذه كانت صلاتَهم. ودلَّ على أنّ هذه الصلاة صحيحة، وإن كان فاعلُها آثما. بخلاف صلاة النهار بعد الغروب، فإنّ من قال: لا يُصلِّيها إلا بعد الغروب قد قُوتلَ بلا ريبٍ. وكذلك من قال: لا يُصلي المغرب والعشاء إلا بعد طلوع الفجر فإنه يُقاتَل بلا ريبٍ. وقد قال ابن مسعود وغيرُه في قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (1) ، قالوا: إضاعتُها تأخيرُها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفارًا، وأرادوا بذلك تأخيرها إلى الوقتِ المشترك أو وقتِ الاضطرار، ولم يُريدوا بذلك تأخيرَ صلاةِ النهار إلى الليل ولا صلاةِ الليل إلى صلاة النهار، فإنّ الخَلَف الذين كان ابن مسعودٍ يُسَميهم الخلف -كالوليد بن عقبة بن أبي معيط وغيرِه- لم يكونوا يُؤخرون صلاةَ النهار إلى الليل، ولا صلاةَ الليل إلى النهار، بل كان التأخير كما تقدم، مع أن ابن مسعود كان يُسمِّيهم "خلف"، ويقول: "ما فَعلَ خَلَفُكم؟ "، فالخلف لم يكونوا يُصلُّون بغير الفاتحة، ولا بغير التكبير، ولا يقرأون القرآن بغير العربية، بل كانوا يُصلُّون في الوقت المطلق في كتاب الله في الطرف الثاني وقبل الغروب. ثم لما دلَّ الشرعُ على وجوب الصلاة في الوقت المختصّ ذُمُّوا لأجلِ تركِ هذا الواجب، مع   (1) سورة مريم: 59. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 أنّ في القرآن مع النصوص المطلقة في آناء الليل والطرف الثاني أكثر مما فيه من إطلاقِ قوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) (1) ، وقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (2) . والسنة والآثار دلَّت على الوقت المشترك، ولم تدلَّ سنّةٌ على الصلاة بغير فاتحة، فَعُلِمَ أن الكتاب والسنة وآثار الصحابة تَدُلُّ على أن الأوقات في حقّ المعذور ثلاثةٌ، وأنّ ذلك لم يُعارِضْه دليل شرعيٌّ أصلاً، وما قُدِّر معارضًا له فالإيجاب به أضعفُ من الإيجاب بما دلَّ على الفاتحة والتكبير. وقوله تعالى: (وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ) (3) وقوله: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (4) كان مطلقًا، دلَّ على أن جميع الليل وقتٌ في الجملة للصلاة، كما كان الطرف الثاني وقتًا للصلاة، وأن النصف الثاني من الليل كما بعد الاصفرار، ليس لأحدٍ أن يُؤخِّر إليه العشاء مع الاختيار. وأما الحائض إذا طَهُرتْ والمجنون إذا أفاقَ والكافر إذا أسلم والنائم إذا استيقظ والناسي إذا ذكرَ فيُصلُّون المغرب والعشاء، كما كانوا يُصلُّون الظهرَ والعصرَ قبل الغروب، كما قال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم، وهو قول الجمهور.   (1) سورة المزمل: 8. (2) سورة المزمل: 20. (3) سورة طه: 130. (4) سورة هود: 114. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 فصل وهذا الذي ذكرناه من أن الوقت مشتركٌ عند العذر إلى آخر وقت العصر فقد صلَّى في وقتها، فهو كما لو أخّرها إلى آخر الوقت المختصّ، فلو قُدِّر أن الحائض طهرتْ والنائمَ استيقظ والكافر أسلم بعد دخول وقت العصر المختصّ فإنهم يُصلون الظهر والعصرَ في وقتِها، ولا يقال: إن الظهر صَلَّوها بعد خروج الوقت. وكذلك من قدَّم العصر إلى وقت الظهر، وصلَّى العشاء وقت المغرب جمعًا للمطر لم يحتج أن ينوي الجمعَ، سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا. وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة حيثُ يُجوِّز الجمعَ، وهو المعروف عن أحمد بن حنبل في أجوبته، لم يُوجب النيةَ في ذلك ولا جمهور قدماء أصحابه كأبي بكر وغيرِه، لكن الخِرقي ومتبعوه كالقاضي أبي يعلى وغيره أوجبوا في الجمع النية، وهذا قول الشافعي. وأما أحمد فلا أصلَ لهذا في كلامه ولا في كلام جمهور الفقهاء من أصحابه، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما، وهذا هو الصواب، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جمعَ بأصحابه بعرفةَ لم يكونوا يعرفون أنه يُصلِّي العصرَ بعد الظهر، ولا قال حينَ صَلَّو الظهرَ: إنكم تجمعون إليها العصر. وكذلك لما جَمَع بهم بالمدينة فصلَّى سبعًا جمعًا وثمانيًا جمعًا لم يقل لهم: انْوُوا الجمعَ. وكذلك لما كان يَقصر بهم لا يأمرهم بنية القصر، بل قد لا يعرفون ذلك حتى يَقصُر. ولهذا قد ثبتَ في حديث ذي اليدين (1) أنه لما صلَّى بهم الظهر أو   (1) أخرجه البخاري: (482) ومسلم (573) عن أبي هريرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 العصر ركعتين قال له ذو اليدين: أَقُصِرت الصلاة يا رسولَ الله أم نسيتَ؟ وقال: "لم أنسَ ولم تُقصَر الصلاة"، قال: بل نسيتَ يا رسول الله، قال: "أَكما يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: نعم، الحديث. فلما أقرَّه على قوله: أقُصِرت الصلاةُ أم نسيتَ، وقال: لم أنسَ ولم تُقصَر، ولم يقل: كيف تُقصَر ولم آمُرْكم بنية القصر= دلَّ على أنه كان ممكنًا أن يَقصُر من غير أن ينوي القصر. وأيضًا فيقال: الجامع إن كان مصلِّيًا للصلاة في وقتها الذي يجوز فعلُها فيه فقد جاز، سواء نوى الجمعَ أو لم يَنوِهِ، وإن لم يكن وقتها فمجرد النية لا يُبيح الصلاةَ في غيرِ وقتِها، ولهذا لو نَوى الجمعَ حيثُ لا يجوز لم تُفِدْه النيةُ شيئًا، فإذا قُدّر أن المصلّي بعرفةَ صلَّى الظهر، ولم يَخطُر بقلبه إذ ذاك أنه يُصلّي معها العصر، فمعلومٌ أن ما بعد صلاةِ الظهر هو وقت العصر في حقه، فلا فرقَ بين أن يُصلِّيها في ذلك الوقت مع نيته ذلك عند صلاة الظهر أو لا، وأيُّ تأثير للجواز إذا نَوى ذلك عند صلاة الظهر؟ وكذلك من يجوز له أن يصلي العشاء مع المغرب للمطر فأيُّ تأثيرٍ لنيته في ذلك عند صلاة المغرب؟ ثم هذا الشرط يُكدِّرُ مقصودَ الرخصة، فإن الناس متلاحقون بعد شروع الإمام، ولا يعرفون أنه نوى الجمعِ، فلو لم يجز الجمعُ إلا لمن نواه فاتَ كثيرًا منهم رخصةُ الجمع، أو لزِمَ أن يُوكِّلَ الإمامُ من يقول لكلّ من يدخل: انْوِ الجمعَ. وهذا مع ما فيه من البدعة والحرج المتيقن بالشرع ففيه إبطال الصلاة في الجماعة على ذلك المُعْلِم. وكذلك الموالاة بين الصلاتين، وقد أوجبها الشافعي ومن وافقه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 من أصحاب أحمد، وقد نصَّ أحمد على أن المسافر إذا صلَّى العشاء قبل غروب الشفق في السفر جاز، وجعله بذلك جامعًا. وليس مراده الأبيض، فإن الوقت يدخل في حق المسافر بغروب الشفق الأحمر عنده بلا ريب، وكذلك الحاضر، وإنما اختار للحاضر أن يؤخِّرها إلى مغيب الأبيض ليتيقن مغيبَ الشفق الأحمر عنده بلا ريب، لأن الجدران تُوارِي الحمرةَ في الحضَر دون السفر، وإن جوز أن يُصلِّي قبل مغيب الأحمر في السفر، لأن المسافر يجوز له الجمع، فلو أراد أن يُصلِّيها عقيبَ المغرب جاز، فإذا أخَّرها كان أولَى بالجواز، لأنه أقربُ إلى الوقت المختص، فكيف يَسُوغ أن يقال: يصلِّي في الوقت البعيد عن وقتها المختصّ دون المشترك. وإذا قال قائل: إن ذلك لا يُسمَّى جمعا إلا مع الاقتران. قيل: هذا لا يجوز الاحتجاج به لوجهين: أحدهما: أن الشارع لم يُعلِّق الحكم بهذا اللفظ ولا معناه، ولكن دلَّ الشرع على جوازه. الثاني: أن الجمع سُمِّي بذلك، لأنه جمعٌ بينهما في وقت إحداهما المختصّ، لا لاقتران الفصل، بدليل أنه لو جمعَ في وقتِ الثانية لم يجز (1) الاقتران بلا رَيْب، بل له أن يصلي الأولى في أول الوقت والثانية في آخره. وقد صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةَ جَمْعٍ المغربَ قبلَ إناخةِ الرحال، ثمَّ أناخوها، ثمَّ صلَّى العشاءَ بعد ذلك بفصل بينهما.   (1) في الهامش: صوابه "لم يلزم" أو نحو ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 فصل وإذا عُرِفَ أن الأوقات في حال العذر ثلاثة أوقات، فنقول : العذر نوعان: أحدهما: ما فيه حرجُ المسلم، كجمع المريض والمسافر إذا جدَّ به السيرُ. والثاني: أن يشتغل بعبادة أفضل من الصلاة في الوقت المختصّ، مثل اتصال الوقوف بعرفةَ، فإن هذه العبادة أولى بالسنة المتواترة وإجماع المسلمين من أن يصلي العصر في وقتها المختصّ. كما أن الفطر لأجل الدعاء والذكر في هذا اليوم أفضل من صوم يوم عرفةَ الذي يكفر سنتينِ، مع أنّ هذا فيه نزاعٌ بين العلماء، فإنهم تنازعوا (1) . وإذا كان هذا في الوقت فمعلومٌ أن جنس الجهاد أفضلُ من جنس الحج، ومن الجهاد ما يكون أفضل من وقوف عرفةَ إذا كان المسلمون بإزائهم عدوٌّ يتّصلُ قتالُه لهم إلى الغروب مصافَّةً أو محاصرةً أو غير ذلك= كان أن يجمعوا بين الصلاتين ثم يدخلوا في الجهاد المتصل خيرًا من أن يُؤخَروا الصلاةَ إلى بعد الغروب، كما يقوله من لا يُجوز الجمعَ ولا الصلاةَ مع القتال ويُجوِّز تأخيرَ الصلاة، وكان خيرًا من أن يُصلُّوا في حال القتال. فإنه لا يَستريبُ مسلم أن فِعْلَ الصلاتين في وقت الظهر خيرٌ من فِعْلِهما أو فِعْلِ إحداهما بعد الغروب، فإن هذا فِعْلُ صلاة النهار في النهار وجَمْعٌ في الوقت الذي يجوز جنسُه بالنصِّ والإجماع.   (1) كذا في الأصل بدون تفصيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 وأما تفويت الصلاة إلى الغروب مع إمكان فِعْلِها في الوقت فهذا لم يَرِد به سنةٌ قَطُّ، فإنّ غايةَ ما يُحتَجُّ به تأخير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاةَ يوم الخندق، وقد رُوِيَ أنه أخَّر الظهر والعصر جميعًا وأخَّر المغرب أيضًا، فلم يُصلِّهنَّ إلا بعد مُضِيِّ طائفة من الليل. وهذا إن كان نسيانًا فليس هو مما نحن فيه، فإنه من نام عن صلاةٍ أو نَسِيَها كان مأمورًا بأن يصليها إذا ذكرها. وإن لم يكن نسيانًا بل اشتغالاً بالقتال كما يقوله الجمهور فعنه جوابان: أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مشغولاً بقتالهم في النهار، ولم يعلم أنه يفرغ للصلاة بعد الزوال دون ما بعد العصر فإذا كان كذلك لم يكن هذا مما نحن فيه، فإن الكلام إنما هو فيمن تفرغ للجمع في أول وقت الظهر، كما تفرَّغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك يومَ عرفةَ. الثاني: أنَّ هذا التأخير منسوخٌ بقوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)) (1) ، فإنها نزلت في ذلك، والوسطى هي العصر، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق: "مَلأَ الله أجوافَهم وقُبورَهم نارًا كما شَغَلُونا عن الصلاة الوسطى صلاةِ العصر" (2) . وأيضًا فقد ثبتَ عنه في الصحيح أنه قال: "من فَاتَتْه صلاةُ العصرِ فكأنما وُترَ أهلُه ومالُه" (3) . وعلَّقَ إدراكَها بإدراكِ ركعة منها فقال: "من أدركَ ركعةً من العصر قبلَ أن تَغرُبَ الشمسُ فقد أدرك" (4) .   (1) سورة البقرة: 238. (2) سبق تخريجه. (3) سبق تخريجه. (4) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 وأما صلاتُها مع الظهر فقد سنَّه في الجملة، ومعلومٌ أن جنسَ ما توعَّد عليه محرَّمٌ، وجنس ما فَعلَه مشروعٌ، فَعُلِمَ أن الجمع بينهما في وقت الظهر خيرٌ من التأخير إلى أن تفوتَ. وهذا مذهب جماهير العلماء كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، بل لا يُجوِّزون التأخير ولا غيره، ويُجوِّزون الجمعَ لما هو دونَ القتال. وأحمد وإن قال في روايةٍ عنه: إن المقاتل يُخيَّر بينَ الصلاةِ في الوقت والتأخير، فلا يختلف قوله: إن الجمعَ أولى من التفويت، وإنما يقول -على تلك الرواية-: إذا لم يمكنه أن يُصلِّي بالنهار لأجل القتال خُيِّرَ بين الصلاةِ حالَ القتال في الوقت وبين الصلاة بعد المغرب. وأما على ظاهرِ مذهبه فلا يُجوِّز تفويتَها إلى الغروب بحالٍ. والمقصود هنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان قد صلاَّهما بالمسلمين في وقت الظهر لاشتغالِه عن فِعْلِهما في الوقت المختصّ باتصال الدعاء والذكر، ف الجمعُ للاشتغال بالجهادِ أولَى وأحرى. هذا إذا أمكنَه أن يُصلِّي مع الجهادِ صلاةً تامَّةً، لكن يتعطَلُ عن بعض مصلحة الجهاد. وأمّا إذا قُدِّرَ أنه لا يمكنُه أن يُصلِّي إلا على دابَّتِه إلى غير القبلة لأجل القتال، فلا ريبَ أن صلاتَه بالأرض صلاةً تامَّةً جمعًا بين الصلاتين خيرٌ من أن يصلِّي العصرَ في وقتها المختصّ صلاةً ناقصةً، لما فَعَلَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجته، ولحديث المستحاضة، ولأن تكميلَ العبادة بفعل واجباتها أمرٌ مقصودٌ في نفسِه، والجامعُ مُصَل لها في وقتها لا في غير وقتِها، لكن صلاها في وقت المعذور، وهو الوقت المشترك، وما حصلَه بالتكميل المأمور به في الصلاة أكملُ مما فاتَه من الوقت المختصّ. فإذا كان تكميل الدعاء والذكر بعرفةَ أفضلَ من الصلاة في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 الوقت المختصّ، فتكميلُ نفسِ الصلاة أفضلُ من الوقت المختصّ. ولهذا لا يجوز التكميل (1) المأمور به في الصلاة لأجل تكميل اتصال الدعاء، لأن ذلك واجبٌ وهذا مستحبٌّ. ولو كان عادمًا للماء والسُّترة ولم يمكنه تحصيلُ ذلك إلا بتفويتِ بعض الدعاء والذكر كان مأمورًا أن يُصلي بالماء والسُّترة، وإن كان ذلك في أثناء الدعاء. ولهذا كان الجمعُ بين الصلاتين بطهارةٍ كاملةٍ أولَى من الصلاة في الوقت المختصّ بطهارةٍ ناقصةٍ، فالمستحاضة التي تجمع بين الصلاتين بغُسلٍ واحدٍ، هو أفضلُ من الصلاة في الوقت المختصِّ بوضوءٍ. ومثل ذلك من جمعَ بين الصلاتين بوضوء، فإنه أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختص بتيمُّمٍ، ومن جَمعَ بين الصلاتين قائمًا فهو أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختصّ قاعدًا، ومن جمعَ بين الصلاتين في جماعةٍ فهو أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختصّ منفردًا. ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاؤه يجمعون بين المغرب والعشاء للمطر ونحوِه، مع إمكان أن يُصلِّيها وحدَه في بيته، لكن لما كان الجمعُ لمصلحة الجماعة وكان صلاتُه معهم أكملَ من الانفراد= كان صلاتُه معهم جمعًا أكملَ من صلاتِه منفردًا في الوقت المختصّ. وهكذا في صلاةِ الخوف الصلاةُ في جماعة مع استدبار القبلة في أثناء الصلاة -مع العمل الكثير ومع مفارقة الإمام قبل السلام وغير ذلك- أكملُ من أن يُصلِّي كلُّ واحد منفردًا مع عدمِ هذه المحاذير.   (1) في الهامش: "هنا سقط ولعله: ترك التكميل". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 وإذا صلَّى بالتيمُّم في الوقت المشترك هل هو أكملُ من الصلاة في الموضع المنهي عنه في الوقت المختصّ؟ فإن هذا حَصَلَ فيه نَقصانِ: نقص التيمم والوقت المشترك، وهناك حصلَ نقصُ المكان المنهي عنه فقط. وسيأتي الكلامُ على هذه المسألة، ونبيِّنُ أن الصلاةَ بالتيمُّم في الوقتِ المشترك خيرٌ من الصلاة المنهيّ عنها في الوقت المختص، لأنّ الصلاة في الوقت المشترك بالتيمم أصلاً يَؤُمُّ فيها المتيممُ للمتوضىء بخلاف الصلاة في المكان المنهي عنه، فإنها لا تُفعَل إلا لضرورة. ونظير ذلك من كان في مكانٍ قد نُهِي عن الصلاة فيه -كالحمام والمكان النجس وغير ذلك- فإنه إذا لم يمكنه أن يُصلِّي في الوقت إلا فيه صلى فيه، فإنَ فَعْلَ الصلاة في وقتها واجب، أعني الوقت المطلق، فلا يجوز له أن يؤخِّر صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار أصلاً، بل يُصلي في الوقت المطلق: إمّا المختصّ وإمّا المشترك بحسب الإمكان. فإذا كان قد دخلَ إلى الحمَّام، وإن لم يُصلِّ فيه خَرَجَ الوقتُ، صَلَّى فيه. وكذلك من حُبسَ في موضع نجسٍ لا يخرجُ منه إلا بعد فوتِ الوقت صلَّى فيه، ولا إعَادةَ عليه، كما نصَّ على ذلك أحمد وغيرُه. وهذا بينٌ، لكن إن أمكنه أن يجمعَ بين الصلاتين خارجًا عن الموضع المنهيِّ عنه، فالجمعُ خارجًا عن الموضع المنهيّ عنه خيرٌ من الصلاةِ فيه، والصلاةُ فيه خير من التفويت. وذلك مثل المرأة إذا كان عليها غسلُ جنابة أو حيضٍ، ولا يمكنها الاغتسال في الوقت، فعليها أن تصلِّي بالتيمم، فإذا صلَّت الفجر بالتيمم ثم لم يمكن الحمام إلا بعد الظهر، وإذا دخلت الحمامَ لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 يمكنها الخروجُ منه إلا بعد الغروب، فالصلاةُ في الحمام بعد التطهر مع سَتْرِ رأسِها وبدنِها خير من التفويت بلا ريب، إذ التفويتُ إلى الغروب لا يجوز بحالٍ، بل المصلِّي للعصر بعد الغروب كالصائم لرمضان في شوال باتفاقِ العلماء، فإنهم متفقون على أنه لا يجوز تفويتُ رمضانَ إلى شوالَ لمن يجب عليه، والصلاة في وقتها أوكدُ من الصوم في وقتِه كما بيَّناه. وهذه المرأة إذا صلَّت الظهر والعصر جمعًا بينهما بالتيمم كان خيرًا من صلاتِها في الحمام مغتسلةً، والصلاة في الحمام مغتسلةً خير من التفويت، لأن الصلاة في الحمام منهيٌّ عنها كالصلاةِ في المقبرة وأعطانِ الإبل والمكان النجس والثوب النجس وصلاةِ العُريان، ففي صلاتها جمعَّاَ تكميلُ الصلاة من هذا الوجه، كما تقدم. والصلاة بالتيمم إذا لم يمكن الصلاة في الوقتِ بالماء جائزةٌ أيضًا، بل هي الواجبة، فقد ثبت بالنص والإجماع أن المتيمِّم العادم للماء في سفره يجبُ عليه أن يُصلِّي في الوقت بالتيمم، ولا يجوز له أن يؤخرها ليُصلي بعد الوقتِ بوضوء. وكذلك العُريان عليه أن يصلِّي في الوقتِ عُريانًا مع إمكان الصلاة بعد الوقت بالثياب. وكذلك المريض يجبُ عليه أن يُصلِّي في الوقت قاعدًا أو مضطجعًا، وإن أمكنه أن يُصلِّي بعد الوقت قائمًا. وكذلك الخائف يُصلِّي في الوقت صلاةَ الخائف، وإن أمكنَه أن يُصلِّي بعد الوقت صلاةَ أَمْنٍ. كَما دلَّ على أمثالِ هذه المسائل الكتابُ والسنة والإجماع، إذ ليس في واجبات الصلاةِ أوكدُ من وجوب الوقت، وهذا مجمعٌ عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 في عامة المسائل، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وهذا مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه، وكذلك مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما في أكثر الصور، لكن اختلف مذهب أبي حنيفة والشافعي في أكثر الصور، وتَابَعهم بعضُ أصحابِ أحمد. كما اختلفوا فيما إذا وجد المسافر بئرًا، ولم يُمكِنْه أن يَصنع الحبلَ حتى يَخرجَ الوقت. أو وَجَدَ العُراةُ ثوبًا، ولم يمكنهم أن يُصلُّوا فيه واحدًا بعد واحدٍ حتى يَخرُجَ الوقت. أو كانوا جماعةً في سفينةٍ، وليس هناك موضع يقومون فيه إلا موضعًا واحدًا، ولا يمكنه الصلاة في الوقت إلا مع القعود، أو أمكنَه تعلُّم دلائلِ القبلةِ، ولكنه لا يتعلم ذلك حتى يخرج الوقت، أو أمكنَه أن يَخِيطَ ثوبَه ولا يتم ذلك حتى يخرج الوقت. ففي هذه المسائل نزاعٌ في مذهب الشافعي، ونصوصُه اختلفت في ذلك، فمن أصحابه من خرَّج، ومنهم من أقرَّ، ووافقَه بعض أصحاب أحمد. وأما أحمد وسائرُ أصحابه وكذلك مالك وغيرُه ما علمتُهم اخَتلفوا في تقديم الوقت في هذهَ المواضع، كما اتفق المسلمون كلُّهم على تقديم الوقت في المتيمم إذا عَدِمَ الماءَ في السفر، وفي العُريان، وفي المريض والخائف، فإنهم متفقون على أنَّ هؤلاء يُصلون في الوقت بحسب حالِهم، ولا يُفوِّتون الصلاةَ. ولم يتنازعوا إلا في حالِ القتال كما تقدم، وكذلك الآمن الذي لا يمكنه التعلُّم حتى يخرج الوقت. والمقصود هنا ذِكرُ الجمع، وأن الجمع بين الصلاتين بالتيمم خيرٌ من الصلاةِ في المكان المنهيِّ عنه، كما أنها خيرٌ من الصلاةِ عُريانًا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 ومن الصلاة إلى غير القبلة ونحو ذلك، فإن الصلاة في الوقت المشترك صلاة في الوقت يُفعَل فيه للمصلحة الشرعية، بخلاف الصلاة بدون شروطِها، فإنه يحرم، [و] لا يجوز إلا لضرورة. ولهذا كانت الصلاة بالغسل وبالوضوء في الوقت المشترك خيرا من الصلاة بطهارة ناقصة في الوقت المختصّ. ومن ذلك الأجير والمملوك إذا أدخله سيدُه الحمامَ والمكانَ النجسَ، ولم يُخرِجه منه إلى المغرب، فصلاتُه فيه خير من التفويت، وذلك واجب عليه، والجمعُ بين الصلاتين خيرٌ له من الصلاة في ذلك المكان المنهي عنه، وهذا الجمع بطهارة الماءِ، وتلك بطهارةِ التيمم. فإن قيل: هذه المرأة تُفوتُ الوقتَ المختصّ وطهارةَ الماء، فهذانِ نَقصانِ، والصلاةُ في الحمام ليس فيها إلا نقص واحد، فَلِمَ كان هذا أولى؟ قيل: الصلاةُ في الحمام منهيٌّ عن جنسها، ليس لأحد أن يفعلها لغير ضرورة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأرضُ كلُّها مسجد إلا المقبرةَ والحمامَ" (1) . وأما الجمعُ فيجوز للحاجة والمصلحة الراجحة كما تقدم، وأما التيمم فإن الصلاة بتيمُّم خيرٌ من الصلاة في الحمام، لأن التيمُّم طهارة مأمورٌ بها، وهي تقوم مقامَ الماء عند عدمِ الماء وخوفِ   (1) أخرجه أبو داود (492) والترمذي (317) وابن ماجه (745) من حديث أبي سعيد الخدري. قال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، ثم بين ذلك بأنه رُوِي مرسلا وموصولاً، والمرسل أصح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 الضررِ باستعمالِه، ومن لم يمكنه أن يُصلي بالماء إلا في المكان المنهيِّ عنه لم يمكنه الصلاة بالماء، كما لو لم يمكنه أن يُصلِّي بالماء إلا عريانًا أو إلى غير القبلة، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصعيدُ الطيِّبُ طَهورُ المسلمِ ولو لم يَجدِ الماءَ عَشْرَ سنينَ، فإذا وَجدتَ الماءَ فأمِسَّهُ بَشْرَتَكَ، فإنّ ذلك خير" (1) . فكلُّ ما يُباح بالماء يُباحُ بالتيمم، من صلاة الفرض والنفل ومس المصحف وقراءة القرآن. والتيمم يجوز عند الحدث الأكبر في مذهب أحمد وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة، [و] الذي يقوم عليه الدليل الشرعي أنه كلُّ ما يجوز قبل الوقت ويبقى بعده، سواء نوى به فرضًا أو نفلاً أو غير ذلك مما يُستباح بالتيمُّم، فيجوز لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصعيد الطيب طَهورُ المسلم ولو لم يجد الماءَ عَشْرَ سنين، فإذا وجدتَ الماءَ فأمَسَّه بَشرَتَك، فإن ذلك خير". ويجوز أن يؤمَّ المتيمِّم المتطهِّرين بالماء، كما أمَّ عمرو بن العاص أصحابَه في غزوة ذات السلاسل، وكما أمَّ ابنُ عباس أصحابَه بالتيمُّم وكان قد أجنبَ من وطءِ أَمَتِه. وهذا جائز عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهم، وإن كان أكثر هؤلاء يُجوِّز اقتداء القارىء بالأمي خلفَ العُريانِ ونحوه. فعُلِمَ أن طهارة التيمم حيث أُمِرَ بها خير من الصلاةِ في المكان   (1) أخرجه أحمد (5/146، 147، 155، 180) وأبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي (1/171) من حديث أبي ذر. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 النجس، وصلاةُ العريان والصلاةُ إلى غير القبلة وكذلك بسُتْرةٍ جمعًا خير من صلاة العريان مع التفريق، والصلاة قائمًا مع الجمع خيرٌ من الصلاة وحدَه مع التفريق. ولهذا يجوز للمسلمين في المطر مع إمكان صلاةِ الرجلِ وحدَه في بيته، وما ذاك إلا لأجل الجماعة، فعُلِمَ أن الجماعة في وقتِ إحداهما خيرٌ من كلِّ صلاة في الوقت المختصّ مع الانفراد، وكذلك الجمع مع الخوف في الجماعة خير من الصلاة فرادَى في الوقت. بل صلاةُ الخوف في جماعة كما مضتْ به السنة، مع مفارقة بحضهم الإمامَ قبلَ السلام، ومع العمل الكثير إذا صلى بطائفة ركعة ثم ذهب إلى العدو، مع استدبارهم القبلةَ، ومع اقتداء المفترض بالمتنفِّل، ومع الصلاة أربعًا في السفر، وأمثال ذلك كما جاءت به السنةُ= خيرٌ من صلاة كلّ منهم وحده. فالشارعُ يأمرُ بالجماعة ويَحُضُّ عليها، ويحتمل لأجلها تَرْكَ واجباتٍ وفِعْلَ محظوراتٍ. والوقت أوكدُ من الجماعة باتفاق المسلمين، فإذا لم يمكنه أن يصلِّي جماعةً إلا بعد الوقت صلَّى منفردًا في الوقت باتفاق العلماء. و الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة. والصلاة بالماء جمعًا خيرٌ من الصلاة بالتيمم مفرقًا. فمن عَلِمَ أنه لا يجد الماءَ إلا في وقتِ العصر كان صلاتُه الظهرَ والعصر بالماء جمعًا وقتَ العصر خيرًا من أن يصلي الظهر بالتيمم، وكذلك مَن وجدَه وقتَ الظهر وعَلِمَ أنه لا يجده إلا وقتَ المغرب كان جَمْعُه بالماء أفضلَ، كما تكون صلاتُه في آخر الوقت المختصّ بالماء أفضلَ من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 صلاته في أوله بالتيمم. فإن قيل: إنما جمعَ لأنه بمنزلة المسافر الذي لا ينزل قبل الغروب، وكذلك المريض الذي لا يمكنه الوضوء إلا في أحد الوقتين، وصلاتُه في أحد الوقتين جمعًا بالوضوء خيرٌ من صلاته مفرقةً بالتيمم، كما ذكرنا في المستحاضة أن صلاتها بالاغتسال جمعًا خيرٌ من صلاتها بالوضوء في الوقت المختصّ، والواقف بعرفةَ صلاتُه العصرَ جمعًا مع الظهر لإتمام الوقوف خيرٌ من فعلها في وقتها مع نقصه. وهذا الذي فَعَلَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفةَ أصل عظيم في هذا الباب، فإنه ليس الجمع هنا لحاجةٍ ولا تحصيلِ واجب ولا مشكوك في وجوبه، بل لتحصيل مستحبّ، وهو كمالُ الوقوف، فدلَّ على أن الجمع جائز حيث تكون المصلحة الشرعية معه أكملَ من المصلحة الشرعية مع التفريق، بحيث كانت العبادة مع الجمع أكملَ في الشرع من التفريق فالجمع أولى، لأنه حين وقفَ يُريد أن يُفِيضَ بعد الغروب إلى مزدلفةَ كان كما رُوي عنه أنه كان إذا ارتحلَ بعد أن تَزِيْغَ الشمسُ قدَّمَ العصرَ إلى الظهر، فصلاَّهما جمعًا. قيل: إن كان جمعُه كذلك دلَّ على جواز الجمع لمثل هذا مع إمكان النزول، فإنه لو نزل قبل الغروب لم يكن عليه في ذلك مشقة عظيمة. فإذا جاز الجمعُ لمواصلة السَّيْر فالجمعُ لتكميل العبادات الشرعية أولى، ولم يكن جمعُه لمجرد السفر، فإنه لم يَجْمَعْ في حجته إلا بعرفةَ والمزدلفة، وقد كان يصلِّي قصرًا بلا جَمْع، ولم يقل أحد قَطُّ أنه جمعَ بمنًى ولا صلَّى أربعًا، بل كلُّهم متفقون على أنَّه قَصَرَ ولم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 يَجْمَع، فعُلِمَ أن ذلك لم يكن لمجرد السفر بل للسَّيْر، كما قال ابن عمر وغيرُه: كانَ إذا جدَّ به السَّيْرُ فَعَلَ ذلك، مع أن النزول ممكنٌ ليس فيه إلا تفويتُ الإسراع الذي لا يفوت به الحج إلا أمر مستحب لا يفوت به واجب، فإنه لو نزلَ وصلَّى العصرَ ثم ركِبَ وأتمَّ الوقوفَ كان ممكنًا، لكن يفوت بذلك كمالُ مقصود الوقوف والإفاضة. فعُلِمَ أن الجمع كان لتحصيل مصلحة شرعية راجحة، لا لمجرد مشقة دنيوية. وإذا كان قد جمعَ لتحصيلِ عبادةٍ هي أفضلُ من التفريق من غير أن يكون ذلك واجبًا ولا ضررَ فيه= عُلِمَ أن الجمعَ يجوز للحاجة والمصلحة الشرعية الراجحة. وقد نصَّ أحمد على جواز الجمع للشغل، وفسَّره القاضي بما يُبيح تركَ الجمعة والجماعة. ونصَّ على جَمْعِ المستحاضة بالغسل، وليس فيه إلا مصلحة شرعية راجحة. ومما يُبيِّن ذلك أن الجمع لو كان معلَّقًا بسبب محدودٍ يدور معه وجودًا وعدمًا كالقَصر والفطر، لكان الشارعُ يُعلِّقه به، كما علَّقَ الفطرَ بالمرض والسفر بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) (1) ، وكما علَّق القصر بالسفر دون المرض بقوله: "إنَّ الله وضعَ عن المسافر الصومَ وشَطْر الصلاة" (2) . وأما الجمع فإنما وقعَ من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بافعالٍ فَعَلَها في أول الوقت، وتارةً يُؤخِّرها، وكان التأخير أحبَّ إليه إلا إذا شَقَّ عليه، فإذا اجتمعوا   (1) سورة البقرة: 184. (2) سبق تخريجه من حديث أنس بن مالك الكعبي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 قدَّمَها لمشقة التأخير عليهم، فتقديمُ الصلاة في أول الوقت وإن كان هو الأفضل في الأصل، فإذا كان في التأخير مصلحةٌ راجحة كان أفضلَ، كالإبراد بالظهر وتأخير العشاء. وكما إذا رَجَا المتيمم الماءَ في آخر الوقت، أو رَجَا أن يُصلّي مستورَ العورة في آخر الوقت أو إلى القبلة أو في جماعةِ ونحو ذلك، وهكذا الجمع. فالأصل وجوبُ كلّ صلاةِ في وقتها الخاص، ثم يجوز أو يُستحبُّ فِعْلُها في الوقت المشترك لدفع الحرج. وأما الجمع لمصلحة راجحة مع إمكان الفعل في الوقت فهذا قد جاء فيه حديث المستحاضة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحبَّ لها أن تجمعَ بين صلاتَي النهار بغُسلِ وبين صلاتَي الليل بغُسل، وكان هذا أحبَّ إليه من أن تصلِّي في الوقت المختصّ بوضوء، لأن طهارة الغسل متيقنة وطهارة الوضوء محتملة، لإمكان انقطاع وجوب الغسل، مع أن الغسل ليس بواجب عليها، وعلى هذا فالجمعُ بوضوءِ أو غُسلِ أفضلُ من التفريق عُريانًا، والجمعُ إلى القبلة المتيقنة أفضل من التفريق بالاجتهاد، والجمع في جماعة أفضل من التفريق وحدَه. ولهذا كان الصحابة والتابعون يجمعون للمطر، مع إمكان صلاة كلِّ واحد وحدَه في بيتِه، لكن ذلك لمصلحة الجماعة، فصلاتُه مع الجماعة جمعًا أفضلُ من صلاتِه في الوقتين. ولهذا لو كان مقيمًا في المسجد لكان جمعُه معهم على الصحيح أفضلَ من صلاتِه وحدَه في الوقتين. وهكذا القول فيما يجب في الصلاة إذا أمكَن فِعلُه في الجمع فهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 أفضلُ من تركِه مع التفريق، وإن كان ذلك جائزًا، فإن الجامع للمصلحة الراجحة قد صلَّى الصلاة في وقتها، وإنما يجب عليه في الوقت المختص إذا أمكن فِعلُها فيه كاملةً، فلا يجوز له تفويتُ الوقت المختصّ بلا مُوجب. فأما إذا كان فِعلُها في الوقتين فيه نقصٌ عُفِيَ عنه للحاجة وأمكن فِعلُها في المشترك بلا نقصٍ كان أفضل. والقرآن والسنة دلاّ على أن الوقت يكون، خمسة في حال الاختيار، ويكون ثلاثةً في حق المعذور، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من الكبائر الجمعُ بين الصلاتين إلا من عذرٍ. وقد أباحَ أحمد الجمعَ إذا كان له شغلٌ. قال القاضي أبو يعلى: المراد العذرُ الذي يُبيح تركَ الجمعة والجماعة، فالعذر الذي يُبيح تركَ ذاك يُبيح الجمعَ. وهذا بيِّنٌ، فإنه إذا سقطت الجمعة مع توكيدِها والجماعة مع وجوبها، فاختصاص الوقت أولى، لأن فعلها في الوقت المشترك جماعةً أفضلُ من فعلها في الوقت المختصّ فرادَى. فإذا سقطتِ الجماعةُ بالعذر فاختصاصُ الوقت أولى، ينبغي أن يكون الجمع أوسع. من ذلك (1) أن الجمعة والجماعة آكدُ من اختصاص الوقت، وقد ترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الخوف لأجل الجماعة ما كان يُمكِنُ أن يفعل مع الانفراد مما لا يجوز إلا لعذرٍ، إنما احتمل لأجل الجماعة مع الخوف. وهذا الذي ذكرنا من أن الوقت يكون ثلاثةً في حق المعذور مما   (1) كذا في النسختين، وفي العبارة غموض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 ثبتَ بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين في الجمع بعرفةَ ومزدلفةَ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أمور أخرى، وأحمد أوسعُ قولاً به من غيرِه، وأما تفويتُ الصلاة فلا يجوز بحالٍ في ظاهر مذهب أحمد، ولكن في مذهبه قولٌ بجواز التفويت في بعض الصور، ولكن في مذهبه في مثل عدم الماء والتراب يجوز التفويت. وأما أبو حنيفة فيوجب التفويتَ في مواضعَ، ولا يُجوِّز الجمعَ إلا بعرفة ومزدلفة. وقولُ الأكثرين الذين يُسوِّغون الجمعَ بين الصلاتين ويمنعون التفويتَ مطلقًا هو الصحيح، كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسنة، فإن الله تعالى قال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (1) ، وثبتَ في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من تركَ صلاةَ العصر فقد حَبط عمله" (2) ، وقال: "من فاتته صلاةُ العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله" (3) . فالتفويتُ لا يجوز بحالٍ، وتفويتُ الخندق منسوخٌ. وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابتٌ بالسنة في مواضع متعددة، وبعضها مما أجمعَ عليه المسلمون، والآثار المشهورة عن الصحابة تُبيِّن أن الوقت المشترك وقتٌ في حال العذر، كقول عمر بن الخطاب: الجمعُ بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر. فدلَّ على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة فيمن طَهُرَتْ في آخر النهار: إنها تُصلِّي الظهر والعصر،   (1) سورة البقرة: 238. (2) سبق تخريجه. (3) سبق تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 وفيمن طَهُرَتْ في آخر الليل: إنها تُصلِّي المغرب والعشاء. وهو قول الثلاثة مالك والشافعي وأحمد. وأما التفويت فلا يجوز بحالٍ، فمن جوَّز التفويتَ في بعض الصُّوَر فقوله ضعيفٌ وإن جوَّز الجمع. وأما من أوجبَ التفويتَ ومَنَعَ الجمعَ فقد جمعَ في قوله بين أصلَينِ ضعيفينِ: بينَ إباحةِ ما حرَّمَ الله ورسوله وتحريمِ ما شرعَه الله ورسولُه، فإنه قد ثبتَ أن الجمعَ خيرٌ من التفويت. فبهذا الأصل ينتظم كثيرٌ من مسائل المواقيت. وتفويتُ العصر إلى حين الاصفرار وتفويتُ العشاء إلى النصف الثاني أيضًا لا يجوز إلا لضرورةٍ، والجمعُ بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت الضرورة خيرٌ من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة. وقد نصَّ على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره، وقالوا: لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار، بل إذا لم يجد الماء إلا فيه فإنه يُصلِّي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يُصلِّيها حينَ الاصفرار بالوضوء. والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 مسألة في رجل فقير وعليه دين، هل لأخيه الغني دفع الزكاة إليه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 مسألة في رجل فقيرٍ وعليه دَين، وله أخٌ لأبويه وهو غنيٌّ، هل للغنيّ دَفْعُ الزكاةِ لأخيه الفقير دونَ الأجانب؟ وهل يجوز له تعجيلُ الزكاةِ له سنة أو سنتين؟ جواب الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية نعم، يجوز أن يدفع إليه من زكاتِه ما يَستحقُّه مثلُه من الزكاة، وهو أولى من أجنبيّ ليس مثلَه في الحاجة، ويجوز تعجيلُ الزكاة. وذلك لأن نصوص الكتاب والسنة تتناول القريبَ والبعيدَ في الإعطاء من الزكاة، وامتازَ إعطاءُ القريب بما فيه من الصلة، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صدقتك على المسكين صدقةٌ، وصدقتك على ذي الرحم صدقة وصِلَةٌ" (1) . والصدقة في الصلة أفضلُ من الصدقة المجردة. والذين منعوا من إعطاءِ الزكاة له قالوا: نفقتُه واجبةٌ على الأخ، فيكون مستغنيًا بها، فلا يُعطيه ما يقوم مقامَ النفقة الواجبة. وهذا القول ضعيف لوجوهٍ: أحدها: أنه قد لا تكون النفقةُ واجبةً عليه، بأن لا يكون للمزكّي فضلٌ يُنفِقُه على أخيه، وهذا حالُ كثير من الناس. فإذا حُرِمَ الصدقةَ مع النفقة كان هذا ضدَّ مقصودِ الشارع.   (1) أخرجه أحمد (4/17، 18) والترمذي (658) والنسائي (5/92) وابن ماجه (1844) من حديث سلمان بن عامر. قال الترمذي: حديث حسن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 الثاني: أن يقال: هَبْ أن نفقتَه واجبةٌ عليه، فإنما ذلك بشرط أن لا يكون قادرًا على الكَسْب وأن يطالب بها، فإذا كان متمكنًا من أخذ الزكاة واختار ذلك لم تجب النفقةُ في هذا الحال. كما لو اختارَ أخذَ الزكاةِ من أجنبي، فإن النفقة لا تجب في هذا الحال إجماعًا. وليس أن يُمنَع من الزكاة لأجل وجوب النفقة بأولَى من أن يُمنَع من النفقة لأجل وجوب الزكاة، بل هذا أولى، لأن الصدقةَ مالٌ أباحَه الله له ولأمثالِه، فإذا كان قادرًا عليه لم يكن به حاجةٌ إلى النفقة، والنفقة إنما وجبتْ عند العجز عن الاكتساب، وأخذُ الزكاة من جملة وجوهِ الاكتساب. وكما أن الصدقة لا تَحِلُّ لغنيّ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ، فهو أيضًا لا يستحقُّ النفقةَ. الوجه الثالث: لو وجبتْ نفقتُه على غيره، وامتنعَ ذلك الغير من إعطائها، كان له أخذُ الزكاةِ بالاتفاق. فهذا القريبُ لو قُدِّرَ امتناعُه من الإنفاق لم يَحرُمْ على هذا أخذُ زكاتِه. ولا يقال: الزكاةُ لم تَسقُط عن ذلك، بل غايةُ ما يُقال: إنه عاصٍ بتَرْكِ النفقة. الرابع: أن يقال: لا ريبَ أنه يجبُ إغناءُ هذا الفقير، فإمَّا أن يُغْنِيَه قريبُه من مالِه وإمَّا من الزكاة، فالواجب إمّا الإنفاق عينًا وإمّا الزكاةُ عينًا وإمَّا أحدهما، وإيجاب الإنفاق عينًا مع تمكُّنِ المحتاج من أخذِ الزكاة ومع اختيارِه لذلك لا يقول به أحد، وأما إيجاب إعطاء الزكاة عينًا مع اختيار ربِّ المالِ أن يَصِلَ رَحِمَه من ماله فلا يقول به أحدٌ، فمتى اختار الفقيرُ أخذَ الزكاةِ فله ذلك، ومتى اختار الغنيُّ صلتَه من مالِه فله ذلك إذا اختارَ الفقيرَ، ولو أرادَ الفقيرُ أن لا يَقبل الصلةَ وقال: لا آخذُ إلا من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 الزكاة فله ذلك. وإن أرادَ المطالبةَ بالنفقةِ وقال: لا أريدُ إلا النفقةَ دونَ الزكاةِ، فهذا فيه نظرٌ ونزاعٌ، وأما إذا اتفقا على الصلة جاز بالاتفاق، فكذلك إذا اتفقا على الإعطاء من الزكاة هو جائزٌ أيضًا. كما لو كان الغنيُّ يُعطِيه من صدقةٍ موقوفةٍ، أو من صدقةٍ هو وكيلٌ فيها أو ولي عليها. فإن قيل: إذا أعطاه وَقَى بها مالَه، وقد ذكر الإمامُ أحمد عن سفيان ابن عيينة قال: كان العلماء يقولون: لا يَقِيْ بها مالَه، ولا يُحَابي بها قريبًا، ولا يَدفَعُ بها مَذمَّةً. قيل: هذا إنما يكون إذا كان القريب من عيالِه، فيُعطِيه ما يَستَغْنِي به عن النفقةِ المعتادة، ففي مثل هذه الصورة لا يُجزِئُه على الصحيح، وهو المنقول عن ابن عباس وغيرِه، أَفتَوا بأنه إذا كان من عياله لم يُعطِه ما يَدفَعُ به الإنفاقَ عليه. حتى لو كان متبرّعًا باِلإنفاقِ على رجلٍ لم يكن له أن يُعطِيَه ما يقِي به مالَه، لأنه هنا دَفعَ عن نفسِه بالزكاة، فأخرجها لغَرَضِه لا للهِ، والزكاة عليه أن يُخرِجَها لله، وإن لم يكن هذا واجبًا بالشرع، لكن العادات لازمةٌ لأصحابها. والمحاباةُ أن يُعطِيَ القريبَ وهناك من هو أحقُّ منه، وأما إذا استويا في الحاجة وأعطاهُ لم يكن هذا محاباةً. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن عادتُه الإنفاقَ على الأخ، فإن وجوبَ الإنفاق عليه مشروطٌ بعدمِ قدرته على الأخذ من الزكاة واختيار ذلك، فمتى كان قادرًا على الأخذِ مريدًا له لم يستحق في هذه الحال نفقةً. كما لو حَصَلَ ذلك مع غنى أجنبيّ، فإنه إذا اختارَ الأخذَ من زكاته لم يجب على أخيه في هذه الحال الإنفاقُ عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 الوجه الخامس: أن يقال: لو أعطَى الزكاةَ للإمام، فأعطَى الإمامُ أخاه من ذلك، جاز، وكذلك لو أعطاها لمن يَقْسِمها بين المستحقين، فأعطاه أخاه، فكذلك إذا قَسَمَها هو. وسببُ ذلك أن الزكاةَ يجبُ صَرْفُها إلى الله تعالى، الذي يثيبُ صاحبَها، والفقراءُ يأخذونها من الله، لا يَستحقُّ أربابُ الأموال عليهم معاوضةً. فهو كما أعطَى الإمامُ من بيت المال، وناظرُ الوقفِ من الوقف، وإذا كان كذلك فأخْذُه من زكاةِ قريبِه وغيرِه سواءٌ، كأخذه من مالٍ يَنظُر عليه قريبُه، سواء كان سلطانيًّا أو وقفًا أو نذرًا. يدل على ذلك أن أبا طلحةَ لما قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحَاء، وإنها صدقةٌ لله أرجو بِرَّها وذُخْرَها عند الله، فضَعْها يا رسولَ الله حيثُ شئتَ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أرى أن تجعلَها في الأقربين" (1) . فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ بجعْلِها في الأقربين بعد أن جَعَلَها لله وخَرَجَ عنها. والله سبحانَه أعلم.   (1) أخرجه البخاري (1461) ومسلم (998) من حديث أنس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 مسألة في التسمية على ذَكاةِ الذبيحة وذكاة الصيد، والنزاع فيها مشهور بين السلف والخلف، وقد ذكروا عن أحمد رحمه الله فيها خمسَ رواياتٍ، ذكرها أبو الخطاب في "رؤوس مسائله ". قال أبو الخطاب: متروكُ التسمية لا يَحِلُّ أكلُه، سواء تركَ التسميةَ عامدًا أو ناسيًا. وعنه إن تَركَها عامدًا لم يحلَّ، وإن تركها ناسيًا حلَّتْ. وهو قولُ أبي حنيفةَ والثوري ومالك. وعنه إن سَها على الذبيحة حَلَّ، فأما على الصيد فلا. (قال تقي الدين:) قلت: وأكثر الروايات عن أحمد على هذا، وهي اختيار أكثر أصحابه، كالخرَقي والقاضي وأكثرِ أصحابه والشيخ الموفق. قال: وعنه إن سَهَا على السَّهم حَلَّ، وأما على الكلب والفهد فلا. وقال الشافعي: يَحِلُّ أكلُه سواء تركَها عامدًا أو ساهيًا، وعن أحمد بنحوه. ونَصرَ أبو الخطاب التحريمَ مطلقًا. (قال الشيخ تقي الدين:) وهذا هو الصواب، فإني تدبَّرتُ نصوصَ الكتاب والسنة فوجدتُها متظاهرةً على إيجاب التسمية واشتراطِها في الحلِّ، وتحريمِ ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه، وكلَُّ نصًّ منها يوافق الآخر، مع كثرة النصوص وصراحتها في الدلالة، ولم أجدْ شيئًا يَصلُح أن يُقارِبَ معارضةَ هذه النصوص، فضلاً عن أن يُكافِئَها أو يرجحَ عليها. ولو لم يكن إلا نصّ سالم عن المعارِض المقاومِ لَوجبَ العملُ به، فكيف مع كثرتها وقوةِ دلالتها وعدمِ معارضِها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 قال الله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)) (1) . فقد أمر سبحانه بالأكل مما ذُكر اسم الله عليه، وعلَّق ذلك بالإيمان، وأنكر على من لم يأكل مما ذكر اسم الله عليه، ونهى عن أكل ما لم يُذكر اسمُ الله عليه، وقال: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) كما قال فيما أُهِلَّ به لغير الله في قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) (2) . فقد ذكر تحريم ما أُهِلَّ لغيرِ الله به في أربعة مواضع كما ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير. وقال تعالى فيما ذمَّ به المشركين: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (3) . وقال تعالى في المائدة (4) : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) إلى قوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) إلى قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا   (1) سورة الأنعام: 118- 121. (2) سورة الأنعام: 145. (3) سورة الأنعام: 138. (4) الآيتان: 3، 4. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) . فهذه خمس آيات في التسمية. وفي الصحاح والمساند حديثُ عدي بن حاتم الذي اتفق العلماء على صحته، وتلقَّتْه بالقبول تصديقًا وعملاً به، ففي الصحيحين (1) عن إبراهيم النخعي عن همّام بن الحارث عن عَدِيّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إني أُرسِل الكِلابَ المعلَّمةَ فَيُمسِكْن عليَّ وأذكُر اسمَ الله، فقال: "إذا أرسلتَ كلبك المعلَّمَ وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ ما أمسكَ عليك "، قلت: وإن قتلنَ؟، قال: "وإن قَتلنَ، ما لم يشركها كلبٌ ليس منها". قلتُ: فإني أَرمِي بالمِعراضِ الصيدَ فأُصيبُ، فقال: "إذا رميتَ بالمِعراضِ فخَرَقَ فكُلْهُ، وإن أصابَه بعَرْضِه فلا تأكُلْه ". وفي الصحيحين (2) عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي سمعتُ عديَّ بن حاتم قال: سألتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المِعراضِ، فقال: "إذا أصابَ بحدِّه فكُلْ، وإذا أصاب بعَرْضه فقتلَ فإنه وَقِيذٌ فلا تأكل "، قال: قلتُ: إني أُرسِلُ كلبي، قال: "إذا أَرسلتَ كلبك وذكرتَ اسمَ اللهِ فكُلْ "، قال: قلتُ: فإن أكلَ منه؟ قال: "فلا تأكُلْ، فإنما أمسكَ على نفسِه ولم يُمسِك عليك ". قال: قلت: أُرسِلُ كلبي وأجدُ معه كلبًا آخر، قال: "لا تأكُل، فإنما سمَّيتَ على كلبِك ولم تُسَمِّ على الآخر".   (1) البخاري (7397) ومسلم (1929) . (2) البخاري (5486) ومسلم (1929/3) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 وفي الصحيحين (1) أيضًا عن عديّ قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أرسلتَ كلبَك فاذكُر اسمَ الله عليه، فإن أمسكَ عليك فأدركتَه حيًّا فاذبَحْه، وإن أدركتَه قد قتلَ ولم يأكل منه فكُلْ، فإن وجدتَ مع كلبك كلبًا غيرَه وقد قتل فلا تأكلْه، فإنك لا تَدري أيّهما قَتَلَه. وإن رميتَ بسَهْمِك فاذكر اسمَ الله، فإن غابَ عنك يومًا فلم تَجدْ فيه إلا أثرَ سَهْمك فكُلْ إن شِئتَ، وإن وجدتَه غريقًا في الماء فلا تأكُلْهَ ". وفي لفظ البخاري (2) : قلت: يا رسولَ الله، أُرسلُ كلبي وأُسمِّي، فأجدُ معه على الصيد كلبًا آخر لم أُسمِّ عليه، ولا أَدري أيُّهما أخذَ، قالَ: "لا تأكلْ، إنما سمَّيتَ على كلبك، ولم تُسَمِّ على الآخر". قوله: "فأدركتَه حيّا فاذبَحْه" من أفراد مسلم، وزادَ غيرُه بإسنادِه الصحيح: "فإن أدركتَه ولم يقتلْ فاذبَحْ واذكُر اسمَ الله". فهذا فيه الدلالة من وجوهٍ عديدةٍ: أحدُها: قول عديّ أولاً: "إني أُرسلُ كِلابي المعلَّمةَ فيُمسكنَ عليَّ وأذكُر اسمَ الله"، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أرسلتَ كلبكَ المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله عليه"، وقوله: "إنما سمَّيتَ على كلبك" دليلٌ على أن عديا فهمَ من قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) (3) أنه أمرٌ من الله بذكرِ اسمِه   (1) البخاري (5486) ومسلم (1929/6) . (2) البخاري (5486) . (3) سورة المائدة: 4. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 على الصيد، لم يُرِد به مجردَ ذكرِ اسمِه عند الأكل، كما ظن ذلك بعضُ الناس. (ثم قال:) فيقال: حديثُ عدي بن حاتم سؤالُه وجوابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدل على التسمية عليه على الصيد حينَ الاصطياد، وإن كانت التسمية عند الأكلِ مأمورًا بها أيضًا وجوبًا أو استحبابًا، على قولين معروفين لأصحابنا وغيرهم. لكن التسمية حينَ الاصطياد مأمورٌ بها في الآية قطعًا، كما دلىَّ عليه حديثُ عديّ، مع أن ظاهر القرآن يدل على ذلك أيضًا، وهذه من أدلة القرآن، فإن الضمير في قوله: (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) ضميرٌ عائد على "ما" في قوله: (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، أي: واذكُروا اسمَ الله على ما أمسكن. وذِكرُ اسمِ الله على ما أمسكنَ هو ذِكرُه على الصيد حينَ الاصطياد، كما يقال: ذكر اسم الله على الذبيحة أي حينَ الذبح، وهو ذكر اسمه على الكلب حين الإرسال، كما في الحديث: "فإنك إنما سميتَ على كلبك ولم تُسَمِّ على غيره ". وأما إذا سمَّى على الكلبِ وأرسلَه، فعند إرسال الكلب له يكون صاحبُه بعيدًا عنه، وقد لا يراه، فلا يُؤمَر حينئذ بالتسمية. ولم يَقُلْ أحدٌ من أهل العلم أن ذِكْرَ اسمِ الله على ما أمسكن هو مخصوصٌ بهذه الحال. وأيضًا فإنه لم يتقدَّم اسمٌ يَصلُح أن يعودَ الضمير إليه إلا "ما أمسكن "، وأما الأكلُ فلم يتقدم اسمُه، وإنما تقدم قولُه: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) . وقد يعود الضمير إلى الاسم الذي دل عليه الفعل، كما في قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ) (1) ،   (1) سورة آل عمران: 180. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 لكن ذاك يكون إذا لم يكن هناك ما يعودُ الضمير إليه إلا ما دلَّ عليه الفعل من الاسم لعدمِ اللبس، وأما إذا كان الاسمُ هو القريب إلى الضمير فهذا يترجَّحُ عودُه إليه دون الاسم الأبعد، فكيف إذا كان الأبعد فعلاً؟ وأيضًا فالقرآن حيث أُمِرَ فيه بذكر اسمِ الله على ما ذُكِّي فإنما هو حين التذكية، كسائر الآيات، وإنما ذمَّ مَن تركَ ذِكْرَ اسمِه عليها حينئذٍ، كما قال: (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) (1) ، فالذي ذَمَّ به المشركين على تركِه أمرَ المؤمنين بفعلِه. وهذه الدلالة من حديث عدي هي دلالة القرآن، لكن حديث عديّ قرَّرها وطابَقها. الثاني: أنه قال في بعض طُرقه: "إذا أرسلتَ كلبَك فاذكر اسم الله عليه "، فأمرَ بذلك، وأمرُه للوجوب. الثالث: أنه قال أيضًا: "إذا رَميتَ بقوسك فاذكر اسمَ الله ". الرابع: أنه قال: "إن أدركتَه ولم يُقتَل فاذبَحْه واذكُر اسمَ الله ". الخامس: أنه قال: "إذا أرسلتَ كلبك المعلَّم وذكرتَ اسم الله فكُلْ ما أمسك عليك ". فشَرَطَ في الأكل أن يذكر اسمَ الله، كما اشترطَ أن يكون الكلبُ معلَّمًا، وأن يُمسِكَ عليه. وهذه الشروط الثلاثة المذكورة في القرآن. السادس: أنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أُرسِل كلبي وأسمِّي،   (1) سورة الأنعام: 138. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 فأجدُ معه على الصيد كلبًا اَخر لم أُسمِّ عليه، ولا أدري أيُّهما أخذ. قال: "لا تأكلْ، فإنك إنما سميتَ على كلبك، ولم تُسَمَ على الآخر". فنهاه عن أكلِ ما شكَّ في تذكيته، وعلَّلَ ذلك بأنك إنما سمَّيتَ على كلبك ولم تُسَمِّ على الآخر، فجعلَ المانعَ من حِلِّ صَيدِ الكلب الآخر تركَ التسمية، كما جَعلَ فِعلَ التسمية علةً لحِل صيدِ كلبه. وهذا من أصرح الدلالات وأبينها في جَعْلِه وجودَ التسمية شرطًا في الحِلِّ، وعدمَ التسميةِ مانِعًا من الحِلِّ، ولم يُفرِّقْ بين أن يتركَها ناسِيًا أو غيرَ ناسِ، مع أن حالَ الاصطياد حال قد يدهَشُ الإنسانُ ويَذْهَلُ عن التسَميةِ فيها، وإذا لم يعذره في هذه الحال بتركِ التسمية فأن لا يَعذرَه بذلك في حالِ الذبح وهو أحضرُ عقلاً= أولى وأحرى. السابع: أنه كرَّر علية ذِكرَ التسمية حينَ إرسالِه الكلبَ، وحينَ إرسالِه السهمَ، وعند منعِه من أكلِ ما خالطَ كلبَه كلب لم يُسَمِّ عليه، وعند ذبحِه. وهذا كلُّه يدلُّ على اعتناء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتسمية على الذكاة بالذبح والسَّهم والجارح، وأنه لا بدَّ منها في الحلّ، وأن انتفاءَها يُوجبُ انتفاءَ الحلِّ. وهذا في غاية البيان من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي ليس عليه إلا البلاغ المبين، وبدون هذا يَحصُلُ البيان الذي تقومُ به الحجَّةُ على الناس. وأيضًا حديث أبي ثعلبةَ الخُشَني (1) - وهو في الصحاح والسنن   (1) أخرجه البخاري (5478، 5488، 5496) ومسلم (1930) وأحمد (4/ 195) وأبو داود (2855) والترمذي (1560) والنسائي (7/181) وابن ماجه (3207) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 والمساند أيضًا، وعلى حديثه وحديثِ عديّ يدورُ بابُ الصَّيد، وعليهما اعتمدَ الفقهاءُ كلُّهم- قال: أتيتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلتُ: إنّا بأرضِ قوم من أهلِ الكتاب نأكلُ في آنيتهم، وأرضِ صيدٍ، أَصِيدُ بقَوسِي، أصيدُ بكَلبي المعلَّم وبكلبي الذي ليس بمُعلَّم، فأخبرني ما الذي يَحلُّ لنا من ذلك؟ فقال: "أما ما ذكرتَ أنكم بأرضِ قومٍ من أهلِ الكتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غيرَ آنيتهم فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدَوا فاغسلوها ثم كلوا فيها. وأما ما ذكرتَ أنكم بأرضِ صيدٍ، فما أصبتَ بقوسِك فاذكر اسمَ الله ثم كُلْ، وما أصبتَ بكلبك المعلَّم فذكرتَ اسمَ الله فكُلْ، وما أصبتَ بكلبك الذي ليس بمعلَّم وأدركتَ ذكاتَه فكُل ". وفي لفظ البخاري: "ما صِدْتَ بقوسِك وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ، وما صِدْتَ بكلبك المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ ". فهذا أبو ثعلبة يسأله، يقول له: أخبرني ما الذي يحلُّ من ذلك؟ فلم يُحِلَّ له إلا ما ذكَر اسمَ الله عليه في الاصطياد بقوسه وفي الاصطياد بكلبه، ولم يَستَثن حالة نسيانٍ ولا غيرها، وهذا من أًبْينِ الدلالةِ على أنه لا يحلُ له إلا ذلك، إذ لو كان يَحِلُّ ما ترك التسمية عليه خطأً أو عمدًا لم يكن ما ذكره جوابه، بل كان الجواب إذَنْ إحلالَ ذلك كله أو إحْلالَ ما سُمِّي عليه وما نسي التسمية عليه، كما أن المستفتي لمن يُحِلُّ هذا من الفقهاء يُجيبُه بجواب يُخالِف جوابَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ثعلبة، وهذا دليلٌ على خطأ ذلك الجوًاب. وبهذين الحديثين ونحوهما احتج من أوجبَ التسميةَ على الصيد دون الذبيحة في حالِ الخطأ من أصحابنا، قال: لأن هذه النصوص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 صريحةٌ في اشتراطِ ذلك، ولم يَردْ مثلُ ذلك في الذبيحة. وقالوا: لأن تذكية الذبيحة تذكية اختيار، فلم تَحتَجْ إلى اقترانها بالتسمية كتذكية الصيد، فإنها تذكيةٌ ضرورية وقعتْ رخصةً، فلا بُدَّ أن تكملَ بالتسمية، ولهذا لا يجوز تذكية المقدور عليه من الصيد والأهلي إلا في الحلق والَّلبَّة. وبهذا فرَّق من اشترطَها في الكلب دون السهم، لأن التذكية بالسهم يَحصُل بفعل الاَدمي، بخلاف التذكية بالجارح، فإنها تَحصُل بفعلِ الجارح، فكانت أضعف. لكن ما ذكروه يُعارِضه أنكم تُوجبونَها على الذبيحة، ولكن عذرتم الناسيَ بعذرِ النسيان، والصائد أولىَ بالعذر من الذابح، لما يَحصُل له من العذر والدَّهَش الذي يُوجِب له النسيانَ. (ثم قال:) وذكاةُ السهم والكلب ذكاةٌ تامَّةٌ يَحصلُ بها الحِلُّ التامُّ، كما أن صلاةَ الخائف والمريض تَبْرَأُ بها ذِمّتُه، فإن الله إنما أوجبَ على الناس ما يستطيعون، ولما كان المعجوز عنه من الحيوان لا يمكنُ تذكيتُه إلا على هذا الوجه لم يُوجِب الله ما يَعجزون عنه. ولهذا كانت ذكاةُ الجنين عندنا ذكاةَ أمِّه كما مضتْ به السنة، وإن لم يكن في ذلك سَفْح دَمِه، إذ لا يمكن تذكيتُه إلا على هذا الوجه، ولا يكفَف الله نفسًا إلا وُسْعَها. ولهذا قلنا: إذا أدركَ الصيدَ مجروحًا ولم يتسع الزمانُ لتذكيتِه أُبِيحَ، ونظائرُ ذلك. وأيضًا ففي الصحاح والسنن والمساند عن رافع بن خَدِيْج (1) قال:   (1) أخرجه البخاري (5543) ومسلم (1968) وأحمد (3/463، 464، 4/= الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 كنّا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي الحُلَيفة من تِهامةَ، فأصاب القومَ جِوع، فأصابوا إبلاً وغنمًا، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أُخرياتِ القوم، فعجَّلوا وذبَحُوا ونَصَبُوا القدور، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقُدورِ فأكفِئَتْ، ثمّ قَسَمَ فَعَدَلَ عشرةً من الغنم ببعيرٍ، فنَدَّ منها بعير، فطلبوه فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة، فأهوى رجلٌ منهم بسهمٍ، فحبَسَه الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لهذه البهائم أَوَابِدَ كأوًابِدِ الوحشِ، فما غلبكم فاصنعوا به هكذا". قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إنا لاَقُو العدوّ غدًا وليستْ معنا مُدًى، أفنذْبحُ بالقَصَب؟ قال: "ما أَنْهَرَ الدمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فكُلُوه، ليسَ السِّنَّ والظفًر. وسأحدِّثكم عن ذلك، أما السِّنُّ فعَظْم، وأما الظفُر فمُدَى الحبشةِ". وهذا الحديث أيضًا تلقَّا [هُ] ، العلماءُ بالقبول، وقد علّق الحلّ فيه بشرطين: بإنْهار الدَّمِ وذِكْرِ اسمِ الله على المذكَّى. فكما أن إنْهارَ الدم شرط فكذلك ذِكرُ اسمٍ الله عليه، وكما أن الذكاةَ بما لا يُنْهِرُ الدمَ لا يُباحُ بحالٍ، بل قد يُعفى عما لا يمكنُ إنْهارُ دمِه، كالجنين في بطنِ أمّه، فيكون ذكاتُه ذكاةَ أمِّه التي أُنْهِرَ دَمُها، وأما ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه فلم يُعفَ عنه. وأيضًا فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ثبتَ عنه أنه قال للجنّ: "لكم كلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسمُ الله عليه، تجدونَه أوفرَ ما يكون لحمًا، وكلُّ بَعَرَةٍ عَلَف لِدَوَابِّكم" (1) ،   =140، 142) والترمذي (1491، 1492،1600) والنسائي (7/221، 226، 228) وابن ماجه (3137) . (1) أخرجه مسلم (450) عن ابن مسعود. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 [و] ، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تَستنتجوا بهما، فإنهما زادُ إخوانكم من الجن " (1) . فماذا كان لم يُبَحْ للجنّ المؤمنين من الطعام الذي يَصلُح للجن- وهو ما يكون على العظام- إلا الطعامُ الذي ذُكِرَ اسمُ الله عليه، فكيف بالإنس الذين هم أكملُ وأعقلُ، وهم الذين يتولّون تذكيةَ الحيوانِ، كيف يُباحُ لهم ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه؟ وهذا كما أنه لما نَهَى عن الاستنجاء بطعامِ الجنّ وعَلَفِ دَوَابِّهم، كان النهيُ عن الاستنجاء بطعامِ الإنس وعَلفِ دَوَابِّهم أولى وأحرى. وأيضًا ففي صحيح البخاري (2) وغيره عن عائشة أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتونا باللحم، لا نَدريْ أَذُكِرَ اسمُ الله عليه أم لا، فقال: "سَمُّوا عليه اسمَ الله وكُلُوا". قال: وكانوا حديثي عهد بكفر. وهذا يدلُّ على أنه كان قد استقرَّ عند المسلمين أنه لا بُدَّ من ذِكر اسمِ الله على الذبح، كما بيَّنَ الله ذلك لهم هو ورسولُه في غير موضع، فلما كان هؤلاء حديثي عهدٍ بالكفرِ خافوا أن لا يكونوا سَمَّوا، فاستفًتَوا عن ذلك رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرَهم أن يُسَمُّوا هُم ويأكلوا. وذلك لأنَّ من أباحَ الله ذبيحتَه من مسلم وكتابيّ لا يُشتَرط في حِلِّ ذبيحتِه أن أعلم أنه بعينه قد سَمَّى، إذ العلمُ بهذ الشرطِ متعذِّرٌ في غالبِ الأمر، ولو كان هذا العلمُ شرطًا لما أكلَ اللحمَ غالبُ الناسِ، فأجريت أعمالُ الناسِ على الصحة، كما أن من اشتريتَ منه الطعامَ حملتَ أمرَه على الصحة، وأنه إنما باعَ ما لَه بيعُهُ بملكٍ أو ولاية أو وكاله، مع أن كثيرًا من الناس   (1) أخرجه الترمذي (18) من حديث ابن مسعود. (2) برقم (5507) و (7398) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 يبيعون ما لا يجوز لهم بيعُه. (ثم قال:) ولو لم تكن التسميةُ شرطًا لكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لهم: سواء سَمَّوا أو لم يُسَمُّوا فإنهم مسلمون، أو يقال: لعلَّ أحدَهم نسيَ التسميةَ. فلما أعرضَ عن هذا كلِّه عُلِمَ أنَّ أحدًا لا يُعذَرُ بتركِ التسمية، وإنما يُعذَرُ من لم يعلمِ حالَ المذكِّي، والفرق بينهما ظاهر جدًّا، كما أن المذكّي عليه أن لا يُذكّي إلا في الحَلْقِ واللَّبَّةِ، ومن لم يعلم حالَه له أن يأكلَ ما ذُكِّي حملا لفعلِه على الصحة والسلامة. ثمّ إن وجوبَ تذكية المقدور عليه في الحلق واللَّبَّةِ مما يقول به عامةُ العلماء، وليس في إيجاب ذلك نصٌّ مشهورٌ صريحٌ، بل فيه آثارٌ عن بعض الصحابة، وفيه من الحديث ما ليس بمشهور. ثم إن ذلك جُعِلَ شرطًا على كل قادر، لا يَسقُط إلا بالعجز، فالتسميةُ التي دلَّ على وجوبها النصوصُ الصحيحةُ الصريحةُ أولَى بالإيجاب والاشتراطِ، فإن التذكيةَ في غير الحلقِ واللَّبَّةِ يَحصلُ بها إنهارُ الدم، لكن هو عدولٌ عن أحسنِ القِتْلَتَيْنِ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء، فإذا قَتلتم فأحسِنُوا القِتلَةَ، وإذا ذَبحتم فأحسِنُوا الذِّبحةَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرتَه ولْيُرِحْ ذبيحتَه " (1) . فإذا كان بتَركِ أولى الذِّبحتينِ تَحرُمُ الذبيحةُ، فتَركُ ذِكْرِ اسمِ الله أولى بذلك، لأنَّ هذا هو الفرق بين ذكاةِ أهلِ الإيمان وأهل الكفر، أن هؤلاء يذكرون اسمَ الله على الذكاة، وأولئك لا يذكرون اسمَ الله.   (1) أخرجه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 و أدلَّةُ إيجاب التسمية على الذكاة أظهرُ بكثيرٍ من أدلةِ وجوب قراءةِ التسمية في الصلاة، بل من إيجابِ قراءةِ فاتحة الكتاب. (ثم أشار إلى حجة من لم يُوجِب التسمية على الذكاة، وضَعَّفها الشيخ تقي الدين، وأجاب عنها بأجوبة، ثم قال:) التاسع: أن ما لم يُذْكر اسمُ الله عليه كان للشيطانِ فيه نصيبٌ، وذِكْرُ اسمِ الله يَدفعُ الشيطان، كما في الصحيحين (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو أنَّ أحدَهم إذا أتَى إلى أهله قال: "بسم الله، اللَّهمَّ جَنِّبنا الشيطانَ وَجنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنا"، فرُزِق ولدًا، لم يَضُرَّه الشيطانُ ولم يُسَلَّط عليه ". (واستشهد بغيرِ ذلك حذفتُه اختصارًا، لضيقِ الوقت) ، والله سبحانه أعلم.   (1) البخا ري (141) ومسلم (1434) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البرّ وابن آوى وجلودهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 مسألة في أكل لحم الضبُع والثعلب وسِنَّورِ البرّ وابنِ آوَى وجلودِهم، هل يَحلُّ لُبْسُ جلودِ الجميع وأكلُ لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهرُ جلودُهم بالدِّباغ؟ الجواب أما لحم الضبع فإنه مباحٌ عند مالك والشافعي وأحمد، وجلدُه يَطْهُر بالدباغ في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك في روايةٍ وأحَمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أصحُّ قولَي العلماء. هذا إذا دُبِغ بعد موته، وأما إن ذُكِّيَ ودُبغ كان طاهرًا في مذهب الأئمة. وأما سِنَّور البرّ والثعلب ففي حِلِّهما قولان هما روايتان عن أحمد، أحدهما: يَحِلُّ، فيكون جلدُه طاهرًا إذا ذُكِّي، وهذا مذهب مالك والشافعي، وعلى هذا القَول فإذا ماتَ ودُبغ كان طاهرًا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك. والقول الثاني: إنهما محرَّمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وعلى هذا فإذا ذُكِّي كان جلدُه طاهرًا عند أبي حنيفة دون أحمد، وجلدُه يَطهر بالدباغ إذا مات عَند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد، وظاَهرُ مذهبِه أنه لا يَطهر. وأما ابن آوى فإنه حرامٌ عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلدُه يَطهر بالدباغ عند أبي حنيفة والشافعي ووجه في مذهب أحمد، وظَاهرُ مذهبه أنه لا يطهر بالدباغ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 وأما القول الذي يقوم عليه الدليلُ فإنه قد رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنن (1) من وجوهٍ أنه نَهَى عن جلودِ السباع كما ثبتَ أنه حَرَّم لحمَها، فما ثبتَ أنه من السِّباع- كالنَّمِر وابن آوَى وابن عِرْسٍ - فلا يَحِلُّ لحمُه ولا تُلْبَسُ الفِرَاءُ من جلدِه، وما لم يكن من السِّباع المحرَّمة- كالضَّبُع- فإنه يُؤكَلُ لحمُه ويُلْبَسُ جلدُه. وأما الثعلبُ وسِنَّور البرّ ففيه نزاعٌ. والله أعلم.   (1) أخرجه أبو داود (4131، 4132) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعها دون الجلد؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعُها دون الجلد أو الجلد وحدَه؟ جواب الشيخ تقي الدين ابن تيمية ورأيه فيه نعم، يجوز بيعُها جميعًا، كما يجوز بيعُ ذلك قبلَ الذبح. وإلى هذا ذهب جماعةُ علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين، وما زال المسلمون يبيعون المذبوح من الطيور والبهائم في كل عصرٍ ومصرٍ. وإنما حَرَّم ذلك بعضُ متأخري الفقهاء، ظانا أنّ هذا من باب بيع الغائب بدون صفةٍ ولا رؤيةٍ، وليس كذلك، بل المشتري يعلم ما يشتريه برؤية ما يراه كما يَعلم نظائرَه، وكما يعلم إذا رأى الجلد منفردًا وإذا رأى اللحم منفردَّاَ، كما يعلمه إذا رآه حيَّّاَ. (ثم قال:) ومن فرَّقَ بين الحيوان الحيّ والمذبوح بأن الحيَّ في صوانه بخلاف الميت، كما يفرّق في الباقلاّ ونحوه بين بيعِه في القِشر الأعلى والصّوان. لكن هذا الفرق ضعيف مخالفٌ للسنة ولإجماع السلفِ والاعتبار. (ثم قال:) ولما فتح المسلمون الأمصار كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشرُون الباقلاّ الأخضر ونحو ذلك، ولم ينكر ذلك منكرٌ. وكذلك يجوز بيعُ اللحم وحدَه والجلدِ وحدَه. وأبلغُ من ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا سافر هو وأبو بكر في سفرَ الهجرة اشتريَا من رجلٍ شاةً، واشترطَا له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 رأسَها وجلدَها وسَوَاقِطَها (1) . وكذلك أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يتبايعون الشاةَ أو البقرةَ أو البعيرَ ويَستثنون للبائع سواقطَها، حكاه الشعبي عن الصحابة مطلقًا، وأفتَى به زيد بن ثابت وغيرُه من الصحابة، وجوَّزه مالك وأحمد وغيرهما. فإذا كان الصحابة جوَّزوا هذا فهذا أجوزُ. والله أعلم.   (1) أخرجه ابن حزم في المحلى (8/403) عن عروة بن الزبير، وأعله بعدة علل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 مسألة في إجارة الإقطاع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 سئل- رحمه الله تعالى ورضي عنه- عن إجارة الإقطاع هل هي صحيحة أم باطلة؟ وقد ذُكِر في مذهب الشافعي قولانِ، وفيهم من حكم به. فأجاب الحمد لله. إيجار الإقطاع صحيح، كما نصَّ على ذلك غير واحدٍ من العلماء، وما علمتُ أحدًا من علماء المسلمين قال: إنه لا يَصحُّ، لا من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ومن أفتى بأنه لا يصحُّ من أهل زماننا فليس معهم بذلك نقل، لا عن أحدٍ من الأئمة الأربعة ولا غيرِهم من المسلمين، وإنما عُمدتهم في ذلك أن بعضَ شيوخهم كان يُفتِي بأنه لا يصحُّ. وحجتهم أن المُقْطِع لم يملك المنفعةَ، فبَقِي المستأجرُ لم يملك المنفعة، فتكون الإجارةُ مزلزلةً، فلا تجوز، كما لو آجَرَ المستعيرُ العينَ المعارة. والكلامُ في مقامين: أحدهما أنه ليس لأحدٍ أن يُحدِث مقالةً في الإسلام في مثل هذا الأمر العام الذي ما زال المسلمون عليه خَلَفًا عن سلف، بل إذا عَرَضَتْ له شبهةٌ في ذلك كانت من جنس شبهة أهل الضلال القادحين في الشرع، وكثير منها أقوى من هذه الشبهة. والجواب عنها من وجهين: أحدهما: أن العين المُعَارة في إجارتها نزاع، وإذا أَذِنَ المالك في إجارتها جاز، والسلطانُ المُقطع قد أَذِنَ لهم أن ينتفعوا بالقطع بالاستغلال والإجارة والمزارعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 الثاني: أن هذه المنافع ليست كالعارية، فإن السلطان لا يملك هذه المنافع، بل هي حقّ للمسلمين ومِلْكٌ لهم، وإنما السلطان قاسم يَقسِم بينهم تلك المنافع، فيستحقونها بحكم المِلْكِ لها والاستحقاق لا بحكم الإباحة، كما يستوفي أهل الوقف منفعةَ وقفهم. والموقوف عليه إذا آجَر الموقفَ جاز، وإن كانت الإجارة تنفسخ بموتِ الموقوف عليه عند جمهور العلماء، فإن البطن الثاني يتلقى الوقف عن الواقف لا عن البطن الأول، بخلاف الميراث. فلهذا كان جمهور العلماء على أن الإجارة لا تنفسخُ بموت الميت الذي تنتقل العينُ إلى وارثه، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فيقول بانفساخها، لأنّ من أصلِه أن المستأجر لم يملك المنفعةَ، وإنما ملكَ أن يملكها بالاستيفاء، فيقول: إن المنفعة لم تخرج عن ملك الميت، بل تحدثُ على ملك الوارث، ومع هذا فهو يقول: لو باعَ العينَ المؤجرة لم يجز، لأن المنفعة للمستأجر، لأن المؤجر لا يملك فسخ الإجارة. وأما جمهور العلماء فعندهم لا تنفسخ بالموت، سواء قيل: إن المستأجر ملك المنفعةَ أو ملك أن يملكها، وأن الوارث لم ينتقل إليه منفعةُ العين المؤجرة. وأما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه فهنا تنفسخ في أظهر قولي العلماء، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، لأن البطن الأول ليس له ولايةُ التصرُّفِ في حقّ البطن الثاني إلا أن يكون المؤجر ناظرا له الولايةُ على البطنين. فكذلك الإقطاع، إذا قُدِّر أن المُقْطع ماتَ أو أُخِذ منه الإقطاع كان كالموقوف عليه تنفسخ الإجارة عند الجمهور، ويبقى زرع المستأجر محترمًا، يبقيه بأجرة المثل إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 كمالِ بلوغه، كما يقال مثل ذلك في الوقف، وليست إجارة المقطع الأوّل لازمةً للثاني كالبطن الأول مع الثاني. وليس في الأدلة الشرعية ما يُوجب أن الإجارة لا تصحُّ إلا في منفعةٍ تمنعُ انفساخَ الإجارة فيها، بل يجوز إجارة الظئرِ للرضاع بالكتاب والسنة والإجماع، مع جواز أن تموت المرأة فتنفسخ الإجارة بالإجماع، وكذلك إذا مات الطفل انفسخت عند الأكثرين، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد، وقد قيل: لا تنفسخ، بل يُؤتَى بطفلٍ اَخر مكانه. والأول أصح، لأن الإجارة على عينه، ولو تَلِفَت العين المؤجرةُ كالعبد والبعير انفسخت الإجارة بالإجماع. وأمثال ذلك كثيرة. ف الإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة، مع إمكان انفساخ الإجارة في أثناء المدة، فمن اشترط فيها امتناع الانفساخ فقد خالف النصّ والإجماع. وليس مع من يقول: لا تصحُّ إجارة الإقطاع نقلٌ عن أحدٍ من العلماء الذين يُفتي الناس بأقوالهم، لا من أتباع الأئمة الأربعة ولا غيرهم، فكيف يَسُوغ لأحدٍ أن يقول قولاً لم يُستق إليه؟ سواء كان مجتهدًا أو مقلدًا. وغاية حجته قياس ذلك بالعارية لكونها بعرض الانفساخ، والحكم في العارية بتقديرِ تسليمه ليست علتُه كونَه بعرض الانفساخ، ولكن العلة فيه أن المستعير لا يملك المنفعة إلا بالقبض والاستيفاء، ليس له أن يُعاوضَ عليها، كما لا يعاوض على ما لم يملكه، لأن التبرعات لا تُملَك إلا بالقبض عند من قال ذلك. ولهذا يجوز إجارة المستأجر وإن جاز أن تنفسخ الإجارة، والمُقطَع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 بالمستأجر والموقوفِ عليه أشبهُ منه بالمستعير، لأنه يأخذ حقَّه وعِوَضَ عمله. فإن قلت: كيف يُدَّعى الإجماعُ وفي أصل الإجارة نزاع؟ قلتُ: النزاع المحكيُّ فيها عن بعض السلف في إجارة الأرض، وأما إجارة الظِّئْر والحيوان للركوب ونحو ذلك فلم يخالف في ذلك أحد من سلف المسلمين، فإن خالفَ في ذلك أحد من الملاحدة فهو مسبوقٌ بالإجماع المستند إلى النصّ. والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 مسألة في ضمان البساتين والأرض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 مسألة في ضمان البساتين والأرض التي فيها الشجرُ أو النخيلُ قبلَ أن يَبدُوَ صلاحُه، هل يجوز ضمانُه السنةَ والسنتين أم لا؟ جواب الشيخ تقي الدين ابن تيمية هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال، بناءً على أن هذا داخلٌ فيما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الثمر قبلَ أن يَبدُوَ صلاحُه (1) ، فاعتقد من قال ذلك أن هذا بيعُ الثمر قبل أن يبدو صلاحُه، فلا يجوز، كما لا يجوز في غير الضمان، مثل أن يشتريَ ثمرةً مجردةً بعد ظهورها وقبلَ بُدُوِّ صلاحِها، بحيثُ يكون على البائع مَؤُونةُ سَقْيِها وخدمتِها إلى كمال الصلاح. وهذا هو القول المعروف في مذهب الشافعي وأحمد، وهو منقول عن نصِّه. ومذهبُ أبي حنيفة في ذلك أشدُّ منعًا. وتنازع أصحابُ هذا القول: هل يجوزُ الاحتيال على ذلك بأن يُؤجر الأرضَ ويُساقِي على الشجر بجزء يسيرٍ؟ على قولين، فالمَنصوص عن أحمد أنه لا يجوز، وذكر القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال الحيل" أنه يجوز، وهو المعروف عند أصحاب الشافعي. (وتكلم الشيخ تقي الدين على فسادها من وجوهٍ، ثم قال:) فمن   (1) أخرجه البخاري (2194) ومسلم (1534) من حديث ابن عمر. وفي الباب عن غيره من الصحابة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 فعلَ ذلك وجبَ على وُلاةِ الأمرِ الحجرُ عليه، فضلاً عن إمضاء فعلِه والحكمِ بصحتِه. (ثم قال:) والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة. (ثم قال بعد استدلال وتنفيرٍ عن هذا الفعل وتقبيحه:) القول الثاني في أصل المسألة: إنه إن كان منفعة الأرض هي المقصود، والشجرُ تبعٌ، جاز أن يُؤجر الأرض، ويدخل في ذلك الشجرُ تَبعًا. وهذا مذهب مالك، وهو يقدر التابع بقدر الثلث. وصاحب هذا القول يُجوِّز من بيع الثمر قبلَ بدوِّ الصلاح ما يدخلُ ضمنًا وتبعًا، كما جاز إذا ابتاع نخلةً بعد أن تُؤَبَّر أن يشترطَ المبتاعُ ثمرتَها، كما ثبتَ ذلك في الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمبتاعُ هنا قد اشترى الثمر قبلَ بدوِّ صلاحِه لكن تبعًا للأصل، وهذا جائزٌ باتفاق العلماء، فيقيس ما كان تبعًا في الإجارة على ما كان تبعًا في البيع. والقول الثالث: إنه يجوز ضمانُ الأرض والشجر جميعًا، وإن كان الشجر أكثر. وهذا قول ابن عقيل، وهو المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه قبَّل حديقةَ أُسَيد بن حُضير ثلاثَ سنين، وأخذَ القبالةَ فوفَى بها دَيْنَه. روى ذلك حَرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في "مسائله " المشهورة عن أحمد، ورواه أبو زرعة الدمشقي وغيرهما، وهو معروف عن عمر. والحدائق التي بالمدينة يَغلِبُ عليها الشجرُ.   (1) البخاري (2204، 2716 ومواضع أخرى) ومسلم (1543) عن ابن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 قال حرب الكرماني: ثنا سعيد بن منصور، ثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أُسَيد بن حُضَير توفي وعليه ستة آلاف درهم دَين، فدعا عمر بن الخطاب غُرَماءَه، فقبَّلَهم أرضَه سنين، وفيها الشجرُ والنخلُ. وقد ذكر هذا الأثر عن عمرَ بعضُ المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب، وزعم أنه خلافُ الأجماع. وليس بشيء، بل ادّعاءُ الإجماع على جواز ذلك أقرب، فإن عمر فعلَ ذلك بالمدينة النبوية بمشهدِ من المهاجرين والأنصار، وهذه القضية في مظِنَّة الاشتهار، ولم يُنقَل عن أحدٍ أنه أنكرها، وقد كانوا يُنكِرون ما هو دونَها وإن فعلَه عمر، كما أنكر عليه عمران بن حُصَين وغيرُه ما فعلَه في متعة الحج. وإنما هذه القضية بمنزلة توريثِ عثمان بن عفان لامرأةِ عبد الرحمن بن عوف التي بَتَّها في مرض موته، وأمثال هذه القضية. والذي فعلَه عمر بن الخطاب هو الصواب، أو، إذا تدبر الفقيهُ أصولَ الشريعة، تبيَّن له أن مثل هذا الضمان ليس داخلاً فيما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا يظهر بأمور: أحدها أن يقال: معلوم أن الأرض يُمكنُ فيها الإجارةُ، ويُمكنُ فيها بيعُ حَبِّها قبلَ أن يشتدَّ، ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهى عن بيع الحبِّ حتى يَشتدَّ (1) لم يكن ذلك نهيَا عن إجارة الأرض، فإن كان مقصودُ   (1) أخرجه أحمد (3/221، 250) وأبو داود (3371) والترمذي (1228) وابن ماجه (2217) من حديث أنس بن مالك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 المستأجر هو الحبّ فإن المستأجر هو الذي يَعمل في الأرض حتى يَحصُلَ له الحب، بخلاف المشتري، فإنه يشتري حَبًّا مجردًا، وعلى البائع تمامُ خدمتِه حتى يستحصِدَ. وكذلك نهيُه عن بيع العنبِ حتى يَسْوَدَّ (1) ، ليس نهيًا عن أن يأخذ الشجر، فيقوم عليها ويَسقيها حتى تُثْمِر، وإنما النهي لمن اشترى عِنَبًا مجرَّدًا، وعلى البائع خدمتُه حتى يكتملَ صلاحُه، كما يفعلُه المشترون للأعناب التي تُسمَّى الكُرُوم. ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونَها حتى يبدوَ صلاحُها، بخلاف التضمين. الوجه الثاني: أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر، وكلاهما جائزٌ عند فقهاء الحديث، كأحمد وغيره مثل ابن خزيمة وابن المنذر، وهي أيضًا عند ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وعند الليث ابن سعدٍ وغيرهم من الأئمة جائز، كما دلَّ على جواز المزارعة سنةُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماعُ الصحابة من بعدِه. والذين نَهَوا عنها ظنُّوا أنها من باب الإجارة، فتكون إجارةً بعوضٍ مجهول، وذلك لا يجوز. وأبو حنيفةَ طردَ قياسَه، فلم يُجوِّزْها بحال. وأما الشافعي فاستثنى ما تَدعُو إليه الحاجةُ، كالبياض إذا دخلَ تبعًا للشجرِ في المساقاة. وكذلك مالك، لكن رَاعَى القلةَ والكثرةَ على أصلِه. وهؤلاء جعلوا المضاربةَ أيضًا خارجةً عن القياس، ظنًّا أنها من   (1) ضمن الحديث السابق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 باب الإجارة بعوضٍ مجهول، وأنها جُوِّزتْ للحاجة لأن صاحب النقد لا يُمكِن إجارته. والتحقيق أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات لا من باب المؤاجَرات، فالمضاربة والمساقاة والمزارعة مشاركة، هذا يُشارٍك بنفع بدنِه، وهذا بنفع مالِه، وما قَسَمَ اللهُ من رِبْحٍ كان بينهما كشَرِيْكي العنَاَن. ولهذا ليس اَلعملُ فيها مقصودًا ولا معلومًا كما يُقصد ويُعلَم في الإجارة، ولو كانت إجارة لوجبَ أن يكون العملُ فيها معلومًا. لكن إذا قيل: هي جِعالة كان أشبهَ، فإن الجعالةَ لا يكونُ العملُ فيها معلومًا، وكذلك في كل عقد جائزٍ غيرِ لازمٍ، لكن هي جعالة شرطَ فيها للعامل جزءا مما يَحصلُ بعمله. كما إذا قال الأميرُ في الغزوِ: مَن دَلَّ على مالٍ للعدوِّ فله الرُّبُعُ بعد الخمس، أو الثلث بعد الخمس، فإن هذا جائز. (ومَثَّلَ بغير هذا في جوابه، ثم قال:) والذي نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الثمرةِ ليس للمشتري في حصوله عمل أصلاً، بل العملُ كفُه على الباَئع، فإذا استأجرَ الأرض والشجر حتى حَصَلَ له ثمرٌ وزرعٌ كان كما إذا استأجر الأرضَ حتى يَحصُل له الزرعُ. الوجه الثالث: أن الثمرة تجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوهما، فيجوز أن يقف الشجرَ لينتفعَ أهلُ الوقف بممرِها، كما يقف الأرضَ لينتفع أهلُ الوقف بغَلَّتِها. (ثم تكلَّم كلامًا طويلاً في المعنى وضربَ أمثلةً، ثم قال:) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 فإن قيل: ابنُ عقيل جوَّز إجارةَ الأرض والشجر جميعًا لأجل الحاجة، وسلك مسلكَ مالكٍ، لكنْ مالك اعتبرَ القلَّةَ في الشجر، وابنُ عقيل عَمَّم، فإن الحاجةَ داعية إلى إجارة الأرض التي فيها شجر، وإفراده عنها بالإجارة متعذِّرٌ أو متعسِّر لما فيه من الضرر، فجوَّز دخولَها في الإجارة، كما جوَّز الشافعي دخولَ الأرض مع الشجر تبعا في باب المساقاة. ومن حجة ابن عقيل أن غايةَ ما في ذلك جواز بيع ثمر قبلَ بدوِّ صلاحِه تبعًا لغيره لأجل الحاجة، وهذا يجوز بالنصّ والإجماع فيما إذا باعَ شجرًا وعليها ثمر بادٍ، كالنخل المؤبَّر إذا اشترط المبتاع، فإنه اشترى شجرًا وثمرا قبلَ بدوِّ صلاحِه. وما ذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس، وأنه جائز بدون الحاجةِ حتى مع الانفراد. قيل: هذا زيادة توكيدٍ، فإن هذه المسألة لها مأخذانِ: أحدهما: أن يُسلَّم أن الأصل يقتضي المنعَ، لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة، كما في نظائره. والثاني: أن يُمنَع هذا، ويقال: لا نُسلِّم أن الأصل يقتضي المنعَ، بل نهى النبي فَيِ عن بيع الثمر حتى يبدوَ صلاحُها، فإنه إنما نهى عن بيع لا عن إجارةٍ، فنهيُه لا يتناولُ مثلَ هذه الصورة وأمثالَها من أنواع إلاجارة، لا لفظًا ولا معنى. أما اللفظ فإن هذا لم يبعْ ثمرةً قبلَ بدوِّ صلاحِها، ولو كان قد باعَ ثمرة لكان عليه مَؤُونةُ التوفية، كما لو باعَها بعدَ بُدوِّ صلاحِها، فإن مَؤُونَةَ التوفية عليه، وهنا المستأجرُ للبستان كالمستأجر للأرض سواء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 بسواءٍ إنما يتسلَّم الأصول، وهو الذي يقوم عليها حتى يشتدَّ الزرعُ ويَبدُوَ صلاحُ الثمر، كما يقوم على ذلك العاملُ في المساقاة والمزارعة، فإن جاز أن يقال: إن هذا مشترٍ للثمر فلنَقُلْ: إن المستأجر مشترٍ للزرع، وإن العامل في المساقاة والمزارعة والمضاربة مشترٍ لما يحصلُ من النماء. فإذا كان هذا لا يدخلُ في مسمَّى البيع امتنعَ شمولُ العمومِ له لفظًا. ويمتنعُ إلحاقه بذلك من جهة القياس وشمولِ العموم المعنوي له، لأن الفرقَ بينهما في غاية الظهور، فإن إلحاقَ هذه الَإجارة بإجارة الأرض لاشتراكهما في المساقاة والمزارعة وفي العارية والوقف وغير ذلك مما يجعل حكمَ أحدِهما حُكْمَ الآخر= أولى من إلحاقها بالبيع كما تقدم. فكلُّ من نظرَ في هذا نظرًا صحيحًا سليمًا تبيَّنَ له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التي تُسمَّى الضمانات، كما تسمِّيه العامةُ ضمانًا، وكما سمّاه السلفُ قبالةً، وليس هو من باب المبايعات، وأحكامُ البيع منتفية في مثل هذا، مثل كون مَؤُونةِ التوفيةِ على البائع، ومثل أنه لو باع الحبَّ بعد اشتدادِه وفرَّطَ في سَقْي الحنطةِ حتى لم يكمل صلاحُها، كان ذلك من ضمانِه ولم يستحقَّ الثمنَ. ولو قَصَّر المستأجرُ للأرض في السَّقْي وغيرِه حتى لم يَنْبُتِ الزرعُ كان ذلك من ضمانِه، لا من ضمانِ المؤجر. وكذلك بائعُ الثمرة إذا لم يَقُم بما يجب عليه من خدمتها حتى لم يكمل صلاحُها كان النقصُ من ضمانه. ومستأجرُ الشجر إذا قَصَّر في خدمتِها حتى لم تُثمِر، أو أثمرتْ ثمرًا ناقصًا، كان ذلك من ضمانه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 وكل ما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع المعدومات- مثل نهيه عن بيع الملاقيح والمضامين وحَبَلِ الحَبَلَةِ (1) ، وهو بيعُ ما في أصلابِ الفحولِ أو أرحام الإناث ونتاج النتاج، ونهيه عن بيع المُعَاوَمة وهو بيع السّنين (2) ، وأمثال ذلك- إنما هو أن يشتري المشتري تلك الأعيان التي لم تُخلَق بعدُ، وأصولُها يقومُ عليها البائع، فهو الذي يَستنتجها ويستثمرها، ويُسَلِّمُ إلى المشتري ما يحصلُ من النتاج والثمرة. وهذا هو الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه. وهذا على تفسير الجمهور في حَبَلِ الحَبَلة أنه بيع نتاج النتاج، ومن فسره بتفسير الشافعي أنه البيع إلى نتاج النتاج فإنه يكون إبطالُه لجهالةِ الأجل. وهذه البيوع التي نهى عنها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي من باب القمار الذي هو مَيْسِر، وذلك أكلُ مالٍ بالباطل، وأصحابُ هذه الأصول يُمكِنُهم تأخير البيع إلى أن يخلق الله ما يخلقه من هذه الثمار والأولاد، وإنما يفعلون هذا مخاطرةً مباختةً كفعلِ المقامرين من أهل الميسر. وأما مسألة النزاع فهي من باب الإجارات، فضمانُ البساتين لمن يقوم عليها كضمان الأرض لمن يقوم عليها فيَزْدرِعُها، واحتكار الأرض لمن يبني فيها ويَغْرِسُ فيها ونحو ذلك. وأيضًا فإن المسلمين اتفقوا على ما فعلَه أميرُ المؤمنين عمر بن   (1) أخرجه مالك في الموطأ (2/654) عن سعيد بن المسيب. والنهي عن بيع حبل الحبلة ورد في أحاديث، منها ما أخرجه مسلم (1514) من حديث ابن عمر. (2) أخرجه البخاري (2381) ومسلم (1536/85) من حديث جابر بن عبد الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 الخطاب رضي الله عنه، من ضَرْب الخراج على السَّوادِ وغيره من الأرض التي فُتِحتْ عَنْوةً، سواء قيلَ. إنه يجب في الأرض التي فُتِحتْ عَنْوةً أن تُجعَل فيئًا- كما قاله مالك وهو روايةٌ عن أحمد-؛ أو قيل: إنه يجب قِسْمتُها بين الغانمين- كما قال الشافعي، وهو رواية عن أحمد-؛ أو قيل: يُخيَّر الإمام فيها بين هذا وهذا- كما هو مذهب أبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وغيرهم، وهو ظاهر مذهب أحمد-. فإن الشافعي يقول: إن عمر استطابَ أنفُسَ الغانمين، حتى جعلَها فيئًا وضَرَبَ الخراجَ عليها. فاتفق المسلمون في الجملة على أن وضْعَ الخراج علىْ أرضِ العنوةِ جائز إذا لم يكن فيه ظلمٌ للغانمين. ثم الخراج عند أكثرهم أجرةُ الأرض، وإنه لم يُقدَّر مدةُ الإجارة لعموم مصلحتها، والخراج ضربه على الأرض التي فيها شجر والأرض البيضاء، وضرب على جَريبِ النَّخل مقدارًا وعلى جريب الكَرْم مقدارا، وهذا بعينه إجارةٌ للأرض مع الشجر، فإن كان جواز ذلك على وَفْىِّ القياس فهو المطلوب، وإن كان جوازُ ذلك للحاجة فالحاجةُ داعية إلى ذلك، فإن الناس لهم بساتين فيها مساكن، ولها أجور وافرةٌ، فإن دفعوها إلى من يعملها مساقاةً ومزارعةً تعطَّلتْ منفعةُ المساكن عليهم، كما في أرض دمشق ونحوها. ثم قد يكون وقفًا أو ليتيم ونحو ذلك، فكيف يجوز تعطيلُ منفعة المساكن المبنية في الحدائق، وقد تكون منفعة المسكن هي أكثرُ المنفعةِ، ومنفعة الزرع والشجر تابعة، فيحتاجون إلى إجارة تلك المساكن، ولا يُمكِن أن تؤجر دون منفعةِ الأرض والشجر، فإن العامل إذا كان غير الساكن تضرَّرَ هذا وهذا تضرُّرًا، الساكنُ يَبقَى ممنوعًا من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 الانتفاع بالثمر والزرع هو وعيالُه مع كونها عندهم، ويتضررون بدخولِ العامل عليهم في دارِهم. والعاملُ أيضًا لا يَبقَى مطمئنًّا إلى سلامةِ ثمرِه وزرعه، بل يخاف عليها في مغيبه، وما كلُّ ساكنٍ أمينًا، ولو كان أمينًا لم يُؤمَن الضِّيفانُ والصبيانُ والنسوانُ، وهذا كلُّه معلومٌ. فإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزابنة (1) - وهي بيعُ الرُّطب بالتمر- لما في ذلك من بيع الربا بجنسِه مجازفةً، وبابُ الربا أشرُّ من باب الميسر، ثم إنه أرخصً في العرايا أن تُباعَ بخَرْصِها لأجل الحاجة، وأمرَ رجلاً أن يبيعَ شجرةً له في ملك الغير- لتضرره بدخوله عليه- أو يَهَبَها له، فلما لم يَفْعَل أمرَ بقَلْعِها (2) ، فأوجبَ عليه المعاوضةَ لرفع الضررِ عن مالك العَقار، كما أوجبَ للشريك أن يأخذَ الشِّقصَ بثمنِه رفعًا لضرر المشاركة والمقاسمة- فكيف إذا كان الضررُ ما ذُكِر؟ ومعلومٌ أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسِد وتقليلها، وأنها تقدِّر خيرَ الخيرين بتفويت أدناهما، وتدفع شرَّ الشرين باحتمال أدناهما، والفساد في ذلك أعظم مما يُظَنُّ من حصولِ ضررٍ ما لأحدِ المتعاوضين، فإن هذا ضررٌ كبير محقَّقٌ. وذاك إن حَصَلَ فيه ضررٌ فهو يسير قليل مشكوك فيه. وأيضًا فالمساقاة والمزارعة يُعتَمد فيها أمانة العامل، وقد يتعذَّر ذلك كثيرًا فيحتاج الناسُ إلى المؤاجرة التي فيها مالٌ مضمونٌ في   (1) أخرجه البخاري (2207) من حديث أنس. والبخاري (2381) ومسلم (1536) من حديث جابر. (2) أخرجه أبو داود (3636) من حديث سمرة بن جندب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 الذمة. (ثم قال:) فهذا وجهٌ من وجوهِ جواز المؤاجرة. (ثم قال:) وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تَلِفَتْ قبلَ التمكن من استيفائها، فإنه لا يجب أجرة ذلك، مثل أن يستأجرَ حيوانًا فيموت قبل التمكن من الانتفاع به. وكذلك المبيِع إذا تَلِفَ قبلَ التمكن من قبضه، مثلَ أن يشتري قَفِيزًا من صُبْرَةٍ، فتَتْلفُ الصُّبْرةُ قبل القبضِ والتمييز، فإن ذلك من ضمان البائع بلا نزاعٍ. ولكن تنازعوا في تَلَفِه بعد التمكن من القبض وقبل القبض، كمن اشترى مَعِيبًا وتمكَّن من قَبضِه، وفيه قولان مشهوران: أحدهما أنه لا يضمنه، كقول مالك وأحمد في المشهور عنه، لقول ابن عمر: مَضَتِ السنة أن ما أدركتْه الصَّفَقَةُ حبًّا مجموعًا فهو من مال المشتري. والثاني: يَضْمنه، كقول أبي حنيفة والشافعي، لكن أبو حنيفة يستثني العقار، ومع هذا فمذهبه أن التخلية قبضٌ، كقول أحمد في إحدى الروايتين، فيتقاربُ مذهبُه ومذهبُ مالك وأحمد في المعيَّن ونحوه. وكذلك تنازعوا في الثمر إذا اشتُري بعد بدوِّ صلاحه، فتَلِفَ قبلَ كمالِ صلاحِه، فمذهب مالك وأحمد أنه يتلف من ضمان البائع، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن بعْتَ من أخيك ثمرةً فأصابتْها جائحةٌ، فلا يَحلُّ لك أن تأخذ من مالِ أخَيك شيئًا، لِمَ يأخذُ أحدُكم مالَ أخيه بغيرِ حق؟ ". ومذهب الشافعي المشهور عنه: يكون   (1) مسلم (1554) من حديث جابر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 في ضمان المشتري، لأنه تَلِفَ بعد القبض. وأما أبو حنيفة فمذهبُه أن التبقية ليست من مقتضى العقد، ولا يجوز اشتراطُها. والأولون يقولون: قبضُ هذا بمنزلةِ قبض المنفعة في الإجارة، وذلك ليس بقبضٍ تامّ يَنقُل الضمان، لأن القابضَ لم يتمكن من استيفاء المعقود عليه. وهذا طَردُ أصلهم في أن المعتبر هو القدرة على الاستيفاء المقصود بالعقد، ولهذا يقولون: لو أن المشتري فرَّطَ في قبض الثمرة بعد كمالِ صلاحِها حتى تَلِفَتْ كانت من ضمانه، كما لو فرَّط في قبض المعيّن حتى تَلِفَ، وهذا ظاهرٌ في المناسبة والتأثير، فإن البائع إذا لم يكن منه تفريطٌ فما يجب عليه. (ثم قال:) ولهذا اتفقوا على مثل ذلك في الإجارة، فإن المستأجر لو فرَّط في استيفاء المنافع حتى تَلِفَتْ كانت من ضمانِه، ولو تَلِفَتْ من غيرِ تفريط كانت من ضمان المؤجر، وفي الإجارة إذا لم يتمكن المستأجرُ من ازدراع الأرض لاَفة حصلتْ لم يكن عليه الأجرة، وإن نَبَتَ الزرعُ ثمَّ حصلت آفةٌ سماوية أتلفَتْه قبل التمكن من حَصادِه ففيه نزاع. (ثم قال:) و أصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمرة قبلَ أن يبدوَ صلاحُها، ونهى عن بيع العنب حتى يَسْودَّ، وعن بيع الحبِّ حتى يَشتدَّ، ولم يَنْهَ عن الإجارة ولا عن المساقاة والمزارعة. فالمساقاةُ والمزارعة نوعٌ من المشاركة، وهي جائزةٌ بسنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وباتفاق أصحابه وبالقياس، ويجوز ذلك على جميع الشجر، ويجوز على الأرض البيضاء والأرض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 التي فيها شجر، ويجوز سواء كان البذرُ من ربِّ الأرض أو من العامل أو منهما، بل إذا كان البذرُ من العامَل فهو أولى بالجواز، وهذا الذي عاملَ عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل خيبر، عاملَهم بشَطْر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعملوها من أموالهم. رواه البخاري في صحيحه (1) . وكذلًك الصحابة جوَّزوها على هذا الوجه. ومن قال من الفقهاء أن يكون البذرُ فيها من ربِّ الأرض قاسَها على المضاربة، إذ كان المال فيها منَ واحد والعملُ من آخر. وهو قياسٌ فاسدٌ من وجهين: أحدهما: أن المال في المضاربة يعودُ إلى المالك، ويقتسمانِ الرِّبْح، والبذرُ هنا لا يعودُ إلى العامل، فلو كان يجري مجرى المال لوجبَ أن يعودَ نظيرُه إلى صاحبه، فعُلِمَ أنهم جعلوه من باب الأعيان التي تجري مجرى المنافع، كاَلماء الذي تُسقَى به الأرضُ والعَلَفِ الذي تُعلَف به البقر. الوجه الثاني: أنه في المضاربة لو كان من هذا مالٌ والعملُ، ومن هذا مالٌ والعملُ من أحدهما لجاز ذلك في أصحّ قولي العلماء. فيجوز ببدنَيْنِ ومالٍ، ومالٍ وبَدَنينِ، فكذلك يجوز نظيرُه في المساقاة والمزارعة. وكذلك المؤاجرة، لم يَنْهَ عنها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل ما نهى عنه من كِراءِ الأرض ومن المخابرة فهو ما كانوا يفعلونه، وهو أن يشترط ربُّ الأرض زرعَ بُقْعَةٍ بعينها، فهذا لا يجوز. وإذا كانت الإجارةُ   (1) برقم (2720) من حديث ابن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 صحيحةً فإنها تصحّ، سواء كانت الأرض تبعًا ليس فيها شجرٌ ولا بناء، أو كان فيها بناء أو بناءٌ وشجرٌ، أو كان فيها بياضٌ أو شجرٌ، أو فيها بناءٌ وبياض، فكلُّ هذا من باب الإجارة لا من باب بيع الثمر قبلَ بدوِّ صلاحها. كما أن الإجارةَ في الأرض البيضاء لمن يَزدرعُها ليس من باب بيع الحبِّ قبلَ أن يَشتدَّ، وذلك أن المبيع هو عينٌ يجب على البائع تسليمُها، فإذا باعَ الثمرةَ أو الحبَّ كان على البائع السَّقْيُ والخدمة وشَقُّ الأرض وغيرُ ذلك، حتى تكمُلَ الثمرةُ والزرعُ. وإذا آجَر أرضًا بيضاءَ أو أرضًا فيها شجرٌ وبياضٌ أو شجرٌ محضٌ كان المستأجر هو الذي يَسْقِي ويَخدِم ويَشُق الأرض، حتى يَحصُلَ الثمرُ والزرعُ بعملِه، كما يَحصُلُ في المساقاة والمزارعة، لكن في المساقاة والمزارعة يستحقُّ جزءًا شائعًا من الثمر والزرع، وفي الإجارة يَستحقُّ جميعَ الثمر والزرع، وعليه الأجرة المسمَّاةُ في ذمته. وإذا استأجر العبدَ أو الأمةَ سواء كانت ظِئْرًا أو غيرَ ظِئْرٍ، فهذا على وجهين: تارةً يستأجرها بأجرةٍ مسمَّاةٍ، وتارةً يَستأجرها بطعامِها وكسوتها بالمعروف، وذلك جائزٌ في أظهر قولَي العلماء. وعلى هذا فإذا استأجر بقرًا أو نوقًا أو غنمًا أيام اللبن بأجرةٍ مسمَّاةٍ وعَلَفُها على المالك، أو بأجرةٍ مسمَّاةٍ مع عَلَفِها على أن يأخذ اللبنَ- جاز ذلك في أظهرِ قولي العلماء، كما في الظِّئر. وهذا يُشبِه البيعَ ويُشبه الإجارةَ، ولهذا يذكره بعضُ الفقهاء في البيع وبعضُهم في الإجَارة. لكن إذا كان اللبن يَحصُل بعَلفِ المستأجر وقيامِه على الغنم فإنه يُشبِه استئجارَ الشجر، وإن كان المالك هو الذي يَعلفُها، وإنما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 يأخذُ المشتري لبنًا مقدرا، فهذا بيع محض، وإن كان يأخذُ اللبنَ مطلقًا فهو بيع أيضًا، فإن صاحبَ الغنم يوفيه اللبنَ، بخلاف الظِّئر فإنها هي تَسْقِي الطفل. وليس هذا داخلاً فيما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الغَرر (1) ، لأنّ الغرر ما يتردَّدُ بين الوجود والعدم، فنهى عن بيعه لأنه من جنس القِمار الذي هو الميسر، والله حرَّم ذلك لما فيه من أكل المال بالباطل، وذلك من الظلم الذي حرَّمه الله تعالى. (ثم قال:) فأما إذا كان شيئًا معروفًا بالعادة، كمنافع الأعيان في الإجارة، مثل منفعة الأرض والدابَّة، ومثل لبنِ الظِّئر المعتاد، ولبن البهائم المعتاد، ومثل الثمر والزرع المعتاد- فهذا كلُّه من بابِ واحدٍ، وهو جائز. ثمَّ إن حَصَلَ على الوجه المعتاد، وإلاّ حُطَّ عن الَمستأجر بقدرِ ما فاتَ من المنفعة المقصودة. وهو مثل وضع الجائحةِ في البيع، ومثل ما إذا تَلِفَ بعض المبيع قبلَ التمكن من القبض في سائر البيوع. وهذا الذي ذكرناه من ضمان البساتين هو فيما إذا ضمنَه على أن يعمل الضامن حتى يَحصُلَ الثمرُ والزرعُ، فأما إذا كان الخدمةُ والعملُ على البائع فهذا بيع، كما يُباع العنبُ بعد بدوِّ صلاحِه، وكما يضمن البستانُ زمنَ الصيفِ لمن يَسكُنه ويأكل فاكهته، وإذا كان بيعًا محضا لم يَجُزْ إلا بعدَ بدوِّ صلاحِه، لكن إذا بَدَا صلاحُ بعضِ الشجر جازَ بيع جميعِها بلا نزاعٍ، وكذلك يجوز بيعُ سائر ذلك النوع في ذلك البستان في سائر البساتين في أشهر قولَي العلماء.   (1) أخرجه مسلم (1513) من حديث أبي هريرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 وإذا كان البستان أجناسًا، كالعنب والرُّطَب والتفاح والمشمش والتُّوت، فَبَدَا الصلاحُ في جنسٍ من ذلك، جازَ بيعُ جميع ما في البستان من ذلك في أحد قولَيْهم أيضًا، لأن الشرط في المبيع أن يبدوَ صلاحُ بعضه لا صلاحُ كلِّ جزءٍ منه، إذا كان مما يُباعُ جملةً في العادة. ومعلومٌ أنه إذا كان فيه نخيلٌ وأعنابٌ كان بيعُ بعضِ النخيلِ دونَ بعضٍ فيه مشقَّةٌ، فجوِّزَ بيعُ الجميع. وهكذا إذا كان عنبًا ورُمَّانًا وجوزًا ونحو ذلك فبيعُ بعضِ هذه الأجناس دونَ بعضٍ فيه مشقةٌ، كما في بيعٍ بعض النخيل دونَ بعضٍ فإن المشتري إن لم يَشترِ الجميعَ لم يَرض بشراءِ البعضِ، إذ لا يمكِن أن يدخل عليه غيره في البستان من المشتري، ففي بيع بعض البستان دون بعضٍ ضررٌ على البائع والمشتري، ولا فسادَ في بيع الجميع. بل إن قيل: قد تُصيبه جائحةٌ فلا يثمر الباقي، قيل: هذا بمنزلة الجائحة فيما بَدَا صلاحُه، وقد أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضع الجائحة (1) . والشارعُ بُعِث بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فنهى عن بيع الثمار قبلَ بدوِّ صلاحها لما فيه من المخاطرة من غير حاجة، وأما بعد بدوِّ صلاحِها فهم محتاجون إلى بيعها في هذه الحال وإن كان فيه نوع مخاطرةٍ، لأن المنع من ذلك أشدُّ ضررًا على الناس من المخاطرة، كما في الإجارة، لأن المنع منها أشدُّ ضررًا من إباحتها مع المخاطرة، ثم إنه جَبَر هذا الضررَ بوضعِ الجوائح، فما تَلِفَ   (1) أخرجه مسلم (1554) من حديث جابر بن عبد الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 قبلَ التكمن من قبضِه كان من مالِ البائع كالمؤجر، وأما إذا تمكَّن من الجَداد والحَصادِ ففرَّطَ حتى تَلِفَتِ العينُ، أو أَخَّر ذلك لطلب ارتفاع السِّعْر فإن الضمان هنا يكون من ماله. والله سبحانه أعلم (1) .   (1) في آخر النسخة: "قال الناقل لنفسه- عفا الله عنه-: اختصرتُ جوابَ الشيخ تقي الدين، وحذفتُ منه المكرر وغيره، والله أعلم ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423