الكتاب: العدة في أصول الفقه المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458هـ) حققه وعلق عليه وخرج نصه: د أحمد بن علي بن سير المباركي، الأستاذ المشارك في كلية الشريعة بالرياض - جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية الناشر: بدون ناشر الطبعة: الثانية 1410 هـ - 1990 م عدد الأجزاء: 5 أجزاء في ترقيم مسلسل واحد   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] الإصدار 2: تم مراجعة الكتاب وإصلاح الكثير من الأخطاء الإملائية ---------- العدة في أصول الفقه أبو يعلى ابن الفراء الكتاب: العدة في أصول الفقه المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458هـ) حققه وعلق عليه وخرج نصه: د أحمد بن علي بن سير المباركي، الأستاذ المشارك في كلية الشريعة بالرياض - جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية الناشر: بدون ناشر الطبعة: الثانية 1410 هـ - 1990 م عدد الأجزاء: 5 أجزاء في ترقيم مسلسل واحد   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] الإصدار 2: تم مراجعة الكتاب وإصلاح الكثير من الأخطاء الإملائية ـ[العدة في أصول الفقه]ـ المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458هـ) حققه وعلق عليه وخرج نصه: د أحمد بن علي بن سير المباركي، الأستاذ المشارك في كلية الشريعة بالرياض - جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية الناشر: بدون ناشر الطبعة: الثانية 1410 هـ - 1990 م عدد الأجزاء: 5 أجزاء في ترقيم مسلسل واحد [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]   الإصدار 2: تم مراجعة الكتاب وإصلاح الكثير من الأخطاء الإملائية المجلد الأول المقدمة الافتتاحية ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين. وبعد فقد كان لاختيار هذا الموضوع أسبابه ودواعيه، يمكن تلخيصها فيما يلي: 1- قيمة الكتاب العلمية، شكلا وموضوعًا، فهو غزير في مادته حسن في ترتيبه وتبويبه. 2- واعتماد المؤلف على مصادر أصيلة، في الأصول والفروع واللغة والنحو وغير ذلك، وبخاصة رسائل الإمام أحمد، وكتب أصحابه المتقدمين. 3- ومؤلف هذا الكتاب هو الإمام أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي، شيخ الحنابلة في عصره، وناشر مذهبهم أصولا وفروعًا في وقته، فقد كان له الفضل الأكبر في جمع شتات أصول الحنابلة وتقعيدها، كما كان له الفضل في تفصيل وبيان مسائل الفقه الحنبلي، وكل من جاء بعده فهم عيال عليه في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 4- ثم إن إخراج هذا الكتاب ونشره، سيغير من الصورة في أذهان طلاب العلم عن أصول الفقه عند الحنابلة، ومدى استقلالها من عدمه، إذ لا يوجد كتاب متداول يمثل رأي الحنابلة بجلاء ووضوح، إذا ما استثنينا كتاب:"روضة الناظر" لابن قدامة، و"شرح الكوكب المنير" لأبي البقاء الفتوحي، اللذين طبعا طباعة سيئة، مليئة بالأخطاء والتحريفات بالإضافة إلى أن المؤلفين من متأخري الحنابلة، الذين لا يضارعون أبا يعلى، لا في الأصول ولا في الفروع. 5- وبالإضافة إلى ما سبق أريد أن أشارك بإخراج كتاب من روائع تراثنا الإسلامي الضخم، لعلي بذلك أكون قد قمت ببعض الواجب؛ خدمة للعلم، وابتغاء للأجر والمثوبة من الله تعالى. ومن أول يوم سجلت فيه الموضوع شمرت عن ساعد الجد، وأول عمل قمت به هو جمع المصادر والمراجع المخطوطة، سواء كانت للمؤلف، أم كانت لغيره مما يتعلق بالبحث، ولو من بعيد. فبدأت بزيارة مكتبات القاهرة العامة، فزرت دار الكتب المصرية فوجدت فيها إضافة إلى "العدة في أصول الفقه" كتاب "التعليق الكبير في المسائل الخلافية" للقاضي أبي يعلى، ووجدت أيضًا كتاب "الفصول" أو "أصول الجصاص" وقد أفدت من هذا الكتاب الأخير في التحقيق؛ لأنه من أهم المراجع التي استعان بها القاضي أبو يعلى في كتابه "العدة". كما وجدت كتاب "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" للمرداوي الحنبلي، الذي عنى كثيرًا بتسجيل آراء واختيارات القاضي أبي يعلى. ثم زرت معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية، فوجدت به للمؤلف زيادة على ما ذكر كتاب "الروايتين والوجهين" كما وجدت كتاب "الجدل" لأبي الوفاء بن عقيل تلميذ المؤلف، وجزءًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 من كتاب "الفصول" له، علاوة على كتاب "الإشراف على مذاهب الأشراف" للوزير يحيى بن هُبَيرة الشيباني الحنبلي. وقد قمت بتصوير تلك المخطوطات على ميكرو فيلم، ثم كبرتها بعد ذلك، عدا كتاب"الفصول في أصول الفقه" للجصاص، فلم أصوره، بل رجعت إلى نفس المخطوطة عند الاحتياج إليها. وبعد ذلك شددت الرحال إلى المملكة العربية السعودية، فزرت مكتبات مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف والرياض، أفتش عن نسخة ثانية للعدة، وعن تراث المؤلف بصفة عامة، فلم أظفر بشيء من ذلك. ومن المعلوم أن المكتبة الظاهرية تحوي كثيرًا من تراث الحنابلة في التفسير والحديث والأصول والفقه وغيرها، لذلك فقد صورت منها على ميكروفيلم "62" مخطوطة مما ألفه علماء الحنابلة في شتى العلوم، سوى بعض كتب قليلة جدًّا لغيرهم، صورت ضمن المجاميع، ثم كبرت تلك المخطواطات فيما بعد، واخترت منها المخطوطات التي لها صلة بالبحث وهي: أولا: مؤلفات القاضي أبي يعلى: 1- الأمالي في الحديث. 2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- شرح مختصر الخرقي. 4- الفوائد الصحاح العوالي والأفراد والحكايات. 5- كتاب الإيمان. 6- مختصر المعتمد. ثانيًا: مؤلفات تلاميذه: 1- التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب الكلوذاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 2- الواضح في أصول الفقه، لأبي الوفاء بن عَقيل البَغدادي. ثالثًا: مؤلفات لغير مَنْ ذكر: 1- الأشربة: للإمام أحمد. 2- مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله. 3- مسائل الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، رواية المروزي. 4- التمام لما صح في الروايتين: لابن أبي يعلى. 5- شرح الطوفي على مختصر الروضة. 6- مختصر أصول ابن اللحام. ومما يستغرب أنه لا يوجد -حسب علمي- في مكتبات بغداد العامة أي مؤلف مخطوط للقاضي أبي يعلى مع أنه بغدادي الولادة والمنشأ والوفاة، اللهم إلا كتاب "العمدة في أصول الفقه"، الذي لم يكتب عليه اسم مؤلفه، ولكن بعد تصويره والاطلاع عليه، ثبت أنه للقاضي أبي يعلى. وبعد الحصول على المخطوطات والفراغ من تصويرها، استكملت شراء بعض المراجع المطبوعة، لأتمكن من اختصار الزمن والجهد، وبعد ذلك شرعت في العمل مستعينًا بالله -تعالى- مواصلا البحث والاطلاع آناء الليل وأطراف النهار، باذلا الغالي والرخيص، ويكفي أنني أفنيت فيه خمس سنين من عمري، حتى خرج على هذا الشكل والمضمون. وبعد فهذا جهد المقل، فإن أكن قد وفقت فيه فذلك بفضل الله وكرمه، وإن كانت الأخرى -لا سمح الله- فعزائي أنني اجتهدت، ولكل مجتهد نصيب. ولا أنسى أن أتقدم بالشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي أتاحت لي الفرصة، وسهلت لي السبيل بابتعاثي على حسابها لمواصلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 دراستي، ضارعًا إلى الله -تعالى- أن يوفق القائمين عليها لخدمة الإسلام والمسلمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور: أحمد بن على بن أحمد سير المباركي القاهرة: الثلاثاء: 30/ رمضان سنة 1397هـ، الموافق 14/ سبتمبر سنة 1977م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 التعريف بالمؤلف *: اسمه، ونسبه : هو العالم العلامة شيخ الحنابلة في عصره الإمام محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، القاضي، أبو يعلى، البغدادي، الحنبلي، المعروف في زمانه بابن الفراء، والفراء نسبة إلى خياطة الفراء وبيعها. واشتهر بعد ذلك بالقاضي أبي يعلى1. هكذا ذكر اسمه واسم أبيه في جميع مراجع ترجمته التي تمكنت من الاطلاع عليها، عدا السمعاني في كتابه: "الأنساب"2، وابن كثير في كتابه: "البداية والنهاية"3، فقد ذكرا أن اسم أبيه الحسن بالتكبير، وهذا خطأ، يدل على ذلك أمور:   * هذه لمحة موجزة عن المؤلف، انتزعناها من القسم الدراسي "القسم الأول من رسالة الدكتوراه". 1 "تاريخ بغداد" "2/ 256" و"طبقات الحنابلة" "2/ 193"، و"اللباب" "2/ 413" و"سير أعلام النبلاء" "الورقة 168/ أ- القسم الثاني من الجزء الحادي عشر". 2 ص "419، 420". 3- "12/ 94" طبعة مكتبة المعارف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الأول: أن العمدة في ترجمة القاضي أبي يعلى هما: الخطيب البغدادي وابن أبي يعلى، الأول في "تاريخه"، والثاني في "طبقاته" وقد ذكراه باسم "الحسين" مصغرًا، وهما ألصق به وأعرف الناس بشئونه، فالأول تلميذه، والثاني ابنه، وحسبك بالمنزلتين قربًا ومعرفة. الثاني: أن صاحب "اللباب" قد صحح ما أخطأ فيه السمعاني في "أنسابه" فقد ذكره باسم الحسين مصغرًا1. الثالث: أن ابن كثير عندما ترجم لوالد القاضي أبي يعلى في كتابه: "البداية والنهاية"2، ذكره باسم الحسين مصغرًا. الرابع: أن اسمه في الموجود من مؤلفاته: محمد بن الحسين بالتصغير. الخامس: أن هناك كثيرًا ممن ترجموا للقاضي، ذكروا أن اسم أبيه هو "الحسين" بالتصغير منهم ابن الجوزي في كتابه: "المنتظم"3، وفي كتابه: "مناقب الإمام أحمد"4، وابن الأثير في كتابه: "الكامل"5، والذهبي في كتابه: "العبر في خبر من غبر"6، وفي كتابه: "سير أعلام النبلاء"7، وفي كتابه: "دول الإسلام"8، والعليمي في   1 "اللباب" "2/ 413". 2 "11/ 327". 3 "8/ 243". 4 ص: 520. 5 "10/ 18". 6 "3/ 243". 7 ورقة "168/ أ" القسم الثاني من الجزء الحادي عشر. 8 ص: 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 كتابه: "المنهج الأحمد"1، وابن العماد في كتابه: "شذرات الذهب"2، والنابلسي في كتابه: "مختصر طبقات الحنابلة"3، والصفدي في كتابه: "الوافي بالوفَيَات"4، وبروكلمان في كتابه: "تاريخ الأدب العربي"5 والزركلي في كتابه: "الأعلام"6، وابن تغري بردي في كتابه: "النجوم الزاهرة"7. وقد كانت أسرةُ أبي يعلى أسرةَ علم ومعرفة، فأبوه أبو عبد الله الحسين بن محمد الفقيه الحنفي، أحد العلماء الصالحين الموصوفين بالزهد والورع والتقى: أسند الحديث، ودرس الفقه على أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص، وكان من المكرمين عنده، حدث أن مرض أبو عبد الله مائة يوم، زاره الرازي فيها خمسين مرة، ولما بلَّ من مرضه، قال له الرازي معتذرًا: مرضت مائة يوم، فعدناك خمسين يومًا، وذاك قليل في حقك. روى عن جماعة، وعنه ابنه أبو خازم محمد بن الحسين، عرض عليه منصب القضاء، فامتنع منه. قال عنه الذهبي: "كان من أعيان الحنفية، ومن شهود الحضرة". مات في سنة: 390هـ، ولابنه أبي يعلى عشر سنين إلا أيامًا8.   1 "2/ 105". 2 "3/ 306". 3 ص: 377. 4 "3/ 7". 5 "1/ 502" في النص الألماني. 6 "6/ 331". 7 "4/ 201". 8 البداية والنهاية "11/ 327"، وسير أعلام النبلاء الورقة "168/ أ" القسم الثاني من الجزء الحادي عشر، وطبقات الحنابلة "2/ 194" والمنتظم "7/ 210". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وكان جده لأمه: عبيد الله بن عثمان بن يحيى أبا القاسم الدقاق، المعروف بابن "جليقا" بالجيم واللام والمثناة التحتية بعد قاف ممدودة، أو ابن "جنيقا" بإبدال اللام نونًا، نسبة إلى أحد أجداده. ولد جده المذكور سنة "318هـ"، وكان ثقة مأمونًا مكثرًا. روى عن المحاملي، وعنه العتيقي والأزهري وابن بنته أبو يعلى. قال عنه أبو الفوارس: "كان ثقة مأمونًا، حسن الخلق، ما رأينا مثله في معناه". وقال ابن الجوزي: "كان صحيح السماع، ثبت الرواية". مات في شهر رجب سنة "390هـ"1. وتقف المصادر التي اطلَعت عليها على ما ذكرت من أجداد القاضي أبي يعلى، غير ذاكرة أصله الذي ينتمي إليه، وإنما اكتفت بأنه بغدادي المولد والنشأة والوفاة.   1 البداية والنهاية "11/ 326"، وتاريخ بغداد "10/ 377"، واللباب "1/ 299"، والمنتظم "7/ 210". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 مولده : ولد القاضي أبو يعلى في شهر محرم لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين خلون منه، سنة ثمانين وثلاثمائة هجرية. نقل ذلك الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"1، قال: "حدثني أبو القاسم الأزهري، قال: كان أبو الحسين بن المحاملي يقول: ... سألته -أي القاضي أبا يعلى- عن مولده، فقال: ولدت لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة ثمانين وثلاثمائة".   1 "2/ 256". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وهذه الرواية هي التي عوَّل عليها المؤرخون في ذكر مولده، ولم أجد أحدًا خالف في ذلك فيما اطلعت عليه من المراجع1.   1 راجع في هذا: "البداية والنهاية" "12/ 94"، طبعة مكتبة المعارف و"طبقات الحنابلة" "2/ 195" و"الكامل" "10/ 18" و"المنتظم" "8/ 243"، و"المنهج الأحمد" "2/ 105". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 نشأته وطلبه العلم وأهم أعماله : ولد القاضي أبو يعلى في بغداد كعبة العلم وقبلة العلماء وحاضرة العالم الإسلامي في ذلك العصر، بل حاضرة العالم كله، فقد كانت النهضة العلمية آنذاك مكتملة الأسباب متوفرة الدواعي، ولم تكن تلك النهضة خاصة بعلم دون آخر، بل كانت شاملة للنواحي العملية المتعددة، فكان في كل علم أساتذته وطلابه، كما كان في كل علم مكتبته ورواده. في هذه البيئة العلمية نشأ أبو يعلى وترعرع. بالإضافة إلى ذلك فقد توفر لأبي يعلى بيت علمي، يتعاون مع البيئة العلمية العامة، فقد كان أبوه على جانب كبير من العلم والفقه، لذلك حرص على تعليم ابنه وتنشئته تنشئة علمية صالحة، وكان يتولى بنفسه تعليم فتاهُ. وكانت مدرسة الحديث آنذاك عامرة بشيوخها، فبدأ الطفل في التلقي والسماع، وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره، وكان أول سماعه من المحدث علي بن معروف1. لم يمهل والد الغلام، حتى يرى ثمرة غرسه، فتمتد يد المنون إليه،   1 "سير أعلام النبلاء" الورقة "167/ ب" الجزء الحادي عشر و"طبقات الحنابلة" "2/ 195". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فتخترمه، وذلك في سنة: 390هـ، ولغلامه من العمر عشر سنين إلا أيامًا1. ويشاء الله -تعالى- أن يعيش الغلام هذه الفترة يتيمًا، ولعل ذلك سر من أسرار نبوغه وتفوقه، إذ إن كثيرًا من العباقرة والأفذاذ ينشئون غالبًا يتامى؛ ليتمرنوا على شظف العيش وقسوة الحياة؛ ليخرجوا بعد هذه المعاناة، وهم أشد ما يكونون صلابة عود ومضاء عزيمة. ولكن أباه قبل أن يفارق الدنيا أوصى بتربية ابنه والقيام بشئونه إلى رجل يعرف بالحربي، كان يسكن بحي في بغداد يقال له: "دار القز"، فانتقل الصبي إلى مكان وصيه بعد أن كان يسكن "باب الطاق" -حي من أحياء بغداد أيضًا. وفي "دار القز" هذا، كان فيه رجل صالح، يعرف: بابن مفرحة المقرئ، كان يقرئ القرآن في مسجد بهذا الحي، ويلقن طلابه بعض العبارات من "مختصر الخرقي" فقصده الصبي، وتلقى عنه ما كان يستطيع ذلك المقرئ أداءه، ولكن التلميذ طلب من معلمه الزيادة فأجابه بأسلوب المتواضع العارف قدر نفسه: "هذا القدر الذي أحسنته، فإن أردت زيادة، فعليك بالشيخ أبي عبد الله بن حامد، فإنه شيخ هذه الطائفة"2. وينتهي هذا الطور من حياة هذا الغلام؛ لينتقل إلى الطور الثاني، وهو طور اتصاله بالشيخ أبي عبد الله الحسن بن حامد الحنبلي وتفقهه عليه. كان الشيخ ابن حامد -رحمه الله تعالى- إمام الحنابلة في عصره في   1 "سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ أ" الجزء الحادي عشر، و"طبقات الحنابلة" "2/ 194". 2 طبقات الحنابلة "2/ 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بغداد، وكان يدرس بها المذهب الحنبلي أصولا وفروعًا، فأَمَّه الغلام أبو يعلى، وصحبه، وتتلمذ عليه، حتى حاز رضا شيخه وإعجابه، وفاق زملاءه وأقرانه، ولذلك لما سئل عمن يقوم بالتدريس أثناء غيابه في الحج، أجاب بقوله: هذا الفتى، وأشار إلى القاضي أبي يعلى1. ولم يكن أبو يعلى مقتصرًا على تعلم الفقه وأصوله، بل سمع الحديث وأكثر من ذلك، فسمع من أبي القاسم بن حبابة وعلي بن عمر الحربي وأبي القاسم موسى السراج وأبي الحسين السكري وغيرهم2. كما تعلم علوم القرآن وقرأ بالقرءات العشر3. وقد رحل في طلب العلم إلى مكة المكرمة ودمشق الفيحاء، وحلب الشهباء، وهناك سمع الحديث من بعض محدثيها4. وفي سنة "403هـ" يلتحق الشيخ ابن حامد بالرفيق الأعلى، حيث وافته منيته، وهو راجع من الحج5. ويتلقى التلميذ نبأ الفاجعة بصبر وثبات، ويمضي قدمًا في إكمال رسالة شيخه، فيتربع على كرسي التدريس والإفتاء على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى. ومن هنا يبدأ الدور الثالث في حياة الرجل، طور النضوج، طور تحمل المسئولية بكل تبعاتها، فيعكف على التأليف والتصنيف في شتى   1 طبقات الحنابلة "2/ 195". 2 "طبقات الحنابلة" "2/ 195"، و"سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ أ" الجزء الحادي عشر، و"المنتظم" "8/ 243". 3 طبقات الحنابلة "2/ 200"، و"سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ ب". 4 المرجعان السابقان. 5 "طبقات الحنابلة" "2/ 195". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 العلوم الإسلامية، وبخاصة والرجل قد جمع كثيرًا من الكتب، والمسائل التي نقلها الأصحاب عن الإمام أحمد، الأمر الذي جعله على دراية كاملة بأصول وفروع مذهب إمامه. وفي سنة: 414هـ نجده يسافر إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ثم يعود بعد ذلك إلى بغداد لمواصلة التدريس والتأليف والإفتاء1.   1 المرجع السابق "2/ 196". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 توليه التدريس : أشرنا فيما تقدم أن الشيخ ابن حامد -رحمه الله- كان هو القائم بتدريس الفقه وأصوله على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وكان القاضي أبو يعلى يتولى التدريس أثناء غياب شيخه ابن حامد بأمر منه. ولكن لما انتقل ابن حامد إلى جوار ربه، كان لزامًا على القاضي أبي يعلى أن يشغل الفراغ الذي تركه شيخه، فيجلس على كرسي التدريس يتصدى للإفتاء. وتمضي الليالي والأيام، وقافلة الخير تسير بأمر ربها، فليس هناك إلا بحث واطلاع وتدريس وإفادة، فيذيع صوت هذا الشاب، وتتناقل الأخبار عن فتى بغداد الحنبلي، فيدلف الناس إليه زرافات ووحدانًا، يسمعون منه، ويقرءون عليه، ويسألونه عما أشكل عليهم. ويحكي لنا ابنه أبو الحسين ما كان عليه الازدحام على حلقة والده في جامع المنصور ببغداد، فيقول: "وقد حضر الناس مجلسه، وهو يملي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد صلاة الجمعة بجامع المنصور على كرسي عبد الله ابن إمامنا أحمد -رضي الله عنه- وكان المبلغون عنه في حلقته والمستملون ثلاثة أحدهم: خالي أبو محمد جابر. والثاني: أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 منصور الأنباري، والثالث: أبو علي البرداني. وأخبرني جماعة من الفقهاء ممن حضر الإملاء أنهم سجدوا في حلقة الإملاء على ظهور الناس؛ لكثرة الزحام في صلاة الجمعة في حلقة الإملاء"1. وكانت هذه المدرسة تعج بفطاحل العلماء الأجلاء، الذين حملوا الراية بعد شيخهم، ومِنْ ألمع هؤلاء أبو الوفاء ابن عقيل وأبو الخطاب الكلوذاني والخطيب البغدادي وغيرهم. وبذلك يعتبر القاضي أبو يعلى هو الذي نشر مذهب الإمام أحمد في هذه الفترة، وأحيا ما انْدَرَسَ من معالمه، فقد تخرج على يديه الجم الغفير من الحنابلة، كما ألَّف في المذهب -أصولا وفروعًا- الكتب الكثيرة، التي تعتبر أهم المصادر التي حفظت لنا المذهب الحنبلي بعد المسائل التي دونت عن أحمد ووصلت إلينا، ولذلك لا نجد أحدًا بلغ مبلغه فيمن أتى بعده، بل كلهم عيال عليه.   1 "المرجع السابق" "2/ 200". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 تولِّيه القضاء: لما برز القاضي أبو يعلى، وعرف الناس قدره ومكانته العلمية وزهده وورعه، قصده الشريف أبو علي بن أبي موسى؛ ليشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا فامتنع، وأبى ذلك إباءً شديدًا1. ثم كرر الطلب، فأجاب بعد إلحاح، وشهد عند قاضي القضاة ابن ماكولا، فقبل شهادته، وذلك في يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة 440هـ2، وكان ابن ماكولا يجله ويحترمه.   1 "المرجع السابق" "2/ 196، 197". 2 "المنتظم" "8/ 136". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ولما توفي رئيس القضاة ابن ماكولا في شهر شوال سنة: "447هـ"1، وشغر بذلك منصب القضاء، خوطب القاضي أبو يعلى لِيَلِي القضاء بدار الخلافة والحريم، فامتنع من ذلك، ثم قَبِلَ بعد أن كرر عليه السؤال، واشترط لقبوله شروطًا منها: أنه لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان، وفي كل شهر يقصد "نهر الْمُعَلَّى" يومًا، و"باب الأزج" يومًا، ويستخلف من ينوب عنه في "الحريم"، فأجيب إلى ذلك2. وقد قلد القضاء في الدماء والفروج والأموال، وأضيف إليه بعد ذلك قضاء "حرَّان" و"حلوان" فاستناب فيهما. ولم يكن باستطاعة واحد أن يقوم بالقضاء في كل هذه الجهات، لذلك نجد أبا يعلى قد رد القضاء في عدة أبواب إلى من يثق به، فجعل قضاء "باب الأزج" إلى الجيلي، ولما تبين عدم صلاحيته عزله، وجعل النظر في عقود الأنكحة والمداينات بالباب المذكور إلى تلميذه أبي علي يعقوب، كما جعل النظر في العقار في "باب الأزج" أيضًا إلى أبي عبد الله بن البقال. واستناب بدار الخلافة و"نهر المعلى" أبا الحسن السيبي. وظل القاضي أبو يعلى في هذا المنصب الخطير إلى أن انتقل إلى جوار ربه تعالى3.   1 "شذرات الذهب" "3/ 275". 2 "طبقات الحنابلة" "2/ 198، 199". 3 "المرجع السابق" "2/ 199، 200". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 زهده وورعه وثناء الناس عليه : من الصفات المحمودة في العالم تحلِّيه بالتقوى والزهد والورع مع صبر وتجمل، ومعنى ذلك أن تعرض له الدنيا بمفاتنها وإغراءاتها فينصرف عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 انصراف الزاهد فيها، المكتفي منها بما يسد الرمق، ويقيم الأود، وليس الزاهد الورع الذي لم يمكن من الدنيا، ولو مكن منها لأتى بالعجائب. وقد كان القاضي أبو يعلى من النوع الأول مع صلابة في الدين، وجرأة في الحق، يزينهما حلم وأناة، ولذلك لم يعرف عنه أنه قَبِلَ من حاكم صلة أو عطية، كما لم يعرف منه الوقوف على أبواب الحكام والسلاطين من أجل الدنيا، مع الفقر والحاجة، فقد كان -في بعض الأوقات- يقتات من الخبز اليابس، يبله في الماء ويأكله، حتى لحقه المرض من ذلك1. ولما عرض عليه منصب القضاء امتنع منه، وبعد إلحاح قبله بشروط: أن لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان2. فهذه الشروط الثلاثة تدل دلالة واضحة على ما للرجل من قدم صدق في عدم التهافت على مطامع الدنيا والافتتان بمظاهرها، ولو لم يكن كذلك لما فوت تلك الفرص الذهبية، التي تضفي على أقل الناس منصبًا هالة من العظمة والجلال، فكيف بعالم بغداد وقاضيها، ولكنه الطمع فيما عند الله تعالى، والزهد فيما عند الناس، ولقد صدق الجرجاني حيث قال: ولم أقض العلم، إن كان كُلَّمَا ... بَدَا طمع، صيرته لي سلمًا وما زلت منجازًا بعرضي جانبًا ... من الذل، اعتد الصيانة مغنمًا إذا قيل: هذا منهل، قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظَّمَا3   1 طبقات الحنابلة "2/ 223". 2 المرجع السابق "2/ 199". 3 "المنتظم" "7/ 221" في ترجمة الجرجاني، و"صفحات من صبر العلماء" لأبي غدة ص: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 مرض الخليفة القائم بأمر الله، فلما عوفي، ذهب أبو يعلى لتهنئته، فلما خرج من عند الخليفة، أتبع بجائزة سنية، وسئل قبولها، فأبى إباءً شديدًا، وامتنع منها1. وبزهد القاضي أبي يعلى وورعه وفضله شهد العلماء، فهذا أبو نصر عبيد الله بن سعيد السجزي الحافظ، يكتب للقاضي كتابًا يقول فيه: كتابك سيدي لما أتاني ... سررت به، وجدد لي ابتهاجا وذكرك بالجميل لنا جميل ... يقلدنا ولم نخرج مزاجا جللت عن التصنع في وداد ... فلم نَرَ في توددك اعوجاجا وقد كثر المداجي والمرائي ... فلا تحفل بمن راءى وداجا حييت معمرًا وجزيت خيرا ... وعشت لدين ذي التقوى سراجا2 وقال فيه الخطيب البغدادي3: "كتبنا عنه، وكان ثقة"ونقل عن ابن الفراء المحاملي قوله: "ما تحاضرنا أحد من الحنابلة أعقل من أبي يعلى بن الفراء". وقال ابن الجوزي4: " ... وجمع الإمامة والفقه والصدق وحسن الخلق والتعبد والتقشف والخضوع وحسن السمت والصمت عما لا يعني، واتباع السلف". وقال الذهبي5: "وكان ذا عبادة وتهجد وملازمة للتصنيف مع الجلالة والمهابة، وكان متعففًا نزه النفس كبير القدر ثخين الورع". وقال أيضًا فيما نقله عنه ابن العماد6: "وجميع الطائفة معترفون بفضله، ومغترفون من بحره".   1 طبقات الحنابلة "2/ 223". 2 المرجع السابق "2/ 202". 3 تاريخ بغداد "2/ 256". 4 المنتظم "8/ 243، 244". 5 "سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ ب" الجزء الحادي عشر. 6 "شذرات الذهب" "3/ 306، 307". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وفاته ورثاء الناس له : بعد حياة حافلة بالعمل والنشاط والانجازت العلمية العظيمة، يسلم القاضي أبو يعلى الروح، وترجع النفس إلى بارئها، في ليلة الاثنين تاسع عشر من شهر رمضان الكريم من عام ثمان وخمسين وأربعمائة هجرية، بمدينة بغداد، وصلى عليه ابنه أبو القاسم يوم الاثنين في جامع المنصور1، ودفن بمقبرة باب حرب2. وقد عطلت الأسواق، وتبع جنازته جماعة الفقهاء والقضاة والشهود، وخلق لا يحصون، على رأسهم القاضي أبو عبد الله الدامغاني، ونقيب الهاشميين، وأبو الفوارس، ومنصور بن يوسف، وأبو عبد الله بن جردة3. وكان قد أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر، وأن يكفن في ثلاثة أثواب، وأن لا يدفن معه في القبر غير ما غزله لنفسه من الأكفان، ولا يخرق عليه ثوب، ولا يقعد لعزاء4. ولا شك أن وفاته أحدثت ضجة عظيمة، وفراغًا كبيرًا لدى طلاب العلم والمعرفة، وبخاصة طلابه، وقد عبر تلميذه علي بن أخي نصر عمَّا يجيش في نفسه ونفوس زملائه من لوعة الحزن وألم الفراق، فاسمعه وهو يقول: أسف دائم وحزن مقيم ... لمصاب به الهدى مهدوم   1 "طبقات الحنابلة" "2/ 216"، والمراجع التي ذكرناها في ترجمته من قبل فلا داعي لسردها هنا. 2 "تاريخ بغداد" "2/ 256"، و"المنتظم" "8/ 244". 3 "المنتظم" "8/ 244". 4 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مات نجل الفراء أم رجت الأر ... ض أم البدر كاسف والنجومُ؟ لهف نفسي على إمام حوى الفضـ ... ـل وهو بالمشكلات عليمُ خلق طاهر ووجه منير ... وطريق إلى الهدى مستقيم كان للدين عدة ولأهل الد ... ين في النائبات خل حميم من يكن للدرس بعدك أم من ... لجدال المخالفين يقوم؟ من لفهم الحديث والطرق يستو ... ضح منه صحيحه والسقيم من لفصل القضاء إن أشكل الحكـ ... ـم وضجت بالنازلات الخصوم درست بعده المدارس فالعلـ ... ـم طريد وحبله مصروم هكذا يذهب الزمن ويفنى العلـ ... ـم فيه ويجهل المعلوم إن قبرًا حواك يا أيها الطو ... د عجيب رحب الفناء عظيم إن يكن شخصه محته يد الدهـ ... ر فذكراه في الدهور مقيم فتُحيا بذكره كل وقت ... ومحياه في الترب رميم آمري بالسلو مهلا ففي القلـ ... ـب غرام مبرح ما يريم كلما رمت سلوة هيج الحز ... ن صنيع له وفعل كريم غير أن القضاء جار على الخلـ ... ـق قضاء من ربهم محتوم فعلى الشامتين خزي مقيم ... وعليه الصلاة والتسليم1 وقد رثاه أيضًا محمد بن المسبح بهذه الأبيات: مات السدى والندى والمجد المكرم ... والعالم اليقظ المستبصر العلم مات الإمام أبو يعلى الذي ندبت ... لفقده الكعبة الغراء والحرم يا أيها العالم الحبر الذي كسفت ... شمس الهدى بعده بل عادها الظلم لولاك ما كان للدنيا وساكنها ... معنىً ولا عرفت طرق الهدى الأمم ولا روى عن سول الله مأثرة ... ولا قضى بصحيح غير فِيكَ فم لم يبلغ الحنبلي الحبر مرتبة ... إلا على رأسها من جسمك القدم   1 "طبقات الحنابلة" "2/ 217، 218". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أوضحت سبل الهدى من بعد ما درست ... عن الورى فقدتك العرب والعجم مادت بنا الأرض وارتجت بساكنها ... لما قبرت وكاد الدين ينهدم1   1 "المرجع السابق" "2/ 221، 222"، ويلاحظ أن في القصيدة مبالغة غير جائزة شرعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أولاده : وقد خلف القاضي أبو يعلى ثلاثة أبناء: 1- أبو القاسم عبيد الله، العالم الورع العفيف الصَّيِّن. ولد في يوم السبت السابع من شهر شعبان سنة: 443هـ، قرأ القرآن الكريم بالروايات الكثيرة على شيوخ عصره، وكان كثير التلاوة للقرآن مع معرفة بعلومه. سمع الحديث من والده وجده لأمه جابر بن ياسين وأبي الحسين بن المهتدي وغيرهم. وتفقه على والده وعلى تلميذ والده الشريف أبي جعفر. رحل في طلب العلم إلى البصرة والكوفة وواصل وغيرها. كان يحضر مجالس النظر ويشارك فيها، كما كان ذا معرفة بالجرح والتعديل وأسماء الرجال والكنى وغير ذلك. ولما ظهرت البدع في بغداد سنة: 459هـ، هاجر إلى البلد الحرام، فتوفي في الطريق في أواخر شهر ذي القعدة من هذه السنة1. 2- محمد أبو الحسين القاضي الشهيد، فقيه أصولي. ولد ليلة النصف من شهر شعبان سنة: 451هـ.   1 "المرجع السابق" "2/ 235، 236" و"ذيل طبقات الحنابلة" "1/ 12، 13". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 قرأ على أبي بكر الخياط، وتفقه على الشريف أبي جعفر، وروى الحديث عن أبيه وعبد الصمد وأبي الحسن بن المهتدي وغيرهم. وسمع منه خلق كثير منهم: ابن ناصر ومعمر بن الفاخر ويحيى بن بوش وابن عساكر وغيرهم. له مؤلفات كثيرة منها: "المجموع في الفروع"، و" رءوس المسائل" و" المفردات في أصول الفقه" و"طبقات الحنابلة". مات ببغداد مقتولا على يد لصوص، أرادوا سرقة بيته، في يوم السبت الحادي عشر من شهر محرم سنة: 526هـ، ودفن عند أبيه بمقبرة باب حرب1. 3- محمد أبو خازم، بالخاء والزاي المعجمتين. فقيه، زاهد. ولد في شهر صفر سنة: 457هـ، تفقه على القاضي يعقوب، ولازمه وسمع الحديث من أبي جعفر بن المسلمة وجابر بن ياسين، ومن والده أبي يعلى إجازة. سمع منه جماعة منهم: ابنته نعمة، وأبو المعمر الأنصاري، ويحيى بن بوش. له مؤلفات مفيدة منها: " التبصرة في الخلاف" وكتاب "رءوس المسائل"، و" شرح مختصر الخرقي". توفي في بغداد في يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر صفر سنة: 527هـ2.   1 "ذيل طبقات الحنابلة" "1/ 176- 178". 2 المرجع السابق: "1/ 184، 185". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 التعريف بالكتاب مدخل ... التعريف بالكتاب*: هناك بعض المعلومات الضرورية عن الكتاب، لا بد من معرفتها لمن أراد أن يطلع على الكتاب، وسوف أتكلم عنها بإيجاز فيما يلي:   * هذه كلمة مختصرة جدًّا عن الكتاب، انتزعناها من القسم الدراسي "القسم الأول من أطروحة الدكتوراه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 اسم الكتاب : هذا الكتاب اسمه: "العدة في أصول الفقه" كما ذكر في آخر الكتاب، وكما ذكر في المصادر التي سنذكرها عند الكلام على نسبة الكتاب إلى المؤلف ، غير أنني رأيت اسم الكتاب في الورقة الأولى هكذا: "العمدة في أصول الفقه" وهذه التسمية خطأ؛ لما ذكرنا قبل؛ ولأن الكتابة تختلف عن كتابة المخطوطة؛ ولأن هناك كتابًا آخر للمؤلف بهذا الاسم، وجدت منه نسخة بالعراق، مخرومة من الأول والأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 نسبة الكتاب إلى المؤلف : هناك إجماع بأن هذا الكتاب للقاضي أبي يعلى، فلم أجد أحدًا نسبه إلى غيره، واسمه مسطور على أول الكتاب وآخره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وممن ذكره منسوبًا إلى المؤلف: ابن أبي يعلى في "طبقاته" "2/ 205" في ترجمة المؤلف. والطوفي في كتابه: "شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "16/ أ". والذهبي في كتابه: "سير أعلام النبلاء" القسم الثاني من المجلد الحادي عشر، الورقة "168". وآل تيمية في كتابهم: "المسودة" "ص: 58، 59، 177، 180، 186، 196، 241، 256، 258، 273". والمجد بن تيمية في كتابه: "المحرر" "2/ 261". والمرداوي في كتابه: "الإنصاف" "12/ 46". والبعلي في كتابه: "القواعد والفوائد الأصولية" "ص: 258". والعليمي في كتابه: "المنهج الأحمد" "2/ 112". وابن بدران الحنبلي في كتابه "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" "ص: 241". وبروكلمان في كتابه: "تاريخ الأدب العربي" "1/ 502" من النسخة الأصلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وصف مخطوطة الكتاب : توجد لهذا الكتاب -حسب علمي- نسخة فريدة في العالم، وهذه النسخة صمن مخطوطات دار الكتب المصرية بالقاهرة، وتقع تحت رقم: "76" أصول فقه، وقد صورت على "ميكروفيلم" في معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية تحت رقم: "67" أصول فقه. والكتاب يقع في: "257" ورقة من القطع الكبير مقاس "21×30 سم"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يقع في كل صفحة خمسة وعشرون سطرًا، وفي كل سطر ست عشرة كلمة تقريبًا. وقد كتب على الصفحة الأولى ما نصه: "العمدة في أصول الفقه، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، تأليف أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء" ويلاحظ أن الكتابة هذه بقلم غير القلم الذي نسخ به الكتاب. وفي منتصف الصفحة: "سيف المناظرين، حجة العلماء، أَوْحَدُ الفضلاء، القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء الحنبلي -رضي الله عنه. وبعده كتب اسم السلطان المؤيد أبو النصر شيخ، بخط كبير اتبع بعبارة: "وقف الملك المؤيد شيخ بمدرسة باب زويلة". أما الصفحة الأخيرة فقد جاء فيها: "تم كتاب العدة في أصول الفقه، ولله الحمد والمنة والفضل على تمامه، ووافق الفراغ من نسخه في يوم السبت سابع عشر شهر رمضان المعظم سنة تسع وعشرين وسبعمائة للهجرة النبوية". والناسخ مجهول، ولكن التصويبات التي عملها على الهامش، تدل على ما له من مستوىً علمي لا بأس به. وخط الكتاب نسخ جيد غير مشكول، وقد صرح الناسخ أنه نقل هذه النسخة من نسخة الشيخ الإمام العالم نجم الدين بن حمدان التي نسخها بخط يده. وهناك ملاحظات على كتابة النص وهوامشه، نوجز أهمها فيما يلي: 1- في كثير من الأحيان لا يعجم الناسخ الحروف، ولا يضع العلامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الفارقة بين "الكاف" و"اللام" فيرسمها هكذا: "لـ". 2- وهناك كلمات، يرسمها بالياء، وهي بالهمزة مثل: "مسايل" و"قايل"، وقد رسمتها على المشهور من لغة العرب، واتبعت الرسم المعروف في الوقت الحاضر، من غير إشارة إلى ذلك في الهامش. 3- على أن هناك رسما، له دلالته النحوية، مثل حذف حرف العلة من آخر الفعل المضارع، إذا دخل عليه الجازم، ففي هذه الحالة أرسم الفعل بحذف حرف العلة، وأشير إلى ذلك في الهامش. ومثل ذلك الأسماء المنكرة المنقوصة في حالتي الرفع والجر، فإنه يرسمها بإثبات الياء في الحالتين، ففي هذه الحالة أرسمها بإثبات الياء في الحالتين، ففي هذه الحالة أرسمها بحذف الياء لإنابة التنوين عنها، كما هو الراجح عند جمهرة النحاة، وعليه الرسم الآن، وأشير إلى ذلك في الهامش. 4- في هوامش المخطوطة تصويبات، أثبتها الناسخ، إما من نفسه، وإما نقلا عن نجم الذين ابن حمدان، ففي هذه الحالة: أثبت التصويب في صلت الكتاب، وأشير في الهامش على الخطأ، كما أشير إلى التصويب من الناسخ، أو مما نقله عن ابن حمدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 منهج المؤلف في هذا الكتاب : لكل مؤلف منهج، صرح به في كتابه، أو أدركه القارئ بطريق الاستقراء والتتبع، والسواد الأعظم من العلماء الأقدمين، لا يصرح بمنهجه ومن هؤلاء القاضي أبو يعلى، لذلك سوف نتلمس منهجه من خلال كتابه، موجزين ذلك فيما يلي: أولا: نهج المؤلف في كتابه نهج المقارنة بين الآراء الأصولية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 كتابه، ولم يقتصر على إيراد المذهب الحنبلي. ثانيا: حرص المؤلف كل الحرص على بيان المذهب الحنبلي، وبسطه في كل مسألة تعرض لها. ثالثا: الدقة في عزو الآراء إلى الإمام أحمد، هل ذلك بطريق النص أو بطريق الإشارة، أو بطريق الإيماء. رابعا: كان يحاول إشراك القارئ في كيفية استخراج نسبة القول إلى الإمام أحمد، حيث كان يورد اللفظ المنقول عنه، ثم يبين من أين أخذ رأي الإمام أحمد، وكيف أخذه. خامسا: كان المؤلف لا يأخذ الروايات عن الإمام أحمد عشوائية، بل كان يربط كل رواية بمن نقلها عنه من أصحابه فيقول مثلا: روى صالح، روى عبد الله ... ، حتى يعطي القارئ الثقة فيما ينقل. سادسا: لم يقتصر المؤلف على نقل روايات واحدة في المسألة، بل كان ينقل كثيرا من الروايات، وإن اختلفت، ثم يشرع بعد ذلك في ترجيح الروايات على بعض، مع بيان أن الأخذ بهذه هو الأليق بمذهب الإمام أحمد، وهكذا ... سابعا: كان من منهج المؤلف مناقشة الآراء، واختيار واحد منها مدعوما بالحجة والبرهان. ثامنا: عند عرضه لمسألة من المسائل، فإنه يرتب عرضها على الشكل الآتي، ماهية المسألة، الرأي المختار، الآراء الأخرى، أدلة الرأي المختار، ذكر الاعتراضات الواردة على أدلة الرأي المختار والرد عليها، وأدلة الآراء الأخرى والرد عليها. تاسعا: إذا كانت المسألة متشعبة، فصل القول فيها، وحرر محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 النزاع وبيَّنه، حتى يكون الكلام واضحًا في المسألة. عاشرًا: إن لم يكن في الخلاف ثمرة، بل كان خلافًا لفظيًّا، بيَّن ذلك المؤلف ووضحه. حادي عشر: كان استدلال المؤلف في المسائل التي تكلم عنها بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وآثار الصحابة، وما ورد عن العرب شعرًا ونثرًا، وما نقل عن أئمة اللغة من أقوال. ثاني عشر: عني المؤلف بإيراد -بالإضافة لأقوال الحنابلة- أقوال الشافعية، والحنفية، والأشعرية والمعتزلة في معظم المباحث التي تكلم فيها، على عكس ما فعل مع المالكية، والظاهرية، فقد كان ورودهما قليلا. ثالث عشر: يحرص المؤلف على عدم التكرار إلا في النادر، فإذا ما وجد أن الكلام يتماثل في موضعين، أحال الكلام في الأخير على الكلام في الأول، كما فعل في صيغة كل من الأمر، والنهي، والإخبار، وكما صنع في الفورية في النهي، والتكرار فيه، حيث أحال الكلام هنا إلى الكلام في الأمر. رابع عشر: قد بيَّن المؤلف منشأ الخلاف في مسألة أو أكثر. خامس عشر: ربما أعاد المؤلف الكلام في بعض المسائل إلى أصل من الأصول، ثم يأخذ يفصل القول بناءً على ذلك الأصل. سادس عشر: وأولا وأخيرًا كان من منهج القاضي في هذا الكتاب وغيره المناقشة الهادئة، بعيدة عن كل ما يخل بآداب البحث والمناظرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 مصادر المؤلف في هذا الكتاب مدخل ... مصادر المؤلف في هذا الكتاب: تنوعت مصادر المؤلف في هذا الكتاب، فمنها ما صرح به، ومنها ما لم يصرح به، ولكن استطعنا -بعون الله وتوفيقه- أن نضع أيدينا عليها بطريق البحث والتتبع، ويمكن تصنيف تلك المصادر إلى المجموعات الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مصادر في العقيدة : من المعلوم أن هناك أبحاثًا في علم الأصول لها علاقة بالعقيدة، أو ما يسمى بعلم الكلام، ولا يسع الأصولي عند الكلام عليها إلا الرجوع إلى مصادرها، وهو ما صنع المؤلف، ونحن هنا نشير إلى أهمها: أولا: "كتاب الإيمان" للإمام أحمد، نقل المؤلف منه ما يدل على رأي الإمام أحمد في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسي المروي عنه الخبر، فأنكره، فهل يقبل ذلك الخبر أو يرد؟ وقد كان رأي الإمام أحمد هو قبول الحديث في مثل تلك الحال، انظر "ص: 963، 964". ثانيًا: "كتاب الرد على أهل الإلحاد" "لأبي بكر ابن الأنباري" رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في بحث المحكم والمتشابه، عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} ص689 ثالثا: "كتاب القدر" لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال، كان من مصادر المؤلف في مسألة صيغة الأمر هل هي للوجوب أو لا عند الاستدلال بأمر الله تعالى لإبراهيم بذبح ولده ص216. مصادر في التفسير وعلومه: من المسلمات لدى الأصوليين وغيرهم أن كتاب الله تعالى هو المصدر الأول للتشريع، وقد تعرض العلماء لهذا الكتاب بالشرح والإيضاح، وهو ما نسميه "علم التفسير"، لذلك رجع المؤلف إلى بعض كتب التفسير وعلومه، أشهرها خمسة: أولا: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة الدينوري مطبوع، لم يصرح المؤلف به في كتابه، وقد أفاد منه في فصل في قيام بعض الحروف عن بعض، ص208، بل نقل كلام ابن قتيبة بالنص، ولم يزد عليه. ثانيا: "غريب القرآن" لابن قتيبة الدينوري، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة: نسخ الحكم قبل التمكين من الفعل، عند تفسير قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ص808. ثالثا: كتاب التفسير لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، المعروف بغلام الخلال، أفاد منه المؤلف في عدة مواضع، منها: أسماء الأشياء، هل حصلت عن توقيف أو عن مواضعة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ص192، عند الكلام على تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . إذا ورد الأمر متعربا عن القرائن اقتضى الوجوب ص230 عند الاستدلال بقوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} ، على أن الأمر يقتضي الوجوب، وبناء على ذلك فهل إبليس من الملائكة أو من الجن ... ؟ مسألة وقوع المجاز في القرآن ص697 عند الكلام على قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} هل فيه مجاز أو لا؟ مسألة: ليس في القرآن شيء بغير العربية ص707، فقد نقل المؤلف هذا الرأي عنه. مسألة: تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد ص713 عند الكلام في تقسيم التفسير إلى: ما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، وإلى ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن. مسألة تعليم التفسير ونقله وما في ذلك من الثواب ص 718، حيث نقل المؤلف حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن ... " من التفسير المذكور. في مسألة "بيان الكبائر من المعاصي" عند تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} ص946. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 رابعًا: "كتاب التفسير" ليحيى بن سلام، أفاد المؤلف منه عند الكلام على أن تعليم التفسير ونقله فيه أجر وثواب "ص: 715"، حيث نقل المؤلف عنه حديث: "اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل". خامسًا: "معاني القرآن وإعرابه" "لأبي إسحاق الزَّجَّاج" طبع منه جزآن، رجع المؤلف إليه في موضعين: 1- عند الكلام في مسألة: إذا أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بفعل عبادة، ليس فيه تخصيص، فهل تشاركه أمته في ذلك، عند الاستدلال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [ص: 325] . 2- عند الكلام في مسالة: استثناء الأكثر، عند الاستدلال بقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [ص: 667] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 مصادر في الحديث وعلومه : وإذا كان كتاب الله تعالى هو المصدر الأول للتشريع، فإن الحديث هو المصدر الثاني فمن البَدَهِيَّات أن يرجع الأصولي إليه في مصادره وقد حفل الكتاب بكثير من هذه المصادر، أهمها: أولا: جزء في الإجازة والمناولة والقراءة صنفه "محمد بن مخلد بن حفص العطار" أفاد المؤلف منه في موضعين: 1- عند كلامه على صيغ التَحَمُّل والأداء للحديث "ص: 979"، حيث نقل عنه رواية عن الإمام أحمد في جواز العرض على المحدث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 2- عند كلامه عن الترجيح بين المتعارضين اللذَين لم يمكن الجمع بينهما، وهو الترجيح الذي لا يعود إلى الإسناد، ولا إلى المتن، بل إلى شيء غيرهما، ضمن المرجع السادس "ص: 1054". ثانيًا: جزء فيه السنة "لحرب بن إسماعيل الحنظلي" نقل منه المؤلف رواية عن الإمام أحمد تسوِّي بين "أخبرنا" و"حدثنا" إذا كان سماعًا من الشيخ "ص: 977". ثالثًا: الرد على من انتحل غير مذهب أصحاب الحديث "لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر" غلام الخلال، رجع إليه المؤلف عندما تكلم على صيغ التحمُّل والأداء للحديث "ص:980، 985". رابعًا: سنن الدارقطني "لعلي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي المعروف بالدارقطني" -مطبوع- نقل المؤلف عنه حديثًا ذكره بسنده؛ ليدلل به على عدم جواز نسخ القرآن بالسنة، وأن ذلك لم يوجد"ص: 792". خامسًا: كتاب العلل "لأحمد بن محمد الطائي" المعروف بالأثرم، أفاد المؤلف من هذا الكتاب في مواضع: 1- في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسى المروي عنه الخبر، وأنكره، فهل يقبل الخبر في مثل هذه الحالة أو يرد؟ عندما نقل عن الإمام أحمد ما يدل على قبول ذلك الحديث "ص: 960". 2- في مسألة: إذا أراد الراوي تجزئة الحديث، بأن ينقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بعضه، ويترك بعضه ص 1016 عندما نقل عن الإمام أحمد ما يدل على جواز ذلك. سادسا: كتاب العلل "لأحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر الخلال" أفاد منه المؤلف في موضعين: عند نقل المؤلف لكلام الإمام أحمد في ترجيح بعض المراسيل على بعض، "ص920" حيث نقل عنه المؤلف مما رواه عن أبي الحارث عن الإمام أحمد أنه قال: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا يُرى أصح من مرسلاته. في مسألة: إذا أراد الراوي تقطيع الحديث، بأن ينقل بعضه، ويترك بعضه، ص1018 فقد نقل المؤلف عنه قوله: أبو عبد الله لا يرى بأسا باختصار الحديث. مصادر في الفقه وأصوله: أما المصادر في الفقه وأصوله، فقد كان لها نصيب الأسد في الكتاب، وهي على قسمين، قسم لم يصرح المؤلف بالرجوع إليه، وقسم صرح بالرجوع إليه: أما القسم الأول: فقد تمكنت من الاطلاع على مصدرين، كان لهما أكبر الأثر في منهج المؤلف ومادته. أولا: الفصول أو أصول الجصاص "لأحمد بن علي الرازي، أبو بكر الجصاص" مخطوط، فقد نقل عنه بالنص في ص100، عند الكلام على البيان وأقسامه، كما أفاد منه في مواضع أخرى، أشرنا إليها في حينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ثانيا: المعتمد في أصول الفقه، "لأبي الحسين البصري"، مطبوع فقد أفاد منها المؤلف في نقل آراء المعتزلة، وأدلتهم، كما أفاد منه في بعض الجوانب المنهجية. أما القسم الثاني: فقد رجع المؤلف إلى مصادر أهمها: أولا: جزء فيه مسائل في أصول الفقه "لأبي الحسن الجزري" رجع إليه المؤلف في مسألة تخصيص العموم بالقياس ص563 عندما نقل من هذا الجزء كلام الإمام أحمد: "حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرده إلا مثله". ثانيا: جزء من شرح مختصر الخرقي "لأبي إسحاق ابن شاقلا"، في مسألة تخصيص العلوم بالقياس ص563 عندما نقل عن أبي إسحاق ما يدل على أن الحنابلة في تلك المسألة على قسمين، قسم يجوز، وقسم يمنع. ثالثا: كتاب أصول الفقه "لأبي الفضل التميمي"، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة هل في القرآن مجاز أو لا؟ ص697، حيث نقل المؤلف قوله: "والقرآن ليس فيه مجاز عند أصحابنا". رابعا: كتاب التقريب في أصول الفقه "لأبي بكر الباقلاني" أفاد منه المؤلف في مسألة: هل يصح استثناء الأكثر أو لا؟ ص666 حيث نقل المؤلف أنه نصر عدم صحة ذلك في كتابه المذكور. خامسا: كتاب التنبيه "لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال"، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة: إذا ورد العام، فهل يجب العمل به في الحال قبل البحث عن المخصص، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أو لا؟ "ص526"، حيث ذكر أن أبا بكر عبد العزيز رأى في كتابه التنبيه أنه يجب العمل بالعموم عند وروده، حتى يأتي المخصص. سادسًا: كتاب "الشافي" " ... " نقل المؤلف منه "ص749" رواية عن الإمام أحمد، تدل على أن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بواجب. سابعًا: "مسائل الحرزي" أفاد المؤلف من هذا الكتاب في عزو مسألة نسخ الأخف بالأثقل ... إلى الظاهرية "ص785". ثامنًا: "مسائل أبي سفيان الحنفي" رجع المؤلف إلى هذا المصدر في مسألة إذا ورد العموم هل يجب العمل به فور وروده قبل البحث عن دليل يخصصه أولًا؟ "ص528". تاسعًا: "مسائل في أصول الفقه" "لأبي الحسن التميمي"، كان هذا الكتاب من مصادر المؤلف في مسألة: هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدًا بشريعة من قبله أو لا؟ "ص756". عاشرًا: مسألة مفردة "لأبي الحسن التميمي" نقل المؤلف من هذه المسألة: أن الإمام أحمد يقول: إن أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تدل على الإيجاب، "ص737"، كما رجع المؤلف إلى هذه المسألة "ص474". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 مصادر لغوية ونحوية : لما كانت اللغة هي أحد المناهل التي ينهل منها الأصولي كان لزامًا على المؤلف أن يرجع إلى مصادرها ويفيد منها، وقد فعل المؤلف ذلك حيث رجع إلى مصادر لغوية، أهمها: أولا: "الجامع في النحو" لابن قتيبة الدينوري، أفاد المؤلف من هذا الكتاب في موضعين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 1- عدم صحة استثناء الأكثر "ص667، 668". 2- عدم صحة الاستثناء من غير الجنس "ص676". ثانيًا: "جوابات مسائل" لابن قتيبة الدينوري -مطبوع- وقد رجع المؤلف إليه في موضعين: 1- تعريف الفقه لغة "ص68". 2- عدم صحة استثناء الأكثر "ص667". ثالثًا: كتاب "الاستثناء والشروط" لابن عرفة النحوي، أفاد المؤلف من هذا المصدر في مسألة: عدم صحة استثناء الأكثر "ص671، 672". رابعًا: كتاب "غريب المصنف" لأبي عبيد القاسم بن سلام، كان من مراجع المؤلف في مسألة مفهوم المخالفة، هل هو حجة أو لا؟ "ص464". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 مصادر متنوعة : وهناك مصادر غير مختصة بعلم من العلوم. نورد أهمها فيما يلي: أولا: "أخبار أحمد" لأبي حفص ابن شاهين، رجع إليه المؤلف في نقل رواية عن الإمام أحمد، يقول فيها: "إن العقل في الرأس: "ص89". ثانيًا: "الرسالة" للإمام أحمد، نقل المؤلف من هذه الرسالة ما يدل على أن الإمام أحمد يقول: إن خبر الواحد لا يوجب العلم الضروري. "ص898". ثالثًا: "شرح السنة" لأبي محمد البربهاري، رجع المؤلف إليه في موضعين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 تقويم الكتاب : الحقيقة أنه يصعب على الباحث أن يُقَوِّم أعمال الآخرين، وبخاصة إذا كان صاحب العمل من الفحول في ذلك. وبعد تردد أَقْدَمْت على ذلك حرصًا على الإنصاف، وبيانًا لما توصلت إليه، وسوف أتكلم بإيجاز، بادئًا بالحديث عما للكتاب من محاسن ألخصها فيما يلي: أولا: إن الكتاب -في نظري- يعد أول كتاب وصل إلينا، جمع شتات أصول الحنابلة ونظمها في أبواب ومسائل وفصول. ثانيًا: والكتاب يعد أيضًا مصدرًا أصيلا في أصول الحنابلة، لما لِمُؤَلِّفه من الدراية الكافية بالمذهب الحنبلي، أصولا وفروعًا. ثالثًا: ويمتاز الكتاب بأن مصادره أصيلة، وبخاصة ما ينقله المؤلف عن الإمام أحمد من الروايات، وما ينقله عن أصحابه من الآراء. رابعًا: ولم يقتصر المؤلف على إيراد رواية واحدة عن الإمام أحمد، بل كان يسوق كثيرًا من الروايات، وبخاصة إذا كانت مختلفة. خامسًا: ولم يترك تلك الروايات على ما هي، بل أخد يرجح بعضها على بعض، ويبين أن الأخذ بهذه الرواية -مثلا- هو الأليق بمذهب أحمد، وهكذا ... ولعمر الحق إنها لمهمة صعبة قام بها المؤلف خير قيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 سادسًا: ومما يُسجَّل للمؤلف هنا دقة فهمه لما نقل عن الإمام أحمد، واستخراجه للحكم من تلك الروايات، ودرجة الأخذ، هل كان بطريق النص، أو بطريق الإيماء أو الإشارة أو الاحتمال؟ وهذه المهمة لا تقل عن سابقتها. سابعًا: والكتاب أصول فقه مقارن، عُني مؤلفه بنقل المذاهب الأخرى في كل مسألة تعرض لها، مع إيراد أدلتهم، ومناقشتها والرد عليها إذا خالفت ما اختاره المؤلف. ثامنًا: كانت شخصية المؤلف ظاهرة من أول الكتاب إلى آخره، فقد كان يناقش الأدلة، ويرجج بين الروايات المنقولة عن الإمام أحمد، ويخرج باختيار له في كل مسألة، وهذه ميزة لا تستكثر على عالم فذٍّ كالقاضي أبي يعلى. تاسعًا: كان المؤلف موفقًا في الاستدلال على إثبات حكم أو نفيه بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وما روي عن الصحابة والتابعين من الآثار، حتى صار ذلك سمة بارزة في الكتاب، على أنه لم يَخْلُ من المماحكات العقلية، ولكنها كانت بقدر. عاشرًا: كان المؤلف يربط المسائل بالمدلول اللُّغوي للنص الذي يستدل به، سواء كان النص المستدل به من الكتاب، أو السنة أو الآثار عن بعض الصحابة، أو أبيات شعرية، أو قطع نثرية، أو أقوال أئمة اللغة، وهذه مَيزَة أخرى تستحق الثناء. حادي عشر: إذا كانت المسألة التي تعرض ذات شعب، حرر المؤلف محل النزاع وبيَّنَه، حتى يكون الكلام على جزئية معينة، لا لبس فيها، ولا غموض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ثاني عشر: إذا كان الخلاف في المسألة لفظيًّا، لا ثمرة منه، بين ذلك. ثالث عشر: إذا تماثلت في مسألتين، فإنه لا يكرر الأدلة في المسألة الثانية، بل يحيل إليها، فمثلا لما جاء على باب: النهي، أحال الكلام في مسألة الفورية، ومسألة التكرار في النهي إلى الكلام في مسألة الفورية والتكرار في الأمر. رابع عشر: كان المؤلف موفقًا إلى حد كبير في ترتيب الأبواب. خامس عشر: أحسن المؤلف صنعًا؛ إذ جعل بابًا في أول الكتاب، عرف فيه كثيرًا من المصطلحات التي يحتاج الأصولي إلى معرفتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 المآخذ التي أخذتها على المؤلف : هناك بعض الملاحظات على المؤلف، يمكن إجمالها في الآتي: أولا: أفاد المؤلف من بعض الكتب، بل نقل منها بالنص، ولم يُشِرْ إليها، وكان الأولى أن يشير إليها، وأشهر هذه الكتب ثلاثة: 1- أفاد المؤلف من كتاب "الفصول في أصول الفقه" أو "أصول الجصاص" -مخطوط- تأليف أبي بكر أحمد بن علي الرازي المشهور بالجصاص، المتوفى سنة: 370هـ، في كتابه "العدة"، بل نقل عنه بالنص عند كلامه على البيان من "ص: 100- 130". 2- وأفاد المؤلف أيضًا من كتاب: تأويل مشكل القرآن -مطبوع- لابن قتيبة المتوفى سنة: 276هـ، وذلك عندما تكلم المؤلف عن نيابة بعض الحروف عن بعض "ص: 208"، بل نقل منه بالنص ولم يشر إليه. 3- كما أفاد من كتاب: المعتمد في أصول الفقه -مطبوع- لأبي الحسين البصري المعتزلي المتوفى سنة: 436هـ، وذلك في المنهج العام، وفي بعض الأدلة، وفي نقل آراء المعتزلة وأدلتهم. ثانيًا: استدل المؤلف بالأحاديث الموضوعة كحديث: "تبارك الذي قسم العقل بين عباده واستأثر، إن الرجلين تستوي أعمالهما وبرهما وصلاتهما وصومهما، ويفترقان في العقل، حتى يكون بينهما كالذرة في جنب أحد ... " "ص: 95". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وكحديث: "إني خلقت العقل أصنافًا شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي من ذلك حبة واحدة، وبعضهم الحبتين" "ص: 96". وكحديث: "خطابي للواحد خطاب للجماعة، وحكمي على الواحد حكم على الجماعة" "ص: 331". وكحديث: "كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضًا" "ص: 793، 794". ثالثًا: نقله عن بعض رواة اتهموا بالوضع والكذب، كأبي الحسن التميمي وأحمد بن محمد بن مخزوم، وقد أشرت إلى ذلك في موضعه "ص: 84، 94، 95، 96". رابعًا: استدلاله بالمرسل الضعيف كحديث: "ذهب حقك" "ص: 141- 1035". خامسًا: حصل من المؤلف تناقض في حكمه على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} حيث قال: إنها مبينة، وذلك عند كلامه عن البيان "ص: 106"، ولما جاء إلى الكلام عن المجمل "ص: 145" قال: إنها مجملة. كما ذكر آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} "ص: 513، 518"، وصرح في هذين الموضعين أنها عامة، وهذا ينافي كونها مجملة، كما ذكر آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} "ص: 518" وصرح بأنها عامة، وهذا ينافي كونها مجملة أيضًا. سادسًا: يتسم أسلوب المؤلف بالسهولة، وعدم التكلف، ولكن وجد مع هذا عبارات ركيكة، وتركيبات غير مترابطة، وقد أشرنا إلى ذلك في حينه. أما لغة الكتاب: ففصيحة بشكل عام، يعتورها في بعض الأحيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 هنات لغوية، لا تتمشى وفصيح اللغة العربية، وأضرب على ذلك بعض الأمثلة: 1- مجيء "أم" بعد "هل" في مثل قوله: أسماء الأشياء هل حصلت عن توقيف أم مواضعة؟ "ص: 190"، و"أم" لا تأتي بعد هل في مثل هذه الصورة على الراجح عند العلماء. 2- دخول "أل" على "بعض" كما في "ص: 141، 191" وذلك مجافٍ لفصيح اللغة العربية. 3- عدم ذكر الفاء في جواب "أما" كما في "ص: 165، 166"، وإن كان قد ورد بعض الشواهد العربية حذفت فيها الفاء في جواب "أما"، ولكن حكم على تلك الشواهد بالشذوذ. 4- عدم إظهار الحركة على الحرف الأخير، والالتجاء إلى التسكين لآخر الكلمة كما في "ص: 700" في قوله: "بأن هناك مضمر محذوف" وقد صَوَّبْنَاها هكذا: "بأن هناك مضمرًا محذوفًا" وكما في "ص: 938" في نقله للحديث: "كل الناس أكْفَاء إلا حائك أو حجام" وقد صوبناه هكذا: "كل الناس أكفاء إلا حائكًا أو حجامًا" ولعل ذلك من صنع الناسخ. 5- دخول "أل" على "غير" كما في "ص: 341"، وذلك لم يرد في لغة العرب، وإنما هو تعبير أحدثه الفلاسفة والمتكلمون. سابعًا: من المعلوم أن الكتاب أصول فقه مقارن، عني مؤلفه بنقل الآراء الأصولية، إلا أن هناك آراءً عزاها المؤلف، ولم يكن ذلك العزو محررًا، والحقيقة أنها كثيرة، لذلك سأقتصر على الإشارة إلى بعضها بذكر الصفحة، فيما يلي: صفحة: "151، 257، 278، 282، 352، 538، 539، 570، 575، 638". وقد حررت العزو في كل مسألة بإعادتها إلى مصادر أصحابها الأصيلة، ولم أَرَ حاجة في إعادة الكلام هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ثامنًا: يقدم في بعض الأحيان التعريف في الاصطلاح على التعريف في اللغة، كما في تعريف الواجب "ص: 159، 160" وتعريف الفرض "ص: 160، 161" وتعريف المندوب "ص: 162" وهذا خلاف المألوف. تاسعًا: هذا فيما يتعلق بالمنهج العام، ولكن هناك تعقبات تتعلق بمادة الكتاب نفسه، نذكر أهمها فيما يلي: 1- استدلال المؤلف بكلام الإمام أحمد "ص: 147، 148" على أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} مجمل وهو استدلال خطأ، لأمور ثلاثة ذكرتها في الموضع المشار إليه. 2 - من معاني "اللام" التمليك، وقد مثل لها المصنف "ص: 204" بقوله: "دار لزيد" وهذا المثال إنما هو للتملك، أما مثال التمليك فهو: "وهبت المال لزيد". 3- مثل المؤلف "ص: 256" في مسألة ورود الأمر بعد الحظر، بقوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} وقد تعقبه الْمَجْدُ في: "المسودة" "ص: 17" بأن هذه الآية ليست مما نحن فيه، ولم يعلل، قلت: لأن الأمر بالانتشار لم يأت بعد حظره. والله أعلم. 4- ساق المؤلف "ص: 256" في مسألة ورود الأمر بعد الحظر، كلامًا للإمام أحمد؛ ليبين أن رأي الإمام في هذه المسألة هو الإباحة، وقد تعقبه المجد في "المسودة" "ص: 17" بأن كلام الإمام أحمد لا يدل على ذلك. 5- قال المؤلف "ص: 260": قيل لا نسلم أن وجوب قتل المشركين استفيد بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، بل استفدناه بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وغيرها من الآيات التي لم يتقدمها حظر". وقد تعقبه المجد في "المسودة" "ص: 19" بقوله: وهذا ضعيف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بل الأمر بعد الحظر يرفع الحظر، ويكون كما كان قبل الحظر، والأمر في هذه الآية كذلك. 6- حكى المؤلف "ص: 266" الإجماع على أن النهي يقتضي التكرار، وحكاية الإجماع هذه غير صحيحة، وقد بينت ذلك في الموضع المشار إليه. 7- عقد المؤلف فصلا "ص: 331" في الدلالة على أن الحكم إذا توجه إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره، وفي أثناء ذلك ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خص واحدًا بحكم بيَّن وجه التخصيص، ثم مثَّل لذلك بأمثلة منها: تخصيص الزبير بلبس الحرير، وقد لاحظت عليه في هذا أربع ملاحظات: الأولى: أنه عبر بـ "تخصيص" وهو مشعر بأن ذلك الحكم خاص بالزبير -رضي الله عنه- لا يتعداه إلى غيره، وليس الأمر كذلك، بل هو ترخيص له ولكل من أصيب بمرضه. الثانية: أن الترخيص الوارد في الحديث لاثنين هما: الزبير، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- وليس للزبير وحده، كما ذهب إليه المؤلف. الثالثة: أن الواجب أن يذكر المؤلف علة الترخيص وهي الحكة، حتى يدخل في الحكم من توفرت فيه العلة. الرابعة: أن الحديث لا يدل على ما ذهب إليه المؤلف؛ لأنه ترخيص، وليس بتخصيص. 8- أورد المؤلف "ص: 339- 341" كلامًا للإمام أحمد؛ ليبين أنه يرى دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر الذي يأمر به أمته، بينا كلام الإمام أحمد لا يدل على ذلك، كما أفاده أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "36/ ب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 9- ساق المؤلف "ص: 411" كلامًا عن الإمام أحمد؛ ليدلل على أن الإمام أحمد يرى أن المكلف إذا زاد على ما يتناوله الاسم كالركوع مثلا أن ذلك واجب، وهو استدلال خطأ، كما قيل في "المسودة": إنه مأخذ غير صحيح، وقال ابن عقيل: إنه مأخذ فاسد، وقال أبو الخطاب: "إنه غلط"، وقد فصلت القول في ذلك في الموضع المشار إليه. 10- في "ص: 482" خلط المؤلف في كلامه بين مسألتين، الأولى: هل مفهوم الموافقة حجة؟ والثانية: الذين يقولون بمفهوم الموافقة اختلفوا في الدلالة هل هي لفظية أو قياسية؟ 11- استدل المؤلف "ص: 560" بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} على جواز تخصيص العموم بالقياس، وقد تُعُقِّب في ذلك بما بينته في موضعه. 12- نقل المؤلف "ص: 952" عن الإمام أحمد أنه لا يروي الحديث عن أصحاب الرأي، ثم بين المؤلف مراد الإمام أحمد بقوله: وهذا محمول على أهل الرأي من المتكلمين، كالقدرية ونحوهم، وليس الأمر كذلك، كما بين في الموضع المشار إليه. 13- حكم المؤلف في "ص: 954" بأن التدليس مكروه، ولا يمنع من قبول الخبر، وهذا الكلام ليس على إطلاقه، وقد بسطت الكلام على ذلك في موضعه. 14- لم يحرر المؤلف محل النزاع "ص: 959" في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسي المروي عنه الخبر فأنكره ... وقد حررته في موضعه. 15- وهم المؤلف "ص: 1033" حيث ذكر اسم الصحابي: قيس بن طلق، والصواب:طلق بن علي؛ لأنه هو الصحابي الراوي لحديث عدم النقض من مس الذكر، كما سبق أن ذكره المؤلف "ص: 832" موافقًا لما قلناه، وقد جرى التنبيه على ذلك في موضعه. وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 منهج التحقيق : تعددت مناهج التحقيق بتعدد أغراض المحققين، لذلك رأيت من الأفضل أن أبين المنهج الذي اتخذته؛ ليكون القارئ على بينة من ذلك، وهذا المنهج يتلخص فيما يلي: أولا: إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه، ووصف المخطوطة، وبيان مكان وجودها. ثانيًا: المحاولة -قدر الإمكان- أن يخرج نص الكتاب على أقرب صورة وضعه عليها المؤلف، وذلك بالمحافظة على شكل النص وموضوعه، إلا في الأمور الآتية: 1- رسم الكتاب، فقد رسمته بالرسم في العصر الحاضر، غير مشير إلى ذلك في الهامش. 2- إعجام ما أهمله المؤلف من الكلمات، ولا أشير إلى ذلك إلا إذا اختلف المعنى بذلك الإعجام. 3- إصلاح الخطأ، وذلك عند التيقن من أن ما في النص خطأ فأثبت ما اعتقدته صحيحًا، بين قوسين معقوفين هكذا: [] ، أما إذا كان الخطأ مشكوكًا فيه، فأشير إلى ذلك في الهامش من غير مساس بالنص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 4- زيادة بعض الحروف، أو الكلمات، أو الجمل، إذا اقتضى المقام تلك الزيادة، وأضعها بين قوسين معقوفين هكذا: [] مع الإشارة إلى مصدر تلك الزيادة إن وجد، سواء كان ما صوبه الناسخ في الهامش بنفسه أو نقله عن ابن حمدان، أو وجدته في مراجع أخرى. ثالثًا: تمحيص الآراء وتحرير العزو للآراء التي يذكرها المؤلف، وذلك بإرجاعها إلى مصادرها الأصلية. رابعًا: مناقشة المؤلف في أدلته ووجه الاستدلال منها، مع مناقشته في ردوده على أدلة المخالفين، متى استلزم الأمر ذلك. خامسًا: بيان موضع الآيات من السور، مع الإشارة إلى تفسير الآية إن اقتضى المقام ذلك. وإذا ورد لفظ الآية مخالفًا لما في المصحف العثماني، فلا يخلو الأمر إما أن يكون ذلك قراءة أو لا، فإن كان قراءة أثبتها في النص، وأشير في الهامش إلى أنها قراءة، مع بيان من قرأ بها، ومن قرأ بما في المصحف العثماني مع ملاحظة أن الوارد في الكتاب قراءات سبعية متواترة -وإما أن يكون غير قراءة، بل خطأ فأثبت الصواب مع الإشارة إلى ما ورد من الخطأ في الهامش. سادسًا: تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب والكلام بالتفصيل على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبيان أقوال علماء الجرح والتعديل في رواة تلك الأحاديث، مع إبداء ملاحظاتي على ذلك. سابعًا: تخريج الآثار الواردة في الكتاب. ثامنًا: عزو الروايات التي ينقلها المؤلف عن الإمام أحمد إلى مصادرها إن وجدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 تاسعًا: عزو الأبيات الشعرية إلى قائلها، وإرجاعها إلى دواوين أصحابها إن وجدت أو إلى المراجع الأصيلة لشعر الشاعر. عاشرًا: عزو الأمثال مع بيان القائل للمثل والمناسبة التي قيل فيها. حادي عشر: شرح المفردات اللغوية الغريبة. ثاني عشر: شرح المصطلحات الأصولية الغريبة. ثالث عشر: ربط موضوعات الكتاب بعضها ببعض؛ حتى يتمكن القارئ من التصور الكامل للموضوع الذي يريد بحثه. رابع عشر: يعتبر هذا الكتاب من أهم كتب الحنابلة في أصول الفقه، إن لم يكن أهمها؛ لذلك حرصت على ربطه بكتب الحنابلة في الأصول وبخاصة تِلْمِيذَي المؤلف: أبي الوفاء بن عَقيل البَغدادي1، وأبي الخطاب الكلوذاني2، فقد اعتمدا على شيخهما كثيرًا، وناقشاه في بعض اختياراته، وقصدي من ذلك إتاحة الفرصة للقارئ ليناقش ويقارن، حتى يستطيع تحديد المذهب الحنبلي في القضية التي يبحثها. خامس عشر: التنبيه على التعبير الذي يرد غير متمش مع فصيح اللغة العربية، كما نبهت على الأخطاء النحْوية. سادس عشر: التعريف بالأعلام، وذلك بإيراد ترجمة قصيرة تتضمن اسم العَلَم، وولادته، ومذهبه، وبعض كتبه، ووفاته. سابع عشر: التعريف بالكتب الوارد ذكرها في الكتاب، مع بيان   1 له كتاب "الواضح في أصول الفقه" يقع في ثلاثة مجلدات، وقد صورته على "ميكروفيلم" من المكتبة الظاهرية، ثم كبرته على ورق بعد ذلك. 2 له كتاب "التمهيد في أصول الفقه" يقع في مجلدين، وقد صورته على "ميكروفيلم" من المكتبة الظاهرية، ثم كبرته على ورق بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المطبوع والمخطوط، ما أمكن ذلك. ثامن عشر: التعريف بالمدن والبلدان والمواضع الغريبة الوارد ذكرها. تاسع عشر: التعريف بالطوائف والفرق والمذاهب. عشرون: وضع الفهارس الفنية العامة، وتشتمل على ما يلي: 1- فهرس الآيات القرآنية. 2- فهرس الأحاديث. 3- فهرس الآثار. 4- فهرس القوافي وأنصاف الأبيات. 5- فهرس الأمثال. 6- فهرس الأعلام. 7- فهرس الطوائف، والفرق، والمذاهب. 8- فهرس القبائل والجماعات. 9- فهرس الأماكن والبلدان. 10- فهرس الكتب. 11- فهرس الموضوعات. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 افتتاحية الكتاب ... بسم الله الرحمن الرحيم [الحمد لله المتقرب إليه به، حمد الراضي من عباده بشكره، وإياه أسأله التوفيق بمنه، وأن يصلي على محمد خيرته من خلقه، وعلى أهله وأصحابه من بعده، وبه أستعين على ما قصدته من رحمته] 1. ............................ 2 [والفقه في اللغة: العلم، يقال: فلان يفقه الخير والشر، ويفقه كلام فلان أي: يفهمه ويعلمه] 3 [وسمي العالم عالمًا] [2/ أ] بما يتعاطاه من العلوم.   1 هذا الاستفتاح أخذناه من كتاب: "الروايتين والوجهين" للمؤلف، ورقة "1/ ب". 2 هنا وقع طمس بسبب أن الورقة الأولى لحقها بعض التلف، فألصقت برأسها قطعة من الورق لتقويتها، والطمس يقدر بخمسة أسطر تقريبًا، وهي -في اعتقادي- عبارة عن الافتتاحية، وأول الكلام في تعريف الفقه لغة؛ يدل على ذلك استدلاله بقول ابن قتيبة بعد ذلك. و"أصول الفقه" كلمتان، لكل منهما معنى عند الافتراق، ولهما معنى عند الاجتماع، فالأصول جمع أصل، والأصل في اللغة: ما ينبني عليه غيره. 3 ما بين القوسين نقله الطوفي في كتابه "شرح مختصر الروضة" الورقة "22/ب" منقولا عن كتاب العدة للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وذكر ابن قتيبة1 في جوابات مسائل سئل عنها فقال: "الفقه في اللغة: الفهم، يقال: فلان لا يفقه قولي. وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 2 أي لا تفهمونه، ثم يقال للعلم، الفقه؛ لأنه عن الفهم يكون، والعالم فقيه؛ لأنه يعلم بفهمه"3، فهذا موضوعه في اللغة4. وأما موضوعه عند الفقهاء والمتكلمين فهو: العلم بأحكام أفعال المكلفين   1 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد من أئمة الحديث واللغة والأدب، قال فيه الخطيب: "كان رأسًا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس، ثقة دينًا فاضلًا"، عده شيخ الإسلام ابن تيمية من أهل السنة، ونسبه البيهقي إلى الكرامية. رماه الحاكم بالكذب مدعيًا الإجماع على ذلك، وقد رد الذهبي كلام الحاكم وعابه. ولد ببغداد وقيل: بالكوفة سنة: 213هـ. وتوفي على الأصح سنة: 276هـ. انظر ترجمته في: بغية الوعاة "2/ 63"، والبداية والنهاية "11/ 48"، وتذكرة الحفاظ "2/ 631"، ودائرة المعارف الإسلامية "1/ 260"، وشذرات الذهب "2/ 169"، وطبقات المفسرين للداودي "1/ 245"، والفهرست لابن النديم "77"، ولسان الميزان "3/ 357"، والمنتظم "5/ 102"، وميزان الاعتدال "2/ 503"، والنجوم الزاهرة "3/ 75"، ووفيات الأعيان "2/ 246". 2 "44" سورة الإسراء. 3 هذا النص موجود في كتاب: "المسائل والأجوبة في الحديث واللغة" لابن قتيبة "ص: 12"، وبقية الكلام هو: "لأنه إنما يعلم بفهمه، على مذهب العرب في تسمية الشيء بما كان له سببًا". 4 كون الفقه لغة: الفهم أورده أبو الخطاب في كتابه "التمهيد"، الورقة "2/ أ" كما أورده ابن عقيل في كتابه "الواضح" الجزء الأول الورقة "2/ 1" وقد ذكر التعريف الذي قال به شيخه أبو يعلى بصيغة التمريض. وهناك آراء أخرى ساقها الطوفي في شرحه على مختصر الروضة الجزء الأول الورقة "21، 22/ أ" كما ساقها أبو البقاء الفتوحي في كتابه: "شرح الكوكب المنير: "ص: 11" فارجع إليهما إن شئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الشرعية دون العقلية1. نحو التحريم والتحليل والإيجاب والإباحة والندب وصحة العقد وفساده ووجوب غرم وضمان قيمة متلف وجناية. وإطلاق اسم الفقه لا يجري على العلم بالنجوم والطب والفلسفة، وإنما يجري على العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية2.   1 هذا التعريف ذكره أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "2/ أ" بنصه غير معزوٍّ لأحد. وذكر ابن عقيل في كتابه: "الواضح" الجزء الأول الورقة "2/ أ" تعريفين: الأول: الفقه عبارة عن فهم الأحكام الشرعية بطريق النظر. الثاني: وقال قوم: هو العلم بالأحكام الشرعية بطريق النظر والاستنباط. وقد ذكر الطوفي كثيرًا من التعريفات، وناقشها مناقشة علمية، وذلك في شرحه على مختصر الروضة، الجزء الأول، الورقات "23، 24، 25" "ولمزيد من الفائدة راجع كتاب: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي "1/ 8"، وشرح الكوكب المنير" ص: 11" و"المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/ 8، 9"، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي "ص: 17". 2 إن أراد المؤلف أن ذلك الإطلاق قيِّد بالعرف فمسلّم. وإن أراد أن ذلك لغة، فغير مسلم، فقد قال القرافي في كتابه "شرح تنقيح الفصول" "ص: 16": "الفقه هو: الفهم، والعلم، والشعر، والطب لغة، وإنما اختصت بعض هذه الألفاظ ببعض العلوم بسبب العرف كذلك نقله المازري في شرح البرهان". كما قد قال ابن فارس في كتابه "معجم مقاييس اللغة" "4/ 442" ما نصه: "الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح، يدل على إدراك الشيء والعلم به، تقول: فقهت الحديث أفقهه، وكل علم بشيء فهو فقه، يقولون: لا يفقه ولا ينقه، ثم اختص بذلك علم الشريعة، فقيل لكل عالم بالحلال والحرام: فقيه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وأما أصول الفقه فهو: عبارة عما تبنى عليه مسائل الفقه، وتعلم أحكامها به؛ لأن أصل الشيء ما تعلق به وعرف منه، إما باستخراج أو تنبيه1. فسميت هذه الأصول بهذا الاسم؛ لأن بها يتوصل إلى العلم بغيرها، فتكون أصلا له، فلا يجوز أن يقال: إن [الكلام في] أصول الفقه هو: الكلام في أدلة الفقه؛ لأن من ذكر الدلالة على إثبات صيغة العموم لا يقال: إنه ذكر دليلًا في الفقه، وإنما أدلة الفقه: عبارة عن استعمال ألفاظ العموم وطرق الاجتهاد. والكلام في أصول الفقه ما يدل على إثبات مقتضى هذه الأشياء وموجبها وصحتها وفسادها، ولا يجوز أن تعلم هذه الأصول قبل النظر في الفروع؛ لأن من لم يعتد طرق الفروع والتصرف فيها، لا يمكنه الوقوف على ما يبتغي بهذه الأصول من الاستدلال والتصرف في وجوه القياس والمواضع التي يقصد بالكلام إليها، ولهذا يوجد أكثر من ينفرد بعلم الكلام دون الفروع مقصرًا في هذا الباب، وإن كان يعرف طرق هذه الأصول وأدلتها2.   1 نقل الطوفي كلام القاضي هذا وتعقبه بقوله: "قلت: ما ذكره في أصول الفقه صحيح. أما قوله: أصل الشيء ما تعلق به، فليس بجيد، إذ قد يتعلق الشيء بما ليس أصلا له، كتعلق الحبل بالوتد في المحسوسات، وتعلق السبب بالمسبب والعلة بالمعلول في المعقولات". انظر شرح مختصر الروضة، الجزء الأول، الورقة "21/ أ". وعرَّف أبو الحسين البصري "الأصل" بقوله: "فأما قولنا: أصول، فإنه يفيد في اللغة، ما يبتنى عليه غيره ويتفرع عليه" "المعتمد" "1/ 9". وعرَّفه الآمدي بقوله: "فأما أصول الفقه، فاعلم أن أصل كل شيء هو ما يستند تحقق ذلك الشيء إليه" "الإحكام" "1/ 8". أما "الأصل" في اصطلاح الأصوليين فله أربعة معانٍ: الدليل، والرجحان، والقاعدة المستمرة، والمقيس عليه. انظر "شرح تنقيح الفصول" "ص: 15"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 10" و"كشاف اصطلاح الفنون" "1/ 85". 2 هذا رأي المؤلف، إلا أن بعض العلماء، كابن عقيل -مثلا- يرى أن معرفة الأصول أولى بالتقديم من معرفة الفروع؛ لأن الفروع تنبني عليها. راجع "الْمُسَوَّدَة" لآل تيمية "ص: 571" و"شرح الكوكب المنير"ص: 14". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وإذا كان القصد من [2/ ب] 1 وما هو متعلق بها [الذي] 2 يقول: إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ثلاثة أضرب: أصل، ومفهوم أصل واستصحاب حال. وقد قيل: إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ضربين أحدهما: ما طريقه الأقوال والآخر الاستخراج. فأما الأقوال: فهي مثل النص والعموم والظاهر ومفهوم الخطاب وفحواه والإجماع. وأما الاستخراج فهو القياس. والأول أصح؛ لأنه أعم، وذلك أنه يدخل فيه دليل الخطاب واستصحاب الحال، وتلك أصول عندنا. ولم أذكر قول الواحد من الصحابة إذا لمن يخالفه غيره؛ لأن الرواية عن الإمام أحمد3 -رحمه الله- مختلفة، ونحن نذكره مفردًا إن شاء الله تعالى.   1 هنا طمس يقارب نصف سطر لم أستطع قراءته. 2 هذه الكلمة لم أستطع قراءتها في الأصل إلا بعد العثور عليها ضمن النص الذي نقله الطوفي في شرحه لمختصر الروضة الجزء الأول الورقة "16/ أ" حيث قال: "ومنهم من مشايخ أصحابنا القاضي أبو يعلى -رحمه الله- قال في "العدة": الذي يقول: إن أصول الفقه وأدلة الشرع ... " إلى قوله: "واستصحاب حال". 3 هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، ألفت الكتب الكثيرة في حياته وجهاده وعلمه وخلقه قديمًا وحديثًا، فمن القدماء ابن الجوزي، ومن المحدثين أبو زهرة وعبد الحليم الجندي وعبد العزيز سيد الأهل والمتمشرق باتون وغيرهم. توفي ببغداد سنة: 241هـ، وله من العمر سبع وسبعون سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فأما الأصل فثلاثة أضرب: الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فضربان: مجمل ومفصل، ويأتي شرحهما في باب الحدود1. وأما السنة فعلى ضربين: ضرب يؤخذ من النبي -صلى الله عليه وسلم- مشاهدة وسماعًا. فهذا يجب على كل أحد قبوله واعتقاده على ما جاء به من وجوب وندب وإباحة وحظر، ومن لم يقبله كفر؛ لأنه كذبه في خبره. وضرب يؤخذ خبرًا عنه، والكلام فيه في موضعين: أحدهما في إسناده، والآخر في متنه، فأما الإسناد فضربان: أحدهما متواتر والآخر آحاد. والمتن على ضربين: قول وفعل وإقرار على قول وفعل، ويأتي شرح ذلك في باب الأخبار2. وأما الإجماع: فيأتي الكلام في تفصيله في باب الإجماع3. وأما مفهوم الأصل فذلك على ثلاثة أضرب: مفهوم الخطاب ودليله ومعناه، ويأتي شرح ذلك في باب الحدود4. وأما استصحاب الحال فذلك على ضربين: أحدهما: استصحاب براءة الذمة من الواجب حتى يدل دليل شرعي   1 "ص: 100". 2 "ص: 839". 3 "الورقة: 158" وما بعدها. 4 "ص: 152". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 عليه، وهذا صحيح بإجماع أهل العلم، وذلك مثل أن يسأل حنبلي عن الوتر فيقول: ليس بواجب1؛ لأن الأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل الشرعي على وجوبه. والثاني: استصحاب حكم الإجماع، فهو أن تجمع الأمة على حكم ثم تتغير صفة المجمع عليه، ويختلف المجمعون فيه، هل يجب استصحاب حال الإجماع بعد الاختلاف حتى ينقل عنه الدليل أم لا؟ على خلاف بينهم، يأتي الكلام فيه2 إن شاء الله تعالى3.   1 الوتر غير واجب عند الحنابلة. راجع "المغني" لابن قدامة "2/ 132" و"منتهى الإرادات" لابن النجار الحنبلي "1/ 98" و"التنقيح المشبع" للمرداوي "ص: 54"، كما أنه غير واجب عند الشافعية، انظر "حاشية قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلى" "1/ 212"، وكذلك الشأن عند المالكية، راجع "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" "1/ 313" وما بعدها، و"الشرح الصغير" لأبي البركات الدردير "1/ 411". أما الحنفية فالوتر عندهم واجب، راجع في ذلك "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي "1/ 168- 170"و"شرح فتح القدير" لابن الهمام "1/ 423- 434". 2 الورقة: 190. 3 فات المؤلف أن يذكر تعريف الأصولي، وتعريف الفقيه، وحكم تعلم أصول الفقه، وتكميلا للفائدة نذكر ذلك فيما يلي: فالأصولي -كما يقول أبو البقاء الفتوحي- في كتابه "شرح الكوكب المنير" "ص: 14": "هو من عرف القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية. أما الفقيه فهو: من عرف جملة غالبة من الأحكام الشرعية الفرعية بالفعل أو بالقوة" هكذا عرفه الفتوحي في كتابه السابق ذكره. أما حكم تعلمها، فعلى قولين: الأول: أنه فرض كفاية. والثاني: أنه فرض عين على من أراد الاجتهاد. ارجع إلى "المسودة" "ص: 571" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 14". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 باب ذكر حدود مدخل ... باب ذكر حدود 1: تحديد2 أصول الفقه من ألفاظها.   1 راجع في هذا الباب "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول الورقة "10/ ب" و"التمهيد" الورقة "6/ أ" و"شرح مختصر الروضة" الجزء الأول الورقة "32/ ب" و"روضة الناظر" "ص: 5"، و"المسودة" "ص: 570" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 25". 2 هذه الكلمة غير واضحة في الأصل، إلا أنها دائرة بين كلمة "تحد"، وكلمة "تحديد" ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فصل: [ في تعريف الحد ] : معنى الحد هو: الجامع لجنس ما فرقه التفصيل، المانع من دخول ما ليس من جملته فيه1. ولذلك سمي البواب حدادًا؛ لأنه يمنع من ليس من أهل الدار من الدخول إليها.   1 الأصوليون في تعريف "الحد" على فريقين: الفريق الأول: لم يعرفه؛ لأنه يستلزم الدور. الفريق الثاني: عرفه؛ وهؤلاء اختلفوا على أقوال كثيرة، لا داعي لذكرها، ومن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى المراجع التي ذكرناها قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وسموا الحديد بهذا الاسم؛ لأنه يمنع من وصول السلاح إلى المتحصن به. وسميت حدود الدار والأرض؛ لأنها تمنع أن يدخل في البيع ما ليس [3/ أ] من البيع، وكذا يخرج منه ما ليس هو من المبيع، وسميت العقوبة حدًّا؛ لما فيها من المنع من مواقعة الفواحش. ومنه إحداد المرأة في عدتها؛ [لأنها تمتنع به] 1 من الطِّيب والزنية. والزيادة في الحد نقصان في المحدود؛ لأن الحد [متى جمع ذواتًا كانت] 2 متفرقة حال التفصيل، فمتى ضم إليه [قدر] 3 زائد على المذكور خرج بعض الذوات من جملة الكلام، فيكون الحد للبعض4، بعد أن كان للجميع. وقال أبو بكر الباقلاني5: الزيادة فيه على ضربين:   1 غير واضحة في الأصل، والقراءة اجتهادية. 2 هذه الكلمات غير واضحة في الأصل بسبب الرطوبة، وما أثبتناه هو الأقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى؛ لأن السياق يدل على ذلك؛ ولأن بعض الحروف الظاهرة تدل على ذلك أيضًا. 3 القراءة لهذه الكلمة على وجه التقريب؛ لعدم وضوحها في الأصل. 4 لا يجوز لغة دخول: "أل" على بعض؛ حيث لم يرد ذلك في لغة العرب، خلافًا لابن درستويه. انظر: القاموس "2/ 324" مادة: "بعض". 5 هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم المعروف بالباقلاني أو ابن الباقلاني، أصولي متكلم، مالكي المذهب، بصري الولادة، بغدادي السكنى والوفاة. توفي لسبع بقين من شهر ذي القعدة سنة: 403هـ. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" "5/ 379" و"ترتيب المدارك" "4/ 585" و"الديباج المذهب" "ص: 267" و"شذرات الذهب" "3/ 168" و"وفيات الأعيان" "3/ 400". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 منها ما هو نقصان منه، ومنها ما هو ليس بنقصان. فأما التي هي نقصان نحو قولك: حد الواجب أنه في فعله ثواب، وفي تركه عقاب، فهذا يوجب خروج كل ما ليس بصيام عن كونه واجبًا، فعادت بالنقصان. وأما ليس بنقصان نحو قولك: حد الواجب: أنه فرض في فعله ثواب، وفي تركه عقاب، فكل فرض واجب. وأما النقصان من الحد فإنه أبدًا زيادة فيه، نحو قولك: حد الواجب ما كان في فعله ثواب، ولا يقرن به في تركه عقاب، فيدخل النفل في جملة الواجب؛ لأنه مما عليه ثواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فصل: [ في تعريف العلم ] : وحدُّ العلم: معرفة المعلوم على ما هو به1.   1 هذا التعريف ذكره إمام الحرمين في كتابه: "البرهان" الجزء الأول الورقة "10/ ب"، ونسبه للقاضي أبي بكر الباقلاني، كما نسبه الغزالي إلى الباقلاني في كتابه: "المنخول" "ص: 38". وقد ساق ابن عقيل في كتابه "الواضح" الجزء الأول الورقة "2/ ب، 3/ ب" كثيرًا من الحدود وناقشها، واختار التعريف القائل: "العلم هو وجدان النفس الناطقة للأمور بحقائقها". ولمزيد من الاطلاع راجع "التمهيد" لأبي الخطاب، الورقة "6/ ب، 7/ ب" فإنه اختار تعريفًا قريبًا من تعريف شيخه أبي يعلى، وانتصر له. وراجع أيضا: "شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "32/ ب، 33/ ب" و"المسودة" "ص: 575" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 17- 19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وقيل: تبين المعلوم على ما هو به1. وقيل: إثبات المعلوم على ما هو به. وقيل: إدراك المعلوم على ما هو به2؛ لأن جميعه محيط بجميع جملة المحدود، فلا يدخل ما ليس منه، ولا يخرج ما هو منه. والحد الأول أصح3؛ لأن من حده: "بالتبين"4، يبطل بعلم الله تعالى؛ لأنه لا يوصف بأنه مبين؛ لأن ذلك يستعمل في العلم الذي يحصل عقيب الشك ولا يجوز ذلك عليه، ومع هذا فهو عالم. ومن يحده "بالإثبات" لا يصح؛ لأن الإثبات هو الإيجاد5، ولهذا يقال: أثبت السهم في القرطاس. ومن حده "بالإدراك"، لا يصح؛ لأنه يستعمل في أشياء مختلفة على طريق الحقيقة بالإدراكات الخمسة: الرؤية والسمع والشم والذوق والبلوغ، فثبت أنه يستعمل في غير العلم. ولو قيل: "معرفة المعلوم"، ولم يقل "على ما هو به" كفى، ويكون ذلك تأكيدًا؛ لأن العلم لا يصح أن يتعلق بالمعلوم ويكون معرفة إلا على ما هو به، ولو تعلق به على ما ليس به لكان جهلا، وخرج عن كونه   1 هذا التعريف نسبه أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "6/ ب" إلى بعض الأشعرية. 2 هذا التعريف نسبه أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "6/ ب" إلى بعض الأشعرية. 3 هكذا اختار القاضي هذا التعريف هنا، مع أنه اختار تعريفًا آخر، هو بمعنى حد المعتزلة، ذكر ذلك عبد الحليم بن عبد السلام في "المسودة" "ص: 575". 4 في الأصل: "التبيين"، والصواب ما أثبتناه, 5 يعني: أن "الإثبات" لفظ مشترك فهو مجمل في التعريف؛ ولذلك فالتعريف باطل. انظر "التمهيد" الورقة "7/ أ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 علمًا، فلهذا صح أن نقتصر على قوله: "معرفة المعلوم". وإنما عدلنا عن القول بأنه: معرفة الشيء، إلى القول بأنه معرفة المعلوم؛ لأن: القول معلوم، أعم من: القول شيء؛ لأن الشيء لا يكون إلا موجودًا، والمعلوم يكون معدومًا وموجودًا، وقد ثبت أن المعدوم ليس بشيء فإذا قيل: حده أنه: معرفة الشيء، خرج العلم بالمعدوم الذي ليس بشيء عن أن يكون علمًا وانتقض الحد؛ لأنه علم بما ليس بشيء، فوجبت الرغبة لما ذكرنا عن ذكر "الشيء" إلى ذكر "المعلوم". والدلالة على أن حده ما ذكرنا أن كل من عرف العلم فقد علم أنه معرفة، وأنه هو الذي لأجله كان العالم عالِمًا، وكل من عرف المعرفة التي صار العالم عالِمًا بها فقد عرف العلم علمًا، فكان حدًّا صحيحًا [3/ ب] كما أن حد المحدث لما كان هو الموجود عن عدم، كان كل من عرفه موجودًا عن عدم، فقد علم أنه محدث. وقالت المعتزلة1 [حَدُّ] 2 العلم: "اعتقاد الشيء على ما هو به فقط".   1 المعتزلة إحدى الفرق الْمُبَدَّعة التي خالفت أهل السنة في كثير من أصول العقيدة وفروعها، وقد تعددت فرقها حتى بلغت عشرين فرقة، سميت بهذا الاسم؛ لأن رئيسها "واصل بن عطاء الغزال" كان يرى أن الفاسق بين منزلتين لا كافر ولا مؤمن، ولما سمع منه الحسن البصري هذا طرده من مجلسه، فاعتزل عند سارية من سواري المسجد، وانضم إليه عمرو بن عبيد، فلما اعتزلا قيل لهما ولمن تبعهما معتزلة. راجع: "الفرق بين الفرق" "ص: 24، 114، 201"، و"الْمِلَلَ والنِّحَل" للشهرستاني "1/ 43- 85". 2 غير واضحة في الأصل، ولكن السياق يدل عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وقال بعضهم: اعتقاد الشيء على ما هو به على غير [وجه] 1 الظن والتقليد. وقال آخرون منهم: حَدُّه اعتقاد الشيء على ما هو به، إذا وقع عن ضرورة أو دليل. وقال آخرون منهم: اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إلى معتقده. وكل هذه الحدود باطلة؛ لأن من قال: اعتقاد الشيء على ما هو به فقط، يوجب أن يكون المخمن والظّان -إذا اعتقد الشيء على ما هو به- عالِمًا باعتقاد ذلك الشيء، وهذا باطل؛ للاتفاق على أن العالم2 لا يجوز كونه على غير ما علمه، والظان بكون الشيء يجد من نفسه تجويز كونه على خلاف من ظنه وتوهمه؛ ولأنه يبطل قوله وقول من قال: إذا وقع عن ضرورة أو دليل، وقول من قال: "مع سكون النفس" بعلم الله تعالى؛ لأنه عالم وليس بمعتقد، ولا علمه عن ضرورة ولا عن سكون النفس. وعلى أن النفس عندهم هي الجملة المحسوسة، وسكون الجملة هو سكون مكان، وذلك يقتضي أن الإنسان إذا كان ساكن الجملة كان عالِمًا، وإذا لم يكن متحركًا فلا يكون عالِمًا، وذلك باطل. وعلى أن السكون يستعمل في زوال الغم وحصول الأنس، وهذا يقتضي أن يكون الإنسان إذا زال غمه وأنس فهو عالم، وذلك باطل.   1 غير واضح في الأصل، ولكن السباق واللحاق يدلان عليها. 2 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "العلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فصل: [ في أقسام العلم ] : 1 والعلم على ضربين: قديم ومحدث. فأما القديم: فهو علم الله تعالى، وهو علم واحد يتعلق بجميع المعلومات على ما هي به، لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه التغيير والبطلان، ولا يوصف بأنه ضروري، ولا بأنه مكتسب، ولا استدلالي؛ لئلا يوهم كونه محتاجًا إلى العلم لما يعلمه لدفع ضرر عنه، أو أنه ملجأ ومكره على العلم بما هو عالم به، ومحال ذلك في صفته. وأما المحدث2 فعلى ضربين: ضروري، ومكتسب. فأما الضروري فحده: كل علم محدث لا يجوز ورود الشك عليه ويلزم نفس المخلوق3. أو ما لا يمكنه معه الخروج عنه، والانفصال منه، وإنما قلنا: ما لزم نفس المخلوق، ولم نقل: ما لزم نفس العالم؛ لكي يخرج علم القديم سبحانه عن كونه اضطرارًا؛ لأن عمله سبحانه بكل معلوم لازم لذاته على الوجه الذي يلزم ذواتنا علوم الضرورات، وليس لأحد أن يقول: إنه مضطر إلى العلم بمعلوماته.   1 راجع في هذا الفصل كتاب: "الواضح" الجزء الأول الورقة "4/ ب، 5/ ب" وكتاب "التمهيد" الورقة "7/ ب، 8/ ب"، فإن أبا الخطاب ترسم خُطَا شيخه في هذا البحث مع فروق بسيطة، وراجع أيضًا كتاب: "شرخ مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "33/ ب" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 19". 2 لم يذكر القاضي تعريف العلم المحدث كما ترى، غير أن تلميذه أبا الخطاب عرفه بقوله: علم جميع المخلوقين من الملائكة والإنس والجن وغير ذلك. انظر "التمهيد" الورقة "7/ ب، 8/ ب". 3 هكذا عرفه القاضي غير أن أبا الخطاب عرفه بقوله: "هو ما علم الإنسان من غير نظر ولا استدلال". انظر المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وإنما سمي ضرورة؛ لأنه مما تمس الحاجة إليه، أو مما يقع الإكراه عليه والإلجاء إليه؛ ولهذا قال تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 1، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} 2. وقالوا في المكره على الطلاق والعتاق: إنه مضطر إليه ومحمول عليه ومكره عليه. وعلم الضرورة على ضربين3: أحدهما لا يتعلق بسبب سابق، والثاني يتعلق بسبب سابق. فأما ما لا يتعلق بسبب سابق، فمثل علم الإنسان بأحوال [4/ أ] نفسه، من قيامه وقعوده، وحركاته وسكناته، وما يعرض في نفسه من خير وشرور، وميل ونفور، ولذة وألم، وصحة وسقم، ومثل ذلك علمه باستحالة اجتماع الضدين، والجسم في مكانين، وأن الواحد أقل من الاثنين، فهذا كله علم مبتدأ في نفسه لا يتعلق بسبب. وأما ما يتعلق بسبب سابق فعلى ضربين: محسوس، وغير محسوس، فأما المحسوس: فهو العلم الواقع عن الحواس الخمس وهي: البصر   1 "119" سورة الأنعام. 2 "173" سورة البقرة. 3 هكذا قسمه المؤلف إلا أن أبا الخطاب قسمه إلى أربعة أقسام هي: "الأول: ما يعلمه الإنسان من حال نفسه مثل الغم والسرور، والصحة والسقم، والقيام والقعود ... الثاني: ومنه ما يعلم بطريق العقل، وهو مثل علمه باستحالة اجتماع الضدين. الثالث: ومنه ما علمه بالحواس الخمس. الرابع: ومنه ما يعلمه بخبر التواتر، فيقع له به العلم ضرورة، وهو مثل إخباره بالبلاد النائية والقرون الخالية ... " "التمهيد" الورقة "8/ أ"، وأنت ترى أن مؤدى التقسيمين واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 والسمع والذوق والشم واللمس، وذلك أن العلم يحصل عن الإدارك بهذه الحواس. وأما غير المحسوس فهو: العلم الواقع عن الخبر المتواتر، مثل العلم بالبلدان النائية والسير الماضية، فإذا سمع الخبر المتواتر حصل العلم بمخبره. وأما المكتسب: فحده كل علم يجوز ورود الشك عليه. وقد قيل: ما وقع عن نظر واستدلال. ومعنى الكسب: ما وجد بالموصوف به وله عليه قدرة محدثة. ومعنى النظر والاستدلال: ما يحصل العلم به عن ابتداء نظر وتفكر. وعلم الكسب على ضربين: عقلي وشرعي: فأما العقلي: فهو ما لا يفتقر إلى شرع، مثل العلم بحدوث العالم، وإثبات محدثه وصفاته، وصدق من ظهرت المعجزة على يده، وما أشبه ذلك مما لو نظر العاقل فيه وتدبره؛ لحصل له العلم من غير شرع. وأما الشرعي: فهو العلم الواقع عن الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والقياس على أحد هذه الأصول الثلاثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فصل: [ في تعريف الجهل والشك والظن ] : 1 وحَدُّ الجهل: تبين المعلوم على خلاف ما هو به، ضد العلم2.   1 راجع في هذا الفصل "التمهيد" الورقة "9/ ب". 2 لم يذكر القاضي أقسام الجهل، وهو ينقسم إلى قسمين: الأول: الجهل المركب وهو: تصور الشيء على غير هيئته. الثاني: الجهل البسيط وهو: انتفاء إدارك الشيء بالكلية. انظر: "شرح الكوكب المنير" "ص: 23". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر. والظن1: تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر. وغلبة الظن: قوة الظن، فإن الظن يتزايد، ويكون بعض الظن أقوى من بعض. والشك: ليس بطريق للحكم في الشرع، ولا يلزم على هذا الصيام يوم الشك؛ لأنه ليس الموجب لصيامه الشك، وإما الموجب قيام الدليل، ألا ترى أنه يوجد الشك ولا يجب الصيام، وهو ما إذا كانت السماء مصحية، لعدم قيام الدليل. والظن: طريق للحكم، إذا كان عن أمارة مقتضية للظن، ولهذا يجب العمل بخبر الواحد، إذا كان ثقة، ويجب العمل بشهادة الشاهدين وخبر المقومين، إذا كانا عَدْلَينِ، ويجب العمل بالقياس، وإن كانت علة الأصل مظنونة، ويجب استصحاب حكم الحال السابق في حال الشك، مثل الشك في الحدث بعد الطهارة، والطلاق بعد النكاح، والشك في العتاق بعد الملك؛ لأن الظاهر بقاؤه وعدم حدوث المشكوك فيه.   1 في الأصل: "الظني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فصل: [ في تعريف العقل ] : 2 والعقل ضرب من العلوم الضرورية، وهو مثل العلم باستحالة اجتماع الضدين، وكون الجسم في مكانين، ونقصان الواحد عن الاثنين، والعلم   1 في الأصل: "الظني". 2 راجع في هذا الفصل كتاب "المعتمد في أصول الدين" للقاضي أبي يعلى "ص: 101، 102" في مبحث العقل، وكتاب "الواضح" الجزء الأول، الورقة "5/ ب، 6/ ب" و"التمهيد": الورقة "8"، و"شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "34"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 23، 24" و"المسودة" "ص: 556، 559". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بموجب العادات، فإذا أخبره مخبر بأن الفرات تجري دارهم راضية، لا يجوز صدقه. ومن أخبر بنبات شجرة بين يديه، وحمل [4/ ب] ثمرة وإدراكها من ساعته، لا ينتظر ذلك ليأكل منها، وإذا أخبر بأن الأرض تنشق ويخرج منها فارس بسلاح يقتله، لا يهرب فزعًا من ذلك، فإذا حصل له العلم بذلك، كان عاقلا ولزمه التكليف. وقال أبو الحسن التميمي عبد العزيز بن الحارث1 من أصحابنا في "كتاب العقل": العقل ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر، وإنما هو نور، فهو كالعلم"2. وقال أبو محمد البربهاري3: وليس العقل باكتساب، وإنما هو   1 هو عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو الحسن التميمي، من أكابر علماء الحنابلة أصولا وفروعًا، متهم بالوضع، فقد وضع حديثًا أو حديثين في مسند الإمام أحمد، نسأل الله السلامة، ولد سنة: 317هـ، وتوفي سنة:371هـ. انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "2/ 139"، والمغني في الضعفاء للذهبي "2/ 396، 397"، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي "ص: 516"، وميزان الاعتدال للذهبي "2/ 624- 626"، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي "4/ 140"، وتنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة "1/ 80". 2 نقل أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" "8/ أ" تعريف أبي الحسن هذا غير أنه لم يذكر فيه قوله: "ولا صورة" كما أنه لم يذكر قوله: "فهو كالعلم" مع أنه أتى بزيادة على ما ذكره القاضي وهي عبارة "في القلب" بعد قوله: "وإنما هو نور". أما "المسوّدة" فقد نقل فيها تعريف أبي الحسن التميمي كما هنا. 3 هو الحسن بن علي بن خلف أبو محمد البربهاري، شيخ الحنابلة في وقته، صحب جماعة من أصحاب الإمام أحمد، منهم المروزي وسهل التُّسْتُرِي. له مصنفات منها: شرح السنة. توفي في بغداد في رجب سنة: 329هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب "2/ 319"، وطبقات الحنابلة "2/ 18"، والمنتظم "6/ 323"، والنجوم الزاهرة "3/ 273". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فضل من الله1. ذكره في "شرح السنة" في جزء وقع إليّ وقال بعضهم: قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات. وقال أبو بكر بن فورك2: هو العلم الذي يتمنع به من فعل القبيح. وقال بعضهم: ما حسن معه التكليف. ومعنى ذلك كله متقارب، ولكن ما ذكرناه أولى3؛ لأنه مفسر، وهو قول الجمهور من المتكلمين. وقال أحمد فيما رواه أبو الحسن التميمي في "كتاب العقل" عن محمد بن أحمد بن مخزوم4 عن إبراهيم الحربي5 عن أحمد أنه قال: العقل   1 هكذا جاء نص تعريف البربهاري في "المسوّدة" "ص: 556" نقلا عن القاضي أبي يعلى، غير أن أبا الخطاب ذكر تعريف البربهاري على النحو التالي: ليس بجوهر ولا عرض وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء "التمهيد"، الورقة "8/ أ". 2 هو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري ثم الأصبهاني، أبو بكر، أصولي فقيه متكلم نحوي، درس بالعراق فنيسابور فغزنة، وفي طريق عودته من غزنة إلى نيسابور سُمَّ فمات، فنقل إلى نيسابور، ودفن بها سنة: 406هـ. له ترجمة في: الأعلام "6/ 313" وشذرات الذهب "3/ 181" ووفَيَات الأعيان "3/ 402" والنجوم الزاهرة "4/ 240". 3 وقد اختاره من الحنابلة أبو الوفاء بن عقيل في كتابه "الواضح"، الجزء الأول، الورقة "5/ ب"، كما اختاره أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "8/ أ" ونقل عن شيخه القاضي أبي يعلى أن ذلك اختيار الأصحاب. 4 أبو الحسين المقرئ، روى عن إبراهيم بن الهيثم البلدي وأحمد بن محمد بن مسروق الطوسي، وعنه أبو بكر الأبهري وأبو حفص الكتاني. قال حمزة السهمي: سألت أبا محمد بن علام الزهري عنه فقال: ضعيف. كما سئل أبو الحسن التمار عنه فقال: كان يكذب. ولد سنة: 268هـ، ومات بعد سنة: 330هـ. له ترجمة في: "تاريخ بغداد" "1/ 362"، "وتنزيه الشريعة" لابن عراق "1/ 100". 5 هو إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله بن ديسم أبو إسحاق الحربي، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 غريزة، والحكمة فطنة، والعلم سماع، والرغبة في الدنيا هوى، والزهد فيها عفاف"1. ومعنى قوله: غريزة، أنه خلق الله تعالى ابتداءً، وليس باكتساب للعبد. خلافًا لما حكي عن بعض الفلاسفة: أنه اكتساب. وقال قوم: هو عرض مخالف لسائر العلوم والأعراض. وقال قوم: هو مادة وطبيعة. وقال آخرون: هو جوهر بسيط. وهذا فاسد؛ لأن الدليل دلَّ على أن الجواهر كلها من جنس واحد، خلافًا للمُلْحِدَةِ في قولهم: هي مختلفة؛ لأن معنى المثلين: ما سد أحدهما   = والحربي نسبة إلى محلة ببغداد، سميت بحربية، نسبة إلى حرب بن عبد الله صاحب حرس المنصور، وقد كان إبراهيم الحربي عالِمًا بالحديث والفقه، من أصحاب الإمام أحمد وممن نقل عنه كثيرًا من المسائل. ولد سنة: 198هـ، وتوفي ببغداد يوم الاثنين لتسع بقين من ذي الحجة سنة: 285هـ. انظر ترجمته في: الأعلام "1/ 24"، والأنساب المتفقة لابن القيسراني "ص: 41"، البداية والنهاية "11/ 79"، وتاريخ بغداد "6/ 27"، وتذكرة الحفاظ "2/ 584"، وشذرات الذهب "2/ 190"، وفوات الوفيات "1/ 5"، ومرآن الجنان "2/ 209"، والنجوم الزاهرة "3/ 118". 1 كيف تصح نسبة هذا النقل إلى الإمام أحمد، مع أن في سنده -كما ترى- أبا الحسن التميمي، وهو وضَّاع، ومحمد بن أحمد بن مخزوم، وهو كذاب، ومن لا يتورع عن الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يتورع عن الكذب على غيره. وقد نُقِل هذا القول منسوبًا إلى الإمام أحمد بالسند المذكور في "المسودة" "ص: 556"، كما نقله أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "8/ أ" عن إبراهيم الحربي عن أحمد بلفظ: "العقل غريزة وحكمة وفطنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 مسد صاحبه، وناب منابه، والجواهر على هذا؛ لأن كل واحد منهما متحرك وساكن وعالم، فلو كان العقل جوهرًا لكان من جنس العاقل، ولاستغنى العاقل بوجود نفسه في كونه عاقلًا عن وجود مثله، وما هو من جنسه، وقد ثبت أنه ليس بعاقل بنفسه، فمحال أن يكون عاقلا بجوهر من جنسه؛ ولأنه لو كان جوهرًا لصحَّ قيامه بذاته ووجوده، لا بعاقل ولصح أن يعقل ويكلف؛ لأن ذلك مما يجوز على الجواهر وفي امتناع ذلك دليل، على أنه ليس بجوهر، فثبت أنه عرض، ومحال أن يكون عرضا غير سائر العلوم؛ لأنه لو كان كذلك لصح وجود العقل مع عدم سائر العلوم، حتى يكون الكامل العقل غير عالم بنفسه ولا بالمدركات ولا بشيء من الضرورات؛ إذ لا دليل يوجب تضمن أحدهما للآخر. وذلك نهاية الإحالة. ومحال أن يكون اكتسابًا؛ لأنه يؤدي إلى أن الصبي وممن عدمت منه الحواس الخمس ليسوا بعقلاء؛ لأنهم لا نظر لهم ولا استدلال يكتسبون به العقل، وفي الإجماع على حصول العقل منهم دليل على فساد هذا. ولا يجوز أن يكون العقل هو الحياة؛ لأن العقل يبطل ويزول [5/ أ] ولا يخرج الحي عن كونه حيًّا، وقد يكون الحي حيًّا وإن لم يكن عالِمًا بشيء أصلا. ولا يجوز أن يكون هو جميع العلوم الضرورية1، ولا العلوم التي تقع عقيب الإدراكات الخمسة؛ لأن هذا يؤدي إلى أن الخرس والطرش2 والأكمه ليسوا بعقلاء؛ لأنهم لا يعلمون المشاهدات والمسموعات والمدركات   1 في كتاب "المعتمد في أصول الدين، للمؤلف "ص: 102": العلوم الضرورية والكسبية. 2 هكذا في الأصل، والذي في "المعتمد في أصول الدين" "ص: 102": الأخرس والأطرش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 التي تعلم باضطرار ولا باستدلال1. ولا يجوز أيضًا أن يكون العلم بِحُسْنِ حَسَنٍ وقُبْحِ قبيح، ووجوب واجب وتحريم محرم من جملة العلوم التي هي عقل؛ لأن هذه الأحكام كلها معلومة من جهة السمع دون قضية العقل، فوجب أن يكون بعض العلوم الضرورية، وهو ما ذكرنا في أول الفصل وما كان في معناه من أن الموجود لا يخلو من أن يكون لوجوده أول، وأن الموجود لا يكون معدومًا موجودًا في حالة واحدة، وأن المتحرك عن المكان لا يجوز أن يكون ساكنًا فيه في حالة واحدة، وأن الذات الواحدة لا تكون حية ميتة، ونحو ذلك من الأوصاف المتضادة2.   1 من قوله: "ولا يجوز أن يكون العقل هو الحياة" إلى هنا موجود بنصه في كتاب "المعتمد في أصول الدين" "ص: 102". 2 من هذه التعريفات للعقل يتضح لنا أن كل من عرَّفَه رَاعَى ناحيةً وغفل عن ناحية أخرى، وقد تفطن لذلك الشيخ شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام في كتاب "المسودة" "ص: 558، 559" حيث جاء فيه ما ملخصه: العقل لا يمكن إحاطته برسم واحد، ولكن العقل يقع على أربعة معانٍ: 1 ضروري، وهو الذي عناه من قال: إنه بعض العلوم الضرورية. قلت: وهذا العقل ما يتعلق به التكليف. 2 غريزة تقذف في القلب، وهذا النوع ينمو بنمو الإنسان، وبه يقع الاختلاف بين الناس، فهذا بليد وذاك ذكي. 3 ما به ينظر صاحبه في عواقب الأمور، فلا يغتر بلذة عاجلة تعقبها ندامة. 4 ما يستفاد من التجارب في حياة الإنسان. وهذا ما عناه من قال: "إن العقل مكتسب. قلت: وقد سبق حجة الإسلام الغزالي إلى هذا التقسيم، وذلك في كتابه "إحياء علوم الدين" "1/ 145، 146". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فصل: [في محل العقل] : 1 ومحل العقل القلب، ذكره أبو الحسن التميمي في "كتاب العقل"، فقال: الذي نقول به: إن العقل في القلب يعلو نوره إلى الدماغ، فيفيض [منه2] إلى الحواس ما جرى في العقل. ومن الناس من قال: هو في الدماغ. وقد نص أحمد -رحمه الله- على مثل هذا القول فيما ذكره أبو حفص بن شاهين3 في الجزء الثاني من أخبار أحمد بإسناده عن فضل بن زياد4 وقد سأله رجل عن العقل أين منتهاه من البدن؟ وقال5 سمعت أحمد بن   1 راجع في هذا الفصل: "التمهيد" الورقة "8/ ب، 9/ أ"، "المسودة" "ص: 559، 560"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 24". 2 ساقطة من الأصل، ولكن المقام يقتضيها، ويبدو أن الناسخ قد أسقطها؛ لأنها ثابتة في "المسودة" "ص: 559" عند نقل كلام أبي الحسن التميمي بنصه. 3 هو عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي أبو حفص ابن شاهين، مفسر ومحدث ومؤرخ، ثقة، من الطبقة الثانية عشرة، عيب عليه لحنه، وعدم بصره بالفقه. له مؤلفات منها: "كتاب الترغيب"، و"كتاب التفسير الكبير"، و"كتاب التاريخ". توفي في ذي الحجة سنة: 385هـ. انظر ترجمته في: تاريخ بغداد "11/ 265"، وتذكرة الحفاظ "3/ 987"، وشذرات الذهب "3/ 117"، وطبقات الحفاظ "ص: 392"، وطبقات المفسرين للداودي "2/ 2"، وغاية النهاية في طبقات القراء "1 /588"، ولسان الميزان "4 /383"، ومرآة الجنان "2/ 826"، والمنتظم "7/ 152"، والنجوم الزاهرة "4/ 173". 4 هو الفضل بن زياد أبو العباس القطان البغدادي، من أصحاب الإمام أحمد المقدمين عنده، وممن نقلوا عنه مسائل كثيرة، وكان يصلي الإمام أحمد خلفه، له ترجمه في: طبقات الحنابلة "1/ 251- 253". 5 كان المناسب أن يقول: "فقال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 حنبل يقول: العقل في الرأس، أما سمعت إلى قولهم: وافر الدماغ والعقل. واحتج هذا القائل: بأن الرأس إذا ضرب زال العقل؛ ولأن الناس يقولون: "فلان خفيف الرأس، وخفيف الدماغ"، ويريدون به العقل. وهذا غير صحيح؛ لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 1 وأراد به العقل، فدل على أن القلب محله؛ لأن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورًا له، أو كان بسبب منه. واحتج أبو الحسن التميمي بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 2 وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} 3. واحتج أيضًا بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث المدائني4، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والكبد رحمة، والقلب ملك، والقلب مسكن العقل"5.   1 "37" سورة ق. 2 "46" سورة الحج. 3 "179" سورة الأعراف. 4 هو علي بن محمد أبو الحسن المدائني الأخباري. قال فيه ابن عدي: ليس بالقوي في الحديث. وثَّقَه ابن معين فيما نقل أحمد بن أبي خيثمة. روى عن جعفر بن هلال. وعنه الزبير بن بكَّار وأحمد بن زهير وغيرهما. ولد بالبصرة سنة: 135هـ، ومات ببغداد سنة: 228هـ. على الراجح. له ترجمة في: تاريخ بغداد "12/ 54"، وميزان الاعتدال "3/ 153"، وشيخ الإخباريين أبو الحسن المدائني للدكتور بدري محمد فهد "ص: 16" وما بعدها، والكتاب كله دراسة عنه. 5 هذا الحديث ذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة "1/ 95" بأطول مما هنا، غير أنه لم يذكر قوله: "والقلب مسكن العقل"، وهو حديث موضوع؛ لأن فيه عطية ضعيف وكان يدلس عن الكلبي بأبي سعيد، فيظن الخدري، راجع "المجروحين" "2/ 176" لابن حبان. ثم عقب عليه السيوطي بعد ذلك، غير أنني لم أجد المدائني في السند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وروي أن عمر بن الخطاب1 -رضي الله عنه- كان إذا دخل عليه ابن عباس2 قال: "جاءكم الفتى الكهول له لسان قئول وقلب عقول"3. فنسب العقل إلى القلب.   1 هو عمر بن الخطاب بن نفيل، القرشي العدوي، أبو حفص. ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد المبشرين بالجنة. ولد سنة: "40" قبل الهجرة. ومات شهيدًا سنة: 23هـ. له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 1144"، وأسد الغابة "4/ 145"، والإصابة "4/ 279"، وتذكرة الحفاظ "1/ 5"، وشذرات الذهب "1/ 33"، والنجوم الزاهرة "1/ 78". 2 هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي أبو العباس، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- من علماء الصحابة وفقهائهم الأجلاء، ولد في مكة المكرمة سنة "3" قبل الهجرة على الأرجح، وتوفي بالطائف "سنة: 68هـ". انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 933"، وأسد الغابة "3/ 290"، والإصابة "4/ 90"، وتاريخ بغداد "1/ 173"، وتذكرة الحفاظ "1/ 40"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 172"، وشذرات الذهب "1/ 75"، وطبقات الحفاظ "ص: 10"، وطبقات الفقهاء للشيرازي "ص: 48"،وطبقات القراء الكبار للذهبي"1/ 41"، وطبقات المفسرين للداودي "1/ 232"، وغاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري "1/ 425"، والنجوم الزاهرة "1/ 182" ونكت الهميان "ص: 180". 3 هذا الأثر عن عمر -رضي الله عنه- أورده ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب "3/ 935" في ترجمة ابن عباس رضي الله عنه، وقد أورده أبو الخطاب في كتابه التمهيد الورقة "9/ أ"، بلفظ: "جاءكم الفتى الكهول ذو اللسان السئول والقلب العقول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وروى عياض بن خليفة1 عن علي كرم الله وجهه2 أنه سمعه يوم صفين3 يقول: "إن العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في   1 أدرك عمر وعليًّا -رضي الله عنهما- وسمع منهما. روى عنه الزهري ويعقوب بن عتبة وغيرهما. له ترجمة في التاريخ الكبير للبخاري "4/ 20"، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم "3/ 407، 408". 2 هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف الهاشمي أبو الحسن، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وزوج ابنته، ورابع الخلفاء الراشدين، صحابي جليل، شهد المشاهد كلها إلا غزوة تبوك، حيث خلفه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة. ولد قبل البعثة بعشر سنين، ومات مقتولا سنة: 40هـ. انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 1089"، وأسد الغابة "4/ 91"، والإصابة "4/ 269"، وتاريخ بغداد "1/ 133"، وتذكرة الحفاظ "1/ 10"، وخلاصة تهذيب الكمال "ص: 232"، وشذرات الذهب "1/ 49" وطبقات الحفاظ "ص: 4"، وطبقات الفقهاء "ص: 41"، وطبقات القراء الكبار "1/ 30"، والعبر "1/ 46"، وغاية النهاية في طبقات القراء "1/ 546"، والنجوم الزاهرة "1/ 119". 3 "يوم صفين" كان في غرة شهر صفر "سنة: 37هـ"، وقد دارت فيه معركة حامية الوطيس بين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وبين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- وقد دارت هذه المعركة في موقع يسمى: "صفين" يقع بالقرب من الرقة بشاطئ الفرات بأرض العراق. ارجع في هذا إلى معجم ما استعجم للبكري "3/ 837"، والقاموس المحيط "4/ 242 " "مادة: صفن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الطِّحال، وأن النفس في الرئة"1. وعن أبي هريرة2 [5/ ب] وكعب3 أنهما قالا: العقل في القلب وأيضًا فإن العقل ضرب من العلوم الضرورية، ومحل العلم القلب. وما ذكروه من زوال العقل بضرب الرأس، فلا يدل على أنه محله،   1 الأثر هذا أخرجه البخاري في الأدب المفرد "2/ 3" مطبوع مع شرحه "فضل الله الصمد". وقد ذكره السيوطي في كتابه: "اللآلئ المصنوعة" "1/ 97" عن البيهقي بسنده إلى عياض بن خليفة. وأورده أبو الخطاب في التمهيد الورقة "9/ أ". 2 هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، أبو هريرة، صحابي جليل، راوية الإسلام. وقع خلاف في اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة، ذكرها الحافظ ابن حجر في كتابه "الإصابة". كما وقع خلاف في سنة وفاته فقيل: "سنة: 57"، وقيل: "58"، وقيل: "59"، وقد توفي بقصره بالعقيق، ثم حمل إلى المدينة. راجع ترجمته في: الاستيعاب "4/ 1768"، وأسد الغابة "6/ 306"، والإصابة "7/ 199"، وتذكرة الحفاظ "1/ 32"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 397"، وشذرات الذهب "1/ 63"، وطبقات القراء الكبار للذهبي "1/ 40"، والعبر "1/ 62"، وغاية النهاية"1/ 370"، والنجوم الزاهرة "1/ 151"، وقد ألَّف الدكتور محمد عجاج الخطيب كتابًا أسماه" أبو هريرة رَاوِيةُ الإسلام"، وهو مطبوع ضمن سلسلة "أعلام العرب". كما ألف الأستاذ عبد المنعم صالح العلي كتابًا بعنوان: "دفاع عن أبي هريرة". 3 هكذا في الأصل، وفي التمهيد لأبي الخطاب الورقة "9/ أ": "أبي بن كعب"، ونحن نترجم له كما ورد في الأصل فنقول: هو كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري السلمي، أبو عبد الله، شاعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهد العقبة الثانية، واختلف في شهوده بدرًا، أحد المخلفين عن غزوة تبوك، وقد عفا الله عنه وعن صاحبيه. توفي سنة: 55هـ، وله من العمر سبع وسبعون سنة. انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 1323"، والإصابة القسم الخامس "ص: 610" طبعة دار نهضة مصر، وشذرات الذهب "1/ 61". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 كما أن عصر الخصية يزيل العقل والحياة، ولا يدل على أنها محلها. وقول الناس: إنه خفيف الرأس، وخفيف الدماغ، فهو أن يبس الدماغ يؤثر في العقل، وإن كان في غير محله، كما يؤثر في البصر، وإن كان في غير محله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فصل: [ في ذكر الخلاف في تفاوت العقول ] : 1 وذكر أصحابنا أنه يصح أن يكون عقل أكمل من عقل وأرجح. فقال أبو محمد البربهاري في "شرح السنة": العقل مولود أعطي كل إنسان من العقل ما أراده الله تعالى، يتفاوتون في العقول مثل الذرة في السموات، ويطالب كل إنسان على قدر ما أعطاه الله تعالى من العقل. وذكره أبو الحسن التميمي في كتاب "العقل" خلافًا للمتكلمين من المعتزلة والأشعرية2 في قولهم: لا يصح أن يكون عقل أكمل من عقل وأرجح. والدلالة على صحة ذلك: ما روى أبو الحسن في كتاب "العقل" بإسناده عن طاوس3، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قضى بين   1 راجع في هذا الفصل الواضح الجزء الأول الورقة "6/ ب"، والتمهيد الورقة "9/ أ- ب" والمسودة "ص: 560"، وشرح الكوكب المنير "ص: 25". 2 الأشعرية: سميت بذلك، نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، الذي ينتسب إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. انظر: الملل والنِّحل للشهرستاني "1/ 94". 3 هو طاوس بن كيسان الخولاني، الفارسي الأصل، الهمداني بالولاء، اليمني الولادة والمنشأ، أبو عبد الرحمن، تابعي جليل، فقيه ومحدث، أدرك نحوًا من خمسين صحابيًّا، ولد سنة: 33هـ، وتوفي حاجًّا بمنى سنة: 101هـ، وقيل سنة: 104 = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 المهاجرين والأنصار: "تبارك الذي قسم العقل بين عباده واستأثر، إن الرجلين تستوي أعمالهما وبرهما وصلاتهما وصومهما، ويفترقان في العقل حتى يكون بينهما كالذرة في جنب أحد"1. وروى أبو الحسن بإسناده عن أنس2 قال: جاء ابن سلام3 إلى   = انظر ترجمته في: التاريخ الصغير للبخاري "ص: 115"، تذكرة الحفاظ "1/ 90"، وتعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس الورقة "5/ ب"، وتهذيب التهذيب "5/ 8"، والثقات لابن حبان "ص: 121"، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم "ج:1، ق1، ص: 500"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 153"، وشذرات الذهب "1/ 133"، وطبقات ابن سعد "5/ 391"، وطبقات الفقهاء للشيرازي "ص: 73"، وغاية النهاية "1/ 341"، واللباب "1/ 241"، والنجوم الزاهرة "1/ 260"، ووفَيَات الأعيان "2/ 194". 1 هذا الحديث أخرجه الحكيم الترمذي في كتابه "نوادر الأصول" "ص: 242"، عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وتمامه عنده: "وما قسم الله تعالى لخلقه حظًّا هو أفضل من العقل واليقين". وقد أورده القاضي أبو يعلى عن أبي الحسن التميمي بسنده إلى طاوس مرسلا، وأبو الحسن التميمي وضَّاع، كما سبق بيان ذلك. 2 هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، أبو حمزة، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وعمره عشر سنين على الراجح، ومات بالبصرة "سنة: 91هـ" أو "92هـ" أو "93هـ". له ترجمة في: الاستيعاب "1/ 109"، وأسد الغابة "1/ 151"، والإصابة "1/ 71"، وتذكرة الحفاظ "1/ 44"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 35"، وشذرات الذهب "1/ 100"، وكتاب الطبقات لخليفة بن خياط "ص: 91"، وطبقات الحفاظ "ص: 11"، وطبقات الفقهاء "ص: 51"، وغاية النهاية في طبقات القراء "1/ 172". 3 هو عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري، أبو يوسف، أحد الأحبار، أسلم عند قدوم النبي -عليه الصلاة والسلام- المدينة. توفي بالمدينة في خلافة معاوية -رضي الله عنه- سنة: 43هـ. انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 921"، وأسد الغابة "3/ 264" والإصابة "4/ 80". وتذكرة الحفاظ "1/ 26"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 170"، وشذرات الذهب "1/ 53" والنجوم الزاهرة "1/ 125". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر الخبر إلى أن [قال] : قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: إني خلقت العقل أصنافًا شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي من ذلك حبة واحدة، وبعضهم الحبتين، والثلاث، والأربع، وبعضهم من أعطي فرقًا1، وبعضهم أعطي وسقًا2، وبعضهم وسقين، وبعضهم أكثر من ذلك ما شاء الله من التضعيف"3. وروى4 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنا معشر الأنبياء أمرنا أن   1 الفرَْق: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة أصع وهو بسكون الراء ويحرك وهو أفصح من إسكان الراء - أو يسع ستة عشر رطلا أو أربعة أرباع جمع فرقان كبَطْنان. القاموس: "مادة: فرق". 2 الوَسْق ستون صاعًا، أو حمل بعير. القاموس: "مادة: وسق". 3 هذا الحديث أخرجه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" "ص: 242" مع اختلاف يسير في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان. وقد ذكره حجة الإسلام الغزالي في كتابه: "إحياء علوم الدين" "1/ 469" مطبوع مع شرحه إتحاف السادة المتقين، ذكره مستدلا به على تفاوت العقل، وقد علق عليه الزبيدي في شرحه المذكور بقوله: "قال العراقي: رواه داود بن المحبر في كتاب العقل بسنده عن أنس بن مالك، مع اختلاف يسير في النص". قلت: وداود بن المحبر هالك، وسيأتي الكلام عنه "ص: 98". وقد ذكره ابن عراق في كتابه: تنزيه الشريعة "1/ 219" ضمن الأحاديث الموضوعة في "العقل". 4 الضمير في "روى" يعود إلى أبي الحسن التميمي كما صرح بذلك أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "9/ ب" وكذلك الشأن في ضمير "روى" الآتية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 نكلم1 الناس على قدر عقولهم"2. وروى يزيد عن أبي زياد3 عن ابن عباس قال: "العقل عشرة أجزاء، تسعة في الأنبياء وواحد في سائر الناس"4.   1 في الأصل: "نكل" بحذف الميم. وهو خطأ. 2 بعد البحث الطويل لم أجد حديثًا بلفظ: "إنا معشر الأنيباء أمرنا أن نكل الناس على قدر عقولهم" ولكن الذي وجدته هو: "أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم"، فبان أن في النسخة المخطوطة غلطًا، وذلك بحذف حرف الميم من كلمة "نكلم"، فأصبحت: "نكل". وهذا الحديث: "أمرنا أن نكلم ... " ذكره الغزالي في كتابه: "إحياء علوم الدين" "1/ 96"، وفي الحاشية: قال العراقي: حديثُ "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم. ونكلمهم على قدر عقولهم" رويناه في جزء من حديث أبي بكر الشخير من حديث عمر أخصر منه. وعند أبي داود من حديث عائشة "أنزلوا الناس منازلهم". وبهذا اللفظ الذي ذكره العراقي عن أبي دواد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في تنزيل الناس منازلهم "2/ 560"، وقد أخرجه عن يحيى بن إسماعيل بسنده إلى ميمون بن أبي شبيب عن عائشة مرفوعًا. ثم عقب عليه أبو داود بقوله: "وحديث يحيى مختصر. وميمون لم يدرك عائشة". وقد أورد هذا الحديث أبو الخطاب في التمهيد الورقة "9/ ب" نقلا عن أبي الحسن التميمي بسنده إلى ابن عباس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثنا معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم". ولا يصح شيء من هذا في المرفوع، وإنما هو من قول علي -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري برقم: 127. "الفتح". 3 هو يزيد بن أبي زياد الكوفي، قال فيه ابن حبان: "صدوق إلا أنه كبر وساء حفظه، وكان يتلقن". وقال فيه الذهبي: "أحد علماء الكوفة المشاهير على سوء حفظه". وقد أخرج له مسلم مقرونًا بآخر. وقال فيه يحيى: "لا يحتج به". وقال ابن المبارك: "ارم به". توفي سنة: 136هـ، وله تسعون سنة تقريبًا. انظر ترجمته في: خلاصة تذهيب الكمال "ص: 371"، وشذرات الذهب "1/ 206"، وطبقات الحفاظ "ص: 61"، وطبقات ابن سعد "6/ 237"، والعبر "1/ 187"، والمغني في الضعفاء "2/ 749"، وميزان الاعتدال "4/ 423". 4 أورد هذا الأثر أبو الخطاب في التمهيد الورقة "9/ ب"، ولم أجده في غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وهذه الأخبار كلها تدل على التفاضل في العقول1. ولأنه إجماع الناس؛ فإنه مستفيض فيهم القول بأن أحد العاقلين أكمل عقلا وأوفر وأرجح من الآخر. قال بعضهم:   1 هذه الأحاديث لا تدل على شيء؛ لأنه لم يثبت منها شيء، وكونها حجة فرع ثبوتها. وأحاديث العقل حكم عليها المحدِّثون بالوضع، وأنه لم يصح منها شيء، ولذلك قال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات "1/ 177": "وقد رويت في العقول أحاديث كثيرة، ليس فيها شيء يثبت"، كما قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه ابن عراق في كتابه تنزيه الشريعة "1/ 213": "أحاديث في العقل أخرجها داود بن المحبر في كتاب العقل، ومن طريقه الحارث بن أسامة، وكلها موضوعة، كما قال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية". ويصرح الدارقطني بأن كتاب العقل وضعه أربعة. أولهم: ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه: داود بن المحبر، فركبه بأسانيد أخرى غير مسانيد ميسرة. وكذلك فعل: عبد العزيز بن أبي رجاء وسليمان بن عيسى السجزي. راجع الموضوعات لابن الجوزي "1/ 176". كل واحد من هؤلاء الأربعة مشهور بالوضع والكذب، ولمزيد من الفائدة راجع في ترجمة: 1 مسيرة بن عبد ربه الفارس، تنزيه الشريعة لابن عراق "1/ 121"، وكتاب المغني في الضعفاء للذهبي "2/ 689"، والموضوعات لابن الجوزي "1/ 173"، وميزان الاعتدال "4/ 230". 2 داود بن المحبر، راجع في ترجمته: تنزيه الشريعة "1/ 59"، والمغني في الضعفاء "1/ 220"، والموضوعات لابن الجوزي "1/ 176"، وميزان الاعتدال "2/ 20". 3 عبد العزيز بن أبي رجاء، راجع في ترجمته: تنزيه الشريعة لابن عراق "1/ 80"، والموضوعات لابن الجوزي "1/ 176"، وميزان الاعتدال "2/ 628". 4 أما سليمان بن عيسى السجزي فراجع في ترجمته: تنزيه الشريعة "1/ 65"، والمغني في الضعفاء "1/ 282"، والموضوعات لابن الجوزي "1/ 173"، وميزان الاعتدال "2/ 218". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 يزين الفتى في الناس كثرة عقله ... وإن لم يكن في أهله بحسيب1 فإن قيل: إنما يقال ذلك على معنى أنه أكثر استعمالا لعقله وتيقظًا وتحذرًا. قلنا: إنما كان أكثر استعمالا؛ لوفور عقله على غيره، ولقلة عقل غيره، أنه لم يكثر استعماله لعقله. ويدل على ذلك ما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما وجد من ناقصات العقول والأديان أغلب للرجال 2 ذوي [6/ أ] الرأي 3 على أمورهم من النساء، قالوا: يا رسول الله، ما نقصان عقلها ودينها؟ قال: أما نقصان عقلها فجعل الله تعالى شهادة امرأتين برجل، وأما نقصان دينها فإنها تمكث الثلاث والأربع لا تصلي لله تعالى فيها سجدة 4 ". وهذا يدل على   1 ذكر الناسخ بالحاشية البيت الذي يلي هذا البيت، وهو: إذا حلً أرضًا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب هذان البيتان ذكرهما ابن أبي الدنيا في كتابه "العقل وفضله" "ص: 23" ولم ينسبهما إلى أحد. وقد أوردهما على النحو التالي: يعد عظيم القدر من كان عاقلا ... وإن لم يكن في فعله بحسيب وإن حلّ أرضًا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب وبعد طول البحث لم أقف على قائل هذين البيتين 2 في الأصل: "للرجل". 3 هكذا في الأصل، ولكن أغلب روايات الحديث جاءت بلفظ: "أغلب لذي لب منكن"، وفي سنن الدارمي في كتاب الوضوء باب الحائض تسمع السجدة فلا تسجد "1/ 190" جاء الحديث بلفظ: "أغلب للرجال ذوي الأمر على أمرهم من النساء". 4 هذا الحديث روي بألفاظ متعددة، بل مختلفة أحيانًا، قلة وكثرة، تقديمًا وتأخيرًا، انظر صحيح البخاري في كتاب الحيض، باب ترك الحائضِ الصومَ "1/ 79"، وكتاب الصوم، باب الحائض تترك الصوم والصلاة "3/ 43" وصحيح مسلم في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 نقصان عقل النساء عن عقول الرجال مع وصفهن بالعقل. واحتج من منع ذلك: بأن العقل من العلوم الضرورية، وتلك لا تختلف في حق عاقل. والجواب: أن تلك العلوم لم يختلف ما يدرك به من النظر والشم والذوق، فلهذا لم تختلف هي في أنفسها، وليس كذلك العقل؛ لأنه يختلف ما يدرك به وهو التمييز والفكر، فيقل في حق بعضهم ويكثر؛ فلهذا اختلف. واحتج بأنه لو كان أحدهما أكمل من الآخر لم يحصل لغير الكامل الغرض، وهو تأمل الأشياء ومعرفتها؛ لأجل النقصان الذي منه. والجواب: أنه إنما لا يحصل له الغرض الكامل؛ لأنا نجد أن من لم يكمل عقله لا تكمل أحواله، ولا يبلغ جميع أغراضه، ومن الكامل عقله بلغ أكثر أغراضه وأكمل أكثر أحواله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فصل: [ في تعريف البيان ] : 1 وحد البيان2: إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب مفصلا مما يلتبس به   = كتاب الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات "1/ 86"، وسنن أبي داود، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه "2/ 522"، وسنن ابن ماجه في كتاب الفتن باب فتنة النساء "2/ 1326"، وسنن الدارمي كتاب الوضوء، باب الحائض تسمع السجدة فلا تسجد "1/ 190"، والمستدرك باب النساء أكثر أهل جهنم "1/ 190" ومسند الإمام أحمد "2/ 67"، ونصب الراية "4/ 89". والمقاصد الحسنة "ص: 285"، وكشف الخفاء "2/ 81". 1 راجع في هذا الفصل كتاب التمهيد الورقة "10/ أ"، وشرح الكوكب المنير "ص: 227"، والمسودة "ص: 572"، وقد ذكر فيها تعريف المؤلف. وراجع أيضًا مبحث البيان في كتاب البرهان لإمام الحرمين، الورقة "20/ ب- 23/ أ". 2 من أول هذا الفصل إلى قول المؤلف في آخر الفصل: "وذكر أبو بكر في مجموع فيه مسائل ... "، منقول من كتاب الفصول في أصول الفقه للإمام أبي بكر أحمد بن على الرازي المعروف بالجصاص، الورقة "76" وما بعدها، مخطوطة دار الكتب المصرية، مع ملاحظة أن المؤلف يحذف بعض كلام الجصاص قليلا، ويضيف بعض كلام كبار الحنابلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ويشتبه من أجله. كما يقال: "بانَ الأمرُ إذا ظهرَ". وأصله في اللغة من القطع والفصل، يقال1: "بان منه إذا انقطع" قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما بان من البهيمة وهي حية، فهو مَيتةٌ" 2. "وبان: إذا فارق" قال جرير3:   1 في الأصل: "ويقال". 2 حديث صحيح أخرجه عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- مرفوعًا أبو داود في كتاب الصيد، باب في صيد قطع منه قطعة "2/ 100"، وأخرجه الترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما قطع من الحي فهو ميت "4/ 74"، وقال فيه: "حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم". وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الذبائح "4/ 239"، وأخرجه الدارقطني في باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك "4/ 292"، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب الصيد، باب في الصيد يبين منه العضو "2/ 20". وقد روى هذا الحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيد باب ما قطع من البهيمة وهي حية "2/ 1072"، وأخرجه الحاكم في المستدرك "4/ 124". ورواه أيضًا أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه الحاكم في مستدركه "4/ 139" وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. كما رواه تميم الداري -رضي الله عنه- أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيد باب ما قطع من البهيمة وهي حية "2/ 1073"، وأخرجه أيضًا الطبراني في "معجمه الكبير" كما حكاه الزيلعي في "نصب الراية" "4/ 318" والسيوطي في "الجامع الصغير" "5/ 461" مطبوع مع شرحه "فيض القدير". 3 هو جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي التميمي أبو حَزْرة، شاعر معروف، وقعت = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بان الخليط ولو طوعت ما بانا ... وقطعوا من حبال الوصل أقرانا1 وبانت المرأة من زوجها بينونة، إذا فارقت زوجها وانقطع النكاح بينهما، فسمي إظهار المعنى وإيضاحه بيانًا؛ لانفصاله مما يلتبس به من المعاني فيشكل من أجله. وقد ذكر الشافعي2 البيان ووصفه3 فقال: "البيان اسم جامع   = بينه وبين الفرزدق مهاجاة ونقائض. فضله جمهور الأدباء على خصمه الفرزدق. له ديوان مطبوع. أخباره كثيرة حفلت بها كتب الأدب. توفي سنة: 110هـ، وقيل سنة: 111هـ، باليمامة، وقد نيف على الثمانين. انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة "1/ 464"، و"طبقات فحول الشعراء" للجمحي "ص: 49"، "315- 386"، و"وفيات الأعيان" "1/ 286". 1 هذا البيت جاء في مطلع قصيدة موجودة في ديوان جرير "1/ 160" بتحقيق الدكتور: نعمان محمد أمين طه. وهو موجود في كتاب "الشعر والشعراء" "1/ 68"، و"الأغاني" "7/ 35". 2 هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أبو عبد الله. أحد الأئمة الأربعة، وأحد أعلام الإسلام. مؤسس علم الأصول. ولد في غزة بفلسطين سنة: 150هـ، وتوفي بالقاهرة سنة: 204هـ. انظر ترجمته في "البداية والنهاية" "10/ 251"، و"تاريخ بغداد" "2/ 56"، و"تذكرة الحفاظ" "1/ 361" و"تهذيب التهذيب" "9/ 35"، و"خلاصة تذهيب الكمال" "ص: 277"، و"شذرات الذهب" "2/ 9"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 380"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "ص: 71"، و"طبقات المفسرين" للداودي "2/ 98"، و"طبقات الشافعية" للأسنوي "1/ 11"، و"طبقات النحاة واللغويين" لابن قاضي شهبة "ص: 62"، "وطبقات الشافعية" لابن هداية الله "ص: 11"، و"غاية النهاية في طبقات القراء" "2/ 95"، و"مرآة الجنان" "2/ 13"، و"النجوم الزاهرة" "2/ 176". 3 في كتابه: "الرسالة" "ص: 15". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 لمعانٍ1 مجتمعة الأصول متشعبة الفروع، فأقل ما في تلك المعاني المتشعبة أن تكون بيانًا2 لمن خوطب ممن نزل القرآن بلسانه3، وإن كان بعضها أشد تأكيد بيان من بعض". ثم جعله على خمسة أوجه4. واعترض عليه أبو بكر بن داود5، وقال: البيان أبين من التفسير الذي فسره. واعترض غيره عليه أيضًا وقال: لم يصف البيان؛ لأنه ذكر جملة مجهولة، فكان بمنزلة من قال: البيان اسم يشتمل على أشياء، ثم لم يبين تلك الأشياء ما هي. واعتذر أصحابه له، وقالوا: لم يقصد به حد البيان وتفسير معناه، وإنما قصد به: أن البيان اسم عام جامع لأنواع مختلفة من البيان، فهي   1 في الأصل: "لمعاني". 2 في الرسالة "ص: 15": "أنها بيان". 3 هنا عبارة ساقطة هي: "متقاربة الاستواء عنده، وإن كان ... " الرسالة "ص: 15". 4 وقد تكلم عنها الإمام الشافعي في كتابه الرسالة "ص: 15- 25". 5 هو محمد بن داود بن علي الظاهري، أبو بكر. أحد فقهاء الظاهرية، تصدر للفتوى ببغداد بعد موت أبيه. له كتاب الزهرة. توفي سنة: 297هـ، وقد نيف على الأربعين. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" "5/ 256" و"دول الإسلام" للذهبي "1/ 181". و"شذرات الذهب" "2/ 226"، و"فيات الأعيان" "3/ 390". وقد ترجم له الدكتور: نوري القيسي في كتابه: "أوراق من ديوان أبي بكر محمد بن داود الأصفهاني" "ص: 7- 10". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 متفقة في أن اسم البيان يقع عليها، ومختلفة في مراتبها، فبعضها أجلى وأبين من بعض؛ لأن من البيان ما يدرك معناه من غير تدبر وتفكر فيه من صفة ما [6/ب] يحتاج إلى تفكر وتدبر، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا" 1 فأخبر أن بعض البيان أبلغ من بعض. ولأن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- خاطبنا بالنص والعموم والظاهر ودليل الخطاب وفحواه. وجميع ذلك بيان، وإن اختلفت مراتبها فيه.   1 هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا، وقد أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الطب، باب من البيان سحر "7/ 178". وأخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب الأدب، باب ما جاء في المتشدق في الكلام "2/ 597". وأخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في أن من البيان سحرًا "4/ 376" وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرج مالك في "الموطأ" في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله "4/ 403" مطبوع مع شرح الزرقاني. وعن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- مرفوعًا أخرجه مسلم في "صحيحه" في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة "2/ 594". وأخرجه الدارمي في سننه عنه في كتاب الصلاة، باب في قصر الخطب "1/ 303". وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر "2/ 598"، ولفظه: "إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حكمًا". وعن بريدة -رضي الله عنه- مرفوعًا أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر "2/ 598" بلفظ: "إن من البيان سحرًا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكمًا، وإن من القول عيالا"، وقد رمز له السيوطي بالضعف، وراجع في ذلك أيضًا: "كشف الخفاء" "1/ 296". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقال أبو بكر الصيرفي: البيان2: "إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى [حيّز] 3 التجلي". وهو اختيار أبي بكر4 من أصحابنا فيما وجدته بخطه في مجموع فيه مسائل. وفي هذه العبارة خلل؛ لأن هذا الوصف إنما يوجد في بعض أقسام البيان، وهو بيان المجمل الذي لا يستقل بنفسه. فأما الخطاب المبتدأ من الله تعالى ومن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن سائر   1 هو محمد بن عبد الله الصيرفي البغدادي الشافعي، أبو بكر، أصولي فقيه متكلم. تفقه على ابن سريج. من تصانيفه: "شرح الرسالة"، وكتاب "الإجماع" وكتاب في "الشروط". توفي بمصر سنة: 330هـ. له ترجمة في "تاريخ بغداد" "5/ 449" و"شذرات الذهب" "2/ 325" و"طبقات الشافعية" للأسنوي "2/ 122" و"طبقات الشافعية" للسبكي "3/ 186"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "ص: 111"، "والعبر" للذهبي "2/ 221"، و"الفهرست" "ص: 213" و"الوافي بالوفيات" "3/ 346". 2 تعريف الصيرفي في هذا ذكره الغزالي في "المنخول" "ص: 63"، وفي "المستصفى" "1/ 365"، ولم يعزه لأحد. وذكره في "المسودة" "ص: 572" بأخصر مما هنا، وذكره في "شرح الكوكب المنير" "ص: 227" إلا أنه أبدل كلمة: "الشيء" بكلمة: "المعنى"، وذكره أيضًا الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص: 168". 3 هذه الكلمة ساقطة من الأصل، وهي مثبتة في جميع المصادر التي ذكرناها آنفًا عدا "المسوَّدة". 4 هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف، أبو بكر الحنبلي المعروف بغلام الخلال. أصولي فقيه كان ذا دين وورع. علَّامة بمذهب أحمد. له تصانيف منها: "المقنع"، و"تفسير القرآن". توفي سنة: 363هـ. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" "10/ 459"، و"شذرات الذهب" "3/ 45" و"طبقات الحنابلة" "2/ 119"، و"المنتظم" "7/ 71". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 المخاطبين إذا كان ظاهر المعنى بَيِّن المراد، فهو بيان صحيح، وإن لم يشتمل عليه هذا الوصف، ألا ترى أن قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 2، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 3 قد حصل به البيان، وإن لم يكن قبل ظهور ذلك إشكال أخرجه إلى التجلي، بل قد علمنا: أن الغسل لم يكن واجبًا، فبين وجوبه بالآية. وقال قوم من المتكلمين: البيان، هو الدلالة؛ لأن البيان يقع بها، وهو ظاهر كلام أبي الحسن التميمي؛ فإنه قال في جزء وقع إليَّ من كلامه: باب في البيان، ثم قال: البيان عن4 الشيء يجري مجرى الدلالة5، وهذا أيضًا فيه خلل؛ لأن من الدلائل ما لا يقع به البيان، كالمجمل ونحوه. وقال قوم منهم: البيان هو العلم الذي يتبين [به] 6 المعلوم7.   1 "6" سورة المائدة. 2 "23" سورة النساء. 3 "3" سورة المائدة. 4 في الأصل "من" وهو خطأ، والتصويب من "المسودة" "ص: 572". 5 هكذا نقل المؤلف تعريف أبي الحسن التميمي للبيان، غير أن أبا الخطاب نقله عنه بلفظ: "الدليل المظهر للحكم". انظر "التمهيد" الورقة "10/ أ". 6 ساقطة من الأصل. والتصويب من "إرشاد الفحول" "ص: 168". 7 نقل هذا التعريف في "المسودة" إلا أنه اقتصر على قوله: "البيان: هو العلم" "ص: 572" وقد ذكره الغزالي في كتابه: "المنخول" وعزاه لبعض الشافعية "ص: 64". أما الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص: 168" فقد نقله معزوًّا إلى أبي بكر الدقاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وإليه ذهب أبو بكر الدقاق1. والذي ذكرناه أولى؛ لأن أصله في اللغة كذلك.   1 هو محمد بن محمد بن جعفر البغدادي، أبو بكر المعروف بالدقاق، ويلقب بـ"خباط" الشافعي المذهب الفقيه الأصولي. تولى القضاء بكرخ بغداد. وكان عالِمًا فاضلا. ولد سنة: 306هـ، وتوفي سنة: 392هـ. له ترجمة في "تاريخ بغداد" "3/ 229"، و"طبقات الشافعية" للأسنوي "1/ 522"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "صفحة: 118"، و"المنتظم" "7/ 222"، و"النجوم الزاهرة" "4/ 206"، و"الوافي بالوفيات" "1/ 116". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فصل: [ في وجوه البيان ] : 1 وأما وجوه البيان. فهو في الشرع على وجوه: منها: الأحكام المبتدأة. ومنها: تخصيص العموم الذي يمكن استعماله على ظاهر ما ينتظمه الاسم، فيبين أن المراد البعض. ومنها: صرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز، وصرف الأمر إلى الندب والإباحة، وصرف الخبر إلى الأمر. ومنها: بيان الجملة التي لا تستغني عن البيان في إفادة الحكم. وهذا البيان ليس بتخصيص؛ لكنه تفسير مراد بالجملة، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 2. فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد: العشر ونصف   1 راجع في هذا الفصل "التمهيد" الورقة "10/ أ"، و"المسودة" "ص: 573" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 228". 2 "141" سورة الأنعام. وقد اختلف العلماء في هذه الآية، أمكية هي أم مدنية؟ أمحكمة أم منسوخة؟ وما المراد بالحق هنا، أهو الزكاة المفروضة أم حق غيرها ونسخ بها، أم حق غيرها ولم ينسخ؟ ولعل الظاهر أن البيان سابق على هذه الآية كما يتضح من كلام الفخر الرازي، في "تفسيره" "13/ 213، 214"، و"تفسير القرطبي" "7/ 99". و"تفسير أبي السعود" "1/ 473". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 العشر1. ومنها: النسخ، وهو رفع الحكم بعد أن كان في توهمنا وتقديرنا بقاؤه.   1 سيأتي تخريج هذا في قوله -صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر". "ص: 621". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فصل: [ فيما يحتاج إلى البيان ] وأما ما يحتاج إلى البيان فكل لفظ لا يمكن استعمال حكمه، نحو قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1، وقوله: {وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} 2، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 3، ونحو قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا   1 "141" سورة الأنعام. 2 "24" سورة المعارج. 3 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا، وقد أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة "2/ 125"، وفي كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"9/ 115". وأخرجه عنه مسلم في "صحيحه" في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله "1/ 51، 52". وأخرجه عنه أبو داود في "سننه" في كتاب الجهاد باب علام يقاتل المشركون؟ "2/ 41، 42".= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ...........................................................................................   = وأخرجه عنه ابن ماجه في "سننه" في المقدمة، باب الإيمان "1/ 28"، كما أخرجه عنه في كتاب الفتن، باب الكفِّ عمن قال: لا إله إلا الله "2/ 1295". وأخرجه عنه الترمذي في "سننه" في كتاب التفسير، باب من سورة الغاشية "5/ 439". وأخرجه عنه النسائي في "سننه" في كتاب الزكاة، باب مانع الزكاة "5/ 10". وأخرجه عنه الدارقطني في "سننه" في كتاب الزكاة "2/ 89". وأخرجه عنه الشافعي، انظر "بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن" "1/ 223" في كتاب الزكاة، باب ما ورد في فضلها ووجوبها وقتال مانعها. ورواه أيضًا ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم" "1/ 14". وأخرجه عنه مسلم في "صحيحه" في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله "1/ 53". وقد رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في "صحيحه" في كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة "1/ 103"، وأخرجه عنه أبو داود في "سننه" في الكتاب والباب السابق ذكرهما "2/ 42". ورواه جابر -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في "صحيحه" في الكتاب والباب السابق ذكرهما "1/ 53"، وأخرجه ابن ماجه في "سننه" في كتاب الفتن، باب الكف عمن قال: لا إله إلا الله "2/ 1295". ورواه معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مرفوعًا أخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة باب الإيمان "1/ 28". ورواه أوس بن أبي أوس -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود الطيالسي، انظر "منحة المعبود" كتاب الإيمان، باب حكم الإقرار بالشهادتين "1/ 26". وأخرجه عنه الدارمي في "سننه" في كتاب السير، باب في القتال على قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" "2/ 137". ويظهر من كلام المؤلف: أن هذا الحديث مجمل، ومن ثم فلا يعمل به إلا فيما بين به، وهذا أحد الآراء. على أن هناك رأيًا آخر هو: أن الحديث عام، ويعمل به في أفراده الباقية التي لم تخص. راجع: "فتح الباري" "1/ 75- 77، 496، 497". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} 1. وأما ما يمكن استمعاله على ظاهره وحقيقته، فلا يحتاج إلى البيان، إلا أن يريد به المخاطب بعض ما انتظمه، أو كان مراده غير حقيقته، فيحتاج إلى بيان المراد به، نحو قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2، و {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 3 و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ، فهذه الألفاظ معانيها معقولة ظاهرة، فهي غير مفتقرة إلى البيان.   1 "24" سورة النساء. ما ذهب إليه المؤلف من أن هذه الآية مجملة، لا يمكن أن تستغني عن البيان هو أحد الاتجاهين في فهم الآية. وأما الاتجاه الثاني فهو: أن الآية عامة مبينة، وقد دخلها التخصيص كما هو مسطور في كتب التفسير. انظر "تفسير القرطبي" "5/ 120- 135"، و"تفسير أبي السعود" "1/ 288". 2 "5" سورة التوبة. 3 "275" سورة البقرة. 4 "23" سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 [7/أ] فصل: [ فيما يقع به البيان ] : وأما ما يقع به البيان فهو الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والبيان يقع من الله تعالى بالقول وبالكتاب، فالقول نحو: سائر الفروض المعقول معانيها من ظاهر الخطاب. ويقع بالكتاب أيضًا؛ لأن القرآن كلام الله تعالى. وكتابه في اللوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المحفوظ وفي غيره، فيقع منه البيان بهذين الوجهين، فيكون منه تخصيص العموم، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 1، خص منه المحرمات بالآية الأخرى وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 2، ونحو بيان الجملة كقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 3، ثم بينه بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 4. ويكون منه أيضًا: بيان مدة الفرض، وهو نسخ [نحو] قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} 5، ثم قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 6، ونحو قوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} 7، ثم نسخ منه ما عدا أربعة الأشهر والعشر، بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 8. وكان حد الزانيين الحبس والأذى بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} 9، إلى آخره، ثم قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 10، فنسخ به الحبس   1 " 3" سورة النساء. 2 " 23" سورة النساء. 3 " 7" سورة النساء. 4 "11 " سورة النساء. 5 "144 " سورة البقرة. 6 "149 " سورة البقرة. 7 "240 " سورة البقرة. 8 "234 " سورة البقرة. 9 "15 " سورة النساء. 10 "2 " سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 والأذى المذكورين في الآية الأخرى من غير المحصن. ويكون البيان من الرسول بالقول. نحو سائر السنن المبتدأة، ونحو تخصيصه لعموم القرآن، عن بيع ما ليس عنده1، وبيع ما لم يقبض2.   1 حديث النهي عن بيع ما ليس عنده، صحيح، رواه حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أخرجه عنه أبو داود في كتاب التجارة، باب الرجل يبيع ما ليس عنده "2/ 254". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك "3/ 525"، وقال: "حديث حسن". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك "2/ 737". وأخرجه الطيالسي في "مسنده" عنه في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الولاء والمحاقلة والمزابنة وبيع ما ليس عنده "1/ 264". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الطعام قبل قبضه "2/ 156". ورواه أيضًا عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أخرجه عنه أبو داود في الكتاب والباب المذكورين آنفًا. وأخرجه عنه الترمذي في الكتاب والباب المذكورين "3/ 526"، وقال "حديث حسن صحيح". وأخرجه عنه النسائي في الموضع السابق "7/ 259". وأخرجه ابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "2/ 737". راجع في ذلك أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 5"، و"تيسير الوصول إلى جامع الأصول" "2/ 54" و"ذخائر المواريث" "1/ 198"، و"نصب الراية" "4/ 18"، ومجمع الزوائد" "4/ 85". 2 حديث النهي عن بيع ما لم يقبض في الطعام وغيره، أخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب البيوع "3/ 8" عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- بلفظ: "أنه -أي حكيم- قال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني رجل أشتري هذه البيوع فما تحل لي منها، وما تحرم عليّ؟ قال: "يابن أخي إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حتى تقبضه". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وأحلَّت لنا ميتتان1.   = وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده" في كتابه البيوع، باب النهي عن بيع الولاء والمحاقلة والمزابنة وبيع ما ليس عنده "1/ 264". وأخرجه عنه البيهقي في "سننه" باب النهي عن بيع ما لم يقبض، وإن كان غير طعام "5/ 313"، وراجع في هذا أيضًا: نصب الراية" "4/ 32"، و"تلخيص الحبير" "3/ 25". ومما يلاحظ هنا: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه قد جاء في أحاديث صحيحة، منها المتفق عليها، غير أن النهي عن بيع ما لم يقبض وإن كان غير طعام، هو الذي يوحي به كلام المؤلف هنا، وهو الذي لاحظناه عند العزو، والله أعلم. 1 حديث: "أحلت لنا ميتتان" رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب الكبد والطِّحال "2/ 1102" بلفظ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أحلت لكم ميتتان ودمَان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال". وأخرجه عنه الشافعي، انظر: كتاب الأطعمة، باب ما جاء في السمك والجراد "2/ 425". وأخرجه عنه الدارقطني في سننه، في باب الصيد والذبائح والأطعمة "4/ 270". وأخرجه عنه أيضًا أحمد والبيهقي وعبد بن حميد، كما نقل ذلك الزيلعي في "نصب الراية" "4/ 270". ورفع هذا الحديث مداره على ثلاثة رواة هم: عبد الرحمن وعبد الله وأسامة أبناء زيد بن أسلم، وهؤلاء الثلاثة ضعفهم ابن معين غير أن الإمام أحمد وثق عبد الله. وقد تابعهم شخص رابع هو أبو هاشم كثير بن عبد الله الأيلي، كما أخرج ذلك عنه ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام، وهو ضعيف أيضًا. وقد رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه الخطيب بسنده. وفيه المسور بن الصلت، وهو كذاب. وقد روي هذا الحديث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- موقوفًا، فقد روي من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ويكون البيان بالكتابة أيضًا: كنحو كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم1 في الصدقات والديات وسائر الأحكام2، وكتابه الذي كتبه لأبي بكر   = رواية سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن ابن عمر موقوفًا، قال الدارقطني: هو الصواب، وصحح الوقف أبو زُرعة وأبو حاتم. والموقوف هنا له حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا، أو حرم علينا بمنزلة قوله: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا. راجع: "نصب الراية" "4/ 202"، و"تلخيص الحبير" "1/ 25"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 768". 1 هو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الخزرجي الأنصاري، أبو الضحاك، صحابي، شهد الخندق وما بعدها. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابًا كتبه له، فيه كثير من الأحكام، كان عاملا للنبي -صلى الله عليه وسلم- على نجران. مات بالمدنية سنة: 51هـ. له ترجمة في "الاستيعاب" "3/ 1172"، و"الإصابة" "4/ 293". و"شذرات الذهب" "1/ 59". 2 حديث عمرو بن حزم -رضي الله عنه- الذي أشار المؤلف إليه أخرجه عنه النسائي في "سننه" في كتاب الديات، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له "8/ 51"، وقد ذكر أن يونس -أحد رواة الحديث- قد رواه عن الزهري مرسلا. وأخرجه عنه الدارقطني في "سننه" في كتاب الحدود والديات "3/ 209". وأخرجه الحاكم في "مستدركه" "1/ 395"، كما أخرجه الإمام مالك في أول كتاب العقول "4/ 175". وأخرجه الدارمي في "سننه" في كتاب الديات، باب كم الدية من الإبل "2/ 113". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الديات، باب جامع دية النفس وأعضائها "2/ 260". وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في مصنفه وابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه نقل ذلك الزيلعي في نصب الراية "2/ 339- 342"، كما نقل عن ابن الجوزي عن الإمام أحمد قوله: "كتاب عمرو بن حزم صحيح". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الصديق1 في الصدقات2. وقال عبد الله بن عَكيم3: ورد علينا   = وقال يعقوب الفسوي: "لا أعلم في الكتب المنقولة أصح منه". ونقل الزيلعي عن بعض المتأخرين قولهم: "حديث ابن حزم تلقاه الإئمة الأربعة بالقبول". والذين صححوا الحديث بنوا ذلك على أن: سليمان، أحد رواته هو ابن داود الدمشقي، الثقة، ولكن كثيرًا من المحققين خالفوهم، وقالوا: إنه سليمان بن أرقم، الضعيف. راجع تفصيل ذلك في "الجوهر النقي" "4/ 86، 87". 1 هو الصحابي الجليل عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي، شهد بدرًا. رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار، وصاحبه الوحيد في الهجرة، أحد المبشرين بالجنة، خليفة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من بعده، مات بالمدنية في شهر جمادى الآخرة سنة: 13هـ، ودفن بجوار قبر النبي -صلى الله عليه وسلم. له ترجمة في "الاستيعاب" "3/ 963"، و"الإصابة" "4/ 101"، "والأعلام" للزركلي " "4/ 237"، و"دول الإسلام" "1/ 12"، و"شذرات الذهب" "1/ 24". 2 حديث أبي بكر -رضي الله عنه- في الصدقات طويل، ونستغني عن إيراد نصه بذكر من أخرجه، فقد أخرجه البخاري في "صحيحه" في كتاب الزكاة، باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده "2/ 138"، وفي باب زكاة الغنم "2/ 139"، وفي باب لا يؤخذ في الصدقة هرمة"2/ 140" وأخرجه أبو داود في "سننه" في كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة "1/ 358" وأخرجه النسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل "5/ 13". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب إذا أخذ المصدق سنًّا دون سن أو فوق سن "1/ 575". وأخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل والغنم "2/ 113". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "2/ 150"، و"تيسير الوصول" "2/ 58"، و"ذخائر المواريث" "3/ 144"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 311"، و"نصب الراية" "2/ 335- 337". 3 هو عبد الله بن عكيم الجهني أبو معبد. اختلف في سماعه من النبي -صلى الله عليه وسلم، يعد في الكوفيين. له ترجمة في: الاستيعاب" "3/ 949"، و"طبقات خليفة بن خياط" "ص: 121". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بشهر: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" 1. وقال الضحاك بن سفيان الكلاب2: كتب إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أورث امرأة أشيم الضبي من دية زوجها3، فثبت أن الكتابة   1 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت "4/ 222" وقال: هذا حديث حسن. وليس العمل على هذا عند أكثر أهل العلم. وأخرجه أبو داود في كتاب اللباس من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة "2/ 387". وأخرجه النسائي في "سننه" في كتاب الفرع، باب ما يدبغ به جلود الميتة "7/ 155". وأخرجه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب من قال: "لا يتنفع من الميتة بإهاب ولا عصب" "2/ 1194". وأخرجه الرامهرمزي في كتابه: "المحدث الفاصل" "ص: 453". ورواه القاضي عياض في كتابه "الإلماع" "ص: 88". وراجع بالإضافة إلى ما سبق "تيسير الوصول" "2/ 296"، و"تلخيص الحبير" "1/ 46- 48"، و"ذخائر المواريث" "2/ 76"، و"نصب الراية" "1/ 120- 122". وهذا الحديث مضطرب سندًا ومتنًا، مع الاختلاف في صحبة راويه: عبد الله بن عكيم، فقد قال البيهقي: "إنه غير صحابي". 2 هو الضحاك بن سفيان بن عوف بن أبي بكر بن كلاب الكلبي، أبو سعيد، كان واليًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- على من آمن من قومه، وجابيًا للصدقات منهم، مات سنة: 11هـ. له ترجمة في "الاستيعاب" "2/ 742"، و"الإصابة" "3/ 267"، و"الأعلام" "3/ 308". 3 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يقع بها البيان كوقوعه بالقول. ويكون من النبي -صلى الله عليه وسلم- بيان المجمل في الكتاب بهذين الوجهين، نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1 وقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ   = من دية زوجها "4/ 425"، وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أبو داود في كتاب الفرائض، باب المرأة ترث من دية زوجها "2/ 117". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الديات، باب الميراث من الدية "2/ 883". وأخرجه مالك في الموطأ مع شرح الزرقاني. وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها "2/ 229". وأخرجه الدارقطني في كتاب الفرائض "4/ 77". وراجع أيضًا: "تيسير الوصول" "3/ 146"، و"ذخائر المواريث" "1/ 272"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 523"، و"تحفة الأحوذي" "4/ 674"، و"عون المعبود" "8/ 144". 1 "103" سورة التوبة. وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهان: الاتجاه الأول: أن المراد بها أخذ الصدقة من الذين تابوا؛ لأنهم بذلوا أموالهم صدقة لله تعالى، وليس المراد بها الزكاة الواجبة، وهو قول الحسن. الاتجاه الثاني: أن المراد بالصدقة في الآية الزكاة، والقائلون بهذا على فريقين: الفريق الأول: أن المراد أخذ الزكاة من التائبين المذكورين في الآية السابقة. الفريق الثاني: أنه كلام متبدأ، والمراد الزكاة الواجبة. والذي يهمنا هو معرفة البيان في الآية، هل هو سابق أو لاحق، والذي يشعر به كلام الفخر الرازي أن البيان سابق، بمعنى أن الآية نزلت بوجوب الزكاة التي كانت معروفة لديهم. راجع "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي "8/ 244- 250"، و"مفاتيح الغيب" للفخر الرازي "16/ 177- 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 يَوْمَ حَصَادِهِ} 1، وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} 2. ويكون منه البيان بالفعل، نحو فعله لأعداد الركعات في الصلوات المفروضات وأوصافها، وقع به البيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 3. ونحو فعله في المناسك بيان لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 4. وقد أكد ذلك بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 5 وقوله: "خذوا   1 "141"سورة الأنعام. 2 "267" سورة البقرة. ما المراد بالآية؟ هل المراد الزكاة المفروضة، أو صدقة التطوع، أو كلاهما؟ ثلاثة آراء، والأمر في الآية على الأول للوجوب، وفي الثاني للندب، وفي الثالث لترجيح جانب الفعل على الترك، فعلى القول الأول والثالث، الآية تحتاج إلى بيان، وقد بيَّنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل والكتابة مثل كتاب أبي بكر وعمرو بن حزم رضي الله عنهما. راجع في هذا "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي "3/ 320، 321"، و"مفاتيح الغيب" للرازي "7/ 64- 67". 3 "43" سورة البقرة. 4 "97" سورة آل عمران. 5 هذا جزء من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة "1/ 153" كما أخرجه عنه في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم "8/ 11" وأخرجه عنه في باب ما جاء في إجازة خبر الواحد "9/ 107". وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/ 465". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/ 139". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 عني مناسككم"1. وليس كل فعله في الصلاة أو الصدقة بيانًا للجملة التي في الكتاب؛ لأنه لو صلى لنفسه، لم يدل ذلك على أنه بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 2، ولو تصدق بصدقة لم يدل على أنها مرادة بقوله:   = وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب الأذان في السفر "1/ 399"، وأخرجه عنه النسائي في كتاب الإمامة، باب تقديم ذوي السن "2/ 60". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب من أحق بالإمامة "1/ 313". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإمامة ومن أحق بها "1/ 128" بدائع المنن. وأخرجه عنه الدارمي في "سننه" في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/ 229". والحديث قد روي مطولا ومختصرًا، مع ملاحظة أن كل من أخرجه ممن سبق ذكرهم عدا البخاري والشافعي والدارمي، لم يذكروا قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". راجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 225" و"ذخائر المواريث" "3/ 89"، و"نصب الراية" "1/ 290"، "2/ 26"، و"تلخيص الحبير" "2/ 122". 1 هذا جزء من حديث رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا "2/ 943". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في رمي الجمار "1/ 456". وأخرجه عنه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم "5/ 219". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "1/ 276"، و"ذخائر المواريث" "1/ 162"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 407". 2 "43" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1. وإنما وجه [7/ ب] البيان: ما يجمع الناس على أنه من المكتوبات؛ لأنه2 ما يفعله في نفسه [و] لم يثبت3 أنه فعله فرضًا، فلا يكون فيه دلالة على أنه فعلها بيانًا. ويكون منه أيضًا بيان مدة الفرض المنصوص عليه في الكتاب، كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث" 4 قد قيل: إنه نسخ به الوصية   1 "43" سورة البقرة. 2 في الأصل: "لأنه". 3 في الأصل: "لم يثبت"، وقد صوب ذلك الناسخ في الهامش بما أثبتناه. 4 هذا جزء من حديث صحيح بل مشهور أخرجه أبو داود عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث "2/ 103"، وأخرجه عنه في كتاب البيوع، باب في تضمين العارية"2/ 266"، وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، كما أخرجه عن عمرو بن خارجة -رضي الله عنه- وعلى كلا الحديثين يعقب بقوله: حديث حسن صحيح، "4/ 433، 434". وأخرجه ابن ماجه عن أبي أمامة في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث وأخرجه أيضًا عن عمرو بن خارجة -رضي الله عنه- كما أخرجه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- "2/ 905، 906". وأخرجه النسائي عن عمرو بن خارجة في كتاب الوصايا، باب إيصال الوصية للوارث "6/ 207". وأخرجه عنه الدارمي في "سننه" في كتاب الوصايا، باب الوصية للوارث "2/ 301" وأخرجه أيضًا عن ابن عباس في الموضع السابق كما أخرجه عنه في كتاب الفرائض "4/ 98" وأخرجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وعن علي بن أبي طالب وعن جابر -رضي الله عنهم- وذلك في كتاب الفرائض "4/ 97، 98". وقد أخرجه عن جعفر بن محمد عن أبيه مرفوعًا بلفظ: "لا وصية لوارث ولا إقرار = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 للوالدين والأقربين1. وقوله في الرجم2 نسخ به الحبس والأذى عن   = بدين"، وفي سنده "نوح بن دراج"، وهو متهم بالوضع. انظر كتاب الوصايا "4/ 152". وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي أمامة وعمرو بن خارجة -رضي الله عنهما "4/ 186، 187"، "5/ 267". وأخرجه الإمام الشافعي عن مجاهد مرسلا، انظر كتاب الوقف والوصايا، باب ما جاء في الوصية "2/ 221" من "بدائع المنن". ومن حديث عمرو بن خارجة، أخرجه البزار وأبو يعلى الموصلي، والحارث بن أسامة في مسانيدهم، والطبراني في "معجمه" مقلوبًا عن خارجة بن عمرو، والصواب: عمرو بن خارجة كما نبَّه على ذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص"، ومن حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، كما أخرجه ابن عدي من حديث جابر وزيد والبراء وعلي -رضي الله عنهم. راجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "نصب الراية" "4/ 403- 405" و"تلخيص الحبير" "3/ 92"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 509"، و"تيسير الوصول" "3/ 168"، و"ذخائر المواريث "3/ 64، 135"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" "2/ 244، 245"، و"كشف الخفاء" للعجلوني "2/ 514". 1 هذا إشارة للآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} "180 سورة البقرة". والذي ذكره المؤلف في الناسخ أحد الأقوال، وهناك أقوال أخرى في المسألة راجعها إن شئت في "تفسير الفخر الرازي" "5/ 62، 63". 2 هذا إشارة إلى حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. انظر "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 639"، وسيأتي تخريجه بالتفصيل "ص: 798". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 المحصن1. [و] في السنة: نحو قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها2".   1 في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآيتان "15"، "16" من سورة النساء. وما ذهب إليه المؤلف من أن حديث عبادة بن الصامت ناسخ لآيتي النساء، هو أحد الأقوال، غير أن الظاهر أنه لا يوجد نسخ في المسألة؛ لأن الحكم المنسوخ لابد أن يكون مؤبدًا في أذهان المخاطبين عند تشريع الحكم، وهذا غير موجود في الآية، إذ إن الآية تشعر بأن العقوبة التي نصت عليه عقوبة مؤقتة، ستبدل بغيرها، {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} . على أن هناك آراء أخرى في المسألة بيَّنها الفخر الرازي في "تفسيره" "9/ 219- 225". 2 هذا جزء من حديث رواه بريدة -رضي الله عنه- أخرجه عنه مسلم في كتاب الجنائز، باب استئذان النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه عز وجل في زيارة قبر أمه "2/ 672". وفي كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه."3/ 1564". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور "2/ 195"، كما أخرجه عنه في كتاب الأشربة، باب في الأوعية "2/ 298". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الجنائز، باب الرخصة في زيارة القبور، وقال: حديث حسن صحيح، "3/ 361". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور "4/ 73"، وأخرجه عنه في كتاب الأضاحي، باب الإذن في ذلك، أي: الإذن في الأكل من لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وفي ادخاره "7/ 207"، كما أخرجه عنه في كتاب الأشربة، باب الإذن في شيء منها "8/ 278". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأشربة، باب ما رخص فيه من ذلك، أي: من نبيذ الأوعية "2/ 1127"، وقد أخرجه مختصرًا بلفظ: "كنت نهيتكم عن الأوعية، فانتبذوا فيه، واجتنبوا كل مسكر". كما أخرجه عن ابن مسعود -رضي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 "وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي، فكلوا وادخروا" 1.   = الله عنه- في كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور "1/ 501" بلفظ مثل اللفظ الذي ساقه القاضي أبو يعلى غير أنه زاد فيه: "فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة". وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وفي آخره: "ولا تقولوا هجرًا"، وذلك في كتاب الضحايا، باب ادخار لحوم الضحايا "3/ 76، 77" مطبوع مع شرح الزرقاني، وأخرجه الإمام الشافعي عن أبي سعيد الخدري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر وزيارة القبور "1/ 220" "بدائع المنن". وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن بريدة -رضي الله عنه- بلفظ: رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زيارة القبور. وذلك في كتاب الجنائز، باب كراهة نقل الميت بعد دفنه وما جاء في زيارة القبور "1/ 170". راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "2/ 137"، و"ذخائر المواريث" "1/ 112"، و"كشف الخفاء" للعجلوني "2/ 188، 198"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" "5/ 55، 56" و"الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير" وضع الشيخ النبهاني "2/ 334". و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 307، 308". 1 النهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم الرخصة في ذلك قد جاء جزءًا من حديث بريدة السابق تخريجه، غير أنه قد جاء من رواية غير بريدة. فقد أخرجه مسلم عن عائشة وجابر وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنهم- وذلك في كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه "3/ 1561، 1562". وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" من حديث أبي سعيد الخدري، وقد مر الإشارة إلى ذلك في حديث بريدة. وأخرجه ابن ماجه عن عائشة ونبيشة الباهلي -رضي الله عنهما- في كتاب الأضاحي، باب ادخار لحوم الأضاحي "2/ 1055". وأخرجه الدارمي عن عائشة ونبيشة الباهلي -رضي الله عنهما- في كتاب الأضاحي، باب في لحوم الأضاحي "2/ 6". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ويكون عنه البيان بالإشارة أيضًا كقوله: "الشهر هكذا وهكذا [وهكذا] 1 وأشار بأصابعه العشر" 2 فأفاد أنه ثلاثون يومًا ثم قال: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وخنس الإبهام في الثالثة" 3 فأفاد أنه تسعة وعشرون يومًا.   = وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن جابر بن عبد الله وعائشة -رضي الله عنهما- في كتاب الهدايا والضحايا، باب النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ونسخه "1/ 230، 231". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الهدايا والضحايا، باب النهي عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، ونسخ ذلك عن جابر بن عبد الله ونبيشة -رضي الله عنهما "2/ 88". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الأضاحي عن أبي سعيد الخدري "4/ 232". وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" في كتاب الصيد والذبائح والأضاحي عن أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وبريدة وجابر ونبيشة وعائشة -رضي الله عنهم "4/ 185، 186". راجع في هذا الحديث علاوة على ما سبق ذكره: "نصب الراية" "4/ 218"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 429، 430"، "وتلخيص الحبير" "4/ 144"، و"الفتح الكبير" وضع الشيخ النبهاني "2/ 334"، و"فيض القدير "5/ 55". 1 ساقطة من الأصل، والصواب إثباتها كما هو ظاهر. 2 في الأصل: "العشرة" بإثبات التاء، وهو خطأ؛ لأن مثل هذه التاء تحذف في التأنيث وتثبت في التذكير. 3 هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أخرجه عنه البخاري في كتاب الصيام، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نكتب ولا نحسب "3/ 34". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال "2/ 761". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وقال تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} 1، ثم قال: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 2 يعني: أشار إليهم، فقامت إشارته مقام القول في بلوغ المراد. وحكى الله تعالى عن مريم {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} 3 فبينت لهم مرادها بالإشارة. ويكون منه البيان أيضًا بالدلالة والتنبيه على الحكم من غير نص، نحو قوله لفاطمة بنت أبي حبيش4 في دم الاستحاضة: "إنها دم عرق، وليس بالحيضة" 5. فدلَّ على وجوب اعتبار خروج دم العرق في نقض الطهارة.   = وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه "4/ 113". وأخرجه أبو داود عنه في كتاب الصيام، باب الشهر يكون تسعًا وعشرين "1/ 542". وأخرجه أبو داود الطيالسي عنه في كتاب الصيام، باب ما جاء في نقص الشهر ووقت نية الصوم "1/ 183". 1 "41" سورة آل عمران. 2 "11" سورة مريم. 3 "29" سورة مريم. 4 في الأصل: "فاطمة بنت أبي جحش"، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، ولعل الخطأ من الناسخ. وهي فاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، القرشية، الأسدية، صحابية جليلة، ثبتت صحبتها في الصحيحين وغيرهما. لهما ترجمة في: "الاستيعاب" "4/ 1892"، و"الإصابة" "8/ 161". 5 هذا الحديث رَوَتْهُ عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا، أخرجه عنها البخاري في كتاب = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وقوله حين سئل عن سمن ماتت فيه فأرة فقال: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وإن كان مائعًا فأريقوه" 1، فدل بتفريقه بين المائع   = الوضوء، باب غسل الدم "1/ 64"، وفي كتاب الحيض، باب الاستحاضة "1/ 80، 81"، وفي باب إقبال المحيض وإدباره "1/ 83، 84". وأخرجه عنها مسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها "1/ 262". وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة "1/ 65". وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة "1/ 217"، وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ما جاء في المستحاضة "1/ 203، 204". وأخرجه عنها النسائي في كتاب الطهارة باب ذكر الأقراء "1/ 100، 101"، وباب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة "102، 103". وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 6/ 304، 323". وأخرجه الدارمي في كتاب الطهارة باب في غسل المستحاضة "1/ 163". وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في باب في المستحاضة "1/ 121". وأخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب الحيض "1/ 214". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحيض والاستحاضة، باب في المستحاضة تنبي على عادتها "1/ 39" "بدائع المنن". وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الطهارة باب المستحاضة كيف تتطهر "1/ 102". راجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية" "1/ 199"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "78". و"تلخيص الحبير" "1/ 167". 1 هذا الحديث روته أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها- أخرجه عنها البخاري في كتاب الوضوء، باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء "1/ 66"، وفي كتاب = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 والجامد: على أن سائر المائعات تنجس بمجاورة أجزاء النجاسة إياها. وغير ذلك من الوجوه المستنبطة. وقد يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- بيان الحكم بالإقرار على فعل شاهده من فاعل يفعله على وجه من الوجوه، فترك النكير عليه، فيكون ذلك بيانًا في جواز فعل ذلك الشيء على الوجه الذي أقره عليه، أو وجوبه إن كان شاهده يفعله على وجهه [و] لم ينكره، وذلك نحو علمنا أن عقود الشرك والمضاربات والقروض، وما جرى مجرى ذلك، قد كانت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبحضرته مع علمه بوقوع ذلك منهم واستفاضتها فيما بينهم، ولم ينكرها على فاعلها، فدل على إباحة ذلك من إقراره؛ لأنه لا يجوز على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرى منكرًا فلا ينكره؛ إذ كان ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله الحظ الأوفر في ذلك. وليس لأحد أن يقول: إن ترك النكير لا يدل على الإباحة، لأنه ترك النكير اكتفاء بما تقدم من النهي عنه من جهة النص أو الدلالة، كما أقر اليهود والنصارى على الكفر، ولم يدل ذلك على جوازه عنده، وذلك أن قتاله لهم حتى يعطوا الجزية أشد نكيرًا، فجعل أخذ الجزية عقوبة لهم على إقرارهم على الكفر.   = الذبائح، باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب "7/ 126". وأخرجه أبو داود عنها في كتاب الأطعمة، باب الفأرة تقع في السمن "2/ 327". وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الأطعمة باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن "4/ 256" وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي عنها في كتاب الفرع، باب الفأرة تقع في السمن "7/ 157". وأخرجه عنها الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الجامع باب الفأرة تقع في السمن "4/ 378" مطبوع مع شرح الزرقاني. وأخرجه عنها الدارمي في "سننه" في كتاب الأطعمة باب الفأرة تقع في السمن فتموت "2/ 35". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ولأنه لا يجوز أن يقول أحد: إنه كان في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- جائز أن يرى رجلًا يزني أو يقتل النفس، فلا ينكر عليه اكتفاءً بنهي الله تعالى [8/ أ] عن ذلك؛ ولأن ترك ذلك يؤدي إلى إسقاط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 1. وقد يقع بيان المجمل بالإجماع، نحو إجماعهم على أن دية الخطأ على العاقلة، والذي في كتاب الله: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 2، ولم يذكر وجوبها على العاقلة3.   1 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص "1/ 69". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الخطبة يوم العيد "1/ 260". كما أخرجه عنه في كتاب الفتن، باب الأمر والنهي "2/ 437". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب "4/ 469" وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان "8/ 98". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 265"، و"ذخائر المواريث" "3/ 180"، و"فيض القدير" "6/ 130". 2 "92" سورة النساء. 3 هذه الآية ليست مجملة -كما ذهب إليه المؤلف- وإنما هي عامة، تفيد هي وغيرها من النصوص أن الدية على القاتل، جزاءً لما فعل، سواء كان القتل عمدًا أو خطأ، ولكن الخطأ خص بالنص، حيث قد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بدية الخطأ على العاقلة كما في قصة حمل بن مالك، ثم وقع الإجماع على ذلك، كما حكاه القرطبي في تفسيره، وإن كان أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج أوجبوا الدية على القاتل في كلا الحالتين. راجع "تفسير القرطبي" "5/ 311- 328"، و"تفسير الفخر الرازي" "10/ 115- 124". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وكإجماعهم على أن للجدة مع الولد الذكر السدس إذا لم يكن أب، وأن للجدتين إذا اجتمعتا السدس، وهو ما وقع به بيان قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 1، كما بين تعالى بعضه بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2 الآية. وكما بينت السنة بعضه فأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- للجدة السدس3. وقد4 يكون بيان الإجماع لحكم مبتدأ، كما يكون بيان حكم الكتاب والسنة، نحو إجماع السلف على أن حد الخمر ثمانون على ما بيناه في   1 "7" سورة النساء. وقد نص القرطبي في "تفسيره" "5/ 47"، والفخر الرازي في "تفسيره" "9/ 186" على أن هذه الآية مجملة. يدل على ذلك ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أرسل إلى سويد وعرفجة أن لا يفرقا من مال أوس شيئًا، فإن الله جعل لبناته نصيبًا، ولم يبين كم هو، حتى أنظر ما ينزل ربنا ... الحديث. 2 "11" سورة النساء. 3 حديث توريث النبي -صلى الله عليه وسلم- الجدة السدس رواه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة "4/ 419، 420". وأخرجه أبو داود في كتاب الفرائض، باب في الجدة "2/ 109". وأخرجه ابن ماجة في كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة "2/ 909- 910". وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب المواريث، باب ميراث الجدة "3/ 110- 112". وأخرجه الدارمي في كتاب الفرائض، باب قول أبي بكر الصديق في الجدات "2/ 259". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 82"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 517" و"ذخائر المواريث" "3/ 94". 4 في الأصل "أوقد"، والصواب: حذف الهمزة، كما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 غير هذا الكتاب، وإجماعهم على تأجيل امرأة العنين. وقد يكون بيان خصوص العموم بالإجماع، نحو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 1، وأجمعت على أن العبد يجلد خمسين. والإجماع وإن لم يخل من أن يكون عن توقيف أو رأي، فإنه أصل برأسه يجب اعتباره فيما يقع البيان به. وقد يتعلق بهذا التفصيل: الكلام في جواز تأخير البيان، وذكر الاختلاف فيه، ويأتي الكلام في ذلك2. وذكر أبو بكر في مجموع فيه مسائل بخطه: البيان على خمسة أوجه: الأول: هو المؤكد، وهو أعلى ما يفهم به الخطاب وأشده وضوحًا. والثاني: القائم بنفسه، وإن كان التأكيد لم يقع به. الثالث: الخطاب الذي يحتاج أن يقرر بدليل معه. الرابع: هو ما انفرد النبي بإيجاب حكمه، أو يزيد بقوله دون أن يكون له أصل في الكتاب. الخامس: من علم الاستخراج من النصوص3.   1 "2" سورة النور. 2 انظر: "ص: 724". 3 قد سبق الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- إلى هذا التقسيم، وقد نبَّه على ذلك في "المسودة" "ص: 573" وبمراجعة كتاب الرسالة للإمام الشافعي "ص: 15- 26" تجد ذلك واضحًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فصل: [ في تعريف الدليل ] : 1 الدليل هو: المرشد إلى المطلوب2. وقيل: هو الموصل إلى المقصود. ولا فرق بين أن يكون قديمًا أو محدثًا؛ لأن القرآن كلام الله تعالى، وليس بمخلوق، وهو دليل على الأحكام، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دليل على الأحكام، وهو مخلوق محدث. ولا فرق بين أن يكون موجودًا أو معدومًا؛ لأن عدم الشرع يدل على براءة الذمة وانتفاء الوجوب، كما يدل وجود الشرع. ولا فرق بين أن يكون معلومًا وبين أن يكون مظنونًا. وحُكي عن بعض المتكلمين: أن الدليل اسم لما كان موجبًا للعلم، فأما ما كان موجبًا للظن فهو أمارة. وهذا غير صحيح2؛ لأن ذلك اسم لغوي، وأهل اللغة لا يفرقون بينهما.   1 راجع في هذا الفصل من كتب أصول الحنابلة: "التمهيد في أصول الفقه" الورقة: "10/ أ"، و"الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول الورقة "8/ أ"، و"المسودة" "ص: 573، 574"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 15، 16". 2 هذا التعريف إنما هو تعريف للدليل في اللغة. أما تعريفه في الاصطلاح: فهو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. وهو شامل للدليل الظني والقطعي على الصحيح، ويحصل المطلوب منه عقب النظر في العادة. وقيل حصول ذلك ضرورة. راجع "شرح الكوكب المنير" "ص: 15، 16"، و"حاشية البناني" "1/ 124- 133". 3 هذا خلاف ما ذهب إليه في كتابه "الكفاية" - كما نقل في "المسودة" "ص: 574" حيث جاء فيها: "فالدلالة هي الكتاب والسنة المقطوع بها، والإجماع المقطوع به. والأمارة: خبر الواحد والقياس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وأيضًا: فإنه مرشد إلى المطلوب، فوجب أن يكون دليلا كالموجب للعلم. وأيضًا: فإن اعتقاد موجبهما والعمل بهما واجب، فلا فرق بينهما. ولا فرق بين ما دل بنفسه مثل دلالة [8/ ب] الفعل على الفاعل، والإحكام والإتقان على قصده إليه وعلمه به، وبين ما دل بالمواضعة مثل: الفعل والقول الدَّالَّين على ما وضعا له من المعاني. والرجل الدال على الطريق يسمى دليلا، وهو مجاز؛ لأن شخصه ليس بدليل، وإنما الدليل قوله أو فعله. والاستدلال: طلب الدليل. والمستدل هو: الطالب للدليل. فإذا طالب السائل المسئول بالدليل فهو مستدل؛ لأن السائل يطلبه من المسئول، والمسئول يطلبه من الأصول. والمستدل عليه هو: الحكم. والمستدل له يحتمل الحكم، ويحتمل الخصم المطالب بالدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فصل: [ تعريف في الدلالة ] : وأما الدلالة1: فهي مصدر قولهم: دلَّ يدلُّ دلالة، ويسمى   1 عرف أبو البقاء الفتوحي الدلالة بقوله: ما يلزم من فهم شيء فهم شيء آخر. انظر: "شرح الكوكب المنير" "ص: 38". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الدليل دلالة على طريق المجاز؛ لأنهم يسمون الفاعل باسم المصدر كقولهم: رجل صائم وصَوْم، وزائر وزَوْر، قال الله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} 1، وأراد به غائرًا2. وأما الدال فقد قيل: هو الدليل، إلا أن فيه ضربًا من المبالغة كقولهم: عالم وعليم، وقادر وقدير، وسامع وسميع. ومنهم من قال: هو الناصب للدليل، وهو الله تعالى الذي نصب أدلة العقل والشرع، وكل من نصب لغيره دليلا على شيء، فهو دال بما نصبه من الدليل. وأما الحجة والبراهين فذلك اسم للدليل، ولا فرق بين الدليل من الحجة والبرهان. وقيل: ذلك اسم لما دل على صحة الدعوى، ولهذا سمي بينة المدعي حجته وبرهانه، وليس كل دليل حجة.   1 "30" سورة الملك. 2 لم يذكر المؤلف أقسام الدلالة؛ ولإتمام الفائدة نقول باختصار: الدلالة تنقسم إلى قسمين: لفظية، وغير لفظية. فأما غير اللفظية، فتنقسم إلى قسمين: وضعية، وعقلية. وأما اللفظية، فتنقسم إلى ثلاثة أقسام: طبيعية، وعقلية، ووضعية. والوضعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مطابقة، وتضمن، والتزام. وأما الدلالة باللفظ: فهي استعمال اللفظ، إما في موضوعه، وإما في غير موضوعه لعلاقة. والأول يسمى حقيقة، والثاني يسمى مجازًا. راجع "شرح الكوكب المنير" "ص: 38- 40"، و"شرح الأسنوي لمنهاج الوصول" "1/ 178- 181". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وسمعت أخي أبا حازم1 -رحمه الله- يقول: سمعت أبا نصر أحمد بن علي بن عبدوس المعدل بالأهواز2 قال: سمعت سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني3 يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل4 يقول:   1 هكذا في الأصل: "أبو حازم" بالمهملة، وقد وضع الناسخ علامة "ح" تحت حرف الحاء، ولكن الكنية في مصادر الترجمة "أو خازم" بالخاء المعجمة. وهو محمد بن الحسين بن خلف بن الفراء، أبو خازم، أخو القاضي أبي يعلى، سمع الدارقطني وابن شاهين وغيرهما. كان يميل إلى الاعتزال. محدث خلط في التحديث لما كان في مصر، مات سنة: 430هـ. له ترجمة في: "تاريخ بغداد" "2/ 252" و"لسان الميزان" "5/ 141". و "المنتظم" "8/ 102"، و"ميزان الاعتدال" "3/ 524". 2 الجصاص الأهوازي. سمع الطبراني وأبا بكر بن خلاد وغيرهما. حدث عنه محمد بن أبي الفوارس والخطيب البغدادي وغيرهما. وثَّقه الخطيب البغدادي. مات بالأهواز سنة: 423هـ. له ترجمة في: تاريخ بغداد "4/ 323". 3 اللخمي، أبو القاسم، المحدث الحافظ. سمع الحديث وعمره ثلاث عشرة سنة وسمعه بالشام والحجاز واليمن وبغداد وغيرها. حدث عما يزيد عن ألف شيخ له كتاب: "المعجم الكبير"، و"الأوسط"، و"الصغير" وغير ذلك. مات سنة: 360، وله من العمر مائة سنة. له ترجمة في: "البداية والنهاية" "11/ 270"، و"تذكرة الحفاظ" "3/ 912"، و"شذرات الذهب" "3/ 30"، و"طبقات الحفاظ" "ص: 372"، و"طبقات الحنابلة" "2/ 49"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/ 198"، و"لسان الميزان" "3/ 73"، و"المنتظم" "7/ 54"، و"ميزان الاعتدال" "2/ 195"، و"النجوم الزاهرة" "4/ 59". 4 أبو عبد الرحمن البغدادي. روى عن أبيه وابن معين وغيرهما. وعنه النسائي والطبراني وغيرهما. ثقة حافظ نقل عن أبيه الحديث والفقه. ولد سنة: 213هـ. ومات سنة: 290هـ. له ترجمة في: "تاريخ بغداد" "9/ 375"، و"تذكرة الحفاظ" "2/ 565"، و"خلاصة تذهيب الكمال" "ص: 161"، و"شذرات الذهب" 2/ 203"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 180". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 سمعت أبي يقول: قواعد الإسلام أربع: دال ودليل ومبين ومستدل. فالدال: الله تعالى، والدليل: القرآن، والمبين: الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1. والمستدل: أولو الألباب وأولو العلم الذين يجمع المسلمون على هدايتهم، ولا يقبل الاستدلال إلا ممن كانت هذه صفته2.   = له ترجمة في: "تاريخ بغداد" "9/ 375"، و"تذكرة الحفاظ" "2/ 565"، و"خلاصة تذهيب الكمال" "ص: 161"، و"شذرات الذهب" 2/ 203"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 180". 1 "44" سورة النحل. 2 كلام الإمام أحمد هذا ذكره أبو البقاء الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" "ص: 16". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فصل: [ في تعريف الأمارة وأقسامها ] : وأما الأمارة فهي: الدليل المظنون، كخبر الواحد والقياس، وليس بدليل مقطوع عليه. وهذه عبارة وضعها أهل النظر للفرق بين ما يفضي إلى العلم وبين ما يؤدي إلى غلبة الظن. والأمارات على ضربين: أحدهما: ما له أصل يرجع إليه في الشريعة مثل: القياس ووجوه الاستدلال التي نذكرها في الفقه. والثاني: ما لا أصل له في الشريعة وهذا على وجوه. منها: ما أمرنا فيه بالرجوع إلى العادة الجارية1 مثل تقويم   1 العادة في اللغة: تطلق على تكرار الشيء مرة بعد أخرى. انظر: اللسان "4/ 311"، = والقاموس "1/ 319"، ومعجم مقاييس اللغة "4/ 181- 182". وأما لدى الأصوليين فهي -كما عرفها ابن أمير الحاج- في كتابه التقرير والتحبير "1/ 282" بقوله: "الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية". ولمزيد من الفائدة راجع: العرف وأثره في الشريعة والقانون -رسالتنا للماجستير- "ص: 21- 23". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المستهلكات يعتبر به أمثاله مما تجري فيه المبتاعات، وكأروش الجنايات التي ليس فيها أَرَش مقدر، يرجع في تقويمه إلى أقرب الشجاج إليه، فصار ما يقرب إليه ويعتبر به كأصول الشريعة الموضوعة في الشرع، وهذا أظهر في الشجاج؛ لأن ما يعتبر به من الشجاج المقدورة أصول [9/ أ] في الشريعة، مثل أصول الحوادث. وكذلك الاجتهاد في القبلة والاستدلال مما أجرى الله تعالى به العادة كهب الرياح ومطالع النجوم. ومن ذلك الفرق بين القليل والكثير مما قامت عليه الدلالة، من ذلك: أن الجمعة لا تجب على من هو خارج المصر على بعد، وتجب على من هو قريب منه، فجعلنا الحد الفاصل سماع النداء. وكذلك الفاصل بين العمل القليل والكثير مما يفسد الصلاة من المشيء وغيره، وما يرفع هيئة الصلاة. وكذلك الحد الفاصل بين يسير النوم وكثيره ما يلقى معه عن الجهة التي هو عليها1.   1 صرح المؤلف -رحمه الله تعالى- بأن العادة أمارة لا أصل لها في الشريعة، وفي رأيي أن الأمر ليس كذلك، بل العادة لها أصل تعتمد عليه من السنة التقريرية، والإجماع العملي، والمصلحة المرسلة، والأدلة المطلقة التي أحالت عليها. وقد استوفينا الكلام في ذلك في رسالتنا العرف وأثره في الشريعة والقانون "ص: 64- 82". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فصل: [ تعريف النص ] : فقيل فيه: ما رفع في بيانه إلى أقصى غايته و [منه] سميت منصة العروس؛ لأن العروس ترتفع عليها على سائر النساء، وتنكشف لهن بذلك. قال امرؤ القيس1: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل2 ومعناه: إذا كشفته. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفع من عرفات، كان يمشي عنقًا، فإذا وجد فجوة نصَّ3، يعني: رفع في السير.   1 هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو الكندي. اختلف في اسمه، فقيل: حندج، وقيل: مليكة، وقيل: عدي، والأول أشهر. زعيم الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، الملك الضلِّيل، ذو القروح، شاعر ماجن. ولد سنة: 497م تقريبًا، وتوفي سنة: 545 م، تقريبًا أيضًا. له ترجمة في: "الأعلام" للزركلي "1/ 352"، و"الأغاني" "9/ 77"، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة "1/ 105- 136"، و"طبقات الشعراء" للجمحي "ص: 43، 67، 80". 2 هذا البيت موجود في ديوان الشاعر "ص: 16" ضمن معلقته المشهورة التي يقول في مطلعها: قِفَا نبكِ من ذِكْرى حبيبِ ومنزلِ ... بسقطِ اللِّوى بين الدَّخولِ فحَومَلِ 3 هذا الحديث رواه أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أخرجه عنه البخاري في كتاب المناسك، باب السير إذا دفع من عرفة "2/ 190". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة "2/ 936". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب الدفعة من عرفة "1/ 447". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وقيل: كل لفظ لا يحتمل إلا معنى واحدًا. وقيل: ما استوى ظاهره وباطنه. وقيل: ما عري لفظه عن الشركة، وخلص معناه من الشبهة. وقيل: ما تأويله يزيله. وهذا فاسد؛ لأن التأويل لا يستعمل إلا في الاحتمال. والصحيح أن يقال: النص ما كان صريحًا في حكم من الأحكام، وإن كان اللفظ محتملا في غيره. وليس من شرطه أن لا يحتمل إلا معنىً واحدًا؛ لأن هذا يعز وجوده، إلا أن يكون نحو قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} 1، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} 2، وإنما حده ما ذكرنا.   = وأخرجه عنه النسائي في كتاب المناسك، باب كيف السير من عرفة "5/ 208". وأخرجه الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب كيف السير في الإفاضة من عرفة "1/ 385". وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده": "5/ 310". وأخرجه الإمام مالك في "موطئه" في كتاب المناسك، باب السير في الدفعة "2/ 342"، مطبوع مع شرح الزرقاني. وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب وقت الدفع من عرفة إلى مزدلفة "2/ 58". وأخرجه أبو داود الطيالسي في كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة "1/ 221". وأخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب في الدفع من عرفة "2/ 1004". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "1/ 273، 274"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 406"، و"ذخائر المواريث" "1/ 13". 1 "64" سورة الأنفال. 2 "1" الإخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ومثل هذا في الشرع أكثر من أن يحصى، فلهذا نقول: إن قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} 1 إنه نص في قدر المدة، وإن كان محتملا في غيره, وقوله عليه السلام: "في أربع وعشرين من الإبل فما دون الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض" 2، وهذا نص في قدر النصب وأسنان الفرض. ونهيه عن المزابنة، إلا أنه رَخَّصَ في بيع العَرَايَا3، في أن العرية بيع وليست بهبة، كما قال أصحاب أبي حنيفة.   1 "226" سورة البقرة. 2 هذا جزء من حديث جاء في كتاب أبي بكر في الصدقات، وكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم وقد مضى تخريجهما "ص: 115". 3 هذا الحديث رواه سهل بن أبي حثمة -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رءوس النخل بالذهب والفضة "3/ 94". وأخرجه عنه مسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا "3/ 1170". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في بيع العرايا "2/ 226". وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب بيع العريا بالرطب "7/ 236". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب منه، أي من باب ما جاء في العرايا والرخصة في ذلك "3/ 587"، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب الرخصة في العرايا "2/ 170". وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب البيوع، باب في العرايا "4/ 30". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "1/ 56"، و"ذخائر المواريث" "1/ 256". و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 452"، و"نصب الراية" "4/ 13"، و"تلخيص الحبير" "3/ 29". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 في تعريف العام والظاهر مدخل ... فصل: [في تعريف العام والظاهر] : 1 والعموم: ما عم شيئين فصاعدًا 2. والظاهر: ما احتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر. والفرق بين العموم والظاهر: أن العموم ليس بعض ما تناوله اللفظ   1 راجع في هذا الفصل: "التمهيد" لأبي الخطاب الورقة "50-55"، و"الواضح" لابن عقيل، الجزء الأول، الورقة "8"، و"المسودة" "ص: 574"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 343" من الملحق، و"روضة الناظر" "ص: 115". 2 عرَّفه أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد" "1/ 203" بقوله: هو كلام مستغرق لجميع ما يصلح له. وقد تابعه أبو الخطاب الحنبلي في ذلك. انظر التمهيد، الورقة "50/ أ". واختاره الرازي وزاد عليه قوله: بحسب وضع واحد. وارتضاه الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول" "ص: 112، 113" وزاد عليه قوله: "دفعة". أما الغزالي فقد عرّفه في كتابه "المستصفى" "2/ 32" بقوله: "اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدًا". وقد ذكر في "المسودة" "ص: 574" تعريف القاضي أبي يعلى، وعزاه إليه وإلى أبي الطيب ثم قال بعد ذلك: "وهو مدخول من وجوه"، ولم يذكر شيئًا من هذه الوجوه. وأول ما يلاحظ عليه وعلى تعريف الغزالي: أنهما جعلا في التثنية عمومًا. ولمزيد من الاطلاع راجع: "المنخول" "ص: 138"، و"الإحكام" لابن حزم "1/ 39"، و"نهاية السول"، شرح "منهاج الأصول" "2/ 312". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بأظهر من بعض وتناوله للجميع تناول واحد، فيجب حمله على عمومه، إلا أن يخصه دليل أقوى منه. و [أما] الظاهر فإنه يحتمل معنيين، إلا أن أحدهما أظهر وأحق باللفظ من الآخر، فيجب حمله على أظهرهما، ولا يجوز صرفه عنه إلا بما هو أقوى منه. وكل عموم ظاهر، وليس كل ظاهر عمومًا؛ لأن العموم يحتمل البعض، إلا أن الكل أظهر. فالعموم مثل قوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1، [9/ ب] ومثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 2 فكانا عامين في جميع ما تناولاه. ومثل ذلك أكثر من أن يحصر. والظاهر: مثل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 3، فإنه يحتمل الندب، إلا أن ظاهره الوجوب؛ لأنه أمر وظاهر الأمر الوجوب، فسمي ظاهرًا لذلك4. وكذلك كل لفظ محتمل لمعنيين أحدهما أظهر من الآخر من طريق اللغة، أو من طريق الاستدلال. من ذلك ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال للمرتهن: "ذهب حقك" 5 فيحتمل أن يكون المراد به الدين، ويحتمل   1 "5" سورة التوبة. 2 "103" سورة التوبة. 3 "33" سورة النور. 4 هل الأمر للوجوب أو للندب؟ قولان: الأول للشافعي، والثاني لمالك وأبي حنيفة، وحجة الشافعي: ظاهر الآية. وحجة أبي حنيفة: السنة والقياس. انظر: "تفسير الفخر الرازي" "23/ 219، 220". 5 هذا الحديث قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- للمرتهن لما نفق فرس الرهن عنده. وهو حديث مرسل. أرسله عطاء، كما صرح بذلك أبو داود في "مراسيله" "ص: 21". ونقل الزيلعي في "نصب الراية "4/ 321" عن عبد الحق قوله: "إنه مرسل وضعيف" وقد بَيَّن ابن القطان الضعف بأن فيه: مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وهو ضعيف، كثير الغلط، وإن كان صدوقًا. ومصعب هذا قال عنه الذهبي في كتابه "المغني" "2/ 660": ضعفه ابن معين وأحمد وأبو حاتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 حقه من الوثيقة، إلا أن الظاهر حقه من الوثيقة؛ لأنه لم يسأل عن مقدار قيمة الرهن، ومن يسقط الدين فإنما يسقطه بقدر قيمة الرهن، فدل على أن مراده به حقه من الوثيقة. وكذلك قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "هما علي يا رسول الله، وأنا لهما ضامن"1؛ فيحتمل أن يكون إخبارًا عن ضمان سابق، ويحتمل أن يكون ابتداء ضمان، ولكن الظاهر منه ابتداء ضمان؛ لأن حمله على الإخبار يؤدي إلى خطأ النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه ترك الصلاة على من كان قد خلف ضامنًا، والضامن بمنزلة الوفاء.   1 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أخرجه عنه الدارقطني والبيهقي بأسانيد كلها -كما يقول الحافظ ابن حجر- ضعيفة. انظر: "تلخيص الحبير" "3/ 47". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 المجمل : 1 وأما المجمل2 فهو ما لا ينبئ عن المراد بنفسه، ويحتاج إلى قرينة تفسره.   1 راجع في هذا الفصل: "التمهيد" لأبي الخطاب، الورقة "76/ ب" وما بعدها، و"روضة الناظر" "ص: 93"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 219"، و"أصول الجصاص" مبحث المجمل، الورقة "19- 32"، ومبحث حكم المجمل من "274- 284" الجزء الأول، مخطوطة الأزهر. 2 المجمل لغة: المجموع، من أجملت الحساب، إذا جمعته. أو المحصل: من أجملت الشيء إذا حصلته. أو المبهم: من أجمل الأمر إذا أبهم. والأخير أشهر. راجع: "التمهيد" الورقة "76/ ب" و"إرشاد الفحول" "ص: 167"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 219". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أولا يعرف معناه من لفظه، وهو أصح، وذلك مثل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1 فإنه مجمل في جنس الحق وفي قدره، ويحتاج إلى دليل يفسره ويبين معناه. فأما قوله تعالى: {أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} 2 فإن ذلك مجمل3؛ لأن الصلاة في اللغة: دعاء، فكا [ن] كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} 4. وفي الشريعة هي: التكبير والقيام والقراءة والركوع والسجود والتشهد والسلام، ولا يقع على شيء من ذلك اسم الصلاة. فإذا كان اللفظ لا يدل على المراد به ولا ينبئ عنه وجب أن يكون مجملا. وكذلك الزكاة في اللغة: النَّمَاء والزيادة، من قولهم: زكا الزرع إذا زاد ونما. والمراد في الشريعة بالزكاة غير ذلك، واللفظ لا يدل عليه ولا ينبئ عنه. وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- ذكره في كتاب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-   1 "141" سورة الأنعام. 2 "43" سورة البقرة. 3 قال في المسودة "ص: 177": "هذا ظاهر كلام أحمد، بل نصه، ذكره ابن عقيل والقاضي أيضًا في أول العدة". 4 الآية "35" من سورة الأنفال. والمكاء هو: الصفير، والتصدية هي: التصفيق. راجع: "تفسير الفخر الرازي" "15/ 159". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 {أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ} 1، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدال على إقامتها: إن الفجر ركعتان يجهر فيهما بالقراءة، والظهر أربع، والعصر أربع، لا يجهر فيهما، والمغرب ثلاث يجهر بالقراءة فيها. وقوله: {وَآَتُوا الْزَّكَاةَ} 2 هل فسر ذلك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أصحابه من بعده؟ ومن أصحاب الشافعي من قال: ليست بمجمل وإن الصلاة في اللغة: دعاء، فكل دعاء يجوز، إلا أن يخصه الدليل. وكذلك يجب إخراج الزيادة من الزكاة، إلا ما خصه الدليل. وأما قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى الْنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 3، فهو مجمل أيضًا، ولا يدل على أن الحج الشرعي كما ذكرنا في الصلاة والزكاة. وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- أيضًا في كتاب "طاعة الرسول" فقال: قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى الْنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاَ} [10/ أ] فقالوا: السبيلُ الزادُ والراحلة4، وحج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووقَّت المواقيت للإحرام. فيما تقول للمدعي للظاهر من أين تأخذ هذا؟!   1 "43" سورة البقرة. 2 "43" سورة البقرة. 3 "97" سورة آل عمران. 4 تخصيص السبيل بالزاد والراحلة، فيه نظر؛ لأن هناك أشياء لا بد من توفرها، حتى يستطيع الإنسان الحج، كالصحة في البدن، وكون الطريق مأمونة، راجع: "تفسير الفخر الرازي" "8/ 162، 163"، و"تفسير القرطبي" "4/ 147- 149". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ومن أصحاب الشافعي من قال: الحج هو التردد في القصد، فهو على عمومه إلا ما خصه الدليل. وأما قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 1، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمْهَاتُكُمْ} 2 فهذا أيضًا من المجمل3؛ لأن تحريم الأعيان لا يصح، وإنما يحرم أفعالنا في العين، وليس لأفعالنا ذكر في اللفظ، والمذكور فيه متروك بالإجماع، فوجب التوقف فيه، وطلب دليل يدل على المراد. وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- أيضًا في كتاب "طاعة الرسول" فقال: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 4، وقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} 5، فلما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير"6، دلت أحكام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن الآية ليست على   1 "3" سورة المائدة. 2 "23" سورة النساء. 3 هذه الآية ومثيلاتها قد حكم المؤلف "ص: 106" بأنها مبينة، ثم حكم هنا، أنها مجملة. ولم يتفطن أحد إلى سبب هذا التناقض. والذي أعتقده أن القاضي أبا يعلى نقل في الأول كلام الجصاص -رحمه الله- في أصوله بنصه، وكان فيه: أن هذه الألفاظ مبينة. ولما جاء إلى هنا، وكان مستقلا في رأيه حكم بأنها مجملة. وسنتعرض لذلك عند دراستنا للمخطوطة إن شاء الله تعالى. 4 "3" سورة المائدة. 5 "145" سورة الأنعام. 6 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ......................................................................   = الطير "3/ 1533- 1535". وأخرجه عنه أبو دواد في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع "2/ 319". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع "1/ 1077". وأخرجه النسائي في كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة أكل لحوم الدجاج "7/ 182". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الأضاحي، باب ما لا يؤكل من السباع "2/ 12". وأخرجه عنه أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل كل ذي ناب من السبع وكل ذي مخلب من الطير "1/ 327". وأخرجه الدارقطني في "سننه" عن خالد بن الوليد -رضي الله عنه- مرفوعًا بلفظ: نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل، والبغال، والحمر، وكل ذي ناب من السبع أو مخلب من الطير" "4/ 287", وأخرجه الترمذي عن جابر -رضي الله عنه- في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب "4/ 73". كما أخرجه عنه أبو داود في الكتاب والباب المذكورين سابقًا "2/ 320". أما النهي عن الجزء الأول من الحديث، وهو قوله: نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع. فقد أخرجه البخاري عن أبي ثعلبة الخشني في كتاب الطب، باب ألبان الأتن "7/ 181". وأخرجه مسلم عن أبي ثعلبة في الكتاب والباب المذكورين سابقًا، كما أخرجه عن أبي هريرة بلفظ: "كل ذي ناب من السباع فأكله حرام". كما أخرجه الترمذي عن أبي ثعلبة وأبي هريرة في الموضع المذكور سابقًا، وعن أبي ثعلبة أيضًا في كتاب السير، باب ما جاء في الانتفاع بآنية المشركين "4/ 129". وأخرجه ابن ماجه عن أبي ثعلبة وأبي هريرة في الموضع السابق. وأخرجه الدارمي عن أبي ثعلبة الخشني في الموضع السابق أيضًا. وأخرجه النسائي عن أبي ثعلبة وأبي هريرة في الكتاب المذكور سابقًا، باب تحريم أكل السباع "7/ 177". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ظاهرها، وأنه هو المعبر عما في كتاب الله تعالى، ومن لزم ظاهر الآية لزمه أن يبيح لحم الكلاب والهرر والفيل والفأر والقرد وغير ذلك مما نهى عنه1. وقال تعالى في سورة النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمْهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2 كما يقول في البنت من الرضاعة، وبنت الأخ والعمة والخالة من الرضاعة، ولم يذكروا، أليس يرجع إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم؟! وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ   = وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الصيد، باب تحريم كل ذي ناب من السباع، عن أبي ثعلبة وأبي هريرة -رضي الله عنهما "3/ 90، 91". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، عن أبي ثعلبة وأبي هريرة "2/ 429". وأخرجه الطيالسي عن أبي ثعلبة في الموضع السابق. وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "2/ 357- 358"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 755"، و"تلخيص الحبير" "4/ 151- 152". 1 للعلماء في التوفيق بين الآية والحديث أقوال: الأول: أن الآية منسوخة بهذا الحديث؛ لأنها مكية، والحديث قاله الرسول -عليه الصلاة والسلام- في المدينة. الثاني: أن الآية محكمة، ولا حرام إلا ما فيها. الثالث: أن الآية محكمة، وما حرمته فهو حرام، بالإضافة إلى تحريم ما حرمته الأحاديث، وعليه جمهرة العلماء، وهو مدلول كلام أحمد هنا. الرابع: أن هناك سؤالا خاصًّا، جاءت الآية جوابًا عنه، فكانت خاصة. راجع: "الجامع لأحكام القرآن" "7/ 115- 119"، و"التفسير الكبير" للفخر الرازي "14/ 218- 223". 2 "24" سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ذَلِكُمْ} أليس الظاهر يدل على أن ما وراء ما حرم مباح؟ فكيف يقول في تزويج المرأة على عمتها أو خالتها؟ أليس يرجع في هذا إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم؟! 1. ومن أصحاب الشافعي من قال: المراد به أفعالنا في الأمهات والميتة، والعرب تحذف بعض الكلام إذا كان فيما أبقت دليل على ما ألقت. وأما قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} 2 فهذا أيضًا من المجمل3؛ لأن الله تعالى حكى عنهم -وهم أهل اللسان- أنهم قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ، وإذا كان   1 قلت: وكلام الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- لا يدل على أن الآيات المذكورة مجملة، بل يدل على أنها كانت عامة، يعمل بها، حتى جاءت النصوص الأخرى، فزادت عليها أحكامًا أخرى. ويدل لما ذهبت إليه أمور: أولا: قوله: فلما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، دلت أحكام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن الآية ليست على ظاهرها، والظاهر غير المجمل؛ لأن الظاهر يجب العمل به بخلاف المجمل. ثانيًا: قوله: "ومن لزم ظاهر الآية لزمه أن يبيح لحم الكلاب"، يفيد أن النصوص المذكورة دالة على أحكامها ملزمة بها، والمجمل لا يدل دلالة معينة، ولا إلزام بما جاء به. ثالثًا: قوله: "وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أليس الظاهر يدل على أن ما وراء ما حرم مباح؟ "، ولو كانت مجملة لما دلت على شيء، ولما أطلق عليها اسم: الظاهر. 2 "275" سورة البقرة. 3 ذكر المؤلف "ص: 110" أن هذه الآية مبينة، وقد سبق قريبًا ذكر السبب في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 كذلك افتقر إلى قرينة تفسره، وتميز بينه وبين الربا. ومن أصحاب الشافعي من قال: البيع هو الإيجاب والقبول عندهم، فهو على عمومه إلا ما خصه الدليل. وأما قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1، فليس من المجمل2، وإنما هو من العموم، ويجوز الاحتجاج به. وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في كتاب "طاعة الرسول" فقال: قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم سارق، وإن قل، فقد وجب عليه القطع، أيستعمل   1 "38" سورة المائدة. 2 هذه الآية احتدم الخلاف فيها بين العلماء، هل هي مجملة، أو مبينة؟ فذهب الجمهور إلى: أنها عامة مبينة، وقد دخلها التخصيص، وهو رأي الشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض الحنفية. وذهب بعض الحنفية -ومن بينهم أبو الحسن الكرخي- إلى أنها مجملة. والإجمال عند القائلين به في قدر المسروق الذي يجب فيه القطع، وفي القطع، حيث يطلق على الإبانة، وعلى الجرح، وعلى الموضع الذي يقع عليه لفظ اليد، حيث تطلق عليها من المنكب إلى أطراف الأصابع، كما تطلق على بعضها، وعلى المخاطب بتنفيذ القطع، هل هو شخص معين أو الأمة، أو الإمام؟ وقد أجاب القائلون بالعموم بما محصله: أن الآية عامة في كل ما ذكر، ولكن الأحاديث القولية والفعلية خصصت العموم ولولاها لعمل بالآية على عمومها، راجع في هذا: "التفسير الكبير" للفخر الرازي "11/ 224، 225"، و"الجامع لأحكام القرآن" "6/ 159- 176"، و"تيسير التحرير" "1/ 170، 171"، و"إرشاد الفحول" "ص: 170"، و"مناهج العقول" و"نهاية السول" كلاهما شرح "لمنهاج الأصول" "2/ 146- 148"، و"المسودة" "ص: 101، 102"، و"أصول الجصاص" الجزء الأول، الورقة "22، 23" مخطوطة الأزهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الظاهر، أو يستعمل ما سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم: القطع في ربع دينار1. وفي المجمل دل على [10/ ب] أنه ليس على ظاهرها وأنها على بعض السراق.   1 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا، أخرجه عنها البخاري في كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "8/ 199، 200". وأخرجه عنها مسلم في كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها "3/ 1312، 1313". وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الحدود، باب فيما يقطع فيه السارق "2/ 448". وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في كم تقطع يد السارق "4/ 50" وقال فيه: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنها النسائي في كتاب السرقة، باب القَدْرِ الذي إذا سرقه السارق قطعت يده "8/ 70". وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الحدود باب حد السارق "2/ 862". وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الحدود، باب ما يقطع فيه اليد "2/ 94". وأخرجه عنها الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الحدود، باب ما يجب فيه القطع "4/ 155". وأخرجه عنها الدارقطني في كتاب الحدود "3/ 189". وأخرجه عنها أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الحدود، باب حد السارق وفي كم تقطع يده؟ "1/ 301". وأخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده" "6/ 36، 80، 81، 104". وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب الحدود، باب المقدار الذي يقطع فيه السارق "3/ 164". راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "4/ 64"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 650". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وحكي عن عيسى بن أبان1 أنها من المجمل2، وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة3؛ لأن المراد به سارق مخصوص لقدر مخصوص من حرز مخصوص واللفظ لا يدل عليه. وهذا غير صحيح؛ لأن السارق معلوم في اللغة، وهو من أخذ الشيء مستترًا مستخفيًا به، فيجب حمله على عمومه إلا ما خصه الدليل، كقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4.   1 هو عيسى بن أبان صدقة، أبو موسى، أحد فقهاء الحنفية المشهورين، وَلِيَ قضاءَ البصرة عشرين سنة، مع العفة والنزاهة. له كتب منها: "الجامع في الفقه" و"اجتهاد الرأي". مات بالبصرة سنة: 221هـ. له ترجمة في "الأعلام" "5/ 283"، و"تاريخ بغداد" "11/ 175". 2 قال الجصاص في أصوله الجزء الأول، الورقة "18" ما نصه: "وقد ذكر أبو موسى عيسى بن أبان العام في مواضع، فسماه مجملا، وهذا كلام في العبارة ولا يقع في مثله مضايقة". 3 هذا العزو غير محرر، وتحريره أنه لبعض أصحاب أبي حنيفة، انظر المراجع التي ذكرناها قريبًا عند تعليقنا على آية السرقة "ص: 149". 4 "5" سورة التوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 [ تعريف المفسر ] : فأما المفسر: فما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعرف معناه من لفظه ولا يفتقر إلى قرينة تفسره، وهذه صفة النص، وقد ذكرناه 1.   1 سبق ذكره "ص: 137". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وحد ذلك: ما بقي حكمه، أو تأبد حكمه. وقد يعبر به عن المفسر، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 1، وأراد بالمحكمات المفسرة المستغنية في معرفة معانيها عما يفسرها. وحد ذلك ما ذكرته، وهو ما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعقل معناه من لفظه.   1 "7" سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 [ تعريف المتشابه ] : وأما المتشابه فهو: المشتبه المحتمل الذي يحتاج في معرفة معناه إلى تأمل وتفكر وتدبر وقرائن تُبَيِّنُه وتزيل إشكاله. ونعيد ذكره في موضع آخر ونحكي الخلاف فيه1.   1 وذلك "ص: 684- 693". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 [ تعريف مفهوم الخطاب ] : 1 وأما مفهوم الخطاب فهو التنبيه بالمنطوق به على حكم المسكوت عنه، مثل حذف المضاف كقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 2، ومعناه:   1 راجع هذا الفصل في كتاب "المسودة" "ص: 350" فإنه نقل أكثر كلام القاضي هنا، كما تراجع "شرح الكوكب المنير" "ص: 238" وما بعدها. 2 "197" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 أفعال الحج في أشهر1. وقوله: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} 2، فتقديره: في إحرام الحج3. وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} 4، ومعناه: فحلق ففدية5، وكقوله تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 6، فنبه بذلك على تحريم الضرب والشتم؛ لأنه إنما منع من التأفيف لما فيه من الأذى، وذلك في الضرب أعظم، وجب أن يكون بالمنع أولى، ويسمى هذا القسم: فحوى الخطاب. وقال بعض أهل اللغة: اشتق ذلك من تسميتهم الأبزار فحافحًا، ويقال: "فح قدرك يا هذا"، فسمي فحوى؛ لأنه يظهر معنى اللفظ كما تظهر الأبزار طعم الطبيخ ورائحته. ويسمى أيضًا لحن القول؛ لأن لحن القول ما فهم منه بضرب من الفطنة. يقال: لحنت فلانًا إذا كلمته بكلام يعلمه ولا يعلمه غيره. ورجلان تلاحنا، إذا فعلا مثل ذلك. ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} 7.وقال الشاعر:   1 وهناك تقديران آخران هما: أولا: الحج حج أشهر معلومات. ثانيًا: أشهر الحج أشهر معلومات. على أنه يمكن أن تفهم الآية من غير تقدير، وذلك بجعل الأشهر نفس الحج؛ لأن الحج يقع فيها. راجع" التفسير الكبير" للفخر الرازي "5/ 160". 2 "196" سورة البقرة. 3 وقدَّرَهُ الفخر الرازي بقوله: فعليه ثلاثة أيام وقت اشتغاله بالحج "5/ 155" من تفسيره. 4 "196" سورة البقرة. 5 قدَّر ذلك الفخر الرازي في تفسيره "5/ 151" بقوله: "فحلق فعليه فدية". 6 "23" سورة الإسراء. 7 "30" سورة محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 منطقٌ صائبٌ وتلحَنُ أحيَا ... نًا وخيرُ الحديثِ ما كان لحنًا1 وقيل: لحن القول ما دل عليه، وحذف استغناء عنه بدليل الكلام عليه نحو قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} 2. فدل على أنه ضرب، فانفجرت. ونحو قوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 3، ولم يذكر أنهما ذهبا، اكتفاء بما حكاه من جواب فرعون لهما حتى4 قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 5. [11/ أ] وأشباه ذلك.   1 هذا البيت قاله الشاعر مالك بن أسماء في جارية له ضمن ثلاثة أبيات هي: أمغطي مني على بصري للـ ... ـحب أم أنت أكمل الناس حسنا وحديث ألذه هو مما ... يشتهي الناعتون يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيا ... نًا وأحلى الحديث ما كان لحنا ويلاحظ أنه أتى بكلمة: أحلى، بدل كلمة: خير، التي أتى بها المصنف. راجع: "عيون الأخبار" لابن قتيبة، المجلد الثاني، ص: 161، 162"، و"معجم الشعراء" للمرزباني "ص: 266"، و"البيان والتبيين" للجاحظ "1/ 147" وروايته للبيت المستشهد به كرواية ابن قتيبة، وقد رواه الجاحظ أيضًا في كتابه المذكور "1/ 228" وروايته للبيت مثل رواية المؤلف. 2 "60" سورة البقرة. 3 "43" سورة طه. 4 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "حين". 5 الآيتان "49، 50" سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 [ تعريف دليل الخطاب ] : وأما دليله فهو دليل الخطاب، وذلك إذا علق بصفة فيدل على أن الحكم فيما عدا الصفة بخلافه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وكذلك إذا علق بعدد، وهذا فصل فيه خلاف، وكلام كثير، يأتي الكلام عليه في موضع آخر1.   1 وذلك "ص: 448" وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 في تعريف التخصيص مدخل ... فصل: [في تعريف التخصيص] : وأما التخصيص فهو تمييز بعض الجملة بحكم1. وقيل: إخراج بعض ما تناوله العموم2. وقيل: بيان المراد باللفظ العام. وهذا حد تخصيص العموم، وليس بحد تخصيص مطلق؛ لأنه لا فرق بين أن يكون داخلا في حكم عموم مخالف له وبين أن يكون داخلا فيه؛ لأنا نقول خص الأحرار بأحكام، وخص الرجال بأحكام وخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأحكام وخُصَّ ذو القربى بأحكام، وخص الوالد بالرجوع في الهبة، وخص المستطيع بإيجاب الحج، وخص العلماء بكذا، وخص بلد كذا بكذا، وخص السلطان فلانًا بإلاكرام والعطاء.   1 هذا التعريف ذكره الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول"ص: 142"، ونسبه لابن السمعاني. وقد ذكره الشيرازي في كتابه "اللُّمع" "ص: 17"، ولم ينسبه لأحد. 2 هذا التعريف لأبي الحسين البصري كما في كتابه "المعتمد في أصول الفقه" "1/ 251" غير أن فيه كلمة: الخطاب، بدل كلمة: العموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 [ تعريف النسخ ] : 1 وأما النسخ فحده: بيان انقضاء مدة العبادة التي ظاهرها الإطلاق.   1 سيأتي الكلام عن النسخ في بحث مستقل مستفيض "ص: 768- 838". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وإن شئت قلت: بيان ما لم يرد باللفظ العام في الأزمان. وقد قيل: التخصيص تقليل، والنسخ تبديل. وهذا غير صحيح؛ لأن الردة تبديل، وتغيير العهد والوصية تبديل وليس بنسخ، قال الله سبحانه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} 1، وقال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} 2. وفيما ذكرنا من الحد احتراز من الحكم المعلق على زمان مخصوص، وأن انقضاءه ليس بنسخ له؛ لأن الحكم لم يكن مطلقًا، وذلك مثل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 3، وليس انقضاء الليل نسخًا للحكم المأذون فيه، ولا انقضاء النهار نسخًا للصوم المأمور به فيه. فإن قيل: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ 4 أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ   1 "181" سورة البقرة. 2 "23" الأحزاب. 3 "187" سورة البقرة. 4 كلمة: "عليهن" ساقطة من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 سَبِيلاً} 1 ليس بمطلق، وقد قلتم إنه منسوخ بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2 قيل: هذه الغاية مشروطة في كل حكم مطلق؛ لأن غاية كل حكم إلى موت المكلف أو إلى النسخ.   1 "15" سورة النساء. 2 "2" سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 تعريف الأمر مدخل ... فصل: [تعريف الأمر] : 1 الأمر اقتضاء الفعل أو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه. وإنما قلنا: "بالقول"؛ لأن الرموز والإشارات ليست بأمر حقيقة، وإنما سمي أمرًا على طريق المجاز. وقولنا: "ممن هو دونه"؛ لأن قول العبد لربه: اغفر لي، وتجاوز عني، وكفر سيئاتي، فإنه2 ليس بأمر، وإنما هو سؤال [11/ ب] وطلب. وكذلك قول المملوك لمالكه: أطعمني، واكسني، سؤال وطلب، وليس بأمر؛ولهذا لايجوز أن يقال: إن المالك مأمور، وإنه مطيع بفعله. فإن قيل: قد يأمر بالكلام وتبليغ الرسالة، وهذا أمر، وليس بأمر بالفعل. قيل: الكلام فعل، وتسميته قولا وكلامًا ونطقًا، لا يمنع من أن يكون فعلا؛ لأن الكتابة والإشارة والأكل والشرب والقيام والقعود فعل، وإن اختص كل واحد منهما باسم، فإذا كان كذلك، كان الحد حاصرًا لجنس الأمر.   1 سيأتي بحث الأمر باستفاضة وتفصيل "ص: 214- 424". 2 كلمة: "فإنه" قلقة، فكان الأولى حذفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وحكي عن أبي بكر بن فورك أنه قال: الأمر ما يكون المأمور بامتثاله مطيعًا. والأول أصح؛ لأن عبارة الحد يجب أن تكون أظهر من عبارة المحدود؛ لتنفيذ بيانه وتفسيره، فأما إذا كانتا في الإجمال سواء، لم تصح عبارة الحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 [ المندوب مأمور به ] : 1 وإذا ثبت هذا فإن مذهب أحمد -رحمه الله- أن المندوب إليه مأمور به. وقد نص على ذلك في رواية ابن إبراهيم2 فقال: "آمين" أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم-3. وعلى هذا لا يحتاج إلى الزيادة فيما ذكرنا من حد الأمر. ومنهم من قال: المندوب ليس بمأمور به. فعلى هذا يجب أن يقال في حد الأمر: اقتضاء الفعل، أو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على وجه لا يتضمن التخيير بين فعله وتركه وهذا فصل يأتي الكلام فيه4.   1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" "ص: 6- 8"، و"روضة الناظر" "ص: 20، 21". 2 "ابن إبراهيم" لم نستطع تعيين المراد بابن إبراهيم؛ لأن هناك كثيرين ممن صحبوا الإمام أحمد، ممن أبوهم إبراهيم. 3 ستأتي هذه الرواية "ص: 248"، ولفظها: "آمين أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، "فإذا أمن القارئ فأمنوا"، فهو أمر من النبي صلى الله عليه وسلم". وهناك سيخرج الحديث. 4 وذلك "ص: 248". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 [ تعريف النهي ] : 1 والنهي: اقتضاء أو استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه. وقيل: المنع من طريق القول. وإنما قيل: من طريق القول؛ لأن من قيَّد عبده، أو أغلق عليه بابه، فقد منعه، وليس ذلك بنهي.   1 سيأتي الكلام عن النهي "ص: 425- 447". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 تعريف الواجب مدخل ... فصل: [تعريف الواجب] : والواجب: ما في فعله ثواب، وفي تركه عقاب. ولا يحتاج إلى ذكر الثواب؛ لأن الندب فيه ثواب. وإنما يبين الواجب عن المستحب والمباح، بما في تركه عقاب. وقيل الواجب: ما لا يجوز تركه من غير عزم على فعله، وهذا حده الذي يميزه عما ليس بواجب؛ لأن المستحب يجوز تركه من غير عزم على فعله، وكذلك المباح. وأما ما كان واجبًا فإنه لا يجوز تركه إذا كان وقته مضيقًا، وإن كان وقته موسعًا لم يجز تركه إلا بشرط العزم على فعله في آخر الوقت. وقيل الواجب: ما لا يجوز تركه إلى غير بدل، فإن كل واجب لا يجوز تركه إلى غير بدل، وتأخيره عن أول الوقت إلى آخره فإنما يجوز بشرط العزم على فعله في الثاني، والعزم بدل من تقديمه في أول الوقت. وحكي عن أبي بكر بن فورك أنه قال: الواجب ما لا بدَّ من فعله. وقال كثير من الفقهاء: ما لا يجوز إخراجه عن وقته من غير عذر، أو ما يعصى بإخراجه عن وقته من غير عذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وفيه احتراز من ترك المسافر صوم رمضان، فإنه يتركه لعذر. فإن قيل: هذا ليس بخاص لجنس الواجب، وإنما هو تحديد للمؤقت منه. قيل: كل واجب مؤقت؛ لأنه لا يخلو: إما [12/ أ] أن يكون مؤقتًا بوقت معلوم الطرفين مثل الصلاة والصيام، أو يكون على الفور، مثل الزكاة والحج والعمرة، فيكون وقته زمان الإمكان. والوجوب في اللغة، عبارة عن السقوط، من قولهم: وجبت الشمس، ووجب القمر، ووجب الحائط إذا سقط. وقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 1 أي سقطت. فسمى ما لا بد من فعله واجبًا؛ لأن تكليفه سقط عليه سقوطًا لا ينفك منه إلا بفعله2.   1 "36" سورة الحج. 2 هناك تعريفات للواجب راجع فيها: "شرح الكوكب المنير" "ص: 108، 109". و"المسودة" "ص: 575، 576"، و"روضة الناظر" "ص: 16"، و"الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "27/ ب- 28/ أ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 [ تعريف الفرض ] : 1 وأما الفرض: فهو عبارة عن أشياء: فهو في عبارة اللفظ: ما كان في أعلى منازل الوجوب، مثل ما ثبت بنص القرآن وخبر التواتر، والإجماع.   1 راجع في هذا "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "28/ أ"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 109". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 قال الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 1، وأراد أوجب الحج، وقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} 2، ومعناه: أوجبتم لهن فريضة. وهو عبارة عن النزول؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 3، وأراد: أنزل عليك القرآن. وهو عبارة عن الإحلال؛ قال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} 4، وأراد به: أحل الله له. وهو عبارة عن البيان؛ قال تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} 5 وأراد: بينَّاها. وهو عبارة عن التقدير؛ يقال: فرض الحاكم على فلان لزوجته كذا وكذا من النفقة. ويراد به قدّر. وهو في اللغة: عبارة عن التأثير، يقال: فرض القوس، إذا حز طرفيه، وفرضة النهر: الموضع الذي يجتمع فيه الماء.   1 "197" سورة البقرة. وراجع في تفسيرها: "مفاتيح الغيب" للفخر الرزاي "5/ 162". 2 "237" سورة البقرة. وراجع في تفسيرها: "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي "6/ 140". 3 "85" سورة القصص. وراجع في تفسيرها: "مفاتيح الغيب" "26/ 20". 4 "38" سورة الأحزاب. وراجع تفسيرها في: "مفاتيح الغيب" "25/ 212". 5 "1" سورة النور. وراجع تفسيرها في: "مفاتيح الغيب" "23/ 119- 130". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 [معنى الْحَتْمِ] : والحتم: عبارة عن الفرض؛ لأنه يعبر به عن الواجب الذي يراد تأكيده، فيقول القائل عند تأكيد المأمور [به] : حتمت عليك كذا. والمكتوب واللازم عبارة عن الفرض أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 [ هل هناك فرق بين الفرض والواجب ؟] : وقد اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في الفرض والواجب هل حدُّهما في الشرع حدٌّ واحد، أم بينهما فرق؟ فيه روايتان: أحدهما: أن حدَّهما واحد. والثانية: أن الواجب ما ثبت وجوبه بخبر الواحد والقياس، وما اختلف في وجوبه، والفرض ما ثبت وجوبه من طريق مقطوع به، كالخبر المتواتر، أو نص القرآن، أو إجماع الأمة. وفي هذا خلاف بين الفقهاء، ويأتي ذكره إن شاء الله فيما بعد1.   1 وذلك ص: "376". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 تعريف الندب مدخل ... فصل: [تعريف النَّدب] : 1 الندب اقتضاء الفعل بالقول ممن هو دونه على وجه يتضمن التخيير بين الفعل والترك. وفي اللغة هو: الدعاء إلى الفعل، يقال: ندبه لكذا، إذا دعاه إليه.   1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "28/ أ" و"المسودة" "ص: 6، 7"، "576"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 125، 127"، و"روضة الناظر" "ص: 20، 21". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فأما المندوب إليه فقد قيل: ما في فعله ثواب، وليس في تركه عقاب. وقيل: ما في فعله أجر، وليس في تركه وزر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 [ تعريف الطاعة والمعصية ] : 1 وأما الطاعة: فهي2 موافقة الأمر. والمعصية: مخالفة الأمر. وقالت المعتزلة: الطاعة موافقة المراد، والمعصية مخالفة المراد. وهذا غلط؛ لأن الله تعالى إذا فعل ما يريده عبيده لا يكون مطيعًا لهم وإن كان فعله موافقًا لإرادتهم.   1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "29". و"المسودة" "ص: 576". 2 في الأصل: "فهو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 [ تعريف العبادة ] : 1 وأما العبادة فكل ما كان طاعة لله تعالى، أو قربة إليه، أو امتثالا لأمره، ولا فرق بين [12/ ب] أن يكون فعلا أو تركًا. فأما الفعل فمثل الوضوء، والغسل من الجنابة، والصلاة، والزكاة، والحج، والعمرة، وقضاء الدين، وما أشبه ذلك. وأما الترك فمثل: ترك الزنا، وترك أكل المحرم وشربه، وترك القتل   1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "29/ ب"، و"المسودة" "ص: 43، 44". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 المحرم، وترك الربا1. وإزالة النجاسة طريقها الترك، فلا تفتقر إلى نية2، وتكون بمنزلة رد المغصوب وإطلاق المحرم الصيد، وغسله الطيب عن بدنه أو ثوبه؛ لأن ذلك كله طريقه الترك، فإن العبادة في تجنبه، فإذا أصابه ولم يمكنه تركه إلا بالفعل كان طريقه الترك، ويخالف الوضوء؛ لأنه فعل مجرد ليس فيه ترك. وقال أصحاب أبي حنيفة: الوضوء ليس بعبادة؛ لأنه ليس من شرطها النية3. والدليل على أنها عبادة قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "الوضوء شطر الإيمان" 4.   1 في الأصل: "وترك الزنا" بزاي بعدها نون، والصواب ما أثبتناه؛ لأمرين: أولهما: أن ترك الزنا، قد تقدم ذكره قريبًا. ثانيهما: أنه قد جاء هكذا "الربا" بالراء المهملة في المسودة "ص: 43" عندما نقل كلام القاضي بنصه. 2 هكذا في الأصل، وفي "المسودة" "ص: 43": "فأما الترك فلا يفتقر إلى النية". 3 من أول الفصل إلى هنا منقول بنصه في "المسودة" "ص: 43، 44"، ثم بعد ذلك قفز، فنقل رد القاضي على دليل الحنفية. 4 هذا الحديث رواه أبو مالك الأشعري -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء بلفظ: "الطهور شطر الإيمان" "1/ 203". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الدعوات، باب .... "5/ 535، 536"، وقال حديث صحيح، ولفظه مثل لفظ المؤلف. وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء شطر الإيمان "1/ 102، 103" بلفظ: "إسباغ الوضوء شطر الإيمان". وأخرجه عنه ابن ماجه بمثل لفظ أبي داود وذلك في كتاب الطهارة، باب الوضوء شطر الإيمان "1/ 102". وأخرجه عنه النسائي بمثل لفظ أبي داود وذلك في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة "5/ 5". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "ذخائر المواريث" "3/ 214"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" "6/ 376". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 والإيمان1 عبادة، فوجب أن يكون شطره عبادة؛ ولأنه طاعة أو قربة فوجب أن يكون عبادة قياسًا على ما شرط فيه النية. ولأن هذا يؤدي إلى أن يكون ترك الزنا والقتل وشرب الخمر عبادة؛ لأن ذلك يصح من غير النية، ويؤدي إلى أن تكون إقامة الحدود عبادة، والكفارة عبادة؛ لأنها تفتقر إلى القصد والنية، ولا تكون الطهارات عبادة، وهذا ظاهر الفساد. وأما سقوط النية في صحة الفعل المأمور به، لا2 يدل على أنه ليس بطاعة وقربة.   1 في الأصل: "والوضوء"، والصواب ما أثبتناه؛ لأن الوضوء شطر الإيمان، وليس العكس. 2 كان الأولى الإتيان بالفاء في جواب: "أما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 [ تعريف السنة ] : وأما السنة: فما رسم ليحتذى، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" 1، ولا فرق بين   1 هذا الحديث رواه جرير بن عبد الله البجلي مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب العلم، باب من سنَّ سنة حسنة أو سيئة "4/ 2059"، كما أخرجه عنه في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة. "2/ 702". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو إلى ضلالة "5/ 43"، وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب من سنَّ سنة حسنة أو سيئة "1/ 74". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة "5/ 56". وأخرجه عنه الدارمي في المقدمة، باب من سنَّ سنة حسنة أو سيئة "1/ 107". وراجع أيضًا: "ذخائر المواريث" "1/ 181"، و"كشف الخفاء" للعجلوني "2/ 353". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أن يكون هذا المرسوم واجبًا أو غير واجب. يدل عليه ما روي عن عبد الله بن عباس: أنه صلى على جنازة جهر بقراءة فاتحة الكتاب، وقال: إنما فعلت ذلك لتعلموا أنها سنة1. وقراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة. وأما الغالب على ألسنة الفقهاء إطلاق2 السنة على ما ليس بواجب، وعلى هذا ينبغي أن يقال: ما رسم ليحتذى استحبابًا.   1 هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة بسنده إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- "2/ 107". وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب "3/ 337" وقال عقبة: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب الدعاء "4/ 61". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الجنائز، باب صفة الصلاة على الجنازة "1/ 215". وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب ما يقرأ على الجنازة "2/ 187". وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الجنائز، باب صفة الصلاة على الجنازة "1/ 164". وقد تكلم عنه الحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري" "3/ 203، 204". وراجع فيه أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 292"، و"تيسير الوصول" "2/ 219". 2 الجادة أن يؤتى بالفاء في جواب "أما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 [ معنى المكتوبة ] : والمكتوبة هي الواجبة يدل عليه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 1، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْصِّيَامُ} 2، ومعناه: أوجب عليكم. وأصل هذه اللفظة من الكتابة في اللوح المحفوظ، ثم استعملت في الواجب.   1 "178" سورة البقرة. 2 "183" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 تعريف الإباحة مدخل ... فصل [تعريف الإباحة] : 1 الإباحة: مجرد الإذن، يدل عليه أن من أذن لغيره بأن يأكل طعامه، أو يسكن داره، أو يركب دابته، فقد أباحه له، فدل على أن الإباحة هي الإذن. والمباح: كل فعل مأذون فيه لفاعله، لا ثواب له في فعله، ولا عقاب في تركه، وفيه احتراز من فعل المجانين والصبيان والبهائم؛ لأنه لا يصح إذنهم وإعلامهم به. ولا يدخل على ذلك أفعال الله تعالى؛ لأنه لا يجوز أن [13/ أ] يوصف بأنه مأذون له في فعله.   1 راجع: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "29/ أ"، و"المسودة" "ص: 573"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 130- 132"، و"روضة الناظر" "ص: 21، 22". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 [تعريفُ الحَسَنِ والقَبِيحِ] : 1 وأما الحسن والقبيح فقد قيل في العبارة عنه: الحسن ما له فعله، والقبيح ما ليس له فعله.   1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "6/ ب - 7/ أ" و"المسودة" "ص: 577"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 96- 98". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وقال هذا القائل: المباح من جنس الواجب1. وقيل: الحسن ما مدح به فاعله، والقبيح ما ذم به فاعله. وقال هذا القائل: لا يوصف المباح بأنه حسن.   1 يظهر أن في العبارة تحريفًا، ولعل الصواب: "وقال هذا القائل: المباح من جنس الحسن"، يدل على ذلك أمران: الأول: أن المؤلف ذكر بعد هذا تعريفًا للحسن والقبح، ثم عقَّب على ذلك بقوله: "وقال هذا القائل: لا يوصف المباح بأنه حسن". الثاني: أنه ذكر في "المسودة" "ص: 577" بعد نقل التعريف الأول منسوبًا إلى القاضي، قال: وقيل المباح من الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 [تعريفُ الْجَائزِ] : 1 والجائز: ما وافق الشريعة، فإذا قلنا: صلاة جائزة، وصوم جائز وبيع جائز، فإنما نريد أنه موافق للشريعة. وقد يقول الفقهاء: الوكالة عقد جائز، وكذلك عقد الشركة والمضاربة، يريدون أنه ليس بلازم. ويكون حدُّ ذلك: كل عقد للعاقد فسخه بكل حال، أو لا يئول إلى اللزوم، ولا يدخل على ذلك البيع المشروط فيه الخيار، أو إذا كان في المبيع عيب، فإنه يَئُول إلى اللزوم، وكذلك الرهن، فإنه من العقود اللازمة؛ لأنه يَئُول إلى اللزوم.   1 راجع في هذا الفصل: "الواضح" الجزء الأول، الورقة "30/ أ"، و"المسودة" "ص: 577". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 [معنى الظُّلمِ والجَورِ] : 1 والظلم مجاوزة الحد. وقيل: وضع الشيء في غير موضعه. ولهذا قالوا: "من أشبه أباه فما ظلم"؛ أي: لم يضع نسبه في غير موضعه. وتقول العرب: بئر مظلومة، إذا حفرت في أرض ليس فيها محفر. والجور هو: العدول عن الحق، من قوله: جار السهم" إذا عدل عن قصده.   1 راجع هذا في: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "33/ ب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فصل: [ تعريف الخبر ] : 1 الخبر: ما دخله الصدق والكذب، يدل عليه أن من قام وقعد وأكل ومشى وركب لما لم يكن خبراً لم يدخله الصدق والكذب، ولم يحسن أن يقال له فيه: صدقت أو كذبت. وكذلك القول إذا كان أمرًا أو نهيًا لم يدخله الصدق أو الكذب، فدل على أن حد الخبر ما ذكرته. والصدق: كل خبر مخبره على ما أخبر به. والكذب: كل خبر مخبره على خلاف ما أخبر به. والآحاد: ما لم تبلغ حد التواتر. والمرسل: ما انقطع إسناده، وهو أن يكون في رواته من يروي عمن لم يره. والمسند: ما اتصل إسناده.   1 سيأتي الكلام عن "الأخبار" في كتاب مستقل "ص: 839- 1019". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فصل: [ تعريف الإجماع ] : 1 الإجماع: اتفاق علماء العصر على حكم النازلة. ويُعْرَفُ اتفاقُهُم: بقولِهِم، أو قول بعضهم وسكوت الباقين، حتى ينقرض العصر عليه. وقيل: هو مأخوذ من العزم على الشيء، يقال: أجمع فلان على كذا ومعناه: عزم عليه. ومنه قوله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا الْنَّجْوى} 2 معناه: عزموا عليه. ومنه قوله عليه السلام: "لا صيامَ لمن لم يجمع 3 الصِّيَامَ من اللَّيلِ" 4، ومعناه: يعزم عليه.   1 سيأتي الكلام عن "الإجماع" في كتاب مستقل ورقة "158/ ب" فما بعدها. 2 "62" سورة طه. وقد وردت هذه الآية محرَّفة في الأصل، حيث جاءت هكذا: "فأجمعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى" والآية كما أثبتناها، غير أنه على هذا لا يبقى في الآية دليل على ما أراد المؤلف الاستدلال له. ولعل المقصود هو آية: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} "71" يونس؛ لأن هذه الآية هي التي يستدل بها في هذا الموضع، وقد ذكرها المؤلف في هذا الكتاب عندما تكلم عن الإجماع بالتفصيل، الورقة "158/ ب- 159/ أ". 3 في الأصل: "يبيت"، ولعله من تحريف النُّساخ، فإن المؤلف استدل بالحديث لبيان معنى الإجماع. 4 هذا الحديث روته أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها- مرفوعًا وموقوفًا، أخرجه عنها الترمذي مرفوعًا في كتاب الصوم، باب ما جاء: لا صيام لمن لم يعزم من الليل "3/ 99" ولفظه: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له"، ثم عقب عليه بقوله: حديثُ حفصةَ حديثٌ لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه. وقد = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ........................................................................   = روى عن نافع عن ابن عمر قوله، وهو أصح. وهكذا روي هذا الحديث عن الزهري موقوفًا، ولا نعلم أحدًا رفعه إلا يحيى بن أيوب". وقد نقل ابن حجر في كتابه تلخيص الحبير "2/ 188" ما ذكره الترمذي عن البخاري أنه قال في هذا الحديث: هو خطأ، وهو حديث فيه اضطراب والصحيح عن ابن عمر موقوف. وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الصيام، باب النية في الصيام "1/ 571"، وقد نقل عنه ابن حجر في "التلخيص" أنه قال: لا يصح رفعه. وأخرجه عنها النسائي في كتاب الصيام، باب النية في الصيام "4/ 166" مرفوعًا وموقوفًا، مع أنه صرح بعدم رفعه، وصوَّب أنه موقوف كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص". وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الصوم، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل "1/ 542"، بلفظ: "لا صيام لمن لم يفرضه من الليل". وأخرجه عنها الإمام أحمد "6/ 287"، وقد نقل عنه ابن حجر في "التلخيص" قوله: "ما له عندي ذلك الإسناد". وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الصوم، باب من لم يجمع الصوم من الليل "1/ 339". وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الصيام، باب الرجل ينوي الصيام بعدما يطلع الفجر "2/ 54". وأخرجه عنها الدارقطني في كتاب الصيام "2/ 172"، كما أخرجه عن عائشة من طريق آخر، وقال: كل رجالها ثقات. وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الصيام، باب من أجمع الصيام قبل الفجر "2/ 156، 157" عن عبد الله بن عمر وحفصة وعائشة -رضي الله عنهم- موقوفًا. وخلاصة القول: أن هناك بين العلماء في رفع هذا الحديث ووقفه: فذهب فريق إلى أنه مرفوع، وبه قال الحاكم، والدارقطني، وابن خزيمة، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقيل: معنى الإجماع والاجتماع مختلف؛ لأن الإجماع يضاف إلى الواحد فيقال: قد أجمعت على كذا، ولا يقال: اجتمعت إلا مع آخر. والاختلاف مخالفة من هو من أهل الاجتهاد، مثل وجود الاتفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 تعريف الحقيقة والمجاز وأقسامهما مدخل ... فصل: [تعريف الحقيقة والمجاز وأقسامهما] : الحقيقة: تستعمل في شيئين: أحدهما: في العبارة عن صفة الشيء ومعناه، فيقال: حقيقة العلم كذا، وحقيقة العالم كذا، وحقيقة المحدث كذا. وهذا يرجع إلى حده وحصره، وليس لهذا النوع [13/ ب] من الحقيقة مجاز. والثاني: حقيقة الكلام وحَدُّه: كل لفظ بقي على موضوعه. ولهذه الحقيقة مجاز، وحَدُّه: كل لفظ تجوز به عن موضوعه، وصح نفيه عنه، مثل الجد، يصح نفي الأب عنه. وذلك بأربعة وجوه: أحدهما: بالزيادة فيه، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1،   = وابن حزم، وابن حبان وغيرهم. وذهب فريق إلى أنه موقوف، ولا يصح رفعه، وبه قال البخاري، والترمذي وأبو داود، والنسائي وغيرهم. راجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "2/ 229" و"تلخيص الحبير" "2/ 188" و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 336، 337"، و"نصب الراية" "2/ 433- 435" و"فتح الباري" "4/ 142"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" "6/ 222". 1 "11" سورة الشورى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الكاف زائدة فإنه قال: ليس مثله شيء، ووصفت الزيادة: إنها مجاز؛ لأنها وردت غير مفيدة1. والثاني: بالنقصان منه، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 2، معناه: أهلها فاقتصر على ذكر القرية اكتفاء بدلالته على ما لم يذكره. والثالث: بالتقديم والتأخير، كقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 3 تقديره: من بعد دين أو وصية. وقوله: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 4، وتقديره: الرحمن خلق الإنسان علمه القرآن والبيان؛ لأن تعلمه قبل خلقه لا يصح. والرابع: بالاستعارة، وهي تسمية الشيء باسم غيره، إذا كان مجاورًا له، أو كان فيه سبب، كقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} 5. والإرادة للآدمي دون الجمادات. وقوله: {لَهُدِّمَتْ   1 قوله: "غير مفيدة"، هذا لا يليق بكلام الله تعالى؛ لأن كل ما فيه مفيد، بدون شك. فالذين يقولون: إن في القرآن مجازًا، يقولون: هنا الزيادة للتأكيد، والذين يقولون: إنه ليس في القرآن مجاز، يجيبون بعدة أجوبة: أظهرها: أن المراد بالمثل: الذات، والمعنى: ليس كذاته شيء. راجع: "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي "27/ 150- 153"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 53- 55". 2 "82" سورة يوسف. 3 "11" سورة النساء. 4 "1- 4" سورة الرحمن. 5 "77" سورة الكهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ} 1، ومعناه: مكان الصلوات؛ لأن الهدم يختص المكان دون الفعل.   1 "40" سورة الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 [ معنى المجاز ] : والمجاز مأخوذ من جاز1؛ لأنه سار به كلام العرب وخطابهم، والاستعارة أكثر الأنواع في الاستعمال، ثم يليه النقصان.   1 في الأصل: "مجاز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 تعريف القياس مدخل ... فصل: [تعريف القياس] : 1 القياس: رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما. وقيل: حمل الفرع على الأصل بعلة الأصل. وقيل: موازنة الشيء بالشيء. وقيل: اعتبار الشيء بغيره. وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال في ميقات أهل المشرق: "ما حياله من المواقيت؟ فقالوا: قَرْن، فقال: قيسوا به"2.   1 سيأتي بحث القياس في باب مستقل، الورقة "193- 237". 2 هذا الأثر عن عمر -رضي الله عنه- أخرجه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لما فتح هذان المصران، أتوا عمرَ فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدّ لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، فإنا إن أردنا شق علينا، قال: "انظروا حذوها من طريقكم، فحدّ لهم ذات عرق"، هكذا لفظ البخاري، ولم أجد لفظ المؤلف: "قيسوا به" فيما رجعت إليه من الكتب. راجع في هذا الأثر أيضا: "تيسير الوصول" "1/ 238"، و"تلخيص الحبير" "2/ 229"، و"فتح الباري" "3/ 389 - 391"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص "369"، و"نصب الراية" "3/ 14 - 15". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 والأول والثاني صحيحان. وأما الثالث والرابع ففيهما احتمال؛ لأنهما لا يعبران عن صفة القياس في أحكام الشريعة، والمقصود ها هنا العبارة عن القياس في الأحكام الشرعية، وهو على التفسير الذي ذكرناه. وإذا ثبت هذا فإن القياس يستعمل على أربعة أشياء: أصل، وفرع، وعلة، وحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 [ تعريف الأصل ] : فأما الأصل فهو: ما ثبت حكمه بنفسه، ومعناه: أنه ثبت حكمه بلفظ تناوله باسمه. وقيل الأصل: ما ثبت به حكم غيره. وهذا صحيح على أصلنا، ولهذا نقول: إن العلة يجب أن تتعدى إلى فرع، ولا تقف1. مثل علتنا في تحريم التفاضل في الذهب والفضة بالوزن؛ لأنها تتعدى، ولا نقول: كونها قيم المتلفات؛ لأنها لا تتعدى.   1 في الأصل: "يقف". بالمثناة التحتية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 [ تعريف الفرع ] : وأما الفرع فحده: ما ثبت حكمه بغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 [ تعريف العلة ] : وأما العلة: فهي المعنى الجالب للحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وقيل: المعنى الذي تعلق به الحكم. وقيل: الصفة المقتضية للحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 [تعريفُ الحكمِ] : وأما الحكم: فما جلبته العلة، أو ما اقتضته [14/ ب] العلة، من تحريم وتحليل وصحة وفساد، ووجوب وانتفاء وجوب، وما أشبه ذلك. والعلة الواقفة: هي التي لا تتعدى إلى فرع. والعلة المتعدية: هي التي تتعدى إلى فرع أو أكثر. والمعلول: هو الحكم؛ لأن تأثير العلة فيه. وقيل: هو الذات التي حلتها العلة، مثل الخمر وسائر الأشربة، والبر والشعير وسائر المكيلات، والذهب والفضة؛ لأن الجسم التعليل، والمعلول هو الذي حلته العلة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن تأثير العلة في الجسم، وههنا في الحكم، فالمعلول ما أثرت فيه العلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 [ تعريف المعتل والمعلل والمعتل به والمعتل له ] : والمعتل: هو المحتج بالعلة. والمعلل: هو المعتل؛ لأنه يقال: اعتل بكذا، أو علل بكذا، فدل على أنهما سواء. وقيل: المعتل هو الناصب للعلة، مثل المحرك هو الفاعل للحركة، والمسود هو الفاعل للسواد. والمعتل به: هو العلة. والمعتل له: هو الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 [ تعريف الطرد والعكس ] : والطرد: وجود الحكم بوجود العلة. والطرد شرط في صحة العلة. وهل هو دليل على الصحة؟ فيه اختلاف. ونحن نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه1. والعكس: عدم الحكم لعدم العلة. فإذا قلنا لا زكاة في الخيل؛ لأنه حيوان لا تجب الزكاة في ذكوره، فلم يجب في إناثه. أصله: البغال والحمير، وعكسه: الإبل والبقر والغنم. وسبيل العاكس أن يبدأ بموضع العلة، فيقول: فإن الزكاة لما وجبت في ذكورها، وجبت في إناثها.   1 وذلك في الورقة "215" من هذه المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 [ تعريف النقض ] : وأما النقض: فهو وجود العلة مع عدم الحكم. وقد نقض أبو حنيفة2 علته في تحريم النساء فقال: أحد وصفي علة   1 هو الإمام النعمان بن ثابت التميمي الكوفي، أحد الأئمة الأربعة، فقيه العراق وإمامهم. روى عن عطاء والزهري وقتادة وغيرهم. وعنه عبد الرزاق ووكيع ومحمد بن الحسن وغيرهم. ولد سنة: 80 هـ، ومات سنة: 150هـ، رحمه الله تعالى. انظر ترجمته في: "البداية والنهاية" "10/ 107"، و"تاريخ بغداد" "13/ 323"، و"تذكرة الحفاظ" "1/ 168"، و"تهذيب التهذيب" "10/ 449" و"شذرات الذهب" "1/ 227"، و"طبقات الحفاظ" "ص; 73"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "ص: 86"، و"غاية النهاية في طبقات القراء" "2/ 342". و"مرآة الجنان" "1/ 309"، و"ميزان الاعتدال" "4/ 265"، و"النجوم الزاهرة" "2/ 12". "الفقهاء" للشيرازي "ص: 86"، و"غاية النهاية في طبقات القراء" "2/ 342". و"مرآة الجنان" "1/ 309"، و"ميزان الاعتدال" "4/ 265"، و"النجوم الزاهرة" "2/ 12". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 تحريم التفاضل علة لتحريم النساء، ثم أجاز إسلام الدراهم والدنانير في الموزونات مع وجود أحد وصفي علة تحريم التفاضل، وهو الوزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فصل: [ العلة منطوق بها ومجتهد فيها ] : والعلة التي يتعلق بها الحكم على ضربين: منطوق بها ومجتهد فيها. وقال بعض الخراسانية: مسطورة ومسبورة. فأما المنطوق بها فهي: التي دلَّ كلام صاحب الشريعة عليها. مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "أينقصُ الرطبُ إذا يبس؟ " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم في لحوم الأضاحي:   1 هذا الحديث رواه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر "2/ 225". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، وقال: حديث حسن صحيح"3/ 519". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب بيع الرطب بالتمر "2/ 761". وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب "7/ 236". وأخرجه عنه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب البيوع، باب ما يكره من بيع التمر "3/ 265، 266" مطبوع مع شرح الزرقاني. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الكالئ بالكالئ "2/ 57". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب تحريم المفاضلة في الطعام إذا كان من جنس واحد "2/ 182" وأخرجه الدارقطني في كتاب البيوع "3/ 49". راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 9"، و"نصب الراية" "4/ 40- 42"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 452". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 "إنما نهيتكم من أجل الدّافة" 1. ومن ذلك قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} 2، فدلّ على [أن] المنع لأجل الحيض. وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 3 قد دلّ على أن الطهارة لأجل الجنابة. وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4. وقوله عليه السلام: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" 5، ونهيه   1 هذا جزء من حديثٍ قد مضى تخريجه "ص: 123". 2 "222" سورة البقرة. 3 "6" سورة المائدة. 4 "38" سورة المائدة. 5 هذا الحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب البيوع، باب الكيل على البائع والمعطي "3/ 83"، وفي باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك "3/ 85". كما أخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة "3/ 85". وأخرجه مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض كما أخرجه عن ابن عباس وأبي هريرة -رضي الله عنهم- بألفاظ متقاربة "3/ 1159- 1162". وأخرجه أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب البيوع، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى. كما أخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما "2/ 251، 252". وأخرجه ابن ماجه عن ابن عمر وابن عباس أيضًا في كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض "2/ 749". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 عن بيع ما لم يقبض1، وربح ما لم يضمن2. و "الثيب أحق بنفسها" 3.   = وأخرجه النسائي عنهما في كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يستوفى "7/ 251، 252". وأخرجه الدارمي في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى "2/ 168" عن ابن عمر -رضي الله عنهما. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" عن ابن عمر في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الولاء والمحاقلة والمزابنة وبيع ما ليس عنده "1/ 264". وأخرجه الإمام الشافعي عن ابن عمر وابن عباس في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وهل غير الطعام مثله "2/ 156، 157". 1 مضى تخريجه "ص: 112". 2 مضى تخريجه ضمن حديث "لا تَبِعْ ما ليس عندك" "ص: 112". 3 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت "2/ 1037". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب النكاح، باب في الثيب "1/ 484". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء في استئمار البكر والثيب "3/ 407" وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب استئمار البكر والثيب "1/ 601". وأخرجه عنه النسائي في كتاب النكاح، باب استئذان البكر في نفسها، وباب استئمار الأب البكر في نفسها "6/ 69، 70". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب النكاح، باب استئمار البكر والثيب "2/ 63". وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب النكاح، باب استئذان البكر والأيم في أنفسهما "3/ 126". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب النكاح "3/ 239". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب خطبة الصغيرة إلى وليها والرشيدة إلى نفسها "2/ 321". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 540"، و"تيسير الوصول" "3/ 346". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 و "ليس للولي مع الثيب أمر" 1 وقوله صلى الله عليه وسلم [14/ ب] : "لا يقضي القاضي وهو غضبان" 2، وما أشبه ذلك مما دل كلام صاحب الشريعة على علة الحكم. فإذا ثبت هذا، فإنه ينظر فيه. فإن كان مطردًا علم أنه كمال العلة، وإن انتقض وجب ضم وصف آخر إليه، وعلم أن صاحب الشريعة لم ينص على كمال العلة، وإنما نص على بعضها ووكل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم، وهذا جائز؛ لأنه إذا جاز أن يكل الجميع إلى اجتهادهم، جاز أن   1 هذه إحدى روايات الحديث المخرج آنفًا، وبها أخرجه أبو داود والنسائي في الموضعين السابقين. 2 هذا الحديث رواه أبو بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان "9/ 81، 82". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان "3/ 1342، 1343". وأخرجه أبو داود عنه في كتاب الأقضية، باب القاضي يقضي وهو غضبان "2/ 271". وأخرجه الترمذي عنه في كتاب الأحكام، باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان وقال: حديث حسن صحيح "3/ 611". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان "2/ 776". وأخرجه النسائي عنه في كتاب آداب القضاة، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه "8/ 209". وأخرجه الإمام الشافعي عنه في كتاب القضاء والشهادات "2/ 232". وأخرجه الطيالسي في كتاب القضاء والدعاوي "1/ 286". وراجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "تيسير الوصول" "3/ 182". و"المنتقى" "ص: 811"، و"تلخيص الحبير" "3/ 189". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ينص على البعض ويكل الباقي إلى اجتهادهم. ومثال ذلك ما احتج به أصحاب أبي حنيفة وقالوا: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لبريرة1: "ملكت بضعك فاختاري"2، وهذا يقتضي أن الأمة إذا أعتقت تحت حر كان لها الخيار، فقلنا لهم: إن ثبت هذا اللفظ كان معناه: ملكت بضعك تحت العبد، فضممنا إليه وصفًا آخر. وأما العلة المجتهد فيها، فمثل سائر العلل المستنبطة، وطريق ثبوتها: التأثير، أو شهادة الأصول، ويأتي الكلام على ذلك في باب: العلم الدال على صحة العلة3.   1 هي بريرة مولاة عائشة -رضي الله عنهما- اشترتها من بعض بني هلال، وأعتقتها وكان في قصة عتقها كثير من الأحكام. لها ترجمة في "الاستيعاب" "4/ 1795"، و"الإصابة" "7/ 535" القسم السابع "ص: 535" طبعة دار نهضة مصر. 2 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا. أخرجه عنها الدارقطني في كتاب النكاح "3/ 290" بلفظ: "اذهبي فقد عتق معك بضعك". وأخرجه ابن سعد في "طبقاته" في ترجمة بريرة -رضي الله عنها "8/ 189" عن الشعبي مرسلا بلفظ: "قد عتق بضعك معك، فاختاري". راجع أيضا: "تلخيص الحبير" "3/ 177، 178"، و"نصب الراية "3/ 204، 205". 3 وذلك في الورقة "220" من هذه المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فصل: [ تعريف السبب ] : والسبب: ما يتوصل به إلى الحكم ويكون طريقًا لثبوته، سواء كان دليلا أو علة أو شرطًا أو سؤالا مثيرًا للحكم. والدليل عليه: أن الله تعالى سمى الطريق سببًا، فقال عزَّ من قائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} 1، أي: طريقًا. وسمي الطريق سببًا؛ لأنه يتوصل بسلوكه إلى المقصود. وسمي الباب سببًا؛ لأنه يدخل منه إلى المقصود. قال تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ الْسَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 2 وأسباب السموات: أبوابها، قال زهير3: ومن هاب أسباب السماء ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلم4 وسمي الحبل سببًا؛ لأنه يتوصل به إلى الماء وغيره، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} 5، يعني بحبل.   1 "85" سورة الكهف. 2 "36، 37"، سورة غافر. 3 هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن قرط المزني. شاعر جاهلي مشهور. لم يدرك الإسلام. صاحب الحَوْلِيَّات. مدح هرم بن سنان، وأجاد، خلف ولدين: كعبًا وبجيرًا، أدركا الإسلام وأسلما. له ترجمة في: "الأغاني" 9/ 139- 151"، و"الشعر والشعراء" "1/ 137- 153"، و"طبقات فحول الشعراء" 43، 52- 54". 4 رواية البيت في شرح ديوان زهير لأبي العباس الشيباني "ص: 20": ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولأبي عمرو رواية أخرى هي: ومن يبغ أطراف الرماح ينلنه ... ولو رام أن يرقى السماء بسلم 5 "15" سورة الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أقسام النظر مدخل ... فصل: [أقسام النظر] : والنظر ضربان: ضرب هو النظر بالعين فهذا حدُّه: الإدراك بالبصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 والثاني: النظر بالقلب، وهذا حدُّه: الفكر في حال المنظور فيه. والمنظور فيه: هو الأدلة والأمارات الموصلة إلى المطلوب. والمنظور له: هو الحكم؛ لأنه ينظر لطلب الحكم. والناظر: هو الفاعل للفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 [ تعريف الجدل ] : وأما الجدل: فهو تردد الكلام بين اثنين، إذا قصد كل واحد منهما إحكام قوله ليدفع به قول صاحبه. وهو مأخوذ من الإحكام، يقال: درع مجدولة، إذا كانت محكمة النسج، وحبل مجدول، إذا كان محكم الفتل. والأجدل، هو الصقر عندهم. والجدالة: وجه الأرض، إذا كان صلبًا. ولا يصح الجدل إلا بين اثنين. ويصح النظر من واحد [15/ أ] . والسؤال، هو الاستخبار. والجواب: هو الإخبار. فإذا سأل السائل المسئول فقال: ما تقول في كذا؟ فإنه مستخبر عن مذهبه فيما سأله عنه، وإذا أجابه فهو مخبر عنه. والجدل كله سؤال وجواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 [ تعريف الرأي ] : وأما الرأي: فاستخراج صواب العاقبة. فمن وضع الرأي في حقه، واستعمل النظر في وضعه، سدده إلى الحق المطلوب، كمن قصد الجامع يسلك طريقه ولم يعدل عنه أداه إليه وأورده عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وإنما كان كذلك؛ لأن الحق عند أحمد -رحمه الله- في واحد، وما عداه باطل. وعلى الحق دليل يوصل إليه، فإذا وصل إلى الدليل أوصله إلى الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الكلام وأقسامه مدخل ... فصل: [الكلام وأقسامه] : والكلام في اللغة: عبارة عن أصوات وحروف. وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذا في كلام الله تعالى، وأن الله تعالى تكلم بصوت، في رواية يعقوب بن بختان1 والمروذي2 وعبد الله3. وقال الأشعرية: الكلام معنىً قائم في النفس يعبر عنه بهذه الأصوات المقطعة. والكلام في هذا يأتي في باب الأوامر4.   1 في الأصل: "بجيان" بدون إعجام، والصواب "بختان" كما أثبتنا. وفي المسودة "ص: 90/ 481": بجيان، وهذا خطأ أيضًا. وهو: يعقوب بن إسحاق بن بختان، أبو يوسف. كان صالِحًا ثقة. من أصحاب الإمام أحمد الذين تفقهوا عليه، ونقلوا عنه، وبخاصة في الورع. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" "1/ 415". 2 في الأصل: "المرودي" بدون إعجام، والصواب: المروذي، كما أثبتناه. وهو: أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز، أبو بكر المروذي، أحد أصحاب أحمد الفضلاء، الموصوفين بالورع والزهد. كان مقربًا عند الإمام أحمد. نقل كثيرًا من المسائل عنه. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" "1/ 56". 3 المراد: عبد الله بن أحمد بن حنبل، وقد سبقت ترجمته "ص: 134". 4 وذلك "ص: 214- 223". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وإذا ثبت هذا فالكلام على ثلاثة أوجه: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل. فالاسم: مأخوذ من السمة، وهي العلامة؛ وحقيقته: ما أفاد معنىً غير مقترن بزمان مخصوص، والأسماء على وجوه يأتي شرحها. والفعل -على ما يذكره النحويون- فإنه عبارة عما دلَّ على زمان محدود. والحرف: هو عبارة عن شيئين: أحدهما معنىً، والآخر عبارة. فالمعنى: هو الحرف الذي هو طرف الشيء ونهايته، ومنه: حرف الوادي. والثاني: ما يقصد به النحْويون، وهو ما أفاد معنىً في غيره. فهذا تقسيم كلام العرب. وقد ذكر بعضهم تقسيمه على المعاني، فحصره بستة عشر وجهًا، فقال: الأمر وما في معناه، وهو السؤال والطلب والدعاء، ومن ذلك النهي ويدخل فيه الإخبار والجحود والقسم والأمثال والتشبيه وما أشبه ذلك، ومنه الاستخبار، والنهي منه الإخبار والاستفهام1.   1 النص في الأصل مشوش، والستة عشر وجهًا التي يشير المؤلف إليها هي: الأمر، والنهي، والخبر والاستخبار، والطلب، والجحود، والتمني، والإغلاظ، والتلهف، والاختبار، والقسم، والتشبيه، والمجازاة، والدعاء، والتعجب، والاستثناء. انظر في تقسيم الكلام عند العرب: "الصاحبي في فقه اللغة" لابن فارس "ص: 179- 188" و"الأمالي الشجرية" "1/ 277- 281"، و"الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي "3/ 256" وما بعدها، و"همع الهوامع" للسيوطي أيضًا "1/ 12". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 والأسماء على وجوه: منها: أعلام وألقاب وضعت في اللغة للتمييز بين المسمى وغيره، تقوم مقام الإشارة إلى الغير مثل: زيد وعمرو. ومنها: ما وضع لإفادة صورة وبنية مخصوصة، مثل: إنسان. ومنها: ما وضع لإفادة جنس مثل: علم وإرادة. ومنها: ما وضع لإفادة أمر تعلق بالمسمى مثل: والد وأخ، وفوق وتحت. والاسم المفيد لمعنىً يتعلق بالمسمى، قد يكون على وجه الاشتقاق، مثل قولنا: مقتول ومضروب. ومنه ما هو مشتق مثل قولنا: قاتل وضارب. وقد يتفق الاسمان في الصورة والدلالة، مثل قولنا: الوطء بالنكاح وبملك اليمين حلال. وقد يتفق الاسمان في الصورة ويختلفان في المعنى مثل: القرء، يراد به الحيض والطهر. وقد يختلفان في اللفظ والمعنى مثل قولنا: الخمر محرمة، والخل مباح. وقد يختلفان في الصورة ويتفقان [15/ ب] في المعنى، مثل زكاة وصدقة. والأسماء على ضربين: منه ما هو عام، ومنه ما هو خاص. فالعام على ضربين: منه ما هو عام ليس فوقه ما هو أعم منه. ومنه ما هو عام بالإضافة إلى ما هو أخص منه، وإن كان خاصًّا فبالإضافة إلى ما هو فوقه. فالعام الذي ليس فوقه أعم منه مثل معلوم ومذكور. والخاص الذي هو عام في نفسه مثل قولنا: عَرَض، هو عام في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 جميع الأجناس، وهو خاص بالإضافة إلى قولنا: معلوم ومذكور. والخاص الذي هو في الحقيقة خاص، مثل أسماء الأعيان. وإذا كان الاسم عبارة عن شيئين متضادين جاز أن يكون حقيقة فيهما، مثل أسماء الأضداد. وكذلك إن عبَّر عن مسمين مختلفين، مثل قولنا للباري تعالى: عالم، وللمحدث: عالم. والأسماء المشتقة التي هي مقيدة على ضربين: منها ما هو مشتق من معاني متماثلة، مثل قولنا: أسود. ومنها: ما هو مشتق من معنى وصفة لا يجب تماثلها، مثل متلوّن. فالأسماء التي ليست بمشتقة منها: ما يتفق لفظه ومعناه، مثل: سواد وسواد. ومنها: ما يتفق لفظه ويختلف معناه، مثل جارية للعين المعروفة، وجارية للسفينة. والمقيد من الأسماء على ضربين: منه ما هو حقيقة في بابه، ومنه ما هو مجاز. فالحقيقة: هو اللفظ المستعمل في موضعه. والمجاز: هو اللفظ المعدول عن جهته. والاسم متى كان مشتركًا في أشياء، مفيدًا في جميعها فائدة واحدة، حمل على جميعها كاللون. فإن كان يفيد في أشياء مختلفة، فقد قيل: لا تحمل على جميعها وشبهه بعضهم به إذا قال: "أوصيت لموالي فلان"، وله مولى أعلى ومولى أسفل، لم يحمل عليهما لتنافي معناهما؛ لأن أحدهما منعِم، والآخرُ منعَمٌ عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ولا يجوز حمل الاسم على معنيين مختلفين أحدهما حقيقة والآخر مجاز، إذ لا يحمل على الصريح والكناية. وهذا إجماع الصحابة حين لم يحملوا اسم القرء على الأمرين، ولو حمل اللفظ عليهما لم يتمنعوا منه من غير دلالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 [ الأسماء الشرعية ] : والاسم المستعمل في الشريعة على غير ما كان عليه في موضوع اللغة، مثل اسم المؤمن، هو في اللغة: عبارة عن كل مصدق. واختص في الشريعة من آمن بالله، حتى لا يجوز استعماله في غيره. وكذلك اسم الكافر عبارة: عن كل مغطَّى، وقد اختص ذلك الاسم في الشرع بمن كان كافرًا بالله تعالى. ومثل اسم الصلاة، فإنه في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: لأفعال حصل معها دعاء. وكذلك الزكاة في اللغة: عبارة عن النَّماء. وفي الشريعة: عبارة عن إخراج ماله. وكذلك الربا، في اللغة: عبارة عن الزيادة. وفي الشريعة عبارة عن أمور قد لا يحصل معها زيادة. وكذلك الصوم عبارة: عن الإمساك في اللغة. وفي الشريعة: إمساك بصفة، وهو عن الأكل والشرب والجماع مع النية. وكذلك الاعتكاف، في اللغة: عبارة عن اللّبث. وهو في الشرع: لبث في مكان مخصوص متى انضمت إليه النية. وكذلك الوضوء، هو [16/ أ] عبارة عن: الوضاءة في اللغة، وهو في الشريعة عبارة عن غسل أعضاء مع النية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وكذلك الحج عبارة: عن القصد في اللغة، وهو في الشريعة: عبارة عن أفعال مخصوصة، فهو في الشريعة كما كان في اللغة، وضمت إليه شروط شرعية، ولا نقول: بأنها منقولة من اللغة إلى معاني أحكام الشريعة. وقالت المعتزلة: هي منقولة ومعدولة عن موجباتها في اللغة. وهذا قول فاسد؛ لأنه لو نقل الأسماء اللُّغوية إلى أحكام شرعية كان مخاطبًا لهم بغير لغتهم، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 1، وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2. ولأنه لو كان منقولا لحصل البيان من النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، كما حصل منه في غيره من الأشياء، ولما لم ينقل ذلك، دل على أنه لم ينقل.   1 "4" سورة إبراهيم. 2 "195" سورة الشعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فصل: في أسماء الأشياء هل حصلت عن توقيف أم مواضعة؟ : فقيل في ذلك: يمكن أن يكون عرف ذلك بالتوقيف والوحي من الله تعالى. ويحتمل أن يكون عرف ذلك بمواضعة أهل اللغة ومواطأتهم على ذلك. ويمكن أن يكون بعضها مأخوذًا عن توقيف، وبعضها بالمواضعة. وبعضها مستعملا بقياس على ما تكلم به أهل اللغة. ويجوز أن يتفق لأهل اللغة أو لبعضهم: أن يتواطئوا على وضع اسم لشيء قد وقف اللهُ عليه بعضَ من أعلمه ذلك، فتكون المواضعة منهم موافقة للتوقيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ويجوز أن يسمُوا الأشياء بغير الأسماء التي وصفها الله تعالى لها، إذا لم يحصل منه حظر لذلك، فإن حظر ذلك لم يَجُزْ مخالفة الاسم، ومتى لم يحظر ذلك كان للشيء اسمان: أحدهما موقف عليه، والآخر متواضع عليه. وقال قوم: جميع أسماء الأشياء في كل لغة أخذ من جهة توقف الله تعالى لآدم، والتعليم له، إما بتولي خطابه، أو الوحي إليه على لسان من يتولى خطابه وإفهامه. وقال آخرون: جميع ذلك عرف من جهة مواطأة أهل اللغة. والذي نختاره: ما ذكرناه أولا، وهو كلام أبي بكر عبد العزيز من أصحابنا؛ لأنه فسر قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1، بما نذكره فيما بعد، ولم يحمل الآية على عمومها. فالدلالة على فساد قول من قال: إن جميعها توقيف هو: أنهم إذا كانوا أحياء ناطقين، وكان الكلام والنطق منهم صحيحًا، ويعرفون المعلومات، البعض منها ضرورة، والبعض منها نظرًا وبحثًا، ويعرفون لما يعلمونه أمثالا، وربما غاب عنهم الحاضر واحتاجوا إلى طلبه، وجب عند ذلك صحة نطقهم للحاجة لمعرفة ذلك، وجرى مجرى اجتماع الخلق على أكل الطعام عند الجوع، وشرب الماء واتقاء الحر والبرد. فإن قيل: كيف يعرف مراد النطق بالأصوات، وهو لم يسبق له التوقيف بمعرفة ذلك؟ قيل: يعرف ذلك ضرورة عند قوله: رجل وإنسان، إذا تكرر ذلك وأتبعه [16/ ب] بالإشارة إليه والإقبال عليه.   1 "31" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ويبين صحة هذا أنه لا يجوز أن تكون أحوال الناطقين الأصحاء العقلاء أَدْوَنَ من الخرس في تأتي المواضعة منهم على معاني رموزهم وإشاراتهم، وإن لم يتقدم لهم إشارات أُخَرُ وقفوا على معناها؛ ولأن الله تعالى إذا أراد توقيفهم للمواضعة على ذلك جمع عليها هممهم، ووفر دواعيهم، وسهل سبيل ذلك لهم. وأما قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} : فذكر أبو بكر في كتاب التفسير فقال: وأولى بالصواب: أسماء ذريته وأسماء الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق، قال: وذلك أن الله تعالى قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ} يعني بذلك: أعيان المسمين؛ إذ لا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، فأما إذا كنّت عن أسماء البهائم، وسائر الخلق، سوى من وصفها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت: "عرضهن"، أو "عرضها". وكذلك تفعل إذا كنّت عن أصناف من الخلق والبهائم والطير وسائر أصناف الأمم، وفيها أسماء بني آدم والملائكة، تكني عنها بما وصفنا من الهاء والنون والهاء والألف، لا كل بني آدم نحو قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 1، فكنى عنها بالهاء والميم؛ لأنها أصناف مختلفة، فيها الآدمي. وقيل في جواب ذلك: أن يدل على أنه علمها آدم ووقفه عليها، وذلك لا يمنع المواضعة عليها مع تعليم آدم إيَّاها، ومع بدل تعليمه لو ترك ذلك. وقيل: إنه لم يخبر تعالى أنه وقف جميع الخلق على الأسماء، وإنما أخبر أنه وقف آدم على ذلك، وليس فيه ما يمنع أن يكون قد اتفق لأهل كل اللغة تواضعهم بما في مثل ما وقفه الله عليه أو كثير منه.   1 "45" سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقيل: يحتمل أن يكون علّم آدم الأسماء كلها بلغة من اللغات مبتدأة له لم ينطق بها أحد، وأن تكون الملائكة المخلوقة قبله قد كانت تواضعت على أسماء لتلك الأشياء وتخاطب يتفاهمون به غير الأسماء المبتدأة لآدم، فتكون لها أسماء وقف الله آدم عليها، لا تعرفها الملائكة، وأسماء لها قد عرفتها الملائكة بطريق التواضع. وقيل: يحتمل أن يكون الله تعالى علّمه اسم كل شيء خلقه ذلك الوقت من الملائكة والسموات وما خلقه في الجنة، ولم يعلِّمه أسماء ما يحدثه ويخلقه من بعد، ويكون قوله: {كُلَّهَا} على طريق التأكيد، أو يكون قوله: {كُلَّهَا} في ذلك الوقت. وقيل: إنه لم يخبر كيف علمه بأن وقفه أو أنطقه أو أقدره على النطق وجميع دواعيه على مواضعة الملائكة على دلالة ما ينطبق به، فإذا أقدره على ذلك، وخلق فيه العلم به وجمع همه عليه كان له الأسماء، وإن لم يعلمه ذلك توقيفًا. وهكذا الجواب عن قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1، و {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، معناه سمى بعضه، ودلّ على بعضه. والذي يدل على أن الملائكة [17/ أ] كانوا مخاطبين ومتواضعين على تخاطب أسماء يعرفونها قبل خلق آدم؛ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} 3، الآية، وقوله لما خلقه وأحياه وعلمه: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} 4، فلو لم يكونوا عالمين بالخطاب وبأسماء الأشياء، كيف كانوا يفهمون، ويجيبون، ويقولون؟!   1 "89" سورة النحل. 2 "38" سورة الأنعام. 3 "30" سورة البقرة. 4 "32" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فصل 1: في حروف تتعلق بها أحكام الفقه، ويتنازع في موجباتها المتناظران : [" الواو "] : فمنها "الواو"، وله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون في العطف مثل قوله سبحانه: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} وهي توجب الجمع على قول أصحابنا، ولهذا قالوا فيمن قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، وقع عليها تطليقتان، كما لو قال: أنت طالق طلقتين، وهو قول أصحاب أبي حنيفة. واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من قال: إنها توجب الترتيب. والوجه في أنها لا توجب الترتيب: أنها تستعمل فيما لا يقع فيه الترتيب، وهو قولهم: اشترك فلان وفلان، ولا يجوز أن يقولوا: اشترك فلان ثم فلان. ولأن قائلا لو قال: رأيت زيدًا وعَمْرًا، لم يفهم منه أنه رأى زيدًا قبل عمرو3، ولو كان المفهوم منه الترتيب لوجب إذا رآهما معًا أو رأى عمرًا قبل زيد، أن يكون كاذبًا في خبره، ولوجب إذا قال: رأيت   1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "25"وما بعدها، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "16"، ما بعدها، و"أصول الجصاص" الجزء الأول "33" مخطوطة الأزهر. 2 الآية "6" من سورة المائدة. 3 هذا معنى كلام المبرد الذي ساقه الجصاص في "أصوله" الجزء الأول، الورقة "34"، إلا أن القاضي أبا يعلى أطال في بيانه، وأدخل عليه الصناعة المنطقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 زيدًا وعمرًا معًا، أن يكون مناقضًا في كلامه، كما لو قال: رأيت زيدًا ثم عمرًا، كان مناقضًا. وأيضًا روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلا يقول: ما شاء الله وشئت، فقال: "أمثلان أنتما؟! قل: ما شاء الله ثم شئت"1، فلو كان الواو توجب الترتيب لكان قوله: وشئت، وقوله: ثم شئت- سواء، وقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما، وأمره بأحدهما ونهاه عن الآخر، فعلم أن أحدهما يوجب الجمع والآخر الترتيب. واحتج من قال: إنها للترتيب، بما روي عن عدي بن حاتم2 أنه قال: خطب رجل عند رسول الله   1 هذا حديث روته: قتيلة بنت صيفي الجهنية. ويقال: الأنصارية، مرفوعًا. أخرجه عنها النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالكعبة "6/ 7" ولفظه: أن يهوديًّا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنكم تنددون، وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة" فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقولوا: ما شاء الله ثم شئت. وأخرج أبو داود في كتاب الأدب، باب ما لا يقال: خبثت نفسي "2/ 591" عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان". وأخرجه عنه الإمام أحمد "5/ 384، 394، 398" وإسناده صحيح. 2 هو عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، أبو طريف. أحد المهاجرين، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة سبع، كان سيدًا في قومه، وافر العقل، حاضر الجواب، كما كان كريْمًا فاضلا، شهد مع علي -رضي الله عنه- الجمل وصفين والنهروان، نزل الكوفة، وسكنها، وبها مات سنة: 68هـ، وله مائة وعشرون سنة تقريبًا. له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/ 1057"، و"الإصابة" القسم الرابع، ص: 469" طبعة دار نهضة مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله" 1، وهذا يدل على أن الواو ترتيب؛ لأن قوله: ومن يعصهما جمع من غير شك، ولا يجوز أن يكون المنهي عنه هو المأمور [به] . والجواب: أنه إنما أمره بذلك لئلا يجمع بين ذكر الله تعالى وذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كتابة واحدة؛ لأن ذلك منهي عنه، ولهذا قال تعالى: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} 2، ولم يقل يرضوهما3. واحتج بما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال لعبد بني الحسحاس4، لما أنشده [17/ ب] :   1 هذا الحديث رواه عدي بن حاتم -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة "2/ 594". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب منه، أي: من باب لا يقال.. "2/ 952". وأخرجه عنه النسائي في كتاب النكاح، باب ما يكره من الخطبة "6/ 74". وراجع فيه أيضًا: "نيل الأوطار" "3/ 301". 2 "62" سورة التوبة. وقد نقل الآية هكذا: "أن ترضوه" بالتاء والآية في المصحف كما أثبتناها. 3 في الأصل: "ترضوهما" بالتاء، غير أن الآية بالياء. 4 في الأصل "الجسجاس" بالجيم فيهما، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه. وهو سحيم عبد بني الحسحاس الحبشي، أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم، شاعر مخضرم، أنشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، له ديوان مطبوع. قيل: إنه قتل في خلافة عثمان -رضي الله عنه- على يد بعض مواليه من بني الحسحاس؛ بسبب تغزله في امرأة منهم. له ترجمة في "الإصابة" "3/ 163، 164"، و"الأغاني" "20/ 2- 9"، و"طبقات الشعراء" "ص: 43، 156، 157". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا1 لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، وهذا يدل على أن الواو للترتيب. والجواب: أنه لم يقل هذا لأجل الترتيب، وإنما قال ذلك؛ لأن البداية يجب أن تكون بالأهم فالأهم والأشرف، والإسلام أهم وأشرف وأولى. واحتج: بأن من أنفذ رسولين، وكتب بذكرهما كتابًا وقال: أنفذت إليك فلانًا وفلانًا، اعتقد كل عالم باللغة أن المبتدأ بذكره مقدم على الآخر في القدر والمحل. والجواب: أنا لا نسلم هذا، بل نقول: إن المفهوم من هذا الجمع بينهما في الرسالة. الحال الثانية من أحوال الواو: أن يكون في القسم، فيكون بدلا من الباء؛ لأن الأصل في القسم: أَحْلِفُ، أو أقسمُ بالله، ثم حذفوا فقالوا: بالله لقد كان كذا، ثم جعلوا "الواو" بدلا من "الباء"؛ لأن مخرجهما من الشفتين، فقالوا: والله. الحال الثالثة من أحوالها: أن تكون الواو في ابتداء الكلمة مثل قولهم:   1 هذا البيت مطلع قصيدة قالها الشاعر سحيم عبد بني الحسحاس، ورواية الديوان "ص: 16" للبيت موافقة لما أورده المؤلف، غير أن ابن حجر ذكر البيت في كتابه: "الإصابة" "3/ 163، 164" هكذا: ودع سليمى إن تجهزت غاديا .... والبيت مذكور في: "حاشية الأمير" على المغني "1/ 99". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ومهمهٍ مغبرَّةٍ أرجاؤه1 وهذه الواو بدل من "رب"، فكأنه قال: رب مهمه، ولا يجوز هذا إلا في الشعر، ولا يجوز في غيره. وقد تكون بمعنى "أو"، قال تعالى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} 2.   1 هذا الرجز للشاعر رؤبة بن العجاج، وبعده: كأن لون أرضه سماؤه انظر: "ديوان رؤبة" "ص: 4"، و"التصريح على التوضيح" "2/ 339". 2 "3" سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 [ الفاء ] : وأما "الفاء" فللتعقيب، قال سيبويه1: إذا قال: رأيت زيدًا فعَمْرًا، يجب أن تكون رؤيته لعمرو عقيب رؤيته لزيد، ولأن "الفاء" تدخل في الجزاء والشرط؛ لأن مثل الجزاء أن يكون عقيب الشرط، فلما كان "الفاء" للتعقيب اختص به دون الواو، فقيل: إذا فعل فلان كذا، فافعل كذا، ولا يجوز أن يقال بالواو؛ لأن الواو لا توجب التعقيب2.   1 هو عمرو بن ع ثم ان بن قنبر، أبو بشر، المعروف بسيبويه، إمام المدرسة البصرية في النحو بلا منازع، أخذ عن الخليل وأبي الخطاب الأخفش وغيرهما. أَلَّفَ "الكتاب" في النحو. مات سنة: 180، بالبيضاء وعمره اثنان وثلاثون عامًا. وقيل غير ذلك. له ترجمة في: "بغية الوعاة" "2/ 231"، و"البداية والنهاية" "10/ 176"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء" "ص: 71". 2 ومن معانيها أيضًا: الترتيب معنوي أو ذكري, وأنكره الفراء. واستثنى الجرمي من إفادتها الترتيب البقاع والأمطار، لمجيء الأول في قول امرئ القيس: "بين الدخول فحومل"، ولمجيء قولهم: مطرنا مكان كذا، فكان كذا. ومن معانيها: السببية كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} "15" سورة القصص. انظر: "المغني" لابن هشام بحاشية الأمير "1/ 139- 143"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 75، 76". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 [ ثم ] : 1 وأما "ثم" فهو للفصل مع الترتيب2، فإذا قال: رأيت فلانًا ثم فلانًا، اقتضى أن يكون الثاني متأخرًا عن ال أو ل في الرؤية. ولهذا يحتج أصحابنا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} 3، أن ذلك يقتضي أن يكون العود: العزم على الوطء.   1 راجع: مبحث "ثم" في "أصول الجصاص" "1/ 39" مخطوطة الأزهر، أو "ص: 9" مخطوطة الدار، وهناك اختلاف كبير بين ما هنا، وبين ما هناك، وراجع أيضًا: "المسودة" "ص: 356". 2 قوله: "مع الترتيب" خالف في ذلك قوم. انظر: "المغني" لابن هشام مع حاشية الأمير "1/ 107"، و"جمع الجوامع" وشرحه "1/ 345". 3 "3" سورة المجادلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 [ أو ] : 1 وأما "أو" فله ثلاثة أحوال: إذا كان في الخبر والاستخبار فهو للشك، تقول: أعندك زيد أو عمرو؟ وتقول: عندي زيد أو عمرو، فيكون المخبر والمستخبر شاكين فيه.   1 انظر "أصول الجصاص" الورقة "9" مخطوطة الدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وإذا كان في الأمر والطلب1 يكون للتخيير2 كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3. وإذا كان في النهي4 فقد قيل: يكون للجمع كقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} 5. وقيل: يكون للتخيير؛ لأن النهي أمر بالترك، وأينما تركه كان مطيعًا، وهو الصحيح6. وقد تكون للإباحة، تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين.   1 عطف الطلب على الأمر، من عطف العام على الخاص، وإلا فالأمر نوع من أنواع الطلب. 2 قد قيل في ضبطه: ما يمتنع فيه الجمع. 3 "89" سورة المائدة. 4 وفي هذا يقول ابن هشام: وإذا دخلت "لا" الناهية، امتنع فعل الجميع ... " "المغني" مع "حاشية الأمير" "1/ 60". 5 "24" سورة الإنسان. 6 مراد المؤلف: الاستعمال في اللغة بغض النظر عن وجود مانع شرعي كما في الآية التي مثل بها. وإذا أردت الاستزادة في بيان معاني "أو" فراجع: "المغني" لابن هشام "1/ 59، 60"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 83، 84"، و"الإحكام" للآمدي "1/ 65، 66"، و"جمع الجوامع" مع شرح الجلال عليه "1/ 336- 338"، و"المنخول" "ص: 90، 91". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 [ الباء ] : 1 وأما "الباء" فهي للإلصاق2 [18/ أ] فإذا قلت: مررت بزيد،   1 تكلم عنها الجصاص في "أصوله" بكلام مختصر، وذلك في الورقة "10" مخطوطة دار الكتب المصرية. 2 أي حقيقة كان الالصاق أم مجازًا، مثال الأول: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ومثال الثاني: "مررت بزيد". وهي تأتي للإلصاق خالصة، وتأتي لغيره مشوبة به، ولذلك اقتصر سيبويه عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فإن الباء تلصق المرور بزيد. وإذا قلت: كتبت بالقلم، فإن الباء تلصق الكتابة بالقلم1. ولهذا منع أصحابنا الاحتجاج بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} 2 على جواز مسح بعض الرأس، وقالوا: الباء تفيد الإلصاق دون التبعيض؛ لأن الباء تستعمل فيها فيما لا يصلح فيه التبعيض وهو قولهم: استعنت بالله، وتزوجت بامرأة، ولا يجوز أن يقال: "استعنت ببعض الله"؛ لاستحالة ذلك عليه سبحانه، ولا: مررت ببعض امرأة. ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين" 3، ولا يجوز التبعيض في ذلك.   1 الأظهر فيها هنا: أن تكون للاستعانة؛ لأنها داخلة على آلة الفعل، وهذا لا ينفي وجود معنى الملاصقة. "المغني" لابن هشام "1/ 97". 2 "6" سورة المائدة. 3 حديث صحيح بطرقه وشواهده، رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه الدارقطني في "سننه" في كتاب النكاح "3/ 221، 222" بلفظ: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وأيما امرأة أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل" ثم قال: رفعه عدي بن الفضل، ولم يرفعه غيره. وأخرجه عنه الشافعي في كتاب النكاح، باب لا يصح النكاح إلا بولاية رجل "2/ 317" بلفظ: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل". وأخرجه ابن حبان بسنده إلى عائشة -رضي الله عنها- وذلك في كتاب النكاح، باب ما جاء في الولي والشهود من: "زوائد ابن حبان للهيثمي "ص: 305". وأخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنه- البيهقي في كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي "7/ 112"، كما أخرجه عن علي -رضي الله عنه "7/ 111". وانظر: "نصب الراية" "3/ 183، 190"، و"تلخيص الحبير" "3/ 162"، و"المستدرك" "2/ 169"، و"سنن البيهقي" "7/ 105، 107". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ومن أصحاب الشافعي من قال: إذا كان الفعل يتعدى من غير الباء، فلا يحتاج إليها للإلصاق، فوجب حمله على التبعيض1؛ لأن حمل كل حرف من القرآن على ما يفيد أولى، وقد استوفينا الكلام على هذا في غير هذا الموضع2.   1 وممن قال بأن الباء تأتي للتبعيض الأصمعي والفارسي والقتيبي وابن مالك، كما ذكر ذلك ابن هشام في "المغني" "ص: 1/ 98" مع حاشية الأمير. 2 هناك معانٍ كثيرة للباء، فصَّل القول فيها ابن هشام في "المغني" "1/ 95- 103". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 [ من، وإلى ] : وأما "من" فهي لابتداء الغاية، و"إلى" لانتهاء الغاية، تقول: سرت من الكوفة إلى البصرة، أي: ابتدأت بالسير من الكوفة وانتهيت إلى البصرة1. وقد تستعمل من للتبعيض كقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 2، وكقولك: اختر من هؤلاء الرجال، واقبض من هذه الدراهم، وكل من هذا الطعام، واشرب من هذا الماء. وإذا حلف لا يأكل من هذا الرغيف، ولا يشرب من هذا الماء، حنث بالبعض.   1 "من" تكون لابتداء الغاية في المكان باتفاق، وفي الزمان عند الكوفيين والأخفش والمبرد وابن درستويه، واختاره ابن مالك وأبو حيان، وذلك كقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّس َ عَلَى الْتَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ، راجع: "المغني" لابن هشام "2/ 14"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 77". 2 "6" سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وتستعمل "إلى" بمعنى "مع" كقوله1: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2 معناه: مع المرافق. وهذا المعنى يحتاج إلى الدليل، ولهذا إذا قال: بعتك كذا على أنك بالخيار إلى الليل، أن الليل لا يدخل في الخيار، خلافًا لأبي حنيفة3، وإحدى الروايتين عن أحمد -رحمه الله- أنه يدخل فيه؛ لأن الظاهر من "إلى" لانتهاء الغاية4.   1 كان الأولى أن يمثل المؤلف بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي، مع أموالكم. وفي الآية التي مثل بها المؤلف في كون "إلى" بمعنى "مع" خلاف: 1- فذهب القاضي أبو يعلى وآخرون إلى أنها بمعنى "مع". 2- وذهب آخرون إلى أنها ليست بمعنى "مع". ووجهوا الآية بتوجيهات منها: أ - أن ما بعد "إلى" إنما أدخل من باب الاحتياط. ب- أو أن اليد مشتبكة مع العظم، ولا يمكن غسلها إلا بغسله. ج- أو أن الآية مجملة، بيَّنَها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفعله. د - أو أن "إلى" غاية للسقوط، وذلك أن صدر الكلام متناول للغاية وهو اليد، فإنها اسم لها من أطراف الأصابع، فكانت "إلى" لإسقاط ما وراء المرافق لا لمد الحكم إليها. أفاده التفتازاني في "شرح التنقيح" "1/ 117". 2 "6" سورة المائدة. 3 راجع: "التلويح" على "شرح التوضيح" "1/ 117، 118"، فإنه ذكر ذلك ووجَّهَهُ. 4 هناك معانٍ كثيرة لمن، فصَّل القول فيها ابن هشام في "المغني" "2- 14- 16". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 [ على ] : وأما "على" فإنه للإيجاب، فإذا قال رجل: لفلان عليَّ كذا، حكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 بوجوبه عليه1.   1 هناك معانٍ أُخَرُ لعَلَى، راجعها -إن شئت- في "المغني" لابن هشام "1/ 125- 127". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 [ في ] : وأما "في" فهو للظرف1، فإذا قال: لفلان عليّ ثوب في منديل أو تمر في جراب، لم يدخل الظرف في الإقرار2.   1 ذكر ابن هشام لـ"في"، عشرة معانٍ، وذلك في كتابه "المغني" "1/ 145، 146". 2 وعند الحنفية يدخل الظرف. انظر: "أصول الجصاص" الورقة "10/ أ" مخطوطة دار الكتب المصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 [ اللام ] : و"اللام"1 تكون للتمليك كقولك: دار لزيد2. وتكون للتعليل كقوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ} 3. وتكون للعاقبة والصيرورة كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 4، ومعناه: صار في العاقبة عدوًّا وحزنًا.   1 اللام الجارة، لها اثنان وعشرون معنىً: انظر "المغني" لابن هشام "1/ 175- 183". 2 في الأصل "دار زيد" والصواب: ما أثبتناه. ثم هذا المثال إنما يصلح للتملك، أما مثال التمليك فهو: وهبت المال لزيد. 3 "165" سورة النساء. 4 "8" سورة القصص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وتكون للجهة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ} 1 الآية أحكم2 جهة للمصرف. والنكرة في النفي تقتضي جميع الجنس، وفي الإثبات بعض الجنس، فإذا قال: والله لا آكل طعامًا، كفَّ عن جميع الجنس قليله وكثيره، فأي قدر من الطعام أكل، حنث. وإذا قال: والله لآكلن طعامًا، لم يجب أن [18/ ب] يأكل جميع الجنس. وإذا أكل ما يقع عليه اسم الطعام برَّ في يمينه.   1 "60" سورة التوبة. 2 قراءة هذه الكلمة اجتهادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 [ إنما ] : و"إنما" للحصر1. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" 2 يقتضي أن جميع ما للمرء هو الذي نواه، وأن ما لم ينوه ليس   1 خالف الآمدي وأبو حيان والطوفي في إفادتها للحصر. وما ذكره المؤلف هو رأي الجمهرة من العلماء، ولم يصرح المؤلف هنا بأي جهة تفيد الحصر: أبجهة النظق أم بجهة الفهم؟ ولكن أبا البقاء الفتوحي نقل عنه أنه يقول: إنها تفيد الحصر بطريق الفهم. وهذا هو رأي ابن عقيل والحلواني الحنبليين. وهناك من الحنابلة من قال: إنها تفيد الحصر بطريق النطق، ومنهم: أبو الخطاب وابن المنى والموفق والفخر وأبو البقاء الفتوحي. راجع: "شرح الكوكب المنير" "ص: 250، 251". 2 هذا جزء من حديث رواه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في باب كيف كان بدء الوحي "1/ 4"، وأخرجه عنه في كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاق والطلاق ونحوه "3/ 180، 181"، كما أخرجه عنه في كتاب الإيمان، باب النية في الإيمان "8/ 175". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإمارة، باب قوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 له. وكذلك قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق" 1، يقتضي أن جنس الولاء للمعتق، ومن لم يعتق فليس له ولاء.   = بالنية" وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال "3/ 1515، 1516". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطلاق، باب فيما عني به الطلاق والنيات "1/ 510". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب النية "2/ 1413". وأخرجه الترمذي عنه في كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا "4/ 179" وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء "1/ 51"، وفي كتاب الطلاق، باب الكلام إذا قصد به فيما يحتمل معناه "6/ 129"، وفي كتاب الأيمان والنذور، باب النية في اليمين "7/ 12". وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" "1/ 25، 43". وأخرجه الطيالسي عنه في القسم الرابع من الكتاب، قسم الترغيب في الأعمال الصالحة "2/ 27". وأخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب الطهارة، باب النية "1/ 50، 51", وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية" "1/ 301"، و"تلخيص الحبير" "1/ 55"، و"ذخائر المواريث" "3/ 44". 1 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا. أخرجه عنها البخاري في عدة مواضع هي: 1 في كتاب الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد "1/ 116، 117". 2 في كتاب الشروط، باب الشروط في البيع "3/ 234، 235"، وفي باب مايجوز من شروط المكاتب إذا رضي بالبيع على أن يعتق "3/ 237"، وفي باب الشروط في الولاء "3/ 237" وفي باب المكاتب وما لا يحل من الشروط "3/ 245". 3 في كتاب الأطعمة، باب الأدم "7/ 100". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ................................................................................   4 في كتاب الفرائض، باب الولاء لمن أعتق عن ابن عمر -رضي الله عنهما "8/ 191". 5 في كتاب الفرائض، باب ما يرث النساء من الولاء "8/ 193". 6 في كتاب الفرائض، باب إذا أسلم على يديه الرجل "8/ 193". 7 في كتاب الطلاق، باب لا يكون بيع الأمة طلاقًا "7/ 61". 8 في كتاب الكفارات، باب إذا أعتق في الكفارة لمن يكون ولاؤه "8/ 182". 9 في كتاب النكاح، باب الحرة تحت العبد "7/ 11". 10 في كتاب الزكاة، باب الصدقة على أموال أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم "2/ 150، 151". 11 في كتاب البيوع، باب البيع والشراء مع النساء "3/ 89". 12 في كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل "3/ 91". وأخرجه عنها مسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق "2/ 1141- 1145". وأخرجه الترمذي عنها في كتاب الولاء والهبة، باب ما جاء أن الولاء لمن أعتق "4/ 437". وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا عتقت "1/ 671". وأخرجه عنها أبو داود في كتاب العتق، باب بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة "2/ 346، 347". وأخرجه عنها النسائي في كتاب البيع، باب المكاتب يباع قبل أن يقضي من كتابته شيئًا "7/ 269". وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الطلاق، بابُ تخييرِ الأَمَةِ تكون تحت العبد فتعتق "2/ 90، 91". وأخرجه الدارقطني عنها في كتاب النكاح "3/ 294". وأخرجه الطيالسي عنها في كتاب العتق، باب الشروط في العتق "1/ 244". وأخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب العتق، باب ما جاء في ولاء المعتق ولمن يكون "1/ 140". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية" "4/ 149، 150" و"تلخيص الحبير" "4/ 213"، و"بلوغ المرام" "ص: 181"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 529، 530". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقال بعض أهل خراسان: "إنما" لإثبات ما اتصل به ونفي ما عداه. ومنهم من قال: لتحقيق المتصل به، وتمحيق المنفصل عنه. ويرجع معنى الجميع إلى ما ذكرته من الحصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فصل: في قيام بعض حروف الصفات مقام بعض : قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 1، أي: على جذوع النخل. وقال العبد2: هُمُ صلبوا العبدي3 في جذع نخلة4.   1 "71" سورة طه. 2 الشاعر ليس العبد، كما ذكر المؤلف، وإنهما هو سويد بن أبي كاهل، كما سيأتي بيان ذلك. 3 في الأصل: "العمري"، والتصويب من المراجع الآتي ذكرها في تخريج البيت. 4 هذا صدر بيت، وعجزه هو: فلا عطست شيبان إلا بأجدعا والبيت ذكره ابن جرير الطبري في تفسيره عند الكلام على قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} "16/ 188"، ولم ينسبه لأحد. كما ذكر البيت ابن منظور في كتابه: اللسان، مادة "عبد" "4/ 267" ونسبه إلى سويد بن أبي كاهل. والبيت عنده: وهم صلبوا ... إلخ بزيادة "واو" في أوله. وقد استشهد به ابن هشام على مجيء "في" للاستعلاء "ص: 224" من كتابه المغني، تحقيق الدكتور: مازن المبارك وصاحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 "الباء" مكان "عن" قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} 1، أي اسأل عنه. قال علقمة بن عبدة2: فإنْ تَسْأَلُوني بِالنِّساءِ فإِنَّني ... عليمٌ بأدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ3 "عن" مكان "الباء" قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 4، أي: بالهوى5، والعرب تقول: رميت بالوتر6.   1 "59" سورة الفرقان. 2 هو علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس بن عبيد، شاعر جاهلي، عدَّه ابن سلام من الطبقة الرابعة، ينازع امرأ القيس الشعر. يسمى: علقمة الفحل؛ لتفضيل زوج امرئ القيس له على زوجها، فطلقها امرؤ القيس، فتزوجها علقمة من بعده. انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" "1/ 218- 222"، وطبقات الجمحي "ص: 115- 117". 3 هذا البيت ذكره ابن قتيبة في ترجمة علقمة، مع بيتين آخرين وقال: إنها من جيد شعره، إلا أنه أتى بكلمة: بصير، بدل كلمة: عليم، والبيتان الآخرن هما: إذا شابَ رأْسُ المرءِ أو قلَّ مالُهُ ... فليسَ لهُ في وُدِّهِنَ نَصِيبُ يردنَ ثَراءَ المالِ حَيثُ علِمْنَهُ ... وشَرْخُ الشَّبابِ عِندهُنَّ عجيبُ انظر: الشعر والشعراء "1/ 218- 222"، والبيان والتبيين "3/ 329"، والمفضليات "ص: 329"، وشرح اختيار المفضل "ص: 1582". 4 "3" سورة النجم. 5 وقيل: إن "عن" على أصلها، والمعنى: ما يصدر قوله عن هوى، المغني لابن هشام "1/ 130". 6 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "عن الوتر" حتى يتم الاستدلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 "اللام" مكان "على" قال تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْل} 1 أي: لا تجهروا عليه بالقول. والعرب تقول: سقط فلان لِفِيهِ، أي: على فيه. قال الشاعر: فخرَّ صريعًا لليدين وللفَمِ2 "إلى" مكان "مع" قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم} 3 أي: مع أموالكم. ومثله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} 4. تقول العرب: "الذود إلى الذود إبل" أي: مع الذود. "اللام" مكان "إلى" قال تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 5 أي: إليها. "على" مكان "من" قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} 6، أي: من الناس. ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَحَق   1 "2" سورة الحجرات. 2 هذا عجز بيت جاء في عدة قصائد لعدة شعراء، ولذلك اختلف صدر البيت، فقد نسب لربيعة بن مكدم، وروايته: وهَتَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ إِهَابَهُ ... فهَوى صَرِيعًا لليدَينِ وَلِلْفَمِ ونسب لجابر بن حني التغلبي، وروايته: تناوله بالرُّمْحِ ثمَّ انْثَنَى لَهُ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لليدَينِ ولِلْفَمِ ونسب إلى عكبر بن حديد، وروايته: وضَمَمْتُ إِلَيهِ بالسِّنانِ قَمِيصَهُ ... انظر: الأمالي "2/ 272"، وشرح اختيارات المفضل الضبي "ص: 955". والمغني لابن هشام مع حاشية الأمير "ص: 781". 3 "2" سورة النساء. 4 "52" سورة آل عمران. 5 "5" سورة الزلزلة. 6 "2" سورة المطففين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} 1 أي: استحق منهم. "من" مكان "الباء" قال تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه} 2، أي: بأمر الله. وقال سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ} 3، أي: بكل أمر. "الباء" مكان "من" تقول العرب: شربت بماء كذا، أي: من ماء كذا. قال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه} 4. معناه: يشرب منها. قال عنترة 5: شَرِبَتْ بِمَاءِ الدُّحرضين فَأَصْبَحَت ... زوراءَ تنفر6 عن حياض الديلم7   1 "107" سورة المائدة. 2 "11" سورة الرعد. 3 "4" سورة القدر. 4 "6" سور الإنسان. 5 هو عنترة بن عمرو بن شداد بن عمرو بن قراد العبسي، فارس مشهور. يضرب به المثل في الشجاعة، شاعر جاهلي، أمه حبشية، اسمها: زبيبة. كان كريمًا جوادًا، عشق ابنة عمه عَبْلة، وقصتهما مشهورة، له ديوان مطبوع، مات سنة: 600م، تقريبًا. انظر ترجمته في: الأعلام "5/ 269"، والشعر والشعراء "1/ 250". 6 في الأصل: "تنفي"، والتصويب من مصدري تخريج البيت الآتيين. 7 هذا البيت موجود في ديوان عنترة "ص: 21"، كما هو موجود في شرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري "ص: 324". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 والديلم: الأعداء. وقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} 1 أي من2 علم الله. "من" مكان "في" قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْض} 3، أي: في الأرض. "من" مكان "على" قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْم} 4، أي: على القوم. "عن" مكان "من" قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} 5، أي: من عباده. "من" مكان "عن" [19/ أ] تقول: من لفلان، أي: عنه. "على" مكان "عند" قال تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} 6 أي: عندي. "الباء" مكان "اللام" قال تعالى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} 7، أي: إلا للحق.   1 "14" سورة هود. 2 في الأصل: "في"، وهو خطأ؛ لأن التمثيل لإنابة "الباء" عن "من". 3 "40" سورة فاطر. 4 "77" سورة الأنبياء. 5 "25" سورة الشورى. 6 "14" سورة الشعراء. 7 "39" سورة الدخان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 فصل: في بيان أبواب أصول الفقه : من ذلك الأمر والنهي؛ لأنه وضع للإيجاب والإلزام، وهو أبلغ منازل الخطاب؛ ولأن الأمر قد يقع خاصًّا، وأصل الكلام الخصوص، والعموم داخل عليه، كما أن أصله التخفيف، والتثقيل داخل عليه، وتقديم ما هو أصل الكلام أولى، ثم يليهما العموم، ثم الخصوص، ثم المجمل، ثم المفسر، ثم الناسخ والمنسوخ، ثم الأخبار، ثم بيان الأفعال، ثم الإجماع، ثم القياس والاجتهاد وما يتعلق بذلك من الاستخراج، ثم بيان صفة المفتي والمستفتي، ثم بيان الحظر والإباحة، فكان الواجب تقديم ما هو أهم فيما يقصد بذكر أصول الفقه، وتأخير ما يعود إلى العقول، مثل إثبات حجج العقول وإثبات أحكامها. والأولى في هذا الباب تقديم الكلام في المعاني؛ لأن أصول الفقه إذا كانت أصول الشرع، والأقوال في الشريعة هي أصول الفقه، والمعاني مفهومة بها، إما باستخراج منها أو تنبيه. والأولى تقديم الأصل مثل الأمور العقلية إذا وقع الكلام فيها، كان تقديم الكلام في أصولها أولى. ولا يجوز أن يقال: لما كان الكلام متى وقع في الدليل وجب تقديم المعاني، كذلك في مسألة الأوامر؛ لأن ما يستفاد بالدليل طريقه النظر والاستدلال، فالواجب أن يعلم أولا، ثم يعبر عنها. فكان الكلام في معنى الدليل الذي هو الأصل أولى من العبارة عنه. كذلك الأصل في المعاني الشرعية، لما كان الأقوال كان تقديمها أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 باب الأوامر 1 : مسألة [صيغة الأمر] : للأمر صيغة مبينة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرًا، إذا تعرَّت عن القرائن. وهي قول القائل لمن دونه: افعل كذا وكذا. خلافًا للمعتزلة في قولهم: الأمر لا يكون أمرًا لصيغته، وإنما يكون أمرًا بإرادة الآمر له2. وخلافًا للأشعرية في قولهم: الأمر لا صيغة له3، وإنما هو معنىً قائم   1 راجع في هذا الباب: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الثاني، الورقة "1" وما بعدها، و"التمهيد" الورقة "18/ أ" وما بعدها، و"المسودة" "ص: 4" وما بعدها، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 317- 337" من الملحق. 2 انظر "المغني" للقاضي عبد الجبار "17/ 107" "قسم الشرعيات"، و"المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/ 50". 3 قوله: "خلافًا للأشعرية ... " هذا القول غير محرر، فإن بعض الأشاعرة قالوا: لا صيغة للأمر تخصه، وبعضهم قالوا: إن له صيغة تخصه. ونقل عن الشيخ أبي الحسن الأشعري القول بالنفي، وفسر ذلك بتفسيرين: الأول: المراد به الوقف. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 في النفس لا يفارق الذات، وهذه الأصوات عبارة عنه. وخلافًا لبعض متأخري أصحاب الشافعي في قوله: الفعل يسمى أمرًا في الحقيقة. وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذه الفصول، فقال في رواية حنبل1: "أمر الله -عز وجل- العباد بالطاعة، وكتب عليهم [19/ ب] المعصية؛ لإثبات الحجة عليهم، وكتب الله على آدم أنه يصيب الخطيئة قبل أن يخلقه"، وهذا يدل من قوله على أن الأمر لا يعتبر فيه الإرادة للآمر؛ لأن كتبه المعصية ضد الأمر بالطاعة؛ لأن ما كتبه حتم لا بد من وجوده، فعلم أن ما أمر به من الطاعة لم يكن مريدًا له؛ لأنه كتب ضده. وقال -في رواية يعقوب بن بختان والمروذي وعبد الله: "تكلم ربنا -تبارك وتعالى- بصوت، وهذه الأحاديث كلها جاءت". وذكر حديث   = وتعقب بأن الوقف لا ينتج النفي. وأجيب عن هذا: بأن المراد بالنفي ما يشمل عدم الجزم. الثاني: بأنه قال ذلك؛ لوجود الاشتراك في المعاني التي ورد بها. وخَطَّأَ إمامُ الحرمين والغزاليُ من نقل ذلك عن الشيخ أبي الحسن. وردَّه الآمدي ارجع إلى: "جمع الجوامع" مع شرح الجلال عليه مع "حاشية البناني" "1/ 371، 372"، و"الإحكام" للآمدي "2/ 131". 1 هو حنبل بن إسحاق بن حنبل، أبو علي الشيباني، ابن عم الإمام أحمد وتلميذه. وثَّقَه الدارقطني، روى عن أحمد مسائل جياد. توفي بواسط سنة: 273هـ. له ترجمة في: الإنصاف للمرداوي "12/ 284"، وتاريخ بغداد "8/ 286"، وتذكرة الحفاظ "2/ 600"، وطبقات الحفاظ "ص: 268"، وطبقات الحنابلة "1/ 143- 145"، والمدخل لابن بدران "ص: 207". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 عبد الله "إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء"1، وذكر الحديث. وهذا يدل من قوله على أن الأمر هو الأصوات المسموعة؛ لأنه بَيَّن أن كلام الله تعالى الذي هو الأمر والنهي كان بصوت مسموع. وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم2: "الأمر من النبي سوى الفعل؛ لأن النبي قد يفعل الشيء على جهة القصد، وقد يفعل الشيء هو له خاص، وأمره بالشيء للمسلمين". وهذا يدل من قوله -رضي الله عنه: أن الفعل ليس بأمر؛ لأنه فرق بين فعله وبين قوله الذي هو الأمر، وجعل الأمر مقتضيًا للوجوب، والفعل محتملا للخصوص. والدلالة على أنه يكون أمرًا لصيغته لا لإرادة الآمر: أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده، ولم يرد منه الذبح؛ لأنه لو أراد منه الذبح لم يجز أن يمنعه منه عند المخالف. وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز في آخر "كتاب القدر" قصة إبراهيم، وقال: قد يأمر بما لا يريد أن يكون، أو علم أنه لا يكون، ولا يكون مغلوبًا ولا مقهورًا مع علمه به أنه لا يكون، وإنما يكون مغلوبًا لو لم يعلم أنه لا يكون. فإن قيل: لم يأمره بالذبح، وإنما كان أمره بمقدمات الذبح من الإضجاع وغيره. قيل: هذا خلاف نص القرآن؛ لأن الله تعالى أخبر   1 هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في القرآن "2/ 536، 537" وإسناده قوي. وراجع في هذا الحديث أيضًا: الفتح الكبير "1/ 95". 2 هو إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري، أبو يعقوب. من أصحاب الإمام أحمد الذين خدموه، وتتلمذوا عليه، ونقلوا عنه مسائل كثيرة. وصفه الخلَّال بالدين والورع. ولد سنة: 218هـ، ومات ببغداد سنة: 275هـ. له ترجمة في طبقات الحنابلة "1/ 108، 109". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 عنه بقوله: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} 1، فدل على أنه كان مأمورًا بذبحه؛ ولأن الله تعالى قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم} 2، ولا يصح الفداء بالذبح إلا أن يكون مأمورًا بذبح الابن؛ ولأنه لو كان مأمورًا بمقدمات الذبح، لكان إبراهيم -صلى الله عليه- قد فعل ما أمر به، فلا يكون للفداء معنى؛ ولأنه ليس في المقدمات بلاء مبين، فلما عظَّم الله سبحانه البلوى به، فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِين} 3، وقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} ولا يحتاج في الإضجاع إلى الصبر، دلَّ على أن المأمور به كان الذبح. فإن قيل: نسلم أنه كان مأمورًا بالذبح، وقد فعله إبراهيم -صلى الله عليه- ولكنه كلما قطع منه جزءًا التحم واندمل، فلم يمت بالذبح. قيل: لو كان كذلك لم يصح الفداء بالذبح؛ لأنه إذا فعل المأمور به لم يكن له فداء؛ ولأن هذا لو كان صحيحًا لوجب أن يكون قد فعل، ويكون له ذكر في القرآن؛ لأنه من الإعجاز، مثل إحياء الموتى، ويكون ذكره أهم من ذكر سائر ما ذكر في [120/ أ] القرآن، فدل على أنه لا أصل له. وأيضًا قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 4 فمنها دليلان:   1 "102" سورة الصافات. 2 "107" سورة الصافات. 3 "106" سورة الصافات. 4 "40" سورة النحل. والآية في الأصل: "إنما أمرنا لشيء"، وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 أحدهما: أنه تعالى أخبر أن "كن" بمجردها أمر. والثاني قوله: {إِذَا أَرَدْنَاه} وهذا يقتضي أنه قد يوجد أمر بإرادة وغير إرادة، ولولا ذلك ما كان؛ لقوله: {إِذَا أَرَدْنَاه} معنىً. وعند المعتزلة: ذكره الإرادة لا تأثير له؛ لأنه لا أمر يوجد إلا بإرادة الآمر. فإن قيل: المراد بهذه ما ينشأ خلقه، ويستأنف إحداثه وإيجاده، وليس المراد ما اختلفنا فيه. قيل: هذا عام في الجميع. وأيضًا: قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من حلف، فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك" 1، وهذا يدل على أنه إذا قال: لأقضين دينك غدًا -إن شاء الله- ولم يقضه، أنه لا يحنث في يمينه، وكان مأمورًا بقضاء دينه، فلو كان الله تعالى قد شاء ما أمره به، وجب أن يحنث في يمينه. وأيضًا: فإن استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه أمر، وكل أمر استدعاء، وما ليس باستدعاء من أنواع الكلام فليس بأمر، فدلَّ هذا على أن الأمر إنما كان أمرًا لكونه استدعاء، وهذا كما نقول في الخبر: إنما كان خبرًا؛ لأنه يدخله الصدق والكذب؛ لأنَّا وجدنا كل خبر يدخله الصدق أو الكذب. وكلما يدخله الصدق أو الكذب فهو خبر. وما لا   1 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في الاستثناء في اليمين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا "4/ 108، 109"، ولفظه: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فقد استثنى، فلا حنث عليه". كما أخرجه في الباب نفسه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا، ولفظه: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، لم يحنث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 يدخله الصدق أو الكذب من أنواع الكلام فليس بخبر. كذلك في الأمر يجب إثباته لما ذكرته. واحتج المخالف: بأن لفظة: الأمر، ترد محتملة لوجوه كثيرة: فمنه ما أريد به الوجوب مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} 1. ومنه الإرشاد إلى الأحوط للعباد مثل قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم} 2. ومنه الإباحة: مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْض} 3، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 4. ومنه التقريع والتعجيز، مثل قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} 5. ومنه التهديد، مثل قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} 6. ومنه المسألة مثل قوله عز وجل: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} 7. ومنه الندب، مثل قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} 8، وقوله:   1 "43" سورة البقرة. 2 "282" سورة البقرة. 3 "10" سورة الجمعة. 4 "2" سورة المائدة. 5 "23" سورة البقرة. 6 "40" سورة فصلت. 7 "147" سورة آل عمرن. 8 "33" سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 {وَافْعَلُوا الْخَيْر} 1 وقوله: {وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} 2. ومنه الحثُّ على الإكرام، مثل قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُم} 3. ومنه ما ورد على وجه الامتنان مثل قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} 4 الآية. وصورة الجميع واحدة من طريق اللفظ، وإنما تختلف بالإرادة؛ لأن الله تعالى أراد فعل الصلاة والزكاة، ولم يرد فعل الصيد، والانتشار في الأرض. والجواب: أن الحكم إنما اختلف في هذه المواضع لاختلاف الاستدعاء، فإن أحدهما استدعى الفعل، والآخر أباحه، وبعضه تحذير وتهديد، وليس باستدعاء، وبعضه قام الدليل على أنه ندب [20/ ب] . ومحصول هذا الجواب: أنه إنما عدل عن الصيغة لقرينة، ومسألة الخلاف في الصيغة إذا تجردت عن القرائن. وجواب آخر وهو: أن هذا يبطل بأسماء الحقائق، كالأسد والحمار، حقيقة في البهيمة، وإن كان قد يعدل بها إلى الرجل البليد، والشجاع بقرينة، كذلك ههنا. واحتج بأن الأمر لا يخلو من أن يكون أمرًا؛ لأن الآمر أراد إيجاد اللفظ وإحداثه؛ أو لأنه أراد أن يكون خطابًا لمن دونه، أو لأنه أراد فعل   1 "77" سورة الحج. 2 "93" سورة المائدة. 3 "49" سورة الأعراف. 4 "15" سورة الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 المأمور به منه، ولا يجوز أن يكون القسمين الأولين؛ لأن ذلك موجود فيما ليس بأمر، فدل على صحة القسم الثالث. والجواب: أن ههنا قسمًا آخر وهو كونه استدعاء. ومحصول الجواب: أنه أمر لإيجاد اللفظ، والموضع الذي عدل عنه لقرينة. واحتج: بأن النهي إنما كان نهيًا لكراهة الفعل، فوجب أن يكون الأمر أمرًا لإرادة الفعل؛ لأن النهي ضد الأمر. والجواب: أن حدَّ النهي كراهية أن يكون الفعل المنهي عنه حسنًا، ولا نقول: إنه كان نهيًا لكراهية الفعل، فلم يكن بينهما فرق من هذا الوجه. وقد قيل: إن حدَّ النهي: المنع عما ينهى عنه من طريق القول، لا للكراهة التي ذكرها المخالف. واحتج: بأن أهل اللغة أجمعوا على أنه لا فرق بين قول القائل: افعل كذا، وبين أن يقول: أريد أن تفعل كذا، ولهذا نقول: إنه لا فرق بين أن يقول لعبده: اسقني ماءً، وبين أن يقول: أريد أن تسقيني ماءً، وإذا كان قوله: أريد أن تسقيني ماءً، إخبارًا عن إرادته، كذلك قوله: افعل، وجب أن يكون إخبارًا عن إرادته الفعل. والجواب: أن قوله: أريد أن تسقيني ماء، إخبارٌ عن إرادته، ولهذا يدخله الصدق أو الكذب، وليس كذلك قوله: افعل، فإنه ليس بخبر، وإنما هو استدعاء واقتضاء، ولهذا لا يحسن أن يقول فيه، صدقت أو كذبت. واحتج بأنه لا يخلو إما أن يجعلوا اللفظ أمرًا لصيغته، أو لعدم القرينة، وباطل أن يجعل أمرًا لصيغته؛ لأن الصيغة موجودة مع القرينة، التي هي التهديد والإباحة، وليس بأمر. وباطل أن يجعل أمرًا لعدم القرينة؛ لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 عدم القرينة قرينة، فقد صح أن الأمر إنما يصح أمرًا لقرينة. والجواب: أنَّا نجعله أمرًا لعدم القرينة، وليس عدم القرينة قرينة، كما أن عدم الشيء ليس بشيء، ومثال هذا: أسماء الحقائق: كالحمار والسبع، يستعمل فيما وضعت له حقيقة بمجردها، وهو في البهائم، وقد يستعمل في غيرها بقرينة، وهو في الرجل البليد، والشجاع، ولا يقال: إنها إذا استعملت فيما وضعت له عند عدم القرينة، إنها مستعملة فيه بقرينة، كذلك ههنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الأمر هو الأصوات المسموعة مدخل ... فصل: والدلالة على أن [21/ أ] الأمر هو الأصوات المسموعة: هو أن هذا كلام متعلق باللغة، فوجب أن يرجع فيه إلى أهلها، وقد وجدناهم حدُّوا الأمر بقول القائل: افعل، إذا حصل على صفة، فلم يجز العدول عما قالوه في لغتهم. ولا يجوز أن يقال: إن ما ذكرتموه في حدِّ الأمر لم ينقل عن العرب نقل تواتر؛ لأنه أمرٌ أَجْمَعَ عليه أهل العربية، وهم قوم يقع بخبرهم العلم؛ ولأن ما طريقه اللغة لو اعتبر فيه النقل المتواتر لم يمكن إثبات غريب القرآن ولا شواذ اللغة. قيل: علمنا أن السلف كانوا يستشهدون بالبيت من الشعر على ما يحكونه من اللغة دلالة على بطلان هذا القول. ولأن ما تعم به البلوى من أمر الشريعة لا يعتبر فيه النقل المتواتر، فكيف يصح اعتبار ذلك فيما طريقه اللغة؟! ولأن الإنسان يسمى آمرًا عند وجود القول منه، ومتى انتفى عنه القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 لم يسمِّ بهذا الاسم فدل ذلك على اعتبار الأقوال. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِم} 1 وقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} 2، والعرب تقول: في نفسي كلام أقوله لك3. والجواب: أن هذا مجاز واتساع، والحقيقة ما ذكرنا.   1 "8" سورة المجادلة. 2 "13" سورة الملك. 3 في الأصل: "أقول لك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فصل: [الفعل لا يسمى أمرًا] : والدلالة على أن الفعل لا يسمى أمرًا: أن أهل اللغة قد ذكروا في حدِّه قول القائل: افعل إذا كان على صفة، وهو من الأعلى إلى الأدنى، فلم يجز نقله عمَّا حكموا عليه [في] الوضع، كما لا يجوز في سائر اللغات. ولأنه لو كان حقيقة لم يصح نفيه؛ ولأنه لا يشتق لفاعله أمر، فلو كان حقيقة فيه لصار مثل الأقوال. واحتج المخالف بأنهم يقولون: أمر فلان سديد، ويريدون به أفعاله وأقواله، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} 4، ومنه قوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 5، وقول الشاعر: فقلتُ لها أمْرِي إلى اللهِ كلُّه ... وإنِّي إليهِ في الإيَابِ لرَاغِبُ6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 والجواب: أن هذا كله على طريق المجاز، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1، وكما قال الشاعر: وَقَالَتْ لَهُ العَينَانِ سَمْعًا وطَاعَةً2 والعين لا تقول. يبين صحة هذا، وأنه مجاز أنه يصح نفيه، فنقول: فلان لم يأمر اليوم بأمر مع وقوع الفعل منه، وأسماء الحقائق لا تتنافى. واحتج بأن الأمر مأخوذ من الأمارة، وهي العلامة التي يقتدى بها، والفعل قد يلزم الاقتداء به، فسمي لذلك أمرًا. والجواب: أن هذه الصفة تحصل في الكتاب والإشارة، وإن لم يطلق اسم الأمر عليهما، وليس يمتنع أن يوجد ذلك من العلامة، ويخص بها الأقوال تعريفًا لها وتنبيهًا عليها.   1 "82" سورة يوسف. 2 لم أقف على قائله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 مسألة: [الأمر المطلق يقتضي الوجوب] : إذا ورد لفظ الأمر متعريًا عن القرائن اقتضى وجوب المأمور به. وهذا ظاهر كلام أحمد [21/ ب]-رحمه الله- في مواضع: فقال في رواية1 أبي الحارث2: إذا ثبت الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجب العمل به.   1 هذه الرواية موجودة بنصها في "المسودة" "ص: 13، 15". 2 هو أحمد بن محمد أبو الحارث الصائغ. من أصحاب الإمام أحمد المقربين إليه، كانت لديه مسائل كثيرة نقلها عن الإمام أحمد. له ترجمة في طبقات الحنابلة "1/ 74"، والإنصاف للمرداوي "12/ 280". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وقال أيضًا -رحمه الله- في رواية1 مهنا2 -وقد ذكر له قول مالك3 في الكلب يلغ في الإناء لا بأس به- فقال: "ما أقبح هذا من قولة! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يغسل سؤر الكلب سبع مرات" 4.   1 رواية "مهنا" هذه موجودة بنصها في المسودة "ص: 15". 2 هو مهنا بن يحيى الشامي السلمي، أبو عبد الله، روى عن الإمام أحمد وعبد الرزاق وبقية بن الوليد. وعنه عبد الله بن أحمد وسهل التُّستري وإبراهيم النيسابوري، من كبار أصحاب أحمد الذين لازموه حتى مات. له ترجمة في طبقات الحنابلة "1/ 345"، والإنصاف للمرداوي "12/ 292". 3 هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري، أبو عبد الله المدني، أحد الأئمة الأربعة، إمام دار الهجرة، صاحب الموطأ خرَّج له الجماعة، ولد سنة: 96هـ، وقيل غير ذلك، ومات سنة: 179هـ. له ترجمة في "البداية والنهاية" "10/ 174"، وتذكرة الحفاظ "1/ 207"، وشذرات الذهب "1/ 289"، وطبقات الحفَّاظ للسيوطي "ص: 89"، وطبقات المفسرين للداودي "2/ 293"، والنجوم الزاهرة "2/ 96"، ووفَيَات الأعيان "1/ 439". 4 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم: أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان "1/ 53". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب "1/ 234، 235". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الكلب "1/ 151"، وقال فيه: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الكلب "1/ 17، 18". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وكذلك نقل1 صالح2 عنه فيمن صلَّى خلف الصف وحده: يعيد الصلاة، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا صلَّى خلف الصف أن يعيد الصلاة3. وهذا كثير في كلامه.   = وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب غسل الإناء من ولوغ الكلب "1/ 130". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب سؤر الكلب "1/ 46، 47". وأخرجه عنه البيهقي في السنن الكبرى، في كتاب الطهارة، باب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات "1/ 240". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ولوغ الكلب في الإناء "1/ 63، 64". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في آسار السباع والكلب والهر "1/ 21". وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب تطهير نجاسة دم الحيض وولوغ الكلب "1/ 43". وأخرجه الطحاوي عنه في كتابه: شرح معاني الآثار، في كتاب الطهارة، باب سؤر الكلب "1/ 21". وأخرجه عنه الإمام مالك في باب جامع الوضوء "1/ 72" مطبوع مع شرح الزرقاني، وراجع في هذا الحديث: تيسير الوصول "2/ 295"، ونصب الراية "1/ 132". وتلخيص الحبير "1/ 23"، والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 13". 1 ما نقله صالح عن الإمام أحمد هنا موجود في المسوَّدة بنصه مع اختلاف طفيف "14، 15". 2 هو صالح بن الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أبو الفضل، أكبر أولاد الإمام أحمد، وممن روى عنه مسائل كثيرة، صدوق ثقة، تولى القضاء بطرسوس ثم بأصبهان، ولد سنة: 203هـ، وتوفي بأصبهان سنة: 266هـ. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة "1/ 173- 176"، والإنصاف "12/ 286". 3 هذا الحديث رواه وابصة بن معبد -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الرجل يصلي وحده خلف الصف "1/ 157". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وقال -رضي الله عنه- في كتاب طاعة الرسول1: "قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} 2 والظاهر3 يدل على أنه إذا ابتاع شيئًا يشهد4. فلما تأول قوم من العلماء {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} 5،   = وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده "1/ 445- 451"، وقد تكلم عن أسانيده الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- باستفاضة في شرحه على جامع الترمذي، فمن أراد معرفة ذلك فليرجع إليه. وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده "1/ 321". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب في صلاة الرجل خلف الصف وحده "1/ 237". وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة، باب كراهة الصف بين السواري وحكم من صلَّى خلف الصف وحده "1/ 137". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب صلاة الإمام وهو جنب أو محدث "2/ 236- 263". وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" "4/ 228". وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى "3/ 104، 105". وأخرجه عنه الطحاوي في كتاب "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب من صلَّى خلف الصف وحده "1/ 393، 394". وراجع في هذا الحديث أيضًا: تيسير الوصول "2/ 185، 186"، ونصب الراية "2/ 38"، والمنتقى "ص: 234"، وبلوغ المرام "ص: 49". 1 صرح في المسوَّدة "ص: 14" بمن روى هذا عن الإمام أحمد بأنه: صالح. 2 "282" سورة البقرة. 3 في المسوَّدة "ص: 14": "فالظاهر". 4 في المسوَّدة "ص: 14": "أشهد عليه". 5 "283" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 استقر حكم الآية على ذلك"1. وقد علق القول في رواية2 الميموني3 وقد سأله عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ ما استطعتُم، وما نَهَيتُكُم عنه فانتَهُوا" 4، فقال: الأمر أسهل من النهي. وكذلك نقل5 علي بن سعيد6 فقال: ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو   1 في المسودة "ص: 14" تكملة النص هكذا: "فلما تبايع الناس وتركوا الإشهاد استقر حكم الآية على ذلك". 2 رواية الميموني في المسودة "ص: 14". 3 هو عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي، أبو الحسن، فقيه، من أصحاب الإمام أحمد الذين لازموه فترة طويلة، كان من المقدمين عند الإمام أحمد وممن نقلوا عنه. توفي سنة: 274هـ. له ترجمة في شذرات الذهب "2/ 165، 166"، وطبقات الحنابلة "1/ 212، 216". 4 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: أخرجه عنه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم "9/ 117" بلفظ: قال: "دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم "4/ 1830، 1831" بنحو لفظ البخاري مع فرق في التقديم والتأخير. وأخرجه عنه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج "5/ 83". وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم "1/ 31". 5 هذه الرواية موجودة بنصها في المسوَّدة "ص: 14". 6 هو علي بن سعيد بن جرير النسوي، أبو الحسن، من أصحاب الإمام أحمد، وممن أخذوا عنه. له ترجمة في: طبقات الحنابلة "1/ 224، 225". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 عندي أسهل مما نهى عنه. فقد سهَّل في الأمر وغلَّظ في النهي. ولعله قصد بهذا أن الأمر أسهل من النهي على معنى أن جماعة قالوا: إطلاق الأمر يقتضي الندب، وإطلاق النهي يقتضي الحظر، وإطلاق الأمر لا يقتضي التَّكرار، والنهي يقتضي، وهذا قول جمهور الفقهاء. وقالت المعتزلة: هو محمول على الندب بإطلاق حتى يدل الدليل على الوجوب. وقالت الأشعرية: هو على الوقف على ما يبينه الدليل. وذهب قوم إلى أنه على الإباحة حتى يدل الدليل. فالدلالة على ما قلنا قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 1. فوجه الدلالة: أن الله تعالى لما أَمَرَ الملائكة بالسجود لآدم تبادروا إلى فعله، فعلم أنهم عقلوا من إطلاقه وجوب امتثال المأمور به، ثم لما امتنع إبليس من السجود وبَّخَهُ وعاقبه وأهبطه من الجنة، فلولا أن ذلك واجب عليه لما استحق العقوبة والتوبيخ بتركه. فإن قيل: يجوز أن يكون ذلك الأمر معه قرينة دلت على المراد به، فلهذا عاقبه بالمخالفة. قيل: لم يذكر في الآية إلا أمرًا مطلقًا، وعلَّق التوبيخ والعقوبة بتركه، فمن ادَّعى أن هناك قرينة احتاج إلى دليل، يبين صحة هذا أن قوله:   1 "11، 12" سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك} مثل قوله: ما يمنعك أن لا تسجد إذ قلت لك: اسجد، فإن الذم يتعلق بمجرد مخالفة القول، كذلك ههنا. فإذا قيل: إنما عاقبه؛ لأنه استكبر وكان من الكافرين، قيل: عاقبه على الأمرين جميعًا، على مخالفة الأمر، وعلى الاستكبار والكفر. فإن قيل: لا يجوز [22/ أ] أن يكون الأمر لإبليس بالسجود؛ لأن ذلك أمر للملائكة وإبليس ليس منهم، وإنما هو من الجن؛ لقوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه} 1. قيل: إبليس من الملائكة. وقد ذكر أبو بكر هذا فيما علَّقه عنه أبو إسحاق2. وهو قول ابن عباس فيما ذكره أبو بكر في كتاب التفسير فقال: قال ابن حنبل: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة التي منهم قبيله، وكان خازنًا على الجِنَان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} إنما سمي الجنان: إنه كان خازنًا عليها، كما يقال للرجل عَدَني، ومَكِّي، وكُوفِي، وبَصْرِي.   1 "50" سورة الكهف. 2 هو إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقْلا -بسكون القاف وفتح اللام- أبو إسحاق البزار الفقيه الأصولي الحنبلي. سمع من أبي بكر عبد العزيز غلام الخلَّال وابن الصوَّاف وغيرهما، مات سنة: 369هـ. وله من العمر "54" سنة. له ترجمة في: طبقات الحنابلة "2/ 128- 139"، والمدخل لابن بدران "ص: 306"، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي "ص: 516". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 والذي يدل على أنه منهم استثناؤه من جملتهم، وحقيقة الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى. ولأنه وبَّخَه وعاقبه على ترك السجود، والأمر بالسجود كان للملائكة، فلولا أنه منهم لم يحصل مخالفة بتركه. ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ} 1، فنفي التخيير في الأمر وجعله ضالا مع التخيير، ومن قال: الأمر على الندب أو الإباحة خَيَّرَه. فإن قيل: إنما قال هذا فيما قضاه، وما قضاه واجب، وخلافنا فيما أمر به. قيل: ما قضاه لا صيغة له تدل على أنه واجب ولا ندب وهو دون مرتبة الأمر، ومع هذا فلم يجعل له الخيرة، فأولى أن لا يجعل له ذلك في الأمر، وعلى أن تعلقنا بقوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} فعاد الكلام إلى قوله: {أَمْرًا} . ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} 2، فتوعد على مخالفة الأمر بالفتنة والعذاب، فلولا أن إطلاقه يقتضي الوجوب لم يتوعد عليه. وحكي عن الحسن البصري3، أنه لم يكن من الملائكة، يعني إبليس.   1 "36" سورة الأحزاب. 2 "63" سورة النور. 3 هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي، زاهد، عالم. خرَّج له الجماعة، ولد بالمدينة المنورة لسنتين بقيتا من خلافة عمر -رضي الله عنه. مات بالبصرة سنة: 110هـ. انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ "1/ 71"، وشذرات الذهب "1/ 136"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/ 147"، وميزان الاعتدال "1/ 527"، والنجوم الزاهرة "1/ 267"، ووفَيَات الأعيان "1/ 354". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وهو ظاهر كلام أبي إسحاق من أصحابنا؛ لأنه قال: سمعت الشيخ يقول: إبليس من الملائكة. فقلت: أجمعنا على أن الملائكة لا تتناكح، ولا تكون لها ذرية، وإبليس له ذرية قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} 1 فدلَّ على أنه من غيرهم. وهذا لا يدل على أنه لم يكن منهم حين الخطاب؛ لأنه لا يمتنع أن يكون منهم حين الخطاب؛ لأنه لا يمتنع أن تكون حاله تغيرت بعد المخالفة، كما تغيرت حال الملكين الذين نزلا بأرض بابل لما خالفا، فأكلا الطعام وشربا الشراب وحصلت فيهم شهوة النساء، وإن لم تكن هذه صفة الملائكة، كذلك إبليس. ويدل عليه قوله تعالى: {أَفَعَصَيتَ أَمْرِي} 2، فدلَّ على أن مخالفة الأمر معصية، ولم يقل: أعصيت ما دلَّ على وجوب الأمر؟ بل علَّق المعصية [22/ ب] بمخالفة الأمر، وليس له صيغة غير لفظة: افعل، ألا ترى أن هذه اللفظة هي التي ترك امتثالها إبليس، فَذُمَّ، وهو قوله للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} فعلم أن هذه صيغة الأمر. ويدلُّ عليه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 3، ومعلوم أن السواك مستحب، فدل على أنه لو أمر به لوجب.   1 "50" سورة الكهف. 2 "93" سورة طه. 3 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: أخرجه عنه البخاري في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ويدل عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لبريرة: "لو راجعتيه فإنه أبو ولدك، فقالت: بأمرك يا رسول الله؟ فقال: إنما أنا شافع" 1 فموضع الدليل:   = كتاب التمني باب ما يجوز من اللوم "9/ 105، 106": وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 220". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 11". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الرخصة في السواك بالعشي للصائم "1/ 16". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في السواك "1/ 34، 35". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 105". وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الطهارة، باب ما جاء في السواك "1/ 133". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطهارة، باب في السواك "1/ 139". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 27". وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في السواك والحث عليه "1/ 48". وراجع في هذا الحديث أيضًا: تيسير الوصول "2/ 309"، وتلخيص الحبير "1/ 64"، وفيض القدير شرح الجامع الصغير "5/ 338"، والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 32"، ونصب الراية "1/ 9". 1 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما: أخرجه عنه البخاري في كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زوج بريرة "7/ 62". وأخرجه الترمذي عنه في كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج، "3/ 453". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد "1/ 517". وأخرجه عنه النسائي في كتاب القضاء، باب شفاعة الحاكم للمحكوم قبل فصل الحكم "8/ 215". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأَمَة إذا عتقت "1/ 671". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطلاق، باب في تخيير الأَمَة تكون تحت العبد فتعتق "2/ 91". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب الخيار للأمة إذا عتقت تحت عَبْدٍ "2/ 353، 354" وأخرجه عنه الدارقطني "3/ 294". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 177، 178"، و"نصب الراية" "3/ 206، 207". والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 550". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه شافع، وشفاعته تدل على الندب ومن قال: الأمر على الندب، يقول: هو بمنزلة الشفاعة، فلو كان الأمر والشفاعة سواء ما تبرأ من الأمر. فإن قيل: فلا دلالة فيه؛ لأنه ما تضمن الأمر، وإنما سألها، وشفع إليها. قيل: احتجاجنا من قولها: بأمرك، فقال: "إنما أنا شافع"، فتبرأ عن الأمر إلى الشفاعة. وفي هذا دلالة على من قال بالوقف أيضًا؛ لأن قولها: "بأمرك" معناه: فأمتثله. ويدل عليه أيضًا ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم: أنه مر برجل يصلي فدعاه، فلم يُجِبْهُ، فلما فرغ من الصلاة قال: "ما منعك أن تجيبني؟ " قال: كنت في الصلاة، فقال عليه السلام1: "أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} 2 " وهذا ظاهر، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاتبه على مخالفة أمر الله تعالى المطلق، وهو قوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وإن كان في الإجابة إليه ترك فريضة عليه، هو فيها.   1 هذا الحديث رواه أبو سعيد بن المعلى -رضي الله عنه- مرفوعًا، وهو صاحب القصة: أخرجه عنه البخاري في كتاب التفسير، باب سورة الأنفال "6/ 77". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب فاتحة الكتاب "1/ 336". 2 "24" سورة الأنفال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وأيضا فهو إجماع الصحابة، وذلك أنهم كانوا يرجعون إلى مجرد الأوامر في الفعل والامتناع من غير توقف. مثل احتجاج أبي بكر على عمر -رضي الله عنهما- بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1. ورجوع ابن عمر2 إلى حديث رافع3 في المساقاة 4. وغير ذلك من القصص المشهورة.   1 "43" سورة البقرة. 2 هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل، هاجر إلى المدينة وعمره عشر سنوات، شهد الخندق، كان من أهل الورع والعلم والعبادة، مات بمكة سنة: 73هـ. له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 950"، والإصابة "4/ 107"، وتذكرة الحفاظ "1/ 37"، وتاريخ بغداد "1/ 171"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 175"، وشذرات الذهب "1/ 81"، والنجوم الزاهرة "1/ 192". 3 هو رافع بن خديج بن رافع بن عدي الأنصاري الأوسي الحارثي، أبو عبد الله، صحابي جليل، شهد أُحُدًا وما بعدها، مات سنة: 74هـ، بالمدينة متأثرًا من انتقاض جرح أحدثه به سهم يوم أحد، وله من العمر "86" سنة. له ترجمة في الاستيعاب "2/ 479"، والإصابة "2/ 86". 4 حديث رافع هذا أخرجه البخاري في كتاب المزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يواسي بعضهم بعضًا في الزراعة والثمرة "3/ 134". وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب كراء الأرض "3/ 1181". وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب التشديد في ذلك "1/ 232". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الرهون، باب المزارعة بالثلث والربع "2/ 819". وأخرجه النسائي في أول كتاب المزارعة "7/ 43". وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب التفليس والصلح وأحكام الجوار والمزارعة والإجارة، باب المزارعة "1/ 275". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الشركة والقراض، باب ما جاء في كراء الأرض "2/ 199". وأخرجه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب المزارعة والمساقاة "4/ 105". وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "4: 180". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وما كانوا عليه عند ورود لفظ الأمر، والذي يعلم أنه كان متقررًا فيما بينهم أن إطلاق ذلك يقتضي الوجوب والامتثال. فإن قيل: يحتمل أن يكون رجوعها إلى غير ظاهر الأمر، وإنما رجعوا إلى قرينة اقترن بها دلَّت على الوجوب. قيل: الذي ظهر عنهم الاحتجاج بنفس الألفاظ، فلا يجوز حمله على القرائن، وليس هذا إلا مثل من سمع خبرًا فصدق المخبر، فالظاهر تعلق تصديقه به دون إخبار مخبر قبله. وجواب آخر وهو: أن هذا الاعتبار لو صح لبطل حكم اللغة، ألا ترى أن أسامي الأشخاص والأعيان تفيد مسمياتها بأنفسها، ولا طريق إلى إثبات هذا المعنى إلا بالطريق الذي ذكرناه، فلو أن قائلا قال: إن هذه الأسامي إنما يستدل بها على مسمياتها بدلالة غير الظاهر، وكذلك سائر ألفاظ [23/ أ] اللغة، مثل: أوجبت وفرضت وألزمت، وأسماء الأشخاص والأعيان، لم يمكن أن تنفصل عنه بغير ما ذكرنا في لفظ الأمر. وجواب آخر وهو: أن دلالة الحال ليس بعلة ملازمة للأمر حتى لا تخلو منها، وإنما تقارن بعض الأوامر، فلو كان اللفظ لا يفيده لحصل من جماعة الصحابة سؤال عن مقتضى الأمر في حال من الأحوال في مدة حياته عليه السلام، لامتناع أن لا يكون حصل له أمر في هذه المدة غير مقترن1 بدلالة. وجواب آخر وهو: أنه لو كان المفيد لوجوب الفعل دلالة الحال،   1 في الأصل: "مقترنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 لكان نقلها أولى من لفظ الأمر، ولصار تركها تضييعًا لنقل الشريعة، وغير جائز حمل أمر الصحابة على هذا المعنى. فإن قيل: ما ذكرتموه ليس بلفظ عنهم يقع الاحتجاج به. قيل: استعمالهم لذلك دلالة على إثبات لغة العرب، لأنها الأصل في اللغة، يجري مجرى استعمالها للفظ الأمر كاستعمالها لسائر ألفاظ اللغة. فإن قيل: ما رويتموه عنهم لا يقع به العلم فلم يجز إثبات مثل هذا الحكم الذي هو أصل به. قيل: هذا القائل يجوز إثبات الأسامي الشرعية من جهة الآحاد، فكان إثبات قول يعرب وقحطان أولى بالإثبات. فإن قيل: فالصحابة قد كانت تعتقد الإباحة في بعض الأوامر، ولم يدل هذا على أنه ظاهر اللفظ. قيل: من أثبت غير الوجوب فإنما أثبته بدلالة. فإن قيل: فقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم: دعى المصلي وهو في صلاته، فلو كان قد اعتقد وجوب الأوامر بقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} لم يترك ذلك. قيل: لا يمتنع أن يكون قد اعتقد وجوب ذلك، وقدم عليه قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 1 على إقامتها والمضي فيها، دون تركها والاشتغال بغيرها. وجواب آخر وهو: أن الأمر في الآية متعلق بشرط، فجائز أن يكون السامع لم يعلم بوجوده، فلذلك أَخَّرَ الجواب.   1 "43" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فإن قيل يجوز أن يكون اعتقدوا وجوب أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1. قيل: قد كان تقدمت على هذه الآية أوامر كثيرة، لم يسأل عن مقتضاها، فلو كان اعتقاد الوجوب لأجل هذه الآية لكان السؤال يقع عما تقدم عليها. وأيضًا فإن القائل إذا قال لعبده: افعل كذا وكذا اليوم، فلم يفعل، حسن أن يلومه على ذلك ويعاقبه عليه، فلولا أنه كان قد لزمه واستحق عليه فعله، لما حَسُنَ عقوبته على تركه. فإن قيل: من لم يسلم. قيل: هذا رفع حكم المشاهدات، ورددناه في ذلك إلى العادات؛ لأن أحدًا لا يلوم سيدًا ضرب عبده [23/ ب] على مخالفة أمره. فإن قيل: هناك قرينة اقترنت بالأمر دلَّت على وجوبه. قيل: تصور المسألة فيمن أمر عبده بأمر من وراء حجاب. وهو لا يشاهده، ولا هناك ما ينبئ عنه لفظ الأمر، فلا يجوز أن يُدَّعَى تعلُّقُ الوجوب بعده. وأيضًا: فإن قول القائل: افعل، موضوع في اللغة للتَّفَعُّل واستدعاء الفعل، وليس يحصل ذلك إلا بحمله على الوجوب. فأما من حمله على الوقف فإنه لا يفيد شيئًا. وإذا حمل على الندب جُوِّز تركه، وهذا ترك مقتضى ما وضع له. فإن قيل: لا نسلم هذا.   1 "63" سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 قيل: المرجع في ذلك إلى مقتضى اللغة. وأيضًا: فإن النهي يدل على وجوب الترك، كذلك الأمر يجب أن يدل على وجوب الفعل. وهذا الدليل يختص من قال بالندب. وأما من قال بالوقف فإنه يقف في النهي كما يقف في الأمر. فإن قيل: لفظ النهي يقتضي قبح فعل المنهي عنه، فالقبيح واجب اجتنابه، والأمر يقتضي حسن ما أمر به، وحسنه لا يقتضي وجوب إتيانه، إذ ليس كل حسن يجب إتيانه. قيل: لا فرق بينهما، وذلك أن من النهي ما لا يقتضي قبح المنهي عنه، ولا يجب اجتنابه. مثل قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُم} 1، وقوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ} 2، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القران بين التمرتين3، وعن الزجر في الطرقات4، فهو كالمأمور به، منه ما لا يجب فعله، ولا فرق بينهما في مطلق اللفظ.   1 "22" سورة النور. 2 "282" سورة البقرة. 3 هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري "2489" في الشركة، ومسلم "2045" "151" في الأشربة والترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية القران بين التمرتين "4/ 264". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب النهي عن قران التمر "2/ 1106". وأخرجه أبو داود عنه في كتاب الأطعمة، باب الإقران في التمر عند الأكل "2/ 326". وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الأطعمة، باب آداب الأكل "1/ 331". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الأطعمة، باب النهي عن القران "2/ 29". وأخرجه عنه الخطيب البغدادي في تاريخه "14/ 443"، عن المؤلف "أبي يعلى" عن شيخته أم الفتح، وذكر بقية السند. وراجع في هذا الحديث: تيسير الوصول "2/ 348، 349". 4 لم أجده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فإن قيل: هذا إثبات لغة بقياس. قيل: إنما استدللنا بما قلنا على موضوع الاسم، وهذا المعنى لا يتوصل به إلا بالاستدلال. وأيضًا: فإن لفظ التخيير يستعمل في الأمر المطلق كما يستعمل في المقيد فيقول: افعل إن شئت، وإن شئت فاترك، كما يقول: أوجبت عليك أو فرضت عليك إن شئت، فلو كان إطلاقه لا يفيد الوجوب واللزوم لم يؤثر فيه التخيير. يبين صحة هذا أن قول القائل: واجب، يحتمل وجوب الإرشاد، مثل قوله عليه السلام: "غسل يوم الجمعة واجب" 1، وقوله: "السواك   1 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا: أخرجه عنه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة "2/ 3". ولفظه: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ "2/ 580". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة "1/ 84" بلفظ: "الغسل يوم الجمعة على كل محتلم". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الجمعة، باب إيجاب الغسل يوم الجمعة "3/ 76" بمثل لفظ البخاري. وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة "1/ 246" بمثل لفظ البخاري. وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الغسل يوم الجمعة "1/ 299" بمثل لفظ البخاري. وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الصلاة، باب العمل في غسل يوم الجمعة "1/ 209" بمثل لفظ البخاري وزاد: "كغسل الجنابة". وأخرجه الإمام الشافعي عنه في كتاب الصلاة، باب ما جاء في غسل الجمعة "1/ 155" بمثل لفظ البخاري. وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الغسل للجمعة "1/ 142" بمثل لفظ البخاري، وزاد عليه. وأخرجه عنه الطحاوي في كتاب الطهارة، باب غسل يوم الجمعة "1/ 116" بمثل لفظ البخاري. وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/ 86"، والمنتقى "ص: 66". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 واجب"1. وإن شئت قلت: لو كان قوله: "افعل" يقتضي التخيير، بطل موضوع التخيير، فلما كان لفظة: التخيير، معقولة، وهو قوله: افعل إن شئت، لم يَجُزْ أن تحمل لفظة التجريد على ذلك. وأيضًا: فإن أهل اللغة قسموا الكلام أربعة أقسام: أمر ونهي، وخبر واستخبار. ومن قال بالوقف لا يفرق بين الأمر والنهي؛ لأن كل واحد منهما لا يدل على شيء، فلا يدل الأمر على إيجاد فعل، ولا النهي على ترك فعل. فإن قيل: ما ذكرتموه من اللغة لا تثبت من جهة الآحاد. قيل: علم الضرورة قد وقع باستعمال لفظ: افعل، في الأوامر من العرف، ولأنَّا قد بيَّنَّا أنه إذا جاز إثبات الأسامي [24/ أ] الشرعية من جهة الآحاد فإثبات كلام العرب أولى. وأيضًا: كل لفظ أفاد معنىً في اللغة عند انضمام التأكيد إليه، فإنه يفيد ذلك مع عدمه، مثل قولهم نفسه، فلما أفاد قوله صم: فقد أوجبت عليك وجب أن يفيد إطلاقه ما أفاد التأكيد. واحتج من قال بالوقف:   1 هذا الحديث رواه عبد الله بن عمرو بن حلحلة ورافع بن خديج معًا -رضي الله عنهما. أخرجه عنهما أبو نعيم في كتاب السواك بلفظ: "السواك واجب، وغسل الجمعة واجب على كل مسلم". وهو ضعيف، انظر "فيض القدير شرح الجامع الصغير" "4/ 148"، والفتح الكبير للنبهاني "2/ 173". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 بأن هذه الصيغة ترد مشتركة بين الوجوب، نحو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، وبَيْنَ النَّدب، نحو قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} 2، وبين التهديد: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 3، فلم يكن حملها على الوجوب بأولى من حملها على الندب، فوجب التوقف فيها، كقوله: لون، لما لم يدل على شيء، وقف حتى يدل على المراد. والجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الصيغة التي يختلف فيها لا ترد قط عندنا إلا وهي على الوجوب، وإنما يعدل عنها إلى الندب والتهديد بدليل أو بقرينة. الثاني: أن هذا يبطل بأسماء الحقائق، وهو الأسد والحمار، فإنه حقيقة في البهيمة، ويراد به الرجل بقرينة، ومع هذا لم يمنع إطلاق4 الحقيقة في البهيمة. وكذلك: العَشَرَة، حقيقة في العَشَرَةِ، وتستعمل في الخَمْسَة بقرينة الاستثناء، وهو قوله: عشرة إلا خمسة. الثالث: يبطل بقوله: فرضت وأوجبت وألزمت، فإن هذا يَرِدُ، والمراد به الوجوب، ويَرِدُ والمراد به النَّدب كقوله: "غُسْل الجمعة واجب على كل محتلم" 5، ومع هذا فإن إطلاقه يُحْمَلُ على الوجوب، وكذلك: فرضت، تحتمل الوجوب، وتحتمل التقدير، وإطلاقها يُحْمَلُ على الوجوب. وكذلك ألفاظ الوعيد تحمل على الوجوب، وإن كانت تستعمل في   1 "43" سورة البقرة. 2 "32" سورة النور. 3 "40" سورة فصلت. 4 في الأصل: "إطلاقها". 5 مضى تخريجه في الصفحة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 غيره نحو قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} 1، فتوعدهم على منع الماعون، وهو إعارة قماش البيت كالقر والدّلو ونحو ذلك، وكل هذا مندوب. وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من كان له إبل أو بقر فلم يؤدِّ حقها، بُطِحَ يَومَ القِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِها، كلما نفذت أخراها عادت أولاها" قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: "إعارة دَلْوها وإطْراقُ فَحْلِها ومِنْحَة لبنها يوم وردها" 2 فتوعد على هذا وهو مندوب، ومع هذا إطلاقه يقتضي الوجوب. واحتج: بأن استعمال هذا اللفظ في النَّدب أكثر منه في الوجوب، فلا يجوز أن يكون الأقل حقيقة والأكثر مجازًا. والجواب: أن هذا إن كان صحيحًا فيجب أن يقولوا: إنها حقيقة في   1 "4، 5، 6" سورة الماعون. 2 هذا الحديث رواه جابر -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة "2/ 685". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب من لم يؤدِّ زكاة الإبل والبقر والغنم "1/ 318". وقد أخرج البخاري التوعد هذا مع اختلاف في اللفظ أخرجه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا في كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة "2/ 126"، كما أخرجه عنه مسلم في الموضع السابق ذكره "2/ 685". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في حقوق المال "1/ 385". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما جاء في منع الزكاة "1/ 569". وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في وجوبها وعدم منعها "1/ 172". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الندب وموضوعة له، وهم لا يقولون بذلك. وجواب آخر وهو: أنه قد يكون اللفظ موضوعًا لشيء حقيقة، ثم يستعمل في غيره مجازًا، ويغلب المجاز على الحقيقة "كالغائط": هو اسم للموضع الواسع من الأرض، ومجاز في: العَذِرَةِ، وهو [أكثر استعمالا] 1، وكذلك: الوَطْءُ، حقيقة في الدَّوْسِ بالرِّجل، ومجاز في [24/ ب] الجماع، وهو أكثر استعمالا. واحتج: بأن اللَّفظة الواحدة لا تقتضي شيئين مختلفين، وإذا حملتم الأمر على الوجوب اقتضى وجوب فعله، والعقوبة على تركه. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه باطل بقوله: أوجبت كذا، فإنه يثاب على فعله ويعاقب على تركه. وجواب آخر وهو: أن الكلمة ما دلَّت على أمرين؛ لأن موجبها يدل على أنه يثاب على فعلها، ومخالفة موجبها يدل على العقاب، فلم يكن الثواب والعقاب مستفادًا بمعنىً واحد. واحتج: بأنها لو كانت موضوعة للوجوب حقيقة لكان إذا استعملت في النَّدب أن يكون مجازًا، كالحمار، لما كان حقيقة في البهيمة لم يكن حقيقة في الرجل البليد، فلما قلتم: إنها حقيقة في الوجوب، حقيقة في النَّدب بطل أن يكون على الوجوب. والجواب: أنه إنما لم يكن مجازًا في النَّدب، وكان حقيقة فيه أيضًا؛ لأن المجاز هو: أن يُحْمَلَ اللفظ على غير مقتضاه، كالرجل البليد يسمَّى حمارًا، فأما إذا حُمِلَ على بعض مقتضاه فلا يكون، كحمل العموم على الخصوص   1 بياض في الأصل، يقدر بكلمتينن أثبتناهما، أو بدلهما، مستعينين بالسياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 هو حقيقة في الجمع فيما دخله التخصيص وفيما لم يدخله. ووجدنا أن المندوب بعض موجبات الواجب؛ لأنه مندوب إلى فعله كالواجب فهو كبعض موجبات العموم. واحتج: بأنه لو كان يقتضي الوجوب لما اختلف باختلاف المخاطبين، ولما كانت هذه اللفظة توجد في العبد لسيده، ولا يكون أمرًا، كذلك وجودها من السيد لعبده. والجواب: أن ذلك لم يختلف باختلاف المخاطبين، وإنما اختلف الحكم لقرينة، وهو: أنهم سموا ذلك من السيد لعبده أمرًا، ولم يسموا ذلك من العبد لسيده أمرًا. واحتج: بأنها لو كانت موضوعة للوجوب، لما حسن فيها الاستفهام، فتقول: أمرتني به واجبًا [أو] ندبًا؟ والجواب: لا نسلم أنه يحسن الاستفهام إذا تعرى عن قرينة. وعلى أن هذا باطل بأوجبت وفرضت، فإنه يحسن أن يقول: أوجبته إلزامًا أو إجبارًا؟ وكذلك أسماء الحقائق، إذا قال: رأيت حمارًا أو سبعًا. وكأن المعنى فيه أنه يصح استعماله في غير الواجب بدليل أو قرينة، فأراد المخاطب أن يزيل بالاستفهام كل الاحتمال1. واحتج من قال: إطلاق الأمر يقتضي النَّدب: بأن الأمر يدل على حسن المأمور به، وعلى أنه مراد الآمر، وحسن الشيء لا يدل على وجوبه، كالمباحات فإنها حسنة وهي غير واجبة، وكذلك النوافل مرادة له، ولا يدل ذلك على الوجوب، فصار   1 لو عبر المؤلف بقوله: "كل احتمال" أو "كل الاحتمالات" كان أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الوجوب صفة زائدة على حسن الشيء، وعلى كونه مرادًا، فلا يجوز إثباته بنفس الأمر. والجواب: أن كونه حسنًا ومرادًا يدل على الوجوب، ما لم [25/ أ] يدل دليل التخيير، وفي التخيير والمباحات قد دلَّ الدليل، فلهذا لم يقتضِ الوجوب. وجواب آخر وهو: أنا لا نسلم أن الأمر يدل على حسن المأمور به. وإنما يدل على طلب الفعل واستدعائه من الوجه الذي بَيَّنَّا، وذلك يقتضي الوجوب1، وهذا هو الجواب المعوَّل عليه. واحتج: بأن حَمْلَهُ على النَّدب أولى؛ لأنه أقل ما يقتضيه الأمر. والجواب: أنه يبطل بلفظ العموم، فإنه لا يجب حمله على الخصوص وإن كان أقل ما يقتضيه. وجواب آخر وهو: أن حمله على الوجوب أولى من وجهين: أحدهما: أنه يتضمن الندب. الثاني: أنه أسلم من الغرر والخطر. واحتج بأن حمله على الوجوب يوجب العقوبة بنفس الأمر، ونفس الأمر لم يتضمن العقوبة. والجواب: أنه يبطل بالنهي، فإن النهي يتضمن الكفَّ عن الشيء، وقد أوجبتم العقوبة، وكذلك قوله: أوجبت وفرضت يتضمن الأمر والعقوبة جميعًا. وجواب آخر وهو: أنَّا لم نعاقبه بالأمر؛ لأن موجبه الإيجاب. وإنما عاقبناه بالتَّرك، والترك لم يتناوله الأمر.   1 في الأصل: "الواجب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 واحتج: بأن من يقول: هو على الوجوب، يقول: هو نهي عن ضده، وليس في الأمر نهي عن ضده. والجواب: أنه إذا كان الأمر مضيقًا كان نهيًا عن ضده، ولكن من حيث المعنى لا من حيث النطق، وعلى أن هذا موجود في قوله: فرضت وأوجبت. واحتج: بأن هذه اللفظة تَرِدُ، والمراد بها الوجوب بقرينة، فإذا كانت على الوجوب مع القرينة، فإذا وردت عَرِيَّةً عن القرينة وجب أن لا يكون على الوجوب. والجواب: أنا لم نعلم بأنها على الوجوب بالقرينة، ولكن إذا كان معها قرينة تدل على الوجوب كانت تأكيدًا. على أنه باطل بالنهي، فإنه لو ورد مع قرينة الوعيد، كان على الوجوب، ومع هذا إذا تجرد عنها كان على الوجوب. وباطل بقوله: أوجبت وألزمت وفرضت، فإنها على الوجوب مع القرينة، وإذا تجردت كانت على الوجوب. واحتج: بأنه لو كان على الوجوب، كان حمله على النَّدب نسخًا له، وإذا أفضى إلى أن يكون حمله على الندب نسخًا، بَطَلَ أن يكون مطلقه على الوجوب. والجواب: أن النسخ هو الرفع، وحمله على الندب رفع لبعض ما تناوله اللفظ، وهو الإيجاب والاحتكام، دون الندب والاستحباب، والوجوب قد تضمن المندوب، فرفع الوجوب رفع لبعض ما تناوله، فلا يوجب نسخه. والعموم إذا دخله التخصيص لا يوجب ذلك نسخه؛ لأنه رفع بعض موجباته، كذلك ههنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 مسألة إذا لم يرد به الإيجاب مدخل ... مسألة: 1 في الأمر إذا لم يَرِد به الإيجاب [25/ ب] ، وإنما أريد به الندب: فهو حقيقة في الندب، كما هو حقيقة في الإيجاب، نص عليه أحمد -رحمه الله- في رواية إبراهيم2، فقال: "آمين" أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم، "فإذا أمن القارئ فأمنوا" 3، فهو أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم.   1 راجع هذه المسألة في: كتاب التمهيد، الورقة "23/ أ- 26/ أ"، والمسوَّدة "ص: 15". 2 في المسودة "ص: 15": "ابن إبراهيم"، وقد سبق للمؤلف في مسألة: المندوب مأمور به، "ص: 158" أن ذكره كما في المسوَّدة. 3 هذا جزء من حديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب جهر الإمام بالتكبير بلفظ: "إذا أمَّن الإمام فأمنوا" "1/ 87". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين بمثل لفظ البخاري "1/ 307". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب التأمين وراء الإمام بلفظ: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين" "1/ 214، 215". وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل التأمين "2/ 30". وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب الجهر بآمين "1/ 277". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب فضل التأمين "1/ 228". وأخرجه الإمام أحمد في مسنده "2/ 238". وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الصلاة، باب ما جاء في التأمين خلف الإمام "1/ 179". وراجع أيضًا: فيض القدير: 1/ 303"، ونصب الراية: "1/ 368". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وكذلك نقل الميموني عنه: "إذا زنت الأَمَةُ الرَّابِعَةَ، كان عليه أن يبيعها1، وإلا كان تاركًا للأمر"2. وكذلك نقل حنبل عنه: "يقاد المذبوح قودًا رفيقًا، وتوارى السكين ولا تظهر [إلا] عند الذبح، أمر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم3".   1 حديث الأمر بالبيع في الثالثة أخرجه البخاري عن أبي هريرة في كتاب الحدود، باب إذا زنت الأَمَةُ "8/ 213"، وأخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب رجم اليهود وأهل الذمة في الزنى "3/ 1328". عن أبي هريرة أيضًا. كما أخرجه البخاري ومسلم في الموضعين السابقين عن أبي هريرة وزيد بن خالد، غير أن أحد رواة الحديث وهو: ابن شهاب قال: "لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة" أي الأمر بالبيع، وإن كان مسلم قد أخرجه عن أبي هريرة ولم يذكر شك ابن شهاب. أما الأمر بالبيع في الرابعة فقد أخرجه أبو داود عن أبي هريرة في كتاب الحدود، باب في الأَمَةِ تزني ولم تحصن "2/ 470". كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، "2/ 249، 376، 422، 494". وأخرجه كذلك الطيالسي في كتاب الحدود، باب أمر السيد بإقامة الحد على رقيقه "1/ 300". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحدود، باب حدِّ زنا الرقيق وأن للسيد أن يقيم الحد على رقيقه "2/ 293". 2 في المسودة "ص: 15": "وإلا كان تاركًا لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم". 3 هذا إشارة إلى الحديث الذي رواه شداد بن أوس -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل "3/ 1548" بلفظ: ثنتان حفظتهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحْسَانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قَتَلْتُم فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُم فأحْسِنوا الذَّبْحَ، وليُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه، وليرحْ ذَبِيحَتَهُ". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب النهي أن تُصْبَر البهائم والرفق بالذبيحة "2/ 90". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة "4/ 23". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الضحايا، باب الأمر بإحداد الشفرة "7/ 199". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الذبائح، باب: إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح "2/ 1058". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الأضاحي، باب في حسن الذبحة "2/ 9". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وقال أصحاب أبي حنيفة: الكرخي1 والرازي2: لا يكون أمرًا في الحقيقة وحقيقة الأمر ما أريد به الوجوب3. واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم [من] قال مثل قول أصحاب أبي حنيفة.   1 هو أبو الحسن عبيد الله بن حسين بن دلال الكرخي، شيخ الحنفية في وقته. كان عابدًا زاهدًا، له كتاب المختصر، والجامع الكبير، والجامع الصغير، ولد سنة: 260هـ، ومات سنة: 340هـ. له ترجمة في: تاج التراجم في طبقات الحنفية" "ص: 39"، و"شذرات الذهب" "2/ 358". 2 هو أحمد بن علي الرازي أبو بكر، المعروف بالجصاص، انتهت إليه رئاسة المذهب الحنفي في وقته، عرف بالزهد والورع، عرض عليه القضاء فامتنع منه. له كتاب: "أحكام القرآن"، و"الفصول في أصول الفقه" وغيرهما، وافته منيته سنة: 370هـ، وله من العمر "65" سنة. 3 هكذا صرَّح الرازي في كتابه: الفصول في أصول الفقه، الورقة "92/ ب". حيث قال: "وقال آخرون: حقيقة الأمر ما كان إيجابًا، وما عداه فليس بأمر على الحقيقة، وإن أجري عليه الاسم في حال كان مجازًا، وكذلك كان يقول أبو الحسن -رحمه الله- في ذلك، وهو القول الصحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 دليلنا : أن المندوب طاعة، فوجب أن يكون مأمورًا به كالواجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 يبين صحة هذا: أن الواجب لم يكن مأمورًا به لجنسه ونفسه؛ لأن هذا المعنى موجود في غيره من المباحات، ولم يكن مأمورًا به لكونه مرادًا للمطاع؛ لأنه قد يريد المباح وما يقع من المحظورات، وليس ذلك مأمورًا به، ولم يكن مأمورًا به لحصول الثواب؛ لأن المندوب إليه من فعل النوافل مثاب عليه أيضًا. ولأنه لا يجوز أن يكون ذلك أمرًا لهذه العلة؛ لأنه قد ثبت أنه لو أمر بطاعاته من الواجبات ولم يضمن عليها ثوابًا- وَجَبَ أن يكون طاعة؛ لأن الثواب تفضل منه، وترغيب في طاعته، فلم يبق إلا أنه طاعة، لكونه مأمورًا به. فإن قيل: إنما كان طاعة لكونه مطلوبًا مرغبًا فيه، لا لكونه مأمورًا به، والطلب والسؤال والترغيب مخالف للأمر، وهذا كما تقول: إن قول العبد لربه: اغفر لي وتجاوز عني، سؤال وليس بأمر. قيل: لو كان طاعة لما ذكرته، لوجب أن يكون الله تعالى مطيعًا لعبده إذا فعل ما سأله ورغب إليه. فإن قيل: إنما لم يكن مطيعًا لعبده؛ لأن الطاعة تعتبر فيها الرتبة، كما تعتبر في الأمر، فإذا سأل من1 دونه، يقال: أطاعه، ولا يقال لمن فوقه، كما يقول في الأمر. قيل: فالرتبة ههنا موجودة، وهو استدعاء الفعل من الأعلى إلى الأدنى فيجب أن يكون أمرًا. وأيضًا: فإن الطاعة والمعصية مقرونتان2 بالأمر، قال تعالى:   1 في الأصل: "لمن". 2 في الأصل: "مقرونان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 {أَفَعَصَيتَ أَمْرِي} 1، وقال: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} 2 وقال الشاعر وهو الحباب بن المنذر3 ليزيد بن المهلب4. أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني ... فأصبحت مسلوبَ الإمارةِ نادما 5   1 "93" سورة طه. 2 "50" سورة النحل. 3 الشاعر هو: حصين بن منذر، وليس الحباب بن المنذر، فلعل ذلك تحريف من الناسخ، أو غفلة من المؤلف، كما سيأتي بيانه. 4 هو يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، أبو خالد، أمير وابن أمير وقائد وابن قائد، اشتهر بالكرم، تولى إمرة خراسان في عهد عبد الملك، ولكنه عزله بمشورة الحجاج، ثم تولى لسليمان بن عبد الملك إمرة العراق، ثم خراسان ثم البصرة، فأقام بها حتى عزله عمر بن عبد العزيز وحبسه، وبعد موت عمر خرج من السجن، وغلب على البصرة، فدارت بينه وبين مسلمة حروب انتهت بمقتل يزيد سنة: 102هـ. انظر ترجمته في الأعلام "9/ 246"، وشذرات الذهب "1/ 124"، ووفَيَات الأعيان "5/ 322- 352". 5 هذا البيت للشاعر حصين بن منذر، وليس الحباب بن المنذر، كما ذكر المؤلف، وليتضح المقام نذكر قصة البيت وهي باختصار: أن يزيد بن المهلب كان أميرًا على خراسان، ولكن الحجاج لم يكن راضيًا عنه فكان يكتب إلى الخليفة عبد الملك في ذم يزيد، فرد عليه عبد الملك: سمِّ رجلا يكون بدله، فسمَّى قتيبة بن مسلم، فوافق عبد الملك على توليته. وكره الحجاج أن يكتب ليزيد بخلعه، وبدلا من ذلك كتب إليه: أن خلف أخاك المفضل وأقبل، فاستشار يزيدُ الشاعرَ حصين، فقال له: أقم، واعتل فإن أمير المؤمنين حسن الظن فيك، وإنما أوتيت من الحجاج، فلم يقبل المشورة إيثارًا للطاعة على المعصية، فخرج إلى الحجاج، فعزل الحجاج أخاه وولَّى قتيبة، فقال الشاعر البيت، وبعده: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وقال آخر1: ولو كنتُ ذا أمرٍ مُطاعٍ لما بدا ... تَوَانٍ2 من المأمور في حال أمرك3 ويقولون: فلان مطاع الأمر، ومعصيّ الأمر، وأمر فأطيع، وأمر فعصي، فلما ثبت أن المندوب [26/ أ] طاعة، علم أنه مأمور به. وأيضًا: فإن الطاعات لما انقسمت إلى واجب وندب، وكذلك النهي لما انقسم إلى حظر وتنزيه، كذلك4 الأمر. واحتج المخالف بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لولا أنْ أَشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهُم بالسِّواكِ عندَ كُلِّ صَلاةٍ" والسواك مستحب مندوب إليه، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يأمر به. وقال لبريرة: "لو راجعتيه فإنه أبو ولدك" فقالت: أبأمرك يا رسول الله؟ قال: "لا، إنما أنا شافع" وشفاعته تقتضي طاعته ندبًا واستحبابًا.   = فما أنا بالباكي عليك صبابةً ... وما أنا بالداعي لترجع سالما وفَيَات الأعيان "5/ 322". وقد رأيت الجلال في شرحه على "جمع الجوامع" "1/ 369" ذكر هذا البيت برواية أخرى هي: أمرتُك أمْرًا جازمًا فعصيتني ... وكان من التَّوفيقِ قتلُ ابنِ هاشمِ وابن هاشم هذا كان قد خرج على معاوية -رضي الله عنه- فأمسكه، فأشار عليه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بقتله، ولكن معاوية أطلقه، فخرج عليه مرة أخرى، فقال عمرو هذا البيت. 1 لم أقف على اسمه. 2 في الأصل: "تواني". 3 في الأصل: "أمركا". 4 في الأصل: "وكذلك" بإثبات الواو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 والجواب: أن قوله: "لولا أن أشُقَّ على أمتي" لأمرت أمر إيجاب. وكذلك قوله لبريرة لم آمر أمر إيجاب بدليل ما ذكرنا، يتبين صحة هذا، وأنه أراد به أمر إيجاب؛ أنه امتنع منه لأجل المشقة، والمشقة إنما تلحق فيما يلزم من فعله. وكذلك قول بريرة: أبأمرك، تعني الأمر الواجب حتى فعله، وإن كانت كارهة؛ لأنها كانت مبغضة له. واحتج بأن المسلمين أجمعوا على أن من ترك المستحب لا يجوز أن يقال له: خالف أمر الله تعالى وعصاه، كما لا يجوز أن يقال ذلك لمن فعل المباح. والجواب: أنه لا يقال خالف أمر الله وعصاه على الإطلاق، لئلا يلتبس بالواجب، فأما مع التقييد فإنه يقول: خالف أمر الله تعالى المندوب. يبين1 صحة هذا على أصلنا قول أحمد -رضي الله عنه- فيمن ترك الوتر: "هو رجل سوء". فذمَّه على ترك الوتر مع قوله: "إنه سنة وليس بواجب". واحتج بأن أهل اللغة يفرقون بين أن يقول القائل لمن دونه: افعل كذا، أو لتفعل كذا، وبين أن يقول: أسألك أن تفعل كذا، وأرغب إليك أن تفعل كذا، ويسمون أحدهما أمرًا والآخر سؤالا وطلبًا، فدلَّ على أن المندوب إليه غير مأمور به. والجواب: أن أهل اللغة يفرقون بينهما في باب الإيجاب، فيسمون أحدهما أمر إيجاب والآخر أمر ندب واستحباب، فأما أن يفرقوا 2 بينهما   1 في الأصل "يتبين". 2 في الأصل: "يفرقون" بإثبات النون، وهو خطأ عربية لما هو معلوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 في كونه أمرًا فلا. واحتج بأن أسماء الحقائق لا يجوز نفيها عن مسمياتها، وقد علمنا أن الندب يحسن أن ينتفي عنه اسم الأمر، فتقول: أنا غير مأمور أن أصلي الساعة ركعتين، وإن كان مندوبًا إليها، وأنا غير مأمور بصوم يوم الخميس، وإن كان مندوبًا إليه، ويحسن أن يقول: أسألك وأرغب إليك ولا آمرك به، وإذا ثبت هذا علمنا أن الندب ليس بمأمور به، ألا ترى أن الواجب لما كان حقيقة في الأمر لم يصح نفيه. والجواب: أنا لا نسلم أنه يصح نفيه على الإطلاق، وإنما تنفيه بقيد، وهو أن يقول: أنا غيرُ مأمور بصلاةِ ركعتين، وصيامِ يوم الخميس أمر إيجاب. واحتج: بأنه قد ثبت من أصلنا وأصلكم: أن الأمر يجب حمله على الوجوب، ولو كان الندب أمرًا لم يجز حمله على غير الوجوب، ووجب التوقف فيه كما قال الأشعري1 [26/ ب] . والجواب: أن إطلاقه يقتضي الوجوب، وإنما يُحْمَلُ على الندب بدلالة، وهذا لا يمتنع كونه أمرًا فيه. كما أن إطلاق العموم يقتضي الاستغراق، ويحمل على الخصوص بدلالة، ولا يمتنع كونه عمومًا في الأصل.   1 هو علي بن إسماعيل بن إسحاق، أبو الحسن الأشعري، متكلم، فقيه، أصولي، ولد في البصرة سنة: 260هـ، كان على مذهب المعتزلة، ثم رجع عنه، وشدَّد النكير على معتنقيه، له كتب منها: "الإبانة عن أصول الديانة"، و"مقالات الإسلاميين"، توفي ببغداد سنة: 324هـ. له ترجمة في: الأعلام "5/ 69"، وتاريخ بغداد "11/ 346"، وتذكرة الحفاظ "3/ 821"، وشذرات الذهب "2/ 303"، والنجوم الزاهرة "3/ 259". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فإن قيل: فلو كان أمرًا لاقتضى الفور إلى فعل المندوب كالأمر الواجب، قيل: هكذا نقول: هو على الفور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 مسألة في ورود الأمر بعد الحظر مدخل ... مسألة 1: [في ورودِ الأمرِ بعدَ الحظرِ] : صيغة الأمر إذا وردت بعد الحظر اقتضت الإباحة وإطلاق محظور، ولا يكون أمرًا، نحو قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 2، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْض} 3، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُن} 4، {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} 5، "كنت نهيتكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي ألا فادَّخروها" ونحو ذلك. وقد نص أحمد -رضي الله عنه- في رواية صالح وعبد الله في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 6، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} 7، وقال8 "أكثر من سمعنا: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، كأنهم ذهبوا على أنه ليس بواجب، وليس هما على ظاهرهما"9.   1 راجع هذه المسألة في المسودة "ص: 16- 20"، وروضة الناظر "102، 103". 2 "2" سورة المائدة. 3 "10" سورة الجمعة. 4 "222" سورة البقرة. 5 "53" سورة الأحزاب. وقد استدل المؤلف بهذه الآية: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ، وتعقبه المجد بأنها ليست فيما نحن فيه، ولم يعلِّل. قلت: لأن الأمر بالانتشار لم يأتِ بعد حظره والله أعلم. 6 "2" سورة المائدة. 7 "10" سورة الجمعة. 8 في المسوَّدة "ص: 17": "فقال". 9 تعقب المجدُ في المسودة "ص: 17" المؤلِّفَ في وجه استدلاله من كلام الإمام أحمد فقال: "هذا اللفظ يقتضي: أن ظاهرهما الوجوب، وأنه من المواضيع المعدولة عن الظاهر لدليل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أنه بمنزلة الأمر المبتدأ في أنه يقتضي الوجوب على قول من قال بالوجوب، والندب على قول من قال بالندب1.   1 نقل المؤلف هذا عن أكثر الفقهاء والمتكلمين، تابعه في ذلك المجد في "المسودة" وابن قدامة في "روضة الناظر"، إلا أن الآمدي نقل عن أكثر الفقهاء والمتكلمين القول بالإباحة، كما في "الإحكام" "2/ 165". والقول بالإباحة نص عليه الإمام الشافعي، ونقله ابن برهان في "الوجيز"عن أكثر الفقهاء والمتكلمين، خلاف ما ذكره المؤلف هنا، والقول بالإباحة رجحه ابن الحاجب. وهناك قول ثالث في المسألة هو: التوقف، وإليه ذهب إمام الحرمين، واختاره الغزالي، وتذبذب الآمدي بينه وبين القول بالإباحة، حيث قال: "فيجب التوقف، كيف وأن احتمال الحمل على الإباحة أرجح". وهناك قول رابع هو: إن وَرَدَ الأمر بصيغة: افعل، فهو للإباحة، وإن ورد بغيرها فهو للوجوب. وهناك قول خامس هو: أن الأمر بعد الحظر، يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر إباحةً أو وجوبًا، وهو اختيار المجد ابن تيمية والكمال بن الهمام. راجع في هذا: المسوَّدة "ص: 16- 20"، وروضة الناظر "102، 103"، والمنخول "130، 131" و"الإحكام" للآمدي "2/ 165، 166"، ونهاية السول "2/ 272- 274"، وتيسير التحرير "1/ 345- 347"، واللُّمع في أصول الفقه "ص: 8". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 دليلنا : أن عرف العادة في خطاب الناس ومحاوراتهم إذا أُمِرُوا بعد الحظر كان على الإباحة، كقوله لغلامه: لا تدخل بستان فلان، ولا تحضر دعوته، ولا تغسل ثيابك، ثم قال له بعد ذلك: ادخل، واحضر، واغسل، كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 رفعًا لما1 حظر عليه، ولم يكن أمرًا، كذلك ههنا. وكذلك قول الرجل لضيفه: ادخل، ومن أنكر هذا فقد رَدَّ المشاهدات والذي يبين هذا: أنه لا يحسن ضربه وتونيبه2 عند مخالفة ذلك في عرف الناس وعاداتهم. فإن امتنع من تسليم هذا، كشفنا به إذا نهاه عن فعل شيء فاستأذنه العبد في فعله، فقال له: افعل، إن هذا لا يقتضي الوجوب بلا خلاف. وقد قيل: إن السيد إنما يحظر على عبده ما تميل نفسه إليه، لا ما تنفر نفسه عنه؛ لأن الحكيم لا يوجب على عبده ما [لا تميل] نفسه إليه، فعلمنا أنه إباحة لا إيجاب. فإن قيل: العادة غير هذا، ألا ترى أن يقول لعبده: لا تقتل زيدًا، فيكون حظرًا، فإذا قال: اقتله، بعد هذا كان أمرًا على الوجوب. قيل: إن الأصل حظرُ قتلِ زيدٍ، فقوله: لا تقتل زيدًا، تأكيد للحظر المتقدم، لا لأنه مستفاد به حظر، وفي مسألتنا حظر وقع بالنهي، ثم رفع النهي، فيجب أن يعود إلى ما كان إليه قبله3. وأيضًا: فإن عرف الشرع قد ثبت أن الأمر إذا ورد بعد [27/ أ] الحظر اقتضى الإباحة نحو ما ذكرناه من قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ   1 في الأصل: "فيما". 2 هكذا في الأصل: "تونيبه"، ولعل الصواب: "تأنيبه". 3 كلام المؤلف هذا يشعر بأن هناك فرقا بين أن يكون الآمر هو الناهي، وبين أن يكون الآمر هو غير الناهي، بينا كلامه في أول المسألة يقتضي التسوية بينهما ومحل النزاع هو القسم الأول، وقد أشار إلى ذلك المجد في المسودة ص"19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فَاصْطَادُوا} 1 {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} 2 {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} 3 "كنت نهيتكم عن زيارة القبور"، "وعن ادِّخار لحوم الأضاحي ألا فادَّخروا" و"وزوروا" فيجب أن يحمل ذلك على مقتضى عرف الشرع، وهو الإباحة كما يحمل مطلق الأمر من الأسماء على عرف الشرع، في الصلاة والزكاة والصيام والحج4. فإن قيل: تلك المواضع حملناها على الإباحة بدليل، كما حملنا ما لم يرد بعد الحظر من أوامر القرآن على غير الواجب بدليل. قيل: ليس ههنا دليل دلَّ على إباحة ذلك سوى هذه الألفاظ، ولا يجوز أن يقال: الإجماع هو الدليل؛ لأن الإجماع حادث بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- والإباحة مستفادة بهذه الألفاظ في وقته. فإن قيل: عرف الشرع في هذا مختلف، ففيه ما يقتضي الوجوب، وهو قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 5، فأمر بقتل المشركين بعد الحظر، وكان على الوجوب، وكذلك قوله عز وجل: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه} 6.   1 "2" سورة المائدة. 2 "10" سورة الجمعة. 3 "222" سورة البقرة. 4 من الأمثلة التي ذكرها المؤلف يتضح أن النهي على قسمين: القسم الأول: النهي الْمُغَيَّى بِغَايَة كالإحلال في الآية الأولى، أو قضاء الصلاة كما في الآية الثانية، أو الطهر كما في الآية الثالثة، فهذا ليس بنسخ؛ لأن الدليل المنسوخ لا بد أن يكون مؤبدًا في أوهام المخاطبين، كما في حديث زيارة القبور، وحديث ادِّخار لحوم الأضاحي، وقد أشار إلى ذلك المجد في المسوَّدة "19". 5 "5" سورة التوبة. 6 "196" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 فجعل ذلك غاية للحظر، وأمر به بعد الغاية، فكان واجبًا؛ لأن الحلق في وقت النسك واجب. قيل: لا نسلم أن وجوب قتل المشركين استفيد بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} بل استفدنا [هـ] بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر} 1، وغيرها من الآيات التي لم يتقدمها حظر2. وكذلك الحلاق استفدنا وجوبه من موضع آخر، من قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُم} 3، ومن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله: "خذوا عني مناسِكَكُم". إنه قد قيل: إن المراد بهذه الآية حلق المحصر. وذلك غير واجب عند [نا] . وأيضًا فإن قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} 4، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 5، بمنزلة تعليق الأمر بالغاية، كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 6، ونحو ذلك، وتعليق الأمر بالغاية يفيد زوال الحكم عند انقضائها، كذلك تعليق   1 "29" سورة التوبة. 2 جواب المؤلف هذا تعقبه المجد في المسوَّدة "ص: 19" بقوله: وهذا ضعيف، بل الأمر بعد الحظر يرفع الحظر، ويكون كما كان قبل الحظر، والأمر في هذه الآية كذلك. 3 "29" سورة الحج. 4 "10" سورة الجمعة. 5 "2" سورة المائدة. 6 "187" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 حظر الاصطياد والانتشار في الأرض بفعل [غاية] 1 الإحرام والاشتغال بالصلاة يفيد زوال الحظر عند تقضي غاية الأمر. فإن قيل تعليق الأمر بالحظر أن يقول: امتنعوا من الفعل ما بقي الحظر، فإذا أزلته فافعلوه، هذا 2 صورة الغاية وتعليق الأمر بالحظر. قيل: تعليق الأمر بالحظر، يفيد ما ذكرته، وما ذكرناه أيضًا، كما كان قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 3، بمثابة قوله: فإذا جاء الليل أزلته. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 4، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتُكُمْ بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتُم" ولم يفرِّق. والجواب: أنا لا نسلم أن هذا أمر، وإنما هو صيغة الأمر، فأما أن يكون أمرًا فلا [27/ ب] 5. واحتج: بأن صيغة الأمر قد وجدت متجردة، فوجب أن يحمل على الوجوب، كما لو لم يكن حظر سابق. والجواب: أنا لا نسلم أنها متجردة، بل نقول: تقدَّم الحظر قرينة   1 هذه الكلمة زادها الناسخ في الهامش، وأشار أنها من صنعه. 2 هكذا بالأصل، ولعل الصواب: "هذه". 3 "187" البقرة، والآية في الأصل: "ثم أتموا الصلاة.." وهو خطأ. 4 "63" سورة النور. 5 كلام المؤلف هذا يفيد أن هناك فرقًا بين الأمر إذا جاء بصيغة: افعل، وبَيَّنَهُ إذا جاء بلفظه صراحة، فالأول هو محل النزاع، أما الثاني: فهو للوجوب، وقد صرَّح المجد في المسوَّدة بأن ذلك هو المذهب حيث قال في المسوَّدة "ص: 20": "وعندي: أن هذا التفصيل هو كل المذهب، وكلام القاضي وغيره يدل عليه..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 توجب صرفه عن الوجوب. فإن قيل: الحظر لا يفيد الإباحة بلفظه ولا بمعناه؛ لأن لفظه يقتضي المنع والتحريم، ومعناه لا يوجب ذلك؛ لأنه لا يمتنع أن يكون الشيء محرمًا، ثم يجعل واجبًا، فينسخ التحريم بالإيجاب. قيل: ليس نقول: إن لفظ الحظر أفاد الإباحة، وإنما حصلت الإباحة به وبما بعده من صيغة الأمر، كما إذا استأذنه عبده في فعل شيء، فقال له: افعل، حملناه على الإباحة بالأمرين جميعًا: الإذن والاستئذان. واحتج بأن النهي إذا ورد بعد الأمر اقتضى الحظر، كما لو وَرَدَ ابتداءً كذلك الأمر إذا ورد بعد الحظر، وجب حمله على الوجوب كما لو ورد ابتداءً. والجواب: أن لفظة النهي المطلقة إذا وردت بعد الأمر، يحتمل أن نقول فيها ما نقول في الأمر بعد الحظر، وأنها تقتضي التخيير دون التحريم، لا أنها تحتمل الندب والحظر، وتحتمل أن نفرق بينهما، ونقول في النهي بعد الأمر يقتضي الحظر، وفي الأمر بعد الحظر لا يقتضي؛ لأن النهي آكد، ولهذا قال مخالفونا: إن النهي يقتضي التكرار، والأمر المطلق لا يقتضي. ولأن الأمر أحد الطرق إلى الإباحة، فلهذا جاز أن يرد، ويراد به الإباحة، وليس النهي طريقًا إلى الإباحة، فلم يَجُزْ أن يُرَادَ به الإباحة1. واحتج: بأن الأمر إذا كان مقتضاه الإيجاب، فوروده بعد الحظر لا يؤثر في ذلك، ألا ترى أن وروده بعد الحظر، العقل لا يمنع وجوبه. يبين ذلك: أن فعل الصلاة والصوم من جهة العقل محظور، ثم ورد   1 في الأصل: "إباحة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الأمر بهما، لم يمنع من وجوبهما، كذلك الحظر من جهة السمع لا يمنع أن يكون الأمر الوارد بعده على الوجوب. والجواب: أنا لا نسلم أن العقل يحظر شيئًا وعلى أن من قال العقل يحظر، فنقول: إذا ورد الشرع بإباحة شيء، ثبت أن العقل لم يحظره؛ لأن الشرع لا يَرِدُ بإباحة ما كان قبيحًا في العقل، فورود الشرع بإباحة ذلك منع أن يكون قبيحًا محرمًا، وليس كذلك ههنا، فإن ورود الشرع بإباحة الصيد لم يمنع حصول تحريم سابق، فبان الفرق بينهما. واحتج بأن الأمر فيما عدا الواجب لا يكون أمرًا على الحقيقة، فلما ثبت أن هذا أمر وجب أن يكون على الوجوب. والجواب: أن الأمر فيما عدا الواجب يكون أمرًا على الحقيقة عندنا، وهو الندب، وقد بَيَّنَّا ذلك. واحتج بأن الأمر بالمباح لا يحسن؛ لكونه عبثًا؛ لأن المأمور لا يستحق عليه الثواب إذا فعله، فلا يجوز أن يكون هذا الأمر مقتضيًا للإباحة. والجواب: أن هذا ليس بأمر [28/ أ] عندنا، وإنما صيغته صيغة الأمر، ومن سمَّاه أمرًا فإنما يسميه على طريق المجاز. واحتج: بأن هذا لا يخرج على قولكم؛ لأن عندكم أن أصل الأشياء على الحظر، فيقتضي أن يكون سائر الأوامر مبيحة لا يثبت بشيء منها إيجاب؛ لأنها كلها ترد بعد حظر. والجواب: أن المواضع التي حملناها على الوجوب لدليل دلَّ عليها اقتضت الوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الأمر المعلق على شرط هل يقتضي التكرار مدخل ... فصل: [الأمر المعلق على شرط، هل يقتضي التكرار] ؟: والدلالة على أن الأمر المعلق بالشرط جارٍ مجرى الأمر المطلق هو: أن الوجوب مستفاد من اللفظ دون الشرط، وإنما يؤثر الشرط في منع تقديم المأمور به عليه، واعتبار وجوده في وقوع الفعل عن الواجب. وإذا كان الحكم مستفادًا من اللفظ، والمذكور عقيب الشرط كالمذكور ابتداءً من غير شرط، ثم ثبت أن المعلق بالشرط يقتضي التكرار، كذلك المطلق. وأيضًا: فإن ما لا يقتضي التَّكرار، يستوي فيه المطلق والمعلق بالشرط، بدليل الأوامر فيما بينَّا، ألا ترى أنه إذا وكَّلَ غيره بطلاق امرأته إن خرجت من الدار، لم يجزْ أن يطلقها إلا مرة واحدة، عند أول خروج يوجد منها، ولو أطلق التوكيل فكذلك. وكذلك لو أمر غلامه أن يشتري طعامًا إذا دخل السوق، فاشترى مرة واحدة، لم يجزْ له أن يشتري كلما دخل السوق، وكذلك لو أطلق. وكذلك الندب الموجب بالشرط، والمطلق لا يوجب التكرار، وهو إذا قال: إن شفى الله مريضي تصدقت بدرهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فشفي مريضه، لم يتكرر، ولو أطلق فقال: لله عليَّ صدقة درهم، لم يتكرر، وما اقتضى التكرار لا فرق فيه بين المطلق والمعلق بشرط وهو النهي والاعتقاد، فإنه لا فرق بين أن يقول: لا تكلم زيدًا عند دخولك الدار، وبين أن يقول: لا تكلم زيدًا، في أن جميع ذلك يقتضي التكرار، وكذلك لا فرق بين أن يقول: إذا زالت الشمس فصلِّ، وبين أن يقول: صلِّ في أن الاعتقاد على الدوام، فلما كان الأمر المعلق منه بالشرط يقتضي التكرار، كذلك المطلق. واحتج المخالف بأن قوله: صلِّ ركعتين عند الزوال، لما تكرر الزمان الذي تكرر فيه الأمر كان ما قرن يجب أن يتكرر، ويفارق هذا المطلق. والجواب: أن المطلق يقتضي تكرار الزمان حكمًا، كما يقتضي تكراره لفظًا. واحتج بأن الأوامر المعلقة بشرط أو صفة في كتاب الله تعالى تقتضي التَّكرار كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1، وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 2. والجواب: أن الأوامر المطلقة بهذه المثابة، وهو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3. واحتج بأن الشرط كالعلة، والحكم المعلق بالعلة يتكرر بتكرار العلة، كذلك المعلق بالشرط يتكرر بتكرر الشرط. والجواب: أن الشرط ليس كالعلة؛ لأن العلة توجب الحكم، والشرط [31/ أ] لا يوجبه، ومثل الشرط لا يكون شرطًا، ومثل العلة لا يكون علة،   1 "2" سورة النور. 2 "6" سورة المائدة. 3 "43" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 يبين هذا: أن ما كان شرطًا لطلاق أو نذر لا يكون شرطًا لطلاق آخر ونذر آخر؛ ولأن الشرط لا يجب الحكم لوجوده، وإنما يجب عدمه لعدمه، والعلة يجب وجود1 الحكم لوجودها، ويجب عدمه لعدمها، ألا ترى أن الحياة شرط في العلم، فلا يجب لوجود الجسم حيًّا أن يكون عالِمًا. ويجب عدم العلم لعدم الحياة. والطهارة شرط في صحة الصلاة لوجود الطهارة، ويجب عدمها لعدم الطهارة، وإذا كان وجود الشرط لا يوجب المشروط، وقد وجب التكرار، كذلك عدمه؛ لأن الوجوب يتعلق بالأمر لا بالشرط.   1 في الأصل: "وجوب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فصل: والدلالة على أنه لا يوجب الوقف أن قوله: افعل، تقديره: أوقع فعلا، فوجب أن يحمل على الإمكان على ما نقول نحن، أو على المرة الواحدة كما يقوله غيرنا، فمتى حملناه على الوقف أسقطنا فائدة الأمر. واحتج المخالف بأنه لما جاز أن يراد بهذه اللفظة التكرار، ويراد بها المرة الواحدة، لم يكن لِلَّفظ ظاهر1. والجواب: أن المرة الواحدة معلومة قطعًا، فكان يجب الإتيان بها عليه، ويقف فيما زاد عليه، وعلى أن احتماله لما ليس بظاهر منه لا يضر حال الإطلاق، ألا ترى أن اسم الدابة حقيقة لما يدب على وجه الأرض وإن كان حال إطلاق اللفظة لا يحمل عليه، كذلك ههنا، ويأتي الكلام في هذا الفصل مستوفى في المسألة التي بعدها.   1 راجع في هذه المسألة المسوَّدة "ص: 23"، والتمهيد في أصول الفقه، الورقة "28/ ب- 29/ أ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 إذا تكرر لفظ الأمر فهل يتقضي التكرار ... فصل: [إذا تكرر لفظ الأمر فهل يقتضي التَّكرار] : واختلف القائلون في أن الأمر لا يقتضي التكرار في لفظ الأمر إذا تكرر، هل يقتضي التكرار1؟ فقال أصحاب أبي حنيفة: إن ذكر في الثاني ما يوجب تعريف الأول، مثل أن يقول: صلُّوا ركعتين، ثم يقول: صلُّوا الصلاة، فلا يقتضي ذلك إلا ذلك الأول2، وإن كان الثاني منكرًا كان أمرًا آخر غير الأول3. وقد ذكر أبو حنيفة من أقر لرجل بعشرة، وكرر، أن عليه بكل إقرار مقتضاه. واختلف أصحاب الشافعي.   1 محل النزاع في هذه المسألة هو: ما إذا تعاقب أمران غير متعاطفين بمتماثلين، ولا مانع للتكرار. انظر: تيسير التحرير "1/ 361، 362"، والتقرير والتحبير "1/ 319، 320"، وشرح الجلال على جمع الجوامع "1/ 389، 390". 2 لأن النكرة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأول. وهناك قيدان في المسألة لم يذكرهما المؤلف هما: 1 أن يكون المأمور به قابلا للتكرار، فإن كان غير قابل، نحو: "صم اليوم، صم اليوم" فإن الثاني مؤكد للأول بغير خلاف. 2 إذا دلَّت العادة على التأكيد كقولك: "اسقني ماءً، اسقني ماءً" فإن العادة تقضي أن الحاجة تنقضي بالأمر الأول. راجع: المراجع السابقة، بالإضافة إلى المسودة "ص: 24". 3 الحقيقة: أن الحنفية لهم ثلاثة آراء في المسألة، مثلهم في ذلك مثل الشافعية. راجع في هذا: التقرير والتحبير "1/ 319، 320"، وتيسير التحرير "1/ 361، 362"، وفواتح الرحموت "1/ 391، 392". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فمنهم من قال1: يكون أمرًا ثانيًا2. ومنهم من قال: هو توكيد الأول. ومنهم من قال: هو [على] الوقف3. فمن قال: إنه أمر ثانٍ4، فوجهه: أنه لما تكرر المأمور به، كان الظاهر أنه أمر آخر، ألا ترى أنه لو أراد الأول لذكر ما يقتضي رجوعه إليه، والحكم يتعلق بظاهر الأمر، وليس كذلك إذا عرف من الثاني؛ لأنه لا معهود غير الأول، فوجب أن يرد إليه، مثل أن يكون بين المتخاطبين عهد في رجل، فإذا قال أحدهما: كان الرجل كذا، عرف منه المعهود5. ومن قال: هو توكيد للأول، قال: الأمر الثاني يحتمل أن يراد به إيجاب مستأنف، ويحتمل أن يراد به تأكيد الأول، فلا يجوز تعليق الإيجاب بالشك، ومن قال بالوقف [31/ ب] استدل بهذا، وقال: يحتمل الإيجاب، ويحتمل التأكيد، فوجب الوقف فيه. ولا حاجة بنا إلى الكلام في هذا الفصل؛ لأن عندنا الأمر الأول اقتضى   1 وبهذا قال القاضي عبد الجبار وأبو إسحاق الفيروزآبادي والآمدي، وعزاه ابن عقيل إلى أبي بكر الباقلاني. وقد قال في المسوَّدة: إن هذا القول أشبه بمذهبنا، أي المذهب الحنبلي. راجع: الإحكام للآمدي "2/ 172"، والمسودة "ص: 23". 2 في الأصل: "ثابتًا". 3 وعزاه ابن عقيل إلى أبي الحسن الأشعري كما في المسودة "ص: 23". 4 في الأصل: "ثاني". 5 وقالوا أيضًا: حمله على أمر ثانٍ تأسيس، وهو أولى من التأكيد؛ لأنه الأصل لما فيه من وضع الكلام لفائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 التكرار، والثاني لم يُفِدْ غير ما أفاد الأول1، ولكن ذكرناه؛ لنعرف الاختلاف على مذهب غيرنا2.   1 هكذا اختار هنا، ولكنه في كتاب "الروايتين" و"مقدمة المجرد" اختار أنه أمر ثانٍ، وليس مؤكدًا. انظر: المسودة "ص: 23". 2 تكرر الأمر إما أن يكون بعاطف أولا، أما في حالة عدم العطف، فقد تكلم عنها المؤلف. أما في حالة العطف، فلم يتكلم عنها، ويمكن إيجاز القول فيها في الصور الآتية: 1 إذا كان أحد الأمرين معطوفًا على الآخر، ولكن العقل يمنع التكرار، نحو قولك: "اقتل زيدًا، واقتل زيدًا"؛ لأن قتل من قتل مستحيل. 2 إذا كان أحدهما معطوفًا على الآخر، ولكن الشرع يمنع التكرار، نحو قولك: "اعتق عبدك، واعتق عبدك". 3 إذا كان العطف متراخيًا، فإن الأمر الثاني غير الأول باتفاق. 4 إذا كان المأمور به مختلفًا، فإن الأمر الثاني غير الأول باتفاق، نحو قولك: "صلِّ ركعتين، وصم يومين". 5 أن يتماثل المأمور به، ولكن غير قابل للتكرار، كقولك: "صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة"، فالأمر الثاني للتأكيد اتفاقًا. 6 إذا كان المأمور به، قابلا للتكرار، والعادة لا تمنع منه، وليس الثاني معرفًا نحو قولك: "صلِّ ركعتين، وصلِّ ركعتين"، فقد اختلف فيها: فقال الآمدي: حكمها حكم ما لم يكن حرف عطف. أما الحنفية: فالوجه عندهم: أنه أمر ثانٍ. وقيل: الثاني عين الأول: هذا إذا لم يوجد مرجح للتأكيد، فإن وجد عمل به، وعند تعادل المرجحات يعمل بمرجح من خارج، وإلا فالوقف. وقيل: إنه أمر ثانٍ، لما فيه من الاحتياط. ورد بأن الاحتياط قد يكون في التأكيد. 7 إذا كان المأمور به قابلا للتكرار، ولكن العادة تمنع منه، كقولك: "اسقني ماء، اسقني ماء"، فذهب الآمدي: أن حكمه كما لو لم يكن حرف عطف -أي مقتضى الثاني غير مقتضى الأول- وذلك أن منع العادة للتكرار عارضه ظاهر حروف العطف الذي هو التكرار. أما في المسودة فقد حكم أنه يفيد التكرار في مثل هذه الحالة. العادة للتكرار عارضه ظاهر حروف العطف الذي هو التكرار. أما في المسودة فقد حكم أنه يفيد التكرار في مثل هذه الحالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 مسألة الأمر المطلق يقتضي التكرار مدخل ... مسألة 1: [الأمر المطلق يقتضي التكرار] : الأمر المطلق يقتضي التكرار على الإمكان، سواء كان مقيدًا بوقت يتكرر مثل قوله: إذا زالت الشمس فصلِّ، أو كان غير مقيد، مثل قوله: صلِّ2. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية عبد الله3: "قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم} 4، فإن ظاهرها يدل على أنه إذا قام فعليه ما وصف، فلما كان يوم الفتح صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بوضوء واحد 5". فقد نصَّ -رضي الله عنه- على أن الظاهر دلَّ على أن كل قائم عليه   1 راجع في هذه المسألة: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "260-266"، و"التمهيد في أصول الفقه"، الورقة "26- 28"، و"المسوَّدة" "ص: 20-24"، و"روضة الناظر" "ص: 103-105" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 328، 329" من الملحق. 2 هذا القول رواية عن الإمام أحمد وعليها أكثر أصحابه، وهو اختيار القاضي هنا، ولكن أبا البقاء الفتوحي حكى عنه -أي عن القاضي- الاختلاف في الاختيار، بينا جزم ابن قدامة بنسبة هذا القول إليه. وهناك رواية أخرى، وهي: لا يقتضي التكرار إلا بقرينة، وعزا ابن مفلح هذا القول إلى أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو اختيار أبي الخطاب كما في كتابه التمهيد، الورقة "26/ أ" وإليه مال ابن قدامة في "روضة الناظر"، راجع: المسودة وروضة الناظر في المواضع السابقة. 3 في المسودة "ص: 21" من رواية صالح. 4 "6" سورة المائدة. 5 هذا الحديث رواه بريدة -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد "1/ 232". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في أنه يصلي الصلوات بوضوء واحد "1/ 89"، وقال فيه: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الرجل يصلي الصلوات بوضوء واحد "1/ 39" وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الوضوء لكل صلاة "1/ 73". وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب الطهارة، باب الوضوء لكل صلاة "1/ 54". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الوضوء حتى خصَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعله. خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في قولهم: لا يقتضي التَّكرار1. وخلافًا لبعض الشافعية في قولهم: إن كان معلقًا بشرط اقتضى التَّكرار، فأما المطلق فلا يقتضي التَّكرار2. وخلافًا للأشعرية في قولهم: هو على الوقف3.   1 كون الأمر لا يقتضي التَّكرار رواية عن الإمام أحمد، وقد اختارها أبو الخطاب وابن قدامة المقدسي. وينبغي أن يعلم أن أصحاب هذا القول اختلفوا بعد ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: أنه للمرة الواحدة ومحتمل للتكرار. الثاني: أنه للمرة وغير محتمل للتكرار. الثالث: أنه لطلب ماهية الفعل، لا بقيد مرة ولا بقيد تكرار. راجع: الإحكام للآمدي "2/ 143"، و"روضة الناظر" "103- 105"، و"المنخول" "ص: 108". 2 وقد اختار هذا القول المجد ابن تيمية، حيث قال بعد حكاية هذا القول: "وهو أصح عندي" انظر: "المسودة" "ص: 20". 3 وإلى هذا القول مال إمام الحرمين، كما نقله الآمدي في "الإحكام" "2/ 143"، وقد اختلف في معنى الوقف هنا: فقيل: لا يعلم أوضع الأمر هنا للمرة، أو للتكرار، أو لمطلق الفعل. وقيل: لا يعلم مراد المتكلم؛ لاشتراك الأمر بين هذه الثلاثة. انظر: "إرشاد الفحول" "ص: 98". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 دليلنا : أن الصحابة عقلت من ظاهر قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 أنه يقتضي التكرار، ألا ترى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جمع عام الفتح بطهارة واحدة بين صلوات، قال له عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: أعمدًا فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: "نعم"، فعقلت من إطلاق الآية التكرار، فلما خالف النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وجمع بطهارة واحدة سألته عن ذلك واستكشفت عن حاله. وأيضًا: فإن الأمر كالنهي في باب أن النهي أفاد وجوب ترك الشيء، والأمر أفاد وجوب فعله، ثم كان النهي أفاد وجوب الترك على الاتصال أبدًا، وجب أن يكون الأمر يفيد وجوب الإيجاب على الاتصال أبدًا. وامتنع أبو بكر الباقلاني من تسليم هذا، وقال: يقتضي الكفَّ عن مرة واحدة قدر ما إذا وقع منه من الكف. قيل: قد [ر] النهي كالأمر سواء، وهذا قول مخالف الإجماع؛ لأن الفقهاء أجمعوا على أن النهي يقتضي التكرار2، وفرقوا بين الأمر والنهي بفروق، ونحن نذكرها، وما خالف الإجماع لا يلتفت إليه.   1 "6" سورة المائدة. 2 القول بأن النهي يقتضي التكرار مجمع عليه، حكاه ابن برهان أيضًا، كما حكى الآمدي أنه اتفاق العقلاء إلا من شذَّ. والواقع أن حكاية الإجماع غير صحيحة، فقد خالف أبو بكر الباقلاني كما ذكر المؤلف، وقال صاحب المحصول: إن القول بعدم التكرار هو المختار، وقال صاحب الحاصل: إنه الحق. وقد بَيَّنَ الشيخ بخيت أن الخلاف لفظي، وأن النهي يكون للدوام، مدة العمر في المطلق، ومدة القيد في المقيد. راجع: الإحكام للآمدي: "2/ 180"، ونهاية السول شرح منهاج الأصول مع حاشية الشيخ بخيت "2/ 294- 296". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فإن قيل: كلامنا في موجب اللغة، وهذا إثبات لموجب اللغة بالقياس، واللغة لا تقاس. قيل: يجوز إثبات اللغة بالقياس. وقد ذكر هذا في باب القياس، وأنه يجوز إثبات الأسماء قياسًا. فإن قيل: البر في القسم يقتضي1 التَّكرار، وهو قوله: والله لا دخلت هذه الدار. فأمسك عن [28/ ب] الدخول ساعة، ثم دخل، حنث. ومن الفعل يقتضي فعل مرة، فإنه إذا قال: والله لأدخلن هذه الدار. فدخلها مرة بَرَّ. قيل: البر والحنث من أحكام الشرع، والخلاف في موجب الأمر وموضعه في اللغة، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر. فإن قيل: الشرع ورد باعتبار موجب اللفظ في اللغة فيما يتعلق به من البر والحنث، فإذا جعلناه بارًّا في الشرع؛ فلأنه فعل ما أوجبه اللفظ من طريق اللغة، وإذا جعلناه حانثًا في الشرع، فلأنه خالف ما أوجبه لفظه في اللغة. قيل: لم يرد باعتبار موجب اللغة بدليل أن الله تعالى لو حرم أكل الرءوس، حمل ذلك على مقتضى اللغة، فيحرم عليه كل ما يسمى رأسًا، ولو قال: والله لا أكلت الرءوس، تناول رءوس الأنعام عندهم. فإن قيل الترك في الخبر يقتضي التكرار، وهو قولهم: "فلان ما صلى"، وفي الفعل يقتضي مرة، وهو قولهم: "فلان صلى" يقتضي صلاة واحدة.   1 في الأصل: "بمقتضى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قيل: الخبر في الفعل إنما اقتضى فعل مرة واحدة؛ لأنه إخبار عن إيقاع فعل في زمان قد شاهده فيه، وهذا لا صيغة له تقتضي العموم، نظيره أن ترد لفظة الأمر قضية في عين، فلا تقتضي الصيغة العموم. فإن قيل: لو قال: افعل مرة، لم يقتضِ التكرار. قيل: لا نسلم هذا، بل نقول: يقتضي الكفَّ مرة، فإذا فعل مرة سقط النهي؛ لأن المنهي عنه قد يكون قبيحًا في وقت، حسنًا في وقت آخر، كالأمر يكون حسنًا في وقت، قبيحًا في وقت آخر. يبين صحة هذا: أنه لو قال لعبده: لا تدخل الدار، ولا تكلم زيدًا إذا قام عمرو، اقتضى ذلك الكف عند وجود الشرط، كالامر المعلق بشرط يقتضي وجوده عند وجود الشرط، ولو أطلق النهي اقتضى الكفّ على الدوام كالأمر. فإن قيل: النهي يقتضي قبح المنهي عنه، فأي وقت فعله كان فاعلا للقبيح، وفعل القبيح يستوجب عليه الذَّم، والأمر يقتضي حسن المأمور به وإيجاده، فإذا وجد كان مؤتمرًا، وإن حصل تاركًا لما عداه. قيل: قولك: "إن النهي يقتضي قبح المنهي عنه" غير مسلم؛ لأن المنهي عنه قد يكون ندبًا وفضلا، وقد بَيَّنَّا ذلك فيما تقدم، وقد يكون محرمًا كالأمر يكون ندبًا، ويكون موجبًا. وقوله: "إن الأمر يقتضي حسن المأمور به، فلم يجب تكراره"، غلط؛ لأن الحسن لا يجب فعله متكررًا أو مرة واحدة من حدث كان حسنًا؛ لأن من الحسن ما يجب الدوام على فعله، كالصلاة، ومنه ما لا يجب كالحج. فإن قيل: حمل الأمر على الدوام فيه مشقة وتكليف لما لا يطاق، وانقطاع عن المصالح، وترك العبادات والنسل، وليس في حمل النهي على التَّكرار مشقة، وتكليف لما لا يطاق وانقطاع عن المصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 قيل: هذا غلط؛ لأننا نقول بمقتضى التكرار على الإمكان [29/ أ] والوسع، على وجه لا يفضي إلى الانقطاع عن الفروض والمصالح. وعندهم يجب فعل مرة واحدة، وإن كان في الطوق والوُسْعِ أكثر منها. ثم يبطل به إذا قال: صلِّ على الدوام، لزمه التكرار وإن أفضى إلى ما ذكرت. وأيضًا: فإن الأمر يتضمن ثلاثة أشياء: وجوب الفعل، ووجوب الاعتقاد لوجوبه، ووجوب العزم على فعله. وقد ثبت أن الاعتقاد والعزم يجب تكررهما كذلك الفعل. وحكى الجرجاني1 عن بعض شيوخه: أنه لا يلزم تكرار الاعتقاد وإنما عليه اعتقاد حكمه والبقاء على ذلك من غير أن يحدث ما ينافيه، وبناه على الفعل، وأنه لا يلزمه تكراره، وشبهه بالإيمان، وأن من اعتقده استحق المداومة عليه، وأن لا يحدث ما ينافيه، وإن لم يكرره. وهذا القائل إن لم يسلِّم الاعتقاد، فقد سلم وجوب دوام البقاء على الاعتقاد، وهذا لا خلاف فيه؛ لأنه لو أبيح له ترك اعتقاد وجوب ما كلف وجوبه، لكان قد أبيح له ترك العلم بصدق الله تعالى في أخباره، وإذا ثبت وجوب المدوامة على الاعتقاد وجب المداومة على الفعل؛ لتضمن الأمر لكل واحد منهما2.   1 هو محمد بن يحيى بن مهدي، أبو عبد الله الجرجاني، حنفي المذهب، جرجاني الأصل، بغدادي السكنى، كان يدرس بمسجد: قطيعة الربيع، ببغداد. له كتابان: "ترجيح مذهب أبي حنيفة"، و"القول المنصور في زيارة القبور". مات سنة: 397هـ. له ترجمة في: الأعلام "8/ 5"، وتاريخ بغداد "3/ 433"، والجواهر المضية في طبقات الحنفية "2/ 143"، وطبقات الفقهاء لطاش كبرى زاده "ص: 72"، والفوائد البهية في تراجم الحنفية "ص: 202". 2 في الأصل: "منها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فإن قيل: هذا يبطل بالأمر المقيد بفعل مرة واحدة؛ لأنه إذا قال: حجوا في العمر مرة واحدة، وجب العزم والاعتقاد على التكرار، ووجوب الفعل مرة. قيل: إنما كان الاعتقاد في الأمر المقيد بفعل مرة على التكرار؛ لأن الأمر بالاعتقاد فيه على الإطلاق، فاقتضى التكرار، لإطلاق الأمر فيه، وهو في الفعل مقيد بمرة فلم يقتضِ التَّكرار، فنظيره أن يقول: اعتقد وجوبه مرة، فلا يقتضي التكرار. فإن قيل: المأمور1 إذا كان عالِمًا بما أمر به ذاكرًا له، لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد والعزم، ولا يخلو من أن يعتقد وجوبه أو غير وجوبه، أو يعزم على فعله أو تركه، ولا يجوز اعتقاد غير الوجوب؛ لأن اللفظ يقتضي وجوب الفعل، فإن كان كذلك، وجب اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل ما دام الفعل واجبًا عليه، وليس كذلك الفعل، فإن تركه جائز إلى أن يفعله، فدلَّ على الفرق بينهما. قيل: قولك: "إنه لا يجوز اعتقاد غير الوجوب؛ لأن اللفظ يقتضي الوجوب" لا يصح؛ لأنه كان يجب أن يعتقده مرة، ثم يقطع الاعتقاد، ولا يكون قطع الاعتقاد في الثاني مانعًا من الأول؛ لأن الأول قد صح ومضى، فاعتقاد غيره لا يمنعه طريان النسخ في الثاني، [كما] لا يمنع صحة ما تقدم. وقولك: "إن ترك الفعل لا يمنع صحة ما تقدم"، فهذا لا يمنع التكرار كالنهي، فإن مخالفته في الثاني لا تمنع صحة ما يدوم من الترك، ومع هذا تكرر. وأيضًا فإن الواحد من أهل اللغة إذا قال لعبده: احفظ هذا الفرس،   1 في الأصل: "المأمور به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 [29/ ب] فحفظه ساعة ثم تلاه، استحسن ذمه وتوبيخه، وكذلك المودع فدلَّ على أن الأمر يقتضي التكرار. وأيضًا: فإنه لما لم يتعين بزمان، وجب حمله على العموم في الأزمان في وجوب الفعل، كما أن لفظ العموم يشمل1 جميع الأعيان؛ لأنه لم يخص ببعضها، كذلك الأزمان. واحتج المخالف: بأن الطاعة والمخالفة في الأمر والنهي بمنزلة البر والحنث في القسم؛ لأن كل واحد منهما يعتبر فيه موافقة موجب اللفظ ومخالفته، فإذا ثبت هذا وكان إذا قال: والله لأصلين، أو لأصومنَّ، أو لأحجنَّ، أو قال لغيره: والله لتصلين، أو لتصومن أو لتحجن، اقتضى فعلا واحدًا، فلا يقتضي التكرار، ويكون من فعله بَرَّ في يمنيه [و] وجب أن يكون مطيعًا لله تعالى به متمثلا لأمره. ويدل على أنهما سواء أن النهي الذي هو متعلق بالترك والقسم في الترك سواء في أن كل واحد منهما يقتضي التكرار، ويكون مخالفًا بفعل مرة واحدة، وكذلك الأمر المقيد بوقت أو بعدد أو بصفة بمنزلة القسم المقيد بذلك، فوجب أن يكون مطلق الأمر بمنزلة مطلق القسم. والجواب عنه ما تقدم وهو: أن البر والحنث من أحكام الشرع، والخلاف في موجب الأمر وموضوعه في اللغة، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر، والثاني أن التكرار ليس بمراد للحالف. وجواب آخر وهو: أن الترك في القسم إذا كان معلقًا بوقت، وهو أن يقول: والله لا دخلت الدار عند زوال الشمس، لم يقتضِ التكرار، حتى إنه إذا وجد الترك مرة عند الزوال سقطت اليمين، والترك في ألفاظ صاحب الشريعة إذا علق بوقت اقتضى التكرار2، فإذا قال: لا تزكوا   1 في الأصل: "يشتمل". 2 في الأصل: "الدوام"، وهو خطأ، وقد صوَّبه الناسخ في الهامش بما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 إذا زالت الشمس، لم يسقط حكمه بترك مرة. وجواب آخر: وهو أن اعتقاد الفعل في القسم لا يقتضي الدوام، واعتقاد أداء الفعل في الأمر يقتضي الدوام. وجواب آخر: وهو أن الترك في اليمين إذا حصلت المخالفة بفعله مرة سقط حكم القسم، على معنى أنه إذا فعل المحلوف على تركه ثانيًا، حنث ثانيًا، وليس كذلك في ألفاظ صاحب الشريعة؛ لأنها لم يحنث، ولا تسقط بالمخالفة مرة، فبان الفرق. واحتج: بأنه إذا قال: صلى فلان، اقتضى صلاة واحدة، ولا يقتضي التكرار، وإذا كان لفظ الخبر لا يقتضي التكرار، فكذلك لفظ الأمر؛ لأن الأمرَ أمرٌ بإيقاع فعل، [و] الخبر خبر عن وقوعه؛ ولأن قوله: صلِّ، بمنزلة: افعل صلاة، ولو قال: افعل صلاة، اقتضى صلاة واحدة، ولا يقتضي التكرار، فإذا قال: صلِّ، وجب أن يقتضي صلاة واحدة. والجواب عنه ما تقدم من أن الخبر في الفعل إخبار عن إيقاع الفعل في زمان قد شاهده، وهذا لا صيغة له، والأمر المطلق له صيغة؛ ولأنه لا يجب تكرر [30/ أ] الاعتقاد في الخبر. واحتج: بأن قوله لامرأته: طلقي نفسك، اقتضى طلاقًا واحدًا، وكذلك إذا قالت له: طلِّقني بألف، فطلقها تطليقة واحدة استحق الألف. وكذلك إذا قال لوكيله: طلق فلانة، اقتضى طلاقًا واحدًا، ولا يقتضي التكرار، إلا بقرينة تدل عليه. وكذلك لو قال لعبده: تزوج، لم يملك أن يتزوج إلا امرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 واحدة، نص عليه1 في رواية بن بختان2، وكذلك في سائر الأوامر. والجواب: أن هذا ثبت بالشرع، والخلاف في موجب الأمر وموضوعه في اللغة. فإن قيل: أوجب الشرع إثبات موجب اللفظ من طريق اللغة، ألا ترى أنه إذا قال: طلق، وكرر الطلاق أو ما يثبت من العدد، كان له أن يكرره؟ قيل: قد بَيَّنَّا أنه غير معتبر بموجب اللفظ من طريق اللغة من الوجه الذي بينا؛ ولأن اعتقاد الفعل هناك لا يقتضي الدوام، وفي مسألتنا يقتضي الدوام، وهو من جملة الأوامر كما بَيَّنَّا. واحتج: بأن قول القائل: صمْ، وصلِّ، أمر بما يسمى صلاة وصومًا، فإذا فعل صومًا واحدًا، أو صلاة واحدة، فقد أتى بما يتضمنه الأمر. والجواب: أنه أمر بما يسمى صلاة على التكرار، كما كان قوله: لا تزن، نهي عما يسمَّى زنا على التَّكرار، وكما كان قوله: صلِّ، أمرًا باعتقاد ما يسمى صلاة على التكرار، كذلك في الفعل. واحتج: بأن كونه على التكرار يقتضي المناقضة، إذا كان الأمر   1 هذه الرواية هي -كما في رواية صالح ويعقوب بن بختان-: إذا أذن له سيده يتزوج، قال: واحدة، وإن أراد أن يتزوج أخرى استأذنه. وقال أيضًا: إذا خيَّر زوجته، لم يجز لها أن تطلق نفسها إلا طلقة واحدة. انظر: المسودة "ص: 21". 2 في الأصل غير معجم، والصواب ما أثبتناه كما في المسودة "ص: 21"، وقد سبقت ترجمته "ص: 185". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 بشيئين مختلفين مثل الحج والجهاد؛ لأنه لا يمكنه أن يواصل كل واحد منهما أبدًا. والجواب: أنا نثبت التَّكرار على الإمكان، وإذا كان كذلك لم يفضِ إلى المناقضة. واحتج: بأنه لو اقتضى التكرار لم يحسن الاستفهام. والجواب: أنا لا نسلم ذلك، وإن سلمناه فإنما ذلك على طريق الاستثبات، كما يقال له: جاءك الملك، فيقول: جاءني الملك؟ على طريق الاستثبات. واحتج: بأنه لو اقتضى التكرار لم يحسن تأكيده بالأبد، فيقول: صلِّ أبدًا، وصُمْ أبدًا. والجواب: أنا نقلب هذا فنقول: ولو اقتضى مرة لم يحسن تأكيده بمرة واحدة، فنقول: صلِّ مرة واحدة، لم يحسن، وعلى أن هذا يجوز على طريق التأكيد، ولقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} 1، كذلك ههنا. واحتج بأنه2 لو قال لرجل: كُلْ، ثم قال: كُلْ، كان أمرًا بالأكل مرتين، فلو كان الأمر يقتضي الاتصال أبدًا، كان قوله: ثم كل، تأكيدًا لا عطفًا، فلما قال الكل منهم: إنه عطف أكله على أكله، ثبت أنه لا يقتضي الاتصال. والجواب: أنه لا يمتنع أن نقول: إن الثاني تأكيد، لا عطف، كما كان قوله: لا تَزْنِ، ثم قال: لا تَزْنِ، كان الثاني تأكيدًا.   1 "30" سورة الحجر. 2 في الأصل: "بأن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 واحتج بأنه لو قال [30/ أ] لعبده: ادخل الدار، فدخل ثم استخبره فقال: قد دخلت؟ صح أن يجيبه عنه بنعم، أو يقول: قد دَخَلْت، فلولا أنه امتثل كل ما أمره به لما صح أن يخبره عنه. والجواب: أنه لا يمتنع أن يصح خبره في ذلك، ولا يكون ممتثلا للأمر، كما لو قال: ادخل الدار مائة مرة، فدخلها مرة، صح أن يخبر بالدخول ولا يكون ممتثلا، وكذلك الاعتقاد يصح أن يخبر أنه معتقد، وإن كان ذلك على الدوام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 مسألة الأمر المطلق يتقضي الفور مدخل ... مسألة 1: [الأمر المطلق يقتضي الفور] : الأمر المطلق: يقتضي فعل المأمور به على الفور عقيب الأمر. وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- لأنه يقول: الحج على الفور، وإنما يتصور الخلاف على قولنا إذا دلَّ الدليل على أنه أريد به مرة، فأما   8 إذا كان المأمور به قابلا للتكرار، ولكن الثاني معرف، كقولك: صلِّ ركعتين صلِّ الصلاة. فعند الآمدي: الحكم فيها كسابقتها، حيث تعارض الظاهر مع حروف العطف مع اللام المعرفة، فتساقطا، ويكون الحكم كما لو لم يوجدا. وقد رأيت في المسوَّدة أنه يكون للتأكيد؛ لأجل التعريف، ونسبه للقاضي أبي يعلى، وحكى بعد ذلك قولين بصيغة: "قيل" أحدهما: أنه أمر ثانٍ، وثانيهما: الوقف. 9 إذا كان المأمور به قابلا للتكرار، ولكن العادة تمنع منه، كما أن الثاني معرف كقولك: "اسقني ماء، واسقني ماء". فقد توقف الآمدي في هذه الصورة؛ لأن ترجيح التأسيس على التأكيد، وترجيح ظاهر حروف العطف، وقد قابلهما العادة المانعة من التكرار والتعريف، فإن رجج بينهما، فالترجيح لأمر خارج عنهما. راجع: الإحكام للآمدي "2/ 172- 174"، وتيسير التحرير "1/ 361، 362" والتقرير والتحبير "1/ 319، 320" وفواتح الرحموت "1/ 391، 392" مطبوع مع المستصفى، والمسودة "ص: 23، 24"، وشرح الجلال على جمع الجوامع مع حاشية البناني "1/ 389، 390". 1 راجع في هذه المسألة: الواضح في أصول الفقه، الجزء الأول، الورقة "273- 281"، والتمهيد الورقة "29- 34"، وشرح مختصر الروضة، الجزء الأول الورقة "202- 205"، والمسودة "ص: 24- 26". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 إذا قلنا على التكرار، فلا يتصور التأخير والتقديم. وهو قول أصحاب أبي حنيفة1. وقال الأكثر من أصحاب الشافعي: هو على التراخي2. وهو قول المعتزلة3. وقالت الأشعرية: هو على الوقف. وكان أبو بكر الباقلاني ينصر أنه على التراخي4.   1 نسبة القول بالفورية إلى الحنفية ليست على إطلاقها، وقد توبع القاضي في هذا في المسودة حيث جاء فيها: "والفورية معزوة إلى أبي حنيفة ومتَّبِعيه". وقد وقع في هذا الخطأ كل من الآمدي في الإحكام "2/ 153"، وابن قدامة في الروضة "105"، والبيضاوي في منهاج الأصول، والأسنوي في "نهاية السول" "2/ 286"، وأبو البقاء الفتوحي في شرح الكوكب المنير "ص: 329" من الملحق، والغزالي في المنخول "ص: 111"، والقرافي في شرح تنقيح الفصول "ص: 128". وقد خطَّأ الشيخ بخيت المطيعي في حاشيته على نهاية السول "2/ 286" كلا من البيضاوي والأسنوي في ذلك. والصحيح من المذهب الحنفي: أن المأمور به إذا لم يكن مقيدًا بوقت يفوت الأداء بفواته، فإنه يجوز التأخير على وجه لا يفوت المأمور به. ولم يقل بالفورية من الحنفية إلا أبو الحسن الكرخي، كما صرح بذلك في "مسلم الثبوت" وشرحه "1/ 387"، والشيخ بخيت في حاشيته على نهاية السول "2/ 287". وراجع أيضًا: الفصول في أصول الفقه للجصاص، الورقة "97/ أ". 2 وعزاه الغزالي في المنخول "111" إلى الشافعي. وهو الأصح عند الشافعية كما صرح بذلك الشيرازي في اللُّمع "ص: 9". إلا أن ابن برهان قال: "لم ينقل عن الشافعي وأبي حنيفة نص عليه، وإنما فروعهما تدل عليه" فواتح الرحموت "1/ 387". 3 راجع في هذا: "المغني" للقاضي عبد الجبار، قسم الشرعيات "ص: 102"، المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري "1/ 120- 134". 4 وقد نقل ذلك القرافي في كتابه: شرح تنقيح الفصول "ص: 129". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وقد أَومَأَ أحمد إلى هذا في رواية الأثرم1 وقد سئل عن قضاء رمضان يفرق؟ فقال: نعم، قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 2. فظاهر هذا أنه لم يحمل الأمر على الفور؛ لأنه لو حمله على الفور منع التفريق، والمذهب: ما حكينا أولا. واختلف المتكلمون في هذه المسألة: هل معرفة ذلك المعقول أم اللغة؟ فذهب بعضهم إلى أن طريق ذلك العقل؛ لأن هذا اختلاف في أحكام، فليس بمأخوذ عن أهل اللغة. وقال آخرون: معرفة ذلك اللغة؛ لأنهم يقولون: فعل ويفعل، فيدل أحدهما على زمان ماضٍ، والآخر على زمان مستقبل.   1 هو أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم الإسكافي أبو بكر، من أصحاب الإمام أحمد الأجلاء، وممن أخذوا عنه. فقيه، حافظ، ثقة، له كتاب "العلل" مات بعد "260هـ". له ترجمة في: تاريخ بغداد "5/ 110"، وتذكرة الحفاظ "2/ 570"، وتهذيب التهذيب "1/ 78"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 11"، وطبقات الحفاظ "ص: 256"، وطبقات الحنابلة "1/ 66"، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد "205". 2 "184" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 دليلنا : أنه لو كان على التراخي لم يَخْلُ المأمور به من أحد أمرين: إما أن يكون له تأخيره أبدًا، حتى لا يلحقه التفريط، ولا يستحق الوعيد إن مات قبل فعله. أو يكون مفرطًا مستحقًا للوعيد إذا تركه حتى مات. فإن قلنا: لا يكون مفرطًا بتركه في حياته، خرج عن حدِّ الواجب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وصار في حدِّ النوافل1؛ لأن ما كان المأمور مخبرًا بين فعله وتركه، فهو نافلة أو مباح2. وإن قلنا: يلحقه الوعيد بالموت، أدى ذلك إلى أن يكون الله تعالى ألزمه إتيان عبادة في وقت لم ينصب له عليه دليلا يوصله إلى العلم به، ونهاه عن تأخيرها عنه، ولا يجوز أن يتعبده الله بعبادة في وقت مجهول، كما لا يحوز أن يتعبده بعبادة مجهولة، فإذا بطل هذان القسمان، صح ما ذهبنا إليه، وهو كونه على الفور. ولا يلزم عليه تكليف الوصية عند الموت للأقربين3، وإن كان وقت الموت مجهولا؛ لأن الموت عليه أمارة وعلامة، تتعلق الوصية بحضوره فلا4 يكون تعليقًا له بوقت مجهول لا دلالة عليه؛ ولأن الوصية يمكن   1 هذا الدليل منقول من كتاب الفصول في أصول الفقه، للجصاص، الورقة "98/ أ" مع اختلاف بسيط، والعبارة فيه هكذا: "خرج من حَيِّزِ الوجوب، وصار في حيز النوافل". 2 بقية الدليل في الفصول هي: "ولما ثبت وجوب الأمر بطل هذا القول". 3 أصل التكليف بالوصية قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوف} الآية. فذهب بعض العلماء إلى وجوبها مستدلين بالآية. كما ذهب آخرون إلى أنها مندوبة مستدلين بالآية أيضًا. والقائلون بوجوبها اختلفوا هل نسخ هذا الحكم أو لا؟. والقائلون بالنسخ اختلفوا هل كلها منسوخة أو منسوخة في حق من يرث؟ وإذا كانت منسوخة، فما هو الناسخ؟ هل هو آيات المواريث، أو حديث: "لا وصية لوارث"؟ قولان. راجع في هذا: أحكام القرآن للجصاص "1/ 102- 107". 4 في الأصل: "فلا لا"، و"لا" الثانية مكررة، لا معنى لها، ولذلك حذفناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فعلها عند حضور الموت، وفعل العبادات لا يمكن في الغالب عند حضور الموت. فإن قيل: إن غلب على ظنه في وقت أنه إن أخر عنه فإنه يضيق عليه وقته لزمه1 تعجيله، وإن لم [32/ ب] يغلب على ظنه ومات فجأة، لم يعص، ويفارق هذا النوافل؛ لأنه يجب تعجيلها إذا غلب على ظنه فواتها. قيل: لا يلغب على الظن ضيق الوقت إلا في وقت لا يمكن فيه أداء العبادة بشرائطها، وهو عند المرض المتلف، وفي تلك الحال لا يمكنه أن يحج بنفسه ولا الصيام. وأيضًا فإن النهي أمر بالترك، والأمر [بالترك] أمر بالفعل، ثم كان النهي على الفور، كذلك الأمر بالفعل. فإن قيل: النهي يقتضي التكرار والدوام فاقتضى الفور، والأمر يقتضي فعلا واحدًا، فلم يقتضِ الفور. قيل: ليس إذا لم يقتضِ التكرار لم يقتضِ الفور، كالجزاء لا يقتضي التكرار ويقتضي الفور عند وجود شرطه، وعلى أنه لا فرق بينهما، وذلك أن مطلق الأمر يقتضي التكرار، ويقتضي فعل مرة بقرينة، ومثله قد حكينا في النهي. وأيضًا: فإن الأمر بالفعل يتضمن ثلاثة أشياء: الأمر بالفعل، والأمر بالاعتقاد، والأمر بالعزم عليه، ثم ثبت أن الأمر بالعزم، والأمر بالاعتقاد على الفور، كذلك الأمر بالفعل وجب أن يكون على الفور. فإن قيل: لو [قال له] : صلِّ بعد شهر، كان الاعقتاد والعزم على   1 في الأصل: "ولزمه"، وهو خطأ، والصواب: حذف الواو، كما يتضح من السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 الفور، وإن لم يجب الفعل في هذه الحال، فدل على الفرق بينهما. قيل: ليس إذا تأخر الفعل بالشرط، تأخر في حال الإطلاق، بدليل الجزاء، لو قال: إذا دخلت الدار فلك درهم، استحق الجزاء عند وجود شرطه وهو الدخول، ولو قال له: لك درهم بعد شهر، تأخر، كذلك الفعل، وعلى أن مثله يقول في الاعتقاد، وأنه يجوز تأخيره بالشرط. وقد ذكر ابن عبد الجبار1 في شرحه: أن الأمر يتعلق بأول الشروط على قول أصحاب الفور، ويتعلق بجميعها على قول أصحاب التراخي. فإن قيل: لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد والعزم مع ذكره الأمر، ولا يجوز أن يعتقد غير الواجب، ولا أن يعزم على تركه، فوجب اعتقاد وجوبه والعزم على فعله لما ذكرنا لا باللفظ. قيل: كما لا يجوز أن يعتقد غير الوجوب، كذلك لا يجوز2 له تأخير الفعل، وإذا لم يَجُزْ له [تأ] خيره وجب فعله، كما أنه لما لم يجز اعتقاد غير الوجوب، وجب اعتقاد الوجوب. وأيضًا: فإن الأمر المطلق في الشاهد يقتضي التعجيل، وهو الواحد منا إذا أمر عبده بفعل، فأخره، فإنه يحسن توبيخه، كذلك حكم الأمر في الغائب. فإن قيل: إنما يحسن توبيخه إذا اقترن بالأمر ما دلَّ على قصد الآمر، فأما إذا لم يقترن به، فلا يحسن توبيخه. قيل: من يظهر التوبيخ والذم لا يرجع إلى القرينة، وإنما يرجع إلى اللفظ فيقول: آمره بكذا فلم يفعل.   1 لم أتوصل إلى معرفة "ابن عبد الجبار" هذا بعد البحث الكثير. 2 في الأصل: "يجب"، والصواب ما أثبتناه؛ لدلالة السباق واللحاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وأيضًا: فإن وقوع ما يفيد الإيجاب مطلقًا يفيد الفور، دليله: التمليكات بعقود البياعات والإجارات والأنكحة وجزاء الشرط، فإن الملك يحصل بذلك في الحال [32/ ب] وإنما يتأخر بدليل، وهو شرط الأجل. واحتج المخالف بقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 1. وروي أن عمر قال لأبي بكر وقد صُدَّ عام الحديبية: "أليس قد وعدنا الله تعالى بالدخول فكيف صددنا؟ فقال: إن الله تعالى وعد بذلك، ولم يقل في وقت دون وقت"2. قالوا: وهذا يدل على ما قلناه؛ لأنه خبر عين بوقوع فعل مطلق لا ذكر للوقت فيه، فلم يختص بوقت، فكذلك الأمر؛ لأنه أمر بإيقاع فعل مطلق من غير توقيت، فيجب أن لا يختص بوقت. والجواب: أن ذلك وعد بالدخول، وليس بأمر، وخلافنا في لفظة الأمر؛ ولأن ذلك تعلق بشرط وهو المشيئة، فمتى لم يوجد الدخول علمنا أن المشيئة لم توجد، وخلافنا في أمر مطلق. واحتج: أن قول القائل: افعل، استدعاء للفعل، وليس فيه ذكر الوقت، حتى أي وقت فعله يجب أن يكون ممتثلا للأمر، كما أنه لم يكن فيه ذكر الحال، فعلى أي حال فعله قائمًا أو قاعدًا، مستقبلا3 للقبلة أو   1 "27" سورة الفتح. 2 قصة صلح الحديبية، وما جرى في ذلك أخرجها البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية "5/ 162"، وتحدث عن ذلك الحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" "4/ 168- 170". 3 في الأصل: "أو مستقبلا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 مستدبرها، متطهرًا أو محدثًا، كان مطيعًا، ولذلك لما لم يكن فيه ذكر المكان، ففي أي مكان فعله كان ممتثلا، كذلك الوقت. والجواب: أن الأمر استدعاء على صفة هي الفور، إلا أنه لم يكن منطوقًا فإنه مقدر1 فيه لا من طريق المعنى، كما اقتضى وجوب اعتقاد على صفة هي الفور، وكما اقتضى النهي الكفَّ على صفة هي الفور، وكذلك الجزاء والثمن في المبيع، وليس إذا لم يكن ذكر الحال والمكان مقدرًا معينًا يجب أن يكون في الزمان مقدرًا، كما قلنا في الاعتقاد والنهي والجزاء والأثمان في البياعات. واحتج: بأن الطاعة والمعصية في الأمر بمنزلة البر والحنث في القسم، ثم ثبت أنه إذا قال: والله لأفعلن كذا، أنه لا يختص بوقت، ولكنه في أي وقت فعله كان بارًّا في يمينه، كذلك يجب أن يكون مطيعًا في الأمر. والجواب: أن اليمين لا توجب على الحالف شيئًا لم يكن واجبًا عليه، وإنما هو مخبر بين الوفاء والكفارة، وبين الامتناع والكفارة، وليس كذلك ههنا؛ لأن هذا لفظ إيجاب، فنظيره النذر، وهو: أن ينذر صلاة ركعتين، أو صيام يوم ونحو ذلك، ولا يمتنع أن يقول: يجب على الفور، كما يقول في مسألتنا، على أن خلافنا في مقتضى الأمر في اللغة، والشرع قد غَيَّر النذر عن مقتضى اللغة، ولهذا لو نذر عتق عبد، لم يجزئه2 إلا مسلمًا، وإن كان مقتضاه في اللغة يعم الجميع، وكذلك لو نذر صلاة أو صيامًا، اقتضى خلاف موجبه في اللغة. واحتج: بأنه لو كان الأمر يفيد الفور لما حسن الاستفهام. والجواب: أنه إذا كان الآمر ممن لا يضع الشيء في [غير] موضعه، لم يحسن منه الاستفهام.   1 في الأصل: "مقدم". 2 في الأصل: "لم يجزه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 واحتج: بأنه لو خصه بوقت متأخر، وحب تأخيره [33/ أ] كما إذا خصه بوقت متقدم وجب تقديمه، فإذا لم يكن الوقت مذكورًا، فليس هو بالتعجيل أولى منه بالتأخير. والجواب: أنه ليس من حيث لو خصه بزمان متأخر وجب تأخيره، ما دل على أنه إذا أطلق لا يقتضي التعجيل ألا ترى أن الجزاء إذا شرط تأخره عن الشرط تأخر، وإذا أطلق لزم ذلك عقيب الشرط، وكذلك الأبدال في العقود إذا شرط فهيا التأجيل تأجل، ثم لا يدل ذلك على أنه إذا أطلق لم يكن البدل عقيب العقد، كذلك ههنا. واحتج: بأن الأمر بالفعل يتضمن إيقاعه في مكان وزمان، ثم ثبت أنه لا يختص بمكان بعينه، كذلك لا يختص بزمان بعينه، وعندكم يختص بزمان بعينه، وهو عقيب الأمر. والجواب: أن النهي لا يختص بمكان، ويختص بزمان، وهو عقيب النهي، وعلى أنه لا يمتنع أن يقال: يختص بالمكان الذي أمر بالفعل فيه؛ لأنه على الفور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 فصل: والدلالة على فساد قول من قال بالوقف : أنا نقول لهذا القائل: ما تقول في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1، هل يجب أن يتوقفوا ويطلبوا صفات البقرة من الرسول عليه السلام؟!. فإن قال: لا يجب، فقد سلم المسألة، فإنه لا فرق بين البقرة، وبين سائر الأفعال؛ لأن البقرة لا تخلو من صفة ولون، كما أن الفعل لا يخلو من   1 "67" سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وقت، وإذا لم يجز التوقف لاحتمال صفات البقرة، لم يجب التوقف لاحتمال أوقات الفعل. فإن قال: يجب التوقف؛ لأنها تحتمل البكر وهي الصغيرة التي لم تلد والفارض وهي المسنة، تقول العرب: فرضت البقرة، إذا أسنت. والعوان: هي بين الصغيرة والكبيرة، والصفراء الفاقع لونها، والسوداء الحالك لونها، والملمعة والتي لا شية فيها، والذلول البينة الذل، والمسلَّمة من العمل، والتي [لا] تثير الأرض ولا يستقى عليها، فتسقي الحرث. قيل: هذا خلاف الشرع؛ لأن الله تعالى خَطَّأ بني إسرائيل في هذا التوقف بطلب هذا البيان، فقال: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} 1، وقال: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 2؛ ولأن موسى -عليه السلام- المنبَّأ عن الله تعالى لم يسأل عنها، ولو كان ذلك موضع السؤال لَسَأَلَهُ. فإن قيل: فقد سأله، فلو كان هذا خطأ لكان موسى لا يسأل ربه تعالى بعد سؤال بني إسرائيل. قيل: لم يسأل عنه، وإنما راجع ربه -عز وجل- بما عليه بنو إسرائيل من المخالفة، والوقف في غير موضعه. ويدل عليه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "شدد بنو إسرائيل على أنفسهم، فشدد الله عليهم، أما إنهم لو ذبحوا أي بقرة لأجزأت عنهم"3،   1 "68" سورة البقرة 2 "71" سورة البقرة. 3 هذا الحديث أخرجه الطبري في تفسيره "2/ 205" عن ابن جريج مرسلا، ولفظه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدَّد الله عليهم، وايم الله لو أنهم لم يستثنوا، لما بينت لهم آخر الأبد" وقد عقب الشيخ أحمد شاكر على هذا بقوله -في هامش المرجع المذكور-: "وهو مرسل، لا تقوم به حجة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وهذا يدل على خطئهم، وأن صفات البقرة زيدت عليهم [33/ ب] بعد وقفهم، تغليظًا عليهم، وتشديدًا في التكليف. ويدل عليه على أن الأمر يقتضي الفعل، وليس فيه ذكر الوقت ولا دليل، فوجب أن يكون الوقت شرطًا لما فيه، وإنما لا يمكن الفعل في غير الوقت مع هذه العادة، ولو أمكن الفعل في غيره هذا الوقت كان فعله بهذا الأمر في غيره، ولم يجز أن يجعل شرطًا، فإذا كان كذلك وجب الفعل من غير اعتبار الوقت. ويدل عليه أنه لا يجوز الوقف لاعتبار المكان واعتبار الحال، والمعاني التي لا ذكر لها في لفظ الأمر. وكذلك إذا قال: امكثوا في المسجد يومًا، لزمهم المكث فيه، ولم يَجُزْ التوقف عنه، بأن يقولوا: أنمكث صائمين أو مفطرين. مصلين أو غير   = وأخرجه الطبري أيضًا عن قتادة مرسلا "2/ 206"، كما أخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنه- موقوفًا "2/ 204"، وقد عقب ابن كثير في تفسيره "1/ 110" على أثر ابن عباس بقوله: "إسناده صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس". وأخرجه ابن مردويه في تفسيره -كما نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "1/ 111"- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا ولفظه: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: "وإنا إن شاء الله لمهتدون"، ما أعطوا أبدًا، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها، لأجزأت عنهم، ولكن شددوا، فشدد الله عليهم"، ثم عقب ابن كثير على هذا الحديث بقوله: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله عن السدي والله أعلم". وقد ذكر السيوطي في كتابه: الدر المنثور "1/ 77" أن البزار وابن أبي حاتم أخرجا هذا الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه. كما ذكر أن الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر أخرجوه عن عكرمة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 مصلين، قائمين أو قاعدين، مستقبلين أو مستدبرين؟ وما أشبه ذلك. فإن قيل: يجب التوقف لهذا كله حتى يقع البيان للمأمور من جهة الرسول أو من جهة الدلائل المقررة في الأصول. قيل: هذا [مردود] بتخطئة الله -سبحانه- بني إسرائيل في مثله. وجواب آخر: وهو أن ذلك يؤدي إلى ترك طاعة الله تعالى في أمره وامتثاله؛ لأنه ليس معنى من المعاني إلا ويجوز أن يكون شرطًا، وفي طلب بيان ذلك ترك الفعل وامتثال الأمر. ويدل عليه: أن بني إسرائيل لو سألوا لكان ما تركوه أكثر ما سألوا بيانه وأنهم كان يمكنهم أن يقولوا: ما العوان التي بين البكر والفارض؟ وما الشية التي نفاها؟، وما لونها وقدرها وموضعها؟ وهل تكون سمينة أو هزيلة؟ من العراب أو من أي نتاج البقر؟ ومن يذبحها؟، وبأي آلة؟ وعلى أي جنب؟ وما أشبه ذلك مما لا يتناهى ذكره، ولا ينحصر وصفه، ولا يمكن ضبطه. واحتج المخالف: بأن اللفظ يحتمل الفور والتراخي بدليل أنه يصلح أن نفسره بكل واحد منهما، فنقول: افعلوا على الفور، أو نقول على التراخي، ونقول افعلوا في كذا، وإذا كان مجملا وجب الوقف فيه1، لاحتماله2، للخصوص والعموم، كذلك ههنا. والجواب: أنا لا نسلم أن إطلاق الأمر محتمل للتراخي، بل إطلاقه يقتضي الفور على العموم، على أن هذا مخالف له؛ لأن هذا اللفظ محتمل للعموم والخصوص، والأمر لا يحتمل الوقف ولا يقتضيه، فلا يجوز أن   1 في الأصل: "فيها". 2 في الأصل: "لاحتمالها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 يجعل شرط فيه إلا بدليل يدل عليه. وعلى أنا لو سلمنا أنه محتمل للفور والتراخي كان على أحدهما دليل1، وهو ما تقدم من لغة العرب، وغير ذلك.   1 في الأصل: "دليل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته مدخل ... مسألة 1: [الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته] : إذا كان الأمر مؤقتًا بوقت ففات الوقت، لم يسقط الأمر بفواته، ويكون عليه فعله بعد الوقت، بذلك الأمر الأول، ويكون تقديره: افعله في الوقت الأول ولا تؤخره، فإن لم تفعل فافعله في الوقت الثاني، وهكذا تقديره في سائر عمره 2. وكذلك الأمر المطلق إذا لم يفعل المأمور به عقيب الأمر، لم يسقط وإن شئت عبرت عنها بعبارة أخرى [34/ أ] فقلت: القضاء لا يحتاج إلى دليل. وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية إسحاق بن هانئ في الرجل ينسى الصلاة في الحضر، فيذكرها في السفر: "يصلِّيها أربعًا، تلك وجبت عليه أربعًا". فأوجب القضاء بالأمر الأول، الذي به وجبت عليه في الحضر؛ لأنه قال: تلك وجبت عليه أربعًا، معناه حين المخاطبة بها. وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين في الأمر المؤقت: إنه يسقط بفوات   1 راجع هذه المسألة في: الواضح، الجزء الأول، الورقة "286"، والتمهيد الورقة "34"، والمسودة "ص: 27". 2 وهذا الرأي نقله في المسودة "ص: 27"، ونسبه للقاضي والحلواني، وهو رأي ابن قدامة كما في الروضة "ص: 107"، ونسبه الغزالي في المنخول "121" إلى الفقهاء. أما الآمدي فقد عزاه إلى الحنابلة وكثير من الفقهاء وذلك في كتابه الإحكام "2/ 166". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الوقت، ويجب القضاء بأمر ثانٍ1. واختلف أصحاب أبي حنيفة في الأمر المطلق إذا لم يفعله المأمور به عقيب الأمر، هل يسقط؟ فقال الرازي: لا يسقط ويفعله في الزمان الثاني، والثالث، وسائر عمره، بخلاف المؤقت2. وقال غيره من أصحابه: يسقط، كالأمر المقيد بوقت.   1 وقد نسبه الآمدي إلى المحققين من الشافعية. الإحكام "2/ 166". 2 قال الرازي في كتابه الفصول، الورقة "109/ ب" ما نصه: "فصل كل أمر مضمن بوقت بعينه، فهو واجب في ذلك الوقت، يستوعب الفعل، كصوم رمضان مؤقت بالشهر، فعليه فعله فيه، ولا يسعه التأخير إلا من عذر. وإن كان الوقت متسعًا لأن يفعله ذلك الفعل مرارًا كثيرة، فوجوبه متعلق بأول أوقاته، حتى تقوم الدلالة على جواز تأخيره. ويكون حينئذٍ فائدة ذكر الوقت من أوله إلى آخره. أنه إن أخره عن الوقت الأول، لزمه فعله في الثاني والثالث إلى آخر الوقت، وإن لم يفعله في هذه الأوقات لم يكن عليه فعله بعد خروج الوقت بالأمر الأول". من هذا النص نرى أن التفصيل المذكور عن الرازي إنما هو في الأمر المؤقت بوقت متسع، وليس في الأمر المطلق، كما نقل المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 دليلنا : أنه لو سقط بفوات وقته؛ لسقط المأثم بفوات الوقت كما يسقط الوجوب. ولما لم يسقط المأثم كذلك الوجوب. ولأن الأصل ثبوته في ذمته، فمن زعم إبطاله بخروج الوقت؛ فعليه الدليل. ولأن النذر المؤقت لا يسقط بفوات وقته، كذلك ما وجب بالشرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ولأنه حق واجب؛ فلم يسقط بمضي الوقت. دليله الدَّين المؤجَّل وهو: إذا باع بثمن مؤجل إلى شهر، ثم انقضى الشهر؛ فإن الحق لا يسقط، كذلك ههنا. فإن قيل: الأجل المضروب لتأخير المطالبة به والدين1 في ذمته؛ فإذا وجب الأداء فلم يفعل، زال الوقت وصار كالعقد المطلق من غير أجل، فلزمه قضاء ما فات أداؤه في وقته، وليس كذلك إذا أمر الله تعالى بأمر في وقت محدد؛ لأن الوجوب ما لزمه إلا في الوقت الذي تناوله الأمر. قيل: وكذلك المطالبة بالدين ما لزم إلا عند انقضاء الشهر، ثم تأخيرها عن آخر الشهر لا يوجب إسقاطها، كذلك تأخير العبادة عن وقتها. فإن قيل: إنما لم يسقط الحق؛ لأن وقت المطالبة موسَّع. قيل: وقت الأداء في ذمة من عليه الحق مضيق؛ لأنه إذا لم يؤجل الأجل وجب الأداء على الفور، كما أن وجوب العبادة عليه على الفور إذا وقَّتها، ثم ثبت أن تأخر الأداء لا يسقط، كذلك العبادة. وأيضًا فإن الوقت شرط من شرائط العبادة؛ ففقدانه لا يوجب إسقاطها.   1 في الأصل: "والذي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 دليله : الطهارة والستارة والتوجه والقراءة وغير ذلك من الشرائط؛ ولأن الوقت ليس بمقصود، وإنما المقصود نفس العبادة بدليل أنه لا فائدة في إثبات وقت خالٍ1 عن عبادة، وقد ثبتت العبادة في ذمته من غير قت وهو أنه يؤمر بعبادة مطلقة؛ فلم يكن فواته موجبًا للإسقاط.   1 في الأصل: "خالي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ولأن الأمر بالفعل يتضمن الأمر بالفعل والأمر بالاعتقاد، ثم ثبت أن خروج الوقت لا يوجب إسقاط [34/ ب] الاعتقاد، كذلك لا يوجب إسقاط الفعل. وقد ذكر في المسألة طرق أخر، وهو: أنه لو كان خروج الوقت علمًا على الإسقاط؛ لكان له أن يسقط الإيجاب عن نفسه بالتأخير إلى آخر الوقت. ألا ترى أنه لما جعل وجود الفعل علمًا على سقوط الوجوب، كان له أن يسقط الإيجاب عن نفسه بالفعل؛ فلما لم يَجُزْ له التأخير، علمنا أن خروجه غير مسقط. وقيل أيضًا: بأنه لو كان بعد خروج الوقت يجب القضاء بأمر مبتدأ ما سمي قضاء، كالذي يجب بالأمر الأول؛ لأنه مثله في أنه إيجاب فرض مبتدأ. فإن قيل لو كان هو الفرض لم يسمَّ قضاء. قيل: قد بينَّا أن اختلاف النية لا يوجب اختلاف الفرض، بدليل المقصورة والتمام، والجمعة والظهر. وقيل: لما لم يكن الوقت موجبًا؛ وإنما الوجوب واقف على الدليل، لم يكن خروج الوقت مسقطًا، بل يقف إسقاطه على الدليل. وقيل: إن أكثر ما في خروج الوقت: أن العبادة تصير في وقت غير معين، وهذا لا يمنع الوجوب، كما لو أوجب عبادة غير معينة بزمان. فإن قيل: إن عرف الشرع قد ثبت أن الأمر إذا ورد بفعل عبادة متعلقة بوقت؛ فإنه يجب فعلها قضاء، كالصلاة والصيام والحج وغير ذلك. والمخالف يجيب عن هذا: بأنني عرفت ذلك بدليل؛ لا بأصل الأمر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 مع أن الشرع مختلف في ذلك؛ فإن الجمعة لا تقضى، وكذلك رمي الجمار، وكذلك المحصر إذا تعذر عليه ذبح الهدي في الحرم، جاز ذبحه في الحل ولا قضاء. وقيل أيضًا: بأن فعلها بعد الوقت يطلق1 عليه اسم القضاء، وإذا ثبت هذا، ثبت أنه قضى بعد الوقت ما كان مأمورًا به في الوقت. وهذا لا يلزم أيضًا؛ لأنه لا يمتنع أن يقال: قضى بعد الوقت، وإن كان بأمر ثانٍ2 وفرض مبتدأ. واحتج المخالف بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها" 3، فأمر بفعلها بعد الوقت، فلو كان الأمر يفيد امتثاله بعد الوقت لم يأمر به ثانيًا. والجواب: أن الخبر حجة لنا؛ لأنه قال: "فليصلها"، وهذا كناية   1 في الأصل: "يبطل"، وقد صحح الناسخ في الهامش بما أثبتناه. 2 في الأصل: "ثاني". 3 هذا الحديث رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلِّها إذا ذكرها "1/ 146". وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها "1/ 477". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من نام عن صلاة أو نسيها "1/ 105". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل ينسى الصلاة "1/ 335، 336"، وقال فيه: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب فيمن نسي صلاة "1/ 236". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب من نام عن الصلاة أو نسيها "1/ 227". وراجع في الحديث أيضًا: نصب الراية "2/ 162- 164"، وفيض القدير "6/ 231". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 عما أمر به بحكم أن الذي يفعله بعد الوقت هو المأمور به في الوقت. مع أنه قصد بهذا رفع الإشكال؛ لئلا يظن ظان أنها تسقط بفوات وقتها. واحتج: بأن صيغة الأمر تتناول زمانًا محصورًا؛ فإذا فات الوقت قبل فعله لم يبق زمان أمر يفعله فيه؛ فهو كما لو قيل له: صلِّ في المسجد الفلاني أربعًا، ففات فعله فيه، لم يجز فعله في غيره، وكذلك لو قال: أعط زيدًا ألفًا، فمات زيد، لم يدل على جواز إعطاء غيره. والجواب: أن [هناك] فرقًا بين تعلق الأمر بزمان، وبين فعله بمكان معين، ألا ترى أن حقوق الآدميين المتعلقة بزمان لا تسقط بفوات [35/ أ] الزمان، ولو تعلق بعين ففاتت العين سقطت، ألا ترى أن الرهن إذا تلف سقط حق المرتهن من الوثيقة، وكذلك العبد الجاني، إذا مات سقط الحق؛ فكذلك ههنا. واحتج بأن القضاء بدل، والبدل لا يجب إلا بدليل، والذي يدل عليه أنه محتاج إلى نية القضاء. والجواب: أنا لا نسلم أنه بدل، بل هو الواجب عليه بالأمر الأول واختلاف النيتين لا يدل على أنهما غيران، بدليل المقصورة والتامة، والظهر والجمعة، وعلى أن نية القضاء ليس بشرط في صحة الفعل؛ لأن أحمد -رضي الله عنه- قال في الأسير، إذا اشتبهت عليه الأشهر؛ فصام شهرًا يريد به رمضان فوافق ما بعده أَجْزَأَهُ، وإن لم يوجد منه نية القضاء؛ وإنما يستحب ذلك للخروج من الخلاف، وعلى أن نية القضاء لا تدل على البدل؛ لأنه قد يجب البدل من غير نية القضاء، كالطهارة إذا أخَّرها عن وقت وجوبها، والكفارة والحج والزكاة والنذر. ولأن القضاء تسمية شرعية، فتستعمل بحيث أطلقتها الشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 واحتج بأن المفعول في الوقت الثاني غير المفعول في الوقت الأول؛ فيحتاج وجوب الفعل في الوقت الثاني إلى دلالة، كما احتاج في وجوبه في الوقت الأول إلى دليل. والجواب: أنه إنما يقال: المفعول في الوقت الثاني غير المفعول في الوقت الأول إذا وجد منه فعل في الوقت الأول، فيكون الثاني غيره؛ فأما إذا لم يوجد منه فعل، فلا تصح هذه العبادة 1، وقد بينَّا أن الثاني هو الفرض الأول. واحتج بأن المصالح تختلف باختلاف الأوقات، وقد علمنا كون الفعل مصلحة في الوقت الذي خص به، ولا نعلم كونه مصلحة في الزمان الثاني، فلا يجوز مع جواز كونه مفسدة. والجواب: أن هذا لا يصح أن لو كان الأمر متعلقًا بما فيه مصلحة، فنكون لا نعلم وجودها في الوقت الثاني. فأما على قولنا فالأمر غير موقوف على المصالح، وقد يتضمن المصلحة والمفسدة. فأما من فرَّق بين المقيد2 والمطلق فلا وجه له؛ لأن المطلق والمقيد سواء في تعلقهما3 بالوقت؛ لأن المطلق يختص أول أوقات الإمكان عنده وعند القائل؛ فإذا لم يسقط أحدهما بمضي وقته وجب أن لا يسقط الآخر. يبين ذلك: أن ما ثبت من جهة النطق بمنزلة ما ثبت بدليل، ألا ترى أن عقد البيع لما أوجب سلامة المبيع كان شرط المشتري لذلك وسكوته عنه   1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "العبارة". 2 في الأصل: "المؤقت". 3 في الأصل: "تعليقها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 بمنزلة في أنه يعتبر صحة المبيع بجميع أجزائه. واحتج بأن تقيد المأمور به بالوقت يوجب له صفة زائدة على كونه مطلقًا؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يكن لتقييده بالوقت معنى؛ فإذا كان المطلق كالمقيد في أنه لا يجوز تأخيره عن وقت الوجوب، لم يجز أن [35/ ب] يختلفا إلا في باب سقوط المقيد منهما بفوات وقته، وبقاء حكم المطلق بعد الوقت الأول. والجواب: أن نقول بموجب هذا، وأنه قد أوجب له صلة زائدة وهو إنما أفاده تأخيره الوجوب عقيب الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 مسألة الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئا مدخل ... مسألة: 1 الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئًا، وهو قول جماعة الفقهاء وأكثر المتكلمين والأشعرية وغيرهم2. وقالت طائفة من المعتزلة3: لا يقتضي ذلك، وأن كونه مجزئًا يعلم بدلالة غير الأمر.   1 هذه المسألة موجودة في المسودة "ص: 27". وروضة الناظر "ص: 107، 108"، والتمهيد الورقة "42"، والواضح، الجزء الأول، الورقة "288". 2 وقد اختاره ابن قدامة في كتابه الروضة "ص: 107، 108". كما اختاره الآمدي في كتابه الإحكام "2/ 162". 3 "راجع في هذا: كتاب المعتمد في أصول الفقه "1/ 99-101". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 دليلنا : إن الأمر بالعبادة اقتضى وجوب فعلها وإيجاده، فإذا فعل المأمور به فقد امتثل ما اقتضاه الأمر، فخرج عن عهدته، وعاد إلى ما كان عليه قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الأمر، فبرأت ذمته كما لو أمر السيد عبده بفعله شيء ففعله، لم يبق عليه شيء من ناحية أمرهن، ويبين صحة هذا أنه يصح أن يخبر عن نفسه بأن يقول: قد فعلت كذا وكذا، فلو كان قد بقي عليه شيء من حكم المأمور به، لما صح أن يخبر بذلك. ولأن جواز الفعل حكم تعلق بالمأمور به، كما أن استحقاق الثواب حكم تعلق به، فإذا كان فعل المأمور به على شرائط يدل على استحقاق الثواب، كذلك يجب أن يدل على جوازه. ولأنه لا طريق إلى معرفة جوازه إلى وقوعه على الوجه المأمور به، ألا ترى أنه يستحيل أن تكون الدلالة على جوازه وقوعه على غير الوجه المأمور به، فدل ذلك على ما قلناه. واحتج المخالف: بأن معنى قولنا: يجزئه، أنه لا تجب عليه الإعادة، وقد علمنا أنه غير ممتنع بأن يأمر الحكيم بفعل من الأفعال، ويقول: إذا فعلتموه فقد فعلتم الواجب واستحققتم الثواب، وعليكم الإعادة مع ذلك، ألا ترى أن الحَجَّة الفاسدة مأمور بالمضي فيها، ويستحق الثواب على فعلها، ومع ذلك فعليه الإعادة، وكذلك من ظن أنه على طهارة وهو في آخر الوقت، فأن الصلاة واجبة عليه، وهو مأمور بها1، ومع ذلك فعليه الإعادة إذا علم أنه كان على غير طهر. والجواب: أنه2 هناك لم يأت بالعبادة على الوجه المأمور به، بل أَخَلَّ بشرط، فلهذا لم يقع موقع المأمور به، وكلامنا فيما يأتي به على الوجه المأمور به من غير إخلال ببعض شرائطه3.   1 في الأصل: "به". 2 في الأصل "أن". 3 كلام المؤلف هنا تحرير لمحل النزاع، وحبذا لو وضعه في أول المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 واحتج بأن اللفظ تضمن إيجاب الفعل فحسب، ولم يتضمن إجزاءه وسقوط الفرض، فاحتاج في ذلك إلى دليل. والجواب: أن اللفظ تضمن إيجاده، فإذا أوجده امتثل ما أمره به وبرأت ذمته من1 حكم الأمر، فعاد إلى ما كان عليه قبل توجه الأمر ولم يبق شيء يحتاج فيه إلى دليل.   1 في الأصل "عن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 مسألة 2: [ الواجب المخير ] : إذا ورد الأمر بأشياء على طريق التخيير، كالكفارات3 الثلاث ونحوها، فالواجب واحد [36/ ب] منها بغير عينه، فيتعين ذلك بفعله، فيصير كأنه الواجب عليه بنفس السبب. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية البغوي4: كل شيء في كتاب الله تعالى "أو" فهو تخيير وهو قول جماعة الفقهاء وأصحاب الأشعري. وذهب المعتزلة إلى أن الجميع واجب على طريق التخيير5.   1 في الأصل "عن". 2 راجع في هذه المسألة: التمهيد، الورقة "44/ ب-46/ ب"، والمسودة "ص: 27-28"، روضة الناظر "ص: 17"، وشرح الكوك المنير "ص: 118- 120" والفصول في أصول الفقه، للجصاص، الورقة "105" وما بعدها. 3 في الأصل: "كالعبادات". 4 هو إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن أبو يعقوب، المعروف بالبغوي، يلقب "لؤلؤًا"، من أصحاب الإمام أحمد الذين تفقهوا عليه، ونقلوا عنه فقهه. صدوق، ثقة. مات سنة: 259هـ. له ترجمة في "طبقات الحنابلة "1/ 109، 110". 5 هكذا صرح به عبد الجبار في المغني، قسم الشرعيات "ص: 123"، كما صرح به أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد في أصول الفقه" ونقله عن شيخيه أبي علي وأبي هشام "1/ 87". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وكان الكرخي مرة ينصر هذا، ومرة ينصر مثل ما حكيناه عن جماعة الفقهاء1. ومن الناس من قال: هذا خلاف في عبارة، لا في معنى؛ لأنهم وإن قالوا: الجميع واجب، فإنه إذا أتى بواحدة أجزأه. وإذا فعل الجميع في وقت واحد، فإن الواجب منها واحد، والثواب يستحق على واحد، وإذا ترك الجميع استحق العقوبة على واحد. وهذا القائل يقول: وإن كان كلامنا في عبارة فهو مفيد؛ لأنَّا نخطئهم في إطلاق اسم الواجب على الجميع. ومنهم من قال: خلاف في معنى؛ لأن من قال: الواجب منها واحد بغير عينه، فإنه يجعل من حلف أنه لم يجب عليه بالحنث جميع الأشياء الثلاثة بارًّا في يمينه. ومن أوجبها جعله حنثًا في يمينه. ولأن من قال: الواجب واحد من الجملة غير معين، فإنه يقول: المراد من المكلف واحد من الجملة، وفي معلوم الباري تعالى أنه لا يعدل عنه إلى غيره. ومن زعم أن الجميع واجب، فإنه يقول: إنه قد أراد كل واحد من الثلاثة كما أراد الآخر، وكره ترك كل واحد كما لو كره ترك الآخر، وهذا خلاف في المعنى.   1 هكذا في المسودة "ص: 27"، وقد نقله من "العدة" على ما يظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 دليلنا على أن الواجب واحد منها أشياء: منها: أن من قال لآخر: الْقِ زيدًا أو عمرًا، لم يفهم أحد وجوب لقائهما، ولو قال: تصدق من مالي بدرهم أو دينار، لم يعلم وجوب فعلهما، ولهذا المعنى استحق المأمور أن يذم بإخراج الأمرين من ماله، ولو كانا واجبين لم يستحق الفاعل ذمًّا بفعل الواجب؛ ولأن الأمر بالشيء بمنزلة الإخبار عنه. ثم ثبت أن القائل إذا قال: ضرب زيد عمرًا أو خالدًا، كان إخبارًا عن ضرب واحد، وكذلك الأمر إذا كان على هذا الوجه. وأيضًا لو فعل الجميع لم يكن الواجب إلا واحدًا من الجملة، فلو كان الجميع واجبًا قبل الإيقاع، لكان متى تعين بالفعل وقع على الصفة التي كان عليها قبل الإيقاع، ألا ترى الذي تعين فعله لا يجوز أن تخالف صفته حال الإيقاع لما تعلق به الأمر، مثل سائر الواجبات التي ثبتت من غير تخيير، ولما ثبت أن الواحد منها يقع واجبًا دلَّ على أن الواجب واحد منها. فإن قيل: إنما لم يقع جميعها واجبًا؛ لأنها كانت واجبة على التخيير. قيل: المفعول يقع عن1 الواجب كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه، ألا ترى أن من خير في تعيين الحرية في أحد عبديه وأداء الصلاة في أول الوقت، فإنه واجب مخير فيه، ولو فعله لوقع ذلك عن الواجب، كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه. فإن قيل: الثلاث كفارات قبل الإيقاع، [36/ ب] ومتى أوقعها كانت الكفارة واحدة كذلك حكم الوجوب.   1 في الأصل: "من". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 قيل: قولنا: كفارة عبارة عن الواجب، وهذا الاسم لا يصح إطلاقه، وإنما يتجوز بالعبارات، فنقول: إنها كفارات، بمعنى أن كل واحد منها1 يقع به التكفير متى اختاره المكلف. ويجوز أن يسمى الجميع كفارات، ويراد به في حق المكلفين؛ لأن الواحد قد يختار العتق، وآخر الإطعام، فأما حق الواحد فلا يقال ذلك فيه إلا على طريق الاتساع. وأيضًا: فإنه لو ترك الثلاثة استحق العقاب على واحد، فدلَّ: أن الواجب واحد منها، يدل على صحة ذلك: أن فرض الكفاية على التخيير؛ لأن كل واحد منهم إذا فعله أجزأه، ومع ذلك إذا تركه الكل حرجوا وأثموا واستحقوا العقاب، كما إذا كان واجبًا على الجميع، وكذلك لو كان له على رجل ألف درهم، فضمنه عنه ضامن، وجب له الألف على كل واحد منهما على التخيير، وإذا تركا جميعًا قضاءه استحقا العقوبة، فلو كان جميع الثلاثة واجبًا، لوجب أن يستحق تاركها العقاب على جميعها، ولما أجمعنا على أنه يستحق العقاب على واحد منها2، وجب أن يكون الواحد منها3 واجبًا. فإن قيل: إذا فعل الجميع أو واحدًا استحال التخيير، فلو قلنا: إن الجميع واجب؛ لأدى إلى أن يكون واجبًا على طريق الجميع، وكذلك إذا ترك الجميع لو قلنا: يعاقب على ترك الجميع أدى إلى هذا المعنى، وهذا غير سائغ، وإنما يسوغ التخيير فيما لم يوجده، وهو قادر على إيجاده. قيل: قد أجبنا عن هذا فيما تقدم، وقلنا: المفعول في المتروك يقع عن الواجب، كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه، ألا ترى أن من خُيِّر في   1 في الأصل: "منهما". 2 في الأصل "منهما". 3 في الأصل: "منهما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 تعيين الحرية في أحد عبديه وأداء الصلاة في أول الوقت، فإنه واجب مخيَّر فيه، ولو فعله أو تركه، كان حكمه حكم ما لم يكن مخيرًا؟ فإن قيل: لا يحوز اعتبار الوجوب باستحقاق العقاب؛ لأنه إذا أمكنه فعل كل واحد من الأنواع، فلم يخرج تعلق العقاب بأقلها، وهذا متعين قبل تركها، والواجب منها غير معين، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر. قيل: لا نعين العقاب في واحد منها1. ثم نقول: يستحق على واجب واحد بغير عينه عقابًا، هو بقدر أقلها عقابًا، فأما أن نعين الاستحقاق في أقلها عقابًا فلا. وأيضًا: فإن هذا القول يؤدي إلى أن من وجب عليه مُدٌّ من طعام وفي ملكه عشرة آلاف2 مد، وهو مخيَّر في إخراج كل واحد منها: أن يكون الواجب عليه عشرة آلاف3 مد، وأن من وجب عليه شراء رقبة للكفارة، وهو يقدر على شراء كل واحدة من رقاب البلد: أن يكون قد وجب عليه أن يشتري للكفارة جميع رقاب البلد. وإذا وجبت عليه خمسة دارهم في مائتي درهم وجب أن يكون قد وجب إخراج جميع [37/ أ] المائتين؛ لأنه مخير في إخراج كل خمسة منها، وهذا خلاف إجماع المسلمين، وكل قول أدى إلى ذلك فهو باطل مردود. واحتج المخالف: بأن الأمر يتناول كل واحد كتناوله للآخر، فقد تساويا من هذا الوجه، وتساويا في أن المصلحة في كل واحد كالمصلحة في الآخر، وفي   1 في الأصل: "منهما". 2 في الأصل: "ألف" بالإفراد. 3 في الأصل: "ألف" بالإفراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أن الآمر أراده، وأنه إذا كفر وقع موقعه، فإذا كان أحدهما واجبًا كان الآخر كذلك. والجواب عن قولهم: أن الأمر تناول كل واحد، وأن ذلك مراد للآمر، فلا نسلم هذا، بل الأمر تناول واحدًا لا بعينه، والآمر أراد واحدًا لا بعينه، وعلى أن الأمر والإيجاب لا يدلان على الإرادة عندنا. وقولهم: إن المصلحة في كل واحد كالمصلحة في الآخر، فهذا لا يدل على أن الوجوب يعمها1، ألا ترى أن الله تعالى قد تعهد بإخراج الصدقات إلى المساكين، وجعل الخيار في وضعها فيهم إلى أرباب الأموال، فيكون له أن يعطي من يشاء من المساكين كالمصلحة في دفعها إلى غيره منهم. وكذلك يجب عليه في مائتين خمسة دراهم شائعة، ولرب المال إخراج أي خمسة شاء منها، ولا يكون هذا دلالة على إيجاب إخراج كل خمسة منها مع تساويها في المصلحة. وقولهم: إنه إذا كفر بأحدهما وقع موقعه، كما لو كفر بالآخر، فهذا لا يدل على إيجابهما كما ذكرنا في الدفع إلى أحد الفقراء، الأداء يقع بالدفع إلى كل واحد، ولا يجب الدفع إلى الجميع. وكذلك إخراج خمسة من مائتين كل خمسة من ذلك مساوية للأخرى في الأداء. ولا يجب إخراج الجميع. واحتج بأنه لو كان الواجب واحدًا لنصب الله عليه دليلا، وميَّزه عما ليس بواجب، ولهذا يطلبه. والجواب: أنه إنما يجب هذا إذا كان الواجب معينًا قبل الفعل، فينصب عليه دليلا؛ ليتوصل المأمور إلى معرفته، فأما إذا لم يكن معينًا وإنما   1 في الأصل: "يعمهما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 يتعين بفعله فلا حاجة به إلى تبين؛ لأن ما يؤدي به فرضه هو الذي يختار فعله منها. وجواب آخر وهو: أن ما يستحق العقاب على تركه والثواب على فعله واحد، ولم يجب نصب الدليل عليه، فكل جواب لك عنه فهو جوابنا عن الواجب الواحد. وجواب آخر وهو: أن المستحق عتق عبد من عبيد الدنيا، وإطعام عشرة من فقراء دار الإسلام، وإن لم يدل الأمر على أعيانهم، وكذلك تعتبر الزكاة في خمس من ماله لم يدل عليه، وإن كان هذا القدر هو الواجب عليه. وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن يكون الواجب واحدًا من الجملة، وفي معلوم الله تعالى أن المكلف لا يعدل عنه إلى غيره، فيجوز أن يخيَّره في ذلك، ويكون القصد تعريضه للثواب في طلبه لما هو الأولى [37/ ب] والأفضل عنده، ويصير بمنزلة فرض الإمامة أنه يتعلق بواحد والخيار إلى الأمة في اختياره وتعيينه، وإن لم تقم دلالة على عينه، وكذلك العدل من الشهود. واحتج بأنه لا يجوز أن يقال: إن الواجب واحد من الجملة؛ لأنه لا يعرف ما هو الأصلح. والجواب: أن الباري -سبحانه- لو نصَّ فقال: أوجبت عليك أيها المكلف واحدًا من هذه الجملة، وقد علمت أنك لا تختار إلا ما هو المراد منك والواجب عليك، جاز. فإن قيل: فيجب أن يخبر الإنسان بين تصديق المنبأ ومن هو متنبئ، قيل: لو لزم هذا للزم المخالف، إذا قال في مقدار الزكاة: الخيار إلى المالك في أن يعينه في أي مال شاء، وكذلك إذا قال: الخيار إليه في تعيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الدفع إلى أي فقير شاء. وكذلك في اختيار الإمام وتمييزه ممن ليس بإمام. ومن الناس من أجاز ذلك إذا كان في معلوم الله تعالى: أن المكلف لا يختار إلا الإيمان بمن هو نبي، مثل الإمامة، ومن منع ذلك فرَّق بين الأمرين: بأن تصديق المتنبئ معصية وكذب، فغير جائز أن يخير بين أن يكذب أو يصدق، وبين أن يطيع أو يعصي، وأما في الأشياء المأمور بها على وجه التخيير فجميعها يجوز أن تجمع في الفعل، فجاز أن يقف على اختياره. واحتج: بأن التخيير يقع بين الأشياء المتساوية، ومتى لم تكن واجبة زال هذا المعنى. والجواب: أن الجملة متساوية في أن كل واحد منهما يجزئ عن الواجب متى اختاره المكلف. فإن قيل: المكلف قد يختار واحدًا من الجملة ثم يعدل عنه إلى غيره. قيل: متى اختار تعيين الواجب في واحد وقف حكمه على إيجاده، فإذا أوجد الثاني تبينَّا أن الذي أريد ذلك دون غيره، مثل أن يعطي زكاة ماله أي فقير، بعد أن أراد تعيينه إلى آخر، وكذلك إذا أرادت الأمَّةُ تقليدَ واحد الإمامةَ فرأت غيره أحق منه بعد ذلك. واحتج: بأنه لو كان الواجب واحدًا من الجملة، كان إذا فعل غيره لم يقع موقع الواجب. والجواب أنا نقول: الواجب غير معين، وهو ما يختاره المكلف، فتعينه بفعله، فيقول القائل: إذا عدل عن غيره أو فعل غيره محال، وإذا كان تعيين الوجوب موقوفًا على فعله وتعيينه بطل اعتبار العدول، ولو صح هذا الاعتبار لوجب إذا نذر الواحد عتق عبد من عبيده أن يكون الواجب عليه عتق جميع عبيده، ومن طلق واحدة من نسائه أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الواجب عليه طلاق جميعهن، وكذلك من وجب [عليه] زكاة خمسة دراهم، أن يكون الواجب عليه أن يتصدق بها على جميع فقراء الدنيا، وكذلك من وجبت عليه خمسة دراهم أن يلزمه أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن له العدول من بعض إلى بعض، [38/ أ] فسقط ما قالوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الواجب الموسع مدخل ... مسألة: [الواجب الموسَّع] : 1 العبادة إذا تعلقت بوقت موسع كالصلاة، فإن وجوبها يتعلق بجميع الوقت وجوبًا موسعًا، وله تأخيرها إلى آخره. وقد نص أصحابنا على هذا في الصلاة، خلافًا لأصحاب أبي حنيفة: يتعلق الوجوب بآخر الوقت. واختلفوا فيما يفعله في أوله. فمنهم من قال: إنه تطوع يقع2 الواجب في آخره. ومنهم من قال: إن ذلك يقع مراعًا، فإن جاء آخر الوقت، وهو من أهل تلك العبادة، علمنا أنه فعله واجبًا، وإن كان بخلاف ذلك [علمنا] أنه فعله نفلا. وقال الكرخي: الوجوب يتضمن تأخر الوقت، أو بالدخول في العبادة قبل ذلك3.   1 راجع هذه المسألة في: كتاب التمهيد، الورقة "32/ ب-34/ أ"، وكتاب الواضح، الجزء الأول، الورقة "280/ أ-283/ ب"، والمسودة "ص: 28، 29"، وروضة الناظر "ص: 17"، وشرح الكوكب المنير "ص: 118-120". 2 في الأصل: "يمنع"، وقد صوبه الناسخ في الهامش بما أثبتناه. 3 عبارة الكرخي في المسودة "ص: 29" هكذا: "وقال الكرخي: الوجوب يتعلق بآخر الوقت، أو بالدخول في الصلاة قبله"، وهي أوضح مما هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وهذا الخلاف يفيد حكمين، وليس بخلاف في عبارة؛ لأنَّا لا نجيز له تأخير الفعل عن أول الوقت إلى آخره، إلا بشرط العزم1. والثاني: أن الفعل إذا كان مما يجب قضاؤه، فإذا دخل الوقت ثم زال التكليف بجنون أو بحيض حتى فات وقته، وجب قضاؤه على قولنا. وعندهم له التأخير بغير عزم، ولا قضاء عليه. وحكي عن بعض المتكلمين أنه غير متعين2، وإنما يتعين بالفعل كالكفارات. دليلنا: أن فعلها في أول الوقت بحكم الأمر، ألا ترى أن ما قبل الوقت وبعده لما لم يتناوله الأمر لم يجز له فعلها فيه بحق الأمر، وإذا كانت مفعولة بحق الأمر وجب أن يكون الفعل واجبًا؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب، ولا يلزم عليه فعل الزكاة قبل الحول أنه يجوز، ولا يقتضي الوجوب؛ لأن تحصيلها لم يحصل بحكم الأمر المقتضي للوجوب، وإنما كان بحكم الأمر المقتضي للرخصة، وهو حديث العباس3، لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعجيل الصدقة   1 يظهر من كلام المؤلف هنا: أنه يشترط العزم على الفعل في حالة ما إذا لم يفعل الواجب الموسَّع في أول وقته، وهذا خلاف ما اختاره في كتاب الكفاية، كما نقل عنه في المسودة "ص: 29" فإنه لم يشترط العزم. 2 ومعنى هذا أنه يجب في جزء من الوقت غير معين. 3 هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، عم النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو الفضل، كان مكرمًا عظيم المنزلة عند النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه، مات بالمدينة سنة: 32هـ، ودفن بالبقيع، وعمره: "88" سنة. وصلى على جنازته عثمان، رضي الله عن الجميع. له ترجمة في: الاستيعاب "2/ 810-817" والإصابة، القسم الثالث "ص: 631" طبعة دار نهضة مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 قبل أن تحل، فرخص له في ذلك1، وليس كذلك ههنا، فإنها تفعل في أول الوقت بالأمر الذي يفعل [به] في آخره، وذلك مقتضى الوجوب. وليس لهم أن يقولوا: إن الأمر بتناول الوقت في باب الجواز، لما بينَّا، وهو أنه تناول بالأمر الذي تناول آخره، وهو قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 2، أو صلاة جبريل في أول الوقت وآخره 3. ولأن إطلاق الأمر يقتضي الوجوب، وإطلاقه يقتضي الفور عندنا   1 هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه: أبو داود في كتاب الزكاة، باب في تعجيل الزكاة "1/ 376". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في تعجيل الزكاة "3/ 54". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب تعجيل الزكاة "1/ 72- 75". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب تعجيل الصدقة قبل الحول "2/ 122". 2 "78" سورة الإسراء. 3 حديث صلاة جبريل -عليه السلام- بالنبي -صلى الله عليه وسلم- رواه جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وجابر وأبو سعيد الخدري وبريدة وأنس بن مالك، رضي الله عنهم أجمعين. ارجع في ذلك إلى: سنن الترمذي، في كتاب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة "1/ 278- 283". وسنن أبي داود في كتاب الصلاة، باب المواقيت "1/ 93، 94"، وسنن ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب مواقيت الصلاة "1/ 220"، وسنن النسائي في أول كتاب المواقيت "1/ 197"، وفي باب: آخر وقت الظهر، وفي باب: أول وقت العصر "1/ 200، 201"، وسنن الشافعي مع مسنده "بدائع المنن" في كتاب الصلاة، باب جامع أوقات الصلاة "1/ 46- 48"، وسنن الدارقطني في كتاب الصلاة "1/ 250"، وسنن الدارمي في كتاب الصلاة، باب في مواقيت الصلاة "1/ 213، 214"، وتلخيص الحبير "1/ 173، 174". ونصب الراية "1/ 221- 226". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وعندهم، وهذا قد وجد في أول الوقت. وأيضًا: فإنها إذا فعلت في أول الوقت لم يَخْلُ: إما أن تكون مفعولة في وقت وجوبها الموسع، أو في وقت وجوبها المضيق، كما حكي عن بعض، أو وقعت نفلا، أو قبل الوجوب فيراعى حالها، ولا يجوز أن تكون فعلت في أول وقت الوجوب المضيق؛ لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يجوز فعلها بنية النفل، ويكون ذلك أولى بالجواز من نية الفرض؛ ولأنها لو كانت نفلا لم يسقط بها فرض كمن تصدق عن نافلة لا تسقط زكاته، وكذلك من صلى نافلة في أول الوقت لم يسقط بها الفرض في أول الوقت، [38/ ب] فلا يجوز أن تقع مراعاة؛ لأن عبادات الأبدان المقصودة لا يجوز تقديمها على حالة وجوبها من غير عذر، وإذا بطل هذا ثبت أنها فعلت في وقت وجوبها الموسَّع، ولا يلزم عليه الطهارة1؛ لأنها غير مقصودة، ولا يلزم عليه الصيام في الكفارة؛ لأنه غير مقصود، ألا ترى أنه لا يثبت حكمه إلا بعد عدم المال؟   1 في الأصل: "الطهارة"، وقد صوب الناسخ ذلك في الهامش كما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لو تعلق وجوبها بأول الوقت، لم يجز1 تركها لا إلى بدل؛ لأن هذه صفة الوجوب، وفي اتفاقهم على جواز تأخيرها في الوقت الأول لا إلى بدل دليل على أن الوجوب [لا] يتعلق بأول الوقت. والجواب: أنا لا نسلم أنه يجوز تركها لا إلى بدل، بل له أن يؤخرها بشرط أن يعزم على فعلها في الوقت الثاني، فيكون عزمه على ذلك بدلا عنها. فإن قيل: الأبدال لا يجوز إثباتها من غير دلالة تدل عليها، ألا ترى   1 في الأصل: "يجب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أنه لا يجوز إثبات بدل من الماء غير التيمم، وكذلك سائر العبادات لا يجوز إثبات بدل عنها بغير دلالة. قيل: الدلالة على ذلك أنا لو قلنا: له التأخير من غير شرط العزم، سوَّينا بينها وبين النافلة والمباح؛ لأن له تأخيرها من غير شرط العزم، وقد أجمعنا على الفرق بين الواجب وبين النافلة والمباح، فلا يحصل الفرق إلا بما ذكرنا. فإن قيل: البدل: ما يفعل لتعذر المثل، وفعل الصلاة في أول الوقت ليس بمتعذر، فلا يكون له بدل. قيل: المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، وكذلك المسح على العمامة، ويجوز فعلها مع القدرة على المبدل. وجواب آخر عن أصل الدليل وهو: أنه منتقض بالمسافر، فإنه مخيَّر بين فعل صوم رمضان وبين تركه لا إلى بدل على ما قرر المخالف، ومع هذا فهو واجب، وكذلك قضاء رمضان يجوز تقديمه وتأخيره، وهو واجب في ذمته، ولأن ترك النافلة جائز، وما خيِّر بين فعله وتركه لا يكون واجبًا، وليس كذلك هذا الفعل، فإنه مخيَّر بين تقديمه وتأخيره، ولا يجوز تركه أصلا، فدل على الفرق بينهما. واحتج: بأنها لو كانت واجبة في أول الوقت لأثم بتأخيرها عنه كتأخير الصوم والزكاة والحج. والجواب: أنه إنما لم يأثم بتأخيرها عن أول وقتها؛ لأن وجوبها موسَّع، وتلك العبادات وجوبها مضيق، وعلى أن هذا لو كان صحيحًا لوجب أن يثبت الوجوب في الحالة التي يلحقه المأثم، وهو إذا بقي من الوقت قدر ما يصلي فيه الصلاة، وعندهم يأثم بالتأخير عن هذه الحالة، والوجوب متبقٍ1 كذلك ههنا.   1 في الأصل: "متبقي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وأما من شبَّه ذلك بالكفارة، فهو الدليل عليه؛ لأن الكفارة واجبة عليه من حين الحنث في يمينه، وبأي نوع من أنواع الكفارة كفر [39/ أ] كان وجوب الكفارة سابقًا لفعله، وكان مؤديًا لما سبق وجوبه، كذلك يجب أن يكون في أول وقت من أوقاته فعل، أن يكون فاعلا لما سبق وجوبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 مسألة المريض ومن في حكمه يجب عليهم الصيام في وقته مع جواز التأخير مدخل ... مسألة: [المريض ومن في حكمه يجب عليهم الصيام في وقته مع جواز التأخير] : 1 المريض والمسافر والحائض يلزمهم الصيام، وإن جاز لهم تأخيره، وإذا فعلوا بعد زوال العذر كان قضاء عن الواجب الذي لزمهم. وقد قال أحمد -رضي الله عنه- في رواية الأثرم، وقد سئل عن المجنون يفيق يقضي ما فاته من الصوم؟ فقال: "المجنون غير المغمى عليه، قيل له: لأن المجنون رفع عنه القلم، قال: نعم." فأسقط القضاء عن المجنون، وجعل له فيه رفع القلم، فاقتضى أنه غير مرفوع عن المغمى عليه. وقال أيضًا -رحمه الله- في رواية حنبل في النصراني يسلم في النصف من رمضان، واليهودي، أو الصبي يدرك في آخر الشهر من رمضان؟ فقال: "يصوم ما بقي ولا يقضي ما مضى؛ لأنه لم يجب عليه شيء، إنما حدثت الأحكام عليه." فأسقط القضاء عنهم، وجعل العلة عدم الإيجاب، فاقتضى هذا أن من وجب عليه القضاء، قد كان واجبًا عليه. خلافًا لأصحاب أبي حنيفة في قوله: الصوم غير واجب عليهم في   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" "ص: 29"، و"الواضح" لابن عقيل، الجزء الأول، الورقة "288". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الحال، وإنما يلزمهم عند زوال العذر 1. وخلافًا للأشعرية في قولهم: المسافر يلزمه الصيام، فإن فعله أجزأه وإن أخره عنه جَازَ. وأما المريض والحائض فلا يلزمهم قضاء الصيام، إنما يلزمهم2 بعد ذلك.   1 راجع في هذا: التقرير والتحبير "2/ 188"، وتيسير التحرير "2/ 280، 281". 2 هكذا في الأصل في الموضعين، والأولى الإتيان بالضمير مثنى فيقال: "يلزمهما" في الموضعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 دليلنا : قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} 1 وتقدير الآية: فأفطر، فأوجب العدة بالفطر، وعندهم: ما وجبت بالفطر، وإنما وجبت بمعنىً آخر، وهذا دلالة على وجوب الصوم على المريض والمسافر. ولأن العبادة إذا كانت مأمورًا بها في وقت محصور، فإذا لم يجب فعلها فيه، لم يجب عليه أن لا يعود وقت مثلها، كالصلاة في حق الحائض، لما لم تجب في وقت، لم تجب حتى يعود وقت مثلها، فلما ثبت في الصوم أنه يجب قبل مجيء وقت مثله2، ثبت أنه وجب القضاء بالتأخير، فهو كما لو أفطر بغير عذر. وأيضًا: فإنما يأتي به المريض والمسافر والحائض من الصوم بعد زوال العذر، يسمى قضاء، فلولا أنه بدل عن واجب تقدم لما سُمِّيَ بذلك. [فإن قيل: إنما سمي بذلك] 3 مجازًا.   1 "185" سورة البقرة. 2 في الأصل: "مثلها". 3 ما بين القوسين ليس في الأصل، وإنما صححه ابن حمدان بخط يده، كما ذكر الناسخ ذلك في الهامش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 قيل: الأصل في كلامهم الحقيقة، فمدعي المجاز يحتاج إلى دليل. وقد روي عن عائشة1 -رضي الله عنها- أنها قالت: كنا نقضي ما فاتنا من رمضان في شعبان اشتغالا برسول [الله] 2. وفي خبر آخر: كنا نؤمر بقضاء رمضان"3، وظاهر التسمية الحقيقة.   1 هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- تزوج بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة بثلاث سنوات، وأعرس بها في المدينة بعد ثمانية عشر شهرًا من الهجرة. مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمرها ثماني عشرة سنة. ماتت سنة: 57هـ، بالمدينة. لها ترجمة في الاستيعاب "4/ 1881"، والإصابة، القسم الثامن، "ص: 16" طبعة دار نهضة مصر. 2 حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا، أخرجه عنها البخاري في كتاب الصوم، باب متى يقضى قضاء رمضان "3/ 43". وأخرجه عنها مسلم في كتاب الصيام، باب قضاء رمضان في شعبان "2/ 802". وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الصيام، باب تأخير قضاء رمضان "1/ 559". وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في تأخير قضاء رمضان "3/ 143". وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في قضاء رمضان "1/ 533". وأخرجه عنها النسائي في كتاب الصيام، باب وضع الصيام عن الحائض "4/ 162". 3 هذا الخبر روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا. أخرجه عنها مسلم في كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة "1/ 265". وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الحائض لا تقضي الصلاة "1/ 60". وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في قضاء الحائض الصيام دون الصلاة "3/ 145". وأخرجه عنها النسائي في كتاب الصيام، باب وضع الصيام عن الحائض "4/ 162". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ولأن ما فعل بعد زوال العذر يعتبر قدره بقدر الأصل، ويؤتى به على مثاله، فثبت أنه بدل عنه؛ ولأنه يؤمر بنية القضاء. واحتج المخالف: بأنه لو كان واجبًا لما جاز تركه، ولأَثِمَ بتأخيره. والجواب [39/ ب] أنه إنما جاز تأخيره؛ لأن وجوبه موسَّع، وعلى أنَّا قد أبطلنا هذا في المسألة التي قبلها. واحتج: بأن الحائض لا يتأتى منها فعل الصوم بحال، فلا يجوز أن تؤمر بما لا يتأتى منها. والجواب: أنه قد يؤمر في الشرع بفعل عبادة، وإن كان في الحال لا يصح منه فعلها، كالمحدث يؤمر بفعل الصلاة، ولا يصح منه الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 مسألة الأمر للنبي أمر لأمته مدخل ... مسألة: [الأمر للنبي أمر لأمته] : 1 إذا أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بفعل عبادة بلفظ ليس فيه تخصيص، نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} 2، و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} 3، أو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلا قد عرف أنه واجب أو ندب أو مباح، فإن أمته يشاركونه في حكم ذلك الأمر والفعل، حتى يدل دليل على تخصيصه. وكذلك الحكم إذا توجه على واحد دخل غيره في حكمه، نحو:   1 راجع هذه المسألة في: المسودة "ص: 31، 32"، وروضة الناظر "108-110"، وشرح الكوكب المنير "ص: 167-169"، فإن مؤلفيها قد اعتمدوا على القاضي أبي يعلى كثيرًا. 2 "1" سورة المزمل. 3 "64" سورة الأنفال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 رَجْمِ1 ماعز2، وقطع سارق3 رداء صفوان4 ونحو ذلك.   1 قصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي -رضي الله عنه- أخرجها البخاري في كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت عن ابن عباس -رضي الله عنهما "8/ 207". وأخرجها مسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا عن ابن عباس وعن أبي سعيد الخدري "3/ 1320، 1321". وأخرجها الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، عن أبي هريرة "4/ 36". وأخرجها أبو داود في كتاب الحدود، باب الرجم عن ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما "2/ 456". وأخرجها ابن ماجه في كتاب الحدود، باب الرجم عن أبي هريرة "2/ 854". وأخرجها الطيالسي في كتاب الحدود، باب اعتبار الإقرار بالزنا وتكراره أربعًا، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهما "1/ 299". وراجع أيضًا: نصب الراية "3/ 312- 317". 2 هو ماعز بن مالك الأسلمي، أبو عبد الله، صحابي جليل، عداده في المدنيين. روى عنه ابنه عبد الله حديثًا واحدًا. له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 1345"، والإصابة، القسم الخامس "ص: 705" طبعة دار نهضة مصر. 3 حديث قطعه صلى الله عليه وسلم يدَ سارقِ رداءِ صفوانَ، رواه صفوان بن أمية -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الحدود، باب فيمن سرق من حرز "2/ 450". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب من سرق من الحرز "2/ 865". وأخرجه عنه النسائي في كتاب قطع السارق، باب الرجل يتجاوز للسارق عن سرقته "8/ 60، 61". وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان "4/ 158". وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/ 368، 369". 4 هو صفوان بن أمية بن خلف. القرشي الجمحي، أبو وهب، ويقال: أبو أمية. أسلم بعد الفتح. أحد المؤلفة قلوبهم، وقد حسن إسلامه. مات بمكة المكرمة سنة: 42هـ، له ترجمة في: الاستيعاب "2/ 718"، والإصابة، القسم الثالث، ص: 432، طبعة دار نهضة مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وكذلك إذا توجه الخطاب إلى الصحابة -رضي الله عنهم- دخل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض عليكم" 2،ونحو ذلك. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية أبي طالب3 في رجل قال: إن أكلت هذا الطعام فهو علي حرام، فإن أكله عليه كفارة يمين، حديث عائشة وحفصة4، لما قالتا للنبي -صلى الله عليه وسلم: نشم منك رائحة معافر5، قال: "لا،   1 "103" سورة التوبة. 2 هذه العبارة تَرِدُ في عدة أحاديث، ومنها على سبيل المثال: ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، بلفظ: "يا أيُّهَا الناسُ قد فُرِضَ عليكم الحجُّ، فحجوا ... " "2/ 975"، وكلام المؤلف يشعر بأنها آية، حيث عطف كلمة "قوله" على: "قوله تعالى"، وليس الأمر كذلك. 3 هو أحمد بن حميد أبو طالب المشكاتي، من أصحاب الإمام أحمد الذين رَوَوْا عنه مسائل كثيرة، كان أحمد يكرمه، كما كان رجلا صالِحًا زاهدًا. مات قريبًا من موت الإمام أحمد. انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "1/ 39". 4 هي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- تزوجها الرسول -عليه الصلاة والسلام- سنة: 3هـ، عند الأكثر، ماتت سنة: 41 هـ، وقيل سنة: 45هـ. انظر ترجمتها في الاستيعاب: "4/ 1811"، والإصابة، القسم السابع، ص: 581، طبعة دار نهضة مصر. 5 هكذا في الأصل: "معافر" بالعين المهملة على وزن: مفاعل، والذي في صحيح البخاري ومسلم: "مغافير" بالغين المعجمة على وزن: مفاعيل، وكذلك الشأن في محاسن التأويل للقاسمي: "16/ 5853"، وأحكام القرآن للجصاص "5/ 362"، ومفاتيح الغيب للفخر الرَّازي "3/ 41". و"المغافير" -كما قال القاسمي في المرجع السابق-: "صمغ حلو، له رائحة كريهة، ينضحه شجر يقال له: العُرْفُطُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 بل شربت عسلا، ولن أعود إليه"، فأنزل الله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} 1، وإنما كان شرب عسلا2. وقال أيضًا فيمن حرم أَمَته: عليه كفارة. واحتج: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرم مارية القبطية3، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} 4. وهذا يدل من   1 "1" سورة التحريم. 2 هذه الرواية في سبب نزول الآية، أخرجها البخاري في كتاب التفسير، باب سورة التحريم "6/ 194". كما أخرجها مسلم في كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم يَنْوِ الطلاق "2/ 1100". وراجع في سبب نزول هذه الآية: تفسير القرآن العظيم لابن كثير "4/ 387". 3 هي مارية بنت شمعون القبطية، مولاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأم ولده إبراهيم، أهداها إليه المقوقس. توفيت سنة: 16هـ، ودفنت بالبقيع، وصلى عليها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. انظر ترجمتها في: الاستيعاب "4/ 1912، 1913"، والإصابة، القسم الثامن "ص: 111" طبعة دار نهضة مصر. 4 "1" سورة التحريم. وكون هذه الآية نزلت في قصة مارية القبطية -رضي الله عنها- لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، إلا أن إسناده صحيح، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره "4/ 386". وقد رجح كون قصة مارية سببًا لنزول الآية -جمالُ الدين القاسمي في تفسيره محاسن التأويل "16/ 5855". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 كلام أحمد رحمه الله: أن النبي إذا أمر بفعل شيء شاركته أمَّته فيه؛ لأنه احتج في إيجاب الكفارة على من حرم طعامه: بأمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالكفارة، لما حرم العسل، ولم يجعل ذلك خاصًّا في حقه؛ لأن الخطاب تناوله. وقال أيضًا في رواية الأثرم: لا يتطوع قبل صلاة العيد ولا بعدها، وذكر الحديث يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصلِّ قبلها ولا بعدها1، فجعل فعله حجة على أمته.   = وهناك رأي لابن جرير الطبري مَفَاده: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حرم شيئًا على نفسه كان حلالا له. وهذا الحلال جائز أن يكون مارية، وجائز أن يكون شيئًا من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، فأنزل الله تعالى الآية. تفسير الطبري "28/ 158" طبعة الحلبي. وقد قال بعضهم: إنهما واقعتان، وقد ذكر ذلك ابن كثير، وأَرْدَفَهُ بقوله: إلا أن كونهما سببًا لنزول هذه الآية فيه نظر. تفسير ابن كثير "4/ 387". وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن سبب نزول الآية: قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم، نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "4/ 387، 388"، وعقَّب عليه بقوله: وهذا قول غريب. والذي يفهم من الروايتين المذكورتين عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه يقول بأن كلتا الحادثتين سبب لنزول الآية. 1 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب العيدين، باب الصلاة قبل العيد وبعدها "2/ 29". وأخرجه عنه مسلم في كتاب صلاة العيدين، باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى "2/ 606". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء لا صلاة قبل العيد ولا بعدها "2/ 417". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد صلاة العيد "1/ 364". وأخرجه عنه النسائي في كتاب صلاة العيدين، باب الصلاة قبل العيدين وبعدها = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وقال أيضًا في رواية محمد بن موسى1، وقد سئل عن قوم ينهون عن رفع اليدين في الصلاة، فقال: لا ينهاك إلا مبتدع، فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك2.   1 هو محمد بن موسى بن أبي موسى النهرتيري البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد، وكان ثقة صالِحًا جليلا، نقل عن الإمام أحمد مسائل كبار جِيَاد. انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "1/ 323، 324". 2 الأحاديث الواردة في رفع اليدين في الصلاة كثيرة، ربما تبلغ حدَّ التواتر كما يقول السيوطي. ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح "2/ 220" عن شيخه العراقي: "أنه تتبع من رواه من الصحابة، فبلغوا خمسين رجلا". وقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء عن ابن عمر ومالك بن الحويرث -رضي الله عنهما- ولفظ حديث ابن عمر هو: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول: "سمع الله لمن حمده"، ولا يفعل ذلك في السجود" "1/ 178". وأخرجه عنهما مسلم في كتاب الصلاة، باب في استحباب رفع اليدين "1/ 292، 293". وعن ابن عمر أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع "2/ 35-40". وعن ابن عمر ووائل بن حجر أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 خلافًا للأشعرية وبعض الشافعية في قولهم: يختص ذلك بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولمن واجهه بالخطاب، ولا يدخل النبي فيما كان خطابًا للصحابة1. وذكر أبو الحسن التميمي من أصحابنا من جملة مسائل من الأصول: أن الأمر إذا توجه إلى واحد، لم يدخل غيره فيه بإطلاقه. فالدلالة على أن الصحابة تشارك النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أمر به وفي أفعاله قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} 2 فأخبر أنه زوَّجَه من كانت امرأة من قد تَبَنَّاه، لكي يقتدي الناس به في ذلك، فلا يمتنعوا من التزويج بنساء من تبنوه، فثبت   = اليدين في الصلاة "1/ 166". وأخرجه النسائي عن ابن عمر في كتاب الافتتاح، باب العمل في افتتاح الصلاة، وباب رفع اليدين قبل التكبير، وباب رفع اليدين حذو المنكبين. كما أخرجه عن مالك بن الحويرث في الكتاب المذكور، باب رفع اليدين حيال الأذنين "2/ 93، 94". وعن ابن عمر ووائل بن حجر وغيرهما أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع "1/ 279- 281". وعن ابن عمر ومالك بن الحويرث أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة، باب ما جاء في تكبيرات الانتقال ورفع اليدين عندها "1/ 95". وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/ 308- 311". 1 راجع في هذا: المستصفى "2/ 80، 81"، وشرح البدخشي مع شرح الأسنوي وهذا القول نسبه أبو البقاء الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير "168"، إلى بعض أصحاب الإمام أحمد. 2 "37" سورة الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بهذا أنهم مشاركون له فيما فعله1. واحتج أبو إسحاق الزَّجاج2 في كتاب المعاني3 بقوله تعالى: {يا أيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} 4، فأول الخطاب مُواجَهٌ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان المراد به أمته بقوله: {طَلَّقْتُمْ} ، {فَطَلِّقُوهُنَّ} 5. وأيضًا: فإنما اختص به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشريعة ورد فيه بلفظ التخصيص، مثل قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ} 6، و {نَافِلَةً لَكَ} 7، فلو كان منفردًا بما يتوجه إليه من الشرع، لم يكن لتخصيصه فائدة8.   1 أجاب المانعون عن هذه الآية، كما في نهاية السول "2/ 360": "بأنه تنصيص على ثبوت الحكم للاتباع، وإشارة إلى الإلحاق بالقياس". 2 هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزَّجاج، عالم بالنحو واللغة والعروض، كان يعمل في خرط الزُّجاج، فنسب إليه. تعلم النحو على المبرد. له كتب كثيرة منها: معاني القرآن، والاشتقاق، وكتاب في العروض. ولد ومات ببغداد، وكانت سنة وفاته: 310هـ، على الأرجح، وقد نيف على "80" سنة. له ترجمة في: الأعلام "1/ 33"، وبغية الوعاة "1/ 411"، وتاريخ بغداد "6/ 89"، ونزهة الألباء في طبقات الأدباء "308"، ووفَيَات الأعيان "11/ 11". 3 هذا الكتاب طبع منه جزءان، يشتملان على معاني القرآن وإعرابه، من أول القرآن الكريم إلى آخر سورة براءة، وذلك بتحقيق الدكتور عبد الجليل عبده شلبي، نشر المكتبة العصرية ببيروت وصيدا. 4 "1" سورة الطلاق. 5 أجاب المانعون عن هذه الآية، كما في نهاية السول "2/ 360" بأن ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- للتشريف، والمقصود ذكر الخطاب العام. 6 "50" سورة الأحزاب. 7 "79" سورة الإسراء. 8 أجاب المانعون عن هذه الآية، كما في نهاية السول "2/ 670" بقولهم: بأن الفائدة المنع عن الإلحاق بالقياس. وقد ردَّ ابن عبد الشكور في "مسلم الثبوت" "1/ 282"، مطبوع مع "المستصفى" على هذه الأجوبة السالفة الذكر بقوله: واعلم أن المراد بيان التناول العرفي واستقراره في النفوس، وهذه أمارات مفهمة، فمناقشات المخالفين طائحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كان يسأل عن الأمر فيجيب عن حال نفسه، مثل سؤال الرجل عن القُبْلَةِ في حال الصوم، فقال: "أنا أفعل ذلك" 1. ومثل قوله لأم سلمة2 حين سألته عن الاغتسال من الجنابة: "أما أنا فأفيض الماء على رأسي"3، فلو كان مخصوصًا بحكم الشرع، لم يكن لهذا الفعل معنىً.   1 هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في "موطئه" في كتاب الصيام، باب ما جاء في الرخصة في القبلة في الصوم بسنده إلى عطاء بن يسار مرسلا، وله قصة وفيها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك"؛ لأن المرأة قبَّلها زوجها وهو صائم، فبعثها لتسأل عن ذلك "2/ 163" مطبوع مع شرح الزرقاني. وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الصيام، باب ما جاء في تقبيل الرجل زوجته وهو صائم "بدائع المنن" "1/ 258، 259" عن الإمام مالك وذكر بقية سند مالك. وقد ذكر الزرقاني في "شرحه على الموطأ" "2/ 163": أن عبد الرزاق قد أخرجه موصولا عن عطاء عن رجل من الأنصار. 2 هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة القرشية المخزومية، أسلمت قديْمًا وهاجرت إلى الحبشة صحبة زوجها الأول، ثم هاجرت إلى المدينة، مات عنها زوجها، فتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة أربع، وقيل ثلاث من الهجرة. ماتت سنة: 59 هـ، وقيل سنة: 61 هـ، وهي آخر أمهات المؤمنين موتًا كما جزم بذلك الحافظ ابن حجر. لها ترجمة في: "الاستيعاب" "4/ 1939" و"الإصابة" "8/ 240-242". 3 ليس هذا جواب النبي -عليه الصلاة والسلام- لأم سلمة -رضي الله عنها- وإنما = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ولأن الصحابة قد كانت ترجع إلى أفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يُخْتلف فيه من أحكام الشرع، مثل ما روي عن اختلافهم في الغسل من التقاء   = جوابه هو: "قالت -أي أم سلمة-: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: "لا إنما يكفيك أن تحثين على رأسك ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضين على سائر جسدك الماء فتطهرين". وهذا الحديث أخرجه مسلم عنها في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة "1/ 259". وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الطهارة، باب هل تنقض المرأة شعرها عند الغسل "1/ 175". وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل "1/ 58". وأخرجه عنها النسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر ترك المرأة نقض ضفر رأسها عند اغتسال الجنابة "1/ 108، 109". وأخرجه عنها ابن ماجه في كتابه الطهارة، باب ما جاء في غسل النساء من الجنابة "1/ 198"، وراجع نصب الراية "1/ 80". أما الحديث الذي أشار إليه المصنف -رحمه الله- فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما ذكر أناس عنده غسل الجنابة فقال: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا". وقد أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب من أفاض على رأسه ثلاثًا، عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه "1/ 70". وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثًا "1/ 258، 259"، وقد ذكر في بعض رواياته: أن السائلين له عن ذلك وفد من ثقيف. وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل من الجنابة "1/ 55". وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر ما يلقى الجنب من إفاضة الماء على رأسه "1/ 112". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب في الغسل من الجنابة "1/ 190، 191"، وعنده في بعض الطرق: أن ذلك جواب لسؤال وجِّه للنبي -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الختانين من غير إنزال1، ومثل وجوب الوضوء من المسيس2، فلو   1 هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين "1/ 271، 272"، وذكر فيه قصة اختلاف فريق من الأنصار مع فريق من المهاجرين في أنه لا يجب الغسل إلى من تدفق الماء أو يكفي في وجوبه المخالطة. وقد أخرجه الترمذي عن عائشة في كتاب الطهارة، باب ما جاء: "إذا التقى الختانان وجب الغسل" "1/ 180، 181". وأخرجه ابن ماجه عنها وعن غيرها في كتاب الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان "1/ 199، 200". وأخرجه أبو داود عن أبي هريرة في كتاب الطهارة، باب في الاغتسال "1/ 49". ويلاحظ أن استدلال المؤلف بالحديث لا يتم إلى على الرواية التي أخرجها الترمذي وابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها- السابق الإشارة إليها، ولفظ ابن ماجه: قالت -أي عائشة-: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلنا. أما غير هذه الرواية فإن الرجوع كان إلى قول الرسول -عليه الصلاة والسلام- لا إلى فعله. 2 الوضوء من مس المرأة، رواه معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مرفوعًا: أخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة هود "5/ 291" ولفظه:.. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا لقي امرأة، وليس بينهما معرفة، فليس يأتي الرجل شيئًا إلى امرأته، إلا وقد أتى هو إليها، إلا أنه لم يجامعها، قال: فأنزل الله: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فأمره أن يتوضأ، ويصلي، قال معاذ: فقلت: يا رسول الله، أهي له خاصة أم المؤمنين عامة؟ قال: "بل للمؤمنين عامة". قال الترمذي بعد ذلك: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ. وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب صفة ما ينقض الوضوء، وما = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 كان مخصوصًا بحكم الشريعة لم يصح رجوعهم إلى فعله، فدل على مساواته بغيره في أحكام الشرع. فإن قيل: الصحابة صاروا إلى هذين الفعلين بدلالة خاصة مقتضية للأمرين. قيل: خاص الدلائل يختص بمعرفته بعض الناس، فلو كان الأمر على ما قالوه لذكروها، وسألوا عنها، ولو لم يكن عندها دلالة عامة تشترك الجماعة في العلم بها لسألوا عنها كسؤالهم عن نفس الدلالة. وأيضًا: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أمرني الله بشيء إلا وقد أمرتكم به، ولا نهاني عن شيء إلا وقد نهيتكم عنه"، فدلَّ على أن الأصل ما ذكرنا.   = روي في الملامسة والقبلة "1/ 134"، بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ، ثم قال بعد ذلك: صحيح. وأخرجه عنه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الطهارة، باب الدليل على أن اللَّمس ما دون الجماع والوضوء منه "1/ 135" وسكت عنه. وقد أخرج الإمام مالك في كتاب الطهارة، باب الوضوء من قبلة الرجلِ امرأتَه "1/ 89"، مطبوع مع شرح الزرقاني، أخرج عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: قبلة الرجلِ امرأتَه، وجَسَّها بيده من الملامسة، فمن قبَّل امرأته أو جسَّها بيده فعليه الوضوء. وأخرج الإمام الشافعي ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنه- في كتاب الطهارة، باب ما جاء في نواقض الوضوء "1/ 34". راجع في هذا أيضًا: تلخيص الحبير "1/ 132". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن لفظ الأمر وقع خاصًّا، فلم يكن هناك لفظ يتناول غيره، فلا يجوز إثباته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 والجواب: أن خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحكم خطاب لأمته؛ لأنه صاحب الشرع ومنه يوجد، ولأنه قد أوجب عليهم اتباعه بقوله: {وَاتَّبِعُوهُ} 1، وبقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 2. واحتج: بأنه لا يمتنع أن يكون مصلحة لعين دون عين، فلا يتعدى إلى غيرها إلا بدلالة. [40/ ب] والجواب: أنا لا نمنع أن يكون هذا مصلحة في العقل، وكلامنا فيما يقتضيه الشرع، وقد بينَّا أن الشرع يقتضي وجوب التَّأَسِّي في أفعاله. واحتج: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كان مخصوصًا بأشياء لا يشاركه غيره فيها3، كالموهوبة والعدد وغير ذلك، فلم يَجُزْ حمله على المشاركة إلا بدليل. والجواب: أن الفعل المطلق لا يقع إلا وهو دالٌّ على الاشتراك، وإنما يختص ببعض الأفعال بدليل، وكلامنا في الفعل المطلق. واحتج: بأن لفظ الواحد له صيغة تخالف لفظ الجمع، فإذا حملنا لفظ الواحد على الجمع، خلطنا باب الواحد بباب الجمع، وهذا لا يحوز. والجواب: أن خطاب الله تعالى لنبيِّه في حكم خطاب الجماعة؛ لأنه قد أوجب عليهم اتباعه بقوله: {وَاتَّبِعُوهُ} 4، وقوله: {فَلْيَحْذَرِ   1 "158" سورة الأعراف. 2 "63" سورة النور. 3 في الأصل: "فيه". 4 "158" سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1، وكذلك خطاب النبي للواحد من الجماعة بقوله صلى الله عليه وسلم: "خطابي للواحد خطاب2 للجماعة"3.   1 "63" سورة النور. 2 في الأصل: "خطابي". 3 انظر تخريجه هامش: "7" من هذه الصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 فصل: الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره: والدلالة على أن الحكم إذا توجه إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره قوله تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 4 فظاهره يفيد أن ما كان من الحكم الخاص لشخص بعينه في القرآن، فجميع الناس منذَرون5 به، ولا يكون إلا مع تكليفهم لفظه وإيقاعه. وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} 6، والإرسال يتضمن ما أرسل من الأحكام، ومرسلا إليه، وأَكَّدَ ذلك بقوله تعالى: {نَذِيرًا} ، والإنذار يقع بالعبادات. وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خطابي للواحد خطاب للجماعة، وحكمي على الواحد حكم على الجماعة" 7.   4 "19" سورة الأنعام. 5 في الأصل: "منذرين به". 6 "28" سورة سبأ. 7 هذا الحديث بهذا اللفظ: لا أصل له، كما قال العراقي، وأنكره المزي والذهبي، وقال الزركشي: لا يعرف. راجع: كشف الخفاء للعجلوني "1/ 436، 437"، والأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة لعلي القارئ "188". وقال الشوكاني في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة "ص: 200: "وقد ذكره أهل الأصول في كتبهم الأصولية، واستدلوا به، واخطئوا". غير أن معنى الحديث هذا له أصل، وهو ما رواه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في بيعة النساء عن أميمة بنت رقيقة -رضي الله عنها- "4/ 151، 152"، وفيه: "إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة" وقال: حديث حسن صحيح. وأخرج ابن ماجه طرفًا منه، وليس فيه محل الشاهد، وذلك في كتاب الجهاد، باب بيعة النساء عن أميمة -رضي الله عنها "2/ 959". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 فإن قيل هذا من أخبار الآحاد. قيل: يجوز الاحتجاج به في مثل ذلك؛ ولأن الأمور التي خص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها الواحد، قد بيَّن عن وجه التخصيص فيها، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بردة1: "الجذع من الماعز يجزئ عنك، ولا يجزئ عن أحد بعدك" 2، وقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي تزوج بما معه من   1 هو هانئ بن نيار الأنصاري، اختلف في اسمه واسم أبيه، شهد بدرًا وأُحُدًا وبقية المشاهد، شهد مع علي حروبه كلها، توفي في أول خلافة معاوية -رضي الله عن الجميع. انظر ترجمته في: الاستيعاب "4/ 1608، 1609" والإصابة، القسم السادس "ص: 523". طبعة دار نهضة مصر. 2 هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد "2/ 27". وفي كتاب الأضاحي باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بردة: "ضَحِّ بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك" "7/ 131". وأخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب وقتها "3/ 1552-1555". وأخرجه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب ما يجوز في الضحايا من السن "2/ 87". وأخرجه الترمذي في كتاب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة "4/ 93". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الأضاحي، باب النهي عن ذبح الأضحية قبل الصلاة "2/ 1053". وأخرجه النسائي في كتاب الأضاحي، باب ذبح الأضحية قبل الإمام "7/ 196". وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الضحايا، باب النهي عن ذبح الضحية قبل انصراف الإمام "3/ 72، 73" = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 القرآن: "هذا لك، وليس لأحد بعدك" 1، وكذلك تخصيصه   = وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الهدايا والضحايا، باب وقت الذبح والترخيص، لأبي بردة بن نيار وعقبة بن عامر في التضحية بالجذع من المعز. وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "4/ 207". وقد وردت الرخصة لعقبة بن عامر -رضي الله عنه- في أن يضحي بالجذعة، فروى البخاري في كتاب الأضاحي، باب قسمة الإمام الأضاحي بين الناس بلفظ: قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه ضحايا، فصارت لعقبة جذعة، فقلت: يا رسول الله، صارت لي جذعة، قال: "ضحِّ بها". وقد أخرج ذلك مسلم في كتاب الأضاحي، باب سن الضحية "3/ 1556". كما أخرج ذلك الطيالسي في مسنده في كتاب الهدايا والضحايا، باب وقت الذبح والترخيص لأبي بردة وعقبة بن عامر في التضحية بالجذع من الماعز "1/ 230". ومن جهة أخرى فقد جاءت الرخصة بالتضحية بالجذع لزيد بن خالد الجهني، كما في سنن أبي داود في كتاب الأضاحي، باب ما يجوز في الضحايا من السن "2/ 86، 87". وقد زاد البيهقي بعد أن روى الرخصة في ذلك لعقبة بن عامر: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك". وعلى هذه الرواية يكون هناك تعارض بين القصتين: قصة أبي بردة، وقصة عقبة، وقد جمع بينهما البيهقي بأن هذه رخصة لعقبة، كما كانت لأبي بردة، ورده الحافظ ابن حجر. وذهب بعضهم: إلى أن خصوصية الأول نسخت بخصوصية الثاني. وهناك فريق ثالث: يرى تقديم حديث أبي بردة على حديث عقبة، وبخاصة أن الزيادة: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك" في حق عقبة، لم ترد في الصحيحين. راجع: شرح الزرقاني على الموطأ "3/ 73". ومن هنا نتبين أن تعبير المؤلف بالتخصيص لأبي بردة لم يكن دقيقًا. 1 قصة تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل بما معه من القرآن ثابتة صحيحة: أخرجها البخاري في كتاب النكاح، باب تزويج المعسر "7/ 8، 9". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 للزبير1 بلبس الحرير2.   = وأخرجها مسلم في كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم القرآن "2/ 1040". وأخرجها الترمذي في كتاب النكاح، باب منه "أي مهور النساء" "3/ 412، 413". وأخرجها أبو داود في كتاب النكاح، باب التزويج على العمل يعمل "1/ 487". وأخرجها ابن ماجه في كتاب النكاح، باب التي وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم: "1/ 644، 645". وأخرجها النسائي في كتاب النكاح، باب عرض المرأة نفسها على من ترضى "6/ 64، 65"، وفي باب هبة المرأة نفسها لرجل بغير صداق "6/ 100، 101". وأخرجها الطيالسي في مسنده "بدائع المنن" في كتاب النكاح، باب جعل العتق صداقًا، وجعل تعليم بعض القرآن صداقًا "1/ 307". وأخرجها مالك في الموطأ في كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق والحياء "3/ 128، 129". وراجع أيضًا: نصب الراية "3/ 199، 200". ويلاحظ أن قوله: "هذا لك وليس لأحد بعدك" لم أَرَهَا فيما رجعت إليه من المصادر، غير أن ابن قدامة، ذكر في كتابه المغني "7/ 141"هذا الحديث بلفظ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوَّج رجلا على سورة من القرآن، ثم قال: "لا تكون لأحد بعدك مهرًا" ثم قال ابن قدامة بعد ذلك: رواه النجاد بإسناده. 1 هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي، ابن عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- أول من سلَّ سيفًا في سبيل الله تعالى، أحد المبشرين بالجنة، شهد بدرًا والحديبية والمشاهد كلها، مات مقتولا سنة: 36هـ، وله من العمر "67" سنة. انظر ترجمته في: الاستيعاب "2/ 510-516"، والإصابة، القسم الثاني، "ص: 553" طبعة دار نهضة مصر. 2 حديث الترخيص في لبس الحرير رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب اللباس، باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة "7/ 195"، ولفظه: رخَّص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكة بهما. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فبان أن الأصل اشتراك الجماعة في الحكم، حتى يثبت للتخصيص فائدة في موضعه الذي ورد فيه. ويدل عليه إجماع الصحابة في أحكام الحوادث، مثل رجوعهم في   = وأخرجه عنه مسلم في كتاب اللباس، باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة "3/ 1646". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في الرخصة في الحرير "4/ 218" وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنه أبو داود في كتاب اللباس، باب في لبس الحرير لعذر "2/ 372". وأخرجه عنه النسائي في كتاب اللباس، باب الرخصة في لبس الحرير "8/ 178". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب من رخص له في لبس الحرير "1/ 1188". وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب اللباس والزينة، باب الرخصة في استعمال الذهب والحرير عند الضرورة "1/ 356، 357". ولي على المؤلف هنا ملاحظات: الأولى: أنه عبر بالتخصيص، وهو مشعر بأن ذلك الحكم خاص بالزبير -رضي الله عنه- لا يتعداه إلى غيره، وليس الأمر كذلك، بل هو ترخيص له ولكل من أصيب بمرضه. الثانية: أن الترخيص الوارد في الحديث لاثنين هما: الزبير وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- وليس للزبير وحده، كما ذهب إليه المؤلف. الثالثة: أن الواجب أن يذكر علة الترخيص، وهي الحكة، حتى يدخل في الحكم من توفرت فيه العلة. وبعد: فالحديث لا يدل على ما ذهب إليه المؤلف؛ لأنه ترخيص، وليس بتخصيص، كما عرفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 أمر الزنى إلى قصة ماعز 1، وفي الجنين إلى قصة2 حمل بن مالك3، ورجوع ابن مسعود4 في المفوضة إلى   1 قد مضى تخريج قصة ماعز -رضي الله عنه- كما مضت ترجمته قريبًا "ص: 319. 2 وهذه القصة رواها حمل بن مالك وأبو هريرة وغيرهما. أخرجها الترمذي في كتاب الديات، باب ما جاء في دية الجنين "4/ 23، 24" عن أبي هريرة ثم عقب على ذلك بقوله: وفي الباب عن حمل بن مالك. وأخرجها أبو داود في كتاب الديات، باب دية الجنين "2/ 497- 499". وأخرجها النسائي في كتاب الديات، باب دية جنين المرأة "8/ 41- 44". وأخرجها ابن ماجه في كتاب الديات، باب دية الجنين "2/ 882". وأخرجها مالك في الموطأ في كتاب العقول، باب عقل الجنين "4/ 181، 182"، ولم يذكر فيها حمل بن مالك. وأصل القصة في صحيح البخاري ومسلم، فالبخاري في كتاب الديات، باب جنين المرأة، وفي باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد "8/ 14، 15". ومسلم في كتاب الديات، باب دية الجنين "3/ 1309". وراجع في هذه القصة أيضًا: نصب الراية "4/ 381- 384"، الاستيعاب "1/ 376". 3 هو حمل بن مالك بن النابغة بن جابر بن ربيعة الهذلي، أبو نضلة، صحابي استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدقات هذيل، عاش إلى خلافة عمر -رضي الله عنه. له ترجمة في: الاستيعاب "1/ 336"، والإصابة "2/ 38، 39". 4 هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل. كان كثير الملازمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولي بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- بيت مال الكوفة. توفي بالمدينة سنة: 32هـ، وقيل: 33هـ، وقيل: توفي بالكوفة، والأول أثبت كما يقول الحافظ ابن حجر. له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 987"، والإصابة "4/ 129، 130"، وتاريخ بغداد "1/ 147"، وتذكرة الحفاظ "1/ 31"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 181"، وشذرات الذهب "1/ 38"، وطبقات القراء للذهبي "1/ 33"، وطبقات الحفاظ "5"، والنجوم الزاهرة "1/ 89". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 قصة1 بروع بنت واشق2. ورجوعهم في وضع الجزية على مجوس هجر3. ولم يَدَّعِ أحد تخصيص الواحد من الجماعة التي خرج عليها الخطاب، فدل على تساوي الجميع في ذلك.   1 خلاصة هذه القصة: أن امرأة تزوجت، ولم يفرض لها صداق، ومات زوجها قبل الدخول بها، وقد سئل ابن مسعود عن حكمها، فقال: لها مثل صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بروع بنت واشق مثل ما قضيت، ففرح ابن مسعود بذلك. والحديث أخرجه الترمذي في كتاب النكاح، باب: ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها "3/ 441"، وقال فيه: حديث حسن صحيح. وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب من تزوج ولم يُسَمِّ صداقًا حتى مات "1/ 487، 488". وأخرجه النسائي في كتاب النكاح، باب إباحة التزويج بغير صداق "6/ 98- 100". وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك "1/ 609". وأخرجه الطيالسي في كتاب النكاح، باب من تزوج ولم يسمِّ صداقًا ثم توفي قبل الدخول "1/ 307، 308". وراجع في هذا الحديث: نصب الراية "3/ 201، 202". 2 هي بروع بنت واشق الرواسية الكلابية، أو الأشجعية، صحابية. لها ترجمة في: الاستيعاب "4/ 1795"، والإصابة "8/ 29". 3 حديث وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- الجزية على مجوس هجر، رواه عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- ولم يكن عمر -رضي الله عنه- أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عنده عبد الرحمن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذها من مجوس هجر. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب "4/ 117". وأخرجه أبو داود في كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب أخذ الجزية من المجوس "1/ 150". وأخرجه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس "4/ 146، 147". وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الجهاد، باب ما جاء في الجزية "1/ 240". وراجع أيضًا: نصب الراية "3/ 447- 450". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وذهب [41/ أ] المخالف إلى الذي ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا من الأدلة، وقد أجبنا عنه. واحتج: بأنه لو كان له عبيد، فقال لواحد منهم: اسقني ماء، لم يدخل فيه1 بقية العبيد، كذلك أوامر صاحب الشريعة إذا توجهت إلى واحد، لا يدخل فيه غيره. والجواب: أن لفظ صاحب الشريعة أدخل في العموم من لفظ غيره، ألا ترى أنه لو قال الله تعالى لنبيِّه، أو قال النبي لبعض أمته: صُمْ؛ لأنك صليت، دخل في ذلك كل مصلٍّ، اعتبارًا بتعليله، وكذلك لو قال: حرمت السكر؛ لأنه حلو، حرم كل حلو، ولو قال السيد لبعض عبيده: اسقني ماء؛ لأنك صليت؛ لم يدخل غيره من عبيده المصلين في ذلك، وكذلك لو قال: والله لا أكلت السكر؛ لأنه حلو، لم يدخل في يمينه غيره من الحلاوات.   1 في الأصل "في". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 مسألة: دخول النبي في أمره لأمته مدخل ... مسألة: [دخول النبي في أمره لأمته] : 1 إذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بأمر، دخل هو في الأمر2. وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في مواضع: فقال في رواية الأثرم، وقد سأله عن حديث أم سلمة: "إذا دخل   1 راجع في هذه المسألة: الواضح، الجزء الأول، الورقة "300، 301"، التمهيد الورقة "36، 37"، والمسودة "ص: 32-34"، وشرح الكوكب المنير "ص: 169، 170". 2 نقل في المسودة "ص: 32، 33" للقاضي في هذه المسألة ثلاثة نصوص هي: 1 قال القاضي في مختصر له في أصول الفقه: "الآمر لا يدخل تحت أمره؛ لأن الآمر يجب أن يكون فوق المأمور. فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يبلغ عن الله تعالى، فهو وغيره فيه سواء إلا ما خصه الدليل. وأما ما أمر به من ذات نفسه فلا يدخل فيه؛ لأن الأصل أن المخاطب لا يدخل تحت خطابه إلا بدليل، ولهذا إذا قال: أنا ضارب من في البيت، لا تدخل نفسه فيه". 2 وقال أيضًا في كتابه "الكفاية": "والآمر يدخل تحت الأمر، خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في قولهم: لا يدخل". 3- وقال أيضًا في مقدمة المجرد: "وإذا أمر الرسول بأمر، فإنه يدخل هو -صلى الله عليه وسلم- في حكم ذلك الأمر، إلا أن يكون في مقتضى اللفظ ما يمنع دخوله فيه". فمقتضى كلام القاضي في كتابه: "العدة" و"الكفاية" و"مقدمة المجرد" أن النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا أمر بأمر، فإنه داخل فيه، إلا أن يدل الدليل على خلافه، سواء كان مبلِّغًا عن الله تعالى ابتداء، أم أمر به من نفسه، ثم أقر عليه، أو لم يقر. ومقتضى كلامه في مختصره كذلك، إلا في حالة ما إذا أمر من ذات نفسه، وقبل أن يقر عليه، فلا يكون مأمورًا به والحالة هذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره، ولا من أظفاره" 1، كيف هو؟ فذكر إسناده، فقيل له: فحديث عائشة خلاف هذا 2، فقال: لا، ذاك إذا بعث بالهدي وأقام، لم يجتنب شيئًا، وهذا إذا أراد   1 حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أخرجه الجماعة إلا البخاري، وكلهم أخرجوه في كتاب الأضاحي، فمسلم أخرجه في باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره "3/ 1565". والترمذي في باب: ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي "4/ 102". وأبو داود في باب: الرجل يأخذ من شعره في العشر وهو يريد أن يضحي "2/ 85". وابن ماجه في باب: من أراد أن يضحي فلا يأخذ في العَشْر من شعره وأظفاره "2/ 1052". والنسائي في أول كتاب الضحايا "7/ 186، 187"، والدارمي في باب: ما يستدل من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم: أن الأضحية ليست بواجبة "2/ 3". وأخرجه الإمام أحمد في كتاب الهدايا والضحايا، باب ما يجتنبه في العَشْر من أراد التضحية "13/ 69" من الفتح الرباني. كما أخرجه عنها الدارقطني في كتاب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك "4/ 278". وراجع: نصب الراية "4/ 206" والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 424". 2 حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا أخرجه الجماعة، وكلهم أخرجوه في كتاب الحج، فالبخاري أخرجه عشر مرات في صحيحه منها: في كتاب الحج باب: من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم بلفظ: "فتلت -أي عائشة- قلائد بدن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيدي، ثم قلدها وأشعرها وأهداها، فما حرم عليه شيء كان أحل له" "2/ 197". وانظر: فتح الباري "3/ 542، 543". ومسلم في باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه، واستحباب تقليده "2/ 957". والترمذي في باب: ما جاء في تقليد الهدي للمقيم "3/ 242". وأبو داود في باب: من بعث بهديه وأقام "1/ 407". والنسائي في باب: فتل القلائد "5/ 133، 134". وابن ماجه في باب: تقليد البدن "2/ 1033، 1034". والإمام أحمد في باب: أن من بعث بهدي لم يحرم عليه شيء مما يحرم على الحاج "13/ 31" الفتح الرباني. وأخرجه الطيالسي في كتاب الهدايا والضحايا، باب ما جاء في إشعار البدن، وتقليد الهدي كله "1/ 228، 229". وراجع نصب الراية "3/ 115"، والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 423". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أن يضحي في مصره، ودخل العَشْر، لم يمس من شعره ولا من أظفاره، فقد عارض نهيه وهو قوله: "لا يمس من شعره، ولا من بشره" بفعله، وهو أنه ما كان يمتنع عن شيء مما كان عليه، فلو كان نهيه لغيره مما يختص به الغير، وفعله مما يختص به هو، لم يقابل النهي بالفعل؛ إذ كل واحد منهما لا يلزمه حكم الخطاب الآخر1. وكذلك قال -رحمه الله- في رواية الميموني وقد سأله رجل: أيتوضأ بالنبيذ؟ فقال: كل شيء غير الماء لا يتوضأ به. فقيل له: فحديث ابن مسعود؟ فقال: يرويه هذا الرجل الواحد ليس بمعروف2، يمنع من الوضوء بالنبيذ. واحتج في ذلك بالآية، فعورض بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو   1 تعقبه أبو الخطاب في استدلاله بما روي عن أحمد بقوله: "وجميعها لا تدل على هذه المسألة، بل تدل على أن فعله يجب أن يتبع فيه، كما أن أمره ونهيه يتبع فيه، فيتعارضان، فأما أن يدل على أنه يدخل في الأمر، أو لا يدخل فلا" التمهيد الورقة "36/ ب". 2 حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي يشير إليه السائل أخرجه الترمذي وأبو دواد وابن ماجه وأحمد والدارقطني والطحاوي، وكلهم أخرجوه في كتاب الطهارة. فالترمذي أخرجه في باب: ما جاء في الوضوء من النبيذ "1/ 147" وفي إسناده: أبو زيد، وهو مجهول، كما أن في إسناده: أبا فزارة، وهو مجهول عند بعضهم، وسيأتي بيان ذلك. وأخرجه أبو داود في باب: الوضوء بالنبيذ "1/ 20" وفي إسناده: أبو زيد وأبو فزارة. وأخرجه ابن ماجه في باب: الوضوء بالنبيذ، بإسنادين الأول فيه: أبو زيد، وأبو فزارة، كما سبق وفي الثاني: ابن لَهِيْعَةَ وهو ضعيف "1/ 135، 136". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ...............................................................................   = وأخرجه أحمد كما في الفتح الرباني، باب حكم الطهارة بالنبيذ إذا لم يوجد الماء "1/ 204، 205" من ثلاث طرق: طريقان فيهما أبو زيد، وأبو فزارة، والثالثة فيها: ابن لهيعة. وأخرجه الدارقطني في باب: الوضوء بالنبيذ "1/ 75" من عدة طرق فيها المرفوع والموقوف والمقطوع وكلها لا تقوم بمثلها حجة. وأخرجه الطحاوي في باب الرجل لا يجد إلا نبيذ التمر هل يتوضأ به أو يتيمم؟ "1/ 94، 95"، بإسنادين في أحدهما: علي بن زيد بن جدعان، وهو متكلم فيه: قال فيه أحمد: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال حماد بن زيد: كان يقلب الأحاديث. وقال شعبة: إنه اختلط. وقال الذهبي: صالح الحديث. وقد أخرج له مسلم مقرونًا. راجع في هذا: المغني في الضعفاء للذهبي "2/ 447". أما الإسناد الثاني ففيه: ابن لهيعة. ثم عقب الطحاوي على ذلك بقوله: "وليست هذه الطرق طرقًا تقوم بها الحجة عند من يقبل خبر الواحد، ولم يجئ أيضًا المجيء الظاهر". والرجل المجهول هو: أبو زيد. قد تكلم فيه علماء الجرح والتعديل، إليك بعض أقوالهم: نقل الزيلعي في نصب الراية "1/ 137" عن ابن عبد البر قوله في كتابه "الاستيعاب": "وأما أبو زيد مولى عمرو بن حريث، مجهول عندهم، لا يعرف بغير رواية أبي فزارة، وحديثه عن ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ، منكر لا أصل له، ولا رواه من يوثق به، ولا يثبت". ونقل الزيلعي أيضًا عن ابن حبان قوله في كتابه الضعفاء: "أبو زيد شيخ، يروي عن ابن مسعود، ليس يدرى من هو؟، ولا يعرف أبوه، ولا بلده، ومن كان بهذا النعت، ثم لم يَرْوِ إلا خبرًا واحدًا، خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس، استحق مجانبة ما رواه". كما نقل عن ابن عدي عن البخاري قوله: "أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ، مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، ولا يصح هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خلاف القرآن". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 حديث ابن مسعود، فتكلم عليه، ولم ينكر على السائل هذه المعارضة، فلولا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان داخلا في عموم الآية لأنكر عليه ذلك، خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في قولهم: لا يدخل في الأمر1.   = وقال ابن أبي حاتم في كتابه علل الحديث "1/ 17": "سمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي فزارة ليس بصحيح، وأبو زيد مجهول، يعني في الوضوء بالنبيذ". ونقل الساعاتي في كتابه الفتح الرباني "1/ 205" عن القارئ قوله: "قال السيد جمال: أجمع المحدثون على أن هذا الحديث ضعيف". كما نقل عن الحافظ قوله: "هذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه". وقيل: الرجل المجهول هو أبو فزارة، فهو ليس راشد بن كيسان الثقة المشهور، إنما هو رجل آخر مجهول. وهو رأي نقل عن الإمام أحمد وعن الإمام البخاري. وتعقب الزيلعي ما نقل عنهما بأنه قد روى عنه جماعة، فيخرج بذلك من الجهالة إلا أن يراد جهالة الحال. كيف وقد صرح ابن عدي وابن عبد البر بأن أبا فزارة اسمه: راشد بن كيسان. وحكي عن الدارقطني مثل ذلك. وخلاصة القول في ذلك: أن الحديث مردود لثلاث علل كما ذكر الزيلعي في نصب الراية "1/ 137- 148". الأولى: جهالة أبو زيد. الثانية: التردد في جهالة أبي فزارة. الثالثة: جاء في حديث: "الوضوء بالنبيذ" أن ابن مسعود شهد ليلة الجن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والثابت في صحيح مسلم وغيره خلاف ذلك، حيث ثبت أنه لم يكن معه -عليه الصلاة والسلام- أحد في هذه الليلة. ولو سلم صحة الحديث، فهو منسوخ بآيتي النساء والمائدة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ["43" النساء، و"6" المائدة] ؛ وذلك لأن قصة ابن مسعود وقعت ليلة الجن، وذلك قبل الهجرة، وآيتا النساء والمائدة مدنيتان بلا خلاف. انظر: تعليق الشيخ أحمد شاكر على سنن الترمذي "1/ 149". 1 وبهذا قال أبو الخطاب من الحنابلة كما في كتابه التمهيد الورقة "37/ ب"، وبه قال أبو الطيب، كما نقل ذلك في المسودة "ص: 34". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 دليلنا : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمر الصحابة بالفسخ، قالوا: أتأمرنا بالفسخ وأنت لا تفسخ، فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولحللت كما تحلون" 1، فلولا أنه داخل في الأمر، لم يستدعوا الفعل منه، ولم يقرهم على ذلك، ويعتذر إليهم بعذر منعه من دخوله فيه. [و] [41/ ب] رواه الأثرم في مسائله بإسناده عن ابن عمر قال: "لما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحل بعمرة، قلنا: فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا؟ قال: "إني أهديت ولبدت، فلا أحل حتى أنحر هديي" 2.   1 هذا الحديث أخرجه البخاري عن جابر -رضي الله عنه- في كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي "2/ 167، 168". وعنه أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران "2/ 883-855". وعنه أخرجه أبو داود في كتاب الحج، باب إفراد الحج، كما أخرجه عن عائشة -رضي الله عنها "1/ 414، 415". وعنه أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الحج والعمرة، باب فسخ الحج إلى العمرة "1/ 217". وعنه أخرجه الشافعي في كتاب الحد، باب ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة "1/ 309، 310". وراجع في هذا أيضًا: تيسير الوصول "1/ 255"، والمنتقى "ص: 379"، والتلخيص "2/ 231". 2 حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أخرجه البخاري عنه عن حفصة -رضي الله عنها- وذلك في كتاب الحج، باب التمتع والإقران بالحج "2/ 167، 168" وفي باب قتل القلائد للبدن والبقر "2/ 197"، وفي باب من لبد رأسه عن الإحرام وحلق "2/ 203". وأخرجه كذلك أبو داود في كتاب الحج، باب في الإقران "1/ 420". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة "1/ 312". وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/ 104". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبلغ عن الله تعالى أمره، فيكون بمنزلة قول الله تعالى: افعلوا كذا، فيجب أن يدخل فيه. فإن قيل: لو قال الله تعالى: قل لأمتك: افعلوا كذا، لم يدخل هو في الخطاب، ولا فرق بينهما. قيل له: قد بينَّا في المسألة التي قبلها فساد هذا، وقلنا: إن تخصيص النبي بالخطاب يوجب دخول أمته، وتخصيص بعض الصحابة يوجب دخول الباقين فيه، كذلك أمره لغيره يوجب دخوله فيه؛ لأن الجميع شرع، فلا يختص به بعض المخاطبين. فإن قيل: الأمر مضاف إلى الأقوال، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1، وليس بمضاف إلى الله تعالى. قيل: إنما أضافه إليه لوجوده من جهته. فإن قيل: ما اجتهد فيه النبي هو غير مبلغ فيه عن الله تعالى أمره، فكان يجب أن لا يدخل فيه. قيل: إذا اجتهد فيه وأقر عليه، فهو مبلغ فيه عن الله تعالى؛ لأن إقراره عليه أمر به.   1 "63" سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فإن قيل: فقد نقل الميموني عن أحمد -رحمه الله- في قوم يقولون: ما كان في القرآن أخذنا به1، ففي القرآن تحريم لحوم الحمر الأهلية؟!. وهذا من أحمد -رحمه الله- يمنع أن يكون جميع كلام النبي عن الله تعالى. قيل: هذا يمنع أن يكون جميع كلامه في القرآن، وغير ممتنع أن يكون لله تعالى أمر غير القرآن.   1 هذه فرقة ضالة مضلة، ترمي من وراء ذلك إلى التنصل من الأحكام الشرعية، التي جاءت بها السنة المحمدية الشريفة، وهي تظهر في كل زمان وفي كل مكان. وقد ظهرت في زماننا هذا، وهم في هذا يتعلقون بأسباب، هي أَوْهَى من بيت العنكبوت، وتصورها ممن لديه أدنى فهم، يكفي في دحضها والرد عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن النبي آمر، فلا يجوز أن يكون مأمورًا به؛ لأنه لا يجوز أن يكون مأمورًا به بما هو آمر به، كما لا يحوز أن يكون آمرًا بما هو مأمور به؛ ولأنه لا يجوز أن يكون مطلوبًا بما هو طالب به، ومسئولا بما هو سائل به، كذلك لا يجوز أن يكون مأمورًا بما هو آمر به. والجواب: أنا لا نسلم أنه أمره، وإنما هو من جهة الله تعالى وهو مخبر عنه. واحتج: بأنه لا يجوز أن يكون آمرًا نفسه بلفظ يخصه، كذلك لا يجوز أن يكون آمرًا نفسه بلفظ يعمه وغيره. والجواب: أنه ليس بآمر نفسه، وإنما الأمر من جهة الله تعالى له ولغيره، على أنه قد قيل: إن ذلك جائز أن يقول لنفسه: افعل، ويريد منها الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 واحتج: بأن من شرط الأمر أن يكون الآمر أعلى من المأمور، وهذا الشرط مفقود ههنا؛ لأنه لا يكون أعلى رتبة من نفسه. والجواب: أن هذا يصح إذا كان هو الآمر، فأما والآمر هو الله تعالى فلا يلزم هذا. واحتج: [42/ أ] بأن الأمر يتضمن إعلام المأمور به وجوب الفعل، ولا يجوز أن يكون معلمًا نفسه بلفظه، فلم يَجُزْ أن يكون آمرًا نفسه. والجواب: أن الله تعالى هو المعلم له، وليس هو المعلم نفسه. واحتج: بأن المأمور عليه أن يمتثل الأمر، سواء كان عليه فيه ضرر أو له فيه نفع، والإنسان يتوقى ما يضره ويأتي ما ينفعه قبل الأمر، فثبت أن الآمر لا يدخل في الأمر. والجواب: أن هذا يصح لو كان هو الآمر لنفسه. واحتج: بأن الأمر في اللغة، لاقتضاء الفعل من غيره، ألا ترى إذا قال: افعل كذا، صلح أن يقول له المخاطب: قد فعلت، ويكون امتثالا فلا يصح أن يقول هو: قد فعلت. ولأنه لو قال لعبده: اسقني ماء، كان الأمر متوجهًا إلى غلامه، دون نفسه؛ لأنه لا يأمر نفسه أن يسقيه ماء. والجواب: أنا هكذا نقول، وأن الفعل مقتضاه من غيره، وهو الله سبحانه، ولا يشبه هذا، إذا قال لعبده: اسقني الماء؛ لأن الأمر من جهته صدر، فلا يدخل هو فيه. فإن قيل: فهل يدخل المخبر تحت الخبر؟ قيل: لا يدخل؛ لأنه لا فائدة أن يخبر نفسه؛ لأنه ليس يخفى عنه حال المخبر عنه، والأمر بخلافه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 فهرس موضوعات المقدمة : الموضوع الصفحة الافتتاحية 7 التعريف بالمؤلف 15- 30 اسمه ونسبه 15 مولده 18 نشأته، وطلبه العلم، وأهم أعماله 19 تولِّيه التدريس 22 توليه القضاء 23 زهده، وورعه، وثناء الناس عليه 24 وفاته، ورثاء الناس له 27 أولاده 29 التعريف بالكتاب 31- 56 اسم الكتاب 31 نسبة الكتاب إلى المؤلف 31 وصف مخطوطة الكتاب 32 منهج المؤلف في هذا الكتاب 34 مصادر المؤلف في هذا الكتاب 37 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الموضوع الصفحة مصادر في العقيدة 37 مصادر في التفسير وعلومه 38 مصادر في الحديث وعلومه 40 مصادر في الفقه وأصوله 42 مصادر لُغَوية ونحْوية 44 مصادر متنوعة 45 تقويم الكتاب 48 محاسن الكتاب 48 المآخذ على الكتاب 51 منهج التحقيق 57 صورة المخطوطة 61 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 فهرس موضوعات الكتاب الموضوع الصفحة افتتاحية الكتاب 67 تعريف الأصول في اللغة 67 تعريف الفقه في اللغة 68 تعريف الفقه في الاصطلاح 69 تعريف أصول الفقه في الاصطلاح 70 وجوب معرفة الفروع قبل الأصول 70 أدلة الشرع ثلاثة أضرب 71 تقسيم الأصل إلى ثلاثة أضرب 72 أقسام المفهوم 72 أقسام الاستصحاب 72 باب ذكر الحدود 74- 193 تعريف الحد 74 الزيادة في الحد 75 أقسام الزيادة في الحد عند الباقلاني 75 تعريف العلم عند المؤلف 76 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الموضوع الصفحة ذكر التعريفات الأخرى ومناقشتها 77 تقسيم العلم إلى قديم ومحدث 80 يقسم العلم المحدث إلى ضروري ومكتسب 80 تعريف العلم الضروري وذكر قسميه 80 تعريف العلم المكتسب وذكر قسميه 82 تعريف الجهل 82 تعريف الشك 83 تعريف الظن 83 الظن طريق للحكم بخلاف الشك 83 تعريف العقل 83 الخلاف في محل العقل 89 أدلة من قال: إنه في الرأس 90 أدلة من قال: إنه في القلب 90 رد أدلة من قال: إنه في الرأس 93 تفاوت العقول في بني البشر 94 ذهب بعض المعتزلة وبعض الأشعرية إلى تساوي العقول 94 أدلة من قال بالتفاوت 94 دليل من قال بعدم التفاوت والرد عليه 100 تعريف البيان في الاصطلاح 100 تعريف البيان في اللغة 101 تعريف الإمام الشافعي للبيان 102 اعتراض ابن داود على تعريف الشافعي 103 تعريف الصيرفي للبيان والرد عليه 105 الخطاب المبتدأ الظاهر المعنى يطلق عليه البيان 105 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الموضوع الصفحة تعريف البيان عند المتكلمين 106 وجوه البيان في الشرع 107 ما يحتاج إلى البيان 108 ما يقع به البيان 110 البيان من الله -تعالى- بالقول وبالكتاب 110 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقول 112 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالكتابة 114 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالفعل 118 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإشارة 124 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدلالة والتنبيه على الحكم من غير نص 125 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإقرار 127 وقوع بيان المجمل بالإجماع 128 قسم أبو بكر غلام الخلال البيان إلى خمسة أقسام 130 تعريف الدليل 131 معنى الاستدلال 132 معنى المستدل عليه 132 معنى المستدل له 132 معنى الدلالةِ لغةً 132 معنى الدَّال 133 قول أحمد: قواعد الإسلام أربع 135 تعريف الأمارة 135 أقسام الأمارة 135 تعريف النص 137 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الموضوع الصفحة تعريف العموم 140 تعريف الظاهر 140 الفرق بين العموم والظاهر 140 تعريف المجمل 142 آية: {وآتوا حقه يوم حصاده} مجملة 143 آية: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} مجملة 143 آية: {ولله على الناس حج البيت} مجملة 144 آية: {حرمت عليكم الميتة} مجملة 145 آية: {حرمت عليكم أمهاتكم} مجملة 145 آية: {وأحل الله البيع} مجملة 148 آية: {السارق والسارقة} ليست بمجملة 149 تعريف المفسر 151 تعريف المحكم 151 تعريف المتشابه 152 تعريف مفهوم الخطاب 152 تعريف دليل الخطاب 154 تعريف التخصيص 155 تعريف النسخ 155 تعريف الأمر 157 المندوب مأمور به حقيقة 158 تعريف النهي 159 تعريف الواجب 159 العبارات التي يطلق عليها "الفرض" 160 الحتم مرادف للفرض 162 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الموضوع الصفحة هل هناك فرق بين الفرض والواجب 162 تعريف الندب 162 تعريف الطاعة والمعصية 163 تعريف العبادة 163 تعريف السنة 165 معنى المكتوبة 167 تعريف الإباحة 167 تعريف الحَسَن والقبيح 167 تعريف الجائز 168 معنى الظلم والجور 169 تعريف الخبر 169 تعريف الإجماع 170 تعريف الحقيقة 172 تعريف المجاز 172 للإطلاق المجازي أربعة وجوه 172 تعريف القياس 174 تعريف الأصل 175 تعريف الفرع 175 تعريف العلة 175 تعريف الحكم 176 تعريف العلة الواقفة 176 تعريف العلة المتعدية 176 ما هو المعلول، الحكم أم الذات التي حلتها العلة؟ 176 تعريف "المعتل" و"المعلل" و"المعتل به" و"المعتل له" 176 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الموضوع الصفحة تعريف الطرد والعكس 177 تعريف النقض 177 انقسام العلة إلى منطوق به ومجتهد بها 178 تعريف السبب 182 أقسام النظر 183 تعريف الجدل 184 تعريف الرأي 184 تعريف الكلام 185 تقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف 186 ذكر بعض الوجوه التي تأتي عليها الأسماء 187 الأسماء نوعان: عام وخاص 187 الأسماء المقيدة المشتقة على قسمين 188 لا يحمل الاسم على الحقيقة والمجاز معًا 188 الأسماء التي استعملها الشرع غير منقولة خلافًا للمعتزلة 189 ثبوت الأسماء هل كان عن توقيف أو عن مواضعة؟ 190 الكلام في بعض حروف تتعلق بها الأحكام 194-212 حرف "الواو" وله ثلاث حالات: 194 الحالة الأولى: أن تكون عاطفة 194 الخلاف في كونها تقتضي الترتيب 194 الحالة الثانية: أن تكون للقسم 197 الحالة الثالثة: أن تكون بدل "رب" 197 قد تأتي الواو بمعنى "أو" 198 حرف "الفاء" 198 حرف "ثم" 199 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الموضوع الصفحة حرف "أو" ولها ثلاث حالات: 199 الحالة الأولى: تكون للشك 199 الحالة الثانية: تكون للتخيير 200 الحالة الثالثة: تكون للجمع، على رأي 200 قد تكون للإباحة 200 حرف "الباء" 200 وهي للإلصاق خلافًا لبعض الشافعية فيما لو تعدى الفعل بغيرها 200 حرفا "من، وإلى" 202 حرف "على" 203 حرف "في" 204 حرف "اللام" 204 حرف "إنما" 205 قيام بعض الحروف عن بعض 208 قيام " في" عن "على " 208 قيام "الباء" مكان "عن" 209 قيام "عن" مكان "الباء" 209 قيام "اللام" مكان "على" 210 قيام "إلى" مكان "مع" 210 قيام "اللام" مكان "إلى" 210 قيام "على" مكان "من" 210 قيام "مِنْ" مكان "الباء" 211 قيام "الباء" مكان "مِن" 211 قيام "مِن" مكان "في" 212 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الموضوع الصفحة قيام "مِنْ" مكان "على" 212 قيام "عن" مكان "من" 212 قيام "من" مكان "عن" 212 قيام "على" مكان "عند" 212 قيام "الباء" مكان "اللام" 212 بيان أبواب أصول الفقه 213 باب الأوامر 214-424 الكلام في صيغة الأمر 214 الدليل على أن الأمر يكون كذلك لصيغته لا لإرادة الآمر 216 أدلة من قال: "لا بد من الإرادة في الأمر"، ورد ذلك 219 الدليل على أن الأمر هو الأصوات المسموعة 222 الفعل لا يسمى أمرًا ودليل ذلك مع ذكر الخلاف 223 الأمر المتعري عن القرائن للوجوب عند الجمهور 224 إذا أريد بالأمر: الندب، فهو حقيقة فيه 248 الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة 256 الأمر المطلق يقتضي التكرار 264 الأمر المعلق بالشرط يقتضي التكرار 275 الأمر المتكرر هل يقتضي التكرار 278 الأمر المطلق يقتضي الفور 281 الأمر المؤقت، لا يسقط بفوات وقته 293 الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئًا 300 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الموضوع الصفحة الواجب المخير 302 الواجب الموسَّع 310 مسألة: المريض والمسافر والحائض يلزمهم الصيام.. إلخ 315 الأمر المطلق للرسول -صلى الله عليه وسلم- يعم أمته وكذلك الأمر لواحد من الأمة يدخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حكمه 318 إذا أمر النبي أمته بأمر دخل هو في الأمر 339 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 المجلد الثاني باب الأوامر الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره مسألة العبيد يدخلون في الخطاب المطلق مدخل ... باب الأوامر: الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره: مسألة 1 العبيد يدخلون في الخطاب المطلق: 2 وقد قال أحمد رحمه الله في رواية إسماعيل بن سعيد3: تجوز شهادة المملوك، إذا كان عدلًا؛ لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 4، وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 5. وقال أيضًا في رواية ابن منصور6: "على العبد إيلاء، وإيلاؤه أربعة أشهر". وإنما قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ   1 راجع في هذه المسألة "الواضح" الجزء الأول الورقة "301-303"، و"التمهيد" الورقة "38-39"، والمسودة ص"34"، و "شرح الكوكب المنير" ص"173"، وروضة الناظر "123-124". 2 وبهذا الرأي قال أكثر الأصوليين، واختاره الغزالي في "المنخول" ص"143"، وفي "المستصفى" "2/77-78"، والآمدي في "الإحكام" "2/248-250"، وهو الأصح عند الشافعية كما في جمع الجوامع "1/427". 3 هو: إسماعيل بن سعيد الشالنجي، أبو إسحاق. كان عالمًا بالفقه. وكان من أصحاب الإمام أحمد. وقد نقل عنه مسائل كثيرة ذات فائدة علمية كبيرة. له ترجمة في: طبقات الحنابلة "1/104-105". 4، 5 "282" سورة البقرة. 6 هو: إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج، أبو يعقوب المرزوي، من أصحاب الإمام أحمد الذين رووا عنه، ونقلوا عنه مسائل فقهية كثيرة، ثقة مأمون، كما يقول مسلم، قال فيه الخطيب: كان عالمًا فقيهًا. مات بنيسابور سنة "251هـ". له ترجمة في: تذكرة الحفاظ "2/524"، وتهذيب التهذيب "1/249"، وشذرات الذهب "2/123"، وطبقات الحفاظ ص"229"، وطبقات الحنابلة "1/113". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 أَشْهُرٍ} 1، ولم يذكر العبيد، ولا اليهود2. وقال في كتاب طاعة الرسول قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} 3، فالظاهر أنه على العبد والحر. وقال أيضًا رحمه الله في رواية الميموني، وقد سأله عن المملوكين أو المملوك وتحته حرة يلاعنها: كل زوجين [يتلاعنان] على ظاهر الآية. فظاهر كلام أحمد رحمه الله: أنه أدخلهم في عموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ 4 يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، وفي عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 5، وهو اختيار أبي بكر الباقلاني وأبي عبد الله الجرجاني6. وحكى أبو سفيان عن الرازي: أنه ما تعلق بحقوق الآدميين؛ لم يدخل فيه، قال: ولهذا لم يجز أصحابنا شهادة العبد. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: يدخل فيه، ومنهم من يمنع7.   1 "226" سورة البقرة. 2 هكذا في الأصل: "اليهود"، وقد صوبه الناسخ في الهامش بقوله: "الشهور"، وهو خطأ؛ لأن المقصود أن الخطاب عام يشمل العبيد والكفار، كاليهود. 3 "226" سورة البقرة. 4 في الأصل: "الَّذِينَ يُؤْلُونَ" وهو خطأ. 5 "6" سورة النور. 6 هو: محمد بن يحيى بن مهدي، وقد سبقت ترجمته ص"269". 7 لكن الأصح عندهم: دخول العبيد في الأمر المطلق، صرح بذلك في: جمع الجوامع "1/427". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 دليلنا : أن العبد يصح تكليفه، والخطاب متناول له؛ فوجب دخوله فيه كالحر. ولأنه يدخل في الخطاب الخاص؛ فوجب أن يدخل في الخطاب العام؛ [42/ب] لأن دخوله في الخاص لتناوله إياه، وهذا المعنى موجود في العام. ولأن الرق حق يثبت للغير قبله؛ فلا يؤثر ذلك في خطابه، مثل من عليه دين أو قصاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن رقابهم ومنافعهم كلها مملوكة للمولى؛ فلا يجوز أن يتصرفوا في شيء إلا بإذنهم، وإذا لم يجز ذلك؛ لم يجز إدخالهم في الخطاب المطلق. والجواب: أن ذلك لا يمنع من دخوله في الخطاب الخاص، وكل جواب عنه؛ فهو جوابنا عن العام. ولأن فعل العبادة يصير مستثنى في حق مولاه، كما يكون مستثنى في حق الزوجة، وفي حق1 المستأجر. واحتج: بأن العبد لا يملك فعل ما هو من حقوق الآدميين؛ لأنه لا يملك شيئًا من العقود، ولا الإقرار بالأموال؛ فلم يدخل تحت الخطاب الذي يتضمن حقوقهم؛ لأنه لا يملك فعل ما خوطب عليه2، ويفارق هذا الخطاب الذي يتضمن حقوق الله تعالى كالصوم والصلاة ونحوهما3؛ لأن   1 مكررة في الأصل. 2 هكذا في الأصل، ولعل الأولى: "به". 3 في الأصل "ونحوها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 العبد يملك فعل ذلك من نفسه، بدليل أن المولى لا يملكه عليه. والجواب: أنه إنما لم يملك حقوق الآدميين لدليل دل، وخلافنا في مطلق الأمر الخاص، ويلزم عليه أيضًا حقوق الله سبحانه؛ فإن منافعهم مملوكة لغيرهم، وتلزمهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 مسألة دخول النساء في جمع الذكور مدخل ... مسألة [دخول النساء في جمع الذكور] : 1 يدخل النساء في جمع الذكور، نحو المؤمنين والصابرين2. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروزي في قوله: "من بدل دينه   1 راجع في هذه المسألة: التمهيد الورقة "39-40"، وشرح الكوكب المنير "271-272"، وروضة الناظر "123-124". 2 هناك صور ثلاث من صور الجمع لا خلاف فيها، هي: الأولى: أن يكون مفرد الجمع لا يصلح إطلاقه على النساء، كالرجال، فهو جمع خاص بالرجال اتفاقًا. الثانية: "أن يكون مفرده لا يصلح إطلاقه على الرجال، كالبنات، فهو جمع خاص بالنساء اتفاقًا. الثالثة: أن يكون ذلك الجمع متناولًا للذكور والإناث لغة ووضعًا، كالناس؛ فإنه يتناول الذكور والإناث بالاتفاق. أما الصورة التي فيها الخلاف فهي: إذا كان علامة الذكور فيها واضحة بينة، كجمع المذكر نحو المؤمنين، وقد ذكر المؤلف الخلاف في ذلك. راجع في هذا: التمهيد الورقة "39/أ"، والإحكام للآمدي "2/244"، ونهاية السول "1/360"، وتيسير التحرير "1/231-235". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 فاقتلوه" 1 على الرجال والنساء2. خلافًا لأصحاب   1 هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب "الجهاد" باب لا يعذب بعذاب الله "5/75"، وفي كتاب "استتابة المرتدين" باب حكم المرتد والمرتدة "9/18-19". وأخرجه الترمذي في كتاب "الحدود" باب ما جاء في المرتد، وقال فيه: "هذا حديث صحيح حسن" "4/59". وأخرجه أبو داود في كتاب "الحدود" باب الحكم في من ارتد "2/440". وأخرجه ابن ماجه في كتاب "الحدود" باب المرتد عن دينه "2/848". وأخرجه النسائي في كتاب "تحريم الدم" باب الحكم في المرتد "7/96-97". وأخرجه الطيالسي في كتاب "الحدود" باب عدم الشفاعة في إقامة الحد وما جاء في حد الردة "1/296". وأخرجه الطبراني عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أخرجه في معجمه الكبير، كما أخرجه عن عائشة رضي الله عنها في معجمه الأوسط. انظر: نصب الراية "3/456". وراجع في هذا الحديث أيضًا: فيض القدير "6/95"، والمنتقى "668". 2 والقول بالدخول ذهب إليه بعض الشافعية وبعض المالكية، وهو قول الحنيفة، كما جزم بذلك الكمال في تحريره، وتابعه مؤلف تيسير التحرير "1/234"، وإن كان صاحب مسلم الثبوت اختار القول بعدم الدخول "1/273". وهذا القول الذي اختاره القاضي، هو رواية عن الإمام أحمد، وعليه أكثر الأصحاب، وقد اختاره الموفق ابن قدامة في الروضة "123-124"، وهناك رواية أخرى: أن النساء لا يدخلن في ذلك، واختارها من الحنابلة أبو الخطاب في كتابه التمهيد الورقة "39/أ" واختاره أيضًا الطوفي كما نقل ذلك عنه أبو البقاء الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير ص"171". ومن هنا يتبين خطأ من نسب القول بالدخول إلى كل الحنابلة، مثل الآمدي في الإحكام "2/244"، والإسنوي في نهاية السول "2/360"، والكمال بن الهمام في تحريره "1/231-234" مطبوع مع شرحه تيسير التحرير، وأبي السعود في تفسيره في أول تفسير سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 الشافعي1 والأشعرية2 في قولهم: لا يدخلون في ذلك.   1 هذا النقل غير محرر، فالواقع: أنه قول أكثر أصحاب الشافعي، لا كلهم وهو الرأي الأصح عند الشافعية، كما في "جمع الجوامع" مع حاشية البناني "1/428-429" وكما في نهاية السول ومنهاج الأصول "2/359-360". 2 وهكذا نسبة الآمدي في الإحكام "2/244". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 دليلنا : اتفاق أهل اللغة على أن الذكور والإناث إذا اجتمعوا1 غلب الذكور على الإناث، كما أنه إذا أخرج من يعقل مع ما لا يعقل؛ غلب من يعقل على ما لا يعقل، يبين ذلك قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} 2، كان ذلك خطابًا لآدم وزوجته والشيطان، الذي أزلهما عنه3، فغلب الذكر على الأنثى، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ 4 دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} ؛ فغلب من5 يعقل على ما لا يعقل، وهي الحية. ويقال: رأيت فلانًا وفلانة قائمين، وقاعدين، فيغلب اسم التذكير   1 في الأصل: "اجتمعن". 2 "36" سورة البقرة. 3 وهناك ثلاثة آراء في الآية: الأول أن المراد: آدم وزوجته والحية. الثاني: أن المراد: آدم وزوجته وذريتهما. الثالث: أن المراد: آدم وزوجته؛ لأن أقل الجمع اثنان. راجع تفسير الرازي "مفاتيح الغيب" "2/16-17". 4 هي قراءة حمزة والكسائي، وقرأ الباقون: {خَلَقَ كُلَّ} . 5 في الأصل "ما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 حال التثنية، وإذا صح هذا وكان خطاب الله تعالى في صورة "افعلوا" خطابًا لجميع الناس؛ لأن هذا خطاب لحاضر، وجب أن يكون متناولًا لسائر المكلفين من الرجال والنساء. فإن قيل: لو كان اللفظ متناولا للذكور والإناث معًا لما غلب أحدهما، بل كانا يتساويان فيه؛ فلما غلب التذكير ثبت أن اللفظ موضوع للذكور، فيجب حمله عند الإطلاق على موضوعه. قيل: ليس إذا غلب أحدهما كان الخطاب، [42/أ] لأحدهما دون الآخر، كما قلنا: إذا اجتمع من يعقل مع ما لا يعقل، وإذا اجتمع الأيام مع الليالي؛ فإنه يغلب أحدهما واللفظ شامل لهما، كذلك ههنا، وكما يقال: فلان وفلانة قائمان؛ فيغلب التذكير وإن تناولهما. وأيضًا: فإن الآمر إذا قال لمن بحضرته من الرجال والنساء: "قوموا واقعدوا"؛ كان ذلك خطابًا لهم جميعًا باتفاق أهل اللغة. ولو قال: "قوموا وقمن؛ كان ذلك لكنة وعيًّا، فعلم أن الخطاب يصلح لهما، ويشتمل عليهما. فإن قيل: لو كان أوامر الله تعالى بمنزلة أمر الآمر لمن بحضرته؛ لما حق وروده بلفظ الأمر للغائب؛ فلما وجدنا الله تعالى قد أمر الغائب بقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} 1، وقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} 2 علمنا أن أمره مخالف للآمر يأمر من بحضرته3. قيل: إن كان لفظ الأمر للغائب؛ فالمراد به الحاضر، كما تقول: "اللهم اغفر"، بمنزلة خطاب الحاضر، وتقول: "غفر الله لي"، بمنزلة   1 "5" سورة الطارق. 2 "4" سورة قريش. 3 في الأصل "أن أمره مخالف للآمر من يأمر بحضرته". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 خطاب الغائب، وهما سواء، كذلك أوامره. ولأن ألفاظ الأوامر مثل قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، ونظائره، وألفاظ الوعد والوعيد، والمدح والذم، والثواب والعقاب، بلفظ المذكر وهي عامة؛ لعلمنا بمراد الله تعالى الفريقين، وليس لأحد أن يقول: عرفنا ذلك بدليل؛ لأنه لم يرد لفظ يختص بالنساء، ولو كان لظهر.   1 "43" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 2. وأن ذلك مختص بالذكور دون الإناث. والجواب: أن ذلك اختص الذكور بدلالة الإجماع، ولولا ذلك كان الخطاب للرجال والنساء جميعًا. واحتج: بأن للذكور علامة يتميزون بها من الإناث، كما أن للمؤمنين علامة يتميزون بها من الكافرين؛ فلما كان المؤمن لا يدخل تحت اسم الكافر، ولا الكافر تحت اسم المؤمن؛ كذلك لا يجوز أن تتناول لفظة: "افعلوا"، غير الذكور؛ لأن الواو في ذلك علامة للذكور، والنون في: "افعلن"، علامة للإناث. والجواب: أنا لا ننكر أن يكون لكل فريق علامة يميز بها حال الانفراد؛ وإنما الكلام في حال الاجتماع، هل يغلب خطابه بلفظ: "افعلوا"، فيكون خطابا للفريقين، كما يكون حال الاجتماع للمسلمين والكفار خطابا لهم جميعًا.   1 "5" سورة التوبة. 2 "216" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 واحتج بما روي عن أم سلمة؛ أنها قالت: "إن النساء قلن: يا رسول [الله] ما نرى الله يذكر إلا الرجال؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 1"، وهذا يدل على أن النساء لا يدخلن في جمع الذكور.   1 "35" سورة الأحزاب. هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، كما في الفتح الرباني، وذلك في كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب، باب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ... الآية "18/238-239". وأخرجه عنها النسائي كما حكى ذلك الشيخ البنا في كتابه الفتح الرباني "18/239"، وابن كثير في تفسيره "487/13"، والسيوطي في الدر المنثور "5/200"، ولم أجده في سننه في حاشيته على تفسير ابن جرير "7/487". وأخرجه عنها ابن جرير الطبري كما نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "3/487"، وكما نقله السيوطي في الدر المنثور "5/200". وأخرجه الحاكم في مستدركه "2/426"، وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، وقد وافقه الذهبي على ذلك. وقد أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه عن قتادة، نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "3/487"، السيوطي في الدر "5/200". وقد أخرجه عنها - كما عزاه السيوطي في الدر "5/200" - ابن المنذر وابن مردويه والطبراني، كما عزاه إلى الفريابي وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وغيرهم. وأخرجه الترمذي عن أم عمارة رضي الله عنها في كتاب التفسير باب: ومن سورة الأحزاب "5/354". وقال: "حديث حسن غريب". وقد أخرجه عنها - كما يقول السيوطي في الدر "5/200" - الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والطبراني وابن مردويه. وذكره الواحدي في أسباب نزول القرآن ص"375" عن أسماء بنت عميس.. أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء لفي خيبة وخسار قال: "ومم ذلك؟ " قالت: لأنهن لم يذكرن بالخير كما يذكر الرجال، فنزلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 والجواب: أنهن إنما شكون أن الله تعالى لم يخصهن [43/ب] بالذكر الذي وضع لهن في الأصل، وأردن1 أن يكون لهن في الكتاب2 [أ] لا ترى أنهن كن يصلين ويزكين قبل ذلك بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3 فدل ذلك على ما ذكرنا. فإن قيل: هذا لا يختص به النساء؛ فإن الرجال أيضًا ما أفردوا بلفظ يخصهم؛ فإن لفظ التذكير يدخل فيه التأنيث. قيل: إلا أن علامة التذكير وهي: الواو والنون، قد وردت، وهي دالة على الرجال، ولم ترد علامة التأنيث وهي الألف والتاء4. واحتج: بأن الآحاد من جميع الذكور لا يدخل فيه الإناث، نحو مؤمن وكافر، وقاتل، كذلك يجب أن لا يدخلن في جمعه؛ لأن الجمع إنما تناوله من يصح تناول آحاده له، ألا ترى أن المؤمن لما لم يصح دخوله في قولك: كافر؛ لم يصح دخوله في قوله: كوافر، وأنها5 لا تدخل في جمع المؤنث، مثل المسلمات والتائبات والصابرات والذاكرات؛ لأنه لا يدخلونه في المسلمة والتائبة والصابرة. والجواب: أنا إن سلمنا هذا، فليس إذا لم يدخل في آحاد جميع الذكور ما يمنع من دخوله في الجمع، كما قلنا في آحاد الأيام والليالي،   1 في الأصل: "وأفردن". 2 والمعنى: أن يكون لهن ذكر في كتاب الله تعالى، كما للرجال. 3 "43" سورة البقرة. 4 في الأصل: "الياء". 5 الضمير في "أنها" يعود إلى الآحاد من جميع الذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 لا يتبعه الآخر، وفي الجمع يتبع أحدهما الآخر، وكذلك من1 يعقل وما لا يعقل، آحاده لا ينتظم الآخر، وجمعه ينتظم؛ كذلك هذا. وجواب آخر وهو: أن لفظ الجمع يحتمل المذكر والمؤنث في الخطاب، وإنما غلب المذكر؛ ولفظ الواحد لا يحتمل أن يجتمع فيه المذكر والمؤنث، فغلب فيه وضع اللفظة. جواب آخر وهو: أنا لو حملنا الواحد على المذكر والمؤنث، لم يمتز المذكر والمؤنث، وليس كذلك إذا حمل لفظ الجمع عليهما؛ لأنه يحصل الامتياز بينهما في حال أخرى وهو لفظ الواحد.   1 في الأصل: "ما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 مسألة دخول الكفار في الأمر المطلق مدخل ... مسألة [دخول الكفار في الأمر المطلق] : 1 الأمر المطلق يتناول الكافر كتناوله المسلم، نحو قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 2 و: {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 3 و: {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 4، ويكون مخاطبًا بالعبادات كالمسلمين في أصح الروايتين. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب في اليهودية والنصرانية تلاعن المسلم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 5، فهي من الأزواج،   1 راجع هذه المسألة في: المسودة ص"46-47"، وروضة الناظر ص"27-28"، وشرح الكوكب المنير ص"173". 2 "21" سورة البقرة. 3 "179" سورة البقرة. 4 "2" سورة الحشر. 5 "6" سورة النور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وهي بمنزلة المسلمة المحصنة1. وظاهر كلامه: أنه جعلها داخلة في عموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} . وقد صرح بذلك في كتاب "طاعة الرسول"، فقال: قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} ؛ فالظاهر يقع على الأمة واليهودية والنصرانية وغير ذلك2. وإلى هذا ذهب المتكلمون من الأشعرية والمعتزلة3. وفيه [44/أ] رواية أخرى: "لا يتناولهم الأمر، ولا هم مخاطبون بالعبادات، وإنما هم مخاطبون بالإيمان والنواهي"4.   1 هذه الرواية ذكرها ابن قدامة في كتابه المغني "8/5"؛ حيث قال: "قال أحمد في رواية ابن منصور جميع الأزواج يلتعنون، الحر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، وكذلك العبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، وكذلك المسلم من اليهودية والنصرانية". 2 عدم اشتراط الحرية والإسلام في اللعان، هو المشهور من المذهب الحنبلي، وقد عقب ابن قدامة على الرواية التي لا تشترط ذلك بقوله في المغني "8/5": "وهذه الرواية هي المنصوصة عن أحمد في رواية الجماعة؛ وما يخالفها شاذ في النقل". 3 راجع في هذا "المغني" لعبد الجبار قسم الشرعيات "17/116-117". 4 وبناء على هذا، جاءت الرواية الثانية التي تشترط الحرية والإسلام في اللعان، وهو رأي الزهري والثوري والأوزاعي وحماد، كما نقل ذلك عنهم ابن قدامة في المغني "8/5". وهذه المسألة متفرعة عن مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو لا؟ وقد نقل ابن قدامة في المغني "1/352" عن الإمام أحمد روايتين، كما نقل مثل ذلك في كتابه الروضة "27-28". وهناك رواية ثالثة، لم يذكرها المؤلف، ولا ذكرها ابن قدامة، وإنما ذكرت في المسودة ص"46-47"، وهي: أنهم غير مخاطبين بشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وقد قال أحمد رحمه الله في يهودي أسلم في نصف شهر رمضان: "يصوم ما بقي، ولا يقضي ما مضى؛ لأنه لم يجب عليه شيء من ذلك؛ وإنما وجب عليه الأحكام من الطهر والصلاة بعد ما أسلم"؛ فقد صرح رحمه الله: أنه لم يكن واجبًا عليه في حال كفره. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب الكرخي والرازي وجماعة من أصحابه إلى أنهم مخاطبون بالعبادات. وذهب الجرجاني: إلى أنهم غير مخاطبين بها؛ وإنما خوطبوا بالنواهي والإيمان1. واختلف أصحاب الشافعي أيضًا: فمنهم من قال: هم مخاطبون، وهو الأشبه عندهم2. ومنهم من منع. فالدلالة على أنهم مخاطبون: قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ 3 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 4، فتوعد المشركين على شركهم،   1 راجع في هذا تيسير التحرير "2/148-150"، وشرح التلويح "1/213-215". 2 قال الإسنوي: وهو أصحها، ونقل عن صاحب البرهان قوله: إنه ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله. انظر نهاية السول "1/370". 3 كلمة "للمشركين" ساقطة من الأصل، وقد أثبتها الناسخ في الهامش. 4 "6، 7" سورة فصلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وعلى ترك إيتاء الزكاة؛ فدل [على] أنهم مخاطبون بالإيمان وإيتاء الزكاة؛ لأنه لا يتواعد على ترك ما لا يجب على الإنسان، ولا يخاطب به. فإن قيل: ليس المراد بالآية أننا لم نؤد الزكاة؛ لأنها ما كان1 يتأتى منهم فعلها؛ وإنما المراد أننا لم نكن معترفين بالزكاة ولا مقرين، وقد يعبر بالفعل عن الإقرار بالشيء وإلزام حكمه، كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2، يعني: حتى يضمنوا. قيل: حقيقة الكلام تقتضي أن الوعيد على ترك إيتاء الزكاة؛ فوجب حمله على الحقيقة. فإن قيل: ظاهر الكلام يقتضي أنه جعله صفة للمشركين؛ فكأنه قال: فويل للمشركين الذين هم على صفة لا يؤتون الزكاة. قيل: هما صفتان، وتقديره: فويل للقوم المشركين، وقوله: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} صفة ثانية لهم، ويكون ذلك مثل قوله: فويل للسارقين الذين لا يؤدون المسروق؛ فيكون الوعيد على الصفتين جميعًا. فإن قيل: لو كان كذلك؛ لوجب أن يكون الوعيد على اجتماع الصفتين، وقد أجمعنا على أن المشرك الذي لم يكن له مال متواعد على شركه. قيل: الوعيد على كل واحد من الصفة بانفرادها دون اجتماعها، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وهذا توعد على كل   1 في الأصل: "كانت". 2 "29" سورة التوبة. 3 "115" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 واحد من المشاقة، واتباع غير سبيل المؤمنين. ويدل عليه أيضًا: قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ 1 مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} 2، وهذا يدل على [44/ب] أنهم دخلوا النار لتركهم إطعام المسكين وتركهم الصلاة. فإن قيل: المراد به أنا لم نكن من المعتقدين بالصلاة ولا مقرين بها. قيل: قد أجبنا عن هذا، وقلنا: حقيقة التوعد على ترك الفعل للصلاة والإطعام. فإن قيل: هذا حكاية عن قول أهل النار؛ فلا حجة فيه. قيل: إنما حكى ذلك عنهم ردعًا وزجرًا لغيرهم، ولو لم يكن فيه حجة؛ لم يصح الردع والزجر؛ ولأنه لو يكن صحيحًا؛ لوجب أن يعقبه بذم ونكير، كما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} 3. ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} 4، وهذا يدل على أن الكفار مأمورون بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وسائر العبادات.   1 في الأصل: "نكن" بإثبات النون فيهما، وهو خطأ؛ فلم أجد أحدًا من القراء، قرأ بإثبات النون. فلعل ذلك من صنع الناسخ. 2 "42-46" سورة المدثر. 3 "120" سورة النساء. 4 "1-5" سورة البينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 وأيضًا: فإن الخطاب متناول لهم بإطلاقه؛ فوجب أن يكونوا داخلين، فيه كالمسلمين، ونريد بالخطاب المطلق نحو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 2، ولسنا نريد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} 3 و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} 4؛ لأن ذلك خاص في المؤمنين. وأيضًا5 فإن الكفار يدخلون في النواهي؛ لأن الذمي يحد بالزنى والسرقة؛ فوجب أن يدخلوا في الأوامر؛ لأن من دخل في أحد الخطابين؛ دخل في الآخر. فإن قيل: فلم لا يحد بشرب الخمر كما يحد المسلمون؟ قيل: لأنه قد أعطي الأمان على أن يقر على شربه، كما أعطي الأمان على أن يقر على اعتقاده الكفر. ثم لا يدل هذا على أنه غير مأمور بالإيمان ومنهي عن الكفر، كذلك لا يدل ترك إقامة حد الشرب على أنه غير منهي عنه. فإن قيل: إنما كلف النواهي؛ لأنه يصح منهم أن يمتنعوا عن فعل النواهي؛ فلذلك صح أن يخاطبوا بها، ولما لم يصح منهم فعل الأوامر؛ لم يصح أن يخاطبوا بها.   1 "43" سورة البقرة. 2 "97" سورة آل عمران. 3 "6" سورة المائدة. 4 "77" سورة الحج. 5 في الأصل: "فإن قيل: إن الكفار ... " وهو خطأ لأمرين: الأول: أن الكلام يؤيد ما ذهب إليه المصنف من أن الكفار داخلون في الأمر المطلق، فكيف يعترض على نفسه بما يؤيد قوله. الثاني: أنه لو كان الكلام مساقًا على سبيل الاعتراض لأجاب عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 قيل: الترك يحصل منهم ولا يكون طاعة، ويحصل الفعل كذلك، فلا فرق بينهما. وأيضًا: لما كان مخاطبًا بشرط هذه العبادات، وهو الإيمان وجب أن يكون مخاطبًا بالمشروط، كما أن من خوطب بالطهارة كان مخاطبًا بالصلاة. فإن قيل: إنما خوطب بالإيمان؛ لأنه يتأتى منه، ولم يخاطب بالعبادات، لأنها [لا] تتأتى منه. قيل: هذا لا يمنع التكليف، كالمحدث هو مخاطب بالعبادة في حال حدثه وإن لم تصح1 منه.   1 في الأصل: "يصح". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما بعث معاذًا1 إلى اليمن قال له: "ادعهم [45/أ] إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن أجابوك فأعلمهم: أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" 2؛ فلو كان الخطاب يتوجه عليهم بهذا الإيمان لأمره أن يدعوهم إليه.   1 هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها، كان واليًا للنبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، وولاه عمر الشام بعد موت أبي عبيدة، مات بناحية الأردن في طاعون عمواس سنة "18هـ"، وقيل سنة "19هـ" وله من العمر "38"، وقيل "28" سنة. له ترجمة في الاستيعاب "3/1402". 2 حديث معاذ هذا رواه ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة "2/124". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام "1/150". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 والجواب: أنه لم يأمره بأن يدعوهم إلى ذلك؛ لأنه لا يصح منهم فعله في حال كفرهم؛ فبدأ بما يصح فعله، وهو الإيمان. واحتج: بأنه كتب إلى كسرى وقيصر1، ودعاهما إلى التوحيد،   = وأخرجه عنه الترمذي في كتاب "الزكاة" باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة "3/12"، وفي كتاب "البر والصلاة" باب ما جاء في دعوة المظلوم "4/368". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/366". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/568". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة "5/3". وأخرجه عنه الدارمي في الكتاب المذكور باب فضل الزكاة "1/318". وأخرجه عنه الإمام أحمد كما في الفتح الرباني في كتاب الزكاة، باب افتراض الزكاة والحث عليها والتشديد في منعها "8/188-190". وأخرجه عنه الإمام الشافعي كما في "بدائع المنن" في كتاب الزكاة باب ما ورد في فضلها ووجوبها وقتل مانعها "1/123". وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "2/327". ويلاحظ: أن جميع من أخرج الحديث ممن سبق ذكرهم، لم يذكروا قوله: "فإن أجابوك، فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم"، وإنما رأيت أبا داود ذكر ذلك في آخر حديث أنس رضي الله عنه الذي أخرجه في كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون "2/41-42"، ولفظه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين". 1 كتابة النبي صلى الله عليه وسلم لكسرى رواها ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في كتاب العلم باب ما يذكر في المناولة بلفظ: "أن رسول صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلًا، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه ... ". "1/26"، كما أخرجه عنه في = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 ولم يذكر في كتابه إليهما شيئًا من الشرائع؛ فلو كانا1 متعبدين بها لذكرها. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج بأن الكافر لا يصح منه فعل الصلاة والصيام في حال كفره؛ فإذا أسلم سقطت عنه؛ فلا يتأتى منه الفعل في الحال، ولا في المآل؛ فلو قلنا: إنه مخاطب بها؛ لكان تكليف الزمن فعل الصلاة قائمًا، والحائض فعل الصلاة في حال حيضها. والجواب: أنه وإن كان لا يتمكن من فعلها مع الكفر؛ فقد جعل له   = كتاب الجهاد باب دعوة اليهودي والنصراني "4/54"، وأخرجه أيضًا في كتاب المغازي باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، وفيه سمي الرجل الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه: عبد الله بن حذافة السهمي "6/10"، وأخرجه رابعة في كتاب أخبار الآحاد باب ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل واحدًا بعد واحد "9/111". وأخرجه القاضي عياض في كتابه الإلماع ص"81". وأما كتابة النبي عليه الصلاة والسلام لقيصر فقد أخرجها البخاري عن ابن عباس في كتاب العلم باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام "4/54-57"، وفيه قصة سفيان بن أبي سفيان مع هرقل عظيم الروم، وفيه: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . 1 في الأصل: "كانوا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 السبيل إلى التوصل إليها؛ بأن يقدم الإيمان ثم يفعل العبادات، كالمحدث الذي لا طريق له إلى فعل الصلاة؛ إلا بأن يقدم الوضوء أو الغسل؛ وإنما الذي يمنع وجوب العبادة أن لا يتمكن من فعلها، ولا يكون له طريق إلى التوصل. فإن قيل: إنما كان المحدث مخاطبًا بفعل الصلاة، والحائض بفعل الصيام، وإن لم يصح الفعل منهما؛ لأن الحدث لا ينفي فعل الصلاة؛ فإنه إذا تطهر لم تسقط عنه الصلاة التي لزمته في حال الحدث، بل يفعلها بعد طهر، وكذلك الحائض. فأما الكافر فإنه لا يتأتى منه في حال كفره، وفي حال إسلامه يسقط عنه القضاء؛ فلا يتأتى منه الفعل بحال. قيل: إنما لم يجب القضاء؛ لأن الإسلام جعل مسقطًا لما سلف؛ لئلا يكون وجوب القضاء تنفيرًا عن الإسلام؛ لأن الكافر ربما أراد الإسلام وهو شيخ؛ فإذا علم أنه يلزمه قضاء ما ترك في عمره من صلاة أو صيام أو زكاة؛ نفره ذلك عن اختيار الإسلام واعتقاده. ويدل على أنه بهذا المعنى قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" 2، وهذا يدل على أن الإسلام هو المسقط ما سبقه من الواجب.   1 "38" سورة الأنفال. 2 هذا الحديث رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه أخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج "112/1" بلفظ طويل وفيه: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ... ؟ " وأخرجه عنه الإمام أحمد كما في الفتح الرباني في كتاب الإيمان باب في كون الإسلام يجب ما قبله من الذنوب "1/93-94" بلفظ: "الإسلام يجب ما قبله من الذنوب". وقد نسبه الشيخ البنا إلى سعيد بن منصور كما في الفتح الرباني "1/94". وأخرجه الطبراني عنه كما أشار إلى ذلك العجلوني في كشف الخفاء "1/140". وأخرجه ابن سعد في طبقاته عن الزبير بن العوام وجبير بن مطعم؛ حكى ذلك العجلوني في كشف الخفاء "140/1"، والسيوطي في جامعه الصغير "3/179-180" مطبوع مع شرحه فيض القدير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 واحتج: بأن الكفر يمنع صحة العبادة، ويمنع قضاءها في الثاني؛ فصار كالجنون. والجواب: أن الجنون يمنع الخطاب بالنواهي وبالإيمان، والكفر لا يمنع ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 مسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده مدخل ... مسألة 1 [الأمر بالشيء نهي عن ضده] : الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى، سواء كان له ضد واحد، أو أضداد كثيرة، وسواء كان مطلقًا أو معلقًا بوقت مضيق؛ لأن من أصلنا: أن إطلاق الأمر يقتضي الفور2. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب: لا يتنحنح في صلاته فيما نابه3؛ فإن النبي [45/ب] صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نابكم في صلاتكم   1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"49-50"، وشرح الكوكب المنير ص"330-331" من الملحق، وروضة الناظر ص"25-26". 2 قد مضى في مسألة: الأمر الملطق هل يقتضي الفور؟ أن للإمام أحمد روايتين في هذه المسألة. 3 هذه الرواية ذكرها الموفق ابن قدامة في كتابه المغني "2/46" في كتاب الصلاة فصل: وأما النحنحة.. كما أنه ذكر رواية أخرى نقلها المروزي عن الإمام أحمد أنه كان يتنحنح في صلاته، ليعلمه أنه يصلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 شيء، فليسبح الرجال، ولتصفق النساء" 1، فجعل أمره بالتسبيح نهيًا عن ضده الذي هو التصفيق.   1 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في أبواب العمل في الصلاة، باب التصفيق للنساء "2/76". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة باب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في الصلاة "1/318-319". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء أن التسبيح للرجال والتصفيق للنساء "2/205-206"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب التصفيق في الصلاة، كما أخرجه عنه سهل بن سعد الساعدي "1/215-216". وأخرجه عن أبي هريرة ابن ماجه في كتاب الصلاة باب التسبيح للرجال في الصلاة والتصفيق للنساء، كما أخرجه عن سهل بن سعد الساعدي وعن ابن عمر رضي الله عنهما "1/ 329-330". وأخرجه عن أبي هريرة النسائي في كتاب السهو باب التصفيق في الصلاة، وباب التسبيح في الصلاة "3/11". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة باب التسبيح للرجال والتصفيق للنساء "1/257". وأخرجه عند الدارقطني في كتاب الصلاة باب الإشارة في الصلاة "2/83". وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة باب ما يجوز فعله في الصلاة "1/109". وأخرجه الإمام الشافعي عنه في كتاب الصلاة باب ما يبطل الصلاة وما يكره وما يباح فيها "1/98-99". كما أخرجه عن سهل بن سعد الساعدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وهو قول أصحاب أبي حنيفة1 وأصحاب الشافعي2. وقال الأشعرية3: هو نهي عن ضده من طريق اللفظ، وهذا بنوه على أصلهم: أن4 الأمر لا صيغة له. وقالت المعتزلة: الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده؛ لا من جهة اللفظ ولا من طريق المعنى، وبنوا هذا على أصل: أن5 النهي لا يكون نهيًا لصيغته، حتى تنضم إليه قرينة، وهي6: إرادة الناهي، وذلك غير معلوم عندهم. ويفيد الخلاف: توجه المأثم عليه بفعل صلاة بمجرد الأمر.   1 راجع في هذا: مسلم الثبوت مع شرحه "فواتح الرحموت" مسألة: وجوب الشيء يتضمن حرمة ضده "1/97"، وتيسير التحرير مسألة: الأمر يقتضي كراهة الضد "1/373". 2 الحقيقة: أن أصحاب الشافعي لم يتفقوا على هذا الرأي؛ بل هناك لهم قولان آخران هما: الأول: أن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده. الثاني: أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، لا عينه ولا يتضمنه. راجع في هذا: الإحكام للآمدي "2/159"، وجمع الجوامع وشرحه مع حاشية البناني "1/385-388". 3 نقل ابن السبكي في جمع الجوامع "1/385-386" عن الشيخ أبي الحسن الأشعري قوله: "إن الأمر النفسي بشيء معين نهى عن ضده الوجودي". 4 في الأصل "وأن" بإثبات الواو، والصواب: حذفها، وقد حذفها ابن تيمية الجد - "المسودة" ص"49" - عند نقله كلام القاضي في هذه المسألة. 5 في الأصل "وأن" بإثبات الواو، والصواب: حذفها، والكلام فيه كسابقه. 6 في الأصل: "وهو". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 دليلنا : أن الأمر عندنا يقتضي الوجوب والفور، وقد دللنا على صحة ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وإذا كان كذلك؛ وجب أن يكون تركه محرمًا، وتركه: فعل ضده؛ فوجب أن يكون فعل ضده منهيًا عنه، فكان الأمر باللفظ متضمنًا لتحريم فعل ضده. فإن قيل: يجوز أن يكون تاركًا لفعل من غير أن يكون فاعلًا لضده؛ لأن السكون معنى يبقى، فلا يكون فاعلًا له في حال بقائه. قيل: السكون لا يبقى، وكل تارك للفعل؛ فإنما هو تارك بفعل ضده، فالتارك للحركة فاعل للسكون، والتارك للسكون فاعل للحركة. ولأن قولهم: أمر بالقيام، ولا يمكنه فعله إلا بترك القعود، فثبت أنه ممنوع من القعود. ولأن من أذن لغيره في دخول الدار، ثم قال له: اخرج، تضمن هذا القول منعه من المقام فيها، واللفظ إنما هو أمر بالخروج، وقد عقل منه المنع من المقام الذي هو ضده. ولأن السيد إذا قال لعبده: قم، فقعد؛ صلح أن يعاقبه على القعود، فلولا أن أمره تضمن رد ذلك لما صلح توبيخه. ولأن الأمر بالشيء لو لم يكن نهيًا عن ضده لصلح أن يبيح له ضده مع الأمر به، وفي اتفاق الجميع على امتناع ذلك دليل على ما قلناه. ولأن الأمر بالشيء لو لم يكن نهيًا عن ضده؛ لما كان الكافر منهيًا عن الكفر، وحيث كان مأمورًا بالإيمان، وفي اتفاق الجميع على أن كون الكافر منهيًا عن الكفر لكونه مأمورًا بالإيمان؛ دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن لفظ النهي قوله: "لا تفعل"، ولفظ الأمر قوله: "افعل"، فلا يجوز أن يجعل الأمر نهيًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 والجواب: أنه نهى عن ضده من طريق المعنى دون اللفظ؛ فلا يلزمنا ذلك. وعلى أن اللفظ قد يدل على الشيء، وإن لم يكن عبارة عنه، مثل قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1، أن هذه الصيغة لا يعبر بها عن الضرب والقتل، وإن كانت دالة2 على نفيهما. واحتج: بأن النوافل مأمور بها، وضدها وهو الترك غير منهي [46/أ] عنه. والجواب أنا لا نسلم هذا؛ بل نقول: ضدها منهي عنه، لا يستحب تركه؛ فيكون الأمر الذي هو ندبه يتضمن النهي، وكل أمر يتضمن النهي على حسب الأمر، إن كان الأمر إيجابًا؛ كان النهي محرمًا، وإذا كان الأمر استحبابًا؛ كان النهي تنزيهًا، فسقط ما قاله. واحتج بأن النهي عن الشيء ليس بأمره بضده3، كذلك الأمر بالشيء؛ ليس بنهي عن ضده. والجواب: أن هذا على وجهين: إن كان له ضد واحد؛ كان النهي عنه أمر بضده، كالكفر منهي عنه ويتضمن الأمر بضده من جهة المعنى، وهو الإيمان، وكذلك النهي عن الحركة يتضمن الأمر بضدها، وهو السكون. وإن كانت له أضداد كثيرة؛ فهو مأمور بضد من أضداده، يترك به النهي عنه، ويكون مخيرًا فيها، مثل النهي عن القيام، له أضداد من النوم والقعود والمشي؛ فهو مأمور بواحد منها4؛ لأنه لا يكون ممتنعًا عن المنهي عنه بفعل ضد واحد من أضداده، ولا يكون ممتثلًا للمأمور به إلا بترك جميع أضداده، فلا فرق بينهما.   1 "23" سورة الإسراء. 2 في الأصل: "دلالة". 3 في الأصل: "عن ضده". 4 في الأصل: "منهما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 واحتج بأنه إذا لم يكن العلم بالشيء جهلًا بضده، والقدرة على الشيء عجزًا عن ضده، وإرادة الشيء1 كراهة لضده، كذلك الأمر بالشيء؛ وجب أن لا يكون نهيًا عن ضده. والجواب: عن العلم: فهو أنه لا يمتنع أن يكون عالمًا بالشيء وبضده، ويمتنع أن يكون الشيء واجبًا، ولا يكون ضده محرمًا، أو يكون مستحبًا، ولا يكون ترك ضده مستحبًا؛ فإذا كان كذلك؛ فبان الفرق2. وأما القدرة على الشيء؛ فإنها ليست بعجز عن ضده؛ لأن الاستطاعة عندنا مع الفعل، فيكون القادر على الشيء هو الفعل التارك لضده، والتارك للشيء لا يكون عاجزًا عنه، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإنه لا يجوز أن يكون مأمورًا بالفعل؛ إلا وهي منهي عن فعل ضده. وأما إرادة الشيء؛ فهي كراهية لضده عندنا. فإن قيل: أليس لو قال لزوجته: أنت طالق إن أمرتك بأمر فخالفتيني، ثم قال: لا تكلمي أباك؛ فكلمته؛ لم يحنث؛ لأنه إنما نهاها ولم يأمرها، فدل على أن الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده. قيل: الأيمان محمولة على العرف، والعرف في الأمر: صيغة الأمر وهو قوله: افعلي، فلهذا لم تحمل يمينه على صيغة النهي؛ لأنه ليس صيغة النهي صيغة الأمر، ولهذا قلنا: الأمر بالشيء؛ نهي عن ضده من طريق الحكم لا من طريق اللفظ. فأما من قال: الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق اللفظ فغير   1 في الأصل "الشرك"، والصواب: "الشيء" كما أثبتناه؛ لأن المؤلف قد أتى بالصواب في معرض الرد على هذا الدليل. 2 كلمة: "فبان" مكررة في الأصل، والفاء في هذه الكلمة قلقة لا وجه لها، فالأولى حذفها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 صحيح؛ لأن العرب فرقت بين لفظ الأمر والنهي؛ فجعلت لفظ الأمر موضوعًا للإيقاع والحث على الفعل، ولفظ النهي لنفي الفعل؛ فلم يجز أن يجعل أحدهما الآخر، كما لا يجوز ذلك في الخبر والاستخبار. فإن قيل: ليس يمنع [46/ب] هذا، ألا ترى أن القائل إذا قال: ائت الشمس من المغرب، عقل منه: أنها تغرب من المشرق. قيل: إنما عقل هذا من معنى اللفظ، لا من موضوعه وصيغته، ونحن لا نمنع هذا في الأمر؛ وإنما نمنع أن يعقل النهي من نفس اللفظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 مسألة المندوب مأمور به حقيقة مدخل ... مسألة 1 [المندوب مأمور به حقيقة] : إذا صرف الأمر عن الوجوب؛ جاز أن يحتج به على الندب والجواز، ويكون حقيقة فيه، ولا يكون مجازًا، وهذا بناء على أصلنا: أن2 المندوب مأمور به حقيقة. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحتج به، ويكون مجازًا3. واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من قال مثل قولهم4.   1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"16"، وشرح الكوكب المنير ص"126"، والتمهيد الورقة "24-26". 2 في الأصل: "وأن"، والواو هنا زائدة، والصواب حذفها. 3 راجع في هذا: تيسير التحرير "1/347"، وفواتح الرحموت "1/377". 4 راجع في هذا: المستصفى "1/75"، والإحكام للآمدي "1/112". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 دليلنا : أن حقيقة الواجب: ما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه، وحقيقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 الندب: ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه؛ فإذا حمل الأمر على الندب؛ فقد حمل على شيء فيه بعض أحكام الواجب، وليس فيه البعض الآخر؛ فكأنه أخرج منه بعض مقتضاه، وحمل على بعض، فكان ذلك حقيقة لا مجازًا، كما قلنا في لفظ العموم: "يقتضي استغراق الجنس"؛ فإذا خص، أخرج منه بعض المراد، وبقي البعض، فيكون ذلك حقيقة لا مجازًا، وكذلك ههنا. ولا يشبه هذا الاسم "الأسد" إذا استعمل في الرجل الشديد، واسم "الحمار" إذا استعمل في الرجل البليد، حيث كان مجازًا فيهما؛ لأنه يستعمل في شيء، لا يتضمنه ما هو موضوع له بحال؛ فكان اللفظ منقولًا عما وضع له إلى غيره؛ فلذلك كان مجازًا، وفي هذا الموضع استعمل في بعض مقتضاه، ولم يعدل عن جميعه، فكان ذلك حقيقة لا مجازًا، ولأنه لو قال: له علي عشرة إلا واحدًا؛ كان ذلك حقيقة في التسعة، كما لو لم يستثن منه، كذلك ههنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن اللفظ موضوع لإفادة الوجوب دون الجواز، وإنما الجواز تابع للوجوب، وأنه لا يجوز أن يكون واجبًا، ولا يجوز فعله؛ فإذا سقط الوجوب؛ وجب أن يسقط الجواز؛ لأنه تابع له. والجواب: أنا لا نسلم أن الجواز للوجوب، بدليل أنه قد ينفرد الجواز عن الوجوب، فيكون الشيء جائزًا، ولا يكون واجبًا؛ فلو كان تابعًا له لم ينفرد عنه، فهو بمثابة العموم إذا خص بعضه1، كان الباقي حقيقة؛ لأن الباقي ينفرد عن الخصوص، كذلك ههنا. واحتج: بأن الشيء الواحد لا يكون له حقيقتان. والجواب: أنه يبطل بالمستثنى منه؛ فإن الاسم حقيقة فيه.   1 في الأصل: "بعض". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 مسألة في الفرق بين الفرض والواجب مدخل ... مسألة [في الفرق بين الفرض والواجب] : 1 فالفرض: ما ثبت وجوبه بطريق مقطوع به، مثل نص القرآن [47/أ] المتواتر، وإجماع الأمة2. والواجب: ما ثبت من طريق غير مقطوع به، كأخبار الآحاد والقياس، وما كان مختلفًا في وجوبه كوجوب المضمضة والاستنشاق وغسل اليدين عند القيام من نوم الليل، والتسبيح في الركوع والسجود وغير ذلك3. هذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله، ذكره في مواضع: فقال في رواية أبي داود4 وابن إبراهيم: "المضمضة والاستنشاق   1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"50-51"، وروضة الناظر ص"16"، وشرح الكوكب المنير ص"110". 2 هذه إحدى روايات ثلاث نقلت عن الإمام أحمد في تعريف الفرض، على القول بالفرق بينه وبين الواجب. والرواية الثانية هي: أن الفرض، ما لا يسقط في عمد ولا سهو. والرواية الثالثة هي: أن الفرق: ما ثبت بالقرآن. انظر: المسودة ص"50". 3 وممن قال بهذا الرأي من الحنابلة أبو إسحاق بن شاقلا والحلواني، وعزاه ابن عقيل إلى الأصحاب. انظر: شرح الكوكب المنير ص"110". 4 هو: سليمان بن الأشعث بن إسحاق، أبو داود السجستاني، إمام في الحديث، صاحب السنن، من أصحاب الإمام أحمد، وممن رووا عنه كثيرًا من الحديث والفقه، له كتاب مسائل الإمام أحمد. ولد سنة 202هـ ومات بالبصرة سنة 275هـ. له ترجمة في: البداية والنهاية "11/54"، وتذكرة الحفاظ "2/591"، وتاريخ بغداد "9/55"، وتهذيب التهذيب "4/169"، وطبقات الحنابلة "1/159"، وطبقات المفسرين للداوودي "201/1"، ووفيات الأعيان "1/214". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 لا تسمى فرضًا؛ ولا يسمى فرضًا إلا ما كان في كتاب الله تعالى1". فقد نفى اسم الفرض عن المضمضة والاستنشاق مع كونهما واجبين عنده. وقال أيضًا رحمه الله في رواية المروزي وقد سأله عن صدقة الفطر: أفرض هي؟ فقال: ما أجترئ أن أقول: إنها فرض. وكذلك نقل الميموني عنه وقد سأله هل يقول: بر الوالدين فرض؟ فقال: لا، ولكن أقول: واجب، ما لم يكن معصية. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة2.   1 نص الرواية كما في مسائل الإمام أحمد من رواية أبي داود ص7 هو: "حدثنا أحمد بن حنبل، وسئل عمن نسي المضمضة والاستنشاق حتى صلى؟ قال: يمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة، قلت: لا يعيد الوضوء؟ قال: لا، ليس هذا من فرض الوضوء". ولكن المحقق ذكر في هامش الكتاب المذكور نص الرواية من نسخة المكتبة الظاهرية وهو: "سمعت أحمد سئل عن المضمضة والاستنشاق فريضة؟ قال: لا أقول فريضة إلا ما في الكتاب". 2 راجع في هذا: أصول السرخسي "1/110-113"، وتيسير التحرير "2/135"، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت "1/58". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 ونقل عبد الله وأبو الحارث عن أحمد رحمه الله: كل ما في الصلاة فرض1. فظاهر هذا أن التسبيح في الركوع والسجود والتشهد الأول والتكبير غير تكبيرة الإحرام وقول سمع الله لمن حمده؛ يسمى فرضًا مع كونه مختلفًا في وجوبه؛ فعلى هذا لا فرق بين الواجب والفرض والحتم واللازم والمكتوبة، وحد الجميع واحد، وهو قول أصحاب الشافعي. ونقلت من خط أبي إسحاق2 في تعاليقه: قال أبو عبد الله: لا أقول فرضًا؛ إلا في كتاب الله. معنى قوله: إن الذي قاله الرسول سنة، بدلالة قوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء" 3، وقوله: "إنما أنسى لأسن" 4   1 هذه الروايات الأربع التي استدل بها المؤلف موجودة بنصها في المسودة ص"50-51". 2 يعني: ابن شاقلا. 3 هذا الحديث صحيح رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع "5/44". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة "2/506". وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين "1/15". وأخرجه عنه الدارمي في المقدمة، باب اتباع السنة "1/43-44". وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "4/126". 4 هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ، في كتاب الصلاة، باب العمل في السهو "1/205"، مطبوع مع شرح الزرقاني، حيث قالك "بلغني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأنسى، أو أنسى لأسن". "لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه، وهو أحد هذه الأحاديث الأربعة التي في الموطأ، لا توجد وقد نقل الزرقاني في شرحه للموطأ "1/205" عن ابن عبد البر قوله في الحديث: "لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه، وهو أحد هذه الأحاديث الأربعة التي في الموطأ، لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول". كما نقل الزرقاني أيضًا عن بعض العلماء: القول بجواز الاحتجاج به؛ لأن البلاغ من أقسام الضعيف، وبخاصة رواية الإمام مالك، الذي يقول فيه سفيان: إذا قال مالك: بلغني، فهو إسناد صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 قال: وقول أبي عبد الله، كما ما في الصلاة فرض؛ أراد بذلك: ما أخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم. والوجه للفرق بينهما1: أنا نجد كل مميز يسبق عقله إلى أن صلاة الظهر آكد من صلاة المنذورة، وإن كانتا واجبتين، وكذلك الإيمان بالله تعالى آكد وأبلغ من صدقة خمسة دراهم من مائتي درهم. وكذلك الزكاة آكد من النذر في الصدقة. فهذه أمور يجدها كل عاقل في نفسه، فوجب أن يفرق ما هو آكد باسم يفارق ما هو دونه، فيجعل اسم الفرض: عبارة عما كان في أعلى المنازل في الوجوب، والوجوب عما كان دونه، وإن كان اسمًا عامًا في نفسه. ولأن أهل اللغة فرقوا بين الفرض والوجوب، فقالوا: إن الوجوب مأخوذ في الأصل من السقوط، يقال: وجب الحائط، يعني: سقط. والفرض عبارة عن التأثير، ومنه فرضة القوس لموضع الحز، أو عين القدر من قولهم: "فرض القاضي النفقة"، بمعنى قدرها.   1 المؤلف هنا اختار القول بالتفريق بين الفرض والواجب، وانتصر له، مع أنه نقل عنه في المسودة ص"50" قوله في مقدمة المجرد: "الفرض والواجب سواء، لا يختلفان في الحكم ولا في المعني". ونقل أبو البقاء الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير ص"110" القولين عن المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 والتأثير آكد من السقوط؛ لأن الشيء قد يسقط ولا يؤثر، وكذلك ذكر التقدير في الشيء يدل على الحصر والتعيين1 [47/ب] فيصير كالنذر المضموم إلى الإيجاب. والوجوب لا يفيد هذا المعنى؛ فبان أن الفرض في اللغة آكد من معنى الواجب. وقد بينا أن الوجوب تتفاوت منازله، فوجب أن يخص اسم الفرض الذي وضع للمبالغة في التأثير: عبارة [عما] كان في أعلى المنازل، وما دونه خص باسم الواجب، فيصير الوجوب الذي هو سقوط التكليف على المأمور به في نفس المكلف؛ لما تضمن من الدعاء إلى إيقاعه والمبادرة إلى فعله، ما لا يؤثر فيه الواجب الذي فرض. ولأن العبارة2 مختلفة في عادة أهل الشرع أيضًا، ألا ترى أنهم يقولون: الواجب في الحكم كذا، ولا يقولون: فرض في الحكم، ويقال في حقوق الآدميين مثل الديون والشفعة: واجبات، ولا يقال: إنها فروض، ويقال: واجب عليك أن تفعل كذا، ولا يقولون: فرض عليك، ويقال: أوجبت على نفسي، ولا يقال: فرضت، ولا يقال في العادة لمن تلزم طاعته: فرضت عليك كذا، فبان أن معنى اللفظين مختلف في اللغة والشريعة.   1 في الأصل: "والتغيير". 2 في الأصل: "العبادة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 1 وأراد به أوجب الحج. وقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ   1 "197" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} 1. ومعناه: أوجبتم لهن فريضة. والجواب: أن الحج ثبت وجوبه من طريق مقطوع به؛ فلهذا أطلق عليه اسم الفرض. وقوله: {فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} معناه: قدرتم. واحتج: بأن الفرض؛ إنما سمي فرضًا؛ لما فيه من معنى الوجوب دون ما ذكرتموه من ثبوته من طريق يوجب العلم؛ لأن النوافل ثابتة من هذا الطريق، ولا يسمى فرضًا. والجواب: أنه إنما يسمى فرضًا لما فيه من معنى الوجوب من طريق مقطوع به؛ فأما النوافل فإن كان طريقها مقطوعًا به، فليس فيها معنى الوجوب؛ فقد وجد أحد الشرطين [وفقد الآخر] . واحتج: بأن تخصيص الواجب بما ثبت من طريق؛ لا يوجب العلم، وتخصيص الفرض بما ثبت من طريق؛ يوجب العلم دعوى مجردة، لا دليل عليها من لغة ولا شرع، ولا طريق مستنبط منهما2؛ فلم يصح. والجواب: أنا قد دللنا عليه من جهة الاستنباط، وهو أن أهل اللغة والشرع فرقوا بينهما في العبارة، وقالوا: الفرض عبارة عن التأثير، والوجوب عبارة عن السقوط، و [لما] وجدنا التأثير أبلغ من السقوط؛ جعلنا الفرض عبارة عما ثبت من طريق مقطوع علمه؛ ليكون له مزية. واحتج: بأن لفظ الوجوب آكد من لفظ الفرض؛ لأنه أقل احتمالًا من لفظ الفرض، فكان لفظ الوجوب؛ أحق بما [48/أ] ثبت من طريق   1 "237" سورة البقرة. 2 في الأصل: "منها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 القطع، يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1، وأراد: ينزل عليك القرآن. وقال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} 2 وأراد به: أحل الله له. وقال: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} 3، وأراد: بيناها. ويقال: فرض الحاكم على فلان لزوجته كذا وكذا من النفقة، وأراد به: قدر، ويقال: فرض القوس إذا حز طرفيه. وأما الوجوب؛ فإنه عبارة عن السقوط، من قوله: وجبت الشمس ووجب القمر، ووجب الحائط، إذا سقط. وقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 4 أي: سقطت، فسمى ما لا بد من فعله واجبًا؛ لأن تكليفه سقط عليه سقوطًا لا ينفك منه؛ إلا بفعله، فكان احتمال لفظ الفرض أكثر من احتمال لفظ الواجب، وكان الثابت بطريق مقطوع به باسم الواجب؛ أحق منه باسم الفرض. والجواب: أن لفظ الفرض، وإن كان محتملًا لأشياء؛ فجميعها عبارة عن التأثير، والوجوب عبارة عن السقوط، والتأثر آكد من السقوط؛ لأنه قد يسقط؛ فلا يؤثر، فكان ما أثر آكد. فقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} يعني: أنزله، ونزوله تأثير عندنا.   1 "85" سورة القصص. 2 "38" سورة الأحزاب. 3 "1" سورة النور. 4 "36" سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 وكذلك قوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} يعني: أحل له، والإحلال له: تأثير له. وكذلك قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} أراد: بيناها، والبيان: تأثير فيها. وكذلك فرض الحاكم يعني: قدّر، والتقدير له: تأثير في الحصر والتعيين. واحتج: بأنه لو كان الفرض عبارة عما كان في أعلى المنازل من الوجوب؛ لوجب أن يختص الاسم بمعرفة التوحيد وتصديق الرسول؛ لأنه أعلى منزلة من غيره. والجواب: أن الفرض لما كان عبارة عن العبادة التي تؤثر في نفس المكلف في المبادرة إليه والمسارعة إلى فعله، وهذا التأثر موجود في جميع ما علم قطعًا أنه مراد منا، مثل الصلوات ونحوها، فوجب أن يكون جميعها فرضًا، وإن كان بعضها آكد من بعض، كما أن التأثير الواقع في الشيء يتفاوت، وإن كان الاسم يتناول جميعها، ويفارق ذلك ما لا يقع منه التأثير. واحتج: بأن الواجب اسم لما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه، والفرض اسم لهذا أيضًا؛ فإذا كانا متساويين في هذا المعنى؛ لم يكن لأحدهما مزية لاختلاف اسمهما، كما أن الندب والنفل لما كان معناهما واحد -وهو ما يستحق بفعله ثواب؛ لم يكن لأحدهما مزية على الآخر. والجواب: أن الواجب وإن ساوى الفرض في الثواب والعقاب؛ فقد خالفه من وجه آخر، وهو: أن ثبوته من طريق مقطوع به، فمنع من المساواة في التسمية، كما أن الندب والمباح تساويا في إسقاط [48/ب] العقاب، واختلفا في التسمية لاختلافهما من وجه، وهو: أن الندب يثاب على فعله، والمباح لا ثواب عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 واحتج: بأن اختلاف أسباب الوجوب، وقوة بعضها على بعض، لا يوجب اختلاف الشيئين في أنفسهما؛ ألا ترى أن النفل قد ثبت بأخبار متواترة وثبت بأخبار الآحاد، والكل متساوٍ1، وكذلك الفرض قد ثبت بأخبار متواترة وأخبار الآحاد، والكل سواء. والجواب: أن قوة بعضها على بعض توجب اختلافهما في أنفسهما؛ لأن ما كان معلومًا أنه مراد الله تعالى قطعًا؛ فإنه مخالف لما كان تجوزًا، وكذلك ما يكفر جاحده مخالف ما لا يستحق هذه الصفة، ومتى اختلفت الأشياء في أنفسها وأحكامها؛ اختلفت الأسامي التي تستعمل فيها لاختلاف ما يستفاد بالعبارة منها. فإن قيل: فيجب أن تفرقوا في المنهيات، كما فرقتم في المأمورات، فتقولوا: لفظة الحرام عبارة عما ثبت من طريق مقطوع به، وما لم يثبت بذلك لا يطلق عليه ذلك، ويسمى مكروهًا. قيل: هكذا نقول، وقد قال أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور في المتعة: لا أقول حرام. وقال رحمه الله في رواية ابن منصور في الجمع بين الأختين المملوكتين: لا أقول حرام؛ ولكن ينهى عنه. قال أبو بكر: إنما توقف لوجود الخلاف. فقد منع من إطلاق اسم الحرام مع كونه حرامًا عنده؛ لأنه مختلف فيه.   1 في الأصل: "متساوي" والجادة ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 مسألة الأمر بفعل الشيء لا يتناول الفعل المكروه مدخل ... مسألة [الأمر بفعل الشيء لا يتناول الفعل المكروه] : أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله في رواية صالح: إذا وطئها وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 حائض؛ لم يحل لها الرجوع بهذا الوطء إلى زوجها الأول؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1، وظاهره: أن الوطء في حال الحيض، لما كان منهيًا عنه؛ لم يدخل تحت الوطء المأمور به للإباحة. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب أبو بكر الرازي2 إلى أنه يتناول المكروه، واحتج في طواف المحدث بقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 3، وقال: جواز الفعل مراد، واللفظ يتناوله، فجاز إثباته، وإن كانت الصفة التي حصل الفعل عليها مكروهة. واختار أبو عبد الله الجرجاني مثل قولنا.   1 "222" سورة البقرة. والآية في الأصل: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} والآية في المصحف كما أثبتناه. 2 وهكذا نقل عنه السرخسي في أصوله"1/164"، وذكر عنه الاحتجاج بآية الطواف. 3 "29" سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 دليلنا : أن المأمور به ما اقتضاه الأمر وحث عليه: إما واجبًا وإما ندبًا، والمكروه منهي عن فعله وممنوع منه؛ فهو مضاد للمأمور به؛ فلا يجوز أن يكون اللفظ متضمنًا له، كما أن المحذور لما كان ضد الواجب؛ لم يجز أن يكون الأمر متناولًا له؛ ولأن المفعول على صفة لم يؤذن فيه بمثابة فعل آخر؛ فصار كمن أمر بالصيام، فأوقع ما يسمى صلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الطواف مأمور به، والكراهة تعلقت بفعل آخر، وهو ترك الطهارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 والجواب: أن ترك الطهارة، وإن كان منهيًا عنه؛ فإن هذا النهي يعود إلى الفعل الذي هو في الأصل طواف؛ لأنه منع من إيقاعه على هذا الوجه، ولو كان هذا صحيحًا؛ لوجب أن لا يكون السجود للشيطان منهيًا، وأن يكون النهي تعلق بإرادة فعله لغير الله تعالى، وكذلك قتل المؤمن لا يكون منهيًا عنه؛ وإنما يتعلق النهي بقصده إلى قتل نفس المؤمن دون الكافر، وهذا يوجب أن يكون جميع ما نهي عنه مأمورًا به، وهذا فاسد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 مسألة تعلق الأمر بالمعدوم مدخل ... مسألة [تعلق الأمر بالمعدوم] : 1 الأمر يتعلق بالمعدوم، وأوامر الشرع قد تناولت جميع المعدومين إلى قيام الساعة. ويفيد هذا الخلاف أنه لا يحتاج إلى أمر ثانٍ. وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية حنبل: "لم يزل الله يأمر بما شاء ويحكم". فقد نص على أنه أمر فيما لم يزل، ولا مأمور. وقال أيضًا -فما خرجه في محبسه-: "لم يزل متكلمًا إذا شاء"؛ فقد أثبت قدم كلامه، وكلامه أمر ونهي، وهو قول الأشعرية ومن تابعهم من أصحاب الشافعي. وذهب المعتزلة وجماعة من أصحاب أبي حنيفة فيما ذكره أبو عبد الله الجرجاني2 في أصوله: إلى أن الأمر لا يتعلق بالمعدوم، وأن أوامر الشرع   1 راجع في هذه المسألة التمهيد في أصول الفقه الورقة "46-47"، والمسودة ص "44-45"، وروضة الناظر ص "110"، وشرح الكوكب المنير ص "175-176". 2 هو: محمد بن يحيى بن مهدي، وقد سبقت ترجمته ص"269". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 الواردة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بالموجودين في وقته؛ فأما من بعدهم فإنه دخل في ذلك بدليل1. ثم اختلف القائلون: بأن الأمر يتعلق بالمعدوم: فمذهبنا: أنه أمر إلزام وإيجاب على الحقيقة بشرط وجوده على صفة من يصح تكليفه، سواء كان في الحال موجودًا يتوجه الخطاب إليه، أو لم يكن، وهو اختيار أبي بكر الباقلاني. ومنهم من قال: إن هذا أمر إعلام، إذا كان كيف يكون، وليس بأمر إيجاب وإلزام. ومنهم من قال: يتعلق بالمعدوم، إذا كان هناك موجود مخاطب ببلاغة؛ فأما إن لم يكن من يتوجه الخطاب إليه فلا. والصحيح: ما ذكرنا؛ لأن إعلام المعدوم لا يصح؛ وإنما يعلم المواجه بالخطاب، ويصح الأمر لمن ليس بحاضر ليبلغ ذلك إليه، ولأن هذا القائل قد وافق أن الله سبحانه فيما لم يزل آمرًا ناهيًا، ولا مخاطب. والدلالة على توجه الأمر إلى المعدوم قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، وهذا يقتضي أمره بالتكوين قبل وجوده. وكذلك قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 3. ولأن الصحابة والتابعين كانوا يرجعون في إيجاب الحكم إلى الظواهر   1 وقد اختاره الغزالي في المستصفى "2/81"، والآمدي في الإحكام "2/253"، والبيضاوي في المنهاج "3/364" مطبوع مع شرحه نهاية السول "2/364". 2 40 سورة النحل. 3 46 سورة غافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 المتضمنة للأمر من الله تعالى ومن نبيه [49/ب] عليه السلام على من يوجد في عصرهم لا يمتنع من ذلك أحد منهم؛ فدل على أن الأمر تناول من كان معدومًا حال الخطاب. فإن قيل: يحتمل أن يكون ورد معها دلالة توجب مشاركة الجميع في هذا الحكم، وإن لم ينقل إلينا. قيل: لو كان هناك دلالة أو قرينة لنقل؛ لأن ما لم يتم الدليل إلا به؛ لا يسوغ للراوي ترك نقله، وحيث لم ينقل ثبت أنه ما كان، يبين صحة هذا أنه معلوم، أن الجماعة لم تشترك في معرفة القرينة؛ فلو كان موضوع اللفظ لا يفيد؛ لم يقتصروا على نقل اللفظ والتعلق به دون القرينة. وأيضًا: فإنه يصح الأمر بالزكاة مع عدم المال بشرط وجوده، وكذلك الأمر بالفعل للعاجز مع عدم الآلة بشرط وجودها، كذلك المعدوم بشرط وجوده. فإن قيل: العاجز عاقل مخاطب عالم بالخطاب، والمعدوم بخلاف ذلك. قيل: لا فرق بينهما وذلك أن المعدوم مأمور بشرط القدرة على ذلك. وأيضًا: فإنه يصح وصية الإنسان إلى من يحدث من أولاده، والقيام بأمر الوقف، وإن كان معدومًا في الحال، ويكون أمرًا صحيحًا لمن يحدث، ويكون الحادث متصرفًا بالوصية السابقة في الحقيقة؛ فدل على أن الأمر يتوجه إليه. وأيضًا: قد دلت الدلالة على أن أمر الله تعالى ونهيه هو كلامه، وأنه قديم من صفات ذاته غير محدث، وأنه لم يزل آمرًا، ولا حاضر مأمور، فدل على ما ذكرنا. فإن قيل: هذا أصل فاسد؛ لأن المتكلم بالأمر ولا أحد يواجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 ويسمع كلامه هاذٍ1 سفيه، غير جائز. قيل: هذا لا يصح لوجوه: أحدها: أن هذا إن كان صحيحًا؛ فإنما يكون فيمن يفعل الكلام ويصح منه تركه؛ فأما من يجب كونه متكلمًا في أزليته؛ فلا يصح هذا في حقه. الثاني: أنه لو كان هذيانًا، إذا لم يكن سامع2 للخطاب، لوجب أن يقال إذًا: "هذى الطفل والمجنون والمبرسم"، وهناك من يسمع ذلك، أن لا يكون هذيانًا، لأجل أن هناك سامعًا حاضرًا3؛ فلما لم يجب هذا، لم يصح ما قالوه. الثالث: أنهم لا يجدون كلامًا لأحد منا؛ إلا وهناك سامع؛ لأنه لا أحد منا متكلم في سر ولا جهر؛ إلا والله تعالى سامع كلامه. وجواب آخر وهو: أن معنى الكلام لنفسه الإفهام والتعليم والإشعار بما يريد إفهامه بالكلام، ويكون هذا بمثابة من زعم أنه لو كان عالمًا قادر بنفسه غير معلم ولا مقدر لأحد، ولا ينتفع بكونه عالمًا قادرًا في قدمه؛ لوجب كونه سفيهًا عابثًا، وإذا لم يجز ذلك لم يجب ما قالوه. وعلى أن الإنسان منا قد يوصي إلى معدوم وقت الوصية، ويأمره فيها وينهاه في وصيته [50/أ] ولا يكون عبثًا، مع أن الذم قد يصح قبل وجود المذموم، بدليل أن الله تعالى ذم إبليس فيما لم يزل قبل خلقه.   1 في الأصل: "هادي" بدون اعجام. 2 في الأصل: "سامعًا للخطاب" والصواب ما أثبتناه به لأن "كان" هنا تامة، بمعنى "وجد". 3 في الأصل: "سامع حاضر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الأمر يتعلق بمأمور، والمعدوم ليس بشيء يصح تعلق الأمر به. والجواب: أن الأمر تعلق بمأمور وجد في الثاني، كما تعلقت الوصية بمن يحدث في الثاني، وكما تعلق الأمر بالعاجز لقدرة تحدث في الثاني. واحتج: بأن الأمر إن كان إعلامًا يستحيل أن يوجد في المعدوم، وإن كان إلزامًا يستحيل أيضًا أن يلزم المعدوم الذي ليس بشيء. والجواب: أنه أمر إلزام لمن يحدث في الثاني، كما قلنا في الوصية في العاجز. واحتج: بأن الأمر لو تعلق بالمعدوم؛ لوجب أن يتعلق بالصبي والمجنون، لوجودهما، ويكون الأمر متعلقًا بالبلوغ والعقل، وفي اتفاق الجميع على امتناع ذلك دليل على امتناعه في المعدوم. والجواب: أن كل من أجاز تكليف المعدوم بشرط بقائه؛ فإنه يقول: بأن الصبي والمجنون مأموران بشرط البلوغ والعقل، ولا فرق بينهما؛ وإنما معنى قول الأمة: إنهما غير مكلفين، وإن القلم مرفوع عنهما: رفع المأثم عنهما، ورفع الإيجاب المضيق. ويمكن أن يكون قوله: رفع القلم عنهما بالخطاب والمواجهة؛ لأنه لا يصح مواجهتهما بذلك، لعدم علمهما بذلك، وقد ذكر أبو بكر بن الباقلاني هذا الجواب وحكاه عمن قال بخطاب المعدوم. واحتج: بأنه لو جاز أمره الذي هو الإيجاب والإلزام، لجاز ذمه ولعنه وتسميته بأسماء المدح والذم. والجواب: أنه إنما لم يوصف بذلك؛ لأنه ليس بإيجاب مضيق، وإنما يستحق الذم للتفريط، ويستحق المدح لوجود الفعل؛ فلم يتصفوا بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 لهذا المعنى، وجرى ذلك مجرى المأمور إذا كان عاجزًا بشرط القدرة؛ فإنه لا يوصف بذلك قبل القدرة، وإن كان مأمورًا. واحتج بأن من شرط الأمر وجود المأمور، كما أن من شرط القدرة وجود القادر، فاستحال وجود قدرة بغير قادر، كذا يجب أن يستحيل وجود أمر بغير مأمور. والجواب: أن نظيره أن من شرط الأمر آمر كما أن من شرط القدرة قادر. ولأنه إنما لم يصح قدرة بغير قادر، لأن من شرطها وجود القادر بها؛ لأنها إنما كانت قدرة لقيامها بقادر يأتي1 الفعل بها، وليس كذلك الأمر؛ لأن من شرطه وجود الآمر لكونه قائمًا به، إذ الأمر كلامه، وليس من شرطه وجود المأمور، كما ليس من شرط القدرة وجود المقدور؛ إلا أن يكون مما لا ينفى، ألا ترى أنه يجوز أن يوصي الرجل في وصيته بما يعلمه ولده بعده إذا وجد ومخلفيه، فيكون ما يعمله من يوجد منهم [50/ب] بعده بأمر عند وصيته. فإن قيل: كيف تصح هذه المسألة على أصولكم، وعندكم أن المعدوم ليس بشيء، وتدللون2 عليه بقوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} 3 وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} 4.   1 في الأصل: "ويأتي"، والواو هذه قلقة، لا معنى لها، فحذفناها؛ ليستقيم الكلام. 2 في الأصل: "وتدلون" بلام واحدة. 3 "9" سورة مريم. 4 "1" سورة الإنسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 قيل: يصح على أصلنا من الوجه الذي بينا، وهو أنه أمر بشرط وجوده على صفة من يصلح تكليفه، وعلى أصل المخالف فهو لازم؛ لأن عندهم المعدوم شيء. فإن قيل: فكيف يصح هذا على أصلكم، وقد قلتم: إن شريعة من قبلنا؛ ليس بشرع لنا؛ فلو كان الخطاب غائيًا لدخل فيه كل مكلف يوجد في الثاني؟ قيل: الصحيح من الروايتين أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه، وعلى الرواية الثانية: ليس بشرع لنا، لقيام الدلالة على نسخه. وقد ذكر أبو عبد الله الجرجاني: أن هذا خلاف في عبارة؛ لأنه لا يدعى إلى فعل شيء، ويجب أن تكون فائدته ما ذكرناه من أنه لا يحتاج إلى تكرار الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 مسألة أمر الله العبد بما يعلم أنه سيحال بينه وبينه جائز مدخل ... مسألة 1 [أمر الله العبد بما يعلم أنه سيحال بينه وبينه جائز] : يجوز الأمر من الله تعالى بما في معلومه أن المكلف لا يمكن منه، ويحال بينه وبينه بكونه مع شرط بلوغه حال التمكن. وهذا بناء2 على أصلنا في تكليف ما لا يطاق، وتكليف الكفار العبادات. وهو مذهب الأشعري ومن وافقه من أصحاب الشافعي، وهو اختيار   1 راجع في هذه المسألة: "التمهيد" لأبي الخطاب الورقة "36"، والمسودة ص "52-53" فإنهما اعتمدا على كتاب العدة، كثيرًا. 2 في الأصل: "بناه"، والتصويب من "المسودة" ص "53". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 أبي بكر الرازي والجرجاني1. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا يجوز ذلك2.   1 راجع في هذا: "شرح جمع الجوامع مع حاشية البناني": "1/218"، وتيسير التحرير "2/137". 2 راجع في هذا: المغني لعبد الجبار، قسم الشرعيات "17/59-60، 126"، والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري "1/177". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 دليلنا : أنه لو لم يكن أمرًا؛ لوجب أن لا يصح منه الدخول في العبادة بنية الفرض؛ لأنه لا يعلم هل يحال بينه وبين القدرة على فعلها؛ فلا يكون فرضًا، ولما أجمعنا على صحة العزم على نية الفرض مع هذا التجويز؛ علمنا أنه أمر صحيح. يبين صحة هذا: أنه لا يصح أن ينوي الفرض في ليلة الشك؛ لأنه لا يتحقق الفرض، ولما صح نية الفرض ههنا علم أنه أمر صحيح. ولأنه يصح الأمر من الله تعالى بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن، كذلك جاز أن يأمر بالفعل من يحول بينه وبينه؛ لتساويهما في تعذر الفعل من جهة المأمور في الموضعين. فإن قيل: المأمور هناك لم يؤت في ترك الفعل من قبل الله تعالى؛ وإنما أتى في ذلك من قبل نفسه؛ فلم يحصل الأمر عبثًا. قيل: إذا سبق علمه أنه لا يؤمن، فقد تحقق تعذر الفعل من جهة المأمور حين الأمر؛ لأن علمه لا ينقلب؛ لأن ضد العلم الجهل، وهو يتعالى عن ذلك، كذلك ههنا. ولأن في هذا فوائد، وهو امتحان المكلف واستصلاحه وتوطين النفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 على فعل العزم على الطاعة، ومسرة الآمر بأمره وإيثار الإقرار من المأمور بالتزام طاعته والإخبار بالعزم على امتثال أمره إلى غير ذلك. وأيضًا: فإنا وجدنا [51/أ] في الشاهد يحسن أمر المولى عبده بأن يسقيه الماء عند الحاجة إليه، وإن لم يكن على ثقة من تمكن العبد بما أمر به، وجوز أن يحال بينه وبينه ويخترم دونه، كذلك أوامر الله تعالى يجب أن تكون محمولة على ذلك. فإن قيل: الله تعالى عالم بالعواقب، فلا يحسن أمره بما يعلم استحالة وقوعه من المكلف؛ فإذا علم أن المكلف سيحال بينه وبين ما كلف؛ لم يحسن أمره به، كما لا يحسن أمره بما علم استحالة حدوثه منه، وليس كذلك الأمر في الشاهد؛ لأنه لا يعلم العواقب، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في أمر الله؛ وإنما اعتبر فيه الظن بتمكين المأمور ما أمر به، فإذا ظن ذلك حسن أمره. قيل: هذا يبطل بأمره بالإيمان من1 يعلم أنه لا يؤمن؛ فإنه يصح، وإن كان عالمًا بالعواقب أنه لا يؤمن، كذلك ههنا. ولأن الأمر حال وروده يحصل للمأمور اعتقاد الوجوب وسكون النفس إلى فعله في الثاني، ويصح تعلق الأمر بهذا المعنى، ألا ترى أن الإيمان بالله تعالى يحصل بمجرد الاعتقاد، وإن لم يقارنه شيء من أفعال الجوارح؟ ولأن هذا القول لو صح؛ لوجب أن يمنع من إطلاقه القول بأن الإنسان منهي عن الزنا في المستقبل، ومأمور بالإيمان؛ لأنه لا يعرف بقاؤه إلى ذلك الوقت.   1 في الأصل: "لم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الله تعالى إذا علم من حال المكلف أنه1 سيحال بينه وبين ما أمر به، ولا يمكن من فعله؛ فإن فعله يستحيل وقوعه منه، وما يستحيل وقوعه لم يحسن الأمر به؛ ألا ترى أنه لا يحسن الأمر بصعود السماء، والمشي على الماء، وقلب العصا حية، وما يجري هذا المجرى مما يستحيل وقوعه من المأمور به؟ والجواب: أنه يبطل الأمر بالإيمان إذا حكم أنه لا يؤمن، فإنه يصح، وإن كان يستحيل وقوعه، كذلك ههنا. وعلى أن الأمر بذلك لا يحصل فيه فائدة؛ لأن المقصود من الأمر تعريض المكلف لاستحقاق الثواب فيما يوقعه، فمتى علم عجز المكلف عن ذلك؛ لم يحصل له سكون النفس إلى فعل ما أمر به، فصار الأمر عبثًا، وهذا حصل من جهة سكون النفس واعتقاد وجوب الفعل، وتعذره بعد ذلك بسبب من جهة نية الآمر؛ فلهذا فرقنا بينهما. وفيه فوائد، منها: إظهار أمره بذلك، وإقرار المأمور به بوجوب طاعته إن بقي، ولاعتقاده أن في أمره بذلك استصلاحًا له في غير ذلك الفعل، وتوطنة النفس على الطاعة في جميع ما يأمره، وليعرضه بذلك لثواب العزم على طاعته.   1 في الأصل: "أن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 مسألة يجوز الأمر من الله تعالى بما يعلم أن المأمور لا يفعله مدخل ... مسألة 1 [يجوز الأمر من الله تعالى بما يعلم أن المأمور لا يفعله] : وقال أحمد رحمه الله في رواية حنبل: علم الله تعالى أن آدم سيأكل   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص54، وكتاب الفصول في أصول الفقه" للجصاص الورقة "106"؛ فإن المؤلف قد استفاد من هذا الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 من الشجرة التي نهاه عنها قبل أن يخلقه. خلافًا [51/ب] للمعتزلة في قوله: لا يجوز1.   1 راجع في هذا: المغني للقاضي عبد الجبار قسم الشرعيات "59/59-61، 126"، والمعتمد في أصول الفقه "1/178-179". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 دليلنا : أنه أمر إبليس بالسجود لآدم مع علمه أنه لا يفعله، وكذلك أمر الكفار بالإيمان مع علمه أنهم لا يؤمنون. ولأن أمره مع علمه أن المأمور لا يفعله كأمره مع علمه أنه يحال بين المأمور وبين الفعل، وقد بينا فيما تقدم جوازه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لا يصح أن يريد من المكلف ما يعلم أنه لا يفعله؛ لأنه عبث. والجواب: أن هذا ليس بعبث؛ لأن الله تعالى قد عرض المأمور بما أمره به إلى النفع إذا أداه، وإظهار1 أمره بذلك وإقرار المأمور به بوجوب طاعته. ولأن هذا يبطل بأمره لإبليس بالسجود مع علمه أنه لا يفعله.   1 في الأصل "أو إظهار". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 مسألة يجوز أن يرد الأمر من الله تعالى متعلقا باختيار المأمور مدخل ... مسألة 1 [يجوز أن يرد الأمر من الله تعالى متعلقًا باختيار المأمور] : وهذا بناء على أصلنا: أن2 المندوب مأمور به مع كونه مخيرًا في فعله وتركه. خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز ذلك3.   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص "54-55"؛ فإنه اعتمد على القاضي أبي يعلى كثيرًا. 2 هكذا في الأصل: "وأن"، والواو هنا زائدة، الصواب حذفها. 3 انظر: كتاب المغني للقاضي عبد الجبار قسم الشرعيات: "17/ 126"، والمعتمد لأبي الحسن البصري: "1/ 178". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 دليلنا : أن الله أرخص لنا القصر في السفر، وأوجب الإتمام في الحضر، وعلق ذلك باختيارنا. وهكذا القول في اختيار واحد من الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين؛ فإذا كان كذلك؛ لم يمتنع أن يرد الأمر معقودًا بشرط اختيار المأمور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لا طريق لنا إلى معرفة ما هو مصلحة لنا فنختاره؛ فلم نأمن أن تكون المصلحة في غير ما نختاره، فلا يجوز أن يكون ذلك موكولًا إلى اختيارنا، وفارق هذا ما يؤديه إليه اجتهادنا أنه مصلحة لنا، وإن كان متعلقًا باختيارنا؛ لأن الاجتهاد قد بين لنا طريقه، فجرى مجرى المنصوص عليه؛ فإذا أدانا اجتهادنا إليه وحكمنا به؛ علمنا أنه مصلحة لنا، وما لم يجعل لنا طريق إلى معرفته؛ فلا نعلم عند اختيارنا له أنه مصلحة لنا، بل جائز أن تكون المصلحة في غيره. والجواب: أنه ليس من شرط صحة الأمر أن يقع على وجه المصلحة لنا، فقد1 يجوز أن يأمر بما لنا فيه مصلحة وما لا مصلحة لنا فيه، ويأتي الكلام فيه على أنه يبطل بما ذكرنا من رخصة القصر والكفارة على طريق التخيير.   1 في الأصل: "وقد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 مسألة ورود الأمر والنهي بالتكليف دائما مدخل ... مسألة 1 [ورود الأمر والنهي بالتكليف دائمًا] : يجوز أن يرد الأمر والنهي بالتكليف دائمًا إلى غير غاية، فيقول: "صلوا في كل يوم أبدًا ما بقيتم"، و "صوموا رمضان أبدًا ما حييتم"؛ فيقتضي ذلك الدوام مع بقاء التكليف، وهذا مع قولنا: إن الأمر يقتضي التأكيد. خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز أن يرد بذلك، ومتى ورد اللفظ بهذا لم يقتضِ الدوام، وإنما هو للحث على التمسك بالفعل.   1 راجع هذه المسألة في: المسودة "ص55". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 دليلنا : أنه ليس بأمر بمحال. ولأنه تصرف في الملك؛ فجاز كتصرف [52/أ] أحدنا في ملكه. ولأن لفظة التأبيد1 موضوعة في اللغة لدوام الفعل دون انقطاعه، كما أنها2 موضوعة لما لا يعقل؛ فلم يجز إطلاق لفظ التأبيد على ما لا يجب دوامه؛ لأنه يصير وجود هذا اللفظ كعدمه. ولأنه لو قال: "صلوا أبدًا؛ فإنه مصلحة لكم ما بقيتم"؛ لكان ذلك مقتضيًا للتأبيد، كذلك إذا أطلق. ولأن من امتنع من هذا الإطلاق يقول: إن فيه قطع الثواب. ولأنا نعلم أنه لا بد لها من الانقطاع بالموت والجنون، وهذا لا يصح؛ لأن الثواب غير مستحق على الله تعالى على ما نبينه. ولأن الأمر ثابت مع بقاء الأمر؛ فلا يدخل فيه حال الجنون والموت؛ لأنه غير مكلف فيه، والأمر تناول المكلف.   1 في الأصل: "التأكيد". 2 في الأصل: "أن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الثواب واجب عليه على الأعمال دائمًا غير منقطع؛ فلو دام عليهم التكليف بطل ثواب عملهم، ولو أثابهم في خلال ذلك؛ لم يكن ثوابهم إلا منقطعًا. والجواب: أن أقل نعمة الله تعالى على خلقه يستحق بها عليهم أن يعبدوه؛ فلا يستحق عليه الثواب، ولو كان الثواب على العمل مستحقًا؛ لم يستحق الثناء والشكر والحمد والمدح، كما أن قاضي الدين وراد الغصب والوديعة، لما كان ذلك مستحقًا عليه؛ لم يستحق الشكر والثناء، وفي إجماعنا على أنه يجب علينا الشكر والثناء والحمد لله على نعمه علينا؛ دليل على أنه غير مستحق عليه. واحتج: بأن هذه العبادات لا بد لها من الانقطاع؛ لأنه إنما حسن الأمر بها لما فيها من الثواب للمكلف، ودوامها يقطع الثواب؛ فإذا كانت لا بد لها من الانقطاع بالموت؛ كان لفظ التأبيد فيها مستعملًا على وجه المجاز؛ فوجب أن يسقط اعتبار الحقيقة فيه، ويكون القصد المبالغة في الحث على التمسك بالعبادة. والجواب: أن قد بينا أن الثواب غير مستحق، على أن الأمر إنما يتعلق بمأمور مكلف، وهو إنما تكون هذه الصفة ما دام في دار التكليف؛ فإذا خرج من كونه مكلفًا بالموت؛ لم يبق عليه حكم الأمر؛ فإذا كان كذلك كانت حقيقة التأبيد ثابتة مع بقاء الأمر، فلا يكون سقوط الأمر دلالة على سقوط حقيقة التأبيد عند الاستعمال. على أن هذا يبطل به لو قال: افعلوا ذلك أبدًا؛ فإنه مصلحة لكم ما بقيتم؛ لكان ذلك مقتضيًا للتأبيد. وإن كان لا بد من الانقطاع بالموت، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 كذلك لفظ التأبيد بهذه المثابة. واحتج: بأن الآمر منا في الشاهد قد يقرن إلى لفظ الأمر لفظ التأبيد؛ فلا يكون مراده به الدوام، كقول المولى لغلامه: "لازم هذا الغريم أبدًا" [52/ب] ، يريد به أن لا يفارقه حتى يستوفي الدين، كقول الأب لابنه: "لازم المعلم أبدًا1، ولا تفارقه حتى تتعلم منه القرآن ونحوه"؛ فوجب أن تكون أوامر الله محمولة على المتعارف في الشاهد. والجواب: أن دلالة الحال تقترن إلى الأمر، فيصير كأنه قال: لازم الغريم والمعلم ما لم تستوف الدين، وما لم تتعلم منه، وهكذا أوامر الله يكون ذلك تقديرها؛ كأنه قال: افعلوا ذلك ما دمتم مكلفين. واحتج بأن المأمور قد يتخلله الجنون والنوم والإغماء، ولفظة التأبيد تعم ذلك، ومعلوم أن الخطاب لا يتوجه إليه. والجواب: أنا قد بينا أن الأمر يتعلق بمأمور مكلف، فهذه الأحوال مستثناة لعدم التكليف، ويبطل به إذا قال: "افعلوا أبدًا؛ فإنه مصلحة"؛ فإنه يصح وإن كان هذا موجودًا.   1 في الأصل "حتى" وهو تحريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 مسألة من شروط الأمر أن يكون المأمور به معدوما في المستقبل مدخل ... مسألة من شروط الأمر أن يكون المأمور به معدوما في المستقبل: 1 من شرط الأمر أن يكون المأمور به في مستقبل الوقت غير موجود، وحكي عن طائفة من المتكلمين أن الأمر بالموجود جائز.   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" "ص57"، وروضة الناظر في شروط الفعل المكلف به ص "28-29". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 دليلنا : أن استحالة وقوع ما هو موجود من الملكف كاستحالة الجمع بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 الضدين، وجعل الجسم في مكانين في وقت واحد؛ فإذا لم يجز ذلك؛ لم يحسن الأمر بالموجود. ولأن الموجود قد خرج بوجوده عن كونه مأمورًا به؛ لأنه لو لم يكن كذلك؛ لكان لا يخرج عن كونه واجبًا؛ لأن الوجوب من مقتضى الأمر، وهذا يوجب بقاء الفرائض على المكلفين بعد فعلهم لها على الوجه المأمور به, وفي بطلان ذلك دليل على امتناع جواز الأمر بالموجود. ولأنه لما لم يحسن أن يأمر الواحد منا في الشاهد من هو قائم بالقيام ومن هو قاعد بالقعود لكون المأمور [به] موجودًا؛ وجب أن يكون أمر الله تعالى محمولًا على ذلك؛ فلا يحسن أمره بما هو موجود؛ لأنه إنما يخاطب بما هو متعارف بين أهل اللسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لو لم يصح الأمر بالموجود؛ لم يصح ذم الكافر على كفره الذي هو فيه في الحال؛ لأنه لا يصح أمره بتركه لكون الأمر موجودًا، ولوجب أن لا يكون المؤمن مأمورًا بالإيمان؛ لأن ما قد وجد منه؛ لا يصح الأمر به على هذه الصفة. والجواب: أن الكافر إنما يستحق الذم على ما فعله1 من اعتقاد الكفر والبقاء عليه، فلا يكون في ذلك دلالة على كونه مأمورًا بما قد وجد منه.   1 في الأصل: "نقله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 مسألة يصح أن يتقدم الأمر على وقت الفعل مدخل ... مسألة 1 يصح أن يتقدم الأمر على وقت الفعل: خلافًا للطائفة التي تقدم ذكرها في المسألة التي قبلها: أن الأمر [53/أ] لا يكون أمرًا إلا في حالة الفعل، وما يتقدمه لا يكون أمرًا؛ وإنما هو إعلام.   1 راجع في هذه المسألة: المسودة "ص57". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 دليلنا : أن الواحد منا في الشاهد يحسن منه أن يأمر عبده بما يفعله في غد، وفيما بعد بأوقات، ويطلق عليه اسم الأمر، ويسمى قوله ذلك أمرًا [فـ] وجب أن تكون هذه الصفة جائزة في أمر الله تعالى وأمر رسوله. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ما يتقدم حال الفعل إعلامًا وتعريفًا، ولا يكون أمرًا إلا في حال الفعل، وتكون هذه سبيل أمر المولى عبده فيما يفعله في الثاني. قيل: قولك: إنه إعلام؛ لا يخلو من أن يكون المراد به حصول العلم للمأمور [أ] وأنه يحصل له به معلوم؛ فإن أردت به حصول العلم كان ذلك باطلًا؛ لأن العلم هو الاعتقاد للشيء على ما هو به، والأمر هو حروف منظومة؛ فكيف يجوز وقوع العلم بالأمر؟! فإن أردت به أن المأمور يحصل له بذلك معلوم بأن يعلم ما أمر به في الثاني؛ فلا يخلو ذلك: من أن يكون يعلم وجوب ما أنبأ عنه لفظ الأمر، أو حدوث أمر مستأنف في الثاني، وكلا الأمرين باطل؛ لأنه إن اعتقد وجوب ما أنبأ عنه القول؛ لم يأمن أن يكون الآمر لم يرد بذلك القول وجوب ما تضمنه؛ وإنما أراد به الندب أو نحوه؛ فإذا اعتقد هو غير ذلك؛ كان اعتقاده جهلًا، وكذلك إن اعتقد أن الأمر سيجدد له أمرًا في الثاني عند حال الفعل، لم يأمن أيضًا أن لا يوجد ذلك من الآمر بأن غيره دونه، فيكون اعتقاد المأمور جهلًا، وإذا بطلت هذه الوجوه كلها؛ لم يبق إلا أن يكون ذلك القول أمرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 مسألة جواز ورود الأمر بالعبادة قبل مجيء وقتها مدخل ... مسألة [جواز ورود الأمر بالعبادة قبل مجيء وقتها] : 1 إذا أمر الله [عبده] 2 بعبادة في وقت مستقبل؛ جاز أن يعلمه بذلك قبل مجيء الوقت. خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز أن يعلمه بذلك قبل الوقت3.   1 راجع "المسودة" ص "57". 2 غير موجودة في الأصل؛ وقد أضفناها ليستقيم الكلام، ويدل عليه عود الضمير في قوله: "يعلمه"، وهو كذلك في "المسودة" ص "57". 3 هذا القول لبعض المعتزلة، وليس لكلهم، كما ذهب إليه المؤلف، يدل على ما قلنا: ما ذكره أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد": "179/1" حيث قال: " ... وقد ذهب قوم إلى أن الأمر بالفعل مقارن لحال الفعل؛ وإنما تقدمه يكون إعلامًا. وعندنا: أن الأمر لا يجوز أن يُبتدأ به في حال الفعل؛ بل لا بد من تقدمه قدرًا من الزمن، يمكن مع الاستدلال به على وجوب المأمور به، أو كونه مرعيًا فيه، ويعقل الفعل في حال وجوبه فيه ... " ثم ذكر بعد ذلك أدلته على ما ذهب إليه. وقد أشير إلى هذا في "المسودة" ص "57" بالقول: "وينبغي أن يكون الخلاف مع بعضهم -أي المعتزلة؛ لأن مأخذ هذه المسألة لا يقتضيه أصول جميعهم، وهم فرقة كثيرة الاختلاف، وأصحابنا ينصبون الخلاف مع مطلق الجنس، لا مع عموم الجنس". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 دليلنا : إن إعلامه بذلك لا يفضي إلى الأمر بالمحال، فيجب أن يجوز. ولأن الأمر إذا جاز تعليقه بوقت وزمان؛ جاز تعليقه بوقت معلوم كالطلاق والوكالة، لما جاز تعليقهما1 بزمان مستقبل صح بوقت معين. ولأن تعليقه بوقت معين آكد من الإطلاق، يدل على هذا: أنه لو أمر عبده بفعل شيء في وقت غير معين؛ لم يحسن تأديبه على تأخيره، ولو علقه بوقت معين فأخره عنه حسن تأديبه وتوبيخه.   1 في الأصل: "تعليقه" بالإفراد، والصواب ما أثبتناه؛ لعود الضمير على مثنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لو أعلمه بذلك؛ لكان قد علم أنه سيبقى إلى وقت الفعل لا محالة، ولو جاز ذلك؛ لكان إغراءً له بالمعاصي؛ لأنه يتكل على التوبة منها، وفي بطلان هذا دليل على أنه لا يجوز أن يعلم المكلف ما أمر به. والجواب: أنه لا يعلم أنه سيبقى إلى وقت الفعل، للأصل الذي تقدم؛ وإنما يجوز أن يخبر به المكلف قبل الفعل. وعلى أن هذا لا يمنع من إعلامه بالوقت وإن أفضى إلى ما ذكرت، كما لم يمنع ذلك من صحة التوبة، وإن أفضى ذلك إلى ما ذكرت؛ لأن التوبة تجب ما قبلها من المعاصي؛ فإذا علم بذلك أخلد إلى المعاصي، ثم عقب ذلك بالتوبة، ثم لم يمنع هذا من صحة التوبة؛ كذلك لا يمنع من معرفة الوقت، وليس لهم أن يقولوا: إنه يجوز أن يموت قبل كمال الفعل؛ لأن الموت عليه أمارة في الغالب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 مسألة [بعض الواجبات أوجب من بعض] : 1 يجوز أن يقال: إن بعض الواجبات أوجب من بعض. كالصلوات الخمس [أوجب] من المنذورات، والزكوات أوجب من النذور، وكذلك الإيمان أوجب من غيره من العبادات، وكذلك الكفر   1 راجع "المسودة" ص "58"، وشرح الكوكب المنير ص"110"، وتحرير المنقول وتهذيب علم الأصول للمرداوي الورقة "11/أ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 أعظم من المعصية من سرقة حبة. وقد قال أحمد رحمه الله: "ركعتا الفجر آكد من الوتر". وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة1، وذكره أبو بكر بن الباقلاني أيضًا. ومن الناس من منع ذلك2. ولسنا نريد بهذا أنه يرجع إلى نفس الأمر وما يتعلق به، وأن الأمر بفعل الإيمان أشد تعلقًا به من تعلق الأمر بالصلاة الواجبة؛ لأن الأمر بفعل الشيء متى كان يعود إلى إيقاعه؛ فإن الإيقاع للإيمان كإيقاع غيره. ولا نريد به أيضًا: أن الإيمان أوجب من غيره؛ لأجل أن فعله يقف على أفعال متقدمة مثل النظر والاستدلال؛ لأن سائر الطاعات لا تصح إلا بتقدم غيرها عليها، وهو الإيمان، وكذلك الصلاة والزكاة لا يصحان إلا بالنية المتقدمة، كالإيمان. وإنما نريد بذلك: أن المستحق من الثواب بأحد الفعلين أعظم مما يستحق بغيره، أو أن أحد الواجبين طريقه القطع والآخر غلبة الظن3.   1 لأنهم فرقوا بين الفرض والواجب، ومن فرق بينهما جعل الفرض أعلى من الواجب. انظر: "شرح التلويح على شرح التوضيح": "2/123". وقول الحنفية هو رواية عن الإمام أحمد، وبها قال ابن شاقلا والحلواني الحنبليان. انظر: "شرح الكوكب المنير" ص "110"، وتحرير المنقول للمرداوي ورقة "11/أ". 2 وممن منع ذلك ابن عقيل من الحنابلة، وبعض المتكلمين. راجع: "المسودة" ص "58". 3 هذا إشارة من المؤلف إلى ثمرة الخلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 ولا يلزم على ما ذكرنا أن يجوز كذب أكذب من كذب، وصدق أصدق من صدق؛ لأنهما أمران يرجعان إلى الخبر، وهو وقوع الشيء على ما أخبر به المخبر أو على خلافه، وهذا لا يوجب اختلاف حال الخبرين في أنفسهما. ولأن الكذب ليس بكاذب، ولا الصدق صادق؛ فلم يجز أن يقال: أصدق وأكذب، ولأن أصدق1 اسم علم، فلا يستعمل فيه للمبالغة كقولنا: زيد وعمرو، وليس كذلك: صادق أصدق من صادق؛ لأنه يصح أن يقال: إن المراد به أن أحدهما أكثر صدقًا من الآخر، وأما حسن أحسن من حسن، فيجوز. وقد ذكر أصحابنا في الاقتصار على تطليقة واحدة، أنه أحسن من الثلاث2، وإن كانتا جميعا قد اشتركتا في السنة3. وهذا معنى قول الخرقي4: "وطلاق السنة أن يطلقها طاهرًا من   1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "الصدق". 2 في الأصل: "الثلاثة". 3 هكذا اختار القاضي، ومن قبله الحرقي القول بجواز الجمع بين الثلاث طلقات، وأن ذلك مسنون ما دام في طهر لم يمسها فيه. وهذا رواية عن الإمام أحمد. وهناك رواية أخرى أن الجمع بين الثلاث بدعة ومحرم، واختارها من الحنابلة أبو بكر وأبو حفص. انظر المغني لابن قدامة "7/301". 4 هو عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد أبو القاسم الحرقي. من الطبقة الثالثة من فقهاء الحنابلة. له مؤلفات كثيرة، لم يصلنا منها سوى "المختصر في الفقه"، وذلك لاحتراق كتبه. توفي بدمشق "334هـ". له ترجمة في شذرات الذهب "2/336"، وطبقات الحنابلة "2/75-76"، والمدخل لمذهب الإمام أحمد ص "209". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 غير جماع طلقة؛ فإن طلقها ثلاثًا في طهر كان أيضًا للسنة وكان تاركًا للاختيار1". ويدل على ذلك أن الواجبين الجائزين قد يشتركان في الوجوب، أحدهما أحسن من الآخر، مثل من خفف صلاته، وأداها آخر بركوع وسجود أتم، وكذلك من أعطى زكاة ماله فقيرًا، وأعطى الآخر إلى من هو أحوج منه؛ كان ذلك أحسن. وأما الأولى: فهو على ضربين: منه ما هو آكد، والثاني ما هو دونه. فالآكد مثل ركعتي الفجر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوم على فعلها، وحث الناس بوجوه الحث على إيقاعها، ونبه على حكمها بقوله: "صلوهما فإن فيهما الرغائب"2 وقال: "هما خير من الدنيا وما فيها" 3. وكذلك الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على فعله، وحث الناس عليه بقوله: "أوتروا يا أهل القرآن" 4، وقوله: "إن الله زادكم صلاة   1 هذا النص موجود في مختصر الخرقي ص "152" مع اختلاف طفيف. 2 لم أقف عليه. 3 هذا الحديث روته عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. أخرجه عنها مسلم في كتاب "صلاة المسافرين"، باب استحباب ركعتي سنة الفجر "1/505". وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في ركعتي الفجر من الفضل "2/275". راجع أيضًا: تلخيص الحبير "2/20". 4 هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء أن الوتر ليس بحتم "2/316"، وقال فيه: "حديث حسن". = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الوتر" 1، فلهذا قال أحمد رحمه   = وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب استحباب الوتر "1/327". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة باب ما جاء في الوتر، كما أخرجه عن ابن مسعود رضي الله عنه في الموضع السابق "1/370". وأخرجه النسائي عن علي رضي الله عنه في كتاب قيام الليل وتطوع النهار "3/187". وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "1/118". وأخرجه عنه الإمام أحمد كما في الفتح الرباني في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "4/273". وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في أول كتاب الوتر "1/300". راجع في هذا الحديث أيضًا: تيسير الوصول "2/217"، والمنتقى "190". 1 هذا الحديث أخرجه الترمذي عن خارجة بن حذافة رضي الله عنه في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "2/314" وقال فيه: "حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي حبيب". وتعقبه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي في الموضع السابق بأن ابن أبي الحكم رواه في فتوح مصر ص "259-260" عن أبيه عن بكر بن مضر عن خالد بن يزيد عن أبي الضحاك عن عبد الله بن أبي مرة، وأبو الضحاك هو: "عبد الله بن راشد الزوفي". ثم علق الشيخ أحمد شاكر على هذا بقوله: "وهذا إسناد صحيح أيضًا، وهو متابعة جيدة ليزيد بن أبي حبيب، ويرد قول الترمذي أنه لا يعرفه إلا من حديثه". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب استحباب الوتر "1/327". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة باب ما جاء في الوتر "1/369". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة باب في الوتر "1/308". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة باب فضيلة الوتر "2/30". وحديث خارجة هذا قال فيه البخاري: لا يعرف سماع بعض هؤلاء من بعض كما نقل ذلك عنه ابن عدي في الكامل. وقد أعله ابن الجوزي في كتابه: "التحقيق" بابن إسحاق وبعبد الله بن راشد. ونقل عن الدارقطني أنه ضعفه. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 .............................................................................................   = وتعقب صاحب "التنقيح" ابن الجوزي فقال: أما تضعيفه بابن إسحاق؛ فليس بشيء، فقد تابعه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب به. وأما نقله عن الدارقطني أنه ضعف "عبد الله بن راشد"؛ فغلط؛ لأن الدارقطني إنما ضعف "عبد الله بن راشد البصري" مولى عثمان بن عفان الراوي عن أبي سعيد الخدري، وأما هذا راوي حديث خارجة، فهو "الزوفي" أبو الضحاك المصري، ذكره ابن حبان في كتاب الثقات. وقال ابن حبان فيه: "إسناد منقطع، ومتن باطل". وقال الحاكم بعد إخراجه "1/306": "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، رواته مدنيون ومصريون، ولم يتركاه إلا لما قدمت ذكره، من تفرد التابعي عن الصحابي"، وقد وافقه الذهبي على ذلك. أما الإمام أحمد فقد أخرجه عن أبي بصرة رضي الله عنه، كما في الفتح الرباني كتاب الصلاة باب ما جاء في وقت الوتر "4/279-280"، وقد أخرجه بسندين، الأول رجاله - كما يقول الهيثمي في كتابه الزوائد "2/239": رجال الصحيح، خلا علي بن إسحاق، شيخ أحمد، وهو ثقة. أما السند الثاني ففيه ابن لهيعة. كما أخرجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده في مسنده "2/180، 206، 208" من طريقين في أحدهما الحجاج بن أرطاة، وفي الأخرى: المثنى بن الصباح، وهما ضعيفان. وقد أخرجه الدارقطني أيضًا في الموضع السابق ذكره "2/30"، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه النضر أبو عمر الخزاز، ضعيف. كما أخرجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده "2/31"، وفيه: محمد بن عبيد الله العرزمي، ضعيف. وأخرجه الطيالسي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "1/118". وقد استوفى الكلام في ذلك الزيلعي في نصب الراية "2/108-112"، وابن حجر في تلخيص الحبير "2/16"، وراجع أيضًا: تيسير الوصول "2/208". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 الله: "من ترك الوتر فهو رجل سوء1". ومنها ما دون ذلك؛ فيسمى نافلة السنن.   1 قول الإمام أحمد هذا، رواه عنه هارون بن عبد الله البزار، وفيه: "قال أحمد في الرجل يترك الوتر عمدًا: هذا رجل سوء، يترك سنة سنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، هذا ساقط العدالة إذا ترك الوتر متعمدًا". وقد رواه أبو طالب وصالح كما يلي: "من ترك الوتر متعمدًا هذا رجل سوء؛ وذلك لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم". انظر: بدائع الفوائد لابن القيم "4/111"، والمغني لابن قدامة "2/133-134". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 مسألة 1 [حكم الزيادة على الواجب] : إذا فعل الواجب على المداومة، وزاد على ما يتناوله الاسم كالركوع والسجود إذا داوم عليه المكلف؛ فهل يكون عليه جميعه واجبًا؟ يحتمل أن يقال: الواجب أدنى ما يتناوله الاسم، والزيادة نفل، وهذا اختيار أبي عبد الله الجرجاني، وأبي بكر الباقلاني2.   1 راجع في هذه المسألة المسودة ص "58-59"، وتحرير المنقول وتهذيب علم الأصول للمرداوي الورقة "12/ب"، وكذلك عزاه إليهم الفتوحي في شرح الكوكب ص "127"، واختاره الغزالي في المستصفى "1/73" وقد اختاره من الحنابلة أبو الخطاب وابن قدامة المقدسي، كما في روضة الناظر ص "20". 2 ونسب المرداوي الحنبلي هذا القول إلى الأئمة الأربعة، كما في كتابه "تحرير المنقول" الورقة: "13/ب"، وكذلك عزاه إليهم الفتوحي في "شرح الكوكب" ص: "127"، واختاره الغزالي في "المستصفى" "1/73" وقد اختاره من الحنابلة أبو الخطاب وابن قدامة المقدسي، كما في "روضة الناظر" ص"20". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وذهب أبو الحسن الكرخي إلى أن جميعه واجب1، وقال في الركوع إذا داوم عليه المكلف كان جميعه واجبًا، وكذلك القراءة إذا طولها. وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله عنه؛ لأنه استحب للإمام أن ينتظر على المأموم في الركوع ما لا يشق على المأمومين؛ فلولا أن إطالة الإمام في الركوع يكون جميعه واجبًا؛ لم يصح إدراك الركعة معه؛ لأنه يفضي إلى أن يكون المفترض مقتديًا بالمتنفل2. وجه ما ذكرناه3: أن ما زاد على ما يتناوله الاسم مخير بين فعله   1 اختار هذا بعض الحنابلة، كما في المسودة ص "58". 2 تُعُقِّبَ القاضي أبو يعلى في وجه استدلاله بما نقله عن الإمام أحمد هنا. فقال في المسودة ص "58": " ... وهذا ليس بمأخذ صحيح؛ لأن الكل قد اتفقوا على هذا الحكم مع خلفهم في هذه المسألة، وفي مسألة اقتداء المفترض بالمتنقل..". كما نقل في المسودة عن ابن عقيل أنه صرح بأن مأخذ شيخه أبي يعلى مأخذ فاسد. وقد غلط أبو الخطاب شيخه أبا يعلى في وجه استدلاله هذا، وذلك في كتابه التمهيد في أصول الفقه الورقة "43/ب" حيث قال: "وهذا الاستثناء غلط؛ لأن المفترض يمنع أن يقتدى بمن هو متنفل في جميع صلاته؛ فأما إذا أدرك معه ما هو سنة في الصلاة؛ فلا يكون قد اقتدى بمتنفل عند الجميع؛ ولهذا لو أدركه في حال الافتتاح والاستعاذة وقراءة السورة، يكون قد أدركه وهو متطوع، ثم لا يقول أحد: إنه لا يصح اقتداؤه به. وعلى أن عن أحمد في اقتداء المفترض بالمتنفل روايتين، فكيف يحمل قوله في هذه". 3 كلام المؤلف هذا، وجوابه عن دليل القائلين بالوجوب يفيدان بأنه اختار القول بأن الزيادة نفل. لكن المرداوي في كتابه تحرير المنقول "12/ب" نقل عن المؤلف القولين وصرح ابن قدامة في كتابه "روضة الناظر" ص "20" بأن المؤلف اختار القول بالوجوب. وذكر في "المسودة" ص "59" أن الحلواني حكى عن المؤلف القول بالوجوب، كما ذكر أن المؤلف اختاره في كتابه "العمدة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وتركه من غير أن يقيم مقامه غيره، وهذا يمنعه وجوبه، ألا ترى أن النوافل لما كانت بهذه الصفة؛ لم تكن واجبة؟ ووجه من قال جميعه واجب أن قوله تعالى: {ارْكَعُوا} 1 يقتضي ما يتناوله اسم الركوع، وإن جاز الاقتصار على الجزء، كما أن من أذن لآخر في أن يتصدق من ماله بما شاء على زيد، فتصدق عليه بألف؛ جاز، وإن2 كان فاعلًا لما أمر به، وإن كان له أن يقتصر على قدر درهم واحد. وكذلك قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 3، يعبر عن كل ما تيسر؛ وإن جاز الاقتصار على القليل، مثل من قال: "بع عبدي بما تيسر"؛ جاز بيعه بما كان، وإن جاز له أن ينقص منه. ولأن البناء كالابتداء؛ ولهذا لو حلف: لا يأكل ولا يلبس ولا يركب، فاستدام ذلك؛ حنث، كما لو ابتدأ، كذلك في مسألتنا. والجواب: أن قوله: "اركعوا" يفيد أدنى ما يتناوله الاسم، ألا ترى أنه متى فعل هذا القدر سقط الفرض عن ذمته؛ فلم يجز الزيادة عليه إلا بدلالة، ويفارق هذا قوله لآخر: تصدق على فلان من مالي؛ لأن العادة [54/ب] جارية أنه متى أراد تقدير العطية؛ فإنه يبينه للمأمور، فلما   1 "77" سورة الحج. 2 الواو هنا قلقة، وقد دأب على التعبير بها في مواطن كثيرة. 3 "20" سورة المزمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 ترك ذكره دل أنه جعل الخيار إليه في ذلك، فكان انضمام العادة إلى الأمر هو الموجب لما ذكره دون اللفظ. ولا يجوز أن يقال: البناء كالابتداء؛ لأن الابتداء إنما وقع واجبًا؛ لأنه ممنوع من تركه، ولما كان البناء مأذونًا في تركه من غير أن يقيمه مقام غيره لم يكن واجبًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 مسألة اللفظ المتضمن للندب يدل على وجوب غيره مدخل ... مسألة 1 [اللفظ الذي يتضمن الندب يدل على وجوب غيره] : نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "بالغ في الاستنشاق " 2: أنه يفيد وجوب الاستنشاق، وإن كانت صفة.   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص "59"، وعنوان المسألة فيها: "إذا ورد الأمر بهيئة أو صفة لفعل، ودل الدليل على أنها مستحبة جاز التمسك به على وجوب أصل الفعل؛ لتضمنه الأمر به؛ لأن مقتضاه وجوبها ... " وهو عندي أحسن وأوضح من عنوان المؤلف. 2 هذا الحديث صحيح رواه لقيط بن صبرة رضي الله عنه، أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في كراهته مبالغة الاستنشاق للصائم "3/146". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة باب في الاستنثار "1/31"، وفي كتاب الصوم باب الصائم يصب عليه الماء من العطش ويبالغ في الاستنشاق "1/552". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة باب المبالغة في الاستنشاق "1/57". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار "1/142". وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده، كما في الفتح الرباني في كتاب الطهارة باب في المضمضة والاستنشاق والاستنثار "2/25-26". وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/16". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 وكذلك قوله صلى الله عليه [وسلم] في السعي بين الصفا والمروة: "اسعوا" 1 يفيد وجوب المشي بين الصفا ...   1 هذا الحديث روته حبيبة بنت أبي تجزئة رضي الله عنها. أخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده" من طريقين، وفي كل منهما "عبد الله بن المؤمل"، راجع الفتح الرباني في كتاب الحج باب وجوب الطواف بالصفا والمروة "76/12-77". وأخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب الحج باب السعي بين الصفا والمروة "2 /49-50"، وفي إسناده عبد الله بن المؤمل أيضًا، وأخرجه عنها الدارقطني؛ إلا أنه سماها: حبيبة بنت أبي تجرأة، بالراء المهملة "255/2". وأخرجه عنها البيهقي "98/5"، وفي إسناده ابن المؤمل كالدارقطني. وأخرجه عنها الطبراني في الكبير كما حكى ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد "274/3" ثم قال بعد ذلك: "وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن حبان، وقال: يخطي، وضعفه غيره". وقد أخرجه عنها إسحاق بن راهويه، حكى ذلك الزيلعي في نصب الراية "55/3" كما حكى أن عدي أعل الحديث بابن المؤمل وأسند تضيعفه إلى أحمد والنسائي وابن معين. ووافقهم على ذلك. وقال الحافظ في الفتح "498/3": "أخرجه الشافعي وأحمد وغيرهما، وفي إسناد هذا الحديث عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف. ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب. قلت: له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة. وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى وإذا انضمت إلى الأولى قويت". وابن المؤمل هذا، قال فيه النسائي في كتابه الضعفاء والمتركين ص "63": "ضعيف"، وبمثل قوله قال الدارقطني. ونقل عن ابن معين من طريقين القول بضعفه، كما نقل عنه القول بأنه لا بأس به، عامة حديثه منكر، وروى عباس عنه قوله: إنه صالح الحديث. وقال ابن عدي: "عامة حديثه الضعف عليه بين". راجع في هذا: الميزان "510/2". وأخرجه الواقدي في مغازيه عن بنت أبي تجزئة، نقل ذلك الزيلعي في نصب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 .................................................................................   = الراية "3/57"، ومن طريق الواقدي أخرجه البيهقي في سننه "5/98" والواقدي قال فيه البخاري في كتابه "الضعفاء الصغير" ص104: "متروك الحديث". وقال فيه أحمد: كذاب. وقال ابن معين: ليس بثقة. هكذا في الميزان "3/662-666". وقال فيه النسائي في كتابه الضعفاء والمتروكين ص "93": "متروك الحديث". وروته تملك العبدرية رضي الله عنها. أخرجه عنها البيهقي في سننه "5/98"، كما أخرجه الطبراني في "الكبير"، نقل ذلك الزيلعي في نصب الراية "3/56"، وقال: تفرد به مهران بن أبي عمر، ومهران هذا: وثقه ابن معين وأبو حاتم. وقال النسائي: "ليس بالقوي". وقال فيه البخاري: "في حديثه اضطراب". انظر الميزان "4/196"، والضعفاء الصغير ص "111". وقال الهيثمي في مجمع الزوائد "3/148" عند كلامه على حديث العبدرية: "وفيه المثنى بن الصباح، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعفه جماعة". وابن المثنى هذا: قال فيه النسائي في كتابه الضعفاء والمتروكين ص "99": "متروك الحديث". وذكر الذهبي في المغني "2/541" أن ابن معين ضعفه، كما ذكر أن بعضهم مشاه. ونقل البخاري في كتابه الضعفاء الصغير "112" عن يحيى قوله: "ولم نتركه من أجل عمرو بن شعيب، ولكن كان منه اختلاط في عقله". وروته صفية بنت شيبة رحمها الله تعالى. أخرجه عنها الطبراني في الكبير، نقل ذلك الزيلعي في كتابه نصب الراية "3/57"، كما نقل عن الدارقطني قوله: "في هذا الحديث اضطراب كثير". وفيه: المثنى بن الصباح، وقد مضى الكلام عنه. وأخرجه الدارقطني في سننه من طريق آخر عن صفية بنت شيبة عن نسوة من بني عبد الدار أدركن النبي صلى الله عليه وسلم "2/255". ونقل الزيلعي في نصب الراية "3/56" عن صاحب التنقيح قوله: "إسناد صحيح، و"معروف بن مشكان" باني كعبة الرحمن "أحد رواة الحديث" صدوق، لا نعلم من تكلم فيه، ومنصور هذا "أحد رواة الحديث أيضًا" مخرج له في الصحيحين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 والمروة1، وأن نطقه يفيد مشيًا على صفة هي السرعة. وقد استدل أحمد رضي الله عنه على وجوب الاستنشاق بالحديث2 الذي ذكر فيه المبالغة، فقال رضي الله عنه في رواية الميموني وحنبل، واللفظ لحنبل: إذا نسي المضمضة قبل الاستنشاق يعيد الصلاة3؛ لقول   1 اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله في حكم السعي بين الصفا والمروة في الحج: أ- فقيل: هو ركن. ب- وقيل: هو سنة، لا يوجب تركه شيئًا. وقال القاضي أبو يعلى: هو واجب، واختاره الموفق ابن قدامة، وانتصر له. انظر المغني لابن قدامة "3/349-350". 2 المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله: أن الاستنشاق واجب في الطهارتين الكبرى والصغرى، وقطع القاضي بأنها الرواية الوحيدة عن الإمام أحمد، وقد ذكر غيره رواية أخرى: أنها واجبة في الطهارة الكبرى، مسنونة في الصغرى. انظر: المغني لابن قدامة "1/120". والرواية الأولى من مفردات الإمام أحمد، كما صرح بذلك البهوتي في كتابه: "منح الشفاء والشافيات في شرح المفردات" ص "33-34". 3 هذه الرواية رواها أبو داود في مسائله ص "7"، ونصها: "سئل -أي الإمام أحمد- عمن نسي المضمضة والاستنشاق حتى صلى؟ قال: يمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة. قلت: لا يعيد الوضوء؟ قال: ليس هذا من فرض الوضوء". ونصها في رواية صالح في مسائلة الورقة 5 هكذا: "سألت أبي عمن نسي المضمضة والاستنشاق حتى يصلي؟ قال: يعيد المضمضة والاستنشاق ويعيد الصلاة". وقد أوردها صالح في الورقة ص "9" بأوضح مما سبق حيث قال: "قلت: رجل نسي المضمضة والاستنشاق وصلى؟ قال: يعيد الصلاة. قلت: يعيد الصلاة ويعيد الوضوء؟ قال: لا، ولكن يمضمض ويستنشق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استنشقت فانتثر" 1. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يدل ذلك على الوجوب، حكاه الجرجاني.   1 هذا الحديث رواه سلمة بن قيس رضي الله عنه مرفوعًا: أخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في المضمضة والاستنشاق "1/40" بلفظ: "إذا توضأت فانتثر، وإذا استجمرت فأوتر"، وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة باب الأمر بالاستنثار "1/58"، ولفظه كلفظ الترمذي. وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار "1/142-143". راجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/16"، وتيسير الوصول: "2/310". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 دليلنا : أن الأمر يتناول شيئين أحدهما الاستنشاق، والثاني المبالغة؛ لأن المبالغة لا تحصل إلا بوجود الاستنشاق، وكذلك السعي لا يحصل إلا بوجود المشي؛ فسقوط أحدهما لا يوجب سقوط الآخر، كالعموم إذا خص. وذهب المخالف إلى أن نفس المنطوق به هو المبالغة، وهو السعي، وذلك غير واجب؛ فلم يجب مدلوله. والجواب: أنا قد بينا أن الأمر اقتضى أمرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 مسألة 1 [المذكور متى جعل دلالة على نفس عبادة] : فإن ذلك دلالة على وجوبه فيها. وذلك مثل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفَجْرِ} 2، لما دل على صلاة الفجر؛ فهم وجوبه فيها. وكذلك قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ 3} فلما نبه بذكر الحلق على الإحرام؛ كان ذلك واجبًا فيه. وكذلك قوله4: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 5، لما دل على الصلاة؛ كانا واجبين فيها؛ لأن الشيء يجعل دلالة على الغير متى كان مقصودًا في نفسه مطلوبًا منه، وهذه الأمور مقصودة من هذه العبادات مرادة فيها. ولأن العادة جارية أن ذكر معظم الشيء يجعل دلالة على باقيه، ولا يجعل الجزء منه دلالة عليه؛ فكان ذكر الشيء على وجه الدلالة على غيره تنبيها على كونه بعضًا منه.   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص "60"، وتحرير المنقول الورقة "12/ب". 2 "78" سورة الإسراء. 3 "27" سورة الفتح. 4 "قوله" مكررة في الأصل. 5 "77" الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 مسألة 1 [ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب] : إذا أمر الله تعالى [عبده] بفعل من الأفعال وأوجبه عيله، وكان المأمور لا يتوصل إلى فعله إلا بفعل غيره؛ وجب [55/أ] عليه كل فعل لا يتوصل إلى فعل الواجب إلا به2.   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"60"، وتحرير المنقول للمرداوي الورقة "12/ب"، وروضة الناظر ص "19-20"، وشرح الكوكب المنير ص "112". 2 يفهم من ثنايا كلام المؤلف رحمه الله: محل النزاع، ولكنه غير مدرك بصورة واضحة، ولتوضيحه نقول: ما لام يتم المأمور إلا به على صورتين: الأولى: ما لا يتم الوجوب إلا به؛ فليس بواجب، حكاه المرداوي في تحرير المنقول الورقة "12/ب" إجماعًا. الثانية: ما لا يتم الواجب إلا به، وذلك على قسمين: الأول: غير مقدور للمكلف؛ فليس بواجب عند الحنابلة. الثاني: مقدور للمكلف؛ فواجب عندهم، حكاه المرداوي والموفق ابن قدامة وأبو البقاء الفتوحي. وهناك طريق أخرى للتقسيم تابع ابن قدامة الغزالي فيها. كما أن هناك طريق ثالثة سكلها أحد آل تيمية في "المسودة". انظر: المراجع السابقة في أول المسألة. وما لا يتم المأمور إلا به؛ إما أن يدخل في هيئة المأمور به أو لا؛ فإن كان داخلًا؛ فلا خلاف في كونه داخلًا في المأمور به. وإن كان خارجها؛ فإما أن يكون سببًا أو شرطًا، وكل منهما، إما شرعي أو عقلي أو عادي، وفي كل ذلك خلاف. أفاده أبو البقاء الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" ص "112"، والمرداوي في تحرير المنقول الورقة "12/ب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 وذلك مثل أن يجب عليه أن يتطهر للصلاة، ولا يمكنه أن يتطهر إلا بشراء الرشاء واستقاء الماء؛ فيلزمه الشراء والاستقاء؛ لأنه يلزمه فعل الواجب عليه إذا كان له طريق إليه، فلا يجوز له تركه مع الإمكان، وهو في الحال متمكن على هذا الوجه؛ فلهذا لزمه. ولهذا قال1 أصحابنا: إذا وجد الماء بأكثر من ثمن مثله، بزيادة لا تجحف بماله؛ لزمه شراؤه2. فإن قيل: فيجب أن توجبا عليه اكتساب الاستطاعة لفعل الحج، واكتساب النصاب ليؤدي الزكاة. قيل: ذلك شرط في الوجوب دون الفعل، ولا يجب عليه أن يفعل ما يوجب به العبادة على نفسه، وليس كذلك ههنا، فإنه معنى لا يتوصل إلى أداء الواجب عليه إلا به؛ فلزمه فعله. ولهذا قال أصحابنا في المفلس: إذا كانت له حرفة؛ لزمه أن يكتسب،   1 في الأصل: "فقال". 2 زيادة ثمن الماء على ثمن المثل على حالتين: الأولى: أن تكون الزيادة يسيرة، مع استغنائه عن الثمن؛ ففي هذه الحالة يجب عليه شراء الماء. الثانية: أن تكون الزيادة كثيرة، ولها صورتان: الأولى: أن تكون مجحفة بماله؛ فلا يلزمه الشراء. الثانية: أن تكون غير مجحفة، فعلى وجهين: الوجه الأول: يلزمه الشراء؛ لأنه واجد للماء، وقادر عليه. الوجه الثاني: لا يلزمه الشراء؛ لأن فيه ضررًا عليه بالزيادة. أفاد ذلك ابن قدامة في كتابه المغني "1/221". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 ويقضي دينه1؛ لأنه يتوصل بذلك إلى أداء الواجب2.   1 هذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. والرواية الأخرى: أنه لا يجبر على التكسب. انظر: المغني لابن قدامة "4/400-4001". 2 لم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى الاختلاف في المسألة، ولا دليل للمخالف، كما هي عادته، وإنما اكتفى بذكر اعتراض للمخالف مع الرد عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 مسألة 1 [هل تتوقف أوامر الله لعباده على المصلحة] : الأمر لا يقف على المصلحة، وقد يجوز أن يأمر بما لا مصلحة للمأمور فيه؛ ولكن التكليف منه إنما يقع على وجه المصلحة. خلافًا للمعتزلة في قولهم: يقف على المصلحة2. والكلام في ذلك مبني على أصول: أحدها: أنه يجوز أن يأمر بما لا يريد، وما لا يريده لا مصلحة فيه. وقد دل على هذا الأصل: أمره لإبراهيم بذبح ولده، ولم يرد وجوده منه؛ لأنه نهاه عن فعله، وفداه بالكبش. الأصل الثاني: أنه لا يجب عليه فعل الأصلح في خلقه، وإذا لم يجب عليه ذلك؛ لم يقف أمره على المصلحة؛ لأنها غير واجبة عليه. وقد دل على هذا الأصل: أنه لو وجب عليه فعل الأصلح؛ لم يستحق   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"63-65"، و "شرح الكوكب المنير" ص"96". 2 راجع في هذا المعتمد لأبي الحسين البصري "1/178-179". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 الثناء والمدح؛ لأنه فعل ما يجب عليه فعله. ولما أجمعنا على أنه يستحق ذلك؛ علم أنه لا يجب عليه ذلك، وإنما يفعله تفضلًا. والأصل الثالث: أن من قال: يقف الأمر على المصلحة؛ بناه على أصل، وهو: أنه يقبح في العقل أن يأمر بما لا مصلحة فيه. ونحن نبينه على هذا الأصل، وأن1 العقل لا يقبح ولا يحسن2، وإذا لم يدل ذلك لم يقف على المصلحة؛ إذ ليس هناك ما يمنع من ضد المصلحة. وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3 فأخبر أنهم آمنون من العذاب قبل بعثة الرسل إليهم، فعلم أن الله تعالى لم يوجب على العقلاء شيئًا من جهة العقل؛ بل أوجب ذلك عند مجيء الرسل. وقوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ   1 هكذا في الأصل: "وأن" والإتيان بالواو هنا تعبير درج عليه المؤلف؛ وإلا فالكلام لا يستقيم إلا بحذفها. 2 كون العقل لا يقبح، ولا يحسن، ولا يوجب، ولا يحرم، قول الإمام أحمد وأكثر الأصحاب، ومن أقوال الإمام أحمد في هذا، "ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقل؛ وإنما هو الاتباع". وقد ذهب بعض الحنابلة إلى أن العقل يقبح، ويحسن، ويوجب، ويحرم؛ منهم: أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وابن القيم. ونقل عن الشيخ تقي الدين قوله: "الحسن والقبح ثابتان، والإيجاب والتحريم بالخطاب، والتعذيب متوقف على الإرسال". راجع: "شرح الكوكب المنير" ص "96". 3 "15" سورة الإسراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1؛ فلو كان العقل حجة عليهم، لما قال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} بل كان الواجب [55/ب] أن يقول: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد العقل؛ ولما لم يقل هذا؛ ثبت أن العقل لا تأثير له في ذلك. ويدل على هذه المسألة من غير بناء على أصل: أن الله تعالى أمر إبراهيم بالذبح ومنعه منه قبل وقوع الفعل؛ فلو كان أمره بالذبح مصلحة؛ لم ينهه عن فعله قبل فعله؛ فلما نهاه عنه؛ علمنا أنه لم يكن له مصلحة في ذلك الأمر. ويدل عليه أيضًا: اتفاق الجميع على أنه قد يأمر من قد سبق في علمه أنه لا يفعل ما أمر به، كأمره للكفار بالإيمان، وقد علم أنهم لا يؤمنون، ومعلوم أنه لا مصلحة لهم في هذا الأمر؛ لأن تركه لا يوجب عليهم مأثمًا؛ لأنه لا يوجد من جهتهم مخالفة، وبالأمر يحصل منهم مخالفة، فيستحقوا على ذلك العذاب، فكان ترك الأمر أنفع لهم منه. وجرى هذا مجرى من علم من حاله أنه متى دفع إليه سيفًا يقاتل به؛ قتل به نفسه؛ فإن المصلحة له أن لا يعطيه شيئًا، وكذلك من علم من حاله أنه متى سافر قطع عليه وقتل، ولم يصل إلى ربح، كان الأصلح له ترك ذلك. وهذه طريقة جيدة على هذه المسألة2.   1 "165" سورة النساء. 2 في "المسودة" ص "64" تحرير لمحل النزاع، حيث جاء فيها: " ... وذلك أن عندنا للأمر بالشيء لمصلحة ثلاث جهات: أحدهما: نفس الأمر بقيد الاعتقاد والعزم. وثانيها: الفعل من حيث هو مأمور به تعبدًا وابتلاءً وامتحانًا. وثالثها: نفس الفعل بما اشتمل عليه من المصلحة. والمعتزلة تنكر القسمين الأولين. فعلى هذا يجوز أن يأمر بفعل لا مصلحة فيه، بل في الأمر والتكليف به. الثاني: أنه يجوز أن يأمر العبد بما لا مصلحة فيه، على تقدير المخالفة، فتكون المصلحة في الفعل -لو وقع- لا مصلحة للعبد في نفس تكليفه؛ كالأمر بالإيمان، وهذا مما لا يختلف أهل الشرائع فيه. الثالث: أنه يجوز أن يأمر بما لا مصلحة فيه على تقدير الموافقة، بمعنى: أن العبد لو فعل المأمور به؛ لم تكن له فيه مصلحة، فهذا جائز لله؛ لأنه يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، خلافًا للمعتزلة "في قولهم": هو غير جائز له.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وقد ذكر بعضهم طريقة في هذا فقال: قد أمر الله تعالى بالدعاء، ولا مصلحة في ذلك على قول المخالف؛ لأن الداعي إن كان عاصيًا؛ لم ينفعه دعاؤه؛ لأنه قد استحق الخلود في النار، وإن كان طائعًا؛ لم ينفعه دعاؤه؛ لأنه قد استحق الثواب الدائم بالطاعة. وهذه طريقة لينة؛ لأن الأمر بالدعاء يفيد على قولهم زيادة في الآخرة، كما أن تكليفه عبادة بعد عبادة يفيد زيادة في الآخرة. وبناء المخالف الكلام في هذه المسألة على الأصول التي ذكرناها. والكلام معه في تلك الأصول. سؤال: إن قيل: هل يجوز أن يقول: افعل ما أردته منك إن لم أكرهه؟ قيل: لا يجوز؛ لأنه قد قام الدليل على قدم إرادته، وكونه لم يزل مريدًا لما أراده، واستحالة كونه كارهًا له بعد إرادته؛ فلم يجز اشتراط ذلك، ذكر هذا السؤال أبو بكر، ومنع منه1.   1 الحقيقة أن هذه المسألة من المسائل العويصة، ولكن المؤلف رحمه الله رسم الخطوط العريضة لها. وبقي عليه مسألة، لم يتعرض لها، وهي: جواز وقوع الأوامر لغير مصلحة، فنفاه الأكثرون من السلف والخلف. وذهبت طائفة إلى جواز خلو المشروعات عن المصالح، وهؤلاء على طرفي نقيض مع المعتزلة. راجع: "المسودة" ص"64-65". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 باب النواهي صيغة النهي مدخل ... باب النواهي مسألة 1 [صيغة النهي] : للنهي صيغة مبنية تدل بمجردها عليه، وهو قول القائل لمن دونه: "لا تفعل"؛ كالأمر سواء. نص عليه الإمام رضي الله عنه في رواية عبد الله فقال: "ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمنه أشياء حرام، مثل نهيه أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها2،   1 راجع هذه المسألة: في كتاب التمهيد في أصول الفقه الورقة "47/ب"، والمسودة ص"80". 2 هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها عن جابر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما "7/15". وأخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح عن أبي هريرة رضي الله عنه "2/1029-1030". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء "1/476". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها "3/424". وأخرجه عنه النسائي في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وخالتها "6/80-81". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها "1/621". وأخرجه عنه الطيالسي في أبواب الأنكحة المنهي عنها، باب تحريم الجمع بين المحارم "1/308". وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/169-170". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 ونهى عن جلود السباع أن تفترش1؛ فهذا حرام. ومنه أشياء نهى عنها نهي أدب". خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يكون [56/أ] نهيًا لصيغته؛ وإنما يكون نهيًا بإرادة الناهي كراهية المنهي عنه. وخلافًا للأشعرية في قولهم: لا صيغة له؛ وإنما هو معنى قائم في النفس. والكلام في هذا كالكلام في الأمر سواء، وقد دللنا بما فيه كفاية. ويدل عليه أيضًا إجماع الصحابة؛ فإنهم كانوا يرجعون إلى ظواهر النواهي في ترك الشيء.   1 هذا الحديث رواه أبو المليح عن أبيه عن الني صلى الله عليه وسلم مرفوعًا أخرجه عنه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في النهي عن جلود السباع "4/241"، بمثل لفظ المؤل فمرة، ومرة لم يذكر قوله: "أن تفترش". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الفرع والعتيرة، باب النهي عن الانتفاع بجلود السباع "7/156". والحديث روي مسندًا ومرسلًا، والمرسل أصح كما قال الترمذي فيما سبق، والمناوي في: فيض القدير "6/328". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 من ذلك قول ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر أربعين عامًا، لا نرى بذلك بأسًا، حتى أتانا رافع فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، فانتهينا بقول رافع"1. وغير ذلك من الظواهر. ولأن السيد إذا قال لعبده: لا تفعل كذا، ففعل؛ صلح أن يعاقبه عليه. وقد ورد لفظ: "لا تفعل" في القرآن على وجوه: منها: ما ورد على وجه الرغبة والسؤال، مثل قوله: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} 2. ومنها: ما ورد بلفظ التقرير مثل قوله: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} 3. وقد ورد على وجه التحذير، مثل قول القائل لعبده: الآن قد أمرتك، لا تفعل4. وورد على وجه الاستقلال، مثل أن يقول: لا تكلمني، فإنك لست بأهل للكلام5 ولا موضعًا له. ويرد لتسكين النفس مثل قوله: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} 6. ويرد على وجه الأمان من الخوف، مثل قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} 7.   1 هذا الحديث سبق تخريجه. 2 "286" سورة البقرة. 3 "76" سورة الكهف. 4 في الأصل: "فلا تفعل"، والتصويب من الناسخ في هامش الأصل نقلًا عن ابن حمدان. 5 في الأصل: الكلام. 6 "76" سورة يس. 7 "7" سورة التحريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وورد للعظة، مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 1، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} 2، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 3 {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} 4.   1 "29" سورة النساء. 2 "31" سورة الإسراء. 3 "32" سورة الإسراء. 4 "61" سورة طه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 مسألة 1 [النهي المطلق يقتضي الفور والتكرار] : والنهي يقتضي المبادرة إلى ترك المنهي عنه على الفور، كالأمر، وأنه يقتضي التكرار كالأمر سواء. وقال أبو بكر ابن الباقلاني: لا يقتضي التكرار، كالأمر، ولا يقتضي الفور. وما ذكرناه في الأوامر فهو دلالة في النهي، فلا وجه لإعادته. ولأن الواحد من أهل اللغة متى قال لعبده: لا تدخل هذه الدار، فترك المأمور دخولها ساعة، ثم دخلها استحق الذم عند سائر العقلاء؛ فدل على أنه يقتضي التكرار.   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"81"، وشرح الكوكب المنير ص"342-343" من الملحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 مسألة النهي عن أشياء بلفظ التخيير يقتضي المنع من أحدها مدخل ... مسألة 1 [النهي عن أشياء بلفظ التخيير يقتضي المنع من أحدها] : النهي إذا تعلق بأحد أشياء بلفظ التخيير، مثل: أن لا تكلم زيدًا أو   1 راجع هذه المسألة في التمهيد لأبي الخطاب الورقة "48/ب"، والمسودة ص"81"، وشرح الكوكب المنير ص"343" من الملحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 عمرًا؛ فإنه يقتضي المنع من كلام أحدهما على وجه التخيير، على ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه في رواية البغوي: كل ما في كتاب الله تعالى "أو" فهو على التخيير. خلافًا للمعتزلة في قولهم: إنه يقتضي المنع من كليهما1 جميعًا2، وهو اختيار الجرجاني. وقال أبو بكر ابن الباقلاني: يقتضي المنع من كلام أحدهما على وجه التخيير.   1 في الأصل: "كلاهما". 2 راجع: "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/182-183". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 دليلنا : أن النهي كالأمر في باب الكف، ثم ثبت أنه لو قال: تصدق بدرهم أو دينار؛ لم يجب الجمع بينهما، كذلك النهي1.   1 في الأصل: "الأمر"، وقد ذكر الناسخ في هامش الأصل: أن ابن حمدان صوبه بما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} 1 [56/ب] معناه: ولا كفورًا2. والجواب: أنا حملناه على الجمع بدليل.   1 "24" سورة الإنسان. 2 ووجه الاستدلال من هذه الآية: أن الله تعالى نهى عن الطاعة للآثم وللكفور، مع أن الآية ذكرت ذلك بصيغة التخيير "أو". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 واحتج: بأنا وجدنا أهل اللغة يقولون: لا تطع زيدًا أو عمرًا، المعنى: اتق طاعتهما؛ كأنه قال: لا تطع زيدًا ولا عمرًا. والجواب: أنا لا نسلم بهذا. واحتج: بأن في المنع منهما احتياطًا، حتى لا يواقع المحظور، ولهذا قلنا فيمن اشتبهت عليه جاريته بجارية1 غيره: أنه لا يطأ واحدة منهما. والجواب: أنه يلزم عليه التخيير في الواجب؛ لأن فعل كل واحد منهما احتياطًا؛ لأنه بفعل أحدهما لا يأمن ترك واجب، ومع هذا لا يجب. واحتج: بأن ما وجب تركه مع غيره؛ وجب تركه بانفراده. والجواب: أنه يبطل بالجمع بين الأختين، يجب من ترك كل واحدة منهما مع وجود الأخرى عنده ولا يجب مع عدمها.   1 في الأصل: "من جارية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 مسألة النهي عن شيء له ضد واحد أمر بضده مدخل ... مسألة 1 [النهي عن شيء له ضد واحد أمر بضده] : إذا ورد النهي عن فعل شيء له ضد واحد كان أمرًا بضده من جهة المعنى، نحو قوله: {لاَ تَكْفُرْ} 2 يكون أمرًا بضده، وهو الإيمان. وإذا كان للمنهي عنه أضداد، تضمن ذلك أمرًا بضد واحد من الأضداد، كقوله: لا تسجد.   1 راجع هذه المسألة في: "العمدة في أصول الفقه للؤلف الورقة "1/ب"، والتمهيد لأبي الخطاب الورقة "48/أ"، والمسودة ص"81-82". 2 "102" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 دليلنا : أنه إذا نهى عن فعل شيء؛ تضمن ذلك وجوب الكف عنه، ولا يمكنه الكف عنه إلا بفعل واحد من الأضداد؛ فثبت أن النهي عنه تضمن واحدًا من أضداده لا محالة، ألا ترى أنه لا يتوصل إلى ترك الحركة إلا بفعل ضدها من السكون؛ فصار كأنه ترك الحركة بالسكون، فتضمن ذلك إيجاب فعله عليه. ويبين صحة هذا ما ذكرناه: أن الأمر بالشيء؛ أمر بما لا يتم إلا به، ولهذا جعل الأمر بالطهارة والأمر بالكفارة، لكن بطلب ما يتوصل به إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن اللفظ يصح وروده مقترنًا بذكر إباحة جميع أضداده؛ فلو كان النهي يتناول ذلك؛ لم يجز نفيه بما يقترن به. والجواب: أنا لا نسلم هذا، وإنما يصح أن يرد بإباحة بعض أضداده، لا جميعها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 مسألة إطلاق النهي يقتضي الفساد مدخل ... مسألة 1 [إطلاق النهي يقتضي الفساد 2] : وقد قال أحمد رضي الله عنه في رواية3 أبي القاسم إسماعيل بن عبد الله بن ميمون العجلي4 في الشغار5: يفرق بينهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم   1 راجع هذه المسألة في: العمدة في أصول الفقه للمؤلف الورقة "1/ب"، والواضح في أصول الفقه الجزء الثاني الورقة "40-48"، والتمهيد في أصول الفقه الورقة "48"، والمسودة ص"82-83"، وشرح الكوكب المنير ص"339-343" من الملحق، وروضة الناظر ص"113-115". 2 وهذا مذهب جماهير العلماء من الحنابلة والشافعية، والمالكية والحنفية وبه قالت الظاهرية، وهو قول بعض المتكلمين. راجع في هذا بالإضافة للمراجع السابقة: الإحكام للآمدي "2/175"، وشرح تنقيح الفصول للقرافي ص"173"، وشرح الجلال على جمع الجوامع "1/393"، وتيسير التحرير "1/376-377". 3 نقل ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة أبي القاسم العجلي "1/105" هذه الرواية. 4 من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقلوا عنه بعض المسائل التي أفتى فيها، انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "1/105". 5 الشغار في اللغة: خلو المكان بعد أن كان مشغولًا. ومنه: شغرت البلد إذا خلت من ساكنيها، وشغر الكلب إذا رفع أحد رجليه ليبول. راجع مادة: "شغر" في المصباح المنير "1/483"، ومختار الصحاح ص"363". والشغار عند الحنابلة كما يقول الخرقي في مختصره ص"138": "إذا زوجه وليته، على أن يزوجه الآخر وليته؛ فلا نكاح بينهما، وإن سموا مع ذلك مهرًا أيضًا". وأما ابن قدامة في كتابه المغني "7/100" فيحكي: أن النصوص عن أحمد رحمه الله تفيد أنه إذا سمي صداقًا صح العقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 قد نهى عنه1، وقال: أرأيت لو تزوج امرأة أبيه؛ أليس قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2. وقال رضي الله عنه في رواية أبي طالب وقد سئل عن بيع الباقلا3 [57/أ] قبل أن تحمل وهو ورد، فقال: [نهى] النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها4، هذا بيع فاسد، وهو قول جماعة الفقهاء.   1 كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صداق. وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب الشغار "7/15". وأخرجه مسلم في كتاب النكاح باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه "2/1034". وأخرجه الترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء في النهي عن نكاح الشغار "3/422"، ولم يذكر في الحديث تفسير الشغار. وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب النهي عن الشغار "1/606". وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح باب في الشغار "1/479". وأخرجه النسائي في كتاب النكاح باب تفسير الشغار "6/92". 2 "22" سورة النساء. 3 الباقلا، إذا شددت اللام صارت مقصورة، وإذا خففت صارت ممدودة. انظر: مادة "بقل" في مختار الصحاح ص"73"، والمصباح المنير "1/93-94". 4 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها "3/95"، وفي باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها "3/96". وأخرجه عنه مسلم في كتاب البيوع باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها "3/1165". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها "2/226-227". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها "2/746-747". وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع باب بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحها "7/230". وأخرجه عنه مالك في الموطأ في كتاب البيوع باب النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها "30/260". وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "4/5-6"، وفيض القدير "6/206"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"443". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 خلافًا للمعتزلة1 والأشعرية في قولهم: لا يقتضي فساد المنهي عنه بإطلاقه2.   1 هكذا هو في "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/184"، إلا أن أبا الحسين البصري اختار قولا آخر هو: "أنه يقتضي فساد المنهي عنه في العبادات، دون العقود والإيقاعات". 2 وقد اختار القول بعدم الفساد إمام الحرمين والقفال، كما حكاه الآمدي في "الإحكام": "2/175"، وكذلك الغزالي في المستصفى "2/25" وإن كان في المنخول ص"126" قد اختار العكس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 دليلنا : ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد"، وفي بعض الألفاظ: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه؛ فهو رد". وروى: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد" 1.   1 حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه البخاري في كتاب الصلح، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 فإن قيل: معنى الرد: أنه غير مقبول، والقبول من الله تعالى هو الإثابة عليه، ونحن نقول: إنه لا يثاب على فعله. قيل: الرد يحتمل ذلك، ويحتمل الإبطال والإفساد، كما يقول: رد فلان على فلان، إذا أبطل قوله وأفسده، فوجب حمله عليهما. وأيضًا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة إلا بطهور" 1،   = باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود "3/228"، بمثل لفظ المؤلف الأول. وأخرجه عنها مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور "3/1343-1344" بمثل لفظ المؤلف الأول، وبمثل لفظه الثاني. وأخرجه عنها أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة "2/506"، بمثل لفظ المؤلف الثاني. وأخرجه عنها ابن ماجه في مقدمة سننه، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه "1/7"، بمثل لفظ المؤلف. وأخرجه عنها الإمام أحمد في مسنده "6/146" بمثل لفظ المؤلف الأول. وأخرجه عنها الطيالسي في مسنده في كتاب العلم، باب التحذير من الابتداع في الدين "1/40"، بلفظ: "من فعل في أمرنا ما لا يجوز، فهو رد". 1 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة "1/204". وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور "1/5-6". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور "1/100"، كما أخرجه عن أبي المليح عن أبيه مرفوعًا. وعن ابن عمر أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الطهارة باب ما جاء في فضل الوضوء، وأن الصلاة لا تقبل بدونه "1/49". وعن أبي المليح عن أبيه مرفوعًا أخرجه النسائي في كتاب الطهارة باب فرض الوضوء "1/75" بلفظ: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ... ". وعنه أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب فرض الوضوء "1/14" بمثل لفظ النسائي. وانظر في هذا الحديث: فيض القدير "6/415"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"57". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 و "لا نكاح إلا بولي" 1 و "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"، ومعلوم أنه لم يرد بذلك نفس الفعل؛ لأن الفعل لا يمكن رفعه، وإنما أراد نفي حكمه، فاقتضى ذلك أن الفعل إذا وجد على الصفة المنهي عنها؛ لم يكن له حكم، وكان وجوده كعدمه؛ فيكون الفرض باقيًا على حالته؛ فوجب الإتيان به. وأيضًا: فإن الصحابة رضي الله عنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها. فمن ذلك: احتجاج ابن عمر في فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} 2.   1 هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا، في كتاب النكاح باب ما جاء لا نكاح؛ إلا بولي "3/398-402"، وقال: حديث فيه اختلاف. وعنه أخرجه أبو داود في كتاب النكاح باب في الولي "1/481". وعنه أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح إلا بولي "1/605". وعنه أخرجه الدارمي في كتاب النكاح باب النهي عن النكاح بغير ولي "2/62". وعنه أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب النكاح باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"، وما جاء في العضل "1/305". وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/183-184"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"539". 2 "221" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وكذلك احتجاجهم في إفساد عقود الربا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، وإلا سواء بسواء عينًا بعين يدًا بيد" 1. وما أشبه ذلك؛ [فلو] كان إطلاقه لا يفيد الفساد؛ لم يرجعوا إلى ظاهر الكلام. فإن قيل: إنما رجعوا إلى ذلك لدلالة مقترنة إلى هذه الألفاظ دلت في الحال على ذلك. قيل: لو كان الذي يفيد الفساد دلالة غير اللفظ لطالب بعضهم من بعض حال ورود المنازعة، ولكانت تنقل ذلك للعصر الثاني والثالث حتى لا يؤدي إلى تضييع الشرع.   1 هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب "المساقاة" باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "3/1211". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل "3/532"، وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع باب في الصرف "2/222-223". وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع باب بيع البر بالبر، وباب بيع الشعير بالشعير "7/240-243". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات باب الصرف، وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "2/757-758". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب البيوع باب النهي عن الصرف "2/174". وأخرجه عنه الشافعي في كتاب البيوع باب جامع الأصناف يجري فيها الربا "2/177". وراجع في هذا الحديث أيضا: نصب الراية "4/35-36"، وفيض القدير "3/570-572"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"450". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وأيضًا: فإن النهي يخرجه عن أن يكون شرعًا، والصحة والجواز من أحكام الشرع، فما أخرجه من أن يكون موافقًا للشرع وجب أن يخرجه من أن يكون موافقًا لحكمه. ويعبر عن هذا بعبارة أخرى وهو: أن ما يفعل على وجه منهي عنه؛ لا يجوز أن يكون هو المفروض ولا المندوب والمباح؛ لأن المنهي عنه لا يكون مأمورًا به ولا مندوبًا؛ لاستحالة اجتماع الشيء وضده؛ فإذا لم يكن [57/ب] هو المأمور به لم يؤثر فعله في إسقاط حكم الأمر الآخر، فكان حكمه باقيًا عليه؛ فليزمه الإتيان به، وهذا معنى قولنا: النهي يقتضي الفساد، ولهذا قال أصحابنا: النهي إذا كان لمعنى في غير المنهي عنه؛ وجب فساد المنهي عنه أيضًا للمعنى الذي ذكرنا. وأيضًا فإن الأمر يدل على الصحة والجواز، فوجب أن يدل النهي على البطلان والفساد؛ لأن النهي ضد الأمر، فما أفاده الأمر في المأمور؛ يجب أن يفيد النهي ضده في المنهي، ولهذا لما أفاد الأمر وجوب الفعل، أفاد النهي وجوب الترك. وأيضًا: فإن النهي متعلق بصفة، وعدمها شرط في الفعل؛ فإذا فعله بطل لعدم الشرط. وبيان هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" 1.   1 هذا الحديث رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم كتاب النكاح باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته "2/1030-1031". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم "3/190-191"، وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك باب المحرم يتزوج "1/427". = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 ظاهر النهي لأجل إحرامه، ولأن الإحلال شرط في صحة العقد، وهذا على أصلنا في القول بدليل الخطاب؛ لأنه إذا قال: لا ينكح المحرم، يدل على أن المحل ينكح، ويكون الإحلال شرطًا في صحته. فإن قيل: هذا لا يدل على أن عدم الصفة شرط في صحة الفعل؛ وإنما يدل على أنه شرط في إباحة الفعل. قيل: الأمر والإباحة يدلان على الصحة؛ لأن صاحب الشريعة إذا قال: أمرتك بأن تفعل النكاح في حال الإحلال؛ فإذا عقده؛ دل على أنه صحيح مجزئ؛ لكونه محلًا، وكذلك إذا قال: أبحت لك أن تفعل النكاح في حال الإحلال، فإذا عقده؛ كان صحيحًا لإحلاله.   = وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج باب النهي عن النكاح المحرم "5/151". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح باب المحرم يتزوج "1/632". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب مناسك الحج باب في تزويج المحرم "1/368". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج "2/267". وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الحج باب نكاح المحرم "2/273". وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب الحج باب في نكاح المحرم "1/213". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الحج باب ما جاء في نكاح المحرم وإنكاحه "2/18". وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب مناسك الحج باب نكاح المحرم "2/268". وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/170-171"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"387". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الدليل لا يجوز وجوده وليس معه مدلوله، وقد وجدنا في الشريعة نهيًا وتحريمًا يقارن الصحة والإجزاء؛ فدل على أنه لا يدل على الفساد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 وذلك مثل البيع في حال النداء، والطلاق في حال الحيض والوطء فيه، والذبح بالسكين المغصوبة، والصلاة في الدار المغصوبة، وفي السترة المغصوبة، والوضوء بالماء المغصوب، وإقامة الحد بالسوط المغصوب، وما أشبه ذلك؛ فإنه يقع موقع الجائز مع كونه محرمًا منهيًا عنه. والجواب: أن هذا لا يمنع وجوده، ولا يقتضي الفساد، كما لم يمنع وجوده ولا يقتضي التحريم، وقد ثبت أن إطلاق النهي يقتضي التحريم، وإن دل الدليل على أنه لا يوجب الفساد. فإن قيل: إن دل الدليل على أنه لا يوجب التحريم؛ خرج من أن يكون نهيًا. قيل: لا يوجب خروجه من أن يكون نهيًا، كما لا يجب أن يخرج الأمر بسقوط وجوبه -بدليل- من أن يكون أمرًا، وعلى أن هناك دليلًا1 دل على الفساد، ولم يدل الدليل على غيره. وأجاب [58/أ] بعضهم عن هذا بجواب آخر فقال: المفعول على هذا الوجه في المواضع التي ذكروها؛ لم يتضمنه الأمر الأول، إلا أن الله تعالى أسقط موجب الأمر عن2 المكلف بمثل هذا الفعل، كما يسقط عنه بالعجز. واحتج بأن الفساد صفة زائدة لا يقتضيها لفظ النهي؛ فلم يجز إثباتها به. والجواب: أن هذا باطل بالتحريم؛ فإنه صفة زائدة، لا يقتضيها النهي، وقد أثبتها باللفظ.   1 في الأصل: "دليل" بالرفع. 2 في الأصل: "من". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 ثم لا نسلم أنه لا يقتضيها اللفظ؛ لأنا قد بينا أن النهي متعلق بصفة، وعدمها شرط في الفعل. واحتج: بأنه لو كان إطلاق النهي يقتضي الفساد؛ لوجب -إذا صرف عن إطلاقه- أن يصير مجازًا. والجواب: أنه إنما لم يصر1 مجازًا؛ لأنه قد حمل على بعض موجباته، وهو الكراهة؛ فلهذا لم يصر مجازًا، كالعموم إذا خص بعضه، وعلى أن هذا يبطل بالتحريم؛ فإنه إذا صرف عنه لا يصير مجازًا، وإن كان الإطلاق يقتضيه.   1 في الأصل: "يصير". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 مسألة النهي إذا تعلق بمعنى في غير النهي عنه دل على الفساد أيضا مدخل ... مسألة 1 [النهي إذا تعلق بمعنى في غير المنهي عنه دل على الفساد أيضًا] : 2 مثل: النهي عن البيع عند النداء، والصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب، والصلاة بماء مغصوب، وهذا ظاهر كلام أصحابنا رحمهم الله في بطلان الصلاة في هذه المواضع، وكذلك اختلافهم في الذبح بسكين غصب. خلافًا لأكثر الفقهاء في قولهم: لا يدل ذلك على الفساد، وهو قول الأشعرية أيضًا.   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"83"، و "شرح الكوكب المنير" ص"342" من الملحق. 2 وبهذا قال أكثر الحنابلة والمالكية والظاهرية، كما نقله الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" ص"342". وأطلق القرافي المالكي القول بأنه يقتضي الفساد، كما في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"173". وصرح الآمدي: بأنه لا يعرف من يقول بهذا القول غير مالك وأحمد في رواية عنه، صرح بذلك في كتابه: "الإحكام": "2/175". وقد أفاض القول في هذه المسألة ابن حزم في كتابه: "الإحكام": "3/307-308". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 دليلنا : ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد". ولأن النهي عن الفعل على هذه الصفة يخرجه عن أن يكون شرعيًا، والصحة والجواز من أحكام الشرع، وهذا الفعل منهي عنه؛ فوجب أن يكون ذلك شرعًا. ولأنه لا فرق بين أن يكون النهي لمعنى في المنهي عنه أو في غيره في توجه البطلان، بدليل أن شراء الصيد في حق المحرم، ونكاح المحرمة؛ باطل، وإن لم يكن النهي متوجهًا لمعنى في المنهي عنه، وإنما هو لمعنى آخر وهو الإحرام؛ كذلك لا يمتنع أن تفسد الصلاة في الدار المغصوبة لمعنى في غيرها، وهو تحريم الغصب، وكذلك بيع المحجور عليه منهي عنه لمعنى في العاقد لا في العقد، وهو فاسد. فإن قيل: ما يختص العاقد والمعقود عليه يتعلق بالعقد ويرجع إليه. قيل: فيجب أن يفسد بيع الحاضر للبادي؛ لأن النهي عن ذلك لمعنى في المتعاقدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن النهي لا يرجع إلى المنهي عنه، بدليل: أنه ممنوع من الجلوس في الدار [58/ب] في غير صلاة، وممنوع من لبس القميص وشرب الماء، وإذا لم يرجع النهي إليه؛ لم يؤثر فيها، كما لو صلى وعنده وديعة قد طولب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 بها، فلم يسلمها مع سعة الوقت، أو طلق في الحيض، أو ذبح بسكين غصب، أو حد بسوط غصب، أو استام على سوم أخيه، أو توضأ بما يملكه في دار مغصوبة؛ فإن الوضوء صحيح، وإن كان ممنوعًا في هذه الحال. والجواب: أنه إذا فرق بين الأمة وولدها في البيع؛ لم يصح عند الشافعي، وإن لم يكن ذلك لمعنى في العقد، وإنما هو لمعنى في المبيع، وهو ما يلحقهما من الحزن بالفراق، ثم هذا لا يصح؛ وذلك أنه ممنوع من الكون في الغصب، وذلك يتنوع أنواعًا، بعضه صلاة، وبعضه قعود، وبعضه قيام، وقد استوفيت الكلام على هذا في كتاب الصلاة. وفي هذه المسألة طريقة أخرى، وهو: أن النهي راجع إلى شرط معتبر في العبادة؛ لأن الصلاة أفعال تفتقر إلى أكوان، وكذلك الحج، الوقوف فيه ركن يفتقر إلى كون في مكان؛ فإذا كان الكون الذي هو شرط: منهي عنه دل على الفساد، كما لو رجع النهي إلى نفسه، ألا ترى أنه لو صلى في ثوب نجس أو في وقت منهي عن الصلاة فيه، لم يصح؛ لأن النهي رجع إلى شرط معتبر، ولم يرجع إلى نفس الفعل الذي هو الاعتمادات، كذلك ههنا، وكذلك القعود لا فرق بين أن يرجع النهي إلى نفسه كأكل الربا، أو يرجع إلى شرط كالمبيع بشرط خيار مجهول، أو أجل مجهول في أنه باطل في الموضعين. فإن قيل: الصلاة اعتمادات بفعلها في نفسها1، والنهي انصرف إلى اعتمادات في الأرض كالمنهي عن المأمور؛ فلا يصح؛ لأن الصلاة اعتمادات بفعلها في نفسها في مكان، إذ لا بد لتلك الاعتمادات التي هي   1 في الأصل: "نفسه" وقد أتى المؤلف بالضمير بعد قليل، كما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 الركوع والسجود والجلوس من مكان، وما لا يتم الفعل إلا به؛ يحصل مأمورًا به. فإن قيل: هو مأذون له في العرف من جهة صاحب الأرض. قيل: لو كان كذلك؛ لم يكن مأثومًا في تلك الحال، ولوجب أن يحكم له بالثواب، كما إذا صلى فيها بإذن سابق. فإن قيل: هو منهي عن الامتناع من رد الغصب؛ فهو فعل آخر غير الصلاة المأمور بها. قيل: يبطل بالصلاة في ثوب نجس؛ فإنه منهي عن الامتناع من ترك النجاسة؛ لأن النجاسة طريقها التروك؛ فهو فعل آخر غير الصلاة المأمور بها على قولهم، ومع هذا فالصلاة باطلة. فإن قيل: النهي عن القرب يدل على الفساد، ولا يدل على العقود1. قيل: لا يصح؛ هذا [59/أ] لأنه خلاف إجماع الصحابة، وذلك أنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها2. من ذلك احتجاج ابن عمر رضي الله عنه في فساد نكاح المشركات بقوله: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 3. وكذلك احتجاجهم في فساد عقوبة الربا بقوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا التمر بالتمر، ولا   1 هذا إشارة إلى قول ثالث في المسألة وهو: أن النهي يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات، وبه قال أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد": "1/184"، وقد مرت الإشارة إلى ذلك قريبًا. 2 في الأصل: "عنه". 3 "221" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح؛ إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد"؛ فلولا أن إطلاقه يفيد فساد العقود، لم يرجعوا إلى ظاهر الكلام. وكذلك أوجبوا فساد النكاح في العدة، وبيع ما ليس عنده، وإن لم يكن في هذه العقود قرب. فإن قيل: لم يوجبوا إفساد البيع في وقت النداء. قيل: روي عن ابن سلام1 في تفسيره بإسناده عن ابن عباس قال: "إذا أذن المؤذن يوم الجمعة حرم البيع". وتحريمه يدل على النهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. فإن قيل: البيع وقت النداء يؤدي إلى فوت الصلاة عن وقتها، وهذا لا يدل على الفساد. قيل: بل يدل عليه، ألا ترى أن الصائم منع من القبلة إذا كانت تحرك شهوته؛ لأنه يعود بفساد العبادة؛ فلو وجد تحريك الشهوة والإنزال لفسد الصوم، [فـ] كان يجب إذا وجد فوات الجمعة أن يفسد البيع. فإن قيل: إنما منع من خطبة الرجل على خطبة أخيه؛ لما فيه من وحشة الإخوان، وبيع الحاضر؛ لما فيه من إدخال الضرر على الناس؛ لما فيه من إغلاء الأسعار. قيل: هذا لا يمنع فساد البيع، بدليل المنع من التفريق بين الوالدة   1 هو يحيى بن سلام بن ثعلب بن زكريا البصري، الثقة الثبت، له علم بالكتاب والسنة واللغة العربية، نزل المغرب، وسكن إفريقية. روى عن حماد بن سلمة وهمام بن يحيى وغيرهما. له كتاب في التفسير. مات سنة 200هـ. له ترجمة في: طبقات المفسرين للداودي "2/371"، و"غاية النهاية" في "طبقات القراء" لابن الجزري 2/373، ولسان الميزان 6/259. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وولدها في البيع؛ لما فيه من إدخال الضرر على كل واحد بحصول الوله، لقوله عليه السلام: "لا توله والدة على ولدها" 1. وكذلك لا يصح الجمع بين الأختين في عقد النكاح؛ لما يحصل بينهما من التباغض والتقاطع. فأما الطلاق المخالف للسنة؛ فإنما أوقعناه؛ وإن كان منهيًا عنه تغليظًا على فاعله2. وإيجابنا قضاء الصلاة في الأرض تغليظًا؛ فهما3 في المعنى سواء4. وأما الجلد بسوط غصب؛ فإنما أجزأ؛ لأنه لو لم يجزئ لأدى إلى الزيادة في الحد، ولا يجوز هذا، وليس كذلك في إعادة الصلاة؛ لأنه غير ممتنع، كما لو نسى صلاة من يوم لا يعلم عينها، فإنه يلزمه قضاء يوم كامل. وأما بيع الحاضر للبادي فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله:   1 هذا الحديث رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أخرجه عنه البيهقي بسند ضعيف، كما أخرجه أبو عبيد في كتابه "غريب الحديث". من مرسل الزهري، والراوي عنه ضعيف. كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "تلخيص الحبير": "3/15"، وراجع أيضًا: "فيض القدير": "6/423". 2 إيقاع الطلاق في الحالة هذه قول الجماهير، خلافًا لبعض المبتدعة القائلين بعدم الوقوع. انظر: المغني لابن قدامة "7/299". 3 في الأصل: "فيهما". 4 الصلاة في الأرض المغصوبة فيها روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله، إحداهما: عدم الصحة، وهو المشهور من المذهب، والأخرى الصحة. انظر: المغني لابن قدامة "2/63"، والتنقيح المشبع ص"42". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 البطلان؛ لما فيه من الضرر على أهل البلد1. واختلفت الرواية في البيع على بيع أخيه: فروي عنه ما يدل على البطلان؛ لما فيه من الضرر بأخيه2.   1القول بعدم صحة البيع وبطلانه هو ظاهر المذهب، وقد روى هذا إسماعيل بن سعيد عن الإمام أحمد، قال: سألت أحمد عن الرجل الحضري يبيع للبدوي؟ فقال: أكره ذلك، وأرد البيع في ذلك. وعلى هذه الرواية يشترط لعدم صحة البيع ثلاثة شروط: الأول: أن يكون الحاضر قصد البادي، ليبيع له سلعته. الثاني: أن يكون البادي جاهلًا بسعر السلعة في السوق. الثالث: أن يكون البادي جالبًا للسلعة يريد بيعها. وزاد القاضي أبو يعلى شرطين آخرين هما: الأول: أن يكون البادي يريد بيع سلعته بسعر يومها. الثاني: أن يكون بالناس حاجة إلى سلعة البادي. وهناك رواية ثانية: أن البيع صحيح، نقل ذلك عن الإمام أحمد أبو إسحاق بن شاقلا أن الحسن بن علي المصري: سأل أحمد عن بيع حاضر لبادٍ؟ فقال: لا بأس به. فقال له: فالخبر الذي جاء بالنهي؟ قال: كان ذلك مرة. راجع في ذلك: مختصر الخرقي ص"88"، والمغني لابن قدامة "4/193-194"، والإنصاف للمرادوي "4/333-334". 2 بطلان البيع والحالة هذه هو ظاهر المذهب. وقد ذكر ابن قدامة: أنه يحتمل صحة البيع. ولمزيد من ذلك ارجع إلى "المغني": "4/191". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 مسألة دليل الخطاب حجة مدخل ... مسألة 1 [دليل الخطاب حجة] : وهو: أن يعلق الحكم بصفة، نحو قوله: "في سائمة الغنم الزكاة 2 ". أو بعدد نحو قوله: "في أربعين شاة شاة" 3.   1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"351-353، 357-359"، وروضة الناظر مع شرحها لابن بدران "2/200-211"، وشرح الكوكب المنير ص"238-254". 2 هذا الجزء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا. وهو الحديث الذي روى فيه كتاب أبي بكر رضي الله عنه، وفيه بين أحكام الزكاة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه عن أنس بن مالك البخاري في كتاب الزكاة باب زكاة الغنم "2/139" من حديث طويل، وفيه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها زكاة، إذا كانت أربعين إلى عشرين ... ". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/358-360"، وفيه: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة..". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة باب زكاة الغنم "5/13-14"، وفيه: "وفي صدقة الغنم، في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة ... ". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة باب زكاة الإبل والغنم "2/113-116"، وفيه: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة واحدة". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الزكاة باب كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع فرائض الصدقة، وفيه زكاة الإبل والغنم "1/226-227"، بلفظ قريب من لفظ الدارقطني. راجع في هذا الحديث أيضًا: المنتقى من أحاديث الأحكام ص"313-331"، ونصب الراية "2/335-336". 3 هذا جزء من حديثين، روى أحدهما ابن عمر، والآخر علي رضي الله عنه عن الجميع. وقد أخرجه عن ابن عمر أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة. كما أخرجه عن علي؛ غير أن زهيرًا -أحد رواة حديث علي- شك في رفع الحديث إلى النبي صلى عليه وسلم "2/360، 361-362"، ومحل الشاهد عنده بلفظ: "وفي الغنم في كل أربعين شاة ... ". وأخرجه الترمذي عن ابن عمر في كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم ولفظه كلفظ أبي داود، غير أنه حذف كلمة "الغنم". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب صدقة الغنم "1/577"، ولفظه كلفظ المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 [59/ب] أو باسم نحو قوله: "في الغنم الزكاة". ويعبر عنه: بأن المسكوت عنه يخالف حكم المنصوص عليه بظاهره. وقد نص أحمد رضي الله عنه على هذا في مواضع: فقال في رواية صالح: "لا وصية لوارث" دليل أن الوصية لمن لا يرث. وقال رضي الله عنه في رواية إسحاق بن إبراهيم: لا يحل للمسلمة أن تكشف رأسها عند نساء أهل الذمة1؛ لأن الله تعالى يقول: {أوْ نِسَائِهِنَّ} 2.   1 قول الإمام أحمد رحمه الله هنا هو أحد التفسيرين للآية، وهو مبني على كون الإضافة في قوله تعالى: {نسائهن} أي المؤمنات. وهذا قول أكثر السلف، كما قال الفخر الرازي. وهناك تفسير آخر هو: أن المراد بالآية جميع النساء. وحمل الفخر الرازي قول السلف على الاستحباب. راجع في هذا: مفاتيح الغيب للرازي "23/207"، وأحكام القرآن للجصاص "5/175"، ومحاسن التأويل للقاسمي "12/4512". 2 "31" سورة النور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وقال رحمه الله في رواية محمد بن العباس1 وقد سأله عن الرضاع فقال: عن الني صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان 2 " فأرى الثلاث تحرم3. وقال رحمه الله في رواية حنبل وقد سئل عن الأكل من منزل المجوسي فقال: ما كان من صيد أو ذبيحة فلا، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ   1 في "طبقات الحنابلة" 1/315 شيخان بهذا الاسم، أحدهما: النسائي، والآخر: المؤدب، أبو عبد الله الطويل. ولم يذكر صاحب الطبقات شيئا عن حياتهما. 2 هذا الحديث روته أم الفضل رضي الله عنها مرفوعا. أخرجه عنها مسلم في كتاب الرضاع باب في "المصة والمصتان" 2/1074 بلفظ: "لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصة أو المصتان". وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب النكاح باب لا تحرم المصة ولا المصتان 1/642 بمثل لفظ المؤلف في شطر الحديث الأول، وبقيته كلفظ مسلم. وأخرجه الدارقطني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعا وذلك في كتاب الرضاع 4/173. وراجع في هذا الحديث: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص607، و"تلخيص الحبير" 4/5، و"نصب الراية" 3/217. 3 وقد نقل عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه في مسائله الورقة 150/أقال: "سألت أبي هل تحرم المصة والمصتان؟ فقال: لا أجترئ عليه. قلت: إنها أحاديث صحاح، قال: نعم، ولكن أجيز عنها". ولكن ابن قدامة يقول: إن الصحيح من مذهب الحنابلة: أن العدد المحرم هو خمسة رضعات فصاعدا. وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد، مفادها: أن قليل الرضاع وكثيره يحرم. راجع "المغني" لابن قدامة 8/140. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 1 وهؤلاء ليسوا أهل كتاب2. ونقل عنه أيضًا رحمه الله: ليس على المسلم نصح الذمي، قال النبي صلى عليه وسلم: "والنصح لكل مسلم" 3. ونقل عنه أيضًا رحمه الله: يقتل السبع والذئب والغراب ونحوها4 ولا كفارة عليه؛ لأن الله تعالى قال: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 5. فجعل الجزاء في الصيد، وهذا سبع فلا كفارة فيه.   1 "5" سورة المائدة. 2 وقد قال الإمام أحمد في رواية أبي داود في: "مسائله" ص"257"، وقد سأل الإمام أحمد رجل عن الأكل عند المجوسي، فقال: لا بأس، ما لم يأكل من قدورهم، ويأكل من فواكههم، ذكر شيئا أو أشياء ذهب علي، قيل له: جبنهم؟ فذهب إلى الرخصة، ولم يصرح به. وحكى ابن قدامة في كتابه: "المغني": "9/389" الإجماع على تحريم صيد المجوسي وذبيحته؛ إلا ما لا ذكاة له. 3 هذا الحديث رواه جرير بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم". أخرجه عنه البخاري في كتاب الإيمان باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين": "1/22"، كما أخرجه في مواضع أخرى من صحيحه. وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة "1/75". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب باب في النصيحة "2/583". وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيعة باب البيعة على النصح لكل مسلم "7/126-127". وأخرجه عند الدارمي في كتاب البيوع باب في النصيحة "2/164". 4 في الأصل: "ونحوه". 5 "95" سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وقال في كتاب طاعة الرسول: قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} 1، يرجع في حليلة الابن من الرضاعة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" 2.   1 "23" سورة النساء. 2 هذا الحديث أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها بمثل لفظ المؤلف كما أخرجه عن ابن عباس رضي الله عنهما بمثل لفظ المؤلف أيضًا، وذلك في كتاب الرضاع باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل "2/1070"، وفي باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة "2/1071-1072". وعن علي رضي الله عنه أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع باب ما جاء يحرم من الرضاعة ما يرحم من النسب "3/443" بلفظ: "إن الله حرم من الرضاع ما حرب من النسب"، وقال: حديث حسن صحيح. وعن عائشة رضي الله عنها أخرجه ابن ماجه بمثل لفظ المؤلف؛ غير أنه أبدل كلمة "الرضاعة" بكلمة: "الرضاع"، كما أخرجه بمثل لفظ المؤلف أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنه، وذلك في كتاب النكاح باب ما يحرم من الرضاع يحرم من النسب. وعن ابن عباس أخرجه النسائي في كتاب النكاح باب: تحريم بنت الأخ من الرضاعة "6/81-82". وهناك روايات للحديث، نذكر منها ما استطعنا الاطلاع عليه: 1 "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". 2 "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". 3 "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة". 4 "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة". 5 "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة". 6 "إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب". 7 "إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة". 8 "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وقال رضي الله عنه في رواية حنبل: قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} 1؟ فثبت أن الله سميع بصير. وقد احتج في هذه المواضع بدليل الخطاب. وبهذا قال مالك2 وداود3. وقال أصحاب أبي حنيفة: ليس بحجة4.   = 9 "حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب". 10 "ما حرمته الولادة حرمة الرضاع". وللاطلاع على هذه الروايات راجع: "صحيح البخاري" في كتاب فرض الخمس باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم "4/100"، وسنن أبي داود في كتاب النكاح باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب "1/474"، و"سنن الدارمي" في كتاب النكاح باب ما يحرم من الرضاعة "2/79" و"الموطأ" في كتاب الرضاع باب رضاعة الصغيرة "3/238". وراجع أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"610"، و"نصب الراية": "3/168، 218"، و"تلخيص الحبير" 3/166، 4/4"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير": "6/459". 1 "42" سورة مريم. 2 نص القرافي على هذا في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"270". 3 هو داود بن علي بن خلف، الأصبهاني أصلًا، الكوفي مولدًا، البغدادي نشأة ووفاة. إمام المذهب الظاهري، أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور، ولد سنة 202هـ، وقيل غير ذلك. ومات سنة 270هـ. له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/158"، و"وفيات الأعيان": "2/26". وما نقله المؤلف عن داود الظاهري مخالف لما ذهب إليه ابن حزم في كتابه: "الإحكام": "7/887"، وحكاه عن جمهور الظاهرية من أن دليل الخطاب ليس بحجة. 4 راجع في هذا "تيسير التحرير": "1/98" وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 واختلفوا: إذا علق الحكم بشرط؛ فمنهم من قال: ما عداه1. ومنهم من قال: لا يدل، واختاره الجرجاني. وقال ابن داود والأشعر [ية] 2: دليل الخطاب ليس بحجة3. واختلف أصحاب الشافعي: فذهب ابن سريج4 والقفال5 إلى أنه ليس   1 يظهر أن هنا كلمة ساقطة هي: "بخلافه"، حيث تصبح العبارة: "فمنهم من قال: ما عداه بخلافه"، وهكذا ذكره ابن عقيل عندما نقل مذهب الحنفية. انظر: "المسودة" ص"357". 2 في الأصل: "الأشعر"، وهو متردد بين: "الأشعري" وبين: "الأشعرية"، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لما في "المسودة" ص"351"، حيث نقل عن المؤلف ذلك لفظ: "الأشعرية". 3 المعروف عن الأشعري أنه يقول بحجية مفهوم المخالفة، نقل ذلك عنه الغزالي في "المستصفى": "2/191"، والآمدي في "الإحكام": "3/68". 4 في الأصل: "سريح" بالسين والحاء المهملتين، وهو تصحيف والصواب: "سريج" بالسين المهملة، والجيم المعجمة، وهو كذلك في "المسودة" ص"351". وابن سريج هو: أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، أبو العباس. فقيه الشافعية في عصره. صنف أربعمائة مصنف. تولى قضاء شيراز، كانت له مناظرات مع أبي بكر بن داود الظاهري. مات 360هـ، وله من العمر 57 سنة وستة أشهر. انظر ترجمته في: "البداية والنهاية": "11/129"، و"تاريخ بغداد": "4/287"، و "شذرات الذهب": "2/247"، و"طبقات الشافعية" للسبكي "3/21"، و"النجوم الزاهرة": "1/194". 5 هو: محمد بن إسماعيل، أبو بكر، القفال الكبير. الشاشي موطنًا، الشافعي مذهبًا. فقيه، أصولي، متكلم، مفسر، محدث. له مؤلفات كثيرة، منها: "كتاب في أصول الفقه"، و"شرح الرسالة". مات سنة 365هـ. له ترجمة في: "شذرات الذهب": "3/51"، و"طبقات الشافعية" للسبكي "3/200"، و"النجوم الزاهرة": "2/111". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 بحجة1. وذهب الأكثر منهم إلى أنه إن علق بصفة؛ فهو حجة، وإن علق باسم؛ لم يكن حجة2. ومنهم من قال: هو حجة، وإن علق باسم مثل قولنا. قال ابن فورك: وهو الصحيح3. ورأيت في جزء وقع إلي تخريج أبي الحسن التميمي: أن دليل الخطاب؛ ليس بحجة. فالدلالة على صحة ما قلناه: أنه تعالى لما أنزل قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 4، قال صلى الله عليه وسلم: "والله لأزيدن على السبعين"، ذكره يحيى5 بن سلام6   1 هكذا نقل عنهما الآمدي في "الإحكام": "3/68"، وكذلك في "المسودة" ص"351". 2 هكذا في "جمع الجوامع": "1/252"، حيث قال: "المفاهيم إلا اللقب حجة". 3 وهو منسوب أيضًا لأبي بكر الدقاق والصيرفي الشافعيين، كما في "جمع الجوامع": "1/254". 4 "80" سورة التوبة. 5 في الأصل: "بحر"، وهو خطأ؛ لعله من الناسخ، وقد ذكره المؤلف ص"715" بأنه يحيى بن سلام. 6 سبقت ترجمته ص"445". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 في تفسيره عن قتادة1 قال: لما نزلت [60/أ] هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد خيرني ربي فوالله لأزيدنهم على السبعين". وفي لفظ آخر: "فلأستغفرن لهم"، فأنزل الله عز وجل في سورة المنافقين: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. 3.   1 هو قتادة بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب، الحافظ الأعمى، روى عن أنس والحسن وغيرهما. وعنه أبو حنيفة والأوزاعي وغيرهما. كان يدلس. وكان يقول: كل شيء بقدر إلا المعاصي. توفي بالطاعون سنة 118هـ. له ترجمة في: "البداية والنهاية": "9/313"، و "تذكرة الحفاظ": "1/122"، و "شذرات الذهب": "1/153"، و"طبقات المفسرين" للداودي "2/43"، و"ميزان الاعتدال": "3/385"، و "النجوم الزاهرة": "1/276". 2 "6" سورة المنافقون. 3 هذا السبب هو من رواية عبد الرزاق، عن عمر، عن قتادة، وهو مرسل؛ ولكن رجاله ثقات، كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "8/336-337". والسبب هذا معارض بما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير باب قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} عن ابن عمر رضي الله عنهما "6/85": أن الله أنزل بعد صلاة النبي على المنافق آية التوبة: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} . وكذلك رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر رضي الله عنه "4/1865". وإذا ذهبنا إلى الترجيح بينهما وجدنا: أن حديث ابن عمر رضي الله عنه ثابت، رواه الشيخان وغيرهما، أما أثر قتادة فهو مرسل، والحديث بسند الصحيح مقدم على المرسل. على أن الحافظ ابن حجر قال في "الفتح": "8/337": "يحتمل أن تكون الآيتان معًا نزلنتا في ذلك..". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وهذا فسوق المشرك؛ فعقل أن ما زاد على السبعين يخالف حكمه حكم السبعين. فإن قيل: روى عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو علمت إذا زدت على السبعين أن يغفر الله لهم لزدت" 1. وهذا يمنع التعلق بالدليل، ويوجب التوقف عن الحكم بالدليل. قيل: قوله: "لو علمت ... لزدت" تعلق بدليل الخطاب، لأنه ما استفاد الزيادة إلا من ناحية الدليل، وعدم العلم بالغفران لهم لا يمنع الاحتجاج؛ لأنا استدللنا به؛ فلا يقطع على العلم به، كما إذا استدللنا بالعموم وأخبار الآحاد. فإن قيل: الكافر لا يغفر له من جهة السمع؛ فغير جائز أن يخالفه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدل ذلك على بطلان الخبر. قيل: الحديث قد صح، وليس بمنكر استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم؛   1 حديث عمر رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري مرفوعًا في كتاب التفسير، باب قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} "6/85" بلفظ: " ... إني خيرت، فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له، لزدت عليها ... "، وانظر "فتح الباري": "8/333". وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير باب من سورة التوبة "5/279"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح غريب". وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز باب الصلاة على المنافين "4/54". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "أسباب نزول القرآن" للواحدي ص"257" و "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير "2/378"، و"محاسن التأويل" للقاسمي "8/3224"، و "تيسير الوصول": "1/127". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 لأن مغفرة الله تعالى لهم مما يجوز في العقل، ولا يحيلها، ويصح أن يجاب في ذلك: أفتغفر لهم؟، وهذا قبل التوقيف على أن عذابهم غير منقطع. فإن قيل: فأنتم تثبتون وجوب الغفران بعد السبعين، والخبر يمنع ذلك. قيل: لو خلينا وظاهر الخبر لقلنا بوجوبه، لكن لما قال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 1 نقلنا عن ظاهره. فإن قيل: عادة العرب في قول القائل: لا أفعل كذا وإن سألتني سبعين مرة، تأكيد للنفي، وهذا لا يخفى على السامع؛ فلم يجز أن يفهم عنه دليل الإثبات. قيل: قد فهم النبي منه دليل الإثبات بقوله: {لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} ؛ فلولا أن اللفظ يقتضي ذلك لم يسأله. وجواب آخر وهو: أنه لو كان المراد تكثير الاستغفار؛ لم يحسم الطمع في مغفرتهم، فلما لم يفعل ذلك دل على أنه أراد التقدير والتحذير دون التكثير. فإن قيل: فهذا الخبر لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حلف أنه يستغفر للكافر، ولو كان قد حلف على ذلك لكان لا بد من أن يفعله؛ لأن في تركه تركًا للوفاء بالعهد، وهو منزه عن ذلك، ولو فعله لكان يجاب دعاؤه، وهذا يؤدي إلى أن الله تعالى يغفر للكافر. قيل: إنما حلف على ذلك قبل النهي، ثم نهاه عن ذلك بقوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} ، وإذا كان كذلك فقد حصل   1 "84" سورة التوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 منه الوفاء بالعهد، ولم تحصل الإجابة للنهي فيما بعد. فإن قيل [60/ب] : ليس في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل من الآية ما زاد على السبعين مخالف لحكم السبعين من حيث تخصيص هذا القدر بالذكر؛ بل إنما قال: "والله لأزيدن على السبعين"؛ لأن الاستغفار للكفار كان مباحًا عنده في تلك الحال؛ لأن غفران الكافر جائز في طريق العقل؛ فلما حظر الله هذا القدر من الاستغفار؛ بقي ما زاد على السبعين على أصل الإباحة. قيل: لو كان كذلك ما كان لقوله: "والله لأزيدن على السبعين" معنى، وذلك مباح كله، قاله أو لم يقله، فعلم أن المراد به: أن ما وراء السبعين بخلاف السبعين. وعلى أنه أي حاجة كانت في الاستغفار للمشركين بعد موتهم، لا سيما والأصل1 الحظر في الأشياء. فإن قيل: فهذا من أخبار الآحاد، وهذه مسألة أصل؛ فلا يكون دليلها خبر واحد. قيل: مسألة الأصل تتضمن علمًا وعملًا؛ فيجب أن يثبت العمل فيه بالخبر، ويكون العلم دليله شيء آخر؛ لأن العلم مسألة، والعمل2 به مسألة أخرى. فإن قيل: فلو صح هذا الخبر؛ فلا حجة فيه؛ لأن من أصحابنا من يقول: إن المحصور بالعدد يدل على أن ما عداه بخلاف حكمه، وهذا مخصوص بالعدد.   1 في الأصل: "وأصلها". 2 في الأصل: "والعلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 قيل: تخصيصه بالعدد تنبيه على القول في نظيره وحكمه. وأيضًا: فإنه إجماع الصحابة؛ لأن يعلى بن أمية1 روى أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: ما بالنا نقصر وقد أمنّا، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 2؟ فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" 3، وهذا احتجاج بدليل الخطاب؛ لأن نطق الآية يفيد القصر بشرط الخوف، وسقوطه مع وجود الأمن من جهة الديل.   1 هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة التميمي الحنظلي، أبو صفوان أو أبو خالد، صحابي جليل، أسلم يوم الفتح، كان معروفًا بالسخاء والكرم، قتل بصفين سنة 38هـ. انظر ترجمته في: "الاستيعاب": "4/1585"، و "الإصابة" القسم السادس ص"725"، طبعة دار نهضة مصر. 2 "101" سورة النساء. 3 هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافر وقصرها "1/478". وأخرجه أبو داود في تفريع أبواب السفر، باب صلاة المسافر "1/274". وأخرجه النسائي في أول كتاب تقصير الصلاة في السفر "3/95". واخرجه الترمذي في كتاب التفسير باب من سورة البقرة "5/ 343". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب تقصير الصلاة في السفر "1/339". وأخرجه الدارمي في كتاب الصلاة باب قصر الصلاة في السفر "1/292-293". وأخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/25، 26". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/58-59"، و"نصب الراية": "2/190"، و"تيسير الوصول": "1/111-112". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وكذلك احتج ابن عباس: في أن الأخوات لا يرثن مع البنات1 بقوله [تعالى] : {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 2، فلما ورث الأخت مع عدم الولد؛ ثبت أنها لا ترث مع وجوده، وأقرته الصحابة على هذا الاحتجاج، وعارضته بالسنة. وهذا احتجاج من دليل الخطاب؛ لأن نطق الآية أفاد ثبوت الإرث مع عدم الولد، فأما سقوطه مع وجود الولد؛ فإنما أفاده الدليل. وكذلك امتنع من الرد واحتج بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ، فلا يجوز أن تزاد على النصف، والمنع من الزيادة عليه عقله من دليل الخطاب. وكذلك من قال: لا يجب الغسل من التقاء الختانين، إذا لم يكن معه إنزال؛ بقول النبي صلى الله عليه وسلم [61/أ] : "الماء من الماء" 3، وهذا احتجاج بدليل الخطاب.   1 هذا الأثر منسوب إلى ابن عباس وإلى ابن الزبير رضي الله عنهما؛ فإنما كانا يقولان: "إن الأخت لا ترث مع البنت شيئًا"، استدلالًا بهذه الآية. أما الجمهور: فقد ذهبوا إلى أن الأخوات مع البنات عصبة، وإن لم يكن لهن أخ. راجع في هذا: "تفسير ابن جرير": "9/443"، و "تفسير القرطبي": "6/29"، و "تفسير القاسمي": "5/1777"، و "تفسير الرازي": "1/1211". 2 "176" سورة النساء. 3 هذا الحديث أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا في كتاب الحيض باب الماء من الماء "1/269". وأخرجه أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعًا في كتاب الطهارة باب في الإكسال "1/49". = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 ومن أوجب الغسل قال: هو منسوخ1. فدل هذا على أن القول بدليل الخطاب إجماع منهم. فإن قيل على حديث يعلى بن أمية: أن الله تعالى أمر بالإتمام حال الأمن2 بقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 3، وخص القصر بحال الخوف، فكان عندهما: أن الإتمام واجب حال زوال الخوف بالآية الأخرى، لا بدليل اللفظ. قيل: عمر ويعلى رجعا إلى آية القصر دون الآية الأخرى؛ فلم يصح السؤال.   = وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء: أن الماء من الماء "184/1"، وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة باب الذي يحتلم ولا يرى الماء "96/1". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب الماء من الماء "199/1". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطهارة باب الماء من الماء "195/1". وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "115/5-116". وقد تكلم الشيخ أحمد محمد شاكر على إسناد حديث أبي أيوب هذا، وفصل القول فيه، وذلك في حاشيته على سنن الترمذي "1/184-185". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/135"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"62"، و "نصب الراية": "1/80". 1 القول بالنسخ مذهب الجمهور، والناسخ: حديث: "إذا التقى الختانان؛ وجب الغسل". وابن عباس رضي الله عنه تأوله: بأن الماء من الماء في الاحتلام. وقد انعقد الإجماع أخيرًا على وجوب الغسل إذا التقى الختانان. هكذا نقله الحافظ ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير": "1/135" عن القاضي ابن العربي. 2 في الأصل: "الأمر". 3 "103" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 فإن قيل: من قال: لا يجب الغسل بالتقاء [الختانين] ، يحتمل أن يكون علموا ذلك بدلالة أخرى لا بدليل اللفظ. قيل: من ذهب إلى هذا؛ رجع إلى قول النبي: "الماء من الماء"؛ فلم يصح السؤال. فإن قيل: فقوله: "الماء من الماء" يقتضي الاستغراق؛ فلهذا دل على نفي ما عداه، وخلافنا في تخصيص المحكوم فيه ببعض صفاته. قيل: المعروف من مذهب المخالف: أنه لا فرق بين ما دخله الألف واللام، أو لم يدخله. وأيضًا: فإن أبا عبيد1 قد قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" 2 دليله: أن لَيَّ غير الواجد لا يحل عرضه ولا   1 هو القاسم بن سلام البغدادي، أبو عبيد، لغوي ومحدث وفقيه، ذو دين، وخلق حسن، أخذ عن أبي عبيدة والكسائي والفراء وغيره، تولى قضاء طرسوس، له كتب كثيرة، منها: "الغريب"، و "الأمثال"، و "الأموال"، ولد بهراة سنة 150هـ على الأصح، وتوفي بمكة المكرمة، وقيل: بالمدينة المنورة سنة 224 على الأرجح. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "2/417"، و "تاريخ بغداد": "2/403"، و "شذرات الذهب": "2/54"، و "طبقات الحنابلة": "1/259"، و "طبقات القراء الكبار" للذهبي "1/141"، و "طبقات المفسرين" للداودي "2/32"، و"النجوم الزاهرة" "2/241". 2 حديث صحيح رواه الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الأقضية باب في الحبس في الدين وغيره "2/281". وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع باب مطل الغني "7/278". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصدقات باب الحبس في الدين والملازمة "2/811". وقد علقه البخاري في كتاب الاستقراض باب لصاحب الحق مقال "3/147". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير": "5/400". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 عقوبته؛ فصرح بالقول بدليل الخطاب، وهو أوثق من نقل اللغة عن أهلها، فوجب المصير إلى ذلك. فإن قيل: أبو عبيد لم يحك ذلك بعينه عن العرب، ولا يجوز أن يجعل ظاهر كلامه أنه عن العرب؛ لكونه من أهل اللغة؛ لأنه ممن يتكلم في الأحكام ويختار المذاهب؛ فجاز أن يكون قاله من جهة الحكم، وطلب فائدة اللفظ. وقد عارض ذلك ما ذكره الأخفش1 في قول القائل: "ما جاءني غير زيد"، أن ذلك لا يدل على مجيء زيد. قيل: أن أبا عبيد ذكره هذا في كتب اللغة، ولم يذكره في كتب الأحكام، والظاهر: أنه لغة العرب. وقولهم: ما ذكره عن الأخفش لا يعارض قول أبي عبيد؛ لأن الأخفش لم يكن من أهل اللغة؛ وإنما كان له معرفة بالنحو، وأبو عبيد إمام في اللغة، وله غريب المصنف2 وغيره من الكتب في اللغة.   1 هو: سعيد بن مسعدة، أبو الحسن، الأخفش الأوسط، مولى بني مجاشع، سكن البصرة، ثم دخل بغداد، وأقام بها مدة، روى عن هشام بن عروة والنخعي وغيرهما. وعنه أبو حاتم السجستاني. كان الأخفش معتزليًا، له مصنفات كثيرة، منها: "معاني القرآن"، و "المقاييس في النحو" و "الأوسط في النحو". مات سنة 210هـ وقيل غير ذلك. له ترجمة في: بغية الوعاة "1/590"، و "شذرات الذهب": "2/36"، و "طبقات المفسرين" للداودي "1/185"، و "الفهرست" ص"77"، المطبعة التجارية، و "مرآة الجنان": "2/61". 2 هذا الكتاب من أجود الكتب اللغوية، وأنفعها، وقد نسبه الخطيب البغدادي في "تاريخه": "12/404". وإلى القاسم بن سلام، ونقل عن ابن درستويه النحوي قوله في هذا الكتاب: ".. وهو من أجل كتبه في اللغة، فإنه احتذى فيه كتاب النضر بن شميل المازني يسميه كتاب الصفات، وبدأ فيه بخلق الإنسان، ثم بخلق العرش، ثم بالإبل فذكر صنفًا بعد صنف، حتى أتى على جميع ذلك، وهو أكبر من كتاب أبي عبيد، وأجود". كما نسبه إليه الداودي في "طبقات المفسرين": "2/35". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 وأيضًا: فإن أهل اللغة لا يضمون الصفة إلى الاسم، ويقيدون الاسم بها إلا للتمييز والمخالفة بينه وبين ما عداه. يبين ذلك: أنهم لا يقولون: اشترِ عبدًا أسود، أو جارية بيضاء، أو خبزًا سميذًا1، أو لحمًا نيئًا أو مشويًا، ولا يقولون: ادفع هذا المال إلى بني فلان الفقراء منهم، أو الفقهاء منهم، وما أشبه ذلك، إلا لتخصيص الموصوف بهذا الوصف وتمييزه. والمخالفة2 بينه وبين من عداه. ومن كان عنده جميع الصفات واحدة؛ لم يقيد خطابه بذلك، بل يطلق3 الاسم إطلاقًا، ومن قيده مع [61/ب] تساويهما عنده كان مسقطًا في قوله، ملغزًا في خطابه؛ فوجب إذا قال صاحب الشريعة: "في سائمة الغنم والزكاة" أن تكون الزكاة مختصة بالسائمة، ولا تكون واجبة في المعلوفة، ولا يلزم على هذا الاسم المجرد إذا ضم الحكم إليه؛ لأنا نقول فيه ما نقوله في الصفة المضمومة إلى الاسم. وقد صرح بهذا أحمد رضي الله عنه في رواية الميموني وقد سئل عن   1 في كتاب "فقه اللغة" للثعالبي ص"317": "سميذ" بالذال المعجمة لون من ألوان الخبز: والكلمة فارسية، معربة. 2 في الأصل: "المخالف". 3 في الأصل: "أطلق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 التيمم بالسهلاة1، فقال: كيف يتيمم بهذه الأشياء وليست بصعيد؛ ولكن يتيمم ويعيد جميع ذلك؛ لأن اسم الصعيد لا يتناوله، والآية تضمنت التيمم بما يسمى صعيدًا بقوله: "صعيدا" فدل على أن غيره لا يجوز التيمم به. وكذلك قال في رواية الميموني: لا يتوضأ بماء الورد، هذا ليس بماء، وإنما يخرج من الورد. وأيضًا: فإن اسم الغنم عام في المعلوفة والسائمة؛ فإذا ذكر الصفة معه فقال: في سائمة الغنم، فخص الاسم، فوجب أن يكون مقصورًا عليها، كالحكم المعلق على الغاية، والاستثناء إذا تعقب عددًا. وقد قال بعضهم: ينظر الحكم، بماذا اخترل2 عم الحكم؛ فوجب أن يتضمن نفيًا وإثباتًا؛ كالاسم المقرون بالاستثناء والمقيد بالغاية. وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم امتدح بالاختصار بقوله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارًا" 3. فإذا قلنا: إن قوله:   1 هكذا في الأصل: ولعل المراد: الأرض السِّهْلَة بكسر السين، وهي تراب كالرمل، يجيء به الماء. وعن الجوهري: أنها رمل خشن، ليس بالدقاق الناعم. انظر: اللسان "13/371-372"، مادة: "سهل". 2 هكذا في الأصل، ولم أتوصل إلى معرفة المراد. 3 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب التعبير، باب رؤيا الليل "9/43" بلفظ: "أعطيت مفاتيح الكلم". وفي باب المفاتيح في اليد بلفظ: "بعثت بجوامع الكلم"، وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة "1/371-372" بلفظ: "أوتيت جوامع الكلم ... "، ولم يذكر: "واختصر لي الكلام اختصارًا"، وبمثل لفظ المؤلف أخرجه الدارقطني في سننه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما، في كتاب النوادر "4/144-145". وفي إسناده: "زكريا بن عطية"، قال فيه أبو حاتم: "منكر الحديث"، كما ذكر ذلك الذهبي في كتابه: "المغني في الضعفاء": "1/239". وكذلك أخرجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبو يعلى في مسنده، كما حكى ذلك السيوطي في "الجامع الصغير": "1/563" مطبوع مع شرحه "فيض القدير"، وقد رمز له بالحسن. وقد ذكر المناوي في كتابه: "فيض القدير": "1/563" أن البيهقي أخرجه في "الشعب" عن عمر بن الخطاب أيضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 "في سائمة الغنم الزكاة"؛ لم يفد ذكر السوم غير ما أفاده الإطلاق؛ حملنا الكلام على الإطالة من غير فائدة، فكان حمله على فائدة أولى. فإن قيل: فائدة تخصيص المذكور بيان الحكم فيه، ليقف ما سواه على تعريض المجتهد لطلب الثواب. قيل: هذه الفائدة غير حاصلة من جهة اللفظ؛ بل هي سابقة له؛ لأن المجتهد معرض لطلب الثواب بالاجتهاد، فامتنع أن يكون ورود هذا الفظ أفاد ذلك، ولم يبق إلا أن تكون الفائدة ما ذكرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لا يجوز أن يكون لله تعالى دليل على حكم من الأحكام، ويوجد ذلك الدليل عاريًا من مدلوله؛ فلما وجدنا الله تعالى قد خص أشياء بذكر بعض أوصافها، وعلق بها أحكامًا، ولم يكن تخصيصها بها موجبًا للحكم بما عداها بخلافها، وعلق بها أحكامًا، ولم يكن تخصيصها بها موجبًا للحكم بما عداها بخلافها، نحو قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} 1؛ فخص النهي عن ذلك بحال خشية الإملاق، ولم يختلف النهي في الحالين. وقوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} 2، فخص   1 "31" سورة الإسراء. 2 "36" سورة التوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 النهي عن الظلم لهذه الأشهر، ثم كان الظلم منهيًا عنه في سائر الشهور. وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} 1، وهو عليه السلام منذر البشر. وقوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 2. علمنا: أن تخصيص الشيء ببعض [62/أ] أوصافه وإيجاب الحكم فيه؛ لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه. والجواب: أن دليل الخطاب سقط في هذه المواضع؛ لقيام الدلالة عليه. ثم لا يمنع ذلك لكونه موضوعًا في الأصل على ما اعتبرناه، كما أن قيام الدلالة على كون العموم غير مستغرق للجنس، لا يدل على أنه غير موضوع في الأصل للاستغراق، نحو قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 3، ومعلوم أنها لم تؤتَ مثل فرج الرجل. وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4، ومعلوم أنه لم يخلق نفسه سبحانه. وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 5، ومعلوم أنها لم تدمر السموات والأرض. فلئن جاز أن يعترض بمثل هذا علينا في دليل الخطاب؛ كان لأصحاب   1 "45" سورة النازعات. 2 "130" سورة آل عمران. وكلمة "الربا" ساقطة من الأصل. 3 "23" سورة النمل. 4 "102" سورة الأنعام. 5 "25" سورة الأحقاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 الخصوص أن يعترضوا على الجميع في القول بالعموم بهذه المواضع. فإن قيل: العموم لا يجوز وجوده عاريًا عن إيجاب حكم، وههنا يوجد عاريًا عن إيجاب حكم. قيل: بالقياس يوجد عاريًا عن إيجاب حكم، وهو إن عارضه نص، ومع هذا لم يدل ذلك على أنه ليس بحجة. واحتج: بأن ما يقتضيه الخطاب بصريحه أو دليله طريقه اللغة دون غيرها، وثبوته من طريق اللغة لا يخلو من أن يكون بالعقل أو بالنقل، ولا يجوز أن يكون بالعقل؛ لأنه لا مدخل للعقل في إثبات اللغة، ولا يجوز أن يكون بالنقل لأنه لا يخلو: إما أن يكون متواترًا أو آحادًا، ولا يجوز أن يكون تواترًا؛ لأنه لو نقل ذلك من طريق التواتر لعلمنا؛ لأنه لا يجوز أن يختص المخالف بعلم النقل المتواتر، ولا يجوز أن يكون آحادًا؛ لأن هذه المسألة من مسائل الأصول, ولا يجوز إثباتها بخبر الواحد الذي لا يوجب العلم. والجواب: أنا أثبتناه بالنقل الذي قامت الحجة به، كما يستدل المخالف على إثبات العمل بخبر الواحد وبالإجماع بنقل ليس بمتواتر؛ لقيام الحجة عنده بصحته. وأثبتناه أيضًا بالعقل، وقول المخالف: إن العقل لا مدخل له في إثباته: ليس بصحيح؛ لأن له مدخل في الاستدلال بمخارج كلامهم على مقاصدهم وموضوعاتهم، وقد استدللنا بذلك على ما تقدم بيانه. واحتج: بأنه لو كان يدل على المخالفة؛ لم يجز أن يصرح بالتسوية بينهما؛ فلما جاز أن يقول: في سائمة الغنم وفي معلوفتها زكاة؛ دل على أن تخصيص السائمة بالذكر؛ لا يدل على المخالفة؛ لأنه لو دل على المخالفة؛ لكان ذلك متناقضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 والجواب: أن هذا باطل "بالغاية"؛ فإنها تدل على خلاف ما قبلها، وإن جاز الجمع بينهما نحو قوله: وأيديكم إلى المرافق واغسلوا ما ببعد المرافق. وكذلك صيغة العموم تدل على الاستغراق، وإن جاز أن يقترن بها [62/ب] دليل الاستثناء، فنقول: اقتلوا المشركين إلا زيدًا، ولا يكون هذا مناقضًا للفظ. وجواب آخر: وهو أنه لا يمتنع أن يختلف حكم الاتصال والانفصال؛ فيجوز الجمع بينهما باللفظ المتصل، ولا1 يجمع بينهما في المنقطع، ألا ترى أنه لو قال: "لا إله"، وسكت؛ حكم بكفره، ولو وصل ذلك بقوله: {إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} 2، ولم يكفر3، وكذلك لو قال لغير مدخول بها: أنت طالق، وسكت؛ طلقت، ولو قال: إن دخلت الدار؛ لم تطلق قبل وجود الصفة، كذلك ههنا. واحتج: بأن المسموع إيجاب الزكاة في السائمة، ولم يسمع في المعلوفة ذكر حكمي؛ فوجب التوقف، كما أن أصل الأحكام قبل أن يرد السمع على الوقف. والجواب: أن قبل النطق لم يسمع للمعلوفة حكم بنفي ولا إثبات، وبعد النطق قد علم حكم بعضها سمعًا وبعضها مفهومًا من السمع من الوجه الذي بينا. يبين صحة هذا: أن الشرع قد يفهم من حكم اللفظ، كما يفهم   1 في الأصل: "فلا". 2 "90" سورة يونس. 3 في الأصل: "لم يكف"، والصواب ما أثبتناه بدلالة السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 بالنطق؛ ألا ترى أن الوجوب معقول من الأمر، وليس لفظ الوجوب مسموعًا، وكذلك حكم التعريض معقول، وإن لم ينطق به، كقول القائل: ما أنا بزانٍ، ولا أمي بزانية، في الخصومة، وكذلك قوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا} 1، وقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 2 معقول أن لا يضربهما. واحتج: بأنه لو كان تعليقه على صفة يدل على ضد حكمها؛ لم يوضع له عبارة تدل عليه، ولما جاز أن يقول: في السائمة الزكاة ولا زكاة في المعلوفة؛ علم أن ذلك مأخوذ مما وضع له. والجواب: أن نفي الزكاة في المعلوفة يحصل بالدليل، والنطق يؤكد، كما يقول: "اقتلوا المشركين أجمعين"، ولو لم يقل "أجمعين"؛ لوجب قتل الجميع؛ كذلك ههنا. واحتج: بأنه لو كان للخطاب دليل؛ لوجب أن يبطل حكم الخطاب ويبقى حكم الدليل، كما جاز3 أن يبطل حكم الدليل ويبقى حكم الخطاب، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل" 4، دليله أنها إذا أُذِنَت أن   1 "235" سورة البقرة، والآية في الأصل: {ولا تُوَاعِدُوهُنَّ ... } وهو خطأ. 2 "23" سورة الإسراء. 3 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "كما وجب" بدليل السياق. 4 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي كما أخرجه الإمام أحمد والدارمي والدارقطني والطيالسي والحاكم والطحاوي، وكلهم أخرجه في كتاب النكاح إلا الإمام أحمد، فأبو داود في باب الولي، "1/480-481"، والترمذي في باب ما جاء لا نكاح إلا بولي "3/398-399"، وقال: "حديث حسن"، وابن ماجه في باب لا نكاح إلا بولي "1/605"، والإمام أحمد في مسنده "6/47"، والدارمي في = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 يصح1، وعندكم: لا يصح؛ فيبطل حكم الدليل، ويبقى حكم الخطاب. وكذلك: قوله: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان"؛ دليله: أن الثالثة تحرم، وعندكم: لا تحرم، فسقط حكم الدليل، ويبقى حكم الخطاب، ولهذا نظائر. والجواب: أنه لا يمتنع أن نقول: يبطل حكم الخطاب، ويبطل حكم الدليل؛ لأن النطق ودليله يجريان مجرى نطقين، فيجوز أن يسقط أحدهما ويبقى حكم الآخر. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في [63/أ] رواية محمد بن العباس وقد سئل عن الرضاع فقال: "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان"؛ فأرى أن الثالثة تحرم"، فأسقط الخطاب في الرضعتين، وبقي حكم الدليل في الثالثة.   = باب النهي عن النكاح بغير ولي "2/62"، والدارقطني "3/221"، والطيالسي في باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"، وما جاء في العضل "1/305"، والحاكم في باب "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل": "2/168"، وقال: "هذا حديث صحح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، والطحاوي في باب النكاح بغير ولي عصبة "3/7" من كتابه: "شرح معاني الآثار". وقد حكى الزيلعي في "نصب الراية": "3/184-185"، أن ابن حبان رواه في "صحيحه"، كما رواه ابن عدي في "كامله"، وتكلم عليه ابن الجوزي في "التحقيق"، وابن عبد الهادي في "التنقيح"، وراجع بالإضافة إلى ما سبق: "تلخيص الحبير": "3/156-157" و "المنتقى من أحاديث الأحكام ص"539"، و "التعليق المغني على الدارقطني" لمحمد شمس الحق عظيم آبادي "3/221". 1 دليل الخطاب بعبارة أوضح: أن المرأة إذا نكحت نفسها بإذن وليها، فنكاحها صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 قال أبو بكر بن فورك: وهذا [هو] الصحيح. ويحتمل: أن الدليل يسقط، ويبقى حكم اللفظ؛ لأن الدليل فرع النطق ونتيجته؛ فلا يصح ثبوت الفرع مع إسقاط الأصل، وهذا هو الأشبه، ويفارق هذا النطقين؛ لأن كل واجب منهما ليس بأصل للآخر. واحتج: بأنه لو كان للخطاب دليل؛ لوجب أن يكون ضد النطق فقط، لا يكون ضدًا لغيره، مثل قوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، كان يجب أن يكون دليله: أن غير سائمة الغنم لا زكاة فيها؛ وقد قلتم: إن دليله في غير السائمة من الإبل والبقر [و] اللفظ لم يتناول ذلك. والجواب: أنه قد قيل: إنه يقتضي سقوط الزكاة عن معلوفة الغنم فحسب؛ لأن الدليل ما كان مضادًا للنطق، فيتعلق به ضد ما تعلق بالنطق، ونقطه أفاد ثبوت الزكاة في الغنم حسبُ؛ فيجب أن يكون دليله سقوط الزكاة عن معلوفة الغنم حسبُ. وقيل: إنه يقتضي سقوط الزكاة عن معلوفة الحيوان كله، وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث1؛ لأنه ذكر له حديث بهز بن حكيم2، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في كل   1 هو: إبراهيم بن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن الصامت. من كبار أصحاب الإمام أحمد، وقد كان من المكرمين عنده، نقل عن أحمد كثيرًا من المسائل، بلغت أربعة أجزاء. له ترجمة في "طبقات الحنابلة": "94/1". 2 هو: بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، أبو عبد الملك القشيري البصري. روى عن أبيه وعن زرارة بن أوفى، وعنه سفيان ويحيى القطان وغيرهما. اختلف فيه: فوثقه ابن معين وابن المديني والنسائي، وقال أبو داود: "أحاديثه صحاح"، وقال أبو حاتم: "هو شيخ، يكتب حديثه، ولا يحتج به"، وقال فيه الذهبي: "صدوق، فيه لين". والحق أنه حسن الحديث كما ذهب إليه غير واحد من المحققين. له ترجمة في: "الجرح والتعديل" "2/430-431"، و "المغني في الضعفاء" "1/116"، و "ميزان الاعتدال" "1/353". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 إبل سائمة" 1، هل يدخل في هذا أنه لا يكون إلا في السائمة، ولا يكون في العوامل زكاة؟ فقال: أجل، لا يكون في العوامل زكاة، ولا يكون إلا في السائمة؛ فعم سقوط الزكاة في غير السائمة من سائر الحيوان باللفظ المنصوص عليه في الإبل. قال ابن فورك: هو الظاهر2؛ وذلك لأن السوم يجري مجرى العلة في تعلق الحكم به؛ فوجب كذلك حيث وجد، وعدمه حيث عدم كالشرط المعلق عليه الحكم. ويلزم هذا القائل: أن يقول: ما عدا السائمة من الغنم لا زكاة فيه من الحيوان وغيره، حتى لو استدل به على أن الزيتون لا زكاة فيه كذلك؛ جاز لأنه ليس بغنم سائمة، وقد لا يلزمه ذلك؛ لأن النطق اقتضى إيجاب الزكاة فيما فيه السوم، فاقتضى إسقاطه فيما لا سوم فيه مما يدخله السوم. واحتج: بأنه لو كان دليل الخطاب حجة في الإثبات؛ لكان حجة في النفي. والجواب: أنه حجة في النفي، كما هو حجة في الإثبات، ولا   1 هذا الحديث أخرجه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/363"، وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة باب سقوط الزكاة عن الإبل "5/17"، وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة باب ليس في عوامل الإبل صدقة "1/333". كما أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده في "5/2" وسنده حسن. وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"311". 2 في الأصل: "طر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 فرق بين قوله: "القطع في ربع دينار"، وبين قوله: "لا قطع إلا في ربع دينار". وقد قال أحمد رحمه الله: قوله: "لا وصية لوارث"؛ [63/ب] دليل على أنها تصح لغير وارث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 فصل 1 إذا تعلق الحكم باسم؛ دل على أن ما عداه بخلافه: أن2 الصفة وضعت للتمييز بين الموصوف وغيره، كما أن الاسم وضع لتمييز المسمى من غيره؛ فإذا قال: ادفع هذا إلى زيد أو إلى عمرو، واشتر لي شاة أو جملًا، وما أشبه ذلك، لم يجز العدول عنه، وكانت التسمية للتميز والمخالفة بينه وبين ما عداه كالصفة سواء، ثم لو علق الحكم على صفة؛ دل [على] أن ما عداه بخلافه، كذلك إذا علقه بالاسم. فإن قيل: الاسم لا يجوز أن يكون علة للحكم، والصفة يجوز أن تكون علة. قيل: يجوز أن يكون الاسم علة كالصفة. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني: يتوضأ بماء الباقلا، وماء الحمص؛ لأنه ماء؛ وإنما أضفته إلى شيء لم يفسد، وإنما غير لونه، فقد جعل العلة في جواز الوضوء به وقوع اسم الماء عليه. فإن قيل: لو قال: أوجبت الزكاة في الغنم، وأوجبتها في البقر؛ لم   1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"352-353"، و"شرح الكوكب المنير" ص"249-250"، و"نزهة الخاطر" لابن بدران "2/224-225". 2 "أن" مكررة في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 يتنافيا1 ذلك، ولو قال: في سائمة الغنم وفي المعلوفة زكاة؛ تنافيا، وسقط أن يكون الحكم متعلقًا بصفة السوم أو بصفة العلف، وصار الوجوب متعلقًا بصفة السوم أو بصفة العلف، وصار الوجوب متعلقًا2 باسم الغنم فحسب. ولأنهم يسمون كل واحد من الجماعة باسم مع تساويهم في الحكم؛ فيقولون: أعط زيدًا وعمرًا وخالدًا وبكرًا، واشتر لحمًا وتمرًا، ولا يضمون بصفة إلى اسم، والموصوف بالصفة وبضدها سواء عندهم في الحكم؛ فلا يقولون: ادفع إلى رجل فقير أو إلى رجل غني، والفقير والغني سواء عندهم3. قيل: لا فرق بينهما، وذلك أنهم يضمون صفة إلى اسم الموصوف، كما يضمون اسمًا إلى اسم، فيقولون: أعط الفقراء والأغنياء. وعلى أن هذا باطل بـ"الغاية"؛ فإن ما بعدها4 مخالف لما قبلها؛ وإن كان الجمع بين ما بعد الغاية وما قبلها، فيقول: اغسلوا أيديكم إلى المرافق، واغسلوا ما فوق المرافق، كذلك لا يمتنع في الحكم إذا علق باسم يجوز الجمع بينه وبين ضده، ومع هذا إطلاقه يدل على خلافه؛ فإن قيل: لو قال: زيد أكل؛ لم يدل على أن غيره لم يأكل، ألا ترى أنه لو أفاد ذلك لما حسن أن يخبر من بعد. أن عمرًا أكل؛ لأنه يكون متناقضًا5 في كلامه، وكذلك لو قال: جاء زيد الطويل، دل على أن ما عداه بخلافه؛ لأن هذه زيادة صفة. قيل: لا نسلم هذا، بل نقول: قوله: زيد أكل، يدل على أن   1 في الأصل: "يتنافا". 2 في الأصل: "منطلقًا". 3 في الأصل: "عنده"، والصواب من أثبتناه؛ لعود الضمير على جمع. 4 في الأصل: "بعده"، والصواب ما أثبناه، لعود الضمير على مؤنث. 5 في الأصل: "مناقضًا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 غيره لم يأكل، ثم هذا باطل بالصفة؛ فإنه لو قال: السائمة أكلت، وجاءت السائمة؛ لم يدل ذلك على أن المعلوفة لم تأكل ولم تجئ، ومع هذا تعليق الحكم بها يدل على خلافها. وما ذكروه من أنه يحسن أن يخبر [64/أ] بعد ذلك أن عمرًا قد أكل؛ فإنه يبطل بالصفة، فإنه يصح أن يخبر1 [أن في] السائمة زكاة، ويخبر بعد ذلك في المعلوفة. فإن قيل: استعمال دليل الخطاب في الاسم يسد باب القياس؛ لأنه إذا قال: لا تبيعوا البر بالبر؛ يجب أن لا يقاس الأرز عليه؛ لأن تخصيص البر بالذكر يوجب إباحة التفاضل في غيره؛ فلما كان مانعًا من القياس الثابت وجب اطراحه. قيل: هذا لا يصح لوجوه: أحدها: أن الكلام في هذه المسألة في أصل اللغة، وهو للخطاب دليل أم لا؟ والقياس حكم شرعي، فكان يجب أن يثبت له دليل في أصل اللغة وإن منع منه الشرع. وعلى أن هذا يبطل بالصفة؛ فإنه يمنع القياس فيما عداها، كذلك الاسم يمنع القياس فيما عداه، ولا فرق بينهما. وعلى أنه كان يجب استعماله ما لم يعترض2 على معنى اللفظ؛ فإذا اعترض3 عليه؛ سقط، كما استعملنا الدليل ما لم يعارض التنبيه، نحو قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4 دليله: أن غير التأفيف يجوز، لكن لما كان ذلك يسقط معنى اللفظ؛ سقط.   1 في الأصل: "غير". 2 في الأصل: "يعرض". 3 في الأصل: "أعرض". 4 "23" سورة الإسراء، والآية في الأصل: "ولا تَقُلْ" ... بالواو، وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 فصل 1 أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لها دليل : وقد قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل: لا يصلى على القبر بعد شهر، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم على قبر أم سعد2 بعد شهر3؛ فجعل صلاته بعد شهر دليلًا على المنع فيما زاد عليه؛ لأن الفعل كالقول في أنه يقتضي الإيجاب، ويخصص به4 العموم.   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"353"، و"شرح الكوكب المنير" ص"250". 2 هي: كبشة بنت رافع بن عبيد، أم سعد بن معاذ الخزرجية، صحابية، عاشت إلى أن توفي ابنها سعد بن معاذ. لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1906"، و "الإصابة" القسم الثامن ص"91"، طبعة دار نهضة مصر. 3 هذا الحديث أخرجه البيهقي في كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن الميت "4/48-49"، عن ابن عباس رضي الله عنه موصولًا، وفي إسناده "سويد بن سعيد"، متكلم فيه. وأخرجه البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلًا في الموضع السابق، وقال: "وهو مرسل صحيح"، كما قال: "والمشهور عن قتادة عن ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا". ووافقه ابن حجر على ذلك في كتابه: "تلخيص الحبير": "2/125"، وأخرجه مرسلًا الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على القبر "3/347". 4 في الأصل: "بها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 قوله عليه السلام "إنما الولاء لمن أعتق" مدخل ... فصل 1 قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق": قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق"، يقتضي نطقه: إثبات   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"354"، و"شرح الكوكب المنير" ص"250-252"، و"روضة الناظر" ص"143". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 الولاء للمعتق، وانتفاء الولاء لغير المعتق مستفاد من ناحية الدليل1. وقال قوم: النطق أفاد الأمرين معًا2، وهو اختيار أبي عبد الله الجرجاني؛ لأنه ذكر هذا الخبر وقال: قد قيل: إن ذلك يدل على نفي غيره، قال: وهو قول محتمل؛ لأنه يستعمل على وجه التأكيد للمذكور وتحقيقه، مثل قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3. ولأنه يشبه الاستثناء من الجملة؛ لأن هذه إنما يستحق الإلهية إله واحد؛ وإنما الولاء يستحقه الذي يعتق، فأشبه4 النفي والإثبات في الأشياء5.   1 وبهذا قال ابن عقيل والحلواني من الحنابلة. انظر المراجع السابق ذكرها. 2 وبهذا قال أبو الخطاب والموفق ابن قدامة من الحنابلة. انظر المراجع السابق ذكرها. 3 "171" سورة النساء. 4 في الأصل: "فنبه". 5 هناك رأي ثالث في المسألة، لم يذكره المؤلف، وهو: أن "إنما" لا تفيد الحصر نطقًا ولا فهمًا، وإنما تؤكد الإثبات، وبه قال أكثر الحنفية واختاره الآمدي والطوفي، وإليه مال أبو حيان. راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي "3/91"، و"شرح الكوكب المنير": ص"251"، و"فواتح الرحموت على مسلم الثبوت": "1/434". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 دليلنا : إن قوله: "إنما الولاء لمن أعتق"، إنما فيه الولاء للمعتق فحسب، وأما النفي؛ فليس في اللفظ ما يقتضيه؛ فلم يجز أن يدعي انتفاء الولاء من نفس اللفظ، وإنما هو مستفاد من الدليل، فلا يشبه هذا قوله: "لا صلاة إلا بطهور". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 ولأن في اللفظ نفيًا وإثباتًا، فحكم بأن الأمرين معًا استفيدا من نفس اللفظ. وما ذكروه من أنها تستعمل على وجه التأكيد للمذكور [64/ب] وتحقيقه؛ فهو كما قال، إلا أن المذكور هو إثبات الولاء للمعتق؛ فأما نفيه عن غير المعتق؛ فغير مذكور. وقوله: يشبه الاستثناء من الجملة، دعوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 فصل 1 [ مفهوم الخطاب والتنبيه واحد ] : وهو مثل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} 2؛ نبه على أنه إذا أمن3 بدينار أداه. وكذلك قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4؛ نبه على المنع من الضرب وهذا مستفاد من فحوى الخطاب ومفهومه، لا من نطقه. وقد احتج أحمد بمثل هذا في مسائله فقال رحمه الله في رواية أحمد بن سعيد5: لا شفعة لذمي، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتموهم   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"346-347"، و"شرح الكوكب المنير" ص"240-241"، و"روضة الناظر" ص"138". 2 "75" سورة آل عمران. والآية في الأصل: "وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ"، وقد صوب الناسخ الآية في الهامش بما هو ثابت في المصحف الكريم. 3 في الأصل: "أمر". 4 "23" سورة الإسراء، والآية في الأصل: {وَلَا تَقُلْ} بالواو، وهو خطأ. 5 في "طبقات الحنابلة": "1/45-46"، ثلاثة بهذا الاسم؛ فالأول: أبو العباس اللحياني، والثاني: أبو عبد الله الرباطي، والثالث: أبو جعفر الدارمي، وكلهم من أصحاب الإمام أحمد، الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل. ولم أهتد إلى معرفة مراد المؤلف بهذا الاسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 في طريق فألجئوهم إلى أضيقه" 1؛ فإذا كان ليس لهم في الطريق حق، فالشفعة أحرى أن لا يكون لهم فيها حق2. وقال أيضًا في رواية الفضل بن زياد وقد سئل عن رهن المصحف عند أهل الذمة قال: "لا، نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو3". وحكي عن قوم: أنه لا مفهوم للخطاب؛ وإنما دل الخطاب على المنع   1 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم "4/1707". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأدب، باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة "5/60"، وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب في السلام على أهل الذمة "2/643". وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب السلام والاستئذان باب الأمر بإفشاء السلام، وما جاء في السلام على أهل الكتاب والرد عليهم "1/362". وأخرجه أحمد في "مسنده" 2/263. وراجع في هذا الحديث أيضا: "فيض القدير" 6/386، و"تيسير الوصول" 2/273. 2 من أول الرواية إلى هنا منقول في "المسودة" ص"347". وكذلك رواية الفضل بن زياد الآتية غير أنه لم يذكر اسم الراوي في الموضعين. 3 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار "3/1490"، وأخرجه عنه الإمام الشافعي، انظر: "بدائع المنن" في كتاب الجهاد باب النهي عن السفر بالمصحف إلى بلاد العدو "2/105". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 من التأفيف حسبُ. سمعت أبا القاسم الجزري1 يحكي أنه قول داود. وحكي عن قوم: أن المنع من التأفيف وسائر أنواع الأذى مستفاد من اللفظ2. أما من قال: لا مفهوم للخطاب؛ فقول ظاهر الفساد؛ لأنه قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 3 واضْرِبْه؛ مراد بالأول نفي الأذية عنه، كان ذلك نقضًا لموضوع كلامه ومفهوم نطقه؛ فلا يجوز أن يقال: إن اللفظ ما تضمن المنع من الضرب. وأما من قال: إن اللفظ تضمن ذلك فهو ظاهر الفساد أيضًا؛ لأن قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4 اقتضى نطقه المنع من التأفيف، وليس في لفظه المنع من غيره؛ فلا يجوز أن يكون غير التأفيف ممنوعًا بالنطق، لكن لما منع من التأفيف من الأذى، فكان الضرب فيه أكثر من الأذى، كان المعنى الذي يمنع من التأفيف لأجله مجودًا في الضرب وزيادة، فكان ممنوعًا منه5.   1 كان حيًا سنة "402" ومن الذين وقعوا محضر الطعن في نسب العبيديين في هذه السنة. انظر: "المنتظم": "7/256". 2 المؤلف هنا: خلط بين مسألتين، الأولى: هل مفهوم الموافقه حجة أو لا؟. والثانية الذين يقولون بمفهوم الموافقة اختلفوا في الدلالة هل هي لفظية أو قياسية؟. 3 "23" سورة الإسراء. 4 "23" سورة الإسراء، والآية في الأصل: {وَلا تَقُلْ} ... بالواو، وهو خطأ. 5 فات المؤلف هنا: أن ينبه على أمرين هما: الأول: شرط مفهوم الموافقة، وهو: أن يكون الحكم في المسكوت عنه أولى من المنطوق عند جماعة، وزاد آخرون: أو مساويًا له. ومثلوا للأول: بقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ؛ فالضرب أولى بالحكم من التأفيف. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 .......................................................................................   = ومثلوا للثاني: بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} ، فإحراق أموالهم مساوٍ لأكلها في الإتلاف. الثاني: تقسيم مفهوم الموافقة، وهو ينقسم إلى قسمين: 1- قطعي، ومثلوا له بآية التأفيف؛ فإنه يقطع بأن الضرب للوالدين أشد إيذاء من التأفيف. 2- ظني، ومثلوا له بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ؛ فإن الآية دلت على وجوب الكفارة في القتل الخطأ، فيظن: أن القتل العمد أولى بالكفارة. وإنما قلنا: ظني؛ لاحتمال أن لا تقوى الكفارة على رفع العمد، بخلاف القتل الخطأ. راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي "3/65"، و"روضة الناظر" ص"154"، و"حاشية البناني مع شرح الجلال على جمع الجوامع" "1/240-243". وربما أشار المؤلف إلى ذلك في الروايتين اللتين نقلهما عن الإمام أحمد، الأولى: من رواية أحمد بن سعيد، والثانية: من رواية الفضل بن زياد. وقد رأيت صاحب "المسودة" ص"347" نقل الرواية على أنها مثال للقطعي؛ فرهن المصحف عند الذمي أولى بالتحريم من السفر به إلى أرض العدو خشية أن ينالوا منه. كما نقل الرواية الثانية على أنها مثال للظني؛ لأنه إذا لم يكن لهم حق في الطريق، فأولى أن لا يكون لهم حق في الشفعة. قلت: بل ذلك لاحتمال أن لا يكون المراد من الحديث: ليس لهم حق في الطريق، بل المراد: أن لا يوسع لهم فيه على سبيل التعظيم لهم. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 باب العموم مدخل ... باب العموم 1: العموم 2 على أربعة أضرب 3: [الأول] : لفظ الجمع، مثل: المسلمين، والمشركين، والرجال، والجبال، والأبرار، والفجار4. الثاني: لفظ الجنس5، مثل الناس، والنساء، والإبل، والحيوان وليس ذلك من ألفاظ الجمع؛ لأنه ليس له من جنسه واحد.   1 سبق تعريف العام في باب ذكر الحدود ص"140". 2 لو عبر: بألفاظ العموم؛ كان أولى؛ لأن التقسيم لألفاظ العموم لا للعموم نفسه. 3 راجع في هذا: "المسودة" ص"89-90"، و "شرح الكوكب المنير" ص"346-347" من الملحق و "روضة الناظر" ص"116-119". 4 يشترط في هذا الضرب والضرب الثاني والضرب الرابع: أن تكون "أل" لغير معهود، وقد جمع ابن قدامة هذه الأشرب الثلاثة تحت قسم واحد عبر عنه بقوله: "كل اسم عرف بالألف واللام لغي المعهود"، و"روضة الناظر" ص"116". 5 الجنس: كما في "رضوة الناظر": "ما لا واحد له من لفظه"، كما مثل المصنف هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 الثالث: الألفاظ المبهمة، مثل "من" في العقلاء، و"ما" في غيرهم إذا كان في الاستفهام أو في [65/أ] الشرط والجزاء، و"أي" في الجمع، و"أين" في المكان، و"متى" للزمان. الرابع: الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام، مثل: الإنسان، والسارق، والزاني، والقاتل، والكافر، والبيع، والصيد، والدينار وما أشبهه1.   1 هناك بعض صيغ العموم، لم يذكرها المؤلف، وإليك هي: الأولى: "كل" نحو قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} . وكذلك: "جميع"، وقد ذكرها الآمدي في "الإحكام": "2/183"، وابن قدامة في "روضة الناظر" ص"116"، ولم يمثلا لها. وقد ذكر الجلال المحلي في "شرحه لجمع الجوامع": "1/409": أن ابن السبكي كتبها بعد "كل"، ثم شطب عليها؛ وذلك لأنها تضاف إلى المعرفة، فالعموم من المضاف إليه لا من المضاف؛ ولكن البنانين في حاشيته في الموضع المشار إليه، مثل لها بقوله: "جميع زيد حسن"، واتبعه بقوله: "لا عموم في المضاف إليه قطعًا"، ولم يسلم له ذلك فقد ذكر الشربيني في تقريره: أن السعد تعقبه بقوله: "قد يقال على معنى.. جميع أجزاء زيد". الثانية: ما أضيف من ألفاظ الجموع والأجناس ولفظ الواحد إلى معرفة كقولك: نساء زيد، وإبل عمرو. الثالثة: النكرة في سياق النفي، كقولك: لا رجل في الدار. ومن أراد الاستزدادة فليرجع إلى: "الإحكام للآمدي": "2/183"، و"روضة الناظر" ص"116". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 صيغة العموم مدخل ... [صيغة العموم] : وله صيغة موضوعة له في اللغة، إذا وردت متجردة عن القرائن دلت على استغراق الجنس، نص على هذا في رواية ابنه عبد الله رحمهما الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وقد سأله عن الآية إذا جاءت عامة، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1، وأخبره أن قومًا يقولون: لو لم يجئ فيها خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم توقفنا عندها؛ فلم نقطع حتى يبين الله لنا فيها، أو يخبر الرسول، فقال: قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 2 فكنا نقف عند الولد لا نورثه، حتى ينزل الله تعالى: أن لا يرث قاتل، ولا عبد، ولا مشرك. وقال في كتاب طاعة الرسول: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3، فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم "سارق" وإن قل؛ فقد وجب عليه القطع. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع في ثمر ولا كثر" 4 دل ذلك   1 "38" سورة المائدة. 2 "11" سورة النساء. 3 "38" سورة المائدة. 4 لفظ الحديث هذا: "لا قطع في ثمر ولا كثر"، وقد رواه رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الحدود باب ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر بسنده المتصل عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن رافع بن خديج رضي الله عنه "4/52-53"، ثم قال بعد ذلك: "هكذا روى بعضهم"، ثم قال: "وروى مالك بن أنس وغير واحد هذا الحديث.. ولم يذكروا فيه عن واسع بن حبان". وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود باب ما لا قطع فيه بالسند المذكور "2/449"، غير أنه لم يذكر: "واسع بن حبان"، فيكون السند على هذا منقطع؛ لأن: "محمد بن يحيى"، لم يسمع من "رافع بن خديج". وأخرجه النسائي في كتاب قطع السرقة، باب ما لا قطع فيه، بمثل سند الترمذي الذي ذكرته متصلًا ومنقطعًا؛ كما أخرجه عن رافع أيضًا، وفيه: "ميمون" قال: إنه لا يعرفه، كما أخرجه عن رافع بسند آخر هو: "أخبرنا محمد بن خالد = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 ..................................................................................................   = ابن خلي قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا سلمة، يعني ابن عبد الملك العوصي عن الحسن وهو ابن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن رافع بن خديج.."، "8/79-81". وأخرجه عن رافع بن ماجه في كتاب الحدود باب: لا يقطع في ثمر ولا كثر "2/865" بسند متصل، كما أخرجه في نفس الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي سنده: "سعد بن سعيد المقبري"، وأخوه: "عبد الله بن سعيد المقبري"؛ أما الأول: فقد قال فيه ابن عيينة: "كان قدريا". وقال فيه ابن عدي: "لم أر للمتقدمين في "سعد" كلامًا، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه". وقال أبو حاتم: "مستقيم في نفسه، بليته من أخيه". وقال فيه الذهبي" واهٍ، ورمي بالقدر أيضًا". انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" 1/254، و "ميزان الاعتدال" 2/120. أما الثاني: فمتروك، كما قال أحمد والدارقطني والبخاري وغيرهم. انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء": "1/340"، و "ميزان الاعتدال": "2/429". وأخرجه الدارمي كذلك متصلًا ومنقطعًا، وبإسناد ثالث فيه مجهول، وذلك في سننه في كتاب الحدود، باب: ما لا يقطع فيه من الثمار "2/95-96" وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" عن رافع في كتاب الحدود باب سرقة الثمر والكثر، متصلًا ومنقطعًا "3/172". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في أبواب القطع في السرقة باب ما لا قطع فيه، بسند متصل "3/301". وأخرجه عنه مالك في "الموطأ" في كتاب الحدود باب ما لا قطع فيه، بسند منقطع "4/163". وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده" في كتاب الحدود باب ما لا قطع فيه، بسند متصل "1/301". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "3/361-362"، و"تلخيص = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 [على] 1 أنها ليست على ظاهرها، وأنه على بعض السراق دون بعض. واحتجاجه في المسائل بالعموم كثير، ورأيت في مجموع لأبي بكر بخطه: قد أبان أبو عبد الله رحمه الله عموم الخطاب؛ فلا يخصه إلا بدليل، واستدل على ذلك بكلام كثير2، وقال بعد ذلك: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3 كقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4؛ فلو لم يجئ بيان من يقتل من المشركين،   = الحبير": "4/65"، و"فيض القدير": "6/436". ومن هذا العرض للحديث تبين أن الحديث روي مسندًا، كما روي منقطعًا، والانقطاع حصل بحذف الواسطة بين: "محمد بن يحيى بن حبان" وبين: "رافع بن خديج"، وهذه الواسطة هو: "واسع بن حبان"، الذي قد جاء ذكره في الأسانيد المتصلة. وبهذا يصبح الحديث صالحًا للاحتجاج به، وبخاصة: وقد تلقته الأمة بالقبول، كما يقول الطحاوي فيما نقله عنه ابن حجر في التلخيص. وقد نقل الرزقاني في شرحه على "موطأ مالك" عن ابن العربي قوله: "فإن كان فيه كلام؛ فلا يلتفت إليه": "4/164"، والله أعلم. معنى: "الثمر": ما كان على رءوس النخل، ويطلق على الثمار كلها قبل أن تجذ. وقيل: كل ما يسرع إليه الفساد. معنى: "الكثر": جمار النخل، وهو: شحمه الذي في وسطه. وقيل هو: الطلع، وهو: أول ما يبدو من ثمر النخل. انظر: "الفائق في غريب الحديث": "3/247". 1 زدنا هذه الكلمة ليستقيم الكلام، علمًا أن صاحب "المسودة" ص"90"، ذكرها، عندما نقل كلام المؤلف هنا. 2 من قول المؤلف: "وله صيغة موضوعة في اللغة ... " إلى هنا منقول بنصه في "المسودة" ص"89-90"، مع العزو للمؤلف هنا. 3 "38" سورة المائدة. 4 "5" سورة التوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 ويقطع من السراق؛ لاقتضى الحكم على العموم، وحكى قول من قال بالوقف. وبهذا قال جماعة الفقهاء: أبو حنيفة ومالك والشافعي وداود1. وذهب أبو الحسن الأشعري وأصحابه: إلى أن العموم لا صيغة له، وأن الألفاظ التي تصلح للعموم والخصوص؛ يجب التوقف فيها إلى أن يدل الدليل على أحدهما، فيحمل عليه2. وحكي عن محمد بن شجاع الثلجي3 أنه قال: يحمل على الثلاثة، ويتوقف فيما زاد عليه، حتى يقوم الدليل على المراد به، وحكي ذلك عن جماعة من المعتزلة. ومن الناس من فرق بين الأوامر والأخبار؛ فقال: في الأوامر تحمل على العموم، ووقف في الأخبار.   1 راجع في نسبة هذا الرأي بالنسبة للحنفية: "تيسير التحرير": "1/197" وما بعدها، و"أصول السرخسي": "1/151-162"، وبالنسبة للمالكية: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص"178-182"، وبالنسبة للشافعية: "الإحكام" للآمدي": "2/185-204"، و"شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع": "1/408-414"، وبالنسبة للظاهرية: "الإحكام لابن حزم": "3/338-362". 2 هذا أحد القولين المنقولين عن أبي الحسن الأشعري رحمه الله، وقد وافقه عليه القاضي أبو بكر الباقلاني. وهناك قول آخر هو القول بالاشتراك بين العموم والخصوص.. حكى هذا الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/186". 3 هكذا ضبطه المصنف: "الثلجي" بالمثلثة الفوقية بعدها لام ساكنة فجيم معجمة؛ ولكن الناسخ صوبه في الهامش بقوله: "هكذا في الأصل، وصوابه البلخي" أي بالموحدة التحتية بعدها لام ساكنة فخاء معجمة وهو كذلك في "المسود" ص"89". وما ضبطه به المؤلف هو الصواب، الموافق لما في "تاريخ بغداد": "5/350"، و"شذرات الذهب": "2/151"، و"المغني في الضعفاء": "2/591". وهو محمد بن شجاع، أبو عبد الله، المعروف بالثلجي، فقيه الحنفية في وقته، سمع من يحيى بن آدم وابن علية وغيرهما. وتفقه على الحسن بن زياد اللؤلؤي، اتهم بالوضع، وبالوقف في القرآن، وبالكذب. قال فيه أحمد: مبتدع صاحب هوى. مات فجأة سنة 266هـ، وله من العمر 90 سنة تقريبًا. انظر ترجمته في المراجع السابق ذكرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 دليلنا : قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 1، فروي أن عبد الله بن الزبعري2 قال: لما نزل ذلك لأخاصمن محمدًا، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: قد عبدت الملائكة وعبد المسيح أفيدخلون النار؟، فأنزل الله تعالى3: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 4 [65/ب] . فحمل لفظ "ما" على عمومه، وهو حجة في اللغة. وأكد ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليه، وبين الله تعالى مراده   1 "98" سورة الأنبياء. 2 هو عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي ... القرشي، السهمي، أبو سعد، صحابي جليل، كان من شعراء قريش المشهورين، هجا المسلمين بشعره قبل إسلامه، ثم أسلم عام الفتح، وشهد المشاهد بعد الفتح. له ترجمة في "الاستيعاب": "3/901"، و"الإصابة": "4/68". 3 أخرج هذه الحادثة الواحدي بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما وذلك في كتابه: "أسباب النزول" ص"315". كما ذكر ذلك الفخر الرازي في "تفسيره": "22/223". 4 "101" سورة الأنبياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 فيه، فأنزل قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ، يدل على أن "ما" للعموم. ثم أسلم عبد الله، واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصيدة، يقول فيه1: أيام يأمرني بأغوى خطة ... سهم ويأمرني بها مخزوم فاليوم آمن بالنبي محمد ... قلبي، ومخطئ هذه محروم فاغفر فدى لك والدي كلاهما ... ذنبي؛ فإنك راحم مرحوم2 ويدل عليه قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} 3، فقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ؛ فحمل نوح لفظ "الأهل" على عمومه، فلم ينكر الله تعالى عليه ذلك، وإنما بين أن مراده خاص، وهو: المصلح منهم.   1 الضمير في قوله: "فيه" إن كان يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالكلام مستقيم، وإن كان يعود إلى القصيدة؛ فيجب أن يقول: "فيها". 2 هذه الأبيات، ذكر منها الحافظ ابن حجر في كتابه: "الإصابة" عن ترجمة عبد الله الزبعرى "4/68" بيتين، الأول والثاني، وذكره بينهما بيتًا ثالثًا غير مذكور هنا. وكذلك. ذكرها الحافظ ابن عبد البر في كتابه: "الاستيعاب": "3/903-904"، ذكرها ضمن أبيات. ويلاحظ: أنه أبدل كلمة: "ذنبي" في الشطر الثاني من البيت الأخير، أبدلها بكلمة: "فارحم" 3 "45" سورة هود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 ويدل عليه قوله تعالى: في قصة إبراهيم: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} 1، علم من ذلك أنهم مهلكون لجميع أهلها، فقال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} ؛ فأخبرته الملائكة أنهم ينجونه وأهله، واستثنوه من جملة أهل القرية؛ فعلم أن إطلاق اللفظ اقتضى العموم. فإن قيل: اللفظ يصلح للعموم؛ فلذلك حكم عليه في الآيات التي ذكر فيها. قيل: لا يجوز حمله عليه بالصلاح له، بل يجب التوقف فيه، ومن فعل ذلك؛ فقد أخطأ عند المخالف، فلا يجوز حمله على الخطأ. وعلى أن نوحًا عليه السلام قد قطع به بقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ، والصلاح لا يوجب القطع. وأما قصة إبراهيم فلا يصلح هذا السؤال فيها أيضًا؛ لأنه لو كان للصلاح؛ لكان الكلام يخرج مخرج الاستفهام والمسألة، فيقول: ألوط فيهم؟ أتهلكونه فيمن يهلكون؟ فلما ذكر لفظ التخيير والتخويف، يعني لا تهلكوهم، فإن فيهم لوطًا؛ علم أنه كان قد عقل من ظاهر اللفظ: أنه مقتضٍ للعموم والشمول. وأيضًا: فإن المسألة إجماع الصحابة رضي الله عنهم. من ذلك: أن عمر احتج على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في منعه من قتال مانعي الزكاة لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إل الله؛ فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم"؛ فلم ينكر عليه ذلك؛ وإنما عدل إلى الاستثناء،   1 "31" سورة العنكبوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 فقال: الزكاة من حقها، وقال النبي: "إلا بحقها". وكذلك مطالبة فاطمة1 أبا بكر رضي الله عنهما بالميراث2 من النبي صلى الله [66/أ] عليه وسلم، واحتجاجها بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 3؛ فأقرها على العموم، وقابلها بقوله: "ما نورث ما تركنا صدقة" 4.   1 هي فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم، أم الحسن والحسين، زوجة علي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع. ولدت قبل البعثة بنحو ستة أشهر. وماتت بعد وفاة والدها بستة أشهر، كما صح ذلك عن عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركناه صدقة": "3/1379-1380". لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1893"، و "الإصابة": "8/157-160". 2 ذكر مجيء فاطمة رضي الله عنها تطلب ميراثها من أبي بكر رضي الله عنه.. أورده ابن الجوزي في كتابه: "الموضوعات": "3/281"، ونقل عن ابن قتيبة قوله: "وكنت أرى أن لهذا أصلًا؛ فقال بعض نقلة الأخبار: أنا أسن من هذا الحديث، وأعرف من عمله". ولم يذكر ابن الجوزي ذلك بالسند، حتى ينظر فيه. وقد تعقب السيوطي في كتابه: "اللآلئ المصنوعة": "2/441-442"، ابن الجوزي في ذكره لهذا الحديث في كتابه: "الموضوعات" بقوله: "قلت أي السيوطي: في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة: "أن فاطمة أتت أبا بكر تلتمس ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث.." الحديث. 3 "11" سورة النساء. 4 هذا الحديث أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها وذلك في كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة": "8/185-187". وعنها أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث" الحديث "3/1379-1383". وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال "2/126-128". وعن أبي هريرة أخرجه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم "4/157-158". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "مسند أبي بكر رضي الله عنه" ص"32، 33، 34، 35"، و "تيسير الوصول إلى جامع الأصول": "3/148-149"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"524". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وكذلك لما اختلف عثمان1، وعلي رضي الله عنهما [في الجمع بين الأختين بملك اليمين] فقال عثمان: يجوز، واحتج بعموم2 قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 3، وقال علي: لا يجوز، واحتج بعموم قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} 4.   1 هو عثمان بن عفان الأموي، ذو النورين. ثالث الخلفاء الراشدين. من السابقين إلى الإسلام. هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، استشهد سنة 35هـ بعد خلافة دامت 12 سنة، وله من العمر بضع وثمانون سنة. له ترجمة فيه: "الاستيعاب": "3/1037"، و"أسد الغابة": "1/40"، و"تذكرة الحفاظ": "1/8"، و"شذرات الذهب": "1/40"، و"النجوم الزاهرة": "1/92". 2 في الأصل: "لعموم". 3 "30" سورة المعارج. 4 "23" سورة النساء. وهذا الأثر أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب النكاح باب ما جاء في كراهية إصابة الأختين بملك اليمين "3/148-149". وراجع في هذا الأثر: "تيسير الوصول" في كتاب النكاح، الفصل الثاني: ما لا يوجب حرمة مؤبدة "2/168"، و"تفسير القرطبي": "5/117"، "تفسير الفخر الرازي": "10/34-35"، و"أحكام القرآن" للجصاص "3/74-75". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 واحتج أيضًا من كان يبيح شرب الخمر1 بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} 2، ولم ينكر سائر الصحابة ذلك؛ وإنما بينوا لقائل هذا أنه منسوخ. وروي عن عثمان3 أنه لما سمع قوله: وكل نعيم لا محالة زائل4   1 ينسب القول بإباحة الخمر إلى قدامة بن مظعون رضي الله عنه؛ فقد روي أنه شربها متأولًا الآية التي ذكرها المؤلف. كما روى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه: "أن قومًا بالشام شربوا الخمر متأولين لهذه الآية؛ فقال عمر وعلي رضي الله عنهما: يستتابوا؛ فإن تابوا؛ وإلا قتلوا". راجع: "سنن الدارقطني": "3/166"؛ فإنه أخرج قصة شارب الخمر من الصحابة، ولم يذكر اسمه، وراجع أيضًا: "التعليق المغني على الدارقطني" في الموضع السابق، وانظر: "تفسير الفخر الرازي": "10/34-35". 2 "93" سورة المائدة. 3 هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب القرشي الجمحي، أبو السائب، صحابي جليل. هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا. ومات بالمدينة سنة 2هـ، ودفن بالبقيع. له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/1053"، و "الإصابة" القسم الرابع ص"461" طبعة دار نهضة مصر. 4 هذا عجز بيت للشاعر لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه، ورد البيت في ديوانه ص"256"، وصدر البيت هو: = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 قال: كذبت، نعيم أهل الجنة لا يزول، وهذا يدل على أنه يجب حمل اللفظ على عمومه عندهم. فإن قيل: يحتمل أن يكون مع كل لفظ قرينة تدل على أن المراد بها الجنس، وهو دلالة الحال. قيل: لو كان لنقل؛ لأن ما لا يتم الدليل [إلا] به لا يسوغ للراوي ترك نقله، وحيث لم ينقل؛ ثبت أنه ما كان، يبين صحة هذا أنه معلوم أن الجماعة لم تشترك في معرفة القرينة؛ فلو كان موضوع اللفظ لا يفيد؛ ما قلنا لم يقتصروا على هذا اللفظ دون القرينة. فإن قيل: يحتمل أن يكون سكوت الصحابة عن الرد على من احتج بالعموم، لأجل علمها أن هذا الخطأ لا يبلغ بصاحبه المأثم. قيل: هذا لا يصح؛ لأن ألفاظ العموم جرت في احتجاج بعضها على بعض في الأحكام؛ فلو كان عند المحجوج عليه أن لا دلالة في اللفظ؛ لسأله عما أوجب القول بعمومه، كما سأله عن حجاج قوله؛ ألا ترى:   = ألا كل شيء ما خلا الله باطل وهو من قصيدة يقول في مطلعها: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضي أم ضلال وباطل كما ورد البيت منسوبًا إلى لبيد في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة " 1/297". وفي كتاب "الموشح" للمرزباني ص"100". وقد نسب المرزباني التكذيب للشاعر إلى عثمان بن مظعون، كما نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عن الجميع. المرجع السابق "100-101". ولبيد هذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم، وحسن إسلامه، مات سنة 41هـ وله من العمر 140 سنة، وقيل أكثر من ذلك. انظر ترجمته في: "الاستيعاب": "3/1335"، و"الإصابة" القسم الخامس ص"675" طبعة دار نهضة مصر. و"الشعر والشعراء": "1/274". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 أن من ألزم غيره ما لا حجة فيه؛ لم يلزم، ولم تجر العادة بسكوته عنده، ولأنه لو كان هذا؛ لبطل تعلقنا بإجماع الصحابة في إثبات خبر الواحد والقياس، ولجاز أن يقال: إن سكوت الصحابة في ذلك؛ لأجل ما ذكره هذا القائل، دون تصويب الاجتهاد وقبل خبر الواحد. فإن قيل: ما ذكرتموه من أخبار الآحاد؛ فلا يجوز أن يثبت بها أصل يقطع به. قيل: أكثرها ثبت من جهة الاستفاضة فيما بينهم وانتشر؛ ولكن نقل إلينا نقل آحاد، وفي جملتها ما يقطع على صحته1، فهو مثل ما نقوله في الإخبار عن شجاعة عنترة وسخاء حاتم2، ثم نقل إلينا نقل آحاد، ويجب العمل به؛ لأنه تواتر في المعنى. وأيضًا: فإن أهل اللغة متى أرادوا توكيد العموم؛ أكدوه بلفظ مخصوص لا يؤكدون به الخصوص؛ فقالوا في العموم: رأيت القوم أجمعين، ورأيتهم كلهم، وقالوا في الخصوص: "رأيت زيدًا نفسه"؛ فلولا [66/ب] أن للعموم صيغة يتميز بها من الخصوص؛ لما اختلف حكمها في التوكيد. وقد عبر عن هذا بعبارة أخرى فقيل: لا يستعمل لفظ التأكيد مع اسم العموم إلا في الجنس كله، فيجب أن يكون الاسم موضوعًا للجنس،   1 في الأصل: "صحة". 2 هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس، أبو عدي الطائي القحطاني. يضرب به المثل في الجود والكرم، كان فارسًا شاعرًا، له ديوان صغير مطبوع. قال صاحب تاريخ الخميس: "توفي حاتم في السنة الثامنة من مولد النبي صلى الله عليه وسلم". له ترجمة في: "الأعلام": "2/151"، و"تاريخ الخميس": "1/255"، وفي هامش الأعلام. مراجع أخرى في ترجمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 وإلا خرج اللفظ المعرف بالاسم من أن يكون تأكيدًا؛ لأنه لا يكون تأكيدًا إلا أن يكون معناهما واحد. فإن قيل: قد يؤكد العموم والخصوص بالإشارة، وإن لم يكن لها صيغة يختص بها أحدهما دون الآخر. قيل: الإشارة لم توضع لتوكيد العموم؛ وإنما هي موضوعة للاستعانة بها1 لينظر بها المخالف إلى قصد المشير2. فإن قيل: فلو كان للعموم صيغة لاستغنى بها عن التوكيد؛ لأن التأكيد لا يفيد إلا ما أفادته الصيغة؛ فلما حسن توكيد العموم بما ذكرتموه؛ علمنا أن العموم لا صيغة له. قيل: هذا يبطل بالاسم الخاص؛ لأنه يحسن توكيده بأن يقول: رأيت زيدًا نفسه، ثم لا يدل ذلك على أن الخصوص لا صيغة له، وكذلك الأعداد يحسن توكيدها؛ كقولك: عشرة كاملة، ثم لا يدل ذلك على أن "العشرة" ليست موضوعة لعدد مخصوص يفيد ذلك عند إطلاقه من غير توكيد. وجواب آخر وهو: أن الشيء الواحد، لما جاز أن يدل عليه بدليلين وثلاثة وأربعة، ثم لا يفيد الدليل الثاني والثالث والرابع إلا ما أفاده الأول، كذلك لا يمتنع أن يؤكد العموم بتأكيد لا يفيد إلا ما أفاده العموم ومع ذلك يكون للعموم صيغة. وأيضًا: فإنا وجدنا أهل اللغة يقولون: هذا اللفظ عموم، وهذا اللفظ   1 في الأصل: "بهاء". 2 في الأصل: "ليضطر بها المخالف إلى قصة المسير"، وهو خطأ من الناسخ، والصواب: من أثبتناه. وهذا الجواب موجود بمعناه في كتاب: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري "1/223"، ولم يذكر فيه نص العبارة المشار إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 خصوص، كما يقولون: هذا خبر وهذا استخبار، ويقولون: هذا الاسم واحد، وهذا اسم تثنية و [هذا اسم] جمع؛ فلما كان الاسم الواحد والاثنين والجمع والخبر والاستخبار صيغة تختص بها، كذلك العموم والخصوص1. وأيضًا: فإن قوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2 لا يخلو إما أن يحمل على العموم لظاهره، أو على الخصوص، أو يتوقف فيه، ولا يجوز حمله على الخصوص لوجهين: أحدهما: أن للخصوص لفظًا هو أخص به من هذا؛ فلو أراده لعبر عنه باللفظ المختص به. ولا يصح أن يستثنى منه أكثر من قدر الخصوص3. ولا يجوز حمله على الوقف؛ لأن اللفظ يتضمن اقتضاء فعل القتل، ومن حمله على الوقف؛ لا يعدوه فعلًا؛ بل يخرجه4 عن الإفادة، ويكون وجوده كعدمه، وهذا محال في صفة الحكيم أن يذكر ما لا فائدة فيه؛ فلم يبق إلا حمله على العموم به. وأيضًا: فإن حسن الاستثناء يدل على الصيغة؛ فإنه يقول: "اقتلوا المشركين إلا المعاهدين"، و "ومن وصلني وصلته؛ إلا بني فلان". وحسن   1 هذا الدليل مجود مع اختلاف قليل في كتاب: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري "1/222". 2 "5" سورة التوبة. 3 لم يذكر المؤلف الوجه الثاني؛ ولعل قوله: "لا يصح أن يستثني.." إلى هنا، هو الوجه الثاني. 4 مشى المؤلف على اعتبار معنى "من"؛ فلذلك جمع الفعل: "يعدوه"، وكان الأولى أن يجمع الفعل المعطوف عليه، وهو: "يخرجه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 الاستثناء يدل على أن اللفظ عام في الجنس؛ لأن الاستثناء [67/أ] إخراج ما لولاه لوجب دخوله فيه. فإن قيل: جواز الاستثناء لصلاح اللفظ له؛ لا لأنه أوجبه. قيل: هذا لا يصح لوجوه: أحدها: أنه قد قيل: أن الاستثناء مشتق من قولهم: "ثنيت فلانًا عن رأيه، وثنيت إليه عنان فرسي إذا صرفه إليه". وقيل: إنه سمي استثناء؛ لأنه تثنية الخبر، وأيها كان؛ فإنه يقتضي أن يكون اللفظ عامًا فيه متناولًا له لو لم يكن الاستثناء1. وجواب آخر وهو: أن الاستثناء من أسماء العدد يقتضي إخراج بعض ما تناوله اللفظ، كذلك الاستثناء من ألفاظ الجمع، والألفاظ المبهمة مثل ذلك، ولا فرق بينهما. وجواب آخر وهو: أنه لو كان دخول الاستثناء فيه، لأنه يصلح؛ لصلح أن يستثنى من جنسه وغير جنسه؛ فنقول: جاء القوم إلا زيدًا وإلا حمارًا، كان "الناس" يعبر بهم عن الحمير مجازًا لأجل البلادة؛ فلما لم يصح هذا، ثبت أن الاستثناء دخل؛ لأن اللفظ أوجبه، لا أنه يصلح له. وجواب آخر وهو: لو كان لأنه يصلح له، لا أنه أوجبه؛ لَمَا افترق الحال بين أن يقع الاستثناء موصولًا أو مفصولًا؛ لأنه يخبر عما صلح [له] ؛ فلما ثبت أن الاستثناء لو وقع مفصولًا كان تخصيصًا، أو نسخًا عند من لا يقول بتخصيص العموم؛ بطل أن يكون دخوله فيه؛ لأنه يصلح له، وثبت أن دخوله فيه؛ لأنه يتناوله. وأيضًا: فإنه إذا قال: "اقتلوا رجلًا من المشركين"؛ كان الرجل   1 لم يذكر المؤلف بقية الوجوه، ولكنه ساقها بعد ذلك على شكل جوابات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 شائعًا في جنس المشركين، وأي رجل قتلوا منهم كانوا ممتثلين لأمره؛ فإذا قال: "اقتلوا المشركين"؛ وجب أن يقتلوا جميعهم؛ لأن القتل يجب أن يتعلق ههنا بمن يتعلق الرجل الذي أمر بقتله بهم. وحكي عن أبي بكر بن الباقلاني: أنه كان يسلم هذا. وإن امتنع ممتنع من تسليمه، قيل له: الدليل: أنه إذا قال: "لا تقتل رجلًا من المشركين"؛ وجب أن يكف عن واحد من جنس المشركين، وهذا لا خلاف فيه؛ ولهذا قال أهل اللغة: إن النكرة في النفي تقتضي الجنس، وإذا كان كذلك وجب أن يكون في الإثبات واحد1 من الجنس. يبين صحة هذا: أنه إذا قال: "والله لا أدخل دارًا"؛ اقتضى الجنس، فأي دار دخلها حنث في يمينه، وإذا قال: "لأدخلن دارًا"؛ اقتضى دخول دار من الجنس؛ فأي دار دخلها بر في يمينه، والبر والحنث في الإيمان بمنزلة الطاعة والمعصية. وأيضًا: فإن العموم معنى ظاهر تمس الحاجة إلى العبارة عنه والإخبار به في المخاطبة المتعلقة بالمصالح في الدين والدنيا، وقد رأيناهم وضعوا لكل ما تمس الحاجة إلى العبارة عنه من الأشخاص والأفعال اسمًا يخصه ويميزه2 عن غيره، وجب أن يكون العموم والخصوص بمثابته؛ لأن الداعي إليه كالداعي إلى [67/ب] سائر ما وضعوا له من العبارات3. فإن قيل: هذا يبطل بالطعوم والروائح؛ لأنها متغايرة متباينة، ولم يضعوا لكل طعم، ولا لكل رائحة اسمًا يخصه ويميزه عن غيره مع الحاجة إلى العبارة   1 في الأصل: "واحدًا". 2 في الأصل: "تميزه" بالمثناة الفوقية. 3 هذا الدليل ساقه أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/210". مع اختلاف في التعبير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 عنه، وكذلك قالوا1 في المواجهة: "فعلت أنت"، و"فعلتما أنتما"، و"فعلتم أنتم"، وكذلك في الإخبار عن الغائب قالوا: "فعل فلان"، و"فعلها"، و"فعلوا"، وقالوا في الإخبار عن نفسه وعن غيره: "فعلتُ" و"فعلنا"، ولم يميزوا التثنية من الجمع، وجعلوا اللفظ مشتركًا فيهما. قيل: قد ميزوا بالإضافة، فقالوا: "طعم الخبز"، و"طعم الماء"، و"طعم الفاكهة"، و"حلاوة السكر"، و"حلاوة العسل"، و"حموضة الخل"، و"حموضة المصل"، و"رائحة الكافور"، و"رائحة المسك" كما قالوا: "لحم الغنم"، و"لحم البقر"، و"لحم الجمل"، و"لحم العصافير"؛ فميزوا بينها2 بالإضافة. وأما التثنية في الإخبار عن نفسه وعن غيره، فهو أنهم وضعوا له لفظًا يدل عليه؛ فقالوا: "فعلتُ أنا وأخي معي أو فلان"، و"إنا فعلنا"، و"فعلت أنا وجماعة معي أو فلان وفلان" و"وإنا فعلنا"؛ وإنما لم يضعوا التثنية من لفظ الواحد؛ لأنهم يثنون اللفظ بنظيره، ولا نظير له في الإخبار عن نفسه وعن غيره؛ لأنه لا يقول: أنا وأنا، كما [لا] يقول أنت وأنت، وهو وهو. فإن قيل: لفظ الجمع مع الرمز والإشارة ودلالة الحال يدل على قصد المتكلم ومن أحد من الخصوص؛ فاستغنوا بذلك عن اللفظ، كما تقول في قول القائل: "أي شيء يحسن زيد؟ " فإنه يحتمل التكثير والتقليل والاستفهام؛ وإنما يتوصل إلى قصد المتكلم بدلالة الحال. قيل: لم ننكر أن يكون في اللغة لفظ مشترك يدل دلالة الحال على قصد   1 في الأصل: "قال". 2 في الأصل: "بينهما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 المتكلم به؛ وإنما أنكرنا أن يكون ما تمس الحاجة إلى العبارة عنه في مصالح دينه ودنياه لم يضعوا له لفظه، وهذه المعاني التي يحتملها قوله: "أي شيء يحسن زيد؟ "، وقد وضعوا لها لفظًا تميز به عن غيره؛ فقالوا: "علمه قليل أو كثير، وأي شيء يحسن زيد"؟. وأيضًا: فإنه لفظة "من" إذا استعملت في الاستفهام كقوله: "من عندك؟ " و"من كلمت؟ "؛ صلح أن يجيب بذكر كل عاقل، فثبت أن اللفظ يتناول الجميع1. وكذلك إذا استعملت في المجازاة كقوله: "من دخل داري أكرمته"؛ صلح استثناؤهم؛ لأن الاستثناء: يخرج من اللفظ ما لولاه كان داخلًا فيه، ألا تراه لما لم يتناول غير العقلاء؛ لم يصح استنثاؤهم؟ فإن قيل: لا نسلم أن صيغة "من" لكل من يعقل؛ لأن ممن يعقل الجن والملائكة، ولا يدخلون فيه. قيل: الصيغة تناولت كل هؤلاء؛ وإنما خرج ذلك بدليل؛ لأنه إنما يسأله عمن يجوز أن يكون عنده، وعمن يجوز دخوله2. فإن قيل: إنما كان مجيبًا ومستثنيًا؛ لأنه [68/أ] أجاب من يصلح له اللفظ. قيل: هو يصلح له ويصلح لغيره عند المخالف؛ فكان ينبغي أن لا يكون مجيبًا حى يعلم مراد المستخبر بقوله: "من عندك؟ "، ولما أجمعوا على أنه يجيب بكل من ذكره من جنس العقلاء؛ بطل السؤال.   1 هذا الدليل ساقه أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/237". مع اختلاف طفيف. 2 هذا الاعتراض والجواب عنه، ذكره أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/221-222". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن صيغة العموم لا تخلو من أن تكون ثبتت بالعقل أو بالنقل؛ فلا يجوز أن يكون بالعقل؛ لأنه لا مدخل فيه، ولا يجوز أن يكون بالنقل؛ لأن النقل لا يخلو إما أن يكون تواترًا أو آحادًا، ولا يجوز أن يكون تواترًا؛ لأن التواتر لم يوجد؛ لأنه لو وجد لعلمناه، ولا يجوز أن يكون آحادًا؛ لأن نقل الآحاد لا يوجب العلم، ومسألة العموم طريقها العلم والقطع؛ فلم يجز إثباتها بما لا يوجب العلم1. والجواب عنه من وجوه: أحدها: أنا أثبتنا ذلك من طريق العقل والنقل، وقد ذكرنا الطريقين جميعًا. الثاني: أنا أثبتنا من طريق ثالث، وهو الاستدلال بمخارج كلامهم على مقاصدهم وإرادتهم مثل ما ذكرته من الاستدلال بالنكرة في الإثبات والنفي والاستفهام والاستثناء، وهذا قسم ثالث لم يذكره المخالف. جواب ثالث: أنا نقلبه عليهم فنقول: إثباتك إياه مشتركًا؛ لا يخلو ذلك من أن يكون [عقلًا] أو نقلًا، ونذكر القسمين. وهذا كما قال نفاة القياس: من [أن] إثبات القياس لا يخلو إما أن يكون عقلًا أو نقلًا، ولا يجوز أن يكون عقلًا؛ لأنه لا مدخل له فيه، ولا يجوز أن يكون نقلًا على ما ذكره المخالف؛ فقلنا لهم: تحريم القياس لا يخلو إما أن يكون بالعقل أو بالنقل، وإذا كان جوابنا هناك، فهو جوابنا ههنا.   1 هذا الدليل ساقه أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/223-224" بأوسع مما هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 واحتج بأن لفظ الجمع يستعمل مرة في البعض ومرة في الكل، واستعماله في البعض أكثر؛ لأنه يقال: "غلق الناس"، و"فتح الناس"، و"جمع التجار إلى دار السلطان"، ويراد به البعض دون الكل، ويقول الواحد: "غسلت ثيابي، وصرمت نخلي"، ويريد به البعض؛ فإذا كان كذلك؛ كان حقيقة في البعض والكل، وكان بمنزلة اللفظ المشترك، مثل: "العين"، و"اللون"، فإنه يحتمل: العين: "عين الذهب"، و"عين الماء"، و"عين الميزان"، و"عين الركبة"، و"عين القوم"، وهو خيارهم، والعين على القوم، وهو: "الجاسوس"، وكذلك "اللون" يحتمل "البياض"، و"الحمرة"، و"السواد"، و"الصفرة"، ولا يجوز حمل اللفظ على بعضها إلا بدليل، كذلك ههنا. والجواب: أن هذا يبطل بأسماء الأعيان واستعمالها1 في الحقيقة والمجاز، مثل تسميتهم الماء الكثير بحرًا، والرجل العالم والجواد بحرًا، وكذلك تسمتيهم "البهيمة حمارًا"، و"الرجل البليد" حمارًا، و"البهيمة أسدًا وليثًا"، و"الحية شجاعًا"، [68/ب] و"الرجل الذي به بأس وشدة شجاع". ويبطل أيضًا باستعمال لفظ الجمع في الواحد، مثل قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2، وقول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} 3، فأراد بالأول: "نعيم بن مسعود"4، ومع هذا فلم يدل ذلك على الاشتراك.   1 في الأصل: "واستعمال". 2 "9" سورة الحجر. 3 "173" سورة آل عمران. 4 هو: نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي. صحابي جليل، رضي الله عنه، هاجر = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 ويفارق هذا: "العين" و"اللون"؛ لأن ذلك يستعمل بنفسه في أشياء مختلفة في كل واحد منها مثل استعماله في الآخر، وليس كذلك   = إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء وقعة الخندق، كان له دور كبير فيها؛ حيث استطاع الإيقاع بين اليهود والمشركين، سكن المدينة، ومات في خلافة عثمان بن عفان. انظر ترجمته في: "الاستيعاب": "4/1508"، و "الإصابة" القسم السادس ص"461"، طبعة دار نهضة مصر. و"الناس" في أول الآية، اختلف المفسرون في تفسيره، هل يفسر بالفرد، أو يفسر بالجمع؟ على اتجاهين: الاتجاه الأول: أن المراد به فرد، وهؤلاء على قسمين: قسم ذهب إلى أن المراد به: نعيم بن مسعود، كما ذكر المؤلف، وهو رأي عكرمة، ومجاهد، ومقاتل، والكلبي. وقسم ذهب إلى أن المراد به: أعرابي، طلب منه: أن يفعل ذلك، نظير أجر له، وهو رأي السدي. الاتجاه الثاني: أن المراد به جمع، وأصحاب هذا الرأي على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ذهب إلى أن المراد: ركب عبد القيس، لما مروا بأبي سفيان يريدون المدينة، فطلب منهم إبلاغ محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، بأنه يجمع الجموع لحربهم، وهو رأي ابن إسحاق وجماعة. القسم الثاني: ذهب إلى أن المراد: المنافقون. القسم الثالث: ذهب إلى أن المراد: جماعة من هذيل من أهل تهامة، وهو رأي أبي معشر. ويلاحظ: أنه لا يتم الاستدلال إلا على التفسير بالفرد. راجع في هذا: "تفسير القرطبي": "4/279-280"، و "تفسير القاسمي": "4/1038-1039". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 ههنا، فإنه يستعمل بنفسه عند الإطلاق للعموم والشمول، بدليل ما ذكرنا من الاستدلال بالنكرة في الإثبات والنفي والاستفهام والاستثناء. واحتج بأن الاستفهام يحسن فيه، ولو كان موضوعًا للجنس؛ لم يحسن الاستفهام، كما لا يحسن في الأسماء الموضوعة للعدد، مثل: "العشرة"، و"المائة"، و"الألف". والجواب: أن الاستفهام يجوز في قوله: "إنا فعلنا"، وقوله: "رأيت بحرًا"، و"رأيت حمارًا", وتقول: "قلت ذلك ألف مرة"، فيحسن أن يكون قلته على التكثير أو على الوفاء والتكميل، وتقول: "رأيت زيدًا" فيقول السامع: "رأيته نفسه"، ولم يدل ذلك على الاشتراك. وجواب آخر وهو: أنه إنما يحسن الاستفهام فيه؛ لأن اللفظ وإن كان موضوعًا للعموم بإطلاقه؛ فظاهره قد يصلح للخصوص، فيستفهمونه ليتيقن أنه إنما أراد الخصوص؛ ولأنه قد يدخل الاستفهام على طريق التأكيد، كما إذا قال القائل: "اقتل فلانًا"، صلح أن يراجعه، فيقول: "أأقتله"؟ تأكيدًا واحتياطًا؛ لأن اللفظ ما تضمنه. واحتج: بأن اللفظ قد ورد وأريد به العموم، وورد وأريد به الخصوص؛ فلم يكن حمله على أحدهما أولى من حمله على الآخر؛ فوجب التوقف. والجواب: أن اللفظ الدال على العموم هو التجرد عن القرائن، وهذا اللفظ لم يرد قط إلا وهو دال على العموم؛ وإنما يدل على الخصوص بقرينة. واحتج: بأنه لو كان موضوعًا للعموم حقيقة؛ لكان إذا حمل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 الخصوص أن يصير [مجازًا] 1. والجواب: أنه إذا حمل على الخصوص؛ فقد حمل على بعض ما تناوله اللفظ، فلا يكون مجازًا، كما إذا قال: "لفلان عشرة إلا خمسة"، إذا حمل اللفظ على الخمسة حمل على ما تناوله اللفظ، ويكون حقيقة لا مجازًا. واحتج: بأن اللفظ لو كان موضوعًا للعموم لما جاز أن يوجد؛ إلا وهو دال عليه، كما لا يجوز أن يوجد الفعل إلا وهو دال على فاعل. والجواب: أن اللفظ الدال على العموم هو المتجرد عن قرينة، ولا يوجد هذا اللفظ إلا وهو دال على العموم؛ وإنما يدل على الخصوص بقرينة تنضم [69/أ] إليه. واحتج بأن حمله على العموم يوجب التضاد؛ لأنه يحمل على العموم وعلى الخصوص، وهما ضدان. والجواب: أن اللفظ الذي يحمل على العموم لا يحمل على الخصوص، والذي يحمل على الخصوص لا يحمل على العموم؛ بل أحدهما مقترن والآخر متجرد. واحتج: بأنه لو كان اللفظ للعموم؛ لما جاز أن يطلق لفظين عامين متنافيين إلا على وجه النسخ، كالنصين المتنافيين؛ فلما جاز أن يقول: "اقتلوا المشركين"، ثم يقول: "لا تقتلوا أهل الذمة"؛ فلا يكون ذلك نسخًا، ثبت أن اللفظ ما دل على العموم بنفسه. والجواب: أن العمومين إذا وردا متنافيين؛ فهما في معنى النسخ؛ لأن النسخ يختص الأزمان، والتخصيص يختص الأعيان، فهما في المعنى   1 هذه الكلمة زادها الناسخ في هامش الأصل، وإثباتها ضروري؛ ليستقيم الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 سواء، وإن اختلفا في الاسم، وعلى أن العمومين إذا وردا متنافيين؛ لم يوجد فيهما اللفظ الدال على استغراق الجنس؛ لأنه لم يتجرد لفظ أحدهما عن قرينة تدل على أن المراد به الخصوص. واحتج: بأنه لو كان اللفظ موضوعًا للاستغراق؛ لما جاز تخصيص الكتاب بأخبار الآحاد والقياس؛ فإنه لا يجوز إسقاط حكم بخبر واحد وقياس. والجواب: أن التخصيص ليس هو إسقاطًا لحكم اللفظ كله؛ وإنما يخرج بعضه ويبقى البعض، ويبين به أن هذا هو الذي كان مراعى باللفظ، فلا يكون إسقاطًا لحكم الكتاب؛ بل يكون بيانًا للمراد به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 فساد قول من حمل العموم على أدنى الجمع مدخل ... فصل: فساد قول من حمل العموم على أدنى الجمع ما تقدم ولأن الصحابة لم ينقل عن أحد منهم أنه اعتقد في عموم القرآن والسنة أدنى الجمع، والوقف في الباقي، بل حملوا اللفظ على عمومه؛ فدل على أنه ليس بموضوع الكلام، إذ لو كان كذلك لنقل ذلك عنهم. ولاحتج به بعضهم على بعض. ولأن للخصوص لفظًا هو أخص به من لفظ العموم، ولو كان المراد الخصوص1؛ لعبر عنه باللفظ المختص به. ولأنه يصح أن يستثنى منه أكثر من قدر الخصوص. ولأنه لو جاز أن يحمل على أقل الجمع لأنه اليقين؛ لجاز أن يحل على الواحد؛ لأنه هو اليقين؛ لأن لفظ الجمع قد يرد والمراد به الواحد   1 في الأصل: "بالخصوص". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} 1، وقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} 2 قيل تقديره: ألقِ ألقِ على وجه التأكيد3. وقول عمر حين كتب إلى سعد4: إني قد وجهت إليك ألفي رجل؛ وإنما أنفذ إليه القعقاع5 ومعه ألف، فسمي الواحد ألفًا؛ لأنه يسد مسدها، ولما لم يجز حمله على الواحد؛ لأن الإطلاق لا يتناوله؛ كذلك أقل الجمع.   1 "9" سورة الحجر. 2 "24" سورة ق. 3 هذا أحد الأقوال، وهناك ثلاثة أقوال هي: الأول: أن ضمير التثنية في قوله تعالى: {أَلْقِيَا} هي نون التوكيد، سهلت إلى الألف. الثاني: أن الألف في قوله: {أَلْقِيَا} هي نون التوكيد، سهلت إلى الألف. الثالث: أن ذلك لغة للعرب، يخاطبون المفرد بالتثنية. راجع في هذا: "تفسير الفخر الرازي": "28/165"، و"تفسير ابن كثير": "4/224"، و"تفسير القاسمي": "15/5504". 4 هو: سعد بن مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري، أبو إسحاق بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وآخرهم موتًا، أول من رمى بسهم في سبيل الله، له فضل كبير في فتح العراق، بنى الكوفة، ووليها لعمر، اعتزل الفتنة بعد مقتل عثمان، مات بالعقيق، وحمل إلى المدينة سنة 55هـ على الأرجح. له ترجمة في: "الاستيعاب": "2/606"، و"الإصابة": "3/88-84". 5 هو: القعقاع بن عمرو التميمي، كان من الشجعان الفرسان، أبلى بلاء جميلًا في موقعة القادسية، ذكر سيف بن عمر: أن له صحبة. وسيف هذا ضعفه ابن السكن، وقال فيه أبو حاتم: "متروك الحديث". مات القعقاع نحو سنة 40هـ. له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/1283"، و"الإصابة": "5/244-245"، و"الأعلام": "6/48". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الثلاثة متيقن؛ فوجب [69/ب] حمله عليه1. والجواب: أن هذا يوجب حمله على الواحد؛ لأنه متيقن2 واللفظ قد يعبر به عنه. ويوجب أيضًا: أن يحمل لفظ العشرة على أقل من ذلك، أنها3 قد تستعمل في بعضها بدليل، وهو إذا اقترن به الاستثناء وأجمعنا على أنها تحمل على الجميع بظاهرها، وعلى أن الثلاثة4 وإن كان متيقنًا؛ فإن اللفظ حقيقة فيما زاد عليه؛ فلم يكن حمله على الثلاثة5 بأولى من حمله على الجميع. واحتج: بأن استعمال لفظ العموم في الخصوص هو الغالب؛ فحمل عليه. والجواب: أن هذا الغالب لا يختص بثلاثة. واحتج: بأن العموم مأخوذ من الخصوص، ومنه قولهم: "مطر عام". والجواب: أن العموم مأخوذ من قولهم: "عممت الشيء أعمه عمومًا، وعمهم العدل والرخص والغلاء".   1 الضمير عائد على "الثلاثة" باعتباره عددًا. 2 في الأصل: "لأنه نفي". 3 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "لأنها" لأن الجملة تعليل لما قبلها. 4 في الأصل: "الثلاث". 5 في الأصل: "الثلاث". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 فساد قول من فرق بين الأخبار والأوامر في صيغ العموم ... فصل: والدلالة على فساد قول من فرق بين الأخبار والأوامر أن الطريق إلى إثبات أحدهما هو الطريق إلى الآخر؛ فالممتنع من أحد الأمرين؛ يلزمه الامتناع من الآخر، ألا ترى أن استعمال اللغة في الأمرين على وجه واحد، ورجوع الصحابة إلى أوامر الله تعالى وأخباره إلى ظاهر الخطاب، كرجوعهم في الآخر، فدل على أنه لا فرق بينهما. ولأنه ثبت أن الله إذا أمر بلفظ عام؛ وجب حمله على العموم، كذلك إذا أخبر بلفظ عام؛ لأنه لا يجوز أن يخطابنا ويريد بخطابه غير ما وضع له في اللغة، ومتى لم يرد ذلك؛ دل عليه وبينه. واحتج من فرق بينهما: بأن الأوامر تكليف؛ فلو لم يعرف المراد به، لاقتضى تكليف ما لا يطاق، وليس كذلك الخبر عن الوعد والوعيد وغير ذلك؛ لأنه لا يقتضي وجوب شيء يحتاج أن يعلم به. والجواب: أن الخبر إنما يخاطب به لفائدة كالأمر، وإن كان فائدتهما تختلف؛ ألا ترى أنه يزجر بالوعيد ويرغب بالوعد، وذلك يقتضي العلم بمراده بها، فالحال فيهما واحدة. ولأن المقصود وإن اختلفت جهاته؛ فلا يوجب التفريق بين الأمرين، مثلًا اختلاف المقصود في الأوامر. فإن قيل: الخبر لا يدخله نسخ ولا تخصيص، والأمر يدخله الأمران. قيل: هذا يؤكد ما قلنا؛ لأن الأمر لما جاز أن يقع فيه النسخ والتخصيص1،   1 في الأصل: "والحظر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 ومع هذا يحمل على العموم؛ فالخبر مع امتناع وقوع النسخ أولى أن لا نحمله1 على العموم. فإن قيل: يجوز وقوع الخبر عن مجهول، نحو قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} 2، وقوله: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} 3 ثم لا يبينه أبدًا، ولا يجوز أن يأمر بمجهول، ولا يبينه في الثاني. قيل: يجوز ذلك بأن يقول: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 4 [70/أ] ثم لا يبين ذلك، وتكون فائدة الأمر صحة تنزيله ووجوب اعتقاده.   1 في الأصل: "أن لا يحمله ... ". 2 "58" سورة القصص. 3 "38" سورة الفرقان. 4 "43" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 يصح ادعاء العموم في المضمرات والمعاني مدخل ... فصل: يصح ادعاء العموم في المضمرات والمعاني 1 فأما المضمرات نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2، و: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} 3، معلوم أنه لم يرد نفس العين؛ لأنها فعل الله تعالى؛ وإنما المراد أفعالنا فيها، فيعم تحريمها بالأكل والبيع4.   1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص "90"، و "شرح الكوكب المنير" ص "345"، من الملحق. 2 "3" سورة المائدة. 3 "96" سورة المائدة. 4 سبق للمؤلف ص"145" أن ذكر أن هذه الآية من قبيل المجمل مع أنه ذهب هنا إلى أنها عامة، وهذا تناقض، مع أن الصواب القول بعمومها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لجنب" 1 ليس المراد عين المسجد؛ وإنما المراد به أفعالنا، فهو عام في الدخول واللبث. وكذلك قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 2،   1 هذا الحديث أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا، في كتاب الطهارة باب الجنب يدخل المسجد "1/53". وأخرجه ابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا، في كتاب الطهارة، باب ما جاء في اجتناب الحائض المسجد "1/212". وفي إسناد أبي داود: "فليت العامري"، قيل: فيه مجهول. ورد هذا بقول أحمد: "ما أرى به بأسًا". وقال أبو حاتم: شيخ. أما إسناد ابن ماجه ففيه: "محدوج الذهلي"، و "أبو الخطاب الهجري" متكلم فيهما. وعلى هذا فحديث أبي داود أصح من حديث ابن ماجه، وقد قال أبو زرعة: الصحيح حديث ميسرة عن عائشة. وقد صحح حديث عائشة ابن خزيمة، وحسنه ابن القطان. راجع: "نصب الراية": "1/193-195"، و"تلخيص الحبير": "1/139-140". 2 هذا الحديث أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه عن أبي ذر رضي الله عنه وذلك في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي "1/659". وأخرجه الحاكم عن ابن عباس في كتاب الطلاق باب: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة": "2/198"، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وأخرجه الطحاوي عنه في كتابه: "شرح معاني الآثار" وذلك في كتاب الطلاق باب في طلاق المكره "3/95". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 والنسيان لا يمكن رفعه؛ لأنه قد تقضى، والمراد به حكمه، فهو عام في المأثم والحكم به. وكذلك قوله: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين"؛ عام في الصحة والكمال. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية صالح في الرجل يحدث نفسه بما إن سكت عنه يخاف1 أن يكون قد أشرك2، فقال: يروى   = وقد أخرج هذا الحديث ابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "معجمه"، وأبو نعيم في "الحلية"، وابن عدي في "الكامل" والبيهقي. وفي كل طريق من طرقه مقال يقدح في صحته. وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل": سألت أبي عنه، فأنكره جدًا. وقال البيهقي: ليس بمحفوظ عن مالك، كما قال محمد بن نصر: ليس له إسناد يحتج بمثله. وقال ابن أبي حاتم في كتابه: "العلل": "1/431": سألت أبي عنها فقال: "هذه أحاديث منكرة، كأنها موضوعة.. ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده". ونقل ابن حجر في "التخليص" عن النووي قوله: "إنه حديث حسن". وقال ابن الريبع في كتابه: "تمييز الطيب من الخبيث" ص"81-82": "رواته ثقات". ويلاحظ: أن الحديث لم يرد باللفظ الذي أورده المؤلف، وإن كان الأصوليين والفقهاء يوردونه كذلك؛ وإنما ورد بلفظ: "إن الله تجاوز.." وبلفظ: "إن الله وضع ... ". وأقرب لفظ ورد للفظ المؤلف هو لفظ ابن عدي في "الكامل": "رفع عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ، والنسيان، والأمر يكرهون عليه". راجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "تلخيص الحبير": "1/281-383"، و"نصب الراية": "2/64-65"، و"3/223". 1 هكذا في الأصل، وفي "المسودة" ص"91": "خاف". 2 وفي "المسودة" ص"91" زيادة: "أشرك، وذهب دينه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها 1 ما لم تعمل [أو] 2 تتكلم" 3 فاستعمل4 هذا في رفع المأثم، وقد استعمله في رفع الحكم في رواية. وذهب الأكثر من أصحاب أبي حنيفة والشافعي إلى أنه لا يعتبر العموم في ذلك.   1 قوله: "أنفسها"، ذكر النووي في ضبطها وجهان: الرفع والنصب وحكي عن القاضي عياض قوله: "أنفسها" بالنصب، ويدل عليه قوله: إن أحدنا يحدث نفسه. كما حكى عن القاضي عياض عن الطحاوي قوله: أهل اللغة يقولون: "أنفسها" بالرفع، يريدون بغير اختيارها، قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} . راجع: "شرح النووي على صحيح مسلم": "2/147". 2 ساقطة من الأصل، وهي ثابتة في لفظ الحديث، ولا يستقيم الكلام بدونها، وهي ثابتة أيضًا في "المسودة" عندما نقل كلام المؤلف ص"91". 3 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الطلاق باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون "7/59" بمثل لفظ المؤلف. وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر "1/116-117". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطلاق باب في الوسوسة بالطلاق "1/512". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب من طلق في نفسه، ولم يتكلم به "1/658" وفي باب طلاق المكره والناسي "1/659"، وزاد فيه: "وما استكرهوا عليه". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطلاق باب ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته "3/480" وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه النسائي عنه في كتاب الطلاق باب من طلق في نفسه "6/127-128". وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده": "2/398-425، 474". وانظر: "تلخيص الحبير": "1/282". 4 في الأصل: "فامتنع"، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه، بدليل ما بعده، وبدليل مجيئه في "المسودة" ص"91"، عندما نقل عن المؤلف كلامه هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 دليلنا : أن قوله: "رفع" قد علم أنه ما أراد به نفس الفعل؛ لأن ذلك لا يمكن رفعه بعد وقوعه. وكذلك قوله: "لا نكاح؛ إلا بولي" لا يمكن رفعه بعد وقوعه؛ وإنما أريد ما تعلق بذلك الفعل والعقد؛ فصار اللفظ محمولًا على ذلك بنفسه، لا بدليل، ويحصل تقديره كأنه قال: "رفع عن أمتي ما تعلق بالخطأ والنسيان؛ فيعم المأثم والحكم، ولا نكاح إلا بولي، يعم الكمال والصحة. وكذلك: {لا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1، قد علمنا أنه لم يرد اللفظ2 بل أراد ذلك وما هو أعلى منه؛ فصار كأنه قال: لا تقربهما بسوء.   1 "23" سورة الإسراء. 2 العبارة في "المسودة" ص"92"، هكذا: "قد علمنا أنه لم يرد تبيين اللفظ..". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن قولنا: عموم، معناه: خطاب موضوع للجنس، ولفظ يعم الجنس، وهذا لا يوجد في المعاني والمضمرات؛ فإن المضمر والمعنى ليس بلفظ. والجواب: أنا قد بينا أن اللفظ مراد بهذا، من الوجه الذي بينا؛ فإن قيل: فيجب أن يقولوا: إن التخصيص يدخل على المضمرات والمعاني. قيل: هكذا نقول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 إذا أضيف التحريم إلى ما لا يصح تحريمه كان عاما في أفعال العين المحرمة مدخل ... فصل: 1 لفظ التحريم إذا تعلق بما لا يصح تحريمه؛ فإنه يكون عمومًا في الأفعال في العين المحرمة إلا ما خصه الدليل، نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 3. وحكي عن البصري المعروف بالجعل4: أن هذا اللفظ يكون مجازًا، ولا يدل على تحريم الأفعال.   1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"94". 2 "3" سورة المائدة. 3 "23" سورة النساء. وقد ذكر المؤلف ص"145" أن هاتين الآيتين من قبيل المجمل مع أنه رأى هنا: أنهما من قبيل العام، وهو الصواب إن شاء الله تعالى. 4 هو: الحسين بن علي بن إبراهيم، أبو عبد الله البصري، حنفي المذهب، معتزلي المعتقد. مات سنة 369هـ، وله من العمر ثمانون سنة. له ترجمة في "تاريخ بغداد": "8/73"، و "شذرات الذهب": "3/68". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 دليلنا : أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [70/ب] قد علم أنه ما أريد به تحريم العين نفسها؛ لأن العين فعل1 الله تعالى، لا يتوجه التحريم إليها، وإنما أريد تحريم أفعالنا فيها، فصار اللفظ محمولًا على ذلك بنفسه، لا بدليل، وكل ما حمل اللفظ عليه بنفسه كان حقيقة لا مجازًا كقوله: "لا صلاة إلا بطهور" حقيقة هذا رفع الفعل؛ فلما استحال رفعه بعد وقوعه؛ كان معناه: حقيقة في رفع حكمه، كذلك ههنا. ولأن من أراد أن يحرم على عبده أو ولده شيئًا؛ فإنه يقول: حرمت عليك هذا، فيفهم منه تحريم تصرفه فيه بنفس اللفظ، فثبت أن اللفظ نفسه دل على ذلك، فكان حقيقة.   1 في الأصل: "قول الله تعالى"، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه الموافق لما نقل عن المؤلف في "المسودة" ص"94". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن اللفظ اقتضى تحريم العين نفسها؛ فإذا حمل على الفعل؛ يجب أن يصير مجازًا، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1. والجواب: أنه وإن لم يتناول ذلك نطقًا؛ فهو المراد من غير دليل، ويفارق هذا دليل القرية ونحوه؛ لأنا لم نعلم أن المراد به أهلها باللفظ، لكن بدليل؛ لأنه لا يستحيل جواب حيطانها في قدرة الله تعالى، واحتيج إلى دليل يعرف به أنه أراد أهلها.   1 "82" سورة يوسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 مسألة في الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام مدخل ... مسألة: في الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام 1 مثل: الإنسان، والسارق، والزاني، والقاتل، والكافر، والبيع، والصيد، والدينار، والدرهم، وما أشبه ذلك؛ فهو للجنس. وقد أشار إلى هذا الإمام أحمد رضي الله عنه في كتاب طاعة الرسول، فقال: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2. فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم السارق، وإن قل ذلك؛ فقد وجب عليه القطع، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع في ثَمَر ولا كَثَر"،   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"105"، و"روضة الناظر": "119-121". 2 "38" سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 دل أنها ليست على ظاهرها، وأنها على بعض السراق دون بعض. فقد صرح بأن إطلاق اللفظ اقتضى العموم في كل سارق. وبهذا قال أبو عبد الله الجرجاني وحكاه عن أصحابه1. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال مثل قوله، ومنهم من قال: هي للعهد2.   1 راجع في هذا: "تيسير التحرير" 1/197. 2 المشهور من مذهب الشافعية: أن المفرد إذا دخل عليه الألف واللام فهو للعموم. وهناك خلاف لبعض الأصحاب، محصله كالآتي: أ- أنه لا يفيد العموم مطلقًا، واختاره الرازي. ب- أنه لا يفيد العموم إذا لم يكن واحده بالتاء، واختاره إمام الحرمين. ج- أنه لا يفيد العموم إذا لم يكن واحده بالتاء، أو تميز واحده بالوحدة، وهو اختيار الغزالي. راجع: "شرح جمع الجوامع مع حاشية البناني": "1/412"، المستصفى "2/53-54". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 دليلنا : أن لفظ الجمع إذا كان منكرًا، مثل: مسلمين، ومشركين، ورجال؛ كان لجمع منكر، ولم يكن للجنس، كما قال تعالى: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ} 1؛ فإذا عرف بالألف واللام كان للجنس، كذلك ههنا. ولأنه يصح الاستثناء منه بلفظ الجمع، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} 2، وهذا يدل على أنه للجنس، كألفاظ الجمع3.   1 "62" سورة ص. 2 "2" سورة العصر. 3 ذكر أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد في أصول الفقه" 1/244-245 جوابين عن وجه الاستدلال بهذه الآية هما: أ- "الاستنثاء في هذه الآية جار مجرى الاستثناء من غير الجنس؛ لأنه غير مطرد، ولو كان حقيقة لاطرد. ب- أو أن تكون الخسارة لما لزمت جميع الناس إلا المؤمنين؛ جاز هذا الاستثناء". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن اللام للتعريف عندهم؛ فإذا قال: دخلت السوق، فرأيت رجلًا، ثم عدت إلى السوق فرأيت الرجل؛ كان تعريفًا لما تقدم ذكره، ولهذا قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} 1. ويدل عليه [71/أ] قول ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 2 لن يغلب عسر يسرين3. فجعل العسر الثاني هو الأول؛ لما كان معرفًا4 بالألف واللام، وليس الثاني   1 "16" سورة المزمل. 2 "5-6" سورة الانشراح. 3 هذا الأثر أخرجه الإمام مالك في كتابه "الموطأ" في كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد "9/3" مطبوع مع شرح الزرقاني، أخرجه موقوفًا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. كما روي مرسلًا من طريق الحسن قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا، وهو يضحك ويقول: "لن يغلب عسر يسرين، لن يغلب عسر يسرين؛ فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا". انظر: تفسير ابن كثير": "525/4"، و "تفسير القاسمي": "6192/17". 4 في الأصل: "معروفًا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 عين الأول، لما كان منكرًا؛ فوجب أن يكون تعريفًا لما اقتضاه الاسم، وهو واحد من الجنس، ولا يكون تعريفًا للجنس؛ لأن الاسم لا يصلح له، إذا لم يكن فيه الألف واللام؛ فلا يقتضيه، فكان تعريفًا لمقتضاه. والجواب: عن قولهم: إنه تعريف لما يقتضيه الاسم؛ فهو منتقض باسم الجمع؛ فإنه إذا كان معرفًا كان للجنس، وإذا كان منكرًا؛ كان لبعض الجنس. ولأن المنكر لا يصلح إلا للواحد، والمعرف يصلح للجنس، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 1، وقال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} 2، [وقال] : {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} 3، و [قولهم] : أهلك الناس الدرهم والدينار؛ فدل على الفرق بينهما. وأما قوله: "دخلت السوق فرأيت رجلًا، ثم عدت إلى السوق فرأيت الرجل"، فهو أنه ههنا رجع إلى المذكور قبله؛ لأن التعريف إذا تقدمته نكرة؛ كان الظاهر أنه راجع إليه، وتعريف له، وليس كذلك إذا لم يتقدمه نكرة؛ فإنه ليس في الكلام ما يوجب تخصيصه، فوجب حمله على تعريف الجنس4.   1 "2" سورة العصر. 2 "17" سورة عبس. 3 "6" سورة الانشقاق. 4 رأيت أبا الحسين البصري ساق لهم دليلين في كتابه "المعتمد": "244/1" هما -في رأيي- أبرز ما استدل به المانعون: الأول: أنه لا يصح تأكيده بكل وجميع، كلفظ: "من" من ألفاظ العموم فلا يصح أن تقول: "جاءني الرجل كلهم"، ولا أجمعون، ولو كان يقتضي العموم لصح توكيده بذلك. الثاني: أنه يقبح الاستثناء منه نحو قولك: "رأيت الإنسان إلا المؤمنين"؛ ولو كان يقتضي العموم لحسن ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 الجموع المنكرة تحمل على أقل الجمع مدخل ... فصل 1 الجموع المنكرة تحمل على أقل الجمع ألفاظ الجموع كالمشركين، والمسلمين، والقائلين، إذا لم يدخلها الألف واللام، فقيل: مشركون، ومسلمون، وقائلون، لم يحمل على العموم، ولم يكن للجنس، ويحمل على أقل الجمع، كما قال أصحاب الخصوص والعموم. وقد أشار أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية أبي طالب، إذا قال: ما أحله الله علي حرام -يعني به الطلاق- أجاب: إنه2 يكون ثلاثًا، وإذا قال: أعني به طلاقًا؛ فهذه واحدة، لأن طلاقًا غير الطلاق. فقد فرق بين دخول الألف واللام على الطلاق في أنه يقتضي الجنس، وبين حذفها في أنه لا يقتضي جنسه. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: مثل قولنا، ومنهم من حمله على العموم واستغراق الجنس. وحكي ذلك عن الجبائي3. وقد أشار إليه الإمام أحمد في رواية صالح وقد سأله رضي الله عنه:   1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"106"، و "شرح الكوكب المنير" ص"357" من الملحق. 2 في الأصل: "إن". 3 هو: محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران الجبائي، أبو علي. المتكلم، الأصولي، من كبار المعتزلة. له مناظرات مع أبي الحسن الأشعري. ولد سنة 235هـ، ومات سنة 303هـ. له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/241"، و"طبقات المعتزلة" ص"287-269"، و"لسان الميزان": "5/271"، و"مفتاح السعادة": "2/165"، و"وفيات الأعيان": "1/480". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 عن لبس الحرير؛ فقال: لا، إنما هو للإناث، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحرير والذهب: "هذان حرامان على ذكور أمتي" 1. فقد حمل قوله: "ذكور أمتي" على العموم في الصغيرة والكبيرة وإن كان جمعًا ليس فيه الألف واللام.   1 هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود في كتاب اللباس، باب في الحرير للنساء بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا؛ فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا، فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي": "2/373". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب لبس الحرير والذهب للنساء "2/1189"، وزاد فيه: "حل لإناثهم". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال "8/138". وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار"، في كتاب الكراهية باب لبس الحرير، بمثل رواية أبي داود. وبمثل رواية الإمام أحمد التي ذكرها المؤلف، إلا أنه زاد فيها: "حل لإناثهم": "4/250-223". وأخرجه ابن حبان في صحيحه، كما نقل عنه الزيلعي في "نصب الراية" في كتاب الكراهية، فصل في اللباس "4/ 222-223". وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن ابن عمر رضي الله عنهما، وذلك في كتاب اللباس والزينة، باب ما جاء في تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال دون النساء "1/355". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وجه الأول : أن أهل اللغة سموا هذه الألفاظ عند حذف الألف واللام منها نكرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 فلو كانت متناولة لجميع الجنس؛ لما كانت نكرة، بل كانت معرفة؛ لأن جميع الجنس معرف، ألا ترى أنه إذا دخلها الألف واللام لم تكن نكرة بل تكون معرفة؛ لأنه يصح تأكيدها بلفظة "ما" الدلالة [71/ب] [على] الخصوص فتقول: أقتل مشركين ما، ورأيت رجالًا [ما] ، وهذه اللفظة لا يصح دخولها على لفظ العموم، فإنه لا يصح أن تقول: أقتل المشركين [ما] ، ولا رأيت الرجال ما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لما صح دخول الاستثناء عليه، فخرج بعضه؛ ثبت أنه من ألفاظ العموم، كالجمع المعرف. والجواب: أن الاستثناء يخرج البعض من الكل، ويخرج البعض من البعض، فههنا يخرج البعض من البعض، الذي هو أقل الجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 مسألة إذا ورد لفظ العموم الدال بمجرده على استغراق الجنس مدخل ... مسألة: 1 إذا ورد لفظ العموم الدال بمجرده على استغراق الجنس فهل يجب العمل بموجبه واعتقاد عمومه في الحال قبل البحث عن دليل يخصه أم لا؟   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"110-111"، و"روضة الناظر" ص"126". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 فيه روايتان : إحداهما يجب العمل بموجبه1 في الحال2، وهذا ظاهر كلام   1 في الأصل: "بموجبها". 2 واختار هذه الرواية من الحنابلة: ابن عقيل وأبو بكر عبد العزيز والحلواني وابن قدامة. راجع: "المسودة" ص"109"، و"روضة الناظر" ص"126". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 أحمد رحمه الله في رواية عبد الله لما سأله عن الآية إذا كانت عامة مثل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1، وذكر له قومًا يقولون: لو لم يجئ فيها بيان عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ توقفنا2، فقال: قوله: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 3، كنا نقف عند ذكر الولد [لا نورثه] 4 حتى ينزل الله، أن لا يرث قاتل ولا عبد5. وظاهر هذا الحكم به في الحال من غير توقف. وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا، ذكر6 في أول كتاب التنبيه فقال: وإذا ورد الخطاب من الله تعالى أو من الرسول بحكم عام أو خاص، حكم بوروده على عمومه، حتى ترد الدلالة على تخصيصه أو تخصيص بعضه. وفيه رواية أخرى: لا يحمل على العموم في الحال، حتى يتطلب دليل التخصيص؛ فإن وجد؛ حمل اللفظ على الخصوص، وإن لم يوجد؛ حمل حينئذ على العموم7. وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية ابنه صالح وأبي الحارث وغيرهما، فقال في رواية صالح، إذا كان للآية ظاهر، ينظر ما عملت السنة؛ فهو دليل على ظاهرها، ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ   1 "38" سورة المائدة. 2 في "المسودة" ص"90" زيادة في الرواية هي ".. توقفنا عنده، فلم نقطع حتى يبين الله لنا فيها أو يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ... ". 3 "11" سورة النساء. 4 غير موجودة في الأصل، والمقام يقتضيها، وهي ثابتة في "المسودة" ص"90". 5 في المسودة ص"90": "أن القاتل لا يرث ولا عبد ولا مشرك". 6 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "ذكره". 7 وقد اختار هذه الرواية من الحنابلة: أبو الخطاب. انظر: "المسودة" ص"109"، و"روضة الناظر" ص"126". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 فِي أَوْلادِكُمْ} 1؛ فلو كانت على ظاهرها؛ لزم من قال بالظاهر أن يورث كل من وقع عليه اسم ولد، وإن كان قاتلًا [أ] ويهوديًا. وقال أيضًا فيما كتب به إلى [أبي] 2 عبد الرحيم الجوزجاني3: فأما من تأوله على ظاهر [هـ] 4 -يعني القرآن- بلا دلالة من رسول الله، ولا أحد من أصحابه، فهو تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة، ويكون حكمها حكمًا عامًا، ويكون ظاهرها في العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم المعبر عن كتاب الله تعالى وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر، وما أريد بذلك. وظاهر هذا: أنه لا يجب اعتقاده، ولا العمل به في الحال، حتى يبحث وينظر، هل هناك دليل تخصيص5؟ واختلف أصحاب الشافعي، فذهب الأكثر منهم إلى التوقف فيه حتى ينظر. وذهب بعضهم إلى [72/أ] العمل به في الحال. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فحكى أبو عبد الله الجرجاني في   1 "11" سورة النساء. 2 "الزيادة" من "المسودة" ص"179"، عندما نقل كلام المؤلف. 3 هو: محمد بن أحمد بن الجراح، أبو عبد الرحيم الجوزجاني، والجوزجاني: نسبة إلى مدينة بخراسان مما يلي "بلخ"، يقال لها: "جوزجانان" والجوزجاني هذا: أحد أصحاب الإمام، وممن نقلوا عنه، كان ثقة جليل القدر. انظر: "طبقات الحنابلة": "1/262"، و"الباب في تهذيب الأنساب": "1/308". 4 الزيادة هذه من المسودة ص"112"، وهي زيادة يقتضيها المقام. 5 من أول المسألة إلى هنا منقول بنصه في "المسودة" ص"110-112". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 كتابه: أن السامع متى سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق تعليم الحكم؛ فالواجب اعتقاد عمومه. وإن سمعه من غيره؛ لزمه التثبت وطلب ما يقتضي تخصيصه، فإن فقده حمل اللفظ على مقتضاه في العموم. وحكى أبو سفيان في مسائله: وجوب اعتقاد عمومه من غير توقف، على الإطلاق من غير تفصيل؛ فقال في أثناء الكلام في مسألة العموم: ما تقولون في عموم اللفظ إذا ورد ابتداء هل ترجعون عند سماعه إلى الأصول في طلب دلالة التخصيص، أو تحملوا به على الاستغراق؟ فقال: نحمله على عمومه، ولو كان خصوصًا؛ لم يخله الله من بيان عند وروده من غير توقف. فالدلالة على أنه يجب العمل من غير توقف: أن صيغة العموم إذا ورد متجردًا عن قرينة ظاهرة؛ كانت حقيقة في الجنس كله، ووجب المصير إليه قبل البحث كما قلنا في أسماء الحقائق من الأعداد وغيرها، متى وردت وجب المصير إلى موجبها، ولا يجب التوقف على ما يدل على مجازها، كذلك ههنا. فإن قيل: لا نسلم أنها متجردة عن القرينة؛ لأن التجرد ما ثبت، وهذا كما يقول: إذا شهد عند الحاكم شاهدان، لا يعرف حالهما، فإنه لا يحكم قبل السؤال عنهما، كذلك ههنا. قيل: الأصل عدم القرينة؛ فوجب الاعتماد على ذلك الأصل؛ لأن هذا هو الظاهر، وجرى هذا مجرى شاهدين شهدا بحق؛ فإن الحاكم يحكم بشهادتهما، وإن جاز أن يكون قد حصل هناك إبراء من ذلك الحق، أو قضاء للحق وهما لا يعلمان به؛ لأن الظاهر عدم ذلك. وأما عدالة الشهود: فإن الظاهر يقتضي عدالتهما؛ لأن الأصل العدالة؛ ولكن لم يقتصر في الشهادة على الظاهر، ألا ترى أن الظاهر صدق الشاهد الواحد، ولكن اعتبر فيه العدد، كذلك الظاهر العدالة، لكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 اعتبر زيادة معنى، وهو الحث، ويفارق هذا ألفاظ صاحب الشريعة؛ لأن الاعتبار فيها بالظاهرة، ألا ترى أنه يقبل خبر الواحد، ولا يبحث عن عدالته في الباطن. فإن قيل: لا نسلم لكم أسماء الحقائق، بل نقول: يقف على الطلب؛ فإذا لم يجد ما يدل على المجاز؛ صار إليه. قيل: إن لم نسلم الأصل فالاستدلال قائم بنفسه، وهو: أن اللفظ قد تجرد عن قرينة ظاهرة؛ لأن الأصل عدمها. فإن قيل: فإن سلمنا لكم ذلك، ما الفرق بينهما؟ إن في العدول عنها ترك الحقيقة، وليس في تخصيص العموم ترك الحقيقة. قيل: فيه ترك حقيقة اللفظ؛ لأنه موضوع للاستغراق، [72/ب] فلا فرق بينهما. وطريقة أخرى، وهي1: أن هذه الصيغة ترد في عموم الأزمان، كما ترد في عموم الأعيان، ثم ثبت أن ما ورد عامًا في الأزمان؛ لزم العمل بعمومه قبل البحث عن دليل الخصوص، كذلك ما ورد عامًا في الأعيان. فإن قيل: الفرق بينهما: أن ما يخص الزمان نسخ، والنسخ يرد بعد ورود الصيغة، ولا يصح أن يرد معها ولا قبلها؛ فلهذا ألزم العمل بموجبها، وليس كذلك تخصيص العموم؛ لأن ما يخصه يرد معه أو قبله، فلهذا لم يعتقد وجوبه قبل البحث. قيل: وقد يرد بعده؛ لأن تأخير البيان جائز؛ فإذا لم تكن هناك قرينة ظاهرة، فالأصل عدمها. وجواب آخر وهو: أن هذا يوجب أن يقول: إذا سمع العموم من   1 في الأصل: "وهو". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 غير النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يلزمه بعمومه في الأزمان؛ لأنه يجوز أن يكون النسخ معه، ولكن الراوي لم يعرفه، ومع هذا فإنه يجب اعتقاده في العموم في الأزمان في الحالين؛ فبطل ما قاله. ولأن من قال بهذا يلحق بأصحاب الوقف؛ لأنه لا يحكم حتى ينظر دليل التخصيص، كما يفعل أصحاب الوقف. فإن قيل: [إن] احتاج العبد إلى استعماله؛ فله أن يحمله على الاستغراق، دون بيان زائد، وعندهم: لا يجوز. قيل: إذا حمله على الاستغراق، قبل أن ينظر دليل التخصيص، كان رجوعًا عن المسألة. والقائل الأول يجيب عن هذا: بأن أهل الوقف يقفون فيه بعد البحث، حتى يرد لفظ صريح، أنه أراد العموم. وقد ذكر بعض من نصر هذه الطريقة أشياء أخر، لا تلزم المخالف. منها: أن الأصول غير محصورة؛ فلا يمكن المجتهد أن ينظر في جميعها؛ وإنما ينظر في بعضها، ويجوز أن يكون قد بقي شيء لم يبلغه نظره، ويكون ذلك الباقي فيه ما يدل على التخصيص، فيفضي إلى الوقف في العموم أبدًا، ويدخل في وقف الأشعري، وهذا لا يلزم المخالف؛ لأن الحاكم إذا توقف عن الحكم بشهادة الشاهدين حتى يسأل عنهما، وجب أن يتوقف أبدًا، كذلك ههنا. ولأنه لا يمتنع أن يكون النظر الأول مستحقًا دون التكرار، ألا ترى أن الحاكم إذا نزلت به نازلة ليس فيها نص ولا إجماع، وجب أن يجتهد، وينظر فما غلب على ظنه حكم به، ولا يجب أن يكرر النظر، كذلك ههنا. ولا يفضي ذلك إلى مقالة الأشعرية؛ لأن هذا القائل يقول: إذا لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 يجد في الأصول ما يخصه، حمله على عمومه، والأشعرية لا تقول ذلك، وتتوقف حتى يدل الدليل على أحدهما دون الآخر. وذكر أيضًا: أن السامع للعموم لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد؛ فإما أن يعتقد عمومه أو خصوصه، ولا يجوز أن يعتقد الخصوص؛ فوجب اعتقاد العموم. وهذا لا يلزمه [73/أ] أيضًا؛ لأن هذا القائل يقول: يعتقد عمومه أن تجرد عما يخصه؛ فلا يقطع باعتقاد العموم، والمعتمد لنصرة هذا القول: ما ذكرناه. واحتج من قال بالوقف1: بأن الدلالة على العموم وجود الصيغة المتجردة عن دليل التخصيص، والتجرد لم يثبت لجواز أن يكون في الأصول لفظ أو معنى يوجب التخصيص، فوجب الوقف.   1 لم يقل أحد بالوقف في العصور الثلاثة الأولى؛ وإنما قال بذلك قوم جاءوا بعد ذلك. وهذا رأي، يؤدي الأخذ به إلى تعطيل النصوص العامة، وترك العمل بها. على أن هناك كثيرًا من القضايا استدل الصحابة على حكمها بالعام، وما توقفوا، ولا رد أحدهم دليل مخالفة بمثل هذا. والعجب أن حجة الإسلام الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب -رحمه الله تعالى- حكوا الإجماع على التوقف، والمنع من الاستدلال بالعام، حتى يبحث عن المخصص. وحكاية الإجماع هذه مردودة بما هو مسطور في كتب أصول الفقه التي تحكي الخلاف الكبير في المسألة. راجع: أصول السرخسي "1/132"، وفواتح الرحموت مع مسلم الثبوت "1/267"، ونهاية السول "2/403"، وفواتح الرحموت "1/267". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 والجواب: أنا قد بينا أن الأصل عدم القرينة، وأن الظاهر تجرده، ولأن هذا يلزم عليه الأعداد وغيرها من أسماء الحقائق، ويلزم عليه الزمان؛ فإن هذا الاحتمال موجود فيه من الوجه الذي ذكرنا، ومع هذا يجب العمل بعمومه؛ فبطل هذا. واحتج: بأن من سمع قول الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1، لا يخلو إما أن يقول: يلزمه أن يعتقد عمومه، فأمره باعتقاد خلق القرآن وهذا اعتقاد باطل، وإن قال: انظر في الدلالة، فقد ترك قوله. والجواب: أن هذا الظاهر مع قرينة ظاهرة من جهة العقل؛ يمتنع اعتقاد عمومه في خلق القرآن وصفات الله تعالى؛ فلهذا لم يجز حمله على عمومه، وخلافنا في عموم خلا عن دلالة ظاهرة عقلًا أو شرعًا. وأما أصحاب أبي حنيفة2؛ فإنهم اعتمدوا في الفرق بين أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره؛ فإنه يجوز أن يكون في أدلة الشرع ما يمنع العموم، فلهذا يوقف حتى ينظر، وإذا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه بيان الحكم، [و] لو كان في الشرع ما يمنع حمل اللفظ على العموم لبينه حال خطابه3. والجواب: أنه يجوز تأخير البيان عندنا.   1 "62" سورة الزمر، والآية في الأصل: {واللَّهُ خَالِقُ..} ، بإثبات الواو، وهو خطأ، والصواب حذفها متابعة لما في المصحف الشريف. 2 هنا تسامح في التعبير؛ وإلا فهذا الرأي لبعض أصحاب أبي حنيفة، وقد سبق للمؤلف قريبًا أن حكى هذا الرأي عن الجرجاني. 3 الذي استقر الأمر عليه من مذهب الحنفية في هذه المسألة هو: القول بوجوب العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص. صرح بهذا صاحب "فواتح الرحموت": "1/267". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 مسألة العموم إذا دخله التخصيص فهو حقيقة فيما بقي مدخل ... مسألة 1 العموم إذا دخله التخصيص؛ فهو حقيقة فيما بقي ويستدل به فيما خلا المخصوص. وكلام أحمد رحمه الله يدل على هذا؛ لأنه احتج فيمن ابتاع عبدًا أو أمة واستعملت ثم ظهر على عيب، أنه يرده، ويمسك الغلة2؛ لقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان" 3،   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"115-116"، و"روضة الناظر" ص"124-125". 2 الرد وإمساك الغلة واضح في العبد وفي الأمة في غير النكاح. أما في النكاح فلا يخلو الأمر من حالين: أولاهما: أن تكون الأمة ثيبًا، فوطئها المشتري قبل العلم بالعيب؛ فله ردها، وليس معها شيء وفي رواية أخرى لا يجوز الرد. وذهب بعض العلماء: إلى جواز ردها، ومعها أرش، واختلفوا في تقدير الأرش. فعن أحمد: لها مهر المثل، ذكره ابن أبي موسى عنه. ثانيهما: أن تكون الأمة بكرًا، فوطئها المشتري قبل العلم بالعيب؛ فهناك عن أحمد روايتان: الأولى: أنه لا يجوز له الرد، وله أخذ أرش العيب، وهو الصحيح عند الإمام أحمد كما قال ابن أبي موسى. الثانية: يجوز له ردها، ومعها شيء، وهو: ما نقص من قيمتها بسبب الوطء. انتهى ملخصًا من "المغني" لابن قدامة "4/131-133". 3 هذا الحديث روته عائشة رضي الله عنها مرفوعًا، أخرجه أبو داود في كتاب البيوع باب فيمن اشترى عبدًا، فاستعمله، ثم وجد به عيبًا "1/254"، بمثل لفظ المؤلف. وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء فيمن يشتري العبد، ويستغله؛ لم يجد به عيبًا؛ "3/572-573"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح"، ولفظه: "قضى أن الخراج بالضمان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 وهو مخصوص بلبن المصراة1، فإنه إذا ردها رد قيمة   = وأخرجه النسائي في كتاب البيوع باب الخراج بالضمان "7/223"، بمثل لفظ الترمذي. وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات باب الخراج بالضمان "2/754"، بمثل لفظ المؤلف، وبلفظ: "قضى أن خراج العهد بضمانه" الذي سيذكره المؤلف بعد قليل. وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده": "6/49، 208، 237". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب البيوع باب ما جاء في بيع الرقيق، وأن الكسب الحادث لا يمنع الرد بالعيب، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان": "1/164". وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب البيوع باب بيع المصراة "4/21-22". وأخرجه ابن حبان، كما نقل ذلك الهيثمي في كتابه: "موارد الضمان إلى زوائد ابن حبان"، في كتاب البيوع باب الخراج بالضمان ص"275". وقد تكلم ابن حجر على إسناد هذا الحديث في كتابه: "تلخيص الحبير": "3/22"، وذكر: أن ابن القطان صححه، كما نقل عن ابن حزم قوله: "لا يصح". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي "3/503"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"456"، و"كشف الخفاء": "1/451-452"، و"تيسير الوصول إلى جامع الأصول": "1/75-76". 1 "التصرية" في اللغة مأخوذة من "الصري"، وهو الحبس، ومنه المصراة، وهي التي حبس لبنها في ضرعها. انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري "2/293"، و"المصباح المنير": "1/518-519". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 اللبن1، وإن كانت مضمونة عليه. فقال في رواية عبد الله: حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن خراج العبد بضمانه"2، أذهب إليه، في العبد له وجهه، وفي المصراة له وجهه، لهذا وجه، ولهذا وجه. واحتج أيضًا بحديث حكيم بن حزام3 "في بيع ما ليس عنده" وهو مخصوص بالسلم. قال رحمه الله في رواية الميموني: لو ضربت بعضها ببعض رددت أحدهما؛ حكيم ببيع شيئًا حاضرًا، والسلم يبيع بصفة. واحتج: أيضًا رحمه الله بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر   1 قيمة اللبن: صاع من تمر، كما جاء في الحديث: "إن شاء ردها وصاعًا من تمر". وذهب قوم إلى: أنه يرد صاعًا من غالب قوت البلد؛ لأن التنصيص على التمر في الحديث؛ لأنه غالب قوت أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وذهب فريق ثالث: إلى أن اللبن يقوم كسائر المتلفات. راجع في هذا: "المغني" لابن قدامة "4/123". 2 هذه رواية من روايات حديث: "الخراج بالضمان"، بل هي رواية ابن ماجه، وقد سبق التنبيه على ذلك في الحديث المذكور. 3 هو: حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد.. القرشي الأسدي، أبو خالد من أشراف قريش جاهلية وإسلامًا. أسلم في الفتح. اشتهر بالفضل والتقى، ولد بالكعبة قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، أو اثنتى عشرة سنة. ومات بالمدينة سنة 54هـ وعمره 120 سنة. انظر ترجمته في "الاستيعاب": "1/362"، و "الإصابة" القسم الثاني ص"112" طبعة دار نهضة مصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس1" وهو مخصوص عنده بالفوائت2، وبركعتي الطواف3 والصلاة على الجنازة4،   1 أحاديث النهي عن الصلاة في هذين الوقتين رواها كثير من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وأبو سعيد الخدري، وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم. وقد أخرج ذلك البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس "1/143". وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها "1/566-567". وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الصلاة بعد العصر وبعد الفجر "1/434-344". وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة "1/293-294". وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر "1/395-396". وأخرجه النسائي في كتاب المواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد الصبح، وباب النهي عن الصلاة بعد العصر "1/222-223". وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة باب النهي عن الصلاة بعد صلاتي الصبح والعصر "1/75". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير" للمناوي "6/318"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"204"، و "نصب الراية": "1/252". 2 هكذا هو في كتاب: "المغني" لابن قدامة "2/90"، وبه أخذ النخعي والشعبي وحماد والأوزاعي وابن المنذر وأبو ثور وإسحاق. 3 هو كذلك في "المغني" لابن قدامة "2/91"، وقد فعله ابن عمرو وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم. وبه قال عطاء وأبو ثور وجماعة. 4 الصلاة على الجنازة في الأوقات المنهي عنها على قسمين: القسم الأول: متفق عليه، وهو: الصلاة على الجنازة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 وإعادة الصلاة في الجماعة1. وقد صرح بذلك رضي الله عنه في رواية حنبل وصالح فقال: [73/ب] "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"، والنهي من النبي جملة، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها" وقال: "من أدرك من صلاة العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدركها" 2؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد   = وبعد العصر حتى تغرب الشمس؛ حكاه ابن المنذر إجماعًا، وقال ابن قدامة: لا خلاف فيه. القسم الثاني: مختلف فيه، وهو: الصلاة عليها حين بزوغ الشمس حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب. ففي الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات الثلاثة خلاف، وعن أحمد روايتان: إحداهما: لا تجوز الصلاة، واختارها القاضي أبو يعلى، وهي المذهب. الثانية: تجوز الصلاة؛ حكاها أبو الخطاب. راجع في هذا: "المغني" لابن قدامة "2/91-92". 1 إعادة الصلاة في الجماعة جائز عند الإمام أحمد رحمه الله، واختار ذلك الخرقي، حيث أطلق الكلام في ذلك. واشترط أبو يعلى: أن تكون الجماعة مع إمام الحي. انظر: "المغني" لابن قدامة "2/92". 2 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة "1/143". وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة "1/424". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس "1/353-354"، وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت صلاة العصر "1/98". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة باب وقت الصلاة في العذر والضرورة = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 العصر، يستعمل كل خبر منها على وجهه، ولا يضرب أحدهما بالآخر؛ فلهذا وجه لا يبتدأ بصلاة بعد العصر متطوعًا بها، ولو أدرك صلاة فائتة، صلاها بعد العصر، لقوله: "من نام عن صلاة أو نسيها"، فقد صرح بالأخذ بالنهي، مع حصول التخصيص فيه. وبهذا قال أصحاب الشافعي1. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فحكى أبو عبد الله الجرجاني في كتابه عن عيسى بن أبان: أنه مجاز   = 1/229. وأخرجه عنه النسائي في كتاب المواقيت، باب من أدرك ركعتين من العصر، "1/205-206". وقد أخرجه بمثل لفظ الجماعة بتعيين ركعة واحد في صلاة الصبح، ومثلها في صلاة العصر، غير أنه ساق رواية أخرى بلفظ: "من أدرك ركعتين من صلاة العصر، قبل أن تغرب الشمس أو ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك". وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصبح أو العصر قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها؛ فقد أدركها "1/74". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"101"، و "نصب الراية": "1/228-229". 1 ليس هذا قول كل أصحاب الشافعي، بل هو قول أكثرهم، كما عبر الجلال، أو كثير منهم، كما عبر الآمدي، وقد اختار البيضاوي وابن الحاجب: أنه مجاز. راجع: "حاشية البناني مع شرح جمع الجوامع": "2/5-6"، و "نهاية السول شرح منهاج الأصول": "2/394-395"، و "الإحكام" للآمدي: "2/209-210". ونقل الغزالي في كتابه: "المنخول" ص"153"، عن الإمام الشافعي في العام إذا دخله التخصيص "أنه حقيقة في الباقي، يجب العمل به". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 ويمنع من التعلق بظاهره، ولم يفصل بين الدليل المتصل وغيره1. وحكي عن أبي الحسن الكرخي أنه كان يقول: يصير مجازًا إذا كان المخصص له منفصلًا، ولا يوجب ذلك إذا كان متصلًا. وحكي عن أبي بكر الرازي: أنه حقيقة فيما بقي، إذا كان الباقي جمعًا في الحقيقة2. وحكي عن المعتزلة والأشعرية: أنه يصير مجازًا، ولا يحتج به3؛ وإنما يصح هذا على قول الأشعرية، إذا علم أن العموم غير مراد؛ لأن عندهم: لا صيغة للعموم4.   1 بل روي عنه مفصلًا، حيث قال: إن خص بمتصل غير مستقل، فهو حجة، وإلا فلا. راجع: "فواتح الرحموت": "1/308". وقد رأيت في "فواتح الرحموت": "1/311": أن الحنفية لا خلاف بينهم في أن العام المقرون بشرط أو صفة أو غاية أو استثناء ليس مجازًا. وعلى هذا يبقى خلافهم مع المذاهب الأخرى فيما لو خص بمنفصل. 2 هكذا نقل عنه الآمدي في "الإحكام" "2/209"، و "فواتح الرحموت": "1/311"، وكذلك "المسودة" ص"116". إلا أن صاحب فواتح الرحموت نقل عنه رأيًا آخر، محصله: أن العام المخصص حقيقة إن بقي غير منحصر، وبين بعد ذلك: أن الرأي الأول هو الذي نقله الحنفية عنه، وهم أدرى بأقواله. 3 ليس هذا مذهب المعتزلة كلهم؛ بل مذهب كثير منهم، فقد ذهب أبو الحسن البصري إلى غير هذا، كما نقل عن عبد الجبار خلاف ما هنا، كما سيأتي. 4 المؤلف هنا خلط بين مسألتين: الأولى: هل العلام بعد التخصيص حقيقة أو مجازًا؟ الثانية: هل العام بعد التخصيص حجة أو لا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 ............................................................................................................   = وقد ذكر المؤلف في المسألة الأولى أربعة آراء: 1- حقيقة مطلقًا. 2- مجاز مطلقًا. 3- حقيقة إن خص بمتصل، مجاز إن خص بمنفصل. 4- حقيقة إذا كان الباقي جميعًا. وهناك أربعة آراء، لم يذكرها المؤلف هي: 1- إن خص العام بدليل لفظي هو حقيقة، وإلا فلا. 2- إن خص العام بشرط أو صفة؛ فهو حقيقة؛ وإلا فلا، وهو للقاضي عبد الجبار من المعتزلة. 3- يكون حقيقة في الباقي، مجاز في الاقتصار عليه. 4- إذا خص العام بدليل متصل، من شرط أو استثناء؛ فهو حقيقة، وإلا فلا، وهو منسوب للقاضي أبي بكر. أما المسألة الثانية وهي: هل العموم حجة بعد التخصيص أو لا؟ فالكلام في مقامين: المقام الأول: إذا خص العام بمبهم، فقد نقل الآمدي الاتفاق على عدم الاحتجاج به. وتعقب بأن هناك خلافًا، وقد نقله ابن برهان، ورجح كونه حجة. المقام الثاني: إذا خص بمعين، وهذا فيه آراء ثلاثة: 1- حجة مطلقًا، وهو منسوب للفقهاء، واختاره القاضي أبو يعلى كما هنا، كما اختاره أبو الخطاب. 2- غير حجة مطلقًا، وهو منسوب لعيسى بن أبان وأبي ثور. 3- التفصيل، والمفصلون لهم آراء كثيرة، أشهرها: أ- حجة إن خص بمتصل، وهو منسوب للكرخي. ب- حجة إن لم يمتنع المخصص من تعلق الحكم بالاسم العام، وإليه مال أبو الحسن البصري. ج- حجة في أقل الجمع. راجع في هذا: "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/282-294"، و"الإحكام" للآمدي "2/209"، و"فواتح الرحموت": "1/311"، و"حاشية البناني مع شرح جمع الجوامع": "2/6-7"، و"المسودة" ص"116". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 فالدلالة على أنه حقيقة في الباقي: ما روي أن فاطمة رضي الله عنها احتجت بقول الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 1؛ فلم ينكر أحد احتجاجها بهذه الآية2، وإن كان قد خص منها: الولد الكافر، والرقيق، والقاتل؛ وإنما خصوا منها ميراث النبي صلى الله عليه وسلم بسنة خاصة3، فدل على أن تخصيص العموم لا يمنع من الاحتجاج به فيما لم يخص منه. وكذلك روي عن عثمان وعلي رضي الله عنهما: أنهما قالا في الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية4، وحرمتهما آية5، وكل واحدة من الآيتين دخلها التخصيص6.   1 "11" سورة النساء. 2 سبق تخريج هذا الأثر عن فاطمة رضي الله عنه ص"493". 3 وذلك ما رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث؛ ما تركناه صدقة"، متفق عليه، وقد سبق تخريجه. 4 يشير إلى قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} الآية، كما ذهب إليه القرطبي في "تفسيره": "5/117"، وقال الجصاص: المراد قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال ذلك في كتابه: "أحكام القرآن": "3/74". 5 يشير إلى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ... إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} الآية. 6 هذا الأثر نسب إلى عثمان رضي الله عنه، وفيه لما سئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين قال: "لا آمرك، ولا أنهاك، أحلتهما آية، وحرمتهما آية". وقد روى الشعبي عن علي رضي الله عنه قوله: "أحلتهما آية، وحرمتهما آية، والتحريم أولى". كما روي عنه أنه لما سئل عن قوله: "أحلتهما آية، وحرمتهما آية"، قال: "كذبوا". وهذا كما قال الجصاص: "محمول على نفي المساواة في مقتضى الآيتين". وكون حرمتهما آية، وأحلتهما آية: إنما هو في الظاهر؛ وإلا فلا يمكن بحال أن يجتمع في محل واحد التحليل والتحريم. ويمكن أن يحمل عليه قول علي رضي الله عنه: "كذبوا"، كما أشار إليه الجصاص. ونقل هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه. راجع في هذا: "تفسير القرطبي": "5/117"، و"أحكام القرآن" للجصاص "3/74-75". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 وأيضًا فإن اللفظ فيما عدا الخصوص حقيقة؛ لأن اسم المشركين يقع حقيقة على من بقي بعد التخصيص؛ فوجب أن تكون دلالة اللفظ قائمة بعد التخصيص، كهي قبل التخصيص. وقيل: بأن دلالة اللفظ سقطت فيما عارضه، وهي فيما عداه باقية؛ لأنه لا معارض فيه؛ فجاز الاحتجاج به. ولا يلزم على هذا العلة إذا خصت، أنه لا يجوز الاحتجاج بها؛ لأنها إذا خصت؛ كانت منتقضة، ولم تكن علة، كذلك الحكم، وليس كذلك العموم؛ فإنه إذا خص منه شيء كانت دلالته باقية، فيما لم يخص منه لأنه إنما كان دليلًا في جميع ما تناوله الخبر؛ لكونه قولًا لصاحب الشريعة، لا معارض، وهذا موجود فيما لم يخص منه. [74/أ] وأيضًا: فإن دلالة التخصيص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة؛ فلما كان الاستثناء غير مانع من بقاء دلالة اللفظ فيما بقي، وصارت الجملة مع الاستثناء عبارة عن الباقي بالاتفاق، كذلك لفظ العموم، يصير مع دلالة التخصيص عبارة عما عدا الخصوص. فإن قيل: إنما كان كذلك في الاستثناء؛ لأن الاستثناء يصير مع الجملة عبارة عن الباقي؛ لأن التسعة لها اسمان: أحدهما تسعة، والآخر عشرة إلا واحدًا؛ فأيهما عبر عنهما؛ كان الاسم حقيقة فيها، كما أنه لا فرق بين أن يقول: اثنان، وبين أن يقول: واحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 وواحد، في أن العبارتين تفيدان معنى واحدًا، وكذلك: دلالة التخصيص إذا كانت مقارنة، ويفارق المنفصل؛ لأنه لا يجعل كالمتصل، كما لم يفعل ذلك في الاستثناء. قيل: وكذلك التخصيص المنفصل يصير مع الجملة عبارة عن الباقي، كالتخصيص المتصل، ولا فرق بينهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن اللفظ صار مستعملًا في غير ما وقع له؛ فاحتاج إلى دليل يدل على أن المراد به بمنزلة المجمل الذي لا يدل على المراد بلفظه، يحتاج إلى قرينة تفسره وتدل على المراد به. والجواب: أنا لا نسلم أنه يستعمل في غير ما وضع له؛ لأن هذا اللفظ موضوع للعموم بمجرده، وللخصوص بقرينة، وهذا غير ممتنع في اللغة، ألا ترى أنا أجمعنا: أنه موضوع بمجرده للعموم، وللخصوص بقرينة متصلة به، مثل الاستثناء، وكذلك يقول القائل: خرج زيد، فيكون إخبارًا عن خروجه، ويضم إليه "ما" فيكون إخبارًا عن ضده، وتضيف إليه ألفًا، فيكون استفهامًا، وذلك حقيقة، كذلك في مسألتنا. فإن قيل: هذا يؤدي إلى أن لا يكون في اللغة مجاز، ويقال: قولنا: "بحر"، موضوع للماء الكثير بمجرده، وللعالم أو الجواد بقرينة، وكذلك: "الأسد"، موضوع للبهيمة بمجرده، وللرجل الشديد بقرينة، و "الحمار" موضوع للبهيمة بمجرده، وللبليد بقرينة. قيل: إن لزمنا هذا في التخصيص؛ لزمك في الاستثناء، فإن المخالف يقول في الاسثتناء ما نقول نحن في التخصيص. وجواب آخر وهو: أن هذه المواضع أثبتناها مجازًا بالتوقيف من جهة أهل اللغة؛ فليس في تخصيص العموم أنه مجاز توقيف، ولا يشبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 هذا المجمل؛ لأن المجمل غير دال بلفظه على شيء، والعموم دال على ما تناوله؛ وإنما خرج بعضه بدليل أقوى منه، وبقي الباقي على موجب اللفظ. ولا يشبه هذا استعمال اللفظ في الرجل الشجاع سبعًا، والبليد حمارًا، أنه مجاز؛ لأنه عدل باللفظ عما وضع له في أصل اللغة، وههنا لم يعدل باللفظ فيما بقي عما وضع له؛ لأن اسم المشركين حقيقة [74/ب] فيما بقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 مسألة يجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد مدخل ... مسألة 1: يجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد 2 خلافًا لأبي بكر الرازي، فيما حكاه الجرجاني عنه وأبي بكر القفال   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"116-117"، و"روضة الناظر" ص"125"، و"شرح الكوكب المنير" ص"181". 2 قال أبو البقاء الفتوحي: "وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وأصحابه، ونقل عن ابن مفلح قوله: "يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد عن أصحابنا". وقد اختاره ابن قدامة. وبهذا قال مالك فيما حكاه عنه القاضي عبد الوهاب. وبه قال بعض الشافعية، واختاره منهم: أبو إسحاق الشيرازي، وهو مختار الحنفية. راجع في هذا: "شرح الكوكب المنير" ص"181"، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص"224"، و"شرح الجلال على جمع الجوامع": "2/3"، و"اللمع" للشيرازي ص"17"، و"فواتح الرحموت على مسلم الثبوت": "1/306"، و"روضة الناظر" ص"125". ويلاحظ: أن القاضي هنا اختار القول بتخصيص العموم إلى أن يبقى واحد. ولكن في "المسودة" ص"117" نقل عنه قوله في "الكفاية": "إنه لا يجوز تخصيص جميع ألفاظ العموم؛ إلا أن يبقى كثرة، وإن لم يقدر؛ إلا أن تستعمل في الواحد على سبيل التعظيم". وكذلك نسب أبو البقاء هذا الرأي إليه، وذلك في كتابه: "شرح الكوكب المنير" ص"181". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 في قولهما: يجوز تخصيص لفظ الجمع، إذا كان الباقي جمعًا في الحقيقة، ولا يجوز النقصان منه إلا بما يجوز به النسخ1.   1 بقي بعض الآراء في المسألة لم يذكرها المؤلف، وهي: أ- يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد، إن لم يكن لفظ العام جمعًا. واختاره عبد الوهاب بن السبكي في كتابه "جمع الجوامع". ب- وقيل: يجوز إلى أقل الجمع. واختلف في أقل الجمع؛ فقيل: ثلاثة، وقيل: اثنان. ج- وقيل: يجوز إلى أن يبقى قريب من مدلول اللفظ العام قبل التخصيص، وبه قال ابن حمدان من الحنابلة. د- وقيل: يجوز تخصيصه إلى أن يبقى كثرة، وإن لم تقدر، وبه قال أبو يعلى في كتابه "الكفاية". هـ- وقيل: يجوز إلى أن يبقى أفراد العالم بعد التخصيص غير محصورة. و وقيل: يجوز تخصيصه إلى الأكثر، وفسر الأكثر بالزائد على النصف. راجع في هذا: "شرح الكوكب المنير" ص"181"، و"المسودة" ص"117"، و"شرح الجلال على جمع الجوامع": "3/2"، و"فواتح الرحموت على مسلم الثبوت": "306/1". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 من عبيد أو دواب فهو لفلان إلا كذا وكذا، حتى يبقى واحد. ولأن القرينة المتصلة بمنزلة المنفصلة؛ لأن كلام صاحب الشريعة، وإن تفرق؛ فإنه يجب ضم بعضه إلى بعض، وبناء بعضها على بعض؛ فإذا كان كذلك وكان المتصل صحيحًا ما بقي من اللفظ شيء، كذلك التخصيص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن لفظ الجمع موضوع للثلاثة فصاعدًا؛ فإخراج اللفظ عن الثلاثة إخراج عن موضوعه وترك الحقيقة، وهذا لا يجوز إلا بما يجوز به النسخ، ويكون بمنزلة إسقاط حكم جميع اللفظ. والجواب: أنه يجوز عندنا ترك حقيقة اللفظ وصرفه إلى المجاز والاتساع بما يجوز التخصيص به، ولا يكون بمنزلة النسخ؛ وإنما يكون بمنزلة التخصيص، ولهذا نقول في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 1، إن المراد به: موضع الصلاة2، ونحمله على المجاز بضرب من الاستدلال. وعلى أنه إذا وجب بناء بعض كلامه على بعض، وجب أن تكون   1 "43" سورة النساء. 2 هذا أحد الآراء، وقد اختاره ابن عباس وابن مسعود، وبه قال الإمام الشافعي، ويكون الكلام على تقدير مضاف، أي: لا تقربوا مواضع الصلاة، وذلك سائغ في لغة العرب، وقد جاء في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} ، والمعنى: مواضع صلوات، التي هي المساجد. وذهب فريق ثانٍ إلى أن المراد بالآية: الصلاة نفسها. وذهب فريق ثالث إلى أن المراد بالآية: الصلاة وموضعها، لما بينهما من الملازمة. راجع: "تفسير القرطبي": "5/202"، و"تفسير الفخر الرازي": "10/102-103". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 القرينة المنفصلة بمنزلة المتصلة، وتكون بمنزلة الاستثناء؛ فلا يكون ذلك تركًا لموضوع اللفظ وحقيقته. فإن قيل: أليس من مذهبكم: أنه لا يجوز رفع الأكثر بالاستنثاء وكذلك لا يجوز في التخصيص؟ قيل: هذا لا يصح على أصل المخالف؛ لأنه يجوز الاستثناء ما بقي من اللفظ شيء، وأما على أصلنا؛ فلا يعتبر أن يبقى لفظ الجمع؛ لأنه لو قال: له علي عشرة إلا ستة؛ فقد1 بقي لفظ الجمع وزيادة، ولا نجيزه؛ وإنما امتنع أن يرفع بالاستثناء الأكثر أن الاستثناء لغة، وأهل اللغة منعوا من استثناء الأكثر. وسنبين ذلك في مسائل الاستثناء إن شاء الله تعالى2؛ فأما في تخصيص العموم؛ فلم يُرَ عنهم منع ذلك. وجواب آخر وهو: أن التخصيص أوسع؛ لأنه يصح منفصلًا ومتصلًا، والاستثناء لا يكون إلا متصلًا؛ ولأن التخصيص من جنس ما يرفع الجملة، وهو النسخ؛ لأن التخصيص هو تخصيص الأعيان، والنسخ تخصيص الزمان، وليس من جنس الاستثناء ما يرفع [75/أ] الجملة.   1 في الأصل "قد". 2 وذلك ص"659-683". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 مسألة يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل مدخل ... مسألة 1: يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل نحو قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2، ومعلوم أنه لم   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة": "118-119"، و"روضة الناظر" ص"127"، و"شرح الكوكب المنير" ص"182-183". 2 "62" سورة الزمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 يخلق نفسه، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 1، ولم يدخل تحته الصبيان والمجانين. وقد تكلم الإمام أحمد رحمه الله فيما خرجه في محبسه على قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 2 فقال: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، ليس فيها من عظم الرب شيء، أحشاؤكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والوشي والأماكن القذرة، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 3. فقد عارض الظاهر بالعقل والشرع، وهو قول أكثر أهل العلم، وقال قوم: لا يجوز ذلك4. دليلنا: أنه يفضي بنا العلم، كالكتاب والسنة المتواتر والإجماع؛ فلما جاز تخصيص العموم بالكتاب والسنة والإجماع، كذلك يجوز تخصيصه بدليل العقل.   1 "21" سورة البقرة. 2 "3" سورة الأنعام. 3 "16" سورة الملك. 4 ونسبه الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/267" إلى طائفة شاذة من المتكلمين، ومما يجدر ذكره: أن الإمام الشافعي رحمه الله، لم يسمه تخصيصًا؛ لأن ما خصصه العقل لا يشمله حكم العام عنده. وعلى هذا فالخلاف بينه وبين الجمهور لفظي؛ لأن ما خصصه العقل عند الجمهور لا يدخل تحت لفظ العام عند الشافعي حتى يحتاج إلى تخصيص. انظر: "الرسالة" ص"33"، و "شرح الجلال على جمع الجوامع": "2/24-25". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لو جاز تخصيص العموم بالعقل؛ لجاز نسخه بذلك، كما أن الكتاب والسنة والإجماع لما جاز التخصيص بها جاز النسخ بها. والجواب: أن القياس يخصص به، ولا ينسخ، وكذلك الإجماع، وعلى أن النسخ إنما لم يجز بالعقل؛ لأن النسخ بيان مدة الحكم، والعقل يجوز بقاء الحكم من غير زوال؛ فلا يجوز أن يكون له تأثير في إزالة ما يجوز بقاؤه، وليس كذلك التخصيص؛ لأنه بيان مراد المخاطب، وهذا المعنى يصح ثبوته بدليل العقل، ألا ترى أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} 1، وكان مخصوصًا في المكلفين، دون الأطفال والمجانين، وكان خصوصه معلومًا بدليل العقل. وجواب آخر وهو: أن دليل العقل له تأثير فيما هو في معنى النسخ، وإن لم يسم نسخا؛ لأن معنى النسخ هو المنع من أن يلزم في المستقبل، مثل ما كان لازمًا فيما مضى من الوقت، وهذا يثبت بدليل العقل، ألا ترى أن دليل العقل يمنع من لزوم الفرض عند العجز عنه، كما يمنع من ذلك دلالة السمع، إلا أن ذلك لا يطلق عليه اسم النسخ؛ لأن اسم النسخ يختص بما كان ثابتًا من جهة السمع دون العقل، ألا ترى أن فرض التوجه إلى بيت المقدس، لما كان ثابتًا من جهة السمع؛ كان زواله نسخًا؟ وأن إباحة شرب الخمر، لما لم تكن ثابتة من جهة السمع، لكن من جهة العقل؛ لم يسم زوالها نسخًا؛ فإذا كان كذلك، وكان سقوط التكليف بدلالة العقل غير ثابت من جهة السمع؛ لم يكن نسخًا، ولم تجر عليه هذه التسمية، وإن كانت تجري عليه لو كان [75/ب] متعلقًا بدلالة من جهة السمع.   1 "1" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 واحتج بأن دلالة العقل مقدمة على العموم، والتخصيص إنما يكون بما يقارب العموم أو يتأخر عنه. والجواب: أنه يجوز أن يتقدم دليل الخطاب على العموم؛ لأن الدليل يجوز أن يتقدم عن مدلوله1؛ ألا ترى أن الدليل قد دل على أن الله يثيب المؤمنين بالجنة، ويعاقب الكفار بالنار؟ وإن كان مدلول هذا الدليل متأخرًا عن دليله، كذلك لا ينكر أن يسبق دلالة التخصيص لفظ العموم. واحتج بأن التخصيص بمنزلة الاستثناء، ثم لا يجوز أن يتقدم الاستثناء الجملة، كذلك دليل التخصيص. والجواب: أن تقدم الاستثناء لا يفيد شيئًا، ألا ترى أنه لو قال: "زيدًا"؛ لم يكن لهذا الكلام معنى؟ وأما التخصيص فإن انفراده قد يكون مفيدًا؛ ألا ترى أنه لو قال: خطابي إنما يتناول العقلاء دون الأطفال والمجانين؛ لكان هذا كلامًا مفيدًا، كذلك إذا تقدمت دلالة العقل على هذا المعنى، ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 2 كان ذلك مخصوصًا بالعقلاء، بدلالة العقل السابقة للخطاب، وهكذا كل عموم هذه صفته؛ فإن دليل العقل يكون مخصصًا، لمنع كونه متقدمًا عليه.   1 في الأصل: "من أوله". 2 "21" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 مسألة يجوز تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد مدخل ... مسألة 1: يجوز تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد سواء كان العموم قد   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"119"، و"روضة الناظر" ص"127-129"، و"شرح الكوكب المنير" ص"205-206". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 دخله التخصيص، أو لم يدخله. نص على هذا رحمه الله في رواية عبد الله في الآية إذا كانت عامة، ينظر ما جاءت به السنة؛ فتكون السنة هي دليلًا على ظاهر الآية، مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 1؛ فلو كانت الآية على ظاهرها؛ ورث كل من وقع عليه اسم ولد، وإن كان يهوديًا أو نصرانيًا أو عبدًا أو قاتلًا؛ فلما جاءت السنة أنه لا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلمًا، ولا يرث قاتل ولا عبد؛ كانت هي دليلًا على ما أراد الله تعالى من ذلك، ونحو هذا قال في رواية [أبي] عبد الرحيم الجوزجاني. وهو قول أصحاب الشافعي2. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان العموم قد دخله التخصيص بالاتفاق3؛ جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يكن دخله التخصيص؛ لم يجز تخصيصه بخبر الواحد4.   1 "11" سورة النساء. 2 وهذا القول نسبه الآمدي في كتابه "الإحكام": "301/2" إلى الأئمة الأربعة رحمهم الله، واختاره. وحكاه عبد الوهاب بن السبكي في "جمع الجوامع": "27/2" عن الجمهور، واختاره، كما حكاه القرافي في كتابه "شرح تنقيح الفصول" ص"208" عن المالكية والشافعي وأبي حنيفة. 3 وهو الذي خص بمقطوع؛ فإنه متفق على القول به. 4 راجع في هذا: "مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت": "1/349"، و"أصول السرخسي": "1/133، 142". وقد رأيت الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/301"، وابن السبكي في: "جمع الجوامع": "2/27-28" ذكرا عن الكرخي قوله: "إن خص العام بمنفصل؛ جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يخص أو خص بمتصل؛ فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 وذهب بعض المتكلمين إلى أنه لا يجوز التخصيص بخبر الواحد في الجملة1. فالدلالة على جوازه في الجملة: إجماع الصحابة، روي عنهم: أنهم خصوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} 2، بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها" ... الخبر. وقبلوا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل" 3 وخصوا به آية [76/أ] المواريث، ونظائر ذلك يطول [ذكره] ، وإذا انعقد إجماعهم على ذلك؛ لم يجز مخالفته. فإن قيل: فقد رد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث فاطمة بنت قيس4 لما روت: أن النبي صلى الله عليه وسلم "لم يجعل لها سكنى ولا نفقة"، وقال:   1 وهناك قول آخر، وهو: التوقف، وهو منسوب لأبي بكر الباقلاني. انظر المراجع الآنفة الذكر. 2 "24" سورة النساء. 3 هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه في كتاب العقول، باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه ص"540". وأخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في كتاب الديات، باب ديات الأعضاء 2/496. وأخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الفرائض، باب ميراث القاتل 2/913. 4 هي: فاطمة بنت قيس بن خالد الأكبر القرشية الفهرية. صحابية، من المهاجرات الأول، ذات عقل وكمال، في بيتها اجتمع أهل الشورى عند قتل عمر بن الخطاب، روى عنها جماعة منهم أبو سلمة والشعبي والنخعي. لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1901"، و"الإصابة": "8/164". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة1. قيل: عمر لم يمتنع من قبول هذا الخبر؛ لأنه يعارض الظاهر؛ لكن لم يتقبله؛ لأنه عارضه بغيره، فاعتقد خطأ فاطمة وسهوها في الرواية؛ يدل عليه: أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لعلها نسيت أو شبه لها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة" 2.   1 حديث عمر -رضي الله عنه- أخرجه عنه مسلم في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها "2/1118". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة "3/475". وأخرجه عند أبو داود في كتاب الطلاق، باب من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس "3/534". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطلاق، باب في المطلقة ثلاثًا لها السكنة والنفقة أم لا؟ "2/87". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطلاق والخلع "4/25". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "3/273". 2 حديث عمر -رضي الله عنه- رواه الشعبي، وقد حدث به في حضرة الأسود بن يزيد، فما كان من الأسود إلا أن أخذ كفًا من حصى، فحصب به الشعبي، وقال: له: "ويلك، تحدث بمثل هذا! قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ". هذا لفظ مسلم في: "صحيحه"، في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها "2/1118-1119". وكذلك أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها ولا سكنى "3/475-476"، وزاد فيه: "وكان عمر يجعل لها السكنى والنفقة". راجع أيضًا: المنتقى من أحاديث الأحكام ص"604"، ونصب الراية "3/273". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 وأجاب عنه أحمد رحمه الله في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: كان ذلك منه على [وجه] احتياط، وقد كان يقبل من غير واحد قوله وحده. مع أن هذا الخبر مطرح الظاهر؛ لأن السكنى مخصوصة في حق الصغيرة؛ فإنه لا سكنى لها، وخبر الواحد يخص به الظاهر المخصوص عند أبي حنيفة، فعلم أن الخبر مطرح الظاهر. فإن قيل: فقد قبلوا خبر الواحد فيما يوجب النسخ بدلالة: أن أهل قباء قبلوا قول المخبر الواحد بتحويل القبلة؛ فكان يجب أن يتبعوهم فيه، كما اتبعوهم في التخصيص بخبر الواحد. قيل: هكذا نقول: ونتبعهم في النسخ، كما فعلنا في التخصيص. وقد نص أحمد رضي الله عنه على هذا في رواية الفضل بن زياد وأبي الحارث في خبر الواحد إذا كان إسناده صحيحًا: وجب العمل به، ثم قال: أليس قصة القبلة حين حولت، أتاهم الخبر، وهم في الصلاة فتحولوا نحو الكعبة1؟   1 هذه القصة رواها البراء بن عازب رضي الله عنه. أخرجها عنه البخاري في كتاب الصلاة. باب التوجه نحو القبلة حيث كان "1/104-105"، وأخرجها عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة كما أخرجه عن ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهما "1/374-375". وأخرجها الترمذي عن البراء بن عازب في كتاب الصلاة، باب ما جاء في ابتداء القبلة "2/169-170". وأخرجها عنه النسائي في كتاب القبلة، باب استقبال القبلة "2/47". وأخرجها عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب القبلة "1/322". وأخرجها الطيالسي في: "مسنده"، في كتاب الصلاة، باب وجوب استقبال القبلة "1/85". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "1/305-306". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وخبر الخمر أهراقوها1، ولم ينتظروا غيره؛ فقد أخذ بخبر الواحد. واحتج: بقصة أهل قباء، وأن الصحابة أخذت بهذا الخبر، وإن كان فيه نسخ. وأيضًا: فإن خبر الواحد يجب العمل به، كما يجب بخبر التواتر، ثم ثبت أنه يجوز التخصيص بخبر التواتر للعموم، الذي دخله التخصيص والذي لم يدخله، كذلك خبر الواحد. فإن قيل: خبر التواتر يوجب العلم كالعموم؛ فلهذا جاز التخصيص به، وليس كذلك خبر الواحد؛ فإنه لا يوجب العلم. قيل: هذا المعنى لا يوجب الفرق بينهما في باب التخصيص، كما لم يوجب الفرق بينهما في باب العمل، ولأن خبر التواتر وإن أوجب العلم؛ فليس له رتبة العموم؛ لأن الكتاب ينفرد بأنه معجز، وخبر التواتر ليس كذلك. ولأن خبر الواحد وإن لم يوجب العلم؛ فإنه لا يرفع ما هو مقطوع به؛ لأن المقطوع به هو صيغة العموم، والخبر لا يرفعها؛ وإنما يخص ما تناوله [76/ب] من الحكم، وذلك غير مقطوع [به] ، بل يثبت بالتخصيص   1 هذا الخبر رواه أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وهي من البسر والتمر "7/136". وأخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر "3/1571". وأخرجه أبو داود في كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر "2/292". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "4/296". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 أنه لم يكن مرادًا بالعموم. وهذا معنى قول أحمد رضي الله عنه: "إنه دليل على ما أراد الله تعالى من ذلك". وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن لا يوجب العلم، ويزيل ما يوجب العلم، ألا ترى أن خبر الواحد مقبول فيما يقتضي العقل خلافه، مثل تحريم الربا وشرب الخمر، وما يجري لليقين، وخبر الواحد لا يوجب إلا غلبة الظن، وكذلك لو قال النبي: إن هذه الدار ملك لفلان، ثم قامت بعد ذلك بينة على أن زيدًا قد ملك الدار على فلان؛ فإنا نزيل ملكه الثابت من جهة اليقين، بالبينة التي لا توجب إلا غلبة الظن، كذلك ههنا. وأيضًا: فإن صيغة العموم معرضة للتخصيص ومحتملة له، وخبر الواحد غير محتمل؛ فجاز أن يقضي بغير المحتمل على المحتمل، كالمجمل وتفسيره؛ فإنه يقضي بتفسيره عليه، كذلك ههنا. وأيضًا: فإن خبر الواحد وإن لم يكن مقطوعًا به، فإنه يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وكذلك شهادة الشاهدين لا يقطع الحاكم بها، ولكن ثبتت بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع به جرى مجراه في العمل؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: إذا زالت الشمس فصليا ركعتين، وما أخبركم به فلان عني؛ فهو شرعي، فإن المقطوع به من قوله كالذي يخبر به عنه، وإن لم يكن مقطوعًا به، كذلك ههنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 حجة المخالف 1 ... واحتج المخالف: بأن الكتاب مقطوع عليه، وخبر الواحد محتمل؛ فلا يخص المقطوع به بأمر محتمل. والجواب عنه: ما تقدم من أن هذا لم يمنع العمل، ومن أن خبر التواتر ليس له رتبة الظاهر، ومع هذا جاز تخصيصه به، ومن أن هذا لا يمتنع -كما قلنا- في الأشياء التي ينتجها العقل، تطرح بخبر الواحد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 وبقول الشاهد، ومن أن الصيغة مقطوع عليها، ولسنا نرفعها؛ وإنما نخص ما تناولته من الحكم، وما تناولته1 من الحكم لا يقطع به أنه مراد؛ وإنما يخص ما كان محتملًا. وجواب آخر، وهو: أن السنة -وإن لم يكن مقطوعًا بها- فإن حكمها ثبت بأمر مقطوع به. واحتج: بأن الكتاب أقوى من السنة، بدليل أنهما لو تعارضا؛ أسقطنا الخبر للكتاب2، وإذا كان أقوى منه لم يخص القوي بالضعيف. والجواب: أنا لا نسقط الكتاب بالسنة، بل نستعمل كل واحد منهما، ولا يمتنع أن يجمع بين القوي وما هو دونه، ألا ترى أن خبر التواتر دون الكتاب؛ لأنه وإن كان كل واحد منهما مقطوعًا به؛ فإن الكتاب ينفرد بأنه معجز، ومع هذا يخص بخبر التواتر. وعلى أن هذا يبطل بما ذكرنا. وفيما ذكرنا دلالة على أصحاب أبي حنيفة في فرقهم بين العموم المخصوص والذي لم يخص؛ وذلك [77/أ] أن العموم الذي لم يخص، صيغته معرضة للتخصيص ومحتملة له، وخبر الواحد غير محتمل؛ فجاز أن يقضي به عليه، كخبر التواتر، وكالمجمل والمفسر. ولأن خبر الواحد وإن لم يكن مقطوعًا به؛ فإنه قد يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع جرى مجراه في العمل، كخبر   1 في الأصل: "تناوله". 2 وذلك إذا تكافئا في الدلالة، بأن كان كل منهما مقطوعًا به أو مظنونًا، أو كانت دلالة الكتاب مقطوعًا بها، والسنة ظنية الدلالة، أما إذا كانت السنة قطعية والكتاب ظنيًا؛ فإنه يقدم السنة على الكتاب في هذه الحالة، وذلك إذا لم يمكن الجمع بينهما، وهو ما أشار إليه المؤلف في جوابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 التواتر، وكما لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا زالت الشمس؛ فصلوا ركعتين، وما أخبركم به عني فلان؛ فهو شرعي؛ فإن المقطوع به من قوله كالذي يخبر به عنه وإن لم يكن مقطوعًا. ولأن ما جاز أن يزاد في تخصيص اللفظ به؛ جاز أن يبتدأ تخصيصه، قياسًا على اللفظ الخاص. ولأنه لما جاز أن يزاد في تخصيصه به لخصوصه ومنافاته لبعض ما شمله اللفظ العام، وهذا المعنى موجود في ابتداء التخصيص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 حجة المخالف2 ... واحتج المخالف: بأن العموم الذي لم يتفق على تخصيصه مقطوع فيما يتضمنه من المسميات؛ لأن صاحب الشريعة لو قال بخصوصه؛ لذكره مع لفظه، ولو ذكره لنقل، ويفارق هذا ما دخله التخصيص؛ لأنه غير مقطوع على ما تضمنه من المسميات؛ لأنه قد صار مجازًا فيما بقي، على قول جماعة من أهل العلم، وإذا كان مقطوعًا به؛ لم يجز أن يعترض عليه بما ليس بمقطوع به، كما لا يعترض عليه بالنسخ بخبر1 الواحد. والجواب: أنا لا نسلم أنه مقطوع [به] فيما يتضمنه من المسميات؛ لأنه محتمل للعموم وللخصوص، والخبر أخص منه؛ فهو مبين له. وقولهم: لو كان مخصوصًا لذكره مع لفظه غير صحيح؛ لأنه يجوز تأخير البيان عندنا. وأما نسخ الظاهر بخبر الواحد؛ فإنما لم يجز، لا لأجل أنه مقطوع عليه؛ ألا ترى أنه لا يجوز نسخه بخبر التواتر على أصلنا. وعلى أنه ليس إذا لم ينسخ به لم يخصص به، بدليل القياس مع خبر   1 في الأصل: "غير". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 الواحد يخصصه ولا ينسخه، وكذلك قول الصحابي. وعلى أن هذا يلزم عليه ما ذكرناه على الطائفة الأولى من تلك الوجوه كلها. وجواب آخر. وهو: التخصيص إزالة بعض الحكم، وجمع بين الدليلين، وليس كذلك النسخ؛ فإنه إزالة حكم جميع اللفظ وإسقاطه بخبر الواحد، وهذا لا يجوز. ولأن النسخ ابتداءه والزيادة فيه سواء، كذلك يجب أن تستوي الزيادة والابتداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 مسألة يجوز تخصيص العموم بالقياس مدخل ... مسألة 1: يجوز تخصيص العموم بالقياس 2 أومأ إليه الإمام أحمد رضي الله عنه في مواضع: فقال في رواية بكر بن محمد3: إذا قذفها بعد الثلاث، وله منها ولد، يريد نفيه، يلاعن، فقيل: أليس الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"120-122"، و"روضة الناظر" ص"130"، و"شرح الكوكب المنير" ص"209". 2 ينبغي تحرير محل النزاع هنا، فالقياس إذا كان قطعيًا؛ فإنه يجوز التخصيص به بلا خلاف. راجع في هذا: "نهاية السول": "2/463"، و"حاشية البناني": "2/29". وعليه فالخلاف الذي ذكره المؤلف؛ إنما هو في القياس الظني. 3 هو: بكر بن محمد، أبو أحمد، النسائي الأصل، البغدادي النشأة. من أصحاب الإمام أحمد المقربين إليه، الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/119". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 1، وهذه ليست بزوجة؟ فاحتج: بأن الرجل يطلق ثلاثًا، وهو مريض فترثه؛ لأنه فار من الميراث، وهذا فار من الولد2. فقد عارض الظاهر بضرب من القياس3. وكذلك قال -في رواية الأثرم في المرأة: تنفي بغير [77/ب] محرم؛ فقيل له: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" 4، فقال: هذا أمر قد لزمها، يسافر [بها] 5، فهم يقولون: لو وجب عليها حق، والقاضي على أيام رفعت إلى القاضي، ولو أصابت حدًا في البادية؛ جيء بها، حتى يقام عليها.   1 "6" سورة النور. 2 ذكرت هذه الرواية في "المسودة" ص"120-121". ومسألة: اللعان للزوجة المبتوتة، فصل القول فيها: الموفق ابن قدامة في كتابه "المغني": "7/12-13". 3 وجه استدلال المؤلف هذا، تعقب في "المسودة" ص"121"، بأنه ليس من قبيل تخصيص العموم بالقياس، بل من قبيل معارضة ظاهر المفهوم بالقياس؛ لأن تخصيص الحكم بالأزواج يقتضي نفيه عمن سواهم. 4 هذا الحديث رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب حج النساء "3/23". وأخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره "2/978". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب المرأة تحج بغير محرم "1/401". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب المرأة تحج بغير ولي "2/968". راجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير شرح الجامع الصغير": "6/398"، و"بلوغ المرام" ص"85"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"366"، و"نصب الراية": "3/11". 5 الزيادة من "المسودة" ص"112". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 وكذلك نقل أبو داود في رجل قال لامرأته: أنت طالق، ونوى ثلاثًا؛ فهي واحدة، فقيل1: إسحاق2 يقول: هي ثلاث، ويأخذ بالحديث: "الأعمال بالنيات" 3، فقال: ليس هذا من ذلك، أرأيت إن نوى أن يطلق امرأته ولم يتلفظ، أيكون طلاقًا؟!   1 هذا يشعر بأن القائل لما بعد قيل- أحد الناس، قال ذلك للإمام أحمد؛ بينما نجد أبا داود في "مسائله" عن الإمام أحمد ص"169" ينقل عن الإمام أحمد قوله: "ثم قال -أي الإمام أحمد- زعموا أن إسحاق يذهب إلى أنها ثلاث ... "؛ وهذا يفيد: أن القائل لما بعد "قيل" هو الإمام أحمد. 2 المقصود هو: إسحاق بن راهويه، كما جاء ذلك في مخطوطة المكتبة الظاهرية لمسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود، التي أثبت الفروق بينهما وبين مخطوطة المدينة المنورة للمسائل المذكورة للشيخ محمد بهجة البيطار، وذلك بهامش ص"169" من "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود. وهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد، الحنظلي، المروزي، أبو يعقوب، الثقة، الحافظ، المحدث الفقيه. رحل في طلب العلم إلى الحجاز واليمن والعراق وغيرها. من أصحاب الإمام أحمد المكرمين عنده، وممن نقل عنه. له مسند في الحديث، وله مسائل في الفقه؛ رواها إسحاق بن منصور المروزي مع مسائل للإمام أحمد، ولا زالت مخطوطة في المكتبة الظاهرية بدمشق. ولد ابن راهويه سنة 166هـ، ومات سنة 243هـ بنيسابور. انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ": "2/433"، "تهذيب التهذيب": "1/216"، و"الخلاصة" ص"22"، و"طبقات الحنابلة": "1/109"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/102"، و"ميزان الاعتدال": "1/182"، و"النجوم الزاهرة": "2/293". 3 سبق تخريج هذا الحديث ص"205" عند تخريجنا لجزء منه هو: "وإنما لامرئ ما نوى"؛ ولكن نحب هنا أن نبين أمرين يتعلقان بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات": الأول: أن المؤلف حذف كلمة "إنما"؛ ولكنها مثبتة في مسائل الإمام أحمد التي رواها أبو داود ص"169". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز فيما وجدته في بعض تعاليق أبي إسحاق بن شاقلا قال: ألزمني الشيخ -يعني أبا بكر- على أن الظاهر يخص بالقياس، أن الله تعالى قد نص على الإماء في قوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 1، والعبيد مقيسون عليهن2. قال أبو إسحاق: نظرت وإذا هذا ليس بحجة. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك، ولم يفرق بين عموم الكتاب والسنة وبين أخبار الآحاد أو التواتر، وربما ذهبوا إلى ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية الحسن بن ثواب3: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرده   = وبحذف أداة الحصر رواه الحكم في الأربعين، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في المعرفة، وهذا كافٍ في الرد على من زعم أن الحديث بحذف: "إنما" لم يصح إسناده. الثاني: أن كلمة "النية" جاءت مفردة ومجموعة، فقد جاءت مفردة في "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود في هامش ص"105" عن المخطوطة الظاهرية. وبالإفراد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وبالجمع رواها أبو داود وابن ماجه. راجع في هذا: المصادر التي ذكرناها في تخريج الحديث ص"123-124" ولا داعي لإعادته. 1 "25" سورة النساء. 2 العبارة في الأصل: "مقيسًا عليه"، والصواب "مقيسون عليهن"، كما أثبتناه. 3 هو الحسن بن ثواب، أبو علي، الثعلبي، الخرمي البغدادي، ثقة، من خاصة أصحاب الإمام أحمد المقدمين عنده. روى عن الإمام أحمد ويزيد بن هارون وغيرهما. وعنه عبد الله بن محمد المروزي وأبو بكر الخلال وغيرهما. مات سنة 268هـ. له ترجمة في" الإنصاف" للمرداوي "1/2842"، و"طبقات الحنابلة": "1/131-132"، و"المنتظم" لابن الجوزي "5/64". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 إلا مثله1. وقع إلي جزء فيه مسائل في أصول الفقه، إملاء أبي الحسن الجزري2، وذكره فيه هذه المسألة، وحكى فيها خلافًا بين أصحابنا. واختار أبو الحسن: أنه لا يجوز تخصيصه بالقياس، وذكر فيها كلامًا كثيرًا. وذكر أبو إسحاق في جزء وقع إلي من شرح الخرقي فقال: أصحابنا على وجهين: فمنهم من يرى تخصيص العلة، ومنهم من لا يرى ذلك. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان عمومًا دخله التخصيص باتفاق؛ جاز تخصيصه بالقياس، وإن لم يكن دخله؛ فالحكم في القياس عندهم، كالحكم في الخبر الواحد3. واختلف أصحاب الشافعي: فذهب الأكثر منهم إلى جواز ذلك على   1 هذه الرواية منقولة في "المسودة" بنصها ضمن ما نقل عن القاضي ص "120". 2 هو: أبو الحسن الجزري، البغدادي، الحنبلي، الفقيه، الأصولي، صحب أبا علي النجاد. له ترجمة فيه: "طبقات الحنابلة": "2/167". 3 راجع في تحقيق مذهب الحنفية: "تيسير التحرير": "1/321-326"، و"أصول السرخسي": "1/133-134"، و"فواتح الرحموت": "1/357-360". وقد رأيت صاحب "مسلم الثبوت": "1/357" نسب القول بجواز التخصيص إلى الأئمة الأربعة، بما فيهم الإمام أبو حنيفة، وكذلك السرخسي في أصوله "1/133" حكى القول بجواز التخصيص عن أكثر الحنفية. لكن الشيخ بخيت في حاشيته "سلم الوصول": "2/463"، ذكر أن القول عن أبي حنفية مقيد بما إذا خصص بغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 الإطلاق1، ومنهم من منع ذلك على الإطلاق2. فالدلالة على جوازه: ما تقدم من الكلام في المسألة التي قبلها، وهو: أن القياس وإن لم يكن معلومًا؛ فإنه يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع جرى مجراه في العمل، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: "إذا زالت الشمس، فصلوا ركعتين، وما أخبركم به عني فلان فهو شرعي؟ فإن "به" من قوله كالذي يخبر به عنه، وإن لم يكن مقطوعًا، كذلك ههنا. ولأن صيغة العموم معرضة للتخصيص محتملة له، والقياس غير محتمل؛ فجاز أن يقضي بغير المحتمل على المحتمل، كالمجمل وتفسير المجمل؛ فإنا نقضي بتفسيره عليه، كذلك ههنا. ولأن القياس حجة في نفسه إذا انفرد؛ فإذا اجتمع معه غيره وأمكن   1 وهذا هو الصحيح عندهم، كما حكاه الإسنوي في كتابه "نهاية السول": "2/463"، وهو المنقول عن الإمام الشافعي. وهو أيضًا مذهب المالكية، كما نص على ذلك القرافي في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"203". 2 ونسبه الإسنوي في كتابه: "نهاية السول": "2/464" إلى الفخر الرازي. وهناك أربعة آراء في المسالة، هي: الأول: أن القياس الجلي يخصص العموم، دون الخفي، وبه قال ابن سريج. الثاني: يعمل بأرجح الظنين إذا تفاوتا، وإن تساويا؛ فالوقف. وبه قال الغزالي في كتابه: "المستصفى": "2/134". الثالث: التوقف، وهو منسوب لإمام الحرمين وأبي بكر الباقلاني. الرابع: يجوز التخصيص بالقياس إذا كانت علته ثابتة بنص أو إجماع؛ وإلا فلا، وهو مختار الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/313". راجع بالإضافة إلى "الإحكام" للآمدي: "جمع الجوامع وشرحه مع حاشية البناني": "2/30". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 استعمالهما كان أولى، كالمطلق والمقيد. [78/أ] وأيضًا: فإن الاسم الخاص إذا نافى بعض ما شمله الاسم العام، وجب تخصيصه به، كذلك إذا نافاه معناه؛ لأن العلة في الاسم أنه نافى بخصوصه بعض ما شمله الاسم العام. وبيان ذلك أن الله تعالى1 قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2، ولم يفرق بين الحر والرقيق، ثم قال عز من قائل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 3، مخصصًا به قوله: {الزَّانِيَةُ} ، وأخرجنا الإماء منه، وقضينا بالاسم الخاص على الاسم العام، ثم وجدنا أن المعنى الموجب لنقصان الحد في الإماء هو الرق؛ لأنها إذا اعتقت وجب الحد كاملًا، ولم يزل بالعتق غير الرق؛ فثبت أن نقصان الحد كان متعلقًا به، وهذه العلة موجودة في العبد، فنقصنا حده، وجعلناه خمسين، وخصصنا بهذا المعنى قوله تبارك وتعالى: {وَالزَّانِي} ، وأخرجنا العبيد منه؛ لأن معنى الاسم الخاص نافى بعض ما شمله الاسم العام، كمنافاة الاسم إياه. فإن قيل: إنما كان كذلك في الاسم الخاص مع الاسم العام؛ لأنهما نطقان، فتساويا في القوة، وانفرد الخاص بقوة الخصوص، وليس كذلك المعنى؛ فإنه ليس بنطق. قيل: المعنى مثل الاسم، في وجوب العمل به، والمصير إلى موجبه، وتخصيص الاسم العام من العمل بموجبه، فاستويا فيه.   1 في الأصل: "إن شاء الله تعالى". 2 "2" سورة النور. 3 "25" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 حجة المخالف ... واحتج من يمنع ذلك: بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل: "فإن لم تجد في سنة رسول الله، قال: أجتهد رأيي ولا آلو" 1، فدل على أن القياس مع عدم السنة.   1 حديث معاذ هذا اشتهر كثيرًا على ألسنة الأصوليين والفقهاء، حتى قال إمام الحرمين -فيما نقله الحافظ ابن حجر: "إنه حديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل". واستدل أبو العباس ابن القاص على صحته بتلقي أئمة الفقه والاجتهاد له بالقبول، وقال: "وهذا القدر مغنٍ عن مجرد الرواية". راجع: "تلخيص الحبير": "4/183". وقد نقل صاحب "فواتح الرحموت": "1/359"، أن الباقلاني والطبري: وثقا هذا الحديث. وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي "3/607-608"، وقال فيه: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل". وأخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء "2/272". وأخرجه الطيالسي في كتاب القضاء والدعاوى والبينات، باب آداب القضاء والقاضي وكيف يقضي "1/286". وتكميلًا للفائدة أورد بعض أقوال العلماء في هذا الحديث: قال البخاري في "تاريخه": "الحارث بن عمرو -أحد رواة الحديث- عن أصحاب معاذ، وعنه أبو عون؛ لا يصح، ولا يعرف إلا بهذا". وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية": "لا يصح، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم، ويعتمدون عليه، وإن كان معناه صحيحًا". وقال ابن طاهر ما معناه: بعد البحث الطويل في مصادر الحديث، وجد له طريقان، وكلاهما لا يصح. وقال الدارقطني في "العلل": "رواه شعبة عن أبي عون وهكذا، وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه، والمرسل أصح". وقال ابن حزم: "لا يصح؛ لأن الحارث مجهول، وشيوخه لا يعرفون". وقال عبد الحق: "لا يسند، ولا يوجد من وجه صحيح". انتهى ملخصًا من "تلخيص الحبير": "182/4-183". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 والجواب: أن ما عارضه القياس من العموم؛ فليس من السنة كما أن ما عارضه لفظ السنة من عموم القرآن؛ ليس من القرآن، ووجب القضاء بخاص السنة على عموم القرآن ههنا. واحتج: بأنه لا يجوز أن ينزع من الاسم معنى يخصه، كذلك لا يجوز أن يخص به اسم غيره. والجواب: أن الحكم إذا كان مطلقًا؛ فإن المطلوب هو على الحكم المطلق؛ فلا يجوز أن تكون مخصصة له مسقطة لإطلاقه؛ لأنها إذا كانت هكذا؛ لم تكن هي المأمور بطلبها، وليس كذلك اسم آخر؛ فإن المطلوب مخالف له؛ فجاز أن يكون مخصصًا له، ولأن الاسم لا يجوز أن يخص نفسه؛ كذلك معناه. ويجوز أن يخص اسمًا آخر، كذلك معناه يجوز أن يخص اسمًا آخر. واحتج: [78/ب] بأن العموم أعلى رتبة في الحجة من القياس، ألا ترى أن القياس قد يمنع في كثير من الأصول، والعموم لا يجوز وجوده عاريًا عن إيجاب حكم؛ فلم يجز ترك الأقوى بالأضعف. والجواب: أن هذا يبطل بخبر الواحد، يجوز أن يخص به العموم وإن كان القرآن أعلى رتبة. على أن امتناع القياس في مواضع فيها نص يعارض القياس، وأما في مواضع فيه عمومه يجوز تخصيصه؛ فلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 واحتج: بأن النسخ كالتخصيص؛ لأن النسخ تخصيص الزمان، والتخصيص يخص الأعيان، ثم ثبت أنه لا يجوز نسخ العموم به، كذلك لا يجوز التخصيص. والجواب: أنه يبطل بخبر الواحد، لا ينسخ، ويخص، وكذلك الإجماع. على أنا قد بينا الفرق بين النسخ وبين التخصيص في التي قبلها. واحتج: بأن القياس فرع للكتاب؛ فلا يجوز أن يخص الفرع أصله ويسقطه. والجواب: أنا لا نخص الأصل بفرعه؛ وإنما نخص غير أصله؛ لأن القياس متى استنبط من أصله، يكون مماثلًا له في حكمه؛ فلا يخصص به، وإنما يخص أصلًا آخر يضاده، وينافيه. واحتج: بأنه إنما يصح القياس، إذا جرى على الأصول واطرد، وهذا العموم من جملتها، وهو ينافيه؛ فيجب أن لا يصح القياس معه، كما لا يجوز مع وجود الإجماع على ضده؛ لأنه لم يجر على الأصول، كذلك ههنا. والجواب: أنا لا نسلم أن ما خصصه القياس كان مرادًا بالعموم حتى يكون معارضًا له ومضادًا له؛ بل يتبين بالقياس، أنه لم يكن مرادًا ولا داخلًا تحته. واحتج: بأن العموم مقطوع عليه، والقياس مظنون. والجواب: أن المقطوع عليه هو الصيغة، وذلك لا يرفعها بالقياس؛ وإنما يخص بعض الحكم، وذلك غير مقطوع على أنه مراد، وعلى أنه إن لم يكن مقطوعًا عليه؛ فقد ثبت بدليل مقطوع عليه؛ فهو كالحكم بشهادة الشاهدين، غير مقطوع عليه، لكن ثبت بدليل مقطوع عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 واعتمد أصحاب أبي حنيفة في الفرق بين العموم المخصوص1 وغير المخصوص، بما حكيناه عنه في المسألة التي قبلها، وقد أجبنا عنه بما فيه كفاية.   1 في الأصل: "أو المخصوص"، و"أو" هنا زائدة، لا معنى لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 مسألة 1: يجوز تخصيص عام السنة بخاص القرآن أومأ إليه أحمد رحمه الله في نسخ السنة بالقرآن؛ فقال في رواية عبد الله، وذكر قصة أبي جندل2 فقال: ذلك صالح على أن يرد من جاءهم مسلمًا؛ فرد النبي صلى الله عليه وسلم الرجال، ومنع النساء، ونزل3 قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} 4 [79/أ] فظاهر هذا أنه أثبت نسخ القصة بالقرآن. وبهذا قال الجماعة من الفقهاء والمتكلمين.   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"122"، و"شرح الكوكب المنير" ص"205"، و"روضة الناظر" ص"128". 2 هو: أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشي العامري، صحابي جليل، أسلم بمكة قبل صلح الحديبية، وقد عذب بسبب إسلامه، مات في خلافة عمر. له ترجمة في: "الاستيعاب": "1621/4"، و"الإصابة" القسم السابع ص"69"، طبعة دار نهضة مصر، و"البداية والنهاية": "169/4" نشر مكتبة المعارف ببيروت ومكتبة النصر بالرياض. 3 في الأصل: "نزلت". 4 "10" سورة الممتحنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وخرج الشيخ أبو عبد الله1 في ذلك وجهًا آخر: أنه لا يجوز. أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية حنبل وغيره؛ فقال: السنة مفسرة للقرآن، ومبينة له. وظاهر هذا: أن البيان بها يقع2. وقال أيضًا في رواية محمد بن أشرس3: "إذا كان الحديث صحيحًا معه ظاهر القرآن، وحديثان مجردان في ضد ذلك؛ فالحديثان أحب إلي إذا صحا". وظاهر هذا أيضًا: أنه لم يجعل ظاهر الآية يخص أحد الحديثين ولا يقابله. وبهذا قال أصحاب الشافعي4.   1 هو: الحسن بن حامد بن علي بن مروان، أبو عبد الله البغدادي. شيخ الحنابلة في وقته، فقيه، أصولي. أشهر تلاميذه القاضي أبو يعلى. له كتب منها: "الجامع في المذهب"، وشرح مختصر الخرقي. مات راجعًا من مكة المكرمة سنة 403هـ. له ترجمة في: "تاريخ بغداد": "7/303"، و "شذرات الذهب": "3/166"، و "طبقات الحنابلة": "2/171"، و "المنتظم": "7/264"، و "المنهج الأحمد": "2/83". 2 وتكملة وجه الاستدلال بكلام الإمام أحمد: "ولو جعلنا القرآن مخصصًا لعموم السنة؛ لكان القرآن هو المبين للسنة". 3 محمد بن أشرس السلمي النيسابوري، روى عن مكي بن إبراهيم وإبراهيم بن رستم وغيرهما، متهم في الحديث، وتركه الأخرم وغيره. وقال أبو الفضل السليماني: لا بأس به. له ترجمة في: "تنزيه الشريعة": "1/101"، و "المغني في الضعفاء": "2/557"، و "ميزان الاعتدال": "3/485". 4 كلام المصنف هنا غير محرر؛ فالأصح عند الشافعية هو: جواز التخصيص، صرح بذلك ابن السبكي في كتابه: "جمع الجوامع": "2/26"، كما صرح به الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/300"، حيث قال: "يجوز تخصيص عموم السنة بخصوص القرآن عندنا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 والدلالة على جواز التخصيص: قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} 1. ولأن الكتاب أقوى من السنة؛ فإنه مقطوع على جميعه، والسنة إنما يقطع على البعض منها. ولأن فيه إعجازًا، والسنة لا إعجاز فيها؛ فإذا جاز تخصيص القرآن بالضعيف؛ فإنه يجوز تخصيص الضعيف بالقوي [من باب] أولى، ألا ترى أن من جوز نسخ الكتاب بالسنة؛ كانت تجويزه لنسخ السنة بالكتاب أولى؟ واحتج من منع من ذلك: بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2.   1 "89" سورة النحل. والآية في الأصل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ} ، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه متابعة لما في المصحف. ولم يذكر المؤلف وجه الاستدلال من الآية، وقد ذكره الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/300"، بقوله: "وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشياء؛ فكانت داخلة تحت العموم، إلا أنه قد خص في البعض؛ فيلزم العمل به في الباقي". 2 "44" سورة النحل. لم يذكر المؤلف وجه الاستشهاد من الآية، ووجه الاستدلال من وجهين: الأول: أن الله تعالى جعل النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا للقرآن؛ وبيانه إنما يكون بسنته، ولو خصصنا عموم السنة بخصوص القرآن؛ لكان القرآن مبينًا للسنة، وهو ممتنع للآية. الثاني: وقد ذكره المؤلف في صورة دليل، ولكن لم يذكر ارتباطه بالآية الكريمة، وقد ذكره الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/300"، بقوله: " ... وأيضًا، فإن المبين أصل، والبيان تبع له، ومقصود من أجله؛ فلو كان القرآن مبينًا للسنة؛ لكانت السنة أصلًا، والقرآن تبعًا، وهو محال". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 والجواب: أن المراد بالبيان ههنا: الإظهار لا التخصيص؛ فإن الكلام يقتضي أن يبين جميع المنزل، وجميع المنزل لا يحتاج إلى تخصيص؛ وإنما يحتاج إلى الإظهار. وعلى أن نحمل الكلام على أن المراد به: لتبين للناس ما يحتاج إلى بيان وهو ما لم يبين بالكتاب؛ فأما ما بين بالكتاب فبيانه مأخوذ منه لا من السنة1. واحتج: بأنا لو خصصنا السنة بالآية؛ جعلنا السنة أصلًا، والقرآن تابعًا له ومفسرًا، وهذا فيه نقصان منزلته. والجواب: أنه لا يوجب جعلها أصلًا والقرآن تابعًا، كما لم يجب ذلك في تخصيص أخبار الآحاد بأخبار التواتر، وقد ثبت جواز ذلك. ولا يقول أحد: إن أخبار الآحاد أصل، وأخبار التواتر تابعة لها ومفسرة لها.   1 وهناك جواب آخر هو: أن القرآن والسنة كلاهما منزلان من عند الله تعالى. وهناك جواب آخر أيضًا، ذكره كثير من الأصوليين، وهو -كما يقول الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/300": "إنه لا يلزم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بكونه مبينًا لما أنزل امتناع كونه مبينًا للسنة بما يرد على لسانه من القرآن، إذ السنة أيضًا منزلة على ما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، غير أن الوحي منه ما يتلى؛ فيسمى كتابًا، ومنه ما لا يتلى؛ فيسمى سنة، وبيان أحد المنزلتين بالآخر غير ممتنع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 مسألة يجوز تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم مدخل ... مسألة 1: يجوز تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا وقع من النبي فعل يخالف عموم قول تعلق بسائر المكلفين؛ كان ذلك موجبًا لتخصيصه، إن أمكن حمله عليه. وكذلك الإقرار على فعل، مثل أن يفعل عنده فعل يخالف العموم؛ فأقر عليه؛ فإنه يختص به. وقد أشار أحمد رحمه الله إلى هذا في مواضع: فقال في رواية صالح: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 2، ولما ورث النبي صلى الله عليه وسلم [79/ب] ابنتي سعد بن الربيع3 الثلثين4؛ دل على أن الآية إنما قصدت الاثنتين فما فوق.   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"125"، و"روضة الناظر" ص"129"، و"شرح الكوكب المنير" ص"208". 2 "11" سورة النساء. ولا يكمل الاستدلال إلا بذكر المقطع الثاني من الآية، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} . 3 هو: سعد بن الربيع بن عمرو الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل شهد العقبتين، وشهد بدرًا، واستشهد يوم أحد بعد أن أبلى بلاء حسنًا، رضي الله عنه وأرضاه. له ترجمة في: "الاستيعاب": "2/589"، و "الإصابة" القسم الثالث ص"58"، طبعة دار نهضة مصر. 4 هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب "2/109". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 وقال أيضًا في رواية صالح: قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1؛ فلما قالت عائشة وميمونة2: كانت إحدانا إذا حاضت انفردت، ودخلت مع رسول صلى الله عليه وسلم في شعاره3؛ دل على أنه أراد الجماع.   = وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث البنات "4/414". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الفرائض، باب فرائض الصلب "3/908". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الفرائض "4/79". وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الفرائض باب الرجل يموت، ويترك بنتًا وأختًا وعصبة سواها "4/395". وأخرجه عنه الحاكم في كتاب، باب إذا تحدثتم، فتحدثوا بالفرائض "4/333-334". راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "4/83". 1 "222" سورة البقرة. 2 هي: أم المؤمنين، ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية. كان اسمها: "برة"؛ فسماها النبي صلى الله عليه وسلم: "ميمونة". تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام في شهر ذي القعدة على الأرجح سنة سبع، في عمرة القضاء، اختلف في سنة وفاتها، ورجح الحافظ ابن حجر أنها ماتت سنة 49هـ. لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1914"، و "الإصابة": "8/191". 3 حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض، بلفظ: "كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يباشرها، أمرها أن تتزر في فور حيضتها، ثم يباشرها.." الحديث. كما أخرج حديث ميمونة رضي الله عنها، عقب حديث عائشة رضي الله عنه، بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه؛ أمرها فاتزرت، وهي حائض..": "1/79". وأخرجه الحديثين مسلم في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار "1/242". وأخرجهما الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في مباشرة الحائض "1/239". وأخرجهما أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرجل يصيب منها -أي الحائض- ما دون الجماع "1/61". وأخرجهما الدارمي في كتاب الطهارة، باب مباشرة الحائض "1/194". وأخرج ابن ماجه حديث عائشة في كتاب الطهارة، باب ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا "1/208". وراجع في هذا أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/167". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 وهو قول أصحاب الشافعي1 وأصحاب أبي حنيفة2 إلا الكرخي؛ فإن أبا عبد الله الجرجاني حكى عن بعض أصحابه، أنه حكي عنه أنه يحمل فعله عليه السلام على أنه مخصوص به، مثل نهيه عن استقبال القبلة   1 هكذا عزاه الآمدي إلى أصحاب الشافعي في كتابه: "الإحكام": "2/306-308" في فعل النبي صلى الله عليه وسلم. أما بالنسبة لتقريره وكونه يخصص؛ فقد نسبه للأكثرين، خلافًا لطائفة شاذة. ولكن رأيت السبكي في كتابه: "جمع الجوامع": "2/31" يذكر أن تخصيص العموم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره جائز في الأصح. وكلامه هذا يدل على أن هناك خلافًا بين الشافعية في هاتين المسألتين. 2 اشترط صاحب "فواتح الرحموت": "1/354" لجواز التخصيص بالفعل شرطين: الأول: أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم داخلًا في العموم لغة، بخلاف ما لا يدخل فيه، أو كان مشكوكًا في دخوله. الثاني: أن يكون الفعل موصولًا بالعموم. هذا بالنسبة للفعل؛ أما التقرير فيجوز التخصيص به، إذا توفر فيه الشرط الثاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 واستدبارها1، وما روي من فعله بخلاف ذلك2، لا يجعله تخصيصًا.   1 حديث النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة، رواه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول، إلا عند البناء جدار أو نحوه بلفظ: "إذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره؛ شرقوا أو غربوا": "1/47". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطالة "1/224". وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في باب النهي عن استقبال القبلة والإنسان على حاجته "1/390". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول "1/115". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القلة عند قضاء الحاجة "1/3". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول "1/13". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب النهي عن استدبار القبلة عند الحاجة "1/24". وأخرجه عند الدارمي في كتاب الطهارة، باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول "1/135". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب استقبال القبلة في الخلاء "1/60". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التخلي وآدابه "1/25" من "بدائع المنن". وراجع: في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "2/298"، و"تلخيص الحبير": "1/103". 2 حديث استدباره صلى الله عليه وسلم للقبلة، رواه ابن عمر رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب التبرز في البيوت "1/48"، بلفظ: "قال -أي ابن عمر-: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 دليلنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في أحكام الشرع سواء؛ إلا ما دل الدليل على تخصيصه به، ألا تراه إذا فعل شيئًا ابتداء، لا على وجه البيان والتخصيص؛ كنا نحن وهو فيه على السواء، حتى يخصه دليل، كذلك هذا الفعل الوارد على وجه البيان والتخصيص، يجب أن يتساويا فيه أيضًا.   = فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطابة "1/225". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الرخصة في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة "1/3". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في الرخصة في ذلك -أي في استقبال القبلة بالغائط أو البول- "1/16". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك في البيوت "1/25". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الرخصة في استقبال القبلة في الكنيف، وإباحته، دون الصحاري "1/116". وأخرجه عند الدارمي في كتاب الطهارة، باب الرخصة في استقبال القبلة "1/136". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب استقبال القبلة في الخلاء "1/61". وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في باب الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط "1/391". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التخلي وآدابه "1/26"، من "بدائع المنن". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "2/298"، و"تلخيص الحبير": "1/104". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه يحتمل أن يكون مخصوصًا بهذا الفعل، ويحتمل أن يكون هو وغيره فيه سواء، ولا يجوز تخصيص العموم بالشك. والجواب: أن هذا يدل عليه الفعل الوارد من جهته ابتداء. وعلى أنه ليس ههنا شك، بل ههنا ظاهر يدل على مساواتنا له في أفعال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 يجوز تخصيص العام بالإجماع ... فصل: ويجوز التخصيص بالإجماع 1 لأن الإجماع حجة مقطوع بها؛ فإذا جاز التخصيص بخبر الواحد والقياس؛ كان بالإجماع أحق. ويفارق هذا النسخ بالإجماع أنه لا يجوز؛ لأن الإجماع إنما ينعقد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته انقطع النسخ؛ فلا يصح أن ينسخ به، وليس كذلك التخصيص؛ لأنه يقترن باللفظ دليل يخرج منه ما ليس مرادًا؛ فإذا انعقد الإجماع على تخصيصه؛ علم أنه خطاب عام أريد به الخاص، والنسخ بالإجماع على هذا يتصور؛ فإن المسلمين إذا أجمعوا على ترك خبر؛ تبينا بالإجماع: أنه منسوخ، لا أن2 الإجماع ينسخه.   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"126"، و"روضة الناظر" ص"127"، و"شرح الكوكب المنير" ص"207". 2 في الأصل: "لان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 يجوز تخصيص العام بدليل الخطاب ... فصل: ويجوز تخصيص العموم بدليل الخطاب 1 سواء دل دليل هو مفهومه   1 راجع في هذا الفصل في: "المسودة: ص"127"، و"روضة الناظر" ص"129"، و"شرح الكوكب المنير" ص"206". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 وفحواه، وهو: التنبيه، نحو قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1؛ فدل [على] المنع من2 الضرب، فيقع به التخصيص. أو كان في ضد النطق؛ كقوله: "في سائمة الغنم الزكاة"؛ دل على أنه: لا زكاة في المعلوفة، فيخص به العموم3؛ لأن الدليل خارج مخرج النطق، ومعناه معنى النطق في باب الاحتجاج به، [وقد] ثبت جواز التخصيص بالنطق، كذلك بما هو جار مجراه4.   1 "23" سورة الإسراء. 2 في الأصل: "على". 3 في الأصل: "المفهوم". 4 هكذا ذهب المؤلف إلى جواز تخصيص العموم بالمفهوم بما فيه مفهوم المخالفة؛ لكن نقل عنه في "المسودة" ص"127" القول بتقديم العموم على المفهوم، ومعنى ذلك: عدم جواز التخصيص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 يجوز تخصيص العام بقول الصحابي إذا لم يظهر خلافه مدخل ... فصل: [80/أ] يجوز تخصيص العموم بقول الصحابي إذا لم يظهر خلافه وكذلك تفسير الآية المحتملة1. وهذا على الرواية التي تجعل قوله حجة، مقدمًا على القياس. وقد نص على هذا في رواية صالح وأبي الحارث: في الآية إذا جاءت تحتمل أن تكون عامة، وتحتمل أن تكون خاصة، نظرت ما عملت عليه السنة؛ فإن لم يكن؛ فعن الصحابة، وإن كانوا على قولين، أخذ بأشبه القولين بكتاب الله تعالى.   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"127"، و"روضة الناظر" ص"129"، و"القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام ص"296". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة1. واختلف أصحاب الشافعي على القول القديم، الذي يجعلون قوله حجة؛ فمنهم من خص به، ومنهم من لم يخص2.   1 راجع في هذا: "مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت": "1/355"، و"حاشية" الشيخ بخيت المطيعي على "نهاية السول": "2/481-484". 2 لكن الأصح من مذهب الشافعية -كما يقول ابن السبكي في كتابه: "جمع الجوامع" 1/34-: عدم التخصيص. وصرح الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/309"، بأن مذهب الشافعي في القول الجديد هو عدم التخصيص. وقد اختار ذلك الغزالي في كتابه: "المستصفى": "2/112". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 ودليلنا : أن قول الصحابي أقوى من القياس، بدليل أنه يترك له القياس؛ فيجب أن يخص به الظاهر، كخبر الواحد. ولأنه مقدم على القياس، والقياس يخص؛ فبأن يخص خبر الواحد أولى وأحرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الصحابي يترك مذهبه وقول نفسه للعموم، ألا ترى أن ابن عمر قال: "كنا نخابر أربعين سنة، ولا نرى به بأسًا، حتى أتانا رافع بن خديج، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه؛ فتركناها"1 لقول رافع. والجواب: أنه يترك قوله للنص؛ فأما العموم فلا؛ لأنه فيما ذهب   1 هكذا في الأصل، ولو أنث الضمير في قوله: "به بأسًا"، وفي قوله: "نهى عنه"؛ لكان سليمًا؛ ولكنه ذكر الضمير في ذلك، وأنثه هنا؛ فكان الأولى أن يعبر بقوله: "فتركناه" حتى تعود الضمائر إلى "فعل المخابرة"، أو إلى "الخبر"، كما جاء في بعض الروايات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 إليه عن دليل، وذلك الدليل لا يخلو إما أن يكون عمومًا أو خصوصًا أو قياسًا؛ فإن كان خصوصًا أو قياسًا؛ فهما يقضيان على هذا العموم، وإن كان عمومًا؛ فقد عارض هذا لعموم؛ فلا يجب ترك قوله. على أن بكر بن محمد سأله: يلتحف الصماء من فوق القميص1؟ فقال: لا يعجبني، يروى عن ابن عباس: أنه كرهه، وإن كان عليه   1 هناك تفسيران للصماء: الأول: تفسير أهل اللغة، وهو: أن يجلل جسده بالثوب، لا يرفع منه جانبًا، ولا يبقى ما يخرج منه يده، وذلك بأن يرد من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعًا. والثاني: تفسير الفقهاء وهو: أن يشتمل بثوبه، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبه، فيبدو منه فرجه. راجع: مختار الصحاح ص"394" مادة "صمم"، والمصباح المنير "1/532"، مادة "صمي" كما تراجع "منتهى الإرادات": "1/63"، وفتح الباري "1/477". قال النووي في شرحه على صحيح مسلم "14/76": ".. فعلى تفسير أهل اللغة، يكره الاشتمال المذكور؛ لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام ونحوها، أو غير ذلك؛ فيعسر عليه، أو يتعذر، فيلحقه الضرر. وعلى تفسير الفقهاء، يحرم الاشتمال المذكور، إن انكشف بعض العورة، وإلا فيكره". وقد جاء تفسير "الصماء" بمثل ما فسره الفقهاء في رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عند البخاري في كتاب اللباس، باب اشتمال الصماء "7/191". وقبل ذلك ذكر البخاري رواية أبي سعيد الخدري المذكورة في كتاب الصلاة، باب ما يستر من العورة "1/97". وعلق الحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري": "1/477" على ذلك بما مفاده: إن كان التفسير المذكور مرفوعًا فهو حجة، ولا كلام في ذلك، وإن كان مرقوفًا فهو حجة على الصحيح؛ لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 قميص، وإن كان حديث النبي: أنه ثوب واحد1، ولكن ابن عباس كرهه، فقدم قول ابن عباس. واحتج: بأن الخبر حجته؛ فلا تخص حجته بفتياه، كسائر الفقهاء. والجواب: أن سائر2 الفقهاء قول آحادهم ليس بحجة، وقول الصحابي حجة. فإن قيل: فما تقولون في تخصيص العموم وتفسيره بقول التابعين؟ قيل: لا يخص بقوله، ولا يفسر به؛ لأن قوله ليس بحجة. وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله؛ فإنه رجع في تخصيص الآية إلى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي: يوجد العلم بما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم يكن، فعن أصحابه؛ فإن لم يكن، فعن التابعين. وإنما قال هذا؛ لأن غالب أقوالهم أنها لا تنفك عن أثر. وقد صرح بهذا في رواية أبي داود: إذا جاء الشيء عن الرجل [80/ب] من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم الرجل الأخذ به، ولكن لا يكاد يجيء عن التابعين [شيء] ؛ إلا يوجد فيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أيضًا: يتبع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وهو في التابعين مخير.   1 حديث النهي عن اشتمال الصماء، أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، في كتاب الصلاة، باب ما يستر من العورة "1/97"، وفي كتاب اللباس، باب اشتمال الصماء "7". وأخرجه مسلم عن جابر رضي الله عنه في كتاب اللبس والزينة، باب النهي عن اشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد وفي باب في منع الاستلقاء على الظهر، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى "3/1661". وأخرجه الدارمي عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الصلاة، باب النهي عن اشتمال الصماء "1/259". 2 في الأصل: "لسائر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 التفسير مدخل ... فصل 1: التفسير وتفسير الراوي للفظ النبي صلى الله عليه وسلم يجب العمل به، إذا كان مفتقرًا إلى التفسير. وذلك مثل قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" 2.   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"128". 2 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "3/81". وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين "3/1163". وأخرجه أبو داود في كتاب الإجارة، باب في خيار المتبايعين "2/244". وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا "3/538". وأخرجه النسائي في كتاب البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما "7/218". وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، بل البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "2/736". وأخرجه الإمام مالك في الموطأ، في كتاب البيوع، باب بيع الخيار "3/320". وأخرجه الطيالسي في مسنده، في كتاب الكسب والبيوع، باب الخيار في البيع وإثبات خيار المجلس "1/266". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب خيار المجلس "2/162"، من "بدائع المنن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 فمن الناس من قال: بالتفرق بالقول1، ومنهم من قال: بالتفرق بالبدن2. وأجمعوا على أن المراد أحدهما؛ فصرنا إلى ما دل تفسير الراوي عليه، فإن عبد الله بن عمر كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلًا، ثم رجع3. وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك4.   = وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب البيوع، باب خيار البيعين حتى يتفرقا "4/12". وأخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب البيوع "2/5". وقد روي الحديث بعدة ألفاظ، كلها تثبت خيار المجلس، ولفظ النسائي كلفظ المؤلف. وراجع فيه هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "3/20"، و"تيسير الوصول": "1/71"، و"بلوغ المرام من أدلة الأحكام"، كتاب البيوع، باب الخيار ص"101"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"447"، و"نصب الراية": "4/1"، و"المحرر في الحديث في بيان الأحكام الشرعية"، في كتاب البيوع، باب الخيار في البيع ص"149". 1وبهذا قال المالكية والأحناف. وحملهم التفرق على التفرق بالأقوال، أحد الأجوبة على دلالة أحاديث خيار المجلس. 2 وبهذا قال الحنابلة والشافعية. ومستندهم هذا الحديث وغيره مما ورد في هذا الباب. وهو مستند قوي، لم يأت المخالف بما يوهن منه. وكل ذهب إلى ما ذهب إليه عن اجتهاد، لا عن هوى. فرحم الله الجميع. 3 راجع المصادر التي ذكرناها آنفًا في تخريج الحديث السابق. 4 النهي عن صيام يوم الشك، جاء في عدة أحاديث، أصرحها ما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه موقوفًا عليه، ولفظه: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم". وقد ذكره البخاري معلقًا في كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 فمن الناس من قال: هو عام في الغيم والصحو. ومنهم من قال: المراد به الشك في الصحو، وهو: إذا تطابق أهل البلد على ترك الترائي للهلال فيه ليلة الثلاثين، فشكوا هل طلع أم لا1؟ فصرنا   = "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا": "3/33". وأخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهة صوم يوم الشك "3/61"، وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب كراهية صوم يوم الشك "1/545". وأخرجه النسائي في كتاب الصيام، باب صيام يوم الشك "4/126". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في صوم يوم الشك "1/527". وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب الصوم، باب النهي عن صيام الشك "1/335". وأخرجه الدارقطني في كتاب الصيام "2/157"، وقال: "هذا إسناد حسن صحيح، ورواته كلهم ثقات". وأخرجه الحاكم في كتاب الصوم، باب "من صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم": "1/423-424". ونقل الزيلعي في "نصب الراية": "2/442" عن ابن عبد البر قوله: "هذا حديث مسند عندهم، لا يختلفون في ذلك"، وذكر أن ابن حبان أخرجه في "صحيحه". وراجع في الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "2/235"، و"ذخائر المواريث": "3/34". والحديث من قبيل المرفوع؛ لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل نفسه. وقال الجوهري المالكي: "هو موقوف"، ورد عليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "4/120": "بأنه موقوف لفظًا؛ مرفوع حكمًا". 1 استعمال "أم" هنا بعد "هل" خطأ، والصواب: التعبير بـ "أو" ولك أن تستبدل "هل" بالهمزة، وتذكر بعد "أم" المعادل، فتكون العبارة هكذا: "فشكوا أطلع أم لم يطلع". وقد سبق التنبيه على مثل ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 إلى ما دل [عليه] تفسير الراوي، قال ابن عمر1: "كان إذا كان في السماء غيم؛ أصبح صائمًا، وإن كانت مصحية؛ أصبح مفطرًا"2. وقد صار أحمد رحمه الله إلى تفسير ابن عمر رضي الله عنه في الموضعين جميعًا في رواية المروذي. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ... " 3 ففسره ابن عمر4 على أن المراد بقوله:   1 ظاهر العبارة: أن ابن عمر هو الحاكي لفعل غيره، بينا الحاكي هو نافع، يحكي فعل ابن عمر، والأولى أن تكون العبارة هكذا: "قال نافع كان ابن عمر إذا كان في السماء ... "، كما ذكرت ذلك المراجع التي سأذكرها في تخريج الأثر. 2 تفسير ابن عمر هذا ذكره أبو داود في كتاب الصيام، باب الشهر يكون تسعًا وعشرين، ونصه: "فكان ابن عمر، إذا كان شعبان تسعًا وعشرين؛ نظر له؛ فإن رؤي؛ فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قترة؛ أصبح مفطرًا، فإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما..": "1/542". 3 هذا الحديث رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الشعير بالشعير "3/92". وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "3/1209-1210". وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في الصرف "3/534-535". وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الصرف 2/222. وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "2/757". وأخرجه الدارمي في كتاب البيوع، باب في النهي عن الصرف "2/173". وأخرجه الإمام مالك في كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالفضة تبرًا وعينًا ص"393". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "1/66"، و "ذخائر المواريث": "3/45". 4 ليس هو "ابن عمر" كما هو في الأصل؛ وإنما هو: "عمر بن الخطاب" ولعل الخطأ من الناسخ، وسببه ذكر "ابن عمر" مرتين قبل هذا، وفي كل مرة يفسر حديثًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 ["هاء وهاء"] : القبض في المجلس. فروى مالك بن أوس بن الحدثان1 أنه قال: التمست صرفًا بمائة دينار، فدعاني2 طلحة بن عبيد الله3، فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى4 يأتي خادمي5 من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع؛ فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه6. وروي أنه قال لطلحة: لا تفارقه حتى تعطيه وَرِقه7، أو ترد عليه   1 هو: مالك بن أوس بن الحدثان بن عوف النصري، أبو سعد. اختلف في صحبته اختلافًا كبيرًا. مات بالمدينة المنورة سنة 92هـ على الأرجح. له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/1346"، و"الإصابة": "6/18". 2 في الأصل "فدعاني وطلحة"، بإثبات "الواو"، وهو خطأ، والصواب: حذفها، كما في صحيح البخاري "3/92". 3 هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، القرشي، التيمي. أبو محمد يعرف بطلحة الفياض. شهد أحدًا وما بعدها. أحد العشرة المبشرين بالجنة. مات مقتولًا يوم وقعة الجمل سنة 36هـ، وله من العمر ستون عامًا. له ترجمة في: "الاستيعاب": "2/764"، و"الإصابة": "3/290". 4 في الأصل "حد"، وهو خطأ، والتصويب من صحيح البخاري: "3/92". 5 هكذا في الأصل. والذي في صحيح البخاري "3/92"، "خازني". وفي صحيح مسلم "3/1209": "ثم ائتنا إذا جاء خادمنا". ويجمع بينهما: بأن خادمه هو نفسه خازنه؛ فهو شخص واحد، لا شخصان. 6 رواية مسلم في صحيحه "3/1210": "كلا، والله لتعطينه وَرِقه، أو لتردن إليه ذهبه ... ". 7 ضبطت هذه الكلمة في الأصل هكذا "وِرْقه" بكسر الواو وسكون الراء. وعند مسلم "وَرِقه" بفتح الواو وكسر الراء. وهناك لغة ثالثة هي: "وَرْقه" بفتح الواون وسكون الراء. راجع في هذا: مختار الصحاح ص"743" مادة: "ورق"، والمصباح المنير "2/1016" مادة: "ورق" أيضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 ذهبه1. وبهذا قال أصحاب الشافعي. وذكر أبو سفيان عن الكرخي أنه كان يقول: يجب العمل بظاهر الآية والخبر، ولا يرجع إلى تفسير الصحابي. وإنما رجعنا إلى تفسيره في ذلك؛ لأن هذا اللفظ مما يفتقر إلى البيان، وهو أعرف به من غيره، لمشاهدته التنزيل؛ فوجب الرجوع إلى تفسيره، كما وجب الرجوع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للآية المحتملة. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية أبي طالب: في العبد يتسرى، فقيل له: فمن احتج [81/أ] بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} [ {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ] 2، فأي ملك للعبد؟ فقال: القرآن أنزل على [أصحاب] النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون فيما أنزل، وقالوا: يتسرى العبد. ويفارق هذا ما لا يفتقر إلى البيان؛ لأن اللفظ غير محتمل؛ فكان هو وغيره في تفسيره سواء.   1 أثر عمر رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الشعير بالشعير "3/92"، وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "3/1209-1210". 2 "29-30" المعارج. ويلاحظ: أن الاستدلال لا يتم إلا بذكر الآية الثانية، إذ هي المقصودة في هذا المقام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الآية والخبر يجب العمل بظاهرهما؛ لكونهما1 حجة، وقول الصحابي ليس بحجة؛ فلم يرجع إلى تفسيره. والجواب: أن قوله حجة عندنا وعندهم إذا انفرد، وله2 حكم المنفرد عند احتمال اللفظ.   1 في الأصل: "بظاهرها؛ لكونها.."، والجادة: ما أثبتناه؛ لأن الضمير عائد على مثنى. 2 في الأصل: "وهو حكم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 مخالفة الراوي للفظ النبي صلى الله عليه وسلم لا تؤثر في إحدى الروايتين عن أحمد مدخل ... فصل 1: فإن ترك الراوي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بخلافه وجب العمل بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثر فيه مخالفة الراوي له في أصح الروايتين. قال في رواية الأثرم في الحجام: نحن نعطي كما أعطى، يعني النبي صلى الله عليه وسلم2، ولكن صاحبه لا يأكله، يطعمه الرقيق، ويعلفه الناضح3   1 راجع في هذا الفصل في: "المسودة" ص"129"، و"القواعد والفوائد الأصولية" ص"296-297". 2 يعني بهذا: ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة، باب خراج الحجام "3/115" عن ابن عباس رضي الله عنه، ولفظه: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى الحجام أجره". كما أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب كسب الحجام "2/731". وقد تكلم عنه الحافظ ابن حجر في كتابه: "فتح الباري": "4/458". 3 يعني بذلك ما أخرجه الترمذي عن محيصة رضي الله عنه في كتاب البيوع باب كسب الحجام "3/566"، وذلك أن محيصة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام؛ فنهاه، فذكر له الحاجة، فقال: "اعلفه نواضحك، واطعمه رقيقك". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الإجارة، باب في كسب الحجام "2/238". كما أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب كسب الحجام "2/732". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "ذخائر المواريث": "3/94"، و"فتح الباري": "4/ 459". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 وقول ابن عباس: لو كان حرامًا؛ لم يعطه1. فهذا تأويل من ابن عباس. وظاهر هذا: أنه أخذ بظاهر الخبر، ولم يلتفت إلى تأويله. وهو قول أصحاب الشافعي. وفيه رواية أخرى: لا يجب العمل به، نص عليه رحمه الله في رواية حرب2؛ فقال: لا يصح الحديث عن عائشة؛ لأنها زوجت بنات أختها، والحديث عنها. وقال أيضًا رضي الله عنه في رواية المروذي: لا يصح الحديث؛ لأنها فعلت بخلافه.   1 هذا أحد الألفاظ عن ابن عباس رضي الله عنه، واللفظ الآخر الذي أورده البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة، باب خراج الحجام "3/115"، هو: "ولو علم كراهية؛ لم يعطه". على أن هناك لفظًا ثالثًا لأبي داود؛ أورده في سننه في كتاب الإجارة، باب كسب الحجام "2/239"، وهو: "ولو علمه خبيثًا؛ لم يعطه". وراجع في اختلاف الروايات: "فتح الباري": "4/458-459". 2 هو: حرب بن إسماعيل بن خلف، الحنظلي، الكرماني. أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله. قال عنه الخلال: "رجل جليل القدر". من أصحاب الإمام أحمد، الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل الفقهية. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/145"، و"المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد": "1/ 287"، و"المدخل لمذهب الإمام أحمد" ص"206". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 وقال أيضًا رحمه الله في رواية الحسن بن محمد بن الحارث1 وقد سئل عن حديث الزهري2، فقال: الزهري يقول بخلاف هذا. وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي: أنه قال: هذا على وجهين: أحدهما: أن يكون الخبر محتملًا للتأويل؛ فلا يلتفت إلى عمل الصحابي، كما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا"، التفرق: يحتمل أن يكون بالقول، ويحتمل أن يكون بالفعل، ثم حمله ابن عمر على التفرق بالأبدان؛ فلا يعمل على تأويله. والثاني: أن يكون الخبر غير محتمل للتأويل؛ فعمله بخلافه؛ يكون دليلًا على أنه قد علم بنسخ الخبر، إن عقل من ظاهر حاله أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان غير ما دل عليه ظاهر الخبر من الندب دون الإيجاب. وكان يحكى ذلك عن الكرخي: أن الأخذ بما رواه أولى مما عمل به من غير تفصيل.   1 هو: الحسن بن محمد بن الحارث السجستاني. من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/139"، و"المنهج الأحمد": "1/285". 2 هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، الزهري، المدني أبو بكر: الحافظ المحدث: روى عن ابن عمر وجابر وأنس وغيرهم، وعنه مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم. مات سنة 124. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/108"، و"شذرات الذهب": "1/162"، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي ص"42"، و"النجوم الزاهرة": "1/294"، و"وفيات الأعيان": "1/451". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 وجه الرواية الأولى: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة، وقول الصحابي وفعله على أحد القولين: ليس بحجة، وعلى الرواية الأخرى: هو حجة؛ إلا أن خبر الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم عليه، وإذا كان كذلك؛ وجب العمل بالخبر. وأيضًا: فإن [81/ب] أبا حنيفة: قال: ليس بيع الأمة المزوجة طلاقًا. واحتج هو وغيره من الفقهاء بما روى ابن عباس: أن عائشة اشترت بريرة، فأعتقتها، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان بيعها طلاقًا لما خيرها. وخالف ابن عباس هذا الخبر، وكان يقول: بيع الأمة طلاقًا، وإن لم يكن ذلك موجبًا لترك الخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الصحابي لا يخالف الخبر ولا يعانده؛ فإذا رأينا قوله بخلافه؛ استدللنا على نسخ الخبر، وأنه إنما تركه وخالفه عن توقيف. والجواب: أنه يحتمل أن يكون بسنة، أو تركه بضرب من الاجتهاد في تقديم غيره عليه؛ فيجب أن ينظر فيه ولا يقلده. واحتج: بأن الصحابي أعرف إذًا؛ فإنه شاهد الوحي والتنزيل، وعرف البيان والتأويل، وكانوا أعرف بما يقوله. والجواب: أنه كذلك فيما يفتقر إلى البيان؛ فأما في مخالفة الخبر بقوله فلا؛ لأنه يحتمل أن يكون تركه للاحتمال الذي ذكرنا. وجواب آخر، وهو: أنه لو علم مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوجب عليه نقله، كما يجب عليه [نقل] نص النبي على المراد بخطابه؛ فلما لم يبطل ذلك؛ علمنا أنه لم يعلم مراد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان حاله في ذلك كحال غيره ممن لم يشاهد الخطاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 العادة لا تخصص العموم مدخل ... فصل 1: [العادة لا تخصص العموم] إذا ورد لفظ عام؛ لم يجز تخصيصه بعادة المكلفين، مثل أن يرد تحريم البيع مطلقًا، وعادتهم جارية بنوع منه2.   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"123-125"، و"التمهيد" لأبي الخطاب الورقة "67". 2 عادة المكلف إما أن تكون عادة فردية أو جماعية. والعادة الفردية لا كلام لنا فيها. وأما العادة الجماعية، وهي ما تسمى بالعرف؛ فهي على قسمين: عادة قولية: "العرف القولي"؛ فهي تخصص العموم. وقد حكى كثير من العلماء الاتفاق على ذلك، منهم الإسنوي في: "شرح المنهاج": "2/115"، وابن أمير الحاج في كتابه "التقرير والتحبير": "2/282"، وابن عبد الشكور في "مسلم الثبوت": "1/345"، وابن عابدين في "رسائله": "2/115". ومن المتأخرين الشيخ أحمد أبو سنة في كتابه "العرف والعادة في رأي الفقهاء" ص"91"، والأستاذ مصطفى الزرقا في كتابه "المدخل الفقهي العام": "2/888". وأما العادة الفعلية "العرف العملي"؛ فهي على نوعين: النوع الأول: عادة عملية، أو عرف عملي، وجد في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلمه، وأقره؛ فهذا يعتبر مخصصًا، والحقيقة: أن المخصص هو تقرير النبي صلى الله عليه وسلم. النوع الثاني: عادة عملية، أو عرف عملي وجد بعد عصره عليه الصلاة والسلام؛ فإذا استمر العمل حتى كان إجماعًا عمليًا؛ فهو يخصص العموم، عند من يقول بحجية الإجماع العملي، والحقيقة: أن المخصص هو الإجماع. أما إذا لم يكن كذلك؛ فالجمهور على أنه لا يعتبر مخصصًا. وذهبت فرقة قليلة من الحنفية إلى القول بتخصيص العموم والحالة هذه. وقد استوفينا الكلام في هذا، في رسالتنا للماجستير بعنوان: "العرف وأثره في الشريعة والقانون" ص"84-95". ولعل القاضي أبا يعلى يريد هنا العرف العملي، الذي لم يعضده أي عاضد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 وكقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1، وقد جرت عادتهم بأكل نوع منه. لأن الحكم يتعلق باللفظ؛ فوجب القضاء به على جميع ما يصح أن يعبر به عنه، اعتبارًا بالعموم. ولأن الظاهر أن الكلام خرج لقطع العادة الجارية، ودفع الأمر الواقع؛ فلم يجز تركه في هذا الوضع بعينه. فإن قيل: أليس قد خصصتم الاسم بالعرف، مثل اسم الدابة ونحوها إذا أطلق؛ هلا فعلتم مثل هذا في الحكم؟ قيل: عرف الاستعمال هناك مقارن للفظ؛ فيصير ذلك هو اللغة الجارية، وهذا معدوم ههنا، مع أن اسم الدابة عام في غير المتعارف مجازًا. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية مهنا: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن أبي عبد الله قال: أدركت أبناء المهاجرين والأنصار، فكانوا2 يعمون، لا يجعلونها تحت3 الخيل: هو معروف، ولكن الناس على غير هذا، أهل الشارع خاصة لا يعمون   1 "188" سورة البقرة. 2 في الأصل: "فكان يعمون"، والصواب: ما أثبتناه. 3 في الأصل: "تحت"، والصواب ما أثتبناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 إلا نجب1 الخيل. وظاهر هذا أنه اطرح الحديث بعادة المكلفين. قيل: إنما عارض عرفًا بعرف، [82/أ] ولم يخصص خبرًا بعرف.   1 في الأصل: "نحن"، والصواب من أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 مسألة تخصيص الأخبار جائز مدخل ... مسألة: 1 [تخصيص الأخبار جائز] : التخصيص يدخل في نحو قوله: رأيت المشركين؛ كما يدخل في الأوامر. وقد تكلم أحمد رضي الله عنه على آيات في القرآن وردت بلفظ الخبر، وبين أنها مخصوصة؛ ذكره فيما خرجه في محبسه، فقال: قوله تعالى للريح التي أرسلها على عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 2، وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها، منازلهم ومساكنهم والجبال3 التي بحضرتهم -وقال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4 لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه. وقال لملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 5 وقد كان ملك سليمان شيئًا لم تؤته. خلافًا لبعضهم في قولهم: لا يدخل التخصيص في الخبر، كما لا يدخله النسخ.   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"130". 2 "25" سورة الأحقاف. 3 في الأصل بدون إعجام. 4 "102" سورة الأنعام. 5 "23" سورة النمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 دليلنا : أن التخصيص إنما دخل في لفظ الأمر؛ لأنه يحتمل أن يراد به جميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 ما وضع له اللفظ، ويحتمل أن يراد به بعضه، وهذا المعنى موجود في الخبر، كوجوده في الأمر؛ فإنه يصح أن يقول: رأيت المشركين، ويكون قد رأى بعضهم؛ فساوى الأمر الخبر في هذا، ويفارق النسخ؛ لأنه يرفع جميع الحكم ويزيله؛ فيؤدي إلى الكذب فيما أخبر به، والتخصيص لا يرفع جميع الحكم، بل يبقى بعضه؛ فلا يؤدي إلى التكذيب والإبطال. ويدل عليه وجود ذلك بدليل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ومعلوم أن ذاته لم تدخل فيه، وكذلك: {اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} ، ولم تدمر السموات والأرض، وما أشبه ذلك.   1 "20" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 مسألة إذ ورد الخطاب من صاحب الشرع بناء على سؤال سائل مدخل ... مسألة: 1 [إذا ورد الخطاب من صاحب الشرع بناء على سؤال سائل] : نظرت؛ فإن لم يكن مستقلًا بنفسه، ومتى أفرد عن السؤال لا يكون مفهوم المراد، مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لأبي بردة بن نيار: "يجزيك ولا يجزي أحدًا بعدك" 2؛ فهذا خرج على قول أبي بردة: لا أجد إلا جذعة من المعز؛ فهو مقصور على السؤال ومضموم إليه، ويكون تقديره: إذا ذبحت جذعة من المعز يجزيك في الأضحية، ولا يجزي أحدًا بعدك. وإن كان مستقلًا بنفسه نظرت: فإن كان مطابقًا للسؤال فهو على ضربين:   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"130"، و "روضة الناظر" ص"122". 2 سبق تخريج هذا الحديث ص"332". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 ضرب هو سؤال عنه جملة، وجواب عنها. وضرب هو سؤال عن حكم عين، وجواب عن حكمها. فالسؤال عن الجملة مثل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرض في اليوم والليلة؛ فقال: "خمس صلوات، كتبهن الله على عباده" 1. وما روي أنه سئل عن صلاة التطوع بالليل والنهار، فقال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" 2.   1 هذا جزء من حديث رواه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان "3/29-30". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام "1/40-41". وأخرجه عنه أبو داود في أول كتاب الصلاة "1/93". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب كم فرضت في اليوم والليلة "1/184". وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الصلاة، باب جامع الترغيب في الصلاة "1/357". وأخرجه عند الدارمي في سننه في كتاب الصلاة، باب في الوتر "1/309". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "2/114"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"85"، و"ذخائر المواريث": "1/274". 2 هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في صلاة النهار "1/297". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "2/491"، وقال فيه: "اختلف أصحاب شعبة فيه؛ فوقفه بعضهم، ورفعه بعضهم، والصحيح: ما رواه الثقات عن ابن عمر؛ فلم يذكروا فيه: "صلاة النهار". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 ...........................................................................................................................................   = وأخرجه عنه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف صلاة الليل "3/185-186"، وقال: "هذا الحديث عندي خطأ". لكن نقل الزيلعي عنه في "نصب الراية": "2/143-144" أنه قال في "سننه الكبرى": "إسناده جيد؛ إلا أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي فيه؛ فلم يذكروا فيه "النهار"؛ منهم: سالم، ونافع، وطاوس..". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "1/419". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "1/280". وأخرجه عند الدارقطني في كتاب الصلاة، باب صلاة النافلة في الليل والنهار "1/416"، وقد نقل عنه قوله في كتابه "العلل": "ذكر النهار فيه وهم". وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصلاة، باب صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "2/487"، ونقل عن البخاري: أنه صحيح الحديث. وقد نقل الحافظ ابن حجر في كتابه: "التلخيص": "2/22" عن البيهقي قوله: "هذا حديث صحيح"، و"علي البارقي" احتج به مسلم، والزيادة من الثقة مقبولة، وقد صححه البخاري لما سئل عنه، ثم روى ذلك بسنده إليه، قال: وروي عن محمد بن سيرين عن ابن عمر مرفوعًا بإسناد كلهم ثقات. وأخرجه عن ابن عمر أبو داود الطيالسي في: "مسنده" في كتاب الصلاة باب الخشوع في صلاة الليل وأنها مثنى مثنى "1/117". وأخرجه عنه الحاكم في كتابه "علوم الحديث" ص"58"، وقال بعد سياقه بسنده: "هذا حديث ليس في إسناده إلا ثقة ثبت، وذكر "النهار" فيه وهم، والكلام عليه يطول". وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: "رواته ثقات". ونقل صاحب "الجوهر النقي": "2/488" مطبوع مع "سنن البيهقي" عن ابن عبد البر قوله في كتابه: "التمهيد": "إن إسناد هذا الحديث مضطرب، ضعيف لا يحتج به".= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 .................................................................................................................   = كما نقل عن ابن عبد البر ما حكاه بسنده إلى يحيى بن معين أنه قال: "صلاة النهار أربع لا تفصل بينهن"؛ فقيل له: إن ابن حنبل يقول: "صلاة الليل والنهار مثنى"؛ فقال: بأي حديث؟ فقيل له: بحديث الأزدي عن ابن عمر؛ فقال: ومن علي الأزدي؟! حتى أقبل هذا منه، وأدع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعًا، لا يفصل بينهن؟؛ لو كان حديث الأزدي صحيحًا؛ لم يخالفه ابن عمر". ومن هذا العرض يتبين: أن هناك رأيين في هذا الحديث: رأي يقول بتضعيف الحديث، وعلى رأس القائلين بهذا ابن معين وابن عبد البر. ورأي يقول بصحته، وفي مقدمتهم البخاري والبيهقي. ومجمل أسباب التضعيف عند القائلين به: أولًا: أن هذه زيادة، أوردها "علي البارقي الأزدي" مخالفًا بها الثقات؛ فتطرح هذه الزيادة، ويعتمد رواية الثقات. ثانيًا: أن هذه الزيادة تتعارض مع فعل الراوي ابن عمر رضي الله عنهما، وقد روي عنه أنه كان يتطوع بالنهار أربعًا. وما كان له أن يخالف حديثًا صحيحًا، وبخاصة وهو راويه. وأما القائلون بالصحة فاستدلوا بما يلي: أولًا: أن "علي بن عبد الله البارقي الأزدي" -الذي عليه مدار هذه الزيادة- ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة. ثانيًا: أن لهذا الحديث طرقًا أخرى، منها: ما أخرجه الدارقطني بسنده عن ابن عمر مرفوعًا، وذلك في سننه في كتاب الصلاة، باب صلاة النافلة في الليل والنهار "1/417". ومنها: ما أخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" بسنده عن ابن عمر مرفوعًا كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "تلخيص الحبير": "2/22". ثالثًا: أن لهذا الحديث شاهدًا من حديث الفضل بن العباس مرفوعًا "الصلاة مثنى مثنى"، أخرجه الترمذي في "سننه": "2/225". وقد تكلم الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على سند هذا الحديث في تعليقه على سنن الترمذي "2/492"، وذيل كلامه بقوله: ".. فحديث الباب رواه الأزدي، وهو ثقة، وتابعه عليه عبد الله العمري، وهو ثقة أيضًا، كما ذكرنا مرارًا. وصححه البخاري. وكفى به حجة، وله شاهد آخر من حديث الفضل بن العباس مرفوعًا: "الصلاة مثنى مثنى"، من غير تقييد بصلاة الليل". على أن الحديث المذكور أخرجه أبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها، كما أخرجه إبراهيم الحربي عن أبي هريرة رضي الله عنه، حكى ذلك الزيلعي في كتابه "نصب الراية": "2/145". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 وما روى أبو سعيد الخدري1: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم فقال [82/ب] : "الحية والعقرب والفويسقة 2 والغراب والحدأة والكلب العقور والسبع العادي" 3.   1 هو: سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري الخدري. من علماء الصحابة وحفاظها المكثرين. خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق. وعمره يومئذ خمسة عشر عامًا. مات سنة 74هـ. له ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1671"، و"الإصابة" القسم الثالث ص"77" طبعة دار نهضة مصر. 2 "الفويسقة" هي "الفأرة"، كما صرحت بذلك بعض الروايات. 3 حديث أبي سعيد هذا؛ أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب "1/428"، ولكنه ذكر الغراب بلفظ: "يرمي الغراب، ولا يقتله". وأخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب "3/189"، ولم يذكر "الحية" في حديثه. وقال فيه: "هذا حديث حسن". وأخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم "2/1032"، ولم يذكر "الغرب" في روايته. وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب "2/166"، ولم يذكر من هذه الدواب إلا ثلاثًا؛ الحية، والعقرب، والفأرة الفويسقة.= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 والسؤال عن حكم عين من الأعيان، مثل ما روي: "أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يضرب نحره، وينتف شعره ويقول: هكلت وأهلكت، فقال: "ماذا فعلت؟ فقال: وقعت على امرأتي في رمضان،   = وحديث أبي سعيد هذا متكلم فيه فقد قال الحافظ ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير": "2/274"، "وفيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف وإن حسنه الترمذي. وفيه لفظة منكرة، وهي قوله: "ويرمي الغراب، ولا يقتله"..". ويزيد بن أبي زياد قال فيه ابن حبان: "صدوق"؛ إلا أنه كبر وساء حفظه، وكان يتلقن". وقال فيه يحيى: "ليس بالقوي". وقال أيضًا: "لا يحتج بحديثه". وقال أحمد: "حديثه ليس بذاك". وقال ابن المبارك: "ارم به". وقال ابن الفضيل: "كان من أئمة الشيعة الكبار". وقال شعبة: "كان يزيد بن أبي زياد رفاعًا". وقال الذهبي: "مشهور، سيء الحفظ". راجع في هذا: "المغني في الضعفاء" للذهبي "2/749"، و"ميزان الاعتدال" له "4/423"، و"لسان الميزان" لابن حجر "6/287" وقد قال الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار": "2/166"، بعد أن ساق الحديث بلفظ: "يقتل المحرم الحية والعقرب والفأرة الفويسقة". قال يزيد: وعد غير هذا؛ فلم أحفظ". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "3/130"، و "ذخائر المواريث": "3/183". وينبغي أن يعلم أن البخاري قد روى بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا في كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب "3/16" بلفظ: "خمس من الدواب لا حرج على قتلهن: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 فقال: أعتق رقبة" 1 حين ذكر له السبب؛ فالظاهر أن الرقبة متعلقة بالوقوع الذي ذكره، تعلق الحكم بالعلة؛ لأن السبب هو الذي اقتضى الحكم وآثاره، كما إذا سمع رجلًا يقول شيئًا؛ فقال له: "استغفر الله"، يدل على أن القول الذي اقتضى الاستغفار، والسبب يكون جميعه، عليه لا يجوز أن يزاد فيه بغير دليل؛ لأن الظاهر الذي اقتضى الحكم هو الذي ذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بالحكم لأجله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم بسبب ذكر له، يجب أن يكون الحكم جميع موجبه؛ لأن تأخير   1 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان، ولم يكن له شيء "3/39". وأخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم "2/781". وأخرجه الترمذي في كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان "3/93". وأخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب كفارة من أتى أهله في رمضان "1/557". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان "1/534". وأخرجه الدارقطني في كتاب الصيام باب القبلة للصائم "2/190". وأخرجه الدارمي في كتاب الصيام، باب في الذي يقع على امرأته في شهر رمضان نهارًا "1/343". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الصيام، باب حكم من أكل أو شرب ناسيًا أو متأولًا أو أفطر عمدًا في التطوع أو في رمضان "1/265". ويلاحظ: أن الحديث قد ورد بعدة ألفاظ، ولكن الواقعة واحدة. وراجع في الحديث أيضًا: "نصب الراية": "2/451"، و "تلخيص الحبير": "2/206"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"242، و"تيسير الوصول" 2/242". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فلو كان للسبب حكم غيره؛ لم يترك بيانه، ولهذا قلنا فيما روي أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مقطعه1، وهو متضمخ بالخلوق، فقال: أحرمت وعلي هذا، فقال: "انزع الجبة، واغسل الصفرة" 2، ولم يأمره بالفدية؛ فدل على أن الفدية غير   1 في إحدى روايات مسلم "3/836": "مقطعات". وقد أورد الزمخشري في كتابه "الفائق في غريب الحديث": "3/208" ثلاثة أقوال في تفسيرها: الأول: الثياب القصار؛ لأنها قطعت عن بلوغ التمام. الثاني: الثياب التي تقطع وتخاط، كالجلباب ونحوه. الثالث: برود: عليها وشي مقطع. 2 هذا الحديث رواه يعلى بن أمية رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج "3/6". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح "2/836". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة "3/187". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب الرجل يحرم في ثيابه "1/422-423". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب الجبة في الإحرام "5/99". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج "2/231". وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم "1/212". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في الكحل والطيب والتزعفر "2/15". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "2/273"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"384". و"نصب الراية": "3/19"، و"ذخائر المواريث": "3/131"، و"تيسير الوصول": "1/240". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 واجبه، وتكون العين المنصوص على حكمها1 أصلًا، ويكون كل من وجد منه مثل ذلك السبب في حاله2؛ وإنما كان المنصوص عليه أصلًا؛ لأنه ثبات حكمه بلفظ تناوله خصوصًا، وكان غيره في حاله3؛ لأنه حكم فيه بعلة تعدت إليه منه، كما أن الأرز وسائر المكيلات، فروع للأربعة المنصوص عليها للمعنى الذي ذكرته. وأما إذا كان الجواب مخالفًا للسؤال نظرت: فإن كان أخص من السؤال، مثل: أن يسأل عن قتل النساء الكوافر؛ فيقول: "اقتلوا المرتدات؛ فيجب قتل المرتدات باللفظ، وغير المرتدات من الحربيات لا يجوز قتلهن من طريقين: أحدهما: من طريق دليل الخطاب، والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عدل عن الاسم العام إلى الاسم الخاص؛ دل على أنه قصد المخالفة بين المرتدات، وبين الحربيات. وهكذا كما قال أصحابنا في خبر حذيفة بن اليمان4 عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجدًا، وجعل ترابها طهورًا" 5،   1 في الأصل: "حكمه"، والصواب ما أثبتناه؛ لأن الضمير يعود على مؤنث. 2 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "في حكمه". 3 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "في حكمه". 4 هو: حذيفة بن حسيل "بالتصغير، ويقال: بالتكبير" بن جابر بن ربيعة بن فروة، المعروف باليمان، العبسي. من كبار الصحابة وأجلائهم. شهد الخندق وما بعدها، وشهد حروب العراق. استعمله عمر على "المدائن"؛ فلم يزل بها، حتى مات سنة 36هـ. له ترجمة في: "الاستيعاب": "1/334"، و"الإصابة": "1/332". 5 هذا الحديث أخرجه مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعًا، في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة "1/371"، بلفظ: "جعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا، إذا لم نجد الماء". وأخرجه الدارقطني عنه في كتاب الطهارة، باب التيمم "1/176" بمثل لفظ مسلم. وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/148-149"، و"تيسير الوصول": "3/69"، و"ذخائر المواريث": "1/188"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"77"، و"نصب الراية": "1/158". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 فعلق على اسم الأرض كونها مسجدًا، وعلى نوع منها كونه طهورًا؛ فدل على أنه قصد المخالفة بين المسجد والطهور. خلافًا لأبي حنيفة أن كل أرض مسجد وطهور. وأما إن كان أعم من السؤال، مثل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل: إنا نركب أرماثًا1 لنا في البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، [83/أ] أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال: "البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" 2؛ فسئل عن حال الضرورة، وأجاب بأنه   1 في الأصل: "أزماتًا"، والصواب من أثبتناه. ولم تأت هذه اللفظة في كل المراجع التي سأذكرها في تخريج الحديث؛ إلا عند الدارمي فقد جاءت اللفظة بصيغة الأفراد، حيث جاء: "أتى رجال من بني مدلج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا يا رسول الله إنا أصحاب هذا البحر، نعالج الصيد على رمث.." الحديث "1/151". قال الزمخشري في كتابه "الفائق": "2/84": "الرمث: الطوف، وهو خشب يضم بعضه إلى بعض، ويركب في البحر". 2 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، كما رواه غيره، وسنقتصر على تخريج حديث أبي هريرة؛ لأنه أصح ما ورد في الباب؛ ولأن لفظ حديث أبي هريرة هو اللفظ الذي ساقه المؤلف، مع اختلاف قليل بين المحدثين في لفظ الحديث. وقد أخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور "1/100-101"، وقال: "حديث حسن صحيح".= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 .................................................................................................................   = وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر "1/19". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر "1/136". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب ماء البحر "1/44". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب الوضوء في ماء البحر "1/36". وأخرجه الدارمي في كتاب الطهارة، باب الوضوء من ماء البحر "1/151". وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الطهارة، باب الطهور في الوضوء "1/52-53". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب أحكام المياه التي يجوز التطهر بها "1/19". وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الطهارة، باب التطهر بماء البحر "1/3". واختلف في الحديث بين مصحح ومضعف، والذين ضعفوه قالوا: إن فيه عللًا أربعًا: إحداها: جهالة بعض رواته. الثانية: الاختلاف في اسم بعض رواته. الثالثة: الإرسال. الرابعة: الاضطراب. وأجيب عن هذه المطاعن الموجهة للحديث، كما نقل ذلك الزيلعي في "نصب الراية" عن الشيخ تقي الدين. أما الذين صححوه؛ فهم على قمسين: قسم صححه، وقبله؛ لتلقي الأمة له بالقبول؛ لا لصحة سنده. وهو منقول عن ابن عبد البر. وقسم صححه، وقبله؛ لصحة سنده، وهم الأكثرية، ومنهم: الترمذي، وأبو محمد البغوي، وابن منده، وابن المنذر، والبخاري فيما حكاه عنه الترمذي. ولعل هذا لقول هو الأولى بالأخذ. وراجع في هذا الحديث أيضًا: "بلوغ المرام" ص"3"، و"تلخيص الحبير": "1/9-12"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"8"، و"نصب الراية": "1/96-98"، و"المحرر في الحديث في بيان الأحكام الشرعية" "ص4". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 طهور، ولم يخص حال الضرورة دون حال الاختيار؛ فيجب عندنا أن يحمل الجواب على عمومه، ويكون الاعتبار بعموم اللفظ، دون خصوص السبب. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية علي بن سعيد وقد سئل عن الوضوء من ماء البحر؛ فقال: لا بأس به، وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، الحلال ميتته"؛ فقد احتج بالحديث على العموم، ولم يعتبر السبب الذي ور عليه. وهو قول أصحاب أبي حنيفة1، وأكثر أصحاب الشافعي2، وأصحاب الأشعري.   1 راجع في هذا: "تيسير التحرير": "1/264"، و"فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت": "2/289". 2 راجع في هذا: "المستصفى": "2/60"، و"شرح جمع الجوامع": "2/38"، و"الإحكام" للآمدي": "2/218"، وقد ذكر الآمدي: أن المنقول عن الشافعي: أنه لا يذهب إلى القول بالعموم. وتعقبه الإسنوي في "نهاية السول": "2/479"، بأنهم اعتمدوا في ذلك على قول إمام الحرمين في "البرهان": إنه الذي صح عندي من مذهب الشافعي، ونقله عنه في المحصول. ثم قال الإسنوي عقب ذلك: " ... وما ذكره الإمام مردود؛ فإن الشافعي رحمه الله قد نص على أن السبب لا أثر له؛ فقال في "الأم"، في باب ما يقع به الطلاق: ولا يصنع السبب شيئًا؛ إنما يصنعه الألفاظ؛ لأن السبب قد يكون، ويحدث الكلام على غير السبب، ولا يكون مبتدأ الكلام الذي حكم؛ فإذا لم يصنع السبب بنفسه شيئًا؛ لم يصنعه ما بعده، ولم يمنع ما بعده أن يصنع له حكم إذا قيل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 وقال أصحاب مالك1: يقتصر على السؤال، وحكى ذلك2 عن المزني3 وأبي بكر الدقاق4. إن الدلالة على الحكم هو لفظ صاحب الشريعة، دون سؤال السائل؛ فإذا كان لفظه عامًا؛ وجب حمله على عمومه، كما لو ورد ابتداء. ولأن الاعتبار بلفظه، دون السؤال، بدليل: أن السؤال إذا كان عامًا، والجواب خاصًا؛ وجب حمله على خصوصه اعتبارًا به، كذلك ههنا. ولأنا نعتبر صفة اللفظ في كونه أمرًا ونهيًا وإباحة؛ كذلك في كونه عمومًا وخصوصًا. ولأن المرأة إذا قالت لزوجها: طلق ضرائري؛ فقال: كل امرأة لي   1 أكثر المالكية على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما حكى ذلك القرافي في كتابه "شرح تنقيح الفصول" ص"216"، كما حكي عن الإمام مالك روايتين. والقول بأن العبرة بخصوص السبب عن الإمام مالك، هو الذي نقله كثير من الأصوليين، كالآمدي في كتابه "الإحكام": "2/219"، والإسنودي في كتابه "نهاية السول": "2/477". 2 نقل ذلك صراحة الإسنوي عن المزني، كما نقل بعض العلماء: أن الدقاق يقول بذلك. انظر: "نهاية السول": "2/477-478". 3 هو: إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق، المزني نسبًا، المصري موطنًا، الشافعي مذهبًا، ذو علم وزهد وورع وتقوى، قال فيه الشافعي: المزني ناصر مذهبي، له مصنفات، منها: "الجامع الكبير"، و"الجامغ الصغير" مات سنة 264هـ، وعمره 89 سنة. له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/148"، و"وفيات الأعيان": "1/196-197". 4 هو: محمد بن جعفر، وقد سبقت ترجمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 طالق؛ طلقت السائلة مع ضرائرها؛ لأن لفظ الزوج عام؛ فوجب حمله على عمومه، دون خصوص السؤال، كذلك ههنا. ولأنه زائد على السؤال؛ فوجب أن يثبت حكمها وتكون شرعًا، كما إذا كانت الزيادة منفصلة، مثل قوله: "الحل ميتته". ولأن العام إنما يخص بما يعارضه وينفيه، والسبب الوارد عليه اللفظ مماثل له ومطابق له في حكمه؛ فلا يجوز تخصيصه. ولأن الخطاب قد ورد في مكان وزمان، ثم لا يقتصر به على المكان والزمان؛ كذلك لا يقتصر به على السبب. ولأن خروجه على شخص بعينه، لا يوجب تخصيصه به، مثل آية اللعان، نزلت في شأن هلال بن أمية1. وآية القذف نزلت في   1 ورد أنها نزلت في هلال بن أمية، وورد أنها نزلت في عويمر العجلاني. أخرج البخاري قصة هلال وقصة عويمر في كتاب التفسير، باب سورة النور "9/125-126". وأخرجهما مسلم في أول كتاب اللعان "2/1129" وما بعدها. وأخرجهما أبو داود في كتاب الطلاق، باب اللعان "1/520-524". وأخرجهما ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب اللعان "1/667-668". وأخرج النسائي قصة قذف هلال امرأته، وقصة مجيء عويمر في كتاب الطلاق، باب بدء اللعان، وباب اللعان في قذف الرجل زوجته برجل بعينه، وباب كيف اللعان "6/139-142". وأخرج الترمذي قصة هلال، في كتاب التفسير، باب ومن سورة النور "5/331". وقد اختلف العلماء في أيهما نزلت الآية على أقوال، تنحصر في ثلاثة مسالك: المسلك الأول: الترجيح بين الأحاديث؛ فبعضهم رجح نزولها في هلال، وبعضهم رجح نزولها في عويمر.= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 شأن الإفك1، وآية الظهار في شأن خولة2، كذلك خروجه على مسبب.   = المسلك الثاني: الجمع بين الأحاديث، وذلك: أن الآية نزلت في شأنهما معًا؛ فقد وقعت الحادثة أولًا لهلال، ثم صادف مجيء عويمر. المسلك الثالث: تعدد نزول الآية؛ فقد نزلت مرتين، مرة في شأن هلال، ومرة في شأن عويمر. راجع في هذا: "أسباب نزول القرآن للواحدي" ص"328-329"، و"أسباب النزول" لعبد الفتاح القاضي ص"153-154". وهلال هذا هو: هلال بن أمية الأنصاري الواقفي البدري. أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. له ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1542"، و"الإصابة" القسم السادس ص"546" طبعة دار نهضة مصر. 1 راجع في هذا: "أسباب النزول" للواحدي ص"330-335"، و"أسباب النزول" للسيوطي ص"123-126"، و"أسباب النزول" لعبد الفتاح القاضي ص"155-159". 2 في الأصل: "قوله"، وهو خطأ، والصواب: "خولة" كما أثبتناه؛ لأن الآية نزلت فيها، وقد اختلف في اسمها، فقيل: "خولة"، وهو الأكثر وقيل: "خويلة". وقيل: "جميلة". كما اختلف في اسم أبيها، فقيل: "ثعلبة"، وهو المشهور. وقيل: "مالك بن ثعلبة". وقيل: "خويلد". انظر ذلك في ترجمتها في: "الاستيعاب": "4/1830-1832"، و"الإصابة" القسم السابع ص"618" طبعة دار نهضة مصر. وقصة مظاهرة زوجها أوس بن الصامت منها مشهورة؛ فلا نطيل الكلام بإيرادها، ومن أرد الاطلاع على ذلك فعليه بالرجوع إلى: "أسباب نزول القرآن" للواحدي ص"433-435"، و"أسباب النزول" للسيوطي ص"164"، و"أسباب النزول" لعبد الفتاح القاضي ص"218-219"، و"نصب الراية": "3/246"، و"تلخيص الحبير": "3/220-221". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الجواب والسؤال بمنزلة الجملة الواحدة؛ فيصير كأنه قال: إذا ركبتم البحر، وكان معكم القليل من الماء، وإن توضأتم خفتم العطش؛ فتوضئوا بماء البحر؛ فإنه طهور، ولو كان هكذا؛ لكان مقصورًا على حال الضرورة؛ لأن خوف العطش، يصير شرطًا في الوضوء بماء البحر، ويدل على أنهما بمنزلة الجملة الواحدة: أن الجواب مقتضى السؤال. والجواب: أنا لا نسلم أنه بمنزلة الجملة، ونقول: هما ضمنان؛ لأن السؤال ليس بعلم على الحكم، والجواب [83/ب] علم على الحكم؛ فدل على أنهما جملتان مختلفتان. وقولهم: إن الجواب مقتضى السؤال؛ فهو وإن كان مقتضاه؛ فيجوز أن يكون زائدًا عليه، ويجيب عما يسأل وعما لم يسأل، ولهذا قال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته". ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} 1. واحتج: بأنه يجوز أن يكون الجواب مبهمًا محالًا به على بيان السؤال. والجواب: أنه يجوز أن يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم مبهمًا محالًا على بيان القرائن، وبيان القياس، ويكون لفظ القرآن محالًا على بيان السنة، وإذا كان كذلك؛ لم يدل هذا على أنهما جملة واحدة. واحتج بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "أعتق رقبة"، مقصور على   1 "17-18" سورة طه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 السبب الذي خرج الكلام عليه، ولا يجوز أن يتعدى ذلك حال وقوع الفعل. والجواب: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة"؛ لا يعم حال الوقوع، وغير حال الوقوع، وليس كذلك: "هو الطهور ماؤه"؛ فإنه عام في جميع الأحوال. وحمله على حال الضرورة، تخصيص له بأمر ما، يدل على ذلك: أنها لو قالت: طلقني، فقال: أنت طالق، كان الظاهر أنه طلقها لسؤالها، وأن قولها هو المقتضى لإيقاع الطلاق عليها. وإذا قالت له: طلق ضرائري، فقال: كل امرأة له طالق؛ حمل قوله على عمومه فيها وفي ضرائرها؛ فدل على ما قلناه. واحتج: بأن الخطاب لما ورد عقيب السبب، كان الظاهر أنه بيان لحكمه1؛ فإنه لو كان بيانًا لحكم غيره2 لذكره قبل حدوثه. والجواب: أنه لو ذكره قبل ورود السبب؛ لجاز إخراج هذا السبب منه وتخصيصه، وحين ذكره عند وجود السبب؛ أفاد أنه لا بد أن يكون السبب داخلًا في حكم الخطاب، وأنه لا يجوز تخصيصه؛ لكونه منصوصًا عليه، وعلى أن هذا يوجب إذا ورد في مكان مخصوص، وزمان مخصوص، وسائل مخصوص أن يقتصر على سؤال السائل، وعلى الزمان والمكان. وقد أشار أحمد رحمه الله إلى أنه إذا ورد على سبب؛ لم يجز خروج السبب من الخطاب في رواية أبي داود3 وقيل له: إن فلانًا قال: قراءة الفاتحة يعني خلف الإمام -مخصوص من قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ   1 في الأصل: "حكمها"، والصواب: ما أثبتناه؛ لأن الضمير راجع إلى "السبب"، وهو مذكر. 2 في الأصل: "غيرها"، والصواب: ما أثبتناه، لما سبق من التوجيه. 3 راجع هذه الرواية في "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود ص"31". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} 1، فقال: من يقول هذا؟! أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة. فقد أنكر تخصيص الآية، وحملها على غير المصلي؛ لأنها واردة في المصلي؛ [فلم] يخرج [بها] عن سببها. واحتج بأن الجواب إذا كان بلا [أ] ونعم، كان مقصورًا على السؤال؛ كذلك إذا كان أعم منه. والجواب: [84/أ] أن الجواب هناك غير مستقل بنفسه؛ ألا تراه لا يصح تفرده عنه، وهذا بخلافه. واحتج: بأن السبب كالعلة في الحكم، والعلة لا تدل على أكثر من معلولها. والجواب: أنه إذا كان الخطاب أعم من السبب، كان السبب كالعلة في قدر حكمه، وما زاد عرف حكمه باللفظ. واحتج: بأن قصره على سببه وتخصيصه بتلك العين، قد يكون فيه مصلحة؛ فلا يجوز أن يتعدى ذلك. والجواب: أن قصره على الوقت والمكان، قد يكون فيه مصلحة، ومع هذا فلا يجب ذلك. واحتج: بأنه لما كانت الأيمان مقصورة على أسبابها، يجب أن تكون ألفاظ صاحب الشريعة كذلك. والجواب: أنا لا نقصرها على أسبابها، بل يعتبر في تفهم الحكم وزيادته على اللفظ؛ فأما في تخصيص اللفظ بالسبب؛ فلا؛ ولهذا نقول: إذا حلف لا يلبس من غزلها لمنّة؛ فانتفع بثمنه، أو بشيء من مالها حنث. وقد قال أحمد رحمه الله فيمن حلف لا يصيد في نهر؛ لأجل ظلم السلطان؛ فزال الظلم: فإن اصطاد؛ حنث، كذلك ههنا.   1 "204" سورة الأعراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 إذا كان أول الآية عاما وآخرها خاصا حمل كل واحد منهما على ما ورد مدخل ... فصل 1: إذا كان أول الآية عامًا وآخرها خاصًا: كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2 هو عام في البائن والرجعية، وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 2 خاص في الرجعية، فيحمل كل واحد منهما على ما ورد، ولا يخص أولها بآخرها. وهذا بناء على الأصل الذي تقدم، وأنه لا يقصر اللفظ على سببه ولا على السؤال؛ لأن التخصيص إنما يكون بما يخالفه ويعارضه، وهذا يوافقه؛ لأن قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} بعض ما اشتمل عليه قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} . ولأن اللفظ الأول يستقل بنفسه؛ ولأن اللفظ الثاني يحتمل أن يكون راجعًا إلى جميع ما تقدم، ويحتمل أن يكون راجعًا إلى بعضه، ولا يجوز تخصيصه بالشك. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 3 قال: أول الآية يدل على أن علمه معهم. وقال في سورة أخرى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 4. وقال رحمه الله في رواية أبي طالب: يأخذون بأول الآية ويدعون آخرها5.   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"138". 2 "228" سورة البقرة. 3 "7" سورة المجادلة. 4 "255" سورة البقرة. 5 ذكرت هذه الرواية في "المسودة" ص"138"، كما هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 وليس هذا من أحمد رضي الله عنه على أنه يجب تخصيص أولها بآخرها؛ وإنما قال ذلك بدليل دل على ذلك، وعضده بما في سياق الآية. ولو أن قائلًا قال: ظاهر الكلام التسوية بين أول الآية وآخرها، كان له وجه في الاعتبار؛ لأن المتكلم متى وضع كلامه على وجه؛ فظاهر أمره أنه يخرجه [84/ب] على ما وضعه عليه، وأنه لم يعدل عنه إلى غيره، ويجري ذلك مجرى الكناية، وسائر ما يعطف بعضه على بعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 مسألة تعارض العام والخاص مدخل ... مسألة 1: [تعارض العام والخاص] : إذا تعارضت آيتان أو خبران، وأحدهما عام والآخر خاص، والخاص منافٍ للعام؛ وجب تخصيص العام، سواء تقدم العام على الخاص أو تأخر، أو جهل التاريخ، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 2 وقال النبي: "لا قطع إلا في ربع دينار". وقوله: {لا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 3، وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 4، ونحو هذا. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في مواضع: فقال في رواية يعقوب بن بختان5 في الخبرين: يجيئان6 عن النبي   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"134-136". 2 "38" سورة المائدة. 3 "221" سورة البقرة. 4 "5" سورة المائدة. 5 في الأصل: "بحان" بدون إعجام، والصواب ما أثبتناه، وقد سبقت ترجمته. 6 في الأصل: "بحار" هكذا بدون إعجام، والصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 صلى الله عليه وسلم متضادين لكل خبر وجهه. وقال في رواية المروذي: لا تضرب الأخبار بعضها ببعض؛ لكل خبر وجهه، مثل: من اشترى شاة مصراة؛ فليرد معها صاعًا من تمر، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"، وذكر مع السلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده". وقال رضي الله عنه في رواية أبي طالب: حديث أم سلمة: "من أراد أن يضحي؛ فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره"، وحديث عائشة1 عام، وحديث أم سلمة مخصوص؛ فهو آكد؛ لأنه قد خص من العام: إذا أراد أن يضحي أمسك؛ وإذا بعث لم يمسك، هذا على وجهه، وهذا على وجهه. وقال في رواية عبد الله وقد سأله عن الثوب تصيبه الجنابة2 فقال: أذهب إلى الحديثين، حديث سليمان بن يسار3 عن عائشة: "أن النبي   1 حديث عائشة رضي الله عنه، المشار إليه، هو ما أخرجه الجماعة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم". وقد مضى تخريج حديث عائشة هذا، وحديث أم سلمة أيضًا. 2 المراد بالجنابة هنا: المني. 3 هو: سليمان بن يسار، أبو أيوب أو أبو عبد الرحمن، أخو عطاء. من علماء المدينة حديثًا وفقهًا. مات سنة 94هـ، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" "1/91"، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص"131"، و"طبقات الحفاظ" ص"35"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي ص"60"، و"النجوم الزاهرة": "1/252". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 صلى الله عليه وسلم كان يغسله"1، وحديث الأسود2 عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فركه"3؛ أذهب إليهما، ولا أرى أحدهما4.   1 حديث عائشة هذا، أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل المني وفركه، وغسل ما يصيب المرأة "1/64-65". وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المني "1/239". وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب غسل المني من الثوب "1/201" وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المني يصيب الثوب "1/89". وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة باب غسل المني من الثوب "1/127". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب المني يصيب الثوب "1/178". وأخرجه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ما ورد في طهارة المني، وحكمه رطبًا ويابسًا "1/125". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"17". 2 هو: الأسود بن يزيد بن قيسن النخعي، الكوفي، أبو عمر، روى عن الخلفاء الأربعة الراشدين، كما روى عن عائشة وغيرها. وعنه روى ابنه عبد الرحمن وأخوه عبد الرحمن وأبو إسحاق وغيرهم. توفي سنة 75هـ وقيل غير ذلك. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/50"، و"تهذيب التهذيب": "1/342"، و"الخلاصة" ص"32"، و"شذرات الذهب": "1/82"، و"طبقات القراء الكبار" للذهبي: "1/43"، و"غاية النهاية": "1/171". 3 حديث عائشة هذا، أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المني "1/238". وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المني يصيب الثوب "1/200". وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المني يصيب الثوب "1/89". وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب فرك المني من الثوب "1/127". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب فرك المني من الثوب "1/179". وراجع أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"17". 4 جاء عن عائشة رضي الله عنها ما يفيد أنها كانت تغسل المني إذا كان رطبًا، وتفركه إذا كان يابسًا، وذلك فيما أخرجه عنها الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب طهارة المني وحكمه رطبًا ويابسًا 1/125 بلفظ: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 ولهذا أمثال منه قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" ثم أجاز السلم، والسلم: بيع ما ليس في ملكه؛ وإنما هو على صفة. ومنه الشاة المصراة، إذا اشتراها الرجل فحلبها، إن شاء ردها وصاعًا من تمر، وقول النبي صلى الله عليه [وسلم] : "الخراج بالضمان"؛ فكان ينبغي أن يكون اللبن للمشتري؛ لأنه ضامن بمنزلة العبد، إذا استعمله فأصاب به عيبًا رده، فكان عليه ضمانه، تستعمل1 الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر؛ فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به. وقال في رواية خطاب بن بشر2 وقال له أبو عثمان الشافعي3 تذهب إلى الحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" 4 فقال:   1 بدون إعجام في الأصل، وقد عجمناها بما يناسب المقام. 2 هو: خطاب بن بشر بن مطر، أبو عمر البغدادي المذكر، كان رجلًا صالحًا وعاظًا، من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقل عنه بعض المسائل. مات سنة 264هـ. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/152". 3 هو: محمد بن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، أبو عثمان القاضي. أكبر أولاده الشافعي. روى عن أبيه وأحمد بن حنبل وعبد الرزاق وغيرهم. تولى القضاء بالجزيرة، ثم بمدينة حلب. مات بالجزيرة سنة 240هـ. له ترجمة في: "طبقات الشافعية" للسبكي "2/71". 4 هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" 1؛ فقد بين أنه ...   = في كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها "1/182". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة "1/295". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب "1/189". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء أنه لا صلاة؛ إلا بفاتحة الكتاب. وأخرجه عنه النسائي في كتاب الافتتاح، باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة "2/106". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب القراءة بفاتحة الكتاب "1/227". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة أم الكتاب في الصلاة وخلف الإمام "1/321". وراجع أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"144". 1 هذا الحديث رواه جابر رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة، باب ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة المأموم له قراءة ": 1/323-326"، ثم قال عقبة: "لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان" قلت: أما أبو حنيفة فاختلف العلماء فيه، بين موثق، ومضعف. أما الحسن بن العمارة؛ فمتروك، كما قال ذلك جماعة منهم أحمد ومسلم والدارقطني وأبو حاتم وقد صوب الدارقطني إرساله، حيث قال في سننه "1/325": "وروى هذا الحديث سفيان الثوري، وشعبة، وإسرائيل بن يونس، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد وغيرهم، عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلًا، عن النبي صلى الله عليه وسم، وهو الصواب". وحكم بكونه مرسلًا المجد بن تيمية في كتابه: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"145". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 يستعملها1، وأنه يقضي بالخاص منهما على العام، ولم يجعل أحدهما ناسخًا للآخر. وقوله: إن الأخير أولى [85/أ] أن يؤخذ به؛ أراد إذا كان جميعًا خاصين، وقد تعارضا؛ فيكون الثاني ناسخًا للأول؛ فأما إذا كان أحدهما عامًا والآخر خاصًا، والخاص ينافي العام؛ فالحكم فيه على ما ذكرناه. وهو قول أصحاب الشافعي. وقال أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه الجرجاني: إن كان العام هو المتقدم؛ كان الخاص المتأخر ناسخًا لبعضه، وإن كان العام هو المتأخر كان ناسخًا لجميع الخاص. وإن لم يعلم التاريخ؛ فقد ذكره عيسى2 على أربعة أقسام: فقال: إن كان الناس قد عملوا بهما جميعًا؛ وجب استعمالها ويرتب العام على الخاص، مثل نهيه عن بيع ما ليس عنده، ورخص في السلم. وإن كانوا اتفقوا على استعمال أحدهما؛ فالعمل على ما اتفقوا عليه   1 في الأصل: "يستعملها"، وهو خطأ عربية، والصواب: ما أثبتناه؛ لأن الضمير يعود على مثنى، كما يدل على ذلك السباق واللحاق. 2 المراد: عيسى بن أبان الحنفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 والآخر منسوخ، وذلك مثل قوله: "فيما سقت السماء العشر" 1، وقوله: "ليس في الخضروات صدقة" 2، العام: قد تلقته الأمة   1 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا؛ أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري "2/148" بلفظ: "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا العشر، وما سقي بالنضج نصف العشر". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع "1/370". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيره "3/22". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر "5/31". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب صدقة الرزوع والثمار "1/581". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض وخرص الثمار "2/129". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنقى من أحاديث الأحكام" ص"317". 2 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الخضروات "3/21"، بسنده إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه بلفظ: "إنه -أي معاذ- كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله عن الخضروات، وهي البقول؛ فقال: "ليس فيها شيء"، ثم عقب عليه بقوله: "إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. والعمل على هذا عند أهل العلم: أن ليس في الخضروات صدقة. قال أبو عيسى: والحسن بن عمارة -أحد رواة الحديث- ضعيف عند أهل الحديث؛ ضعفه شعبة وغيره، وتركه ابن المبارك". وعنه أخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب ليس في الخضروات صدقة "2/96" بمثل لفظ المؤلف كما أخرجه عن علي وطلحة وأنس بن مالك رضي الله عنهم في والكتاب والباب المذكورين "2/95-98". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 بالقبول، وخبر الخضروات مختلف في حكمه؛ فلم يجز أن يقضي به على العام. وإن كانوا اختلفوا في ذلك؛ فعمل بعض الناس بأحد الخبرين،   = كما أخرجه عن عائشة رضي الله عنها في كتاب الزكاة، باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض وخرص "2/129" وفيه: "وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة". وأورده المجد بن تيمية في كتابه "المنتقى" في كتاب الزكاة، باب زكاة الزروع والثمار ص"317" بلفظ: "عن عطاء بن السائب، قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضروات صدقة". فقال ابن طلحة: ليس لك ذلك، إن رسول الله صلى عليه وسلم كان يقول: "ليس في ذلك صدقة"؛ رواه الأثرم في سننه. وهو من أقوى المراسيل، لاحتجاج من أرسله به". وهذا الحديث ضعيف؛ فقال قال الذهبي -فيما نقله عنه المناوي في كتابه "فيض القدير": "5/374": طرقه واهية بمرة. وقد رمز له السيوطي بالضعف في كتابه "الجامع الصغير": "5/373"، مطبوع مع شرحه "فيض القدير". وتكلم الحافظ ابن حجر على طرق هذا الحديث، وضعفها كلها، وذلك في كتابه "تلخيص الحبير" في كتاب الزكاة، باب زكاة الزروع والثمار "2/386-389"، وقد وفى البحث حقه؛ فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه. وفي كتاب "الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير": "3/62" عزو للحديث إلى ابن ماجه، وهو خطأ فاحش؛ فلم يخرجه ابن ماجه. ولعل الخطأ من الشيخ يوسف النبهاني، الذي ضم الزيادات إلى "الجامع الصغير"، وأطلق على ذلك اسم: "الفتح الكبير"، ولم أجد العزو وهذا في كتاب: "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي "5/373". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 وعامة الفقهاء تخالفه وتنكر على الواحد؛ فالعمل1 على ما عليه العام، ويسقط الآخر. وإن كان الخبران مما يتعلق الحكم بهما، ويسوغ الاجتهاد في الحكم الذي تضمن كل واحد من الخبرين، ولم يظهر من الصحابة العمل بأحد الخبرين؛ فالواجب: المصير إلى الاجتهاد في تقدم أحدهما على الآخر، أو استعمال كل واحد فيما يقتضيه. ومعنى هذا عندهم: أنهما يسقطان، ويرجع إلى دليل غيرهما. وحكي عن أبي بكر ابن الباقلاني أنه قال: إذا جهل التاريخ؛ وجب التوقف فيهما.   1 في الأصل: "والعمل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 دليلنا : أن الخاص يتناول ما تناوله بصريحه من غير احتمال، والعام يتناول بظاهره وعمومه، ويحتمل أن يكون المراد به ما عدا ما تناوله الخاص؛ فإذا كان كذلك، وجب القضاء بالخاص، كما يجب أن يقضي بالنص الذي لا يحتمل على اللفظ المحتمل. ولأنا نجمع بين الخاص والعام، والجمع بين الدليلين أولى من إسقاط أحدهما بالآخر أو وقفهما وإيقاع التعارض بينهما؛ لأن كل واحد يقتضي العمل به والمصير إلى موجبه، فما أدى إلى استعماله؛ كان أولى. ولأنه يجوز تخصيص العموم بالقياس وبدليل العقل، وإن كان متقدمًا عليه؛ فجاز تخصيصه بالخبر الخاص وإن كان متقدمًا عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه إذا كان متقدمًا والخصوص متأخرًا؛ فإنما كان ناسخًا ببعضه؛ لأن بيان العموم لا يجوز تأخيره عن حال وروده؛ فإذا ورد متأخرًا عنه لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 يجز أن يقع موقع بيانه؛ فلم يبق إلا أن يكون ناسخًا. والجواب: أن تأخير البيان [85/ب] جائز عندنا، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. واحتج بأنه إذا كان الخصوص متقدمًا؛ أن العام المتأخر ينسخ الخاص: أن العموم يفيد الحكم في جميع ما يصح أن يعبر به عن المسميات بدلالة اتفاقهم إذا كان الخصوص متقدمًا عليه؛ وإذا كان كذلك؛ صار كل واحد بمنزلة ما ورد منفردًا؛ فيصير مقدار ما وقعت المعارضة فيه متنافيًا؛ فيقضي بالثاني على الأول، مثل اللفظين إذا وردا بلفظ الخصوص. والجواب: أن العموم وإن كان يفيد الحكم في جميع المسميات؛ فقد بينا أنه يفيد ذلك من طريق الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد ما عدا ما تناوله الخاص، والخاص يتناول ما يتناوله بصريحه من غير احتمال؛ فوجب القضاء عليه. واحتج: بأنه لو كان أراد استثناء الأقل من العموم الثاني؛ لذكره ونبه عليه، لعلمه باعتقاد أهل اللغة الصيغة؛ فلما لم يبين كان الظاهر ورود الثاني في معارضة الأول؛ فيكون ناسخًا له. والجواب: أنه لم يذكره مع اللفظ؛ لأنه يجوز تأخير بيانه؛ فإذا بينه بالثاني؛ وجب حمله عليه. واحتج بأن الحكم الذي يفيده العام من المسميات طريقه القطع؛ فجاز إثبات النسخ لما تقدم به كالخاص المنفرد. والجواب: أنا لا نسلم أنه يفيد جميع المسميات من طريق القطع؛ وإنما يفيد ذلك من طريق الظاهر، ويجوز أن يكون المراد ما عداه. واحتج بأن ما اتفق على استعماله قد صار مقطوعًا عليه؛ فوجب أن يسقط ما طريقه الاجتهاد كما يسقط خبر الواحد إذا عارضه نص التواتر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 والجواب عنه من وجوه: أحدها: أنه لم يخالف في الخضروات، وفيما دون خمسة أوسق، وأهل العلم على خلافه؛ حتى خالفه أصحابه، وإذا كان كذلك؛ وجب القول بالخاص؛ لأن عليه عامة أهل العلم. ثم لا نسلم أنه متفق على استعماله؛ لأن ما قابله الخاص غير مستعمل عندنا. ولأنا أجمعنا على أن قوله: "ليس فيما دون خمس 1 أواق من الورق 2 صدقة" 3 يقضي به على قوله:   1 في الأصل: "خمسة"، والصواب ما أثتبناه؛ لأن العدد يخالف المعدود، والمعدود هنا، وهو"الورق" مؤنث، والعدد "خمس" فلا بد أن تحذف منه علامة التأنيث. وما أثبتناه موافق للمصادر التي سنذكرها في تخريج الحديث. 2 "الورق" الدراهم المضروبة، وقيل: الفضة مضروبة أو غير مضروبة. راجع "مختار الصحاح"، و"المصباح المنير" مادة "ورق". 3 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة "2/141"، ولفظه: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة". وأخرجه عنه مسلم في أول كتاب الزكاة "2/674-675". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة "1/357". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب "3/13". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الورق "5/26". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال "1/571". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب ما لا يجب فيه الصدقة من الحبوب والورق والذهب "1/323". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب وجوب زكاة الذهب والورق والماشية.. "2/93". وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة ص"167". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "بلوغ المرام" ص"71"، و"نصب الراية": "2/363"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"317". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 "في الرقة 1 ربع العشر 2"؛ فوجب أن يقضي بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق 3 من التمر صدقة" 4 على قوله: "فيما سقت السماء العشر"، على أن أبا حنيفة ناقض فيه؛ لأنه يقضي بالنهي عن أكل الطافي على قوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان"، وهذا متفق على استعماله، والنهي عن أكل الطافي مختلف فيه.   1 هذا جزء من حديث طويل، مشهور بكتاب الصدقات، وهو حديث أخرجه البخاري وأحمد والنسائي وأبو داود وغيرهم. وقد سبق تخريجه. 2 هذا الجزء من الحديث بلفظه المذكور أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة "1/358-360". وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الزكاة، باب صدقة الماشية ص"175-176". وراجع "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"311-313". 3 "أوسق" جمع "وسق"، والوسق: ستون صاعًا. 4 هذا جزء من حديث، سبق تخريجه في حديث: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" في الصفحة السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 مسألة إذا تعارض خبران كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه آخر مدخل ... مسألة 1: إذا تعارض خبران [86/أ] كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه آخر: هما سواء، مثاله: قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها"، وقوله: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس"؛ الأول خاص في الفائتة، عام في الأوقات، والثاني خاص في الوقت، عام في الصلوات. وقد نص على هذا أحمد رحمه الله في رواية حنبل وصالح فقال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"، والنهي من النبي على الجملة، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها"؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد العصر، وإن كان على جملته ما صلى أحد بعد العصر صلاة فائتة؛ فيستعمل كل واحد منهما على وجهه. وهو قول أصحاب الشافعي. وقال أصحاب أبي حنيفة: يقدم الخبر الذي فيه ذكر الوقت؛ ذكره الجرجاني عن أصحابه؛ لأن الخلاف واقع في الوقت، وجواز فعل الصلاة، فقدم ما فيه ذكر الوقت لتناوله المقصود.   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"139". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 دليلنا : أن كل واحد منهما قد تناول ما وقع الاختلاف فيه؛ فإن الخلاف واقع في الوقت، وجواز فعل الصلاة فيه واقع في جواز فعل الصلاة في الوقت؛ فكل واحد منهما خاص فيما فيه اختلاف من وجه، وعام من وجه، وعام فيما فيه اختلاف من وجه؛ فتساويا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 مسألة تفصيل القول فيما لو تعارض نصان أحدهما عام والآخر خاص مدخل ... مسألة 1: إذا تعارض آيتان أو خبران أحدهما عام والآخر خاص: والخاص موافق للعام، أو أحدهما مطلق والآخر مقيد؛ فهل يقضي بالعام على الخاص، والمطلق على المقيد؟ فهو على أربعة أوجه:   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"142-147". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 الوجه الأول ... أحدهما: أن يكون الحكم والسبب واحدًا، مثل أن يقول: في كفارة القتل مؤمنة، ثم يذكر القتل في موضع آخر؛ فيقول: تحرير رقبة؛ فإنه يبني المطلق على المقيد، ويتعلق الحكم بالزائد، ويكون بمنزلة أن يرد خبران في حكم واحد وسبب واحد، وأحدهما زائد، فالأخذ بالزائد أولى، كما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، ولم يصل"1 ونقل الآخر: "أنه دخل البيت وصلى"2؛ فكان الأخذ بالزائد أولى.   1 هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الصلاة، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} "1/104". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره "2/698". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحج، باب الصلاة في الكعبة "1/467". وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصلاة باب الصلاة في الكعبة "2/328". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "2/320". 2 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 فإن كان الحكم والسبب واحدًا؛ إلا أن أحدهما خاص والآخر عام، ولم يكن للخاص دليل؛ فإن الخاص داخل في العام، وهو بعض ما شمله العموم، ويكون ما تناوله الخاص ثابتًا بالخاص والعام، وما زاد على ذلك ثابتًا بالعام دون الخاص. مثاله: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أفطر في رمضان؛ فعليه ما على المظاهر" 1، وقضى في الذي وقع على امرأته بعتق رقبة أو صيام   = كتاب الصلاة، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} "1/104". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره "2/966-967". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحج، باب الصلاة في الكعبة "1/466-467". وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الكعبة "2/326-328". وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الحج، باب الصلاة في البيت ص"258". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الحج، باب الصلاة في الكعبة "1/381". وراجع في هذا الحديث أيضًا في: "نصب الراية": "2/319"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"128". 1 الحديث بهذا اللفظ لم أجده، وقد قال الزيلعي في كتابه: "نصب الراية": "2/449": "حديث غريب بهذا اللفظ.. والحديث لم أجده.."، وقال صاحب "المسودة" ص"142" بعد أن ذكره: "إن صح الخبر". وأخرج الدارقطني في سننه في كتاب الحج "190-191": "عن يحيى بن الحماني، ثنا هشيم عن إسماعيل بن سالم عن مجاهد عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر الذي أفطر يومًا من رمضان بكفارة الظهار"، ثم قال: "والمحفوظ عن هشيم بن إسماعيل بن سالم عن مجاهد مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 شهرين؛ فغلب وجوب الكفارة في حق ذلك الواطئ بالخبرين جميعًا، وثبت وجوب الكفارة فيما عدا ذلك الواطئ بالخبر [86/ب] العام. وإن كان له دليل خطاب؛ فإنه يقضي بدليل خطابه على العام؛ فيخرج منه ما تناوله دليله، وذلك مثل قوله عليه السلام: "في أربعين شاة شاة"، مع قوله: "في سائمة الغنم زكاة" 1؛ لأن دليل الخطاب بمنزلة النطق في وجوب العمل به، والنطق الخاص يقضي به على النطق العام، وكذلك ههنا في قوله عليه السلام: "إذا كان الماء قلتين" 2،   = وأخرجه أيضًا عن الليث عن مجاهد عن أبي هريرة، ثم قال: "وليث ليس بالقوي". وقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، في كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم "2/782". ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا أفطر في رمضان أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينا". وحديث مسلم هذا أخرجه غير واحد من المحدثين، ومنهم البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصيام، باب رواية من روى هذا الحديث مطلقة.. "4/225". وهو حديث كما ترى مطلقًا للكفارة على كل من أفطر في رمضان بجماع أو غيره؛ ولكن جمهور العلماء حملوا الروايات المطلقة على المقيدة، كما قال البيهقي في: "سننه الكبرى": "4/225": " ... ورواية الجماعة عن الزهري مقيدة بالوطء ناقلة للفظ صاحب الشرع أولى بالقبول؛ لزيادة حفظهم وأدائهم الحديث على وجهه؛ كيف وقد روى حماد بن مسعدة هذا الحديث عن مالك عن الزهري نحو رواية الجماعة". 1 سبق تخريج هذا الحديث ص"448". 2 تثنية "قلة" وجمعها "قلال"، وقد تجمع على "قلل"، والقلة: إناء للعرب كالجرة الكبيرة. وقد قيل: إن القلة من قلال هجر تسع فرقًا، والفرق يسع أربعة أصواع نبوي. وقيل غير ذلك. راجع: "مختار الصحاح" ص"575" مادة: "قلل"، و"المصباح المنير": "2/792" المادة المذكورة، و"المطلع على أبواب المقنع" ص"7". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 لم ينجسه شيء1"، مع قوله: "الماء طهور، لا ينجسه إلا ما غير   1 هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء "1/15". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب التوقيت في الماء "1/42". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب منه [أي من باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء] آخر "1/95". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس "1/172". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الوضوء، باب قدر الماء الذي لا ينجس "1/152". وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الطهارة، باب الفرق بين القليل الذي ينجس والكثير الذي لا ينجس ما لم يتغير "1/260". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة "13/25". وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب الطهارة، باب الماء يقع فيه النجاسة "1/15". وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الطهارة، باب طهورية الماء المطلق "1/41-42". وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "2/12". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب أحكام المياه التي يجوز التطهير بها "1/19". وأخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطهارة، باب الماء لا ينجسه شيء "1/80" والحديث قد روي بلفظ المؤلف الذي ساقه. وروي بلفظ: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث". وأخرجه عنه الحاكم في كتاب الطهارة، باب إذا كان الماء قلتين؛ لم ينجسه شيء = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 ..............................................................................................................   = 1/132-133 والحديث قد روي مرفوعًا، كما روي موقوفًا على ابن عمر. وهو حديث اختلف العلماء فيه: فذهب بعضهم إلى تصحيحه، ومنهم الحاكم، حيث قال في "مستدركه": "1/132" عن رواية الوليد بن كثير -إحدى روايات الحديث: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين؛ فقد احتجا بجميع رواته"، ووافقه الذهبي. وصوب ذلك الشيخ أحمد شاكر في حاشيته على سنن الترمذي "1/99". وسئل يحيى بن معين عن رواية حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فقال: إسنادها جيد، قيل له: فإن ابن علية؛ لم يرفعه؛ فقال: وإن لم يحفظه ابن علية؛ فالحديث جيد الإسناد. ونقل عن ابن مندة قوله: إسناده على شرط مسلم. وذهب بعضهم إلى تضعيفه، ومنهم ابن دقيق العيد، فقد قال: هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو: صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنه -وإن كان مضطرب الإسناد، مختلفًا في بعض ألفاظه- فإنه يجاب عنها بجواب صحيح، بأن يمكن الجمع بين الروايات، ولكني تركته؛ لأنه لم يثبت عندنا بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعًا في تعيين مقدار القلتين. وقال ابن عبد البر في كتابه "التمهيد": ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين؛ مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت من جهة الأثر؛ لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم؛ ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع. وقال في كتابه "الاستذكار": حديث معلول، رده إسماعيل القاضي. وقال الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار": 1/16 ما محصله: أننا لم نعمل بالحديث؛ لأنه لم يتبين لنا مقدار هاتين القلتين، بدليل يستند إليه. وقد وفى الكلام في هذا الحديث الزيلعي في كتابه "نصب الراية": "1/104-109"، والحافظ ابن حجر في كتابه "التلخيص" "1/16-20"، فارجع إليهما إن شئت. راجع بالإضافة إلى ما سبق: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"12"، و"علل الحديث" لابن أبي حاتم "1/44"، و"بلوغ المرام": "1/3". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 طعمه أو ريحه" 1؛ فإنه يحمل على القلتين؛ فيقضي بدليل خطابه عليه، فيخرج ما دون القلتين منه.   1 هذا الحديث رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الحياض "1/174". ولفظه: "إن الماء لا ينجسه شيء؛ إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه" وفي إسناده: "رشدين بن سعد". وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الطهارة، باب ما نجاسة الماء الكثير "1/259" وفي إسناده أيضًا: "رشدين بن سعد".. ولم يذكر في هذه الرواية "اللون". كما أخرجه بطريقين آخرين، غير الطريق الأولى، ولفظه في إحداهما: "إن الماء طاهر؛ إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه". وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب الماء المتغير "1/28-29"، وفي إسناده "رشدين بن سعد". وقال الدارقطني عقب إخراجه: "لم يرفعه غير "رشدين بن سعد" عن معاوية بن صالح، وليس بالقوي، والصواب في قول راشد". وتعقب الدارقطني في قوله: "لم يرفعه غير رشدين بن سعد" بأن الحديث أخرجه البيهقي في سننه "1/259-260" من طريقين آخرين، وقد مضى الإشارة إلى ذلك. كما أخرجه الدارقطني عن "راشد بن سعد" مرسلًا، ولم يذكر في هذه الرواية: "اللون". وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الطهارة، باب الماء يقع فيه النجاسة "1/6" عن "راشد بن سعد" مرسلًا. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطهارة، باب الماء لا ينجسه شيء وما جاء في ذلك "1/80"، عن "راشد بن سعد" مرسلًا. وهذا الحديث متكلم فيه؛ فقد قال الإمام الشافعي فيما نقله عنه البيهقي فيه سننه= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 فإن قيل: فقد ناقضتم في ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع ما لم يقبض"، وروي أنه قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه"؛ فكان يجب أن يقضي بدليل خطابه على اللفظ العام، ويخرج منه ما عدا الطعام. قيل: تخصيص العام بدليل الخطاب واجب، إلا أن يمنع منه دليل أقوى من دليل الخطاب؛ فيسقط ويبقى دليل الخطاب، ويجب حمل العام على عمومه، وهذا دليل أقوى من دليل الخطاب، وهو التنبيه؛ فإن التنبيه آكد من الدليل؛ لأنه مجمع عليه، ودليل الخطاب مختلف فيه، فوجب ترك الدليل للتنبيه، ووجه التنبيه: أن الطعام إذا لم يجز بيعه قبل القبض مع حاجة الناس إليه؛ فلأن لا يجوز غيره أولى. موجود في حال تلف السلعة، والقياس يترك له دليل الخطاب؛ لأنه يجري مجرى التخصيص؛ لأنه إسقاط بعض حكم اللفظ؛ فإن اللفظ يوجب إثباتًا ونفيًا؛ فإسقاط أحدهما بالقياس بمنزلة التخصيص بالقياس.   = "1/260": "وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء ولونه وريحه، كان نجسًا، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله. وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه خلافًا". على أن البيهقي نفسه قال قبل ذلك: "الحديث غير قوي". وقال الدارقطني: لا يثبت هذا الحديث. وقال النووري: اتفق المحدثون على تضعيفه. ونقل ابن أبي حاتم في كتابه "علل الحديث": "1/44" عن أبيه قوله: ".. يوصله رشدين بن سعد"، يقول عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ورشدين ليس بقوي. والصحيح مرسل". ومعنى الحديث قد قام الإجماع على اعتباره، قال ابن المنذر، كما نقل عنه ابن حجر في التلخيص "1/15": "أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير، إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت له طعمًا أو لونًا أو ريحًا؛ فهو نجس". ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى: "تلخيص الحبير": "1/14-16"، و"بلوغ المرام" ص"3"، و"نصب الراية": "1/94-95"، و"التعليق المغني على سنن الدارقطني": "1/28-29". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 ولأن القياس يقدم على دليل الخطاب؛ لأن ترك دليل الخطاب يجري مجرى تخصيص اللفظ العام، والقياس يدل على أن غير الطعام بمنزلته؛ لأنه إنما لم يجز بيع الطعام؛ لأنه لم يتعين بالعقد، وهذه العلة موجودة في غير الطعام. وفي معنى هذا قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة؛ فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار" 1؛ لم يقض2 بدليل خطابه على عموم قوله: "إذا اختلف المتبايعان؛ فالقول قول البائع" 3 ولم يختص ذلك بقيام السلعة؛ لأن التنبيه مقدم على دليل الخطاب؛ لأنه متفق عليه، ووجه التنبيه: أنه إذا أمر بالتحالف، وهناك سلعة قائمة، يمكن أن يستدل بها على صدق أحدهما؛ فإذا كانت تالفة، لا يمكن الاستدلال على صدق أحدهما أولى. ولأن القياس يوجب ترك دليل الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أمر بالتحالف؛ لأن كل واحد منهما مدعٍ ومدعًى عليه، وهذا المعنى   1 هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه الدارمي في كتاب البيوع، باب إذا اختلف المتبايعان "2/166". وأخرجه عنه الدراقطني في كتاب البيوع "3/20". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب البيعان يختلفان "2/737". 2 في الأصل: "يقضي". 3 هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم "2/255". وأخرجه عنه الترمذي مرسلًا، في كتاب البيوع، باب ما جاء إذا اختلف البيعان "3/561". وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب اختلاف المتبايعين في الثمن "7/266". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب البيوع "3/21". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 الوجه الثاني : إذا كان الخبر مختلفًا، مثل صيام وإطعام، صيام وصلاة؛ فإنه لا ينبني المطلق على [87/أ] المقيد، سواء كان السبب واحدًا، كالكفارة فيها صيام شهرين متتابعين وإطعام مطلق، أو كان مختلفًا، مثل الصيام يقيده بالبالغ، والزكاة أطلقها؛ فإنه لا يبنى المطلق على المقيد. ولهذا قال أحمد رضي الله عنه في رواية ابن منصور: إذا أخذ في الصوم، فجامع بالليل؛ يستقبل، فإن أطعم بوطء شيء؛ ليس هذا من نحو هذا. قال أبو بكر من أصحابنا: لأنه لم يشترط في الإطعام المسيس كما شرط في الأولين؛ فما شَرَطَه على شرطه، وما أطلقه على إطلاقه. والوجه في ذلك أنه إنما يحمل المطلق على المقيد، إذا كان الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين؛ إلا أنه مطلق في أحدهما مقيد في الآخر، وهذا معدوم في الجنسين. ولأن المقيد مع المطلق بمثابة الخاص مع العام والمفسر مع المجمل، وهناك يجب أن يكون كل واحد من جنس الآخر، كذلك ههنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 و الوجه الثالث : إذا كان الخبر واحدًا، والسبب مختلفًا؛ لكن [قيد] في موضعين بقيدين مختلفين، وأطلق في الثالث، كالصيام، قيد بالتتابع في الكفارة: فقال: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 1، وقيل: بالتفريق في التمتع،   1 "4" سورة المجادلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 فقال: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 1، وأطلق في كفارة الأيمان، فقال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 2، وفي رمضان، فقال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ} 3؛ ولهذا المطلق مثلان مقيدان مختلفان؛ فإنما يحمل المطلق على إطلاقه، ولا شيء على واحد منهما؛ لأنه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر. وإنما أوجب أصحابنا التتابع في صيام كفارة اليمين، بدليل، لا أنه4 يحمله على المقيد. وقد بين أحمد رحمه الله هذا في رواية صالح فقال: "وإن لم يكن فصيام5 ثلاثة أيام متتابعة" في قراءة ابن مسعود. فبين أنه صار إلى التتابع في ذلك لهذا الدليل، وهي قراءة ابن مسعود6.   1 "196" سورة البقرة. 2 "89" سورة المائدة. 3 "184" سورة البقرة. 4 في الأصل: "أنه لا". 5 في الأصل: "صيام". 6 وهي قراءة ثبتت بطريق الآحاد، وقد فصل الآمدي القول في ذلك في كتابه الإحكام "148/1". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 الوجه الرابع : إذا كان الجنس واحدًا والسبب مختلفًا، كالرقبة في كفارة القتل والظهار؛ فالرقبة جنس واحد، قيدت بالإيمان في كفارة القتل، وأطلقت في كفارة الظهار، وهما سببان مختلفان. وكما قيد الأيدي إلى المرافق في موضع، وهو الغسل، وأطلقها في موضع، وهو المسح في التيمم؛ فهذا على روايتين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 إحداهما يبنى المطلق على المقيد من طريق اللغة، وقد أومأ أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب فقال: أحب إلي أن يعتق في الظهار مثله. واحتج من قال بذلك: بقول1 الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، وقال في موضع آخر: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 3، ولم يذكر عدلا، ولا يجوز إلا عدل، كذلك يكونون4 مسلمين، وظاهر هذا أنه بني5 المطلق على المقيد من طريق اللغة، كما بني الإطلاق في العدالة على المقيد منها. وبهذه الرواية [87/ب] قال أصحاب مالك6. وفيه رواية أخرى: لا يبنى المطلق على المقيد، ويحمل المطلق على إطلاقه. أومأ إليه أحمد رضي الله عنه في رواية أبي الحارث فقال: التيمم ضربة للوجه والكفين، فقيل له: أليس التيمم بدلا من الوضوء، والوضوء إلى المرفقين؟ فقال: إنما قال الله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} 7، ولم يقل: إلى المرفقين، وقال في   1 في الأصل: "قال". 2 "2" سورة الطلاق. 3 "282" سورة البقرة. 4 في الأصل: "يكون". 5 في الأصل: "بناء". 6 هذا العزو غير محرر، فأكثر المالكية على أنه لا يحمل المطلق على المقيد، كما صرح بذلك القرافي في كتابه: شرح تنقيح الفصول ص266. 7 "6" سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 الوضوء: {إِلَى الْمَرَافِقِ} 1، وقال: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2 فمن أين تقطع يد السارق؟ من الكف. وظاهر هذا: أنه لم يبن3 المطلق في التيمم على المقيد في الوضوء، وحمله على إطلاقه. وهو اختيار أبي إسحاق بن شاقلا، ذكره فيما وجدته بخطه معلقًا فقال: للمظاهر أن يطأ قبل الإطعام، وليس له ذلك في الصيام والعتق، وقال: فإن قيل: المطلق يحمل على المقيد. فقال: إذا كان المذكور واحدًا في حكم واحد، كالشاهدين؛ فأما مثل رقبة القتل، ورقبة الظهار؛ فلأنهما حكمان، كذلك الإطعام والصيام؛ لأنهما جنسان، بلى لو ذكر الإطعام في موضع فأبهمه وذكره في موضع آخر فقيده؛ حملنا المطلق على المقيد. وهو قول أصحاب أبي حنيفة. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: مثل قولنا، وأنه يبنى المطلق على المقيد من طريق اللغة. ومنهم من حمل المطلق على المقيد بالقياس عليه؛ لا من جهة اللغة وهو قول الأكثر منهم. وهو اختيار أبي بكر بن الباقلاني. وهكذا الاختلاف في العام والخاص، نحو قوله: "فيما سقت السماء   1 "6" سورة المائدة والآية في الأصل: "إلى المرفقين". 2 "38" سورة المائدة. 3 في الأصل: "يبني". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 العشر" عام في القليل والكثير، وقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" خاص في المقدار؛ فهل يحمل العام على الخاص، على ما حكينا من الاختلاف في حمل المطلق على المقيد؟ وقد قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل وصالح: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"؛ فهو جملة1، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها"؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد العصر.   1 في الأصل: بدون إعجام لهذه الكلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 دليلنا : أن العرب تطلق الحكم في موضع، وتقيده في موضع، والمراد بالمطلق المقيد. يدل عليه قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} 1. وكذلك قوله تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} 2 وتقديره: والحافظات فروجهن3، والذاكرات الله كثيرًا. وكذلك قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 4 وتقديره: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد.   1 "155" سورة البقرة. 2 "35" سورة الأحزاب. 3 في الأصل: "فروجهم". 4 "17" سورة "ق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 وكذلك قول الشاعر: [88/أ] نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف1 يعني: بما عندنا راضون2. وقال آخر: وما أدري إذا يممت أرضًا ... أريد الخير، أيهما يليني3؟   1 هذا البيت نسبه سيبويه في "كتابه": "1/37-38" للشاعر قيس بن الخطيم واستشهد به المبرد في كتابه: "المقتضب": "3/112"، ولم ينسبه لأحد. أما البغدادي في كتابه: "خزانة الأدب": "4/283" تحقيق عبد السلام هارون؛ فقد نسبه للشاعر: عمرو بن امرئ القيس، ثم بين بعد ذلك غلط من نسب البيت إلى قيس بن الخطيم بقوله: "وعرف من إيرادنا لهذه القصائد ما وقع من التخليط بين هذه القصائد، كما فعل ابن السيد واللخمي في شرح أبيات الجمل، وتبعهما العيني والعباسي في شرح أبيات التلخيص؛ فإنهم جعلوا ما نقلنا من شعر قيس بن الخطيم مطلع القصيدة، ثم أوردوا فيها البيت الشاهد، وهو: "الحافظو عورة العشيرة"، والشاهد الثاني، وهو: "نحن بما عندنا، وأنت بما عندك راض"، والحال: أن هذين البيتين من قصيدة عمرو بن امرئ القيس". راجع بالإضافة إلى ما سبق: تعليق الأستاذ محمد عبد الخالق عظيمة في هامش المقتضب "3/113-122". 2 في الأصل: "راضي". 3 هذا البيت للشاعر المثقب العبدي. وهو من قصيدة، يقول في مطلعها: أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألت، كأن تبيني والبيت الذي بعد البيت الشاهد هو: أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني؟ راجع في نسبة هذا البيت للشاعر المذكور: "معاني القرآن" للفراء "1/231"، والبيت عنده هكذا: وما أدري إذا يممت وجهًا ... و"شرح اختيارات المفضل" للخطيب التبريزي "3/1267"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص"228"، و"الشعر والشعراء" له: "1/396"، و"الخزانة" للبغدادي "4/49" طبعة بولاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 يعني: أريد الخير، وأتوقى الشر. فإن قيل: إنما حملنا المطلق ههنا على المقيد؛ لأن أحد الكلامين غير مستقل بنفسه ولا مفيد؛ لأن قوله تعالى: {وَالذَّاكِرَات} ابتداء لا خبر له وكذلك قوله: "عين اليمين"، وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَات} ، وليس كذلك في مسألة الخلاف؛ لأن المطلق مقيد1 مستقل بنفسه؛ لأن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِم} 2 يفيد إطلاقه: إخراج ما يتناوله اسم الرقبة. قيل: لا فصل بينهما؛ وذلك أن قوله: {وَالذَّاكِرَاتِ} مفيد أيضًا؛ فإنه يحمل على عمومه في ذكر الله وأنبيائه ورسله، وغير ذلك. وكذلك قوله: {عَنِ الْيَمِينِ} يحمل على عمومه في كونه قعيدًا3 أو غير قعيد؛ لأن قعيدًا صفة زائدة. وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} يحمل على عمومه في الابتداء بالنفس والنقصان منها. فإن قيل: إنما وجب حمل4 المطلق هناك على المقيد بالعطف؛ فإن العطف يجعل المعطوف بمنزلة المعطوف عليه، كما إذا قال: "خرج   1 في الأصل: "مقيد" بالقاف، وهو تصحيف عن "مفيد" بالفاء. 2 "3" سورة المجادلة. 3 في الأصل: "قعيد". 4 في الأصل: "حمله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 زيد وعمرو"، يكون تقديره: "وخرج عمرو"؛ فأما ههنا؛ فلم يعطف أحدهما على الآخر. قيل: العطف إنما حمل على المعطوف لإطلاقه، لا لأجل حروف العطف. يبين صحة هذا: أنه لو قيد العطف بحكم آخر، فقال: والحافظات ألسنتهن؛ لم يجب حمله على المعطوف في حفظ الفرج؛ لأنه مقيد1 بغيره2. وكذلك لو قال: والذاكرات رسل الله؛ لم يجب حمله على ما قبله من ذكر الله، لأجل تقيده3؛ فلما حمل على ما قبله عند الإطلاق؛ علم أن الموجب لذلك: الإطلاق، لا حرف العطف. يبين صحة هذا: أنه قد يخالف العطف المعطوف4 عليه في الحكم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} 5، معلوم أن صلاة الملائكة غير صلاته. وقد قيل: إنه لا يجوز أن يكون حمل عليه لهذه العلة، ألا ترى أن العموم يحمل على الخصوص إذا كانا في حكم واحد، نحوه قوله: "فيما سقت السماء العشر" هو عام في القليل والكثير، وقوله: "إذا كان خمسة أوسق" خاص؛ فيحمل عليه، وإن لم يكن عطفًا عليه، كذلك ههنا يجب أن يكون الحمل عليه، لا من جهة العطف.   1 في الأصل: "مفيد" بالفاء المعجمة، وهو تصحيف عن "مقيد" بالقاف المعجمة. 2 في الأصل: "يغيره" بالمثناة التحتية فيهما، وهو تصحيف عن "بغير" بالتحتية الموحدة في الأولى، وبالمثناة التحية في الثانية. 3 الكلمة في الأصل بدون إعجام إلا للياء، وإعجامها اجتهادي بحسب السياق. 4 في الأصل: "للمعطوف"، والفعل: "يخالف" يتعدى بنفسه. 5 "43" سورة الأحزاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 فإن قيل: لو كان هذا مقتضاه في اللغة؛ لوجب إذا انتفى هذا المعنى بلفظ يفارق المطلق، أن يكون مخرجًا له عن حقيقة كالعموم الذي يخرج عن موضوعه بدليل. قيل: [88/ب] العموم إذا دخله التخصيص؛ لا يصير مجازًا عندنا. ويبين صحة هذا: أن الصحابة جعلت القرآن بمنزلة الآية الواحدة، يدل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال للخوارج1 -لما احتجوا عليه بآية من القرآن: "من فاتحته إلى خاتمته"، ومعناه: يجب أن يلتزم جميع ما فيه. وأيضًا: فإن في بناء الخاص على العام جمعًا بين الخبرين وأخذًا بهما؛ فكان أولى من اطراح أحدهما، وفيما ذكرنا دلالة على من قال: لا يحمل المطلق على المقيد، وعلى من قال: يحمل عليه بالقياس. واحتج من قال: لا يحمل عليه:   1 الخوارج -كما يقول الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل": "1/114": "كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت عليه الجماعة، يسمى خارجيًا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان". وكان أول ظهور هذه الفرقة الضالة في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حرب "صفين". وقد كان من رأيهم قبول التحكيم، وقد حملوا علي بن أبي طالب على قبوله قائلين: "القوم يدعوننا إلى كتاب الله، وأنت تدعونا إلى السيف". ثم صارت بعد ذلك فرقًا شتى يجمعها -كما يقول الشهرستاني في المرجع السابق: "القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك، ويكفرون أصحاب الكبائر، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة: حقًا واجبًا". راجع أيضًا: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم "2/107". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 بأنه المطلق المراد به معلوم بظاهره؛ فوجب أن يحمل عليه، ولا يعدل به عنه إلا بدليل، والخاص ليس بدليل؛ لأن التخصيص إنما يقع بما يخالف الظاهر ويعارضه؛ فأما بما يوافقه فلا، والمقيد يوافق المطلق؛ فوجب أن لا يخص به. والجواب: أن المقيد يخالف المطلق ويعارضه؛ لأن تقييده يدل على أن ما عداه بخلافه، وإذا كان كذلك فقد خصصناه بما عارضه. وجواب آخر، وهو: أن المطلق وإن كان معلومًا؛ فإنه معلوم من حيث الظاهر، والخاص معلوم من حيث القطع؛ فيجب أن يحمل عليه، كالخاص والعام إذا تعارضا في حكم واحد؛ فإنه يقضى بالخاص عليه؛ لأنه مقطوع عليه، وإن كنا نعلم أن العام معلوم ظاهره؛ فكان يجب أن يتعارضا فيسقطا، أعني: العام والخاص؛ لأن كل واحد منهما معلوم بظاهره، ولما قضي بالخاص على العام، كذلك ههنا. وقولهم: إن التخصيص إنما يقع بما يخالف الظاهر ويعارضه، وكذا نقول؛ إلا أن دليل الخطاب الخاص يعارض الظاهر عندنا ويخالفه، وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في دليل الخطاب. واحتج: بأن شروط الإيمان في كفارة الظهار زيادة في النص، وذلك نسخ؛ والنسخ لا يجوز بالقياس ولا بخبر الواحد، قالوا: والذي يدل على أنه نسخ: أن النسخ هو حظر ما أباحته الآية، وإباحة ما حظرته؛ فلما كان شرط الإيمان في رقبة الظهار يوجب حظر ما أباحته الآية من جوازها عن الكفارة؛ وجب أن تكون هذه الزيادة نسخًا. والجواب: أن هذين ليس بزيادة؛ وإنما هو تخصيص ونقصان؛ لأن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1 شائع في الجنس، مؤمنة وكافرة،   1 "92" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 وسليمة ومعيبة. وقوله: لا تجزي إلا مؤمنة نقصان؛ فهو كما لو قال: أعط درهمًا من شئت من هؤلاء العشرة؛ فإذا قال: إلا زيدًا فلا تعطه؛ هذا نقصان وتخصيص، كذلك ههنا. وعلى أنها لو كانت زيادة في النص؛ [89/أ] لم تكن نسخًا؛ وإنما هي زيادة حكم؛ لأن النسخ هو الإسقاط. واحتج: بأن الخصوص إنما يرد على الأعيان المنطوق بها، دون المعاني التي لم ينطق بها، وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} هو المنطوق بها؛ فأما صفاتها مؤمنة وكافرة، وسليمة ومعيبة، فما تناولها. والجواب: أن التخصيص ما دخل إلا على الأعيان؛ لأن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} شائعة في الجنس أي رقبة كانت؛ فإذا قلنا: إلا مؤمنة؛ كان تخصيص الأعيان، فكأنه أخرج من هذا الشائع في جنسه عينًا موصوفة، فالتخصيص دل على الأعيان. ومثال هذا: لو قال: أعط درهمًا من شئت من هؤلاء العشرة إلا الفقيه منهم؛ فإنه قد أخرج منهم واحدا موصوفا، كذلك ههنا، وإذا قال: أعتق رقبة إلا كافرة؛ أخرج رقبة موصوفة. واحتج: بأن قياس المنصوصات بعضها على بعض لا يجوز؛ لأنها قد استغنت بدخولها تحت النص على القياس على غيرها، ولهذا لم يجز قياس التيمم على الوضوء في إيجاب مسح الرأس والقدمين، ولا قياس السارق على المحارب في قطع رجله، ولا قياس كفارة القتل على الظهار في إيجاب الإطعام؛ لأن كل واحد من ذلك منصوص عليه، كذلك ههنا. والجواب: أن هذا ليس بقياس المنصوص عليه على المنصوص؛ وإنما هو حمل المسكوت عنه على المنصوص عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 وإنما لم يحمل التيمم على الوضوء في إيجاب [مسح] الرأس والقدمين؛ لأنهما غير مذكروين في التيمم؛ وإنما يحمل المطلق على المقيد إذا كان الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين إلا أنه مطلق في أحدهما مقيد في الآخر كالرقبة هي مذكورة في الظهار والقتل؛ إلا أنها مقيدة في أحدهما، مطلقة في الآخر، وكذلك الإطعام غير مذكور في كفارة القتل. وكذلك قطع الرجل غير مذكور في قطع السارق؛ وإنما اعتبرنا وجود الحكم المختلف فيه في الموضعين؛ لأن المطلق والمقيد كالفرع والمقيد كالأصل. واحتج: بأنه ليس حمل المطلق على المقيد بأولى من حمل المقيد على المطلق. والجواب: أن في بناء المقيد على المطلق إسقاط ما تناوله النص، وبناء المطلق على المقيد تخصيص، والتخصيص جائز، والإسقاط غير جائز؛ فهو كما قلنا في العموم والخصوص: يخص العموم، ولا يسقط الخصوص. وهكذا الجواب عن أن الرقبة لو كانت مفسرة؛ لم يجز البناء، كذلك إذا كانت مطلقة؛ لأنها إذا كانت مقيدة، كان في البناء إسقاط النص، وهذا معدوم في بناء المطلق على المقيد. فإن قيل: أليس قد قلتم: إذا كان أول الآية عامًا وآخرها خاصًا، أو كان [89/ب] أولها مطلقًا وآخرها مفسرًا؛ لم تقضوا بآخرها على أولها، نحو [89/ب] قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1 ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 2، حملتم أولها   1 "228" سورة البقرة. 2 "228" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 على عمومه في البوائن والرجعيات، ولم تخصوه بآخرها في الرجعيات. قيل: هذا ليس من قبيل1 المطلق والمقيد؛ لما بينا أن من شرطه أن يكون الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين، وهذا غير مذكور في آخر الآية، ولا هو أيضًا من قبيل الخاص والعام بآيتين؛ لأنه إذا قضينا بآخرها على أولها؛ منعنا2 صيغة العموم في أولها، وإذا كان آيتين؛ لم يمنع العموم من أحدهما. واحتج: بأن حمل العام على الخاص إهمال العام؛ لأنه يقتضي الاستغراق؛ فإذا خصصناه أهملناه. والجواب: أنه ليس بإهمال؛ وإنما هو جمع، ولا يمكن إلا على هذا الوجه. واحتج من قال: يحمل عليه بالقياس. بأن هذا تخصيص في الحقيقة؛ لأنه إذا قال: أعتق رقبة؛ فإن هذا لفظ شائع عام في الرقاب كلها؛ فإذا قلنا: إن الرقبة الكافرة لا تجزي؛ خصصنا بعض الرقاب، وأخرجناها عن كونها مجزئة؛ فيكون ذلك تخصيصًا للعموم، والتخصيص جائز بالقياس. والجواب: أنه تخصيص كما ذكرت؛ ولكن ليس يجب أن يكون التخصيص بالقياس، بل يجوز أن يكون التخصيص، وبلفظ خاص، كما كان تخصيص العموم بالخصوص إذا تعارضا في حكم واحد. واحتج: بأن قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3   1 في الأصل: "قيض" بدون إعجام. 2 في الأصل: "ومنعنا"، وهذه الواو زائدة؛ لذلك حذفناها. 3 "92" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 لا يصلح لقوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1؛ فلم يجز أن يكون أحدهما قاضيًا على الآخر بلفظه: ولا مشاركًا له من جهة العطف؛ فوجب اعتبار المعنى. والجواب: أن قوله: {وَالذَّاكِرَاتِ} 2، لا يصلح، لقوله: {وَالذَّاكِرِينَ} ومع هذا فقد قضى بأحدهما على الآخر. وكذلك قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 3. وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} 4 لا يصلح، لقوله: {مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} ، وقد منعنا أن يكون الموجب لذلك حرف العطف، وبينا أن الموجب لذلك الإطلاق، بدليل أنه لو قيد العطف؛ لم يجز حمله على المعطوف عليه.   1 "3" سورة المجادلة. 2 "35" سورة الأحزاب. 3 "17" سورة ق. 4 "155" سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 مسألة أقل الجمع المطلق ثلاثة مدخل ... مسألة 1: أقل الجمع المطلق ثلاثة: وعلى هذا الأصل قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل في رجل وصى أن يكفر عنه فقال: أقل ما يكفر ثلاثة أيمان. قال الخرقي فيمن قالت له زوجته: "اخلعني على ما في يدي من الدراهم"؛ ففعل، فلم يكن في يدها شيء: لزمها ثلاثة دراهم2.   1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص149، و"روضة الناظر" وشرحها، "نزهة الخاطر العاطر" 2/137-140. 2 كلام الخرقي هذا موجود بنصه في "مختصره"، في كتاب الخلع ص"151". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 وقال رحمه الله في رواية صالح: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 1؛ فيلزمه أن لا [90/أ] يحجب بالأخوين؛ لأنه قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} ، والإخوة ثلاثة. وبهذا قال مالك2 وأصحاب أبي حنيفة3 وأكثر أصحاب الشافعي4. وحكى عن أصحاب مالك5، وقوم من النحويين منهم علي بن عيسى6،   1 "11" سورة النساء. 2 نقله عبد الوهاب عن الإمام مالك، كما حكى ذلك القرافي في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"233". 3 راجع في مذهب الحنفية: "أصول السرخسي": "1/151-154"، و "تيسير التحرير": "1/206-209"، و "مسلم الثبوت" الطبعة المجردة "1/203-205". 4 راجع في هذا: "نهاية السول": "2/349"، و "جمع الجوامع" مع شرحها للجلال المحلى "1/419" ونسبه الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/204"، إلى الإمام الشافعي وجماعة من أصحابه. 5 نقله القاضي أبو بكر عن الإمام مالك، ذكر ذلك القرافي في كتابه: "تنقيح الفصول" ص"233". 6 هو: علي بن عيسى بن الفرج بن صالح أبو الحسن الربعي الزهري، من أئمة النحو وحذاقهم. أخذ عن السيرافي، ورحل إلى "شيراز" فأخذ عن أبي علي الفارسي، ولازمه مدة عشرين سنة تقريبًا، وبعد ذلك عاد إلى بغداد، وأقام بها بقية عمره. له مؤلفات، منها: "البديع" في النحو، و "شرح كتاب الإيضاح" لأبي علي الفارسي، مات لعشر بقين من شهر محرم سنة 420هـ، وله من العمر اثنتان وتسعون سنة. له ترجمة في: "البداية والنهاية": "12/27"، و"بغية الوعاة": "2/181"، و"شذرات الذهب": "3/216"، و"نزهة الألباء" ص"414". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 وأبو بكر ابن الباقلاني1، وبعض الشافعية: أقله اثنان2.   1 حكى ذلك عنه القرافي في كتابه: "تنقيح الفصول" ص"233". 2 وعلى رأس هؤلاء الغزالي، كما حكى ذلك عنه الآمدي في "الإحكام": "2/204"، ولكن الأصح عند الشافعية أن أقل الجمع ثلاثة، كما صرح بذلك الجلال المحلى في شرحه على "جمع الجوامع": "1/419". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 دليلنا : إجماع الصحابة، روي عن عبد الله بن عباس أنه قال لعثمان بن عفان رضي الله عنهما: أن الأخوين لا يردان الأم إلى السدس؛ إنما قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 1، وليس أخوان إخوة في لسان قومك؛ فقال عثمان: لا أستطيع2 أمرًا كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار3. وهذا يدل على أن أقل الجمع ثلاثة؛ لأن ابن عباس قاله، وأقره عثمان عليه؛ وإنما صرفه عنه بالإجماع الذي ذكره.   1 "11" سورة النساء. 2 في الأصل: "أنقص" بالصاد المهملة، وفي رواية الحاكم والبيهقي ".. أن أرد". 3 أثر ابن عباس -رضي الله عنه- هذا أخرجه الحاكم في: "المستدرك" في كتاب الفرائض، باب ميراث الأخوة من الأب والأم "4/335"، وقال بعد ذلك: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه على ذلك الذهبي في تعليقه على المستدرك. وتعقب الحافظ ابن حجر في كتابه "تلخيص الحبير": "3/85"، الحاكم في تصحيحه، حيث قال: "وفيه نظر؛ فإن فيه شعبة مولى ابن عباس، وقد ضعفه النسائي". وأخرجه البيهقي في: "السنن الكبرى"، وفي كتاب الفرائض، باب: فرض الأم "6/227". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 فإن قيل: فقد روي عن زيد بن ثابت: أقل الجمع اثنان1. قيل: إن صح هذا؛ فيحتمل أن يكون معناه، أن الاثنين في حكم الجمع في حجب الأم. وأيضًا: فإن أسماء الحقائق لا تنتفي عن مسمياتها؛ فلو كان اسم الجمع يقع على الاثنين حقيقة؛ لم يحسن أن يقول القائل: ما رأيت رجالًا؛ وإنما رأيت رجلين؛ فلما صح نفي ذلك؛ دل على أن الرجلين إذا سميا رجالًا كان مجازًا، وكان بمنزلة قوله: ما هذا أبي وإنا هو جدي، وما هذا بابني وإنما هو ابن ابني. وأيضًا: فإن أهل اللغة فرقوا بين التوحيد والتثنية والجمع، وجعلوا للإفراد بابًا وللتثنية بابًا وللجمع بابًا، ولا يخلو لهم كتاب من هذا الترتيب، وإذا كان كذلك؛ وجب أن يختص الجمع بما زاد على الاثنين، كما اختصت التثنية بما زاد على الواحد. وأيضًا: فإنهم إذا أرادوا بيان عدد الجمع ومقداره؛ بدءوا من الثلاثة، فقالوا: "ثلاثة رجال"، و"أربعة رجال" ولم يقولوا: "اثنان رجال"، وقالوا: "جماعة رجال"، ولم يقولون: "جماعة رجلين"؛ فدل هذا على ما ذكرنا.   1 هذا الأثر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أخرجه عنه الحاكم في: "المستدرك" في كتاب الفرائض، باب ميراث الإخوة "4/335"، ولفظه: " ... عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه كان يقول: الإخوة في كلام العرب أخوان فصاعدًا"، ثم عقب عليه بقوله: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". وأخرجه عنه البيهقي في: "السنن الكبرى"، في كتاب الفرائض، باب فرض الأم "6/227". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بقوله تعالى لموسى وهارون: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 مُسْتَمِعُونَ} 1 ولم يقل: معكما؛ فدل على أن معنى اللفظين واحد. والجواب: أن الله تعالى إنما أراد بذلك: موسى وهارون، ومن آمن معهما من قومهما. واحتج: بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 2؛ فعبر عن الإخوة بالأخوين. والجواب: أن المراد به: أيها المؤمنون أنتم إخوة، يعني كل واحد منكم أخ لصاحبه، فأصلحوا بين كل أخ قاتَلَ أخاه. ويحتمل أن يكون المراد بالأخوين: الطائفتين [و] الجماعتين [90/ب] والقبيلتين لأن اسم الأخوين يقع على ذلك. قال الشاعر: فالْحَقْ بحلفك في قضاعة إنما ... قيس عليك وخندف أخوان3ِ فسمى القبيلتين أخوين، فيصير تقدير الآية: أيها المؤمنون أنتم الإخوة، فأصلحوا بين كل طائفتين من المؤمنين اقتتلوا. وعلى أنه لا حجة في ذلك؛ لأنه عبر عن الإخوة بالأخوين. واحتج بقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 4؛ فجعلهما طائفتين، ثم أضاف الفعل إليهما بلفظ الجمع. والجواب: أن الطائفة اسم للجماعة، بدلالة قوله: {وَلْتَأْتِ   1 "15" سورة الشعراء. 2 "10" سورة الحجرات. 3 لم أقف على قائله. 4 "9" سورة الحجرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} 1، ولو كانت الطائفة واحدًا، لم يقل: {لَمْ يُصَلُّوا} ؛ فصار المراد به: وإن جماعة من المؤمنين اقتتلوا. واحتج بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 2؛ وإنما هما قلبان. والجواب: أن هذا ليس مما نحن فيه بشيء3؛ لأن كل شيء يكون بعضًا لشيء؛ فإن أهل اللسان يعبرون عنه في حال التثنية بلفظ الجمع؛ ليفصلوا به بين ذلك وبين الشيء الذي ليس بعضًا من المضاف إليه، يقولون للاثنين: هذه رءوسكما، وهذه وجوهكما؛ ألا ترى أن الشيء إذا لم يكن بعضًا من المضاف إليه؛ لم يصح ذلك فيه؛ ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: هذه أثوابكما4، وهذه دوركما، ويريد به ثوبيهما وداريهما، ولكن يقول: هذان ثوباكما وداراكما. وقيل فيه: إنه لما كان أكثر ما في البدن من الجوارح اثنين اثنين، أقيم القلب أيضًا مقام عضوين؛ فصار في التقدير: كما لهما5 أربعة قلوب؛ فلهذا صح أن يقول: {قَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} . واحتج بقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 6؛ فأضاف الفعل إليهما بلفظ الجمع.   1 "102" سورة النساء. والآية في الأصل: "وليأت" بالمثناة التحتية. 2 "4" سورة التحريم. 3 في الأصل: "سيل" بدون إعجام للحرف الأول والثاني. 4 في الأصل: "أبوابكما". 5 في الأصل: "كان لها". 6 "19" سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 والجواب: أن الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، يقال: رجل خصم، ورجال خصم، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون ذلك عبارة عن جمعين. فإن قيل: كان جبريل وميكائيل. قيل: يجوز أن يكون مع كل واحد منهما ملائكة، وهكذا الجواب عن قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 1؛ لأنه يجوز أن يكون المراد به الجماعة, وتكلم الواحد منهم، وهو القائل منهم: {هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 2، يبين ذلك قوله: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} 3، ولو كانا اثنين لقال: بغى أحدنا على الآخر. ولم يقل: بغى بعضنا على بعض؛ لأن ذلك إنما يقال: في الجماعتين والقبيلتين. واحتج بقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إلى قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} 4، فأضاف الفعل إليهما في أول الآية بلفظ التثنية، وفي آخرها [91/أ] بلفظ الجمع. والجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد به: حكم داود وسليمان وقومهما؛ لأنه تعالى قال: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . ويحتمل أن يكون المراد به: الحكم المشروع لأمة داود، كما يقال: هذا حكم المسلمين، يريد به: الحكم المشروع لهم. وقيل: المراد به: حكم الأنبياء، والكناية عن جماعتهم.   1 "21" سورة ص. 2 "23" سورة ص. 3 "22" سورة ص. 4 "78" سورة الأنبياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 وقيل: إنه لا بد من محكوم له، فيكون داود وسليمان والمحكوم له، وهو صاحب الكرم؛ لأن الحكم يضاف إلى الحاكم بفعله، وإلى المحكوم له باستحقاقه؛ ولذلك يجوز له مطالبة الحاكم به، فلهذا قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} . فإن قيل: لم يجر ذكر المحكوم له؛ وإنما جرى ذكر الحاكمين. قيل: ذكر الحاكمين يتضمن ذكر المحكوم له، فكني عن الجميع. وقيل: إنه على سبيل التفخيم والتعظيم، كما قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، وهو واحد لا شريك له، وقال: {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونََ} 1 وأراد به عائشة رضي الله عنها2. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 3، يعني عائشة. واحتج بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 4 وكان الاثنان في حكم الثلاثة. والجواب: أن ظاهر الآية كان يقتضي أن لا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا ثلاثة إخوة؛ إلا أنا عدلنا بالآية عن ظاهرها لقيام الدلالة. واحتج بقوله تعالى في يوسف وأخيه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} 5.   1 "26" سورة النور. 2 وقال ابن قتيبة في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" ص"284": "يعني عائشة وصفوان بن المعطل". 3 "11" سورة النور. 4 "11" سورة النساء. 5 "83" سورة يوسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 والجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد به: يوسف وأخوه الذي وجدت السقاية في رحله، والأخ الذي يخالف وقال: {لَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} 1. ويحتمل أن يكون أطلق لفظ الجمع مجازًا، كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} 2، وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ} 3 قيل: إنه كان واحدًا. واحتج بقوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" 4.   1 "80" سورة يوسف، والآية في الأصل بحذف كلمة "لي" الأخيرة في الآية. 2 "99" سورة المؤمنون. 3 "173" سورة آل عمران. 4 هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب الاثنان جماعة "1/312"، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: "اثنان فما فوقهما جماعة". وأخرجه عنه الحاكم في كتابه "المستدرك" في كتاب الفرائض، باب الاثنان فما فوقهما جماعة "4/334". وفي إسنادهما: "الربيع بن بدر"، وهو -كما يقول الحافظ ابن حجر في كتابه "التلخيص": "3/81-82": ضعيف، وأبوه مجهول. وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب الاثنان جماعة "1/280-281"، وفيه: "الربيع بن بدر"، كما أخرجه في الموضع المذكور عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولفظه فيهما مثل لفظ ابن ماجه، وفي إسناده الأخير: عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، قال فيه البخاري: "تركوه"، وبمثل قوله قال الحافظ في "التلخيص". وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا، ولفظه مثل لفظ ابن ماجه: قال الحافظ الهيثمي في كتابه الزوائد "2/45"، بعد سياق الحديث: "وفيه: مسلمة بن علي، وهو ضعيف". كما أخرجه عنه الطبراني أيضًا والإمام أحمد بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي وحده؛ فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا، فيصلي معه"؟ فقام رجل، فصلى معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذان جماعة" قال الهيثمي -بعد سياقه: "وله طرق كلها ضعيفة". وقد بوب البخاري في "صحيحه" في كتاب الأذان "1/158" بقوله: باب اثنان فما فوقهما جماعة، وساق حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه: "فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 الجواب: أنه قصد به بيان حكم الجمع في الصلاة، وأنه يحصل بالاثنين، وإن لم يكن في اللغة جميعًا، ولم يقصد به بيان الجمع؛ لمشاركة الصحابة له في معرفة الأسماء اللغوية. واحتج: بأن الجمع معناه: الضم؛ فإذا ضم واحد إلى واحد؛ وجد معنى الجمع. والجواب: أن الاشتقاق لا يدل على حقيقة الاسم؛ لأن اسم الدابة مشتق من دب يدب على الأرض، ولا يسمى الآدمي دابة، وسائر ما يدب على الأرض دابة حقيقة؛ لوجود المعنى الذي اشتق منه. وكذلك سميت الخابية1؛ لما يخبأ فيها، ولا يسمى الصندوق خابية، وإن كان يخبأ فيه. وجواب آخر، وهو: أن الضم قد يوجد في الأعداد المختلفة، والأجسام المتقاربة، ولم يكن ذلك [91/ب] موجبًا لكون جميع ما ضم في حكم الشيء الواحد. وهكذا الجواب عن قولهم: إن الواو حقيقتها الجمع.   1 "الخابية" أصلها: "الخابئة" بالهمز، ولكن العرب تركت الهمزة استثقالًا لها. انظر: "اللسان"، مادة "خبأ": "1/55". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 واحتج: بأن الاثنين قد يخبران عن أنفسهما بلفظ الجمع، فيقولان: فعلنا كذا وكذا. والجواب: أنه باطل بالواحد يخبر عن نفسه بلفظ الجمع، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1، على أنه إنما يخبر بذلك الاثنان عن أنفسهما؛ لأن الإضافة إليهما كافية في التمييز، يعلم2 بهذا أن هذا اسم للاثنين؛ فأما حالة الإطلاق؛ فليس هناك ما يقع به التمييز لتعرفه بلفظ التثنية والجمع. ثم نعارض هذا بمثله، فنقول: قد فرقوا بين الاثنين والجماعة في المواجهة؛ فقالوا: أنت وأنتما وأنتم، وكذلك: هو3 وهما وهم، فسقط ما قالوه.   1 "9" سورة الحجر. 2 كلمة "نعلم" بدون إعجام في الأصل. 3 في الأصل: "هذا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 مسائل الإستثناء مدخل ... مسائل الاستثناء: 1 الاستثناء: كلام ذو صيغ2 محصورة، تدل على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول3.   1 راجع مسائل الاستثناء في: "المسودة" ص"152-160"، و "شرح الكوكب المنير" ص"183-199". 2 في الأصل: "ذو صيغة"، وقد ذكر المؤلف بعد ذلك الكلمة: "صيغ" كما أثبتناها. 3 تعقب المؤلف في "المسودة" ص"154"، بأن هذا التعريف، إنما هو تعريف "الاستنثاء" عند النحاة؛ أما تعريفه عند الفقهاء، فهو أعم من ذلك، إذ إن الاستثناء عندهم يكون بالمفرد، كما عند النحاة، ويكون بالجملة، كقولك: له هذه الدار، ولي منها هذا البيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 ولا يدخل على هذا التخصيص وأدلته المنفصلة، أنها ليست باستثناء وإن كان هذا المعنى موجودًا فيها؛ لأن تلك الأشياء ليست تختص بالقول، ألا ترى أن التخصيص يكون تارة بقول صاحب الشريعة، وتارة يكون بدليل العقول، وليس ذلك بقول؟ ولا يلزم عليه القول المتصل بلفظ العموم، نحو قولهم: "رأيت المؤمنين، وما رأيت زيدًا، ولم أر عمرًا وخالدًا"؛ لقولنا: "كلام ذو صيغ محصورة". وحروف الاستثناء محصورة، وليس الواو منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 مسألة الاستثناء إنما يصح إذا اتصل بالكلام مدخل ... مسألة 1: الاستثناء إنما يصح إذا اتصل بالكلام: فأما إذا انقطع فإنه لا يعمل. وقد ذكره الخرقي في كتاب الإقرار2 فقال: "ومن أقر بعشرة دراهم وسكت3 سكوتًا يمكنه4 الكلام فيه، ثم قال: زيوفًا، أو صغارًا، أو إلى شهر؛ كانت عشرة وافية جيادًا5 حالة". وقد اختلفت الرواية عنه في الاستثناء في اليمين6.   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"152-153"، و "شرح الكوكب المنير" ص"188-190". 2 ص"99" من "مختصر الخرقي". 3 في "مختصر الخرقي" ص"99": "ثم سكت ... ". 4 في "مختصر الخرقي" ص"99": " ... كان يمكنه الكلام فيه..". 5 في "مختصر الخرقي" ص"99" تقديم كلمة: "جياد" على كلمة "وافية". 6 فصل المرداوي في كتابه: "الإنصاف" في كتاب "الأيمان": "11/25-27" القول في الروايات في هذه المسألة، فارجع إليه إن شئت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 فقال في رواية أبي طالب: إذا حلف بالله، وسكت قليلًا، ثم قال: إن شاء الله؛ فله استنثاؤه؛ لأنه يكفر. وكذلك نقل المروزي عنه رضي الله عنه: إذا كان بالقرب ولم يختلط كلامه بغيره. وظاهر هذا جواز الفصل بزمان يسير ما دام في المجلس. وقد نقل أبو النصر1 وأبو طالب عن أحمد رحمه الله: ما يدل على أنه لا يصح إذا فصل. وهو اختيار الخرقي؛ لأنه قال: "إذا لم يكن بين اليمين والاستثناء فصل2". وهو الصحيح. وبه قال جماعة الفقهاء والمتكلمين. وحكي عن عبد الله بن عباس: جواز الاستثناء، وإن كان منطقعًا.   1 هو: إسماعيل بن عبد الله بن ميمون أبو النضر العجلي المروزي، سمع من الإمام أحمد، ونقل عنه مسائل كثيرة، كما سمع عبيد الله بن موسى العبسي، وعبد الرحمن بن قيس الزعفراني وغيرهما. وروى عنه محمد بن خلف الدوري وأبو الحسن المنادي وغيرهما. مات سنة 270هـ. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/105-106". 2 انظر: "مختصر الخرقي" ص"217"، والعبارة فيه: " ... إذا لم يكن بين اليمين والاسثتناء كلام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 دليلنا : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر [92/أ] عن يمينه" 1، ولو   1 هذا الحديث رواه عبد الرحمن بن سمرة القرشي العبشمي رضي الله عنه مرفوعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 كان الاستثناء يرفعهما بعد مدة، كان الخلاص به أسهل من الحنث والكفارة؛ فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم خلاصه منها بالحنث والكفارة؛ ثبت أنه لا خلاص له بغير ذلك. ولأن الاستثناء جارٍ1 مجرى الشرط؛ لأنه إذا انفصل عما قبله لم يعد، ألا ترى أنه إذا قال: اضرب زيدًا أو أعطه درهمًا، ثم قال بعد يوم: إذا قام، أو أكل؛ لم يعد ذلك، ولم يكن شرطًا صحيحًا. كذلك قوله: له عشرة، أو قال: والله لا أكلت الخبز، ثم قال بعد شهر: يومي هذا، لم يقبل2 ذلك؛ فلم يكن صحيحًا. ويفارق هذا النسخ والتخصيص؛ لأن لفظ النسخ ولفظ التخصيص   = أخرجه عنه البخاري في كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعد": "8/184". وأخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينًا، فرأى غيرها خيرًا منها.. "3/1273". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب الرجل يكفر قبل أن يحنث "2/205". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور، باب فيمن حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها "4/106". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأيمان والنذور باب الكفارة قبل الحنث "7/10". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الكفارات، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها "1/681". وأخرجه عنه الدارقمي في كتاب الأيمان والنذور "2/107". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "بلوغ المرام" ص"173". 1 في الأصل: "جاري". 2 في الأصل: "يقل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 مقيد بانفراده؛ فلهذا جاز أن يتأخر. ولأن تصحيحه يفضي إلى أن لا يستقر حكم الخطاب أبدًا، ولا يعتقد وجوب ما أمر به الرسول ويتعبد به؛ لجواز أن يعقبه باستثناء يرفعه، وهذا ظاهر الفساد. ويفارق هذا النسخ؛ لأن النسخ يرفع الحكم حال وجوده، بعد أن سبق اعتقاد الحكم وثبت قبل ورود النسخ، فلا يرفع الحكم حال وجوده؛ فلا يرفع حكم الخطاب بكل حال. والاستثناء إذا ورد؛ تبينا أنه لم يثبت للخطاب حكم فيرفعه بكل حال. ويفارق هذا التخصيص؛ لأنه يجوز تأخيره عن وقت الخطاب1 ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة؛ فلا يؤدي إلى إسقاط حكم اللفظ على التأبيد، والاستثناء على قول غيره يرد أبدًا، فيرفع حكم الخطاب.   1 من قوله: "لأنه يجوز ... " إلى هنا مكرر في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لأغزون قريشًا"، ثم سكت ساعة ثم قال: "إن شاء الله" 1؛ فلولا صحة الاستثناء لم يذكره.   1 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود، في كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت "207/2"، كما أخرجه عن عكرمة مرسلًا. وأخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ابن حبان في "صحيحه" وأبو يعلى في "مسنده"، قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": هذا حديث رواه شريك ومسعر؛ فأسنداه مرة، وأرسلاه أخرى. وأخرجه ابن عدي في "الكامل" عن عبد الواحد بن صفوان عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا. أما ابن القطان فقد ذكره من جهة ابن عدي، وقال: و "عبد الواحد" هذا ليس حديث بشيء، والصحيح مرسل. انظر: "نصب الراية": "3/302-303"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"793". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 والجواب: أن قوله: "إن شاء الله"؛ لم يكن على وجه الاستثناء؛ وإنما كان على معنى أن الأفعال المستقبلة تقع بمشيئة الله تعالى؛ ولهذا قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1. واحتج: بأنه معنى يرفع اليمين؛ فجاز أن يقع منفصلًا كالكفارة. والجواب: عن الكفارة ما ذكرناه في النسخ، وهو أن تأخر الكفارة لا يرفع حكم اليمين بكل حال، والاستثناء يرفع حكمها، وإن قاسوا على النسخ وعلى التخصيص؛ فالكلام عليه ما ذكرنا. وفيما ذكرنا من الخبر والشرط دلالة على من أجاز ذلك في المجلس؛ لأن الشرط والجزاء متى تفرقا بقدر المجلس لم يصح، كذلك الاستثناء. فإن قيل: المجلس يجري مجرى حال العقد، بدليل قبض رأس مال السلم وثمن الصرف. قيل: اعتبار هذا بالشرط والجزء أشبه، لما ذكرنا.   1 "23" سورة الكهف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 يجوز تقديم المستثنى على المستثنى منه ... فصل: يجوز أن يقدم الاستثناء [92/ب] على المستثنى منه إذا كان متصلًا به، نحو قوله: ما جاءني إلا أخاك من أحد، وما مررت إلا إياك بأحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 وقد قال حسان:1 الناسَ ألِّب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر2 فقدم قوله: إلا السيوف وأطراف القنا ... وجعله بمثابة قوله: ليس لنا وزر إلا السيوف وأطراف القنا. وقال الكميت:3 فما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب4 فنصبا جميعًا بالاستثناء مما هو في موضع النصب والخفض، وقد قال أهل العربية: إن الاستثناء إذا تقدم نصب أبدًا المستثنى منه، تقول: ما جاءني إلا إياك أحد، وما مررت إلا إياك أحد، واستشهدوا بهذين البيتين.   1 هو: حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام أبو الوليد الأنصاري النجاري شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، نافح عن الدعوة الإسلامية في فجر تاريخها، وكان لشعره أثر كبير على الكفار، وبخاصة قريش، مات قبل الأربعين في خلافة علي رضي الله عنه، وله من العمر عشرون ومائة سنة، عاش نصفها في الجاهلية. له ترجمة في: "الاستيعاب": "1/341"، و"الإصابة": "2/8". 2 هذا البيت ليس لحسان بن ثابت رضي الله عنه، كما ذهب المؤلف؛ وإنما هو لكعب بن مالك رضي الله عنه قاله للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد نسب البيت إليه سيبويه في "الكتاب": "1/371" طبعة بولاق، والمبرد في كتابه "المقتضب": "4/397"، وابن يعيش في "شرحه للمفصل": "2/79". 3 هو: الكميت بن زيد أبو المستهل الأسدي. كان معلم صبيان الكوفة، وكان به صمم. كما كان رافضيًا متعصبًا لأهل الكوفة، في شعره تكلف شديد وسرقة كثيرة. ولد سنة 60هـ، ومات سنة 126هـ. له ترجمة في "الأعلام": "6/92"، و"الشعر والشعراء": "2/581"، و"طبقات الشعراء" لابن سلام الجمحي ص"45". 4 هذا البيت لكميت بن زيد، كما ذكر المؤلف، وقد نسبه إليه المبرد في كتابه: "المقتضب": "4/398"، وابن يعيش في كتابه: "شرح المفصل": "2/79"، وخالد الأزهري في كتابه: "التصريح": "1/355"، وابن منظور في كتابه: "اللسان" مادة "شعب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 يجوز الاستثناء من الاستثناء مدخل ... فصل: يجوز الاستثناء من الاستثناء قال تعالى: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} 1.   1 "59-60" سورة الحجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 مسألة لا يصح استثناء الأكثر مدخل ... مسألة: لا يصح استثناء الأكثر ذكره الخرقي في كتاب الإقرار1. وحكى ذلك عن ابن درستويه النحوي2، ونصره ابن الباقلاني في كتاب التقريب من أصول الفقه. وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى جواز ذلك.   1 وذلك في "مختصره" ص"99-100"، وعبارته هكذا: "ومن أقر بشيء واستثنى منه الكثير -وهو أكثر من النصف- أخذ بالكل، وكان استثناؤه باطلًا". 2 هو: عبد الله بن جعفر بن درستويه -بضم الدال والراء المهملتين، وقيل: بفتحهما- ابن المرزبان أبو محمد. أحد النحاة المشهورين. بصري المدرسة؛ شديد الانتصار لهم. وثقه ابن مندة، وضعفه هبة الله اللالكائي. له كتب كثيرة منها: "الإرشاد في النحو" و"شرح الفصيح". مات سنة 347هـ، وله من العمر تسع وثمانون سنة. له ترجمة في: "البداية والنهاية": "1/233"، و"بغية الوعاة": "2/36"، و"تاريخ بغداد": "9/428"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/223"، و"مفتاح السعادة": "1/166"، و"النجوم الزاهرة": "3/321". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 دليلنا : أن الاستثناء لغة، وأهل اللغة قد نفوا ذلك وأنكروه. قال أبو إسحاق الزجاج في كتاب المعاني لما تكلم على قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} 1: ولم يأت في كلام العرب إلا في القليل من الكثير2. وقال أبو الفتح ابن جني3 ولو قال قائل: هذه مائة إلا تسعين، ما كان متكلمًا بالعربية، وكان كلامه عيًا ولكنةً. وقال القتبي4 في جوابات المسائل5، وذكر أيضًا في كتاب   1 "14" سورة العنكبوت. 2 المطبوع من الكتاب إلى آخر سورة "براءة"، والآية المشار إليها من سورة العنكبوت. 3 هو: عثمان بن جني أبو الفتح الموصلي. كان أبوه مملوكًا روميًا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي. كان إمامًا في النحو والأدب. تتلمذ على أبي علي الفارسي مدة أربعين سنة، وبعد موت أستاذه أبي علي؛ تولى مكانه في بغداد. له مؤلفات كثيرة، منها: "الخصائص"، و"شرح المقصور والممدود"، و"المذكر والمؤنث". مات سنة 392هـ، وله من العمر خمس وستون سنة تقريبًا. له ترجمة في: "الأعلام": "4/364"، و"بغية الوعاة": "2/132"، و"شذرات الذهب": "3/140"، و"نزهة الألباء" ص"406"، ومقدمة كتاب الخصائص للأستاذ محمد علي النجار. 4 هو: ابن قتيبة عبد الله بن مسلم أبو محمد الدينوري، وقد سبقت ترجمته. 5 هذا الكتاب طبع سنة 1349هـ بمطبعة السعادة بمصر، باعتناء مكتبة القدسي، وقد طبع بعنوان: "المسائل والأجوبة في الحديث واللغة"، ويقع في 26 صحيفة، وقد أشار إليه المؤلف في أول الكتاب عند تعريفه للفقه لغة، أما الكلام الذي أشار إليه هنا؛ فلم أجده في الكتاب المذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 الجامع في النحو1 فقال: يجوز أن يقول: صمت الشهر كله [إلا يومًا، ولا يجوز أن يقول: صمت الشهر كله] 2 إلا تسعة وعشرين يومًا، ويقول: لقيت القوم جميعًا إلا واحدًا أو اثنين، ولا يجوز أن يقول: لقيت القوم جميعًا إلا أكثرهم، وأنشد: عداني أن أزورك أن بهمي ... عجاف3 كلها إلا قليلًا4 ولأنه لو جاز استنثاء الأكثر؛ جاز استثناء الكل، ألا ترى أن التخصيص لما جاز في أكثر العموم؛ جاز في جميعه، وهو النسخ؛ فلما لم يجز في الكل؛ لم يجز في الأكثر؛ لأن الأكثر قد أجري مجرى الكل. ولأنه استثناء الأكثر؛ فلم يصح، كالراهن إذا استثنى الأكثر في الإقرار. ولأنه استثنى الأكثر؛ فلم يصح، كما لو قال: أنت طالق، وطالق،   1 ذكر هذا الكتاب منسوبًا إلى ابن قتيبة ابن النديم في "الفهرست" ص"116" من الطبعة التجارية سنة 1348هـ. 2 الكلام لا يستقيم بدون هذه الزيادة، وقد استعنَّا في ذلك بابن قدامة، حيث نقل نص ابن قتيبة في كتابه "المغني" في كتاب الإقرار "5/147" هكذا: "وقال القتيبي: يقال: صمت الشهر إلا يومًا، ولا يقال: صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يومًا، ويقال: لقيت القوم جميعهم إلا واحدًا أو اثنين، ولا يجوز أن يقال: لقيت القوم إلا أكثرهم". 3 هكذا في الأصل، وفي مراجع تخريج البيت: "عجايا". 4 هذا البيت ذكره ابن فارس في كتابه: "معجم مقاييس اللغة": "243/4" مادة: "عجا"، ولم ينسبه لأحد. كما ذكره ابن منظور في كتابه: "اللسان" "255/19" مادة: "عجا"، ولم ينسبه لأحد أيضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 وطالق؛ إلا طالق طلقتين؛ فإنه لا يصح. فإن قيل: هناك لو استثنى [93/أ] الأقل، وهو طلقة؛ لم يصح، وكان المعنى فيه أن هناك جملًا1؛ فالاستثناء عدد، فرفع جملتين؛ فلم يصح. قيل: عندنا لو استثنى طلقة صح؛ فلا نسلم هذه المعارضة، وقولهم: إن هناك جملًا2؛ فهو يرفع جملتها؛ فلا يصح؛ لأنها في حكم الجملة الواحدة، فالواو تجعل الكلام بمنزلة جملة واحدة، بدليل أن الاسثتناء يرجع إلى الجميع، وكذلك الشرط.   1 في الأصل: "جمل". 2 في الأصل: "جمل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 1، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينََ} 2، فاستثنى الغاوين من المخلصين، والمخلصين من الغاوين وأيهما كان الأكثر؛ فقد استثنى الأكثر وأبقى الأقل؛ على أن الغاوين أكثر من غير ذلك. والجواب عنه من وجهين: أحدهما أن هذا استثناء من جميع الجنس؛ فيجوز أن يقال فيه: إنه يجوز إخراج الأكثر من الأقل؛ فأما استثناء الأكثر من الأعداد المحصورة فلا، ويكون الفرق بينهما: أن اللغة وردت بجواز ذلك في الجنس، وهو ما ذكروه من الآية، ومنعت من ذلك في الأعداد، وهو ما حكيناه عنهم.   1 "42" سورة الحجر. 2 "82" سورة ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 ولأن حمل جميع الجنس على العموم؛ إنما هو بطريق الظاهر، لا من جهة القطع على جميع الجنس، وليس كذلك في الأعداد؛ لأن جميعها منطوق به نصًا وصريحًا؛ فلهذا فرقنا بينهما. وجواب آخر عن الآية وهو: أنه يحمل هذا على الاستثناء المنقطع، وهو بمعنى: لكن من اتبعك من الغاوين، كقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 1 معناه: لكن رب العالمين، وكقوله: {إِلاَّ خَطَأً} 2 يعني: لكن خطأ. واحتج بقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} 3؛ فقد استثنى النصف. والجواب: أن أصحابنا اختلفوا في استثناء النصف. فالخرقي أجاز ذلك؛ لأنه قال: إذا استثنى منه الكثير، وهو أكثر من النصف4. فعلى هذا يقول بظاهر الآية. وأبو بكر منع استثناء النصف5؛ فعلى هذا: قوله تعالى: {نِصْفَهُ} كلام مبتدأ، وليس باستثناء. واحتج بقول الشاعر:   1 "77" سورة الشعراء. 2 "92" سورة النساء. 3 "2-4" سورة المزمل. 4 وذلك في "مختصره" ص"99". 5 حكى ذلك عنه أيضًا ابن قدامة في كتابه: "المغني": "5/147"، معللًا ما ذهب إليه من أنه لم يرد في كلامهم إلا القليل من الكثير، والنصف ليس بقليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 أدوا التي نقصت تسعين1 من مائة ... ثم ابعثوا حكمًا بالحق قوالًا2 والجواب: أن هذا ليس باستنثناء؛ لأنه لم يأت بحرف الاستثناء؛ وإنما ذكر نقصان الأكثر مما دخل تحت الاسم. واحتج: بأنه إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ؛ فصح في الأكثر كما يصح في الأقل، كالتخصيص. والجواب: أن التخصيص أوسع، ألا ترى أنه يصح بدليل منفصل، والاستثناء لا يصح إلا متصلًا، والتخصيص لا يختص بعبارة، والاستثناء [93/ب] يختص بحروف مختصة، والتخصيص يجوز بسائر الأدلة: الشرع والعقل، والاستثناء لا يقع إلا باللفظ. ولأن من جنس التخصيص ما يرفع الجملة، وهو النسخ؛ لأن التخصيص تخصيص الأعيان، والنسخ تخصيص الزمان، وليس من جنس الاستثناء ما يرفع الجملة. وقد ذكر هذا ابن عرفة النحوي3 في كتاب الاستثناء   1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "سبعين" بدليل كلام ابن عرفة الآتي ذكره. 2 نقل ابن قدامة في "الروضة" ص"134" عن ابن فضالة النحوي قوله: "هذا بيت مصنوع ولم يثبت عن العرب". 3 هو: إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان أبو عبد الله العتكي الأزدي الواسطي، المعروف بنفطويه. كان عالمًا بالعربية واللغة والحديث. أخذ عن ثعلب والمبرد. له مؤلفات كثيرة، منها: "غريب القرآن"، و"إعراب القرآن"، و"الاستثناء والشروط في القراءات". مات في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 323هـ، وله من العمر تسع وسبعون سنة تقريبًا. له ترجمة في: "إنباه الرواة": "1/176"، و"البداية والنهاية": "1/1831"، و"بغية الوعاة": "1/428"، و"تاريخ بغداد": "6/159"، و"شذرات الذهب": "2/298"، و"غاية النهاية": "1/25"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/19"، و"المنتظم": "6/277"، و"ميزان الاعتدال": "1/64". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 والشروط1، وأنه لم يخرج مخرج الاستثناء؛ وإنما خرج مخرج الاقتضاء لبقية دية المقتول فيما أنشدوه من البيت، وأعلم أنه أعطى ثلاثين، ونفى سبعين، وأنشد أمام هذا البيت: إن الذين قتلتم أمس سيدهم ... لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما2 ثم قال: أدوا التي نقصت. واحتج: بأنه استثنى إبقاء بعض الجملة؛ فوجب أن يصح، كما إذا أبقى الأكثر. والجواب: أن الاستثناء للأقل يطابق اللغة، والأكثر يخالف اللغة، وقد بينا: أن الاستثناء لغة؛ فلهذا فرقنا بينهما. وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن يصح إذا بقي الأكثر دون الأقل، كما قال أصحاب أبي حنيفة: يصح ترك بعض الطواف واللعان إذا أتى بالأكثر، وكذلك قال الجميع: يصح إدراك بعض الركعة مع الإمام إذا فاته الأكثر.   1 اسم الكتاب كاملا: "الاستثناء والشروط في القراءات"، وقد ذكرته بعض المراجع السابق ذكرها منسوبًا إليه. 2 هذا البيت لأبي مكعت منقذ بن خنيس، والبيت مذكور في: "الأمالي الشجرية": "1/332"، و"المغني" لابن هشام ص"762" تحقيق مازن المبارك ورفيقه، و"همع الهوامع": "1/135". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 مسألة لا يصح الاستثناء من غير الجنس مدخل ... مسألة 1: لا يصح الاستثناء من غير الجنس وقد ذكر أصحابنا هذا في الإقرار، فقال الخرقي: ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه؛ كان الاستثناء باطلًا2. وذهب أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك إلى جواز ذلك. وهو اختيار أصحاب الشافعي: فذهب بعضهم إلى جوازه، ومنهم من قال: لا يصح، مثل قولنا.   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"156". 2 هكذا في "مختصر الخرقي" ص"99"، وتكلمة العبارة هي: ".. إلا أن يستثنى عينًا من ورق، أو ورقًا من عين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 دليلنا : أن الاستثناء هو إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ، وغير جنس المستثنى منه غير داخل فيه؛ فلا يصح الاستثناء منه. والدليل على أن الاستثناء ما ذكرته: أنه مشتق من قولهم: ثنيت فلانًا عن رأيه، وثنيت عنان دابتي، إذا رده ومنعه؛ فدل على أن الاستثناء يرد بعض ما يجب دخوله في اللفظ ويثنيه عنه، وقد قيل: إنه يسمى استثناء لشبه الخبر بعد الخبر، وعلى هذا يجب أن يكون المستثنى منه والاستثناء قد تناولاه جميعًا؛ فإذا كان كذلك؛ وجب أن يصح الاستثناء في بعض ما دخل في اللفظ. وأيضًا: فإنه إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ؛ فوجب أن لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 يصح من غيره؛ كالتخصيص. وأيضًا: فإن الاستثناء [94/أ] لا ينفرد1 بنفسه؛ فلا يجوز الابتداء به؛ وإنما يصح إذا كان متصلًا بالمستثنى منه؛ فدل على أنه متعلق به، واستنثاؤه لبعض ما شمله اللفظ وتناوله. وأيضًا: فإنه قبيح في الخطاب أن يقول: خرج القوم إلا الحمير، ورأيت الناس إلا الحمير والكلاب. وليس قبحه إلا لما ذكرته.   1 في الأصل: "لا تنفرد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن هذا جائز في القرآن وفي أشعار العرب: قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلاَّ إِبْلِيسَ} 1، وليس إبليس من الملائكة، وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 2 وقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا، إِلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 3، وقوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 4. وقال تعالى: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} 5. وقال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} 6، والظن ليس بعلم، وقوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ   1 "30" سورة الحجر. 2 "77" سورة الشعراء. 3 "25" سورة الواقعة. 4 "29" سورة النساء. 5 "43-44" سورة يس. 6 "157" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمْ} 1، ومعلوم أن من رحم معصوم، وليس بعاصم. وقال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس2 فاستثنى من الأنيس ما ليس من جنسه. وقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب3 فاستثنى الفلول من العيب. وتقول العرب: ما نفع إلا ما ضر، وما زاد إلا ما نقص، وما بالدار أحد إلا الحمار، وما جاءني زيد إلا عمرًا، ونظائر ذلك. والجواب عن قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ   1 "43" سورة هود. 2 هذا البيت لجران العود. وهو في "ديوانه" ص"53"، و"الكتاب" لسيبويه: "1/133-365"، و"التصريح" لخالد "1/353"، و"شرح المفصل" لابن يعيش "1/80، 117"، و"المقتضب" للمبرد "2/319-347"، و"همع الهوامع" للسيوطي "1/225، 2/144"، والشطر الأول في بعض الروايات: وبلدة ليس بها أنيس واليعافير: أولاد الظباء. والعيس: بقر الوحش. 3 هذا البيت للنابغة الذبياني. وهو في "ديوانه" ص"6"، و"الخزانة" للبغدادي "2/9" طبعة بولاق، و"المغني" لابن هشام ص"155" تحقيق مازن المبارك وصاحبه، و"همع الهوامع" للسيوطي "1/232". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 إلا إبليس} 1؛ فهو أن إبليس من الملائكة. قال أبو إسحاق2: سمعت الشيخ يعني أبا بكر3، وقد سئل عن إبليس أمن الملائكة؟ فقال: أمر الله بالسجود الملائكة؛ فلولا أن إبليس منهم ما كان مأمورًا. قال أبو إسحاق: فقلت له: أجمعنا على أن الملائكة لا تناكح، ولا يكون لها ذرية، وقد كان لإبليس ذرية؛ دل على أنه من غيرها. وأما غيره من الآيات: فإنما معناه: لكن، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} 4، وأراد: لكن إن قتل خطأ، تقول العرب: "ما لي ابن بنت" و"ما لي نخل إلا شجر"، والمراد به: لكن، ولا "تلق فلانًا إلا ما لقيت"، معناه: لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه. وقال ابن قتيبة في كتاب "الجامع في النحو": ومما يكون فيه "إلا" بمعنى "لكن" قوله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} 5 أي: لكن من رحم. وكذلك قوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} 6 معناه: لكن قليلًا. وكذلك قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا [94/ب]   1 "30" سورة الحجر. 2 يعني: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا. 3 يعني: عبد العزيز بن جعفر، المعروف: بغلام الخلال. 4 "92" سورة النساء. 5 "43" سورة هود. 6 "116" سورة هود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} 1 يعني: لكن. وهذا قول سيبويه2. وأما قول الشاعر: إلا اليعافير وإلا العيس فإنه استثناء من الأنيس وهذا مما يستأنس به. فأما الفلول في السيوف في البيت الآخر؛ فهو عيب؛ وإنما سببه هو الذي يمدح به. وما حكوه عن العرب؛ فقد حكينا خلافه. واحتج: بأنه استثناء لا يرفع الجملة؛ فصح كما لو كان من جنسه، وكما لو استثنى عينًا من ورق. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الجنس بغيره، كما لم يجز اعتبار التخصيص بغيره، ولأن الاستثناء من الجنس يوجد فيه معنى الاستثناء، وههنا لا يوجد معناه؛ لأن معناه إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ. وأما استثناء العين من الورق: ففيه خلاف بين أصحابنا؛ فأبو بكر يمنع منه3. والخرقي يجيزه4؛ لأنهما أجريا مجرى الجنس الواحد في أشياء، مثل كونها قيم الأشياء والأروض وغير ذلك.   1 "98" سورة يونس. 2 وذلك في كتابه: "1/366-368" طبعة بولاق، ولكنه قدر المعنى في آية هود الأولى: ".. ولكن من رحم.."، وقدر الآية الثانية بقوله: ".. ولكن قليلا ممن أنجيناهم"، كما قدر آية يونس بقوله: ".. ولكن قوم يونس.."، ويلاحظ أنه في كل تقديراته، يثبت "الواو" قبل "لكن". 3 هكذا حكى عنه ابن قدامة في كتابه: "المغني: "5/130"، كما حكى عن ابن أبي موسى قوله: إنه رواية في المذهب. 4 لأنه قال في "مختصره" في كتاب الإقرار ص"99": "ومن أقر بشيء، واستثنى من غير جنسه، كان استثناؤه باطلًا؛ إلا أن يستثنى عينًا من ورق، أو ورقًا من عين". ونقل ابن قدامة في كتابه: "المغني": "5/130"، عن ابن أبي موسى، أنه رواية في المذهب أيضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 مسألة الاستثناء إذا تعقب جملا عطف بعضها على بعض مدخل ... مسألة 1: الاستثناء إذا تعقب جملًا عطف بعضها على بعض وصلح أن يعود إلى كل واحد منها لو انفرد؛ فإنه يعود إلى جميع ما تقدم ذكره. وذلك مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} 2؛ فإنه يرجع الاستثناء إلى نفي الفسق وقبول الشهادة، ونظائر ذلك. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور وقيل له: قوله: "لا يُؤَم الرجل في أهله، ولا يُجلَس على تكرمته؛ إلا بإذنه" 3،   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"156"، و"روضة الناظر" ص"134"، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "59". 2 "4" سورة النور. 3 هذا الحديث رواه عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاري البدري مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/464". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/137". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء من أحق بالإمامة "1/458-459"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/313-314". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الإمامة، باب من أحق بالإمامة "2/59". وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "4/118-121". وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/279-280". وأخرجه الطيالسي عنه في كتاب الصلاة، باب الإمام ضامن، ومن أحق بالإمامة "1/131". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "ذخائر المواريث": "3/8"، و"نصب الراية": "2/24"، و"بلوغ المرام" ص"48"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"225". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 قال: "أرجو أن يكون الاستثناء على كله". وبهذا قال أصحاب الشافعي1. وقال أصحاب أبي حنيفة2 وجماعة من المعتزلة3: يعود إلى أقرب مذكور. وقال أصحاب الأشعري: هو على الوقف على ما يبينه الدليل4.   1 راجع في هذا: "المنخول" للغزالي ص"160"، و"المستصفى" له "2/174"، و"جمع الجوامع" مع شرحه "2/17"، و"الإحكام" للآمدي "2/279". 2 راجع في هذا: "فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت "1/332"، و"تيسير التحرير": "1/302". 3 راجع في هذا: "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/264"، فقد فصل القول في ذلك، ونقل عن القاضي عبد الجبار تفصيلًا في ذلك، حيث قال: "قال قاضي القضاة: إذا لم يكن الثاني منهما إضرابًا عن الأول وخروجًا عنه إلى قصة أخرى، وصح رجوع الاستثناء إليهما، وجب رجوعه إليهما. وإن كان إضرابًا عن الأول وخروجًا عنه إلى قصة أخرى، فإنه يرجع إلى ما يليه ... ". ثم بين بعد ذلك المسائل المندرجة تحت كل حالة من الحالتين. 4 واختاره الغزالي في كتابه "المنخول" ص"161"، و"المستصفى": "2/178"، ونسبه الآمدي في كتابه: "الأحكام": "2/280" إلى القاضي أبي بكر وجماعة من الشافعية. كما ذكر الآمدي رأيًا آخر، وهو القول بالاشتراك، ونسبه للمرتضى من الشيعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 دليلنا : أن الشرط يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره؛ لأنه لو قال: نساؤه طوالق وعبيده أحرار، وماله صدقة إن شاء زيد، وإن دخلت الدار لم يقع شيء من ذلك قبل مشيئته، وكان الشرط راجعًا إلى الجميع، كذلك الاستثناء؛ لأن الاستثناء لا يستقل بنفسه؛ وإنما هو متعلق بما قبله من الكلام، ويجب أن يكون متصلًا به، وإذا انفصل؛ سقط حكمه، والشرط بمثابته في ذلك، فكانا سواء. فإن قيل: الشرط يؤثر في الجملة، والاستثناء يؤثر في بعضها. قيل: هذا لا يوجب الفرق بينهما في الجملة الواحدة، ولأن الاستثناء بمشيئة الله يرجع إلى الجميع عندهم؛ يجب أن يكون الاستثناء بغيره [95/أ] كذلك. ولأن الجملة المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة، لأنه لا فرق بين أن يقول: "رأيت رجلًا ورجلًا"، وبين أن يقول: "رأيت رجلين"، وإذا كان كذلك وجب أن يرجع إلى جميعها، ويكون بمنزلة جملة واحدة. وهذا صحيح على مذهب أحمد رحمه الله؛ لأنه قال1: "إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق وطالق؛ يقع عليها ثلاث، فتكون بمنزلة الجملة الواحدة". وعلى هذا الأصل إذا قال: أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة؛ تقع   1 في الأصل: "لو قال"، و "لو" هنا لا معنى لها، ولا يستقيم الكلام بوجودها؛ لذلك حذفناها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 عليها طلقتان، ويصح الاستثناء؛ لأنه يكون استثناء واحدة من ثلاث ولا يكون استثناؤه واحدة من واحدة. فإن قيل: الجملة الواحدة ليس بينهما وبين الاستثناء حائل؛ لهذا رفعها، وإذا فرقها فقد جعل بينهما وبينه حائل؛ فلهذا لم يرفعها، وإنما يرفع ما يتعقبه. قيل: وأول العطف يقتضي الاشتراك، ويجعل الثاني والأول كأنهما معا مذكوران بلفظ واحد؛ فلا يصح أن يكون بينهما حائل في الحكم، وإن كان بينهما حائل في الصورة. ولأن الاستثناء إذا تعقب جملًا، وصلح أن يعود إلى كل واحد منهما؛ فليس عوده إلى بعضها بأولى من البعض؛ فوجب رده إلى الجميع، كالعموم لما لم يكن حمله على بعض مسمياته أولى من بعض؛ حمل على الجميع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن العموم قد ثبت في جملة من الجمل المتقدمة، وعود الاستثناء إلى الجميع مشكوك فيه؛ فلا يجوز أن يزيل العموم بالشك. والجواب: أنا لا نسلم ذلك؛ لأن العموم إنما ثبت بوقوع السكوت عن الكلام من غير استثناء، وإذا اتصل به الاستثناء؛ لم يثبت العموم، وعلى هذا يلزم عليه العموم؛ لأنه قد يخص بأمر مقطوع عليه، كالنص، وقد يخص بأمر غير مقطوع عليه، كالقياس، وإن كان العموم قد ثبت في جميع المسميات. واحتج: بأن الاستثناء لا يستقل بنفسه، ولا يفيد بانفراده؛ فوجب رده إلى ما تقدم ذكره؛ فإذا رد إلى ما يليه، فقد استقل وأفاد؛ فلا تجب الزيادة عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 والجواب: أنه يبطل بالشرط، ويلزم عليه لفظ العموم؛ فإنه إذا حمل على أقل الجمع أفاد، ومع ذلك لا يقضي عليه، بل يحمل على جميع الجنس، وكذلك الاستثناء إذا تعقب جملة تناولت أشياء؛ فإنه إذا علق ببعض تلك الأشياء أفاد، ومع ذلك فإنه يرد إلى جميعها. واحتج: بأن الاستثناء إذا تعقب الاستثناء بغير الواو رجع إلى ما يليه، ولا يرجع إليهما، كذلك ههنا. وبيانه: أن يقول: "له علي عشرة إلا أربعة إلا درهمين1"، إن الاستثناء الثاني يرجع إلى الاستثناء [95/ب] الأول، ولا يرجع إليه وإلى العدد الذي قبله، فيلزمه ثمانية دراهم". والجواب: أنه إنما رجع إلى ما يليه؛ لأنه لا يصح رجوعه إليهما2؛ فإن أحدهما نفي والآخر إثبات؛ فإذا رجع إليهما تناقض. واحتج: لو قال: "أنت طالق وطالق وطالق إلا طالق"؛ لم يصح الاستثناء، وهذا يدل على أنه رجع إلى ما يليه؛ فلا يرجع إلى الجميع، إذ لو رجع إلى الجميع؛ لصح الاستثناء؛ لأنه قد رفع الأقل، ولما لم يصح؛ دل على أنه رجع إلى ما يليه، فقد رفع جميعه؛ فلهذا لم يصح. والجواب: أنه يصح الاستثناء، هذا قياس المذهب؛ لأنه قد قال في غير المدخول بها: "أنت طالق وطالق وطالق، يقع ثلاثًا"، وجعل الواو للجمع؛ فحصلت في حكم الجملة الواحدة؛ فعلى قياس هذا يصح الاستثناء؛ لأنها جملة واحدة. وقد سلم أصحاب الشافعي هذا، وقالوا: لا يصح الاستثناء؛ لأنه يرفع الجملة؛ وإنما يرجع إلى الجميع، إذا لم يرفع جميع الجملة من الجمل المتقدمة.   1 في الأصل: "إلا درهم". 2 في الأصل: "إليها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 وهذا غير صحيح؛ لأن الواو للعطف يجعل الجمل1 كالجملة الواحدة لعطف بعضها على بعض، وإذا جعلت كالجملة الواحدة؛ صح الاستثناء، وكان راجع إلى الجميع. فأما من قال بالوقف؛ فقوله ظاهر الفساد؛ لأن السلف اختلفوا في هذه المسألة على قولين: منهم من قال: إنه يعود إلى الكل، ومنهم من قال: إنه يعود إلى الأقرب، ولم يقل أحد: إنه موقوف؛ فالقول بالوقف إحداث قول ثالث، لا يجوز إثباته. وأيضًا: فإن الاستثناء يؤثر في الكلام كالشرط، ومعلوم أن الشرط يرجع إلى ما يليه، ولا يتوقف فيه، كذلك الاستثناء. واحتج المخالف: بأن الاستثناء يصح أن يعود إلى البعض، ويصح أن يعود إلى الجميع؛ فوجب التوقف فيه. والجواب: أن عوده إلى الجميع هو الظاهر؛ وإنما يعود إلى الأقرب بقرينة ودليل؛ فلا نسلم لهم تساوي الأمرين.   1 في الأصل: "الجملة" والصواب: ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 مسألة: في المحكم والمتشابه 1 ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن "المحكم": ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان. و"المتشابه": ما احتاج إلى بيان2. لأنه قال في كتاب "السنة": بيان ما ضلت فيه الزنادقة في القرآن.   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"161"، و"رسالة الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد، و"روضة الناظر" ص"35-36"، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "ب/83-84"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص"86-102". 2 كلام الإمام أحمد هذا نقله ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350" وقد سبق للمؤلف ص"152": أن عرف المحكم بقوله: "ما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعقل معناه من لفظه". كما عرف المتشابه بأنه: "المشتبه المحتمل، الذي يحتاج في معرفة معناه إلى تأمل وتفكر وتدبر وقرائن تبينه وتزيل إشكاله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 ثم ذكر آيات تحتاج إلى بيان1. وقال في رواية ابن إبراهيم "المحكم": الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه: الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا. ومعناه: ما ذكرنا؛ لأن قوله: "المحكم": الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا، معناه: الذي يحتاج إلى بيان؛ فتارة يبين بكذا وتارة يبين بكذا؛ لحصول الاختلاف في تأويله، وذلك نحو قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2؛ لأن القرء من الأسماء المشتركة، تارة يعبر عن الحيض، وتارة عن الطهر. ونحو قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3. وهذا قول عامة الفقهاء. وقد اختلف في ذلك:   1 هذه رسالة صغيرة للإمام أحمد رحمه الله، طبعها الشيخ محمد حامد الفقي بمطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1375هـ-1956م، ضمن مجموع سماه: "شذرات البلاتين من طيبات كلمات سلفنا الصالحين" الجزء الأول وصفحاتها من "41-52". ولم أجد كلام الإمام أحمد رحمه الله المشار إليه في هذه الرسالة؛ وإنما وجدته في رسالة: "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله"، وقد طبعها الشيخ محمد حامد الفقي ضمن المجموع المذكور، والنص المشار إليه يقع في ص"4" وما بعدها. ويلاحظ أن هذه الرسالة قد طبعت في المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1393هـ والنص المشار إليه يقع في هذه الطبعة في ص"7" وما بعدها. 2 "228" سورة البقرة. 3 "141" سورة الأنعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 فقال قوم: "المحكم": هو الأمر والنهي، والحلال والحرام، والوعد والوعيد1. و"المتشابه": ما كان من ذكر القصص والأمثال. قالوا: لأن "المحكم" ما استفيد الحكم منه، و"المتشابه" ما لا يفيد حكمًا. ومنهم من قال: "المحكم" ما وصلت حروفه، و"المتشابه": ما فصلت حروفه، وتفصيلها: أن ينطق بكل حرف كالكلمة، كقوله: {الم} 2، {المص} 3، {الر} 4، و {كهيعص} 5، ونحو ذلك. والموصولة: ما لاينطق بكل حرف وحده، كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} 6، ونحو ذلك. وذلك أن "المحكم": ما عرف معناه، و"المتشابه": ما لا يعقل معناه، وهو أوائل السور، بالحروف المقطعة7. ومنهم من قال: "المحكم": الناسخ، و"المتشابه": المنسوخ8.   1 نسبه ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350" إلى ابن عباس ومجاهد. 2 "1" سورة البقرة. 3 "1" سورة الأعراف. 4 "1" سورة هود. 5 "1" سورة مريم. 6 "2" سورة البقرة. 7 القول بأن "المحكم": ما علم العلماء تأويله. و"المتشابه": ما لم يعلم العلماء تأويله، منسوب إلى جابر بن عبد الله بن رئاب، كما ذكر الطبري في "تفسيره": "6/180"، وابن الجوزي في "تفسيره": "1/350-351". 8 نقل هذا القول -عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والضحاك- ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350-351"، والطبري في تفسيره "جامع البيان": "6/175-176"، والطبري في كتابه: "مجمع البيان": "3/15". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 فإن المنسوخ ما لا يستفاد منه حكم؛ وإنما يستفاد من الناسخ. وذكر أبو الحسين البصري1 عن أصحابه: أن "المحكم" يستعمل على وجهين: أحدهما: أنها محكمة الصيغة والفصاحة. والآخر: أنه لا يحتمل تأويلين مشتبهين، وأما "المتشابه": [ف] يستعمل أيضًا على وجهين: أحدهما: أنه متشابه ومتساوٍ في الحكمة. والآخر: يحتمل تأويلين مختلفين مشتبهين احتمالًا شديدًا2. والدلالة على ما قلناه: قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ   1 هو محمد بن علي بن الطيب أبو الحسين البصري، المعتزلي، الأصولي المتكلم. كانت له حلقة كبيرة في بغداد يقرئ فيها الاعتزال. له كتب كثيرة منها: المعتمد في أصول الفقه، وتصفح الأدلة، وكتاب في الإمامة وأصول الدين. توفي ببغداد سنة 436هـ. له ترجمة في: "تاريخ بغداد": "3/100"، و"شذرات الذهب": "3/259"، و"طبقات المعتزلة" ص"387"، و"لسان الميزان" "5/289"، و"ميزان الاعتدال": "3/106"، و"فيات الأعيان": "1/482". 2 القول بأن المحكم ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد"، والمتشابه "ما احتمل من التأويل أوجهًا" نسبه الطبري في تفسيره "6/177" إلى محمد بن جعفر بن الزبير، ونسبه الطبري في تفسيره "3/15" إلى محمد بن جعفر، المذكور، وإلى أبي علي الجبائي. وهناك أقوال أخرى في المحكم والمتشابه، لخص أهمها ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350-351"، على أن للإمام ابن تيمية رسالة في هذا الموضوع نقلها القاسمي في "تفسيره": "4/752"، وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 مُتَشَابِهَاتٌ} 1، وأم الشيء: هو الأصل الذي لم يتقدمه غيره، فاقتضى ذلك، أن "المحكم": ما كان أصلًا بنفسه، مستغنيًا عن غيره، لا يحتاج إلى بيان ولا من لفظ قرينة ولا غيره. و"المتشابه": ما خالف ذلك، وافتقر إلى بيان ودليل يعرف به المراد. وإنما يكون هذا فيما ذكرناه من المحتمل، دون ما ذكروه من القصص والناسخ والمنسوخ. يبين صحة هذا: قوله تعالى في سياق الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} 2 فثبت أن المتشابه هو الذي يحتاج إلى تأويل وبيان. يبين صحة هذا: أن المتشابه والقصص يعقل معناها، وكذلك المنسوخ، فكيف يقال متشابه؟! ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} اختلفوا في هذه "الواو"، هل هي واو عطف أو ابتداء كلام؟ فمنهم من قال: الواو للابتداء، وليست للعطف؛ فهذا [96/ب]   1 "7" سورة آل عمران. راجع في تفسير هذه الآية: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي "4/8"، و"جامع البيان" للطبري "6/175"، و"مجمع البيان" للطبري "3/12"، و"التفسير الكبير" للرازي "7/138"، و"زاد المسير" لابن الجوزي "1/350"، و"محاسن التأويل": "4/751". 2 "7" سورة آل عمران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 القائل يقول: الله تعالى يعلم تأويل المتشابه وحده، وقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} معناه: يقولون آمنا به؛ فأما أن يعلموا ذلك فلا1. ومنهم من قال: الواو واو العطف، ويكون معناه: الله يعلم تأويله، وأهل العلم يعلمون ذلك أيضًا2. والوجه الأول أشبه بأصولنا. وقد بينا ذلك في أول كتاب "إبطال التأويل لأخبار الصفات"3. والوجه فيه" ما ذكره أبو بكر ابن الأنباري4 في كتاب "الرد على أهل الإلحاد" ما ذهب إليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أبي5 وابن مسعود وابن عباس.   1 وبهذا قال ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وعمر بن عبد العزيز والفراء وأبو عبيدة وثعلب وابن الأنباري وجمهور العلماء، نقل ذلك ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/354". 2 وبهذا قال الربيع، وأبو سليمان الدمشقي، نقل ذلك ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/354". كما قال به ابن قتبية، وانتصر له في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" ص98"-1001". 3 هذا أحد كتب القاضي أبي يعلى، وهو مفقود -حسب علمي- وإن كان يوجد منه نقول: ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، واستفاد منها. 4 هو: محمد بن القاسم بن بشار، أبو بكر الأنباري، علامة في النحو واللغة. كان زاهد متواضعًا، ثقة صدوقًا، كما كان آية في الحفظ، له مصنفات كثيرة، منها: "غريب الحديث"، و"كتاب الوقف"، و"كتاب المشكل". مات سنة 328هـ وله 57 سنة. له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/315"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء" ص"330". 5 هو: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد الخزرجي الأنصاري. صحابي جليل، شهد بيعة العقبة الثانية، وشهد بدرًا، كان أحد القراء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. مات في خلافة عمر بن الخطاب، وقيل: مات سنة 19هـ، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: "الاستيعاب": "1/65"، و"الإصابة" القسم الأول ص"27" طبعة دار نهضة مصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 ففي قراءة عبد الله1: "إن تأويله إلا عند الله والراسخون يقولون2". وفي قراءة أبي: "ويقول الراسخون في العلم"3. وعن ابن عباس أنه كان يقرأ: "ويقول الراسخون في العلم"4. وكان الفراء5 وأبو عبيدة6 يقولان: الراسخون مستأنفون، والله هو المنفرد؛ لأن الله تعالى   1 المراد: عبد الله بن مسعود. 2 وقد نسب هذه القراءة إلى عبد الله بن مسعود الطبري في "تفسيره": "6/204"، وابن الجوزي في "تفسيره": "1/354". 3 نسب هذه القراءة إلى أبي الطبريُّ في "تفسيره": "6/204"، وابن الجوزي في "تفسيره": "1/354". 4 انظر: "تفسير" ابن جرير الطبري "6/204"، و"تفسير ابن الجوزي" "1/354"؛ فإنهما قد نسبا هذه القراءة إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وراجع الإعراب على كل قراءة كتاب: "إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن" للعكبري "1/73". 5 هو: يحيى بن زياد بن عبد الله بن مروان الديلمي، أبو زكريا، المعروف بالفراء، نعت بذلك لأنه كان يفري الكلام، إمام في النحو، كوفي المدرسة. بل كان أعلم أصحاب هذه المدرسة بعد إمامها الكسائي. كان يميل إلى الاعتزال. ذو دين وورع. مع عجب وعظم نفس، له كتب كثيرة منها: معاني القرآن، والجمع والتثنية في القرآن. مات بطريق مكة سنة 207هـ، وله من العمر 67 سنة. له ترجمة في: "بغية الوعاة": "2/333"، و"تذكرة الحفاظ": "1/372"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء". 6 هو معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري، النحوي، كان عالما بالشعر والغريب والأخبار والنسب، كما قال المبرد. له أخبار مع الأصمعي وأبي نواس وغيرهما. كان يميل إلى رأي الخوارج. له مؤلفات كثيرة، منها: "المجاز في القرآن"، و"كتاب صفة الخيل". ولد سنة 110هـ على الأرجح، وتوفي بالبصرة سنة 209هـ وقيل غير ذلك. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/371"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء" ص"137"، و"وفيات الأعيان": "4/323". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} . ومعناه: صدقنا به؛ لأن الإيمان هو التصديق، ولم يقل: "والراسخون في العلم يقولون علمنا به"، وإذا كان كذلك لم يقتضِ1 العطف المشاركة في العلم، وجرى هذا مجرى قول القائل: ما يعلم ما في هذا البيت إلا زيد، وعمرو يقول: آمنا به، ومعناه: أنه مصدق له، ولا يقتضي مشاركته في العلم بما في البيت، كذلك ههنا. ووجه من قال: إنها عاطفة احتج: بقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 2، وعلى قولكم، ليس فيه بيان المشكل. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين، والحرام 3 بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس" 4؛ فدل على أن القليل   1 في الأصل: "يقتضي". 2 "89" سورة النحل. 3 في الأصل: "حلال بين، وحرام بين" وما أثبتناه هو الموافق للفظ الحديث، كما في مصادر تخريجه التي سنذكرها. 4 هذا الحديث رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه "1/21". وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات "3/1219". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في ترك الشبهات "3/502". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات "2/218". وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات في الكسب "7/213". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات "2/1318". وأخرجه عند الدارمي في كتاب البيوع، باب في الحلال بين الحرام بين "2/161". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 من الناس يعلمها، وهم العلماء. ولأنه لو لم يكن ذلك مع العلم؛ لم يكن للراسخين على العامة فضيلة؛ لأن الجميع يقولون: آمنا به. ولأنه لو لم يكن معلومًا؛ أفضى ذلك إلى أن يتعبد بالشيء المجهول, لا يعلم ما هو. ومن نصر الأول أجاب عن قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1؛ فلا يقتضي جميع الأشياء، كما قال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 2 ولم تؤت مثل ذكر الذكر ومثل لحيته. وقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} 3، ولم تدمر السموات والأرض. وأما قوله: "لا يعلمها4 كثير من الناس"؛ فهو محمول على الأحكام الشرعية؛ لأن الحلال والحرام يرجع إلى ذلك.   1 "89" سورة النحل. 2 "23" سورة النمل. 3 "25" سورة الأحقاف. 4 في الأصل: "فلا يعلمها" بزيادة الفاء، ومأ أثبتناه هو الصواب، الموافق لنص الحديث، الذي ذكره المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 وأما قوله: لو لم يعلموه؛ لم يكن للراسخين فضيلة؛ لأن لهم مزية بمعرفة غيره من الأحكام. وأما قوله: إنه يفضي إلى أن يتعبد بالشيء المجهول؛ فغير ممتنع مثل هذا، كما تعبدنا بالإيمان بملائكته وكتبه ورسله، وإن لم نعرف ملائكته ورسله وما في كتبه؛ كذلك ههنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 فصل جواز ورود القرآن بآيات متشابهة مدخل ... فصل 1: يجوز أن يرد القرآن بآيات متشابهة يدل ظاهرها على التشبيه، وقد ذكر أحمد رحمه الله آيات من المتشابه، وتكلم عليها [97/أ] وبين وجوهها في رواية عبد الله عن أبيه. فإن قيل: يجب أن لا يجوز هذا؛ لأن في جوازه ما يدل على أنه يشبه الأشياء. قيل: لا يدل على ذلك؛ لأنه قد نصب لنا أدلة تدلنا على أنه منزه عن التشبيه، وأنه أراد بكلامه التأويل. فإن قيل: فلو كان الغرض ما ذكرتم، لاقتصر على الدليل المحكم دون المتشابه. قيل: لا يجب ذلك، كما لم يجب أن يقتصر على رفع الشبه، التي ضل بها الضالون، كإيلام الأطفال وغيره.   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"164"، و"رسالة الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "83/ب-84/أ"، و"روضة الناظر" ص"35"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة، باب المتشابه ص"86-102". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 فإن قيل: لا يجب هذا؛ لأن الوصول إلى الحق ممكن مع هذه الشبه؛ وإنما يؤتى المكلف من قبل نفسه، ولا يمتنع أن يكون في إيلام الأطفال مصالح لا نعلمها. ولأن وصولنا إلى الحق مع اعتراض الشبه وإمعان الفكر والنظر تخريجًا1 للأفهام، وزيادة في الثواب. قيل: مثله في الآيات المتشابهة. فإن قيل: فما الفائدة في إنزال بعض القرآن متشابها؟ قيل: يجوز أن يكون في ذلك فائدة يعلمها الله ولا نعلمها؛ على أنا نذكر في ذلك فوائد، منها: أنه لو كان كل القرآن محكمًا دالًا ظاهره على التوحيد؛ لاحتج أكثر الناس به في التوحيد، وأعرضوا [عن] الاستدلال بأدلة العقول، لما في طباع أكثره من استثقال الفكر والفحص؛ فكانوا يتوصلون إلى الشيء من غير طريقه؛ لأن صحة القرآن إنما تعرف بعد المعرفة بالتوحيد، وإذا كان بعض القرآن ظاهره يفيد التوحيد، وينفي2 التشبيه، وبعضه يوهم التشبيه؛ لم يكن المكلف بأن يصير إلى أحدهما أولى من أن يصير إلى الآخر فاضطر عند ذلك إلى إعمال عقله، ولو كان كله محكمًا لم يكن إلى ذلك مضطرًا. ومنها: أن في ذلك زيادة للأذهان، وتخريجًا للعقول مع زيادة الدرجات. ومنها: أن العرب كانت تمنع من استماع القرآن، من أن يستميل   1 في الأصل بدون إعجام. 2 في الأصل: "بقي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 السامع إلى الإسلام؛ فكان إنزاله محكمًا ومتشابهًا يوهم مستمعهم أنه متناقض، ويطعمه في الظفر بمثله من المتناقض عنده، فيدعوه إلى إعمال الإصغاء إليه؛ فإذا تأمله، وطال استماعه، علم أنه لا تناقض فيه، واستماله ودعاه إلى الإسلام بما فيه من الفصاحة وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 مسألة في القرآن مجاز مدخل ... مسألة: [في القرآن مجاز] : 1 نص عليه أحمد رحمه الله فيما خرجه في متشابه القرآن في قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} 2 هذا في مجاز اللغة، يقول الرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك خيرًا3. وهو قول الجماعة. خلافًا لمن منع ذلك من أصحابنا، وطائفة من أهل الظاهر.   1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"164"، و"روضة الناظر" ص"34"، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "82/ب-83/أ"، و"شرح الكوكب المنير" ص"60"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة باب القول في المجاز ص"103-134". 2 "15" سورة الشعراء. 3 كلام الإمام أحمد هنا موجود بنصه مع اختلاف طفيف، في رسالته "الرد على الزنادقة والجهمية" ص"18-19". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 دليلنا : أن الله تعالى تكلم بالقرآن على لغة العرب، ووجدناهم تكلموا [97/ب] بالمجاز والحقيقة؛ فوجب أن يجوز ذلك في كلام الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 ولأن المجاز تارة يكون بزيادة حرف، لو حذف استقل الكلام بحذفه. وتارة يكون بنقصان حرف، ولا بد من إضمار فيه، وقد وجدا جميعًا في القرآن. أما الزيادة فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، ومعناه ليس مثله شيء. وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 2، وتقديره: تجري تحتها. وقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 3 وتقديره: بما كسبتم. وهذا نفس المجاز. والنقصان نحو قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} 4 معناه: حب العجل؛ فحذف الحب، وأقام ذكر العجل مقامه5. وكذلك قوله: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} 6 معناه: أهلها7. وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ} 8 معناه: صاحب قول الحق. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 9 وتقديره: أولياء   1 "11" سورة الشورى. 2 "25" سورة البقرة. 3 "30" سورة الشورى. 4 "93" سورة البقرة. 5 انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة: "1/47"، و"تأويل مشكل القرآن" ص"210". 6 "82" سورة يوسف. 7 انظر: المرجعين السابقين. 8 "34" سورة مريم. 9 "57" سورة الأحزاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 الله، وأولياء رسوله. وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1 وتقديره: أفعال الحج في أشهر معلومات؛ لأن الأشهر لا تكون حجًا2. ورأيت في كتاب أصول الفقه في كتب أبي الفضل التميمي قوله3: والقرآن ليس فيه مجاز عند أصحابنا، واستدل بأن المجاز لا حقيقة له، ثم قال: فأما قوله: "واسأل القرية ... والعير" فيجوز أن تكلم الجمادات الأنبياء، ثم قال: وسمعت قول الخرزي رحمه الله، وقد قيل: قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} ، أو حب العجل؟ فقال: قيل: العجل في نفسه، مثل القرية والعير سواء. وذكر أبو بكر في تفسيره: اختلاف الناس في قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} ، فقال: حدثنا معمر عن قتادة: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} قال: أشربوا حب العجل بكفرهم4. وعن أحمد حدثنا هاشم حدثنا أبو جعفر5 عن الربيع6: {وَأُشْرِبُوا   1 "197" سورة البقرة. 2 وقدره ابن قتيبة في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" ص"210": "أي: وقت الحج". 3 في الأصل: "فقال". 4 أخرج هذا الطبري بإسناده عن قتادة، عن تفسيره لهذه الآية "1/442" طبعة الحلبي. 5 هو: عيسى بن أبي عيسى ماهان أبو جعفر الرازي التميمي. روى عن الربيع بن أنس وقتادة والشعبي وجماعة، وعنه ابنه عبد الله وأبو نعيم وغيرهما، وثقه ابن معين وابن أبي حاتم وغيرهما، وقال فيه الإمام أحمد والنسائي: "ليس بالقوي"، وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير. له ترجمة في: "تاريخ بغداد": "11/143"، و"المغني في الضعفاء": "2/500"، و"ميزان الاعتدال": "3/319". 6 هو: الربيع بن أنس البكري الخراساني البصري، روى عن أنس والحسن وأبي العالية. وعنه أبو جعفر الرازي وسليمان التميمي وغيرهما. قال فيه ابن أبي حاتم: "صدوق". له ترجمة في: "التاريخ الكبير" للبخاري "ج1 ق2 ص271"، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم "ج1 ق2 ص454". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} قال: أشربوا العجل في قلوبهم1. وقال أسباط2 عن السدي3: [لما] 4 رجع موسى5 أخذ العجل الذي وجد قومه قد عبدوه، وهم عاكفون عليه، فذبحه، ثم حرقه، ثم ذراه في اليم؛ فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه منه، ثم قال لهم موسى:   1 أخرج هذا الطبري في "تفسيره": "1/424" طبعة الحلبي بإسناده إلى الربيع. 2 هو: أسباط بن نصر الهمداني الكوفي المفسر، روى عن السماك والسدي وإسماعيل السندي، وعنه أبو غسان النهدي وعمرو بن حماد وغيرهما، قال النسائي فيه: ليس بالقوي، وضعفه أبو نعيم، ووثقه ابن معين، وتوقف فيه أحمد. مات سنة 170هـ. وله ترجمة في: شذرات الذهب "1/279"، والمغني في الضعفاء "1/66"، وميزان الاعتدال "1/175". 3 هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، الهاشمي بالولاء، السدي الكبير، أبو محمد، الكوفي الأعور، روى عن ابن عباس وأنس وغيرهما. وعنه الثوري وزائدة وغيرهما. وثقه أحمد، وقال أبو حاتم: "لايحتج به" وقال ابن عدي: "صدوق". رمي بالتشيع. مات سنة 127هـ. له ترجمة في: خلاصة تذهيب الكمال ص"30"، وشذرات الذهب "1/174"، وطبقات المفسرين للداودي "1/109"، وميزان الاعتدال "1/236"، والمغني في الضعفاء "1/83"، والنجوم الزاهرة "1/304". 4 الزيادة من تفسير الطبري "2/74، 358"؛ فإنه ساق هذا الأثر بسنده إلى السدي. 5 في تفسير الطبري زيادة: "إلى قومه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 اشربوا منه؛ فشربوا؛ فمن كان يحبه خرج على شاربه؛ فلذلك قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} 1. قال أبو بكر2: وأولى التأويلين [تأول] 3 من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل؛ لأن الماء لا يقال: أشرب فلان في قلبه؛ وإنما يقال ذلك في حب الشيء، كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} 4 وأنشد قول طرفة بن العبد5: ألا إنني6 سُقِّيتُ أسود كالحًا7   1 "93" سورة البقرة. 2 هذا قول الطبري، وأبو بكر إنما نقل ذلك منه؛ لأن الطبري متوفى سنة 310هـ، وأبو بكر متوفى سنة 363هـ. 3 الزيادة من تفسير الطبري. 4 "82" سورة يوسف. 5 هو: طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك، ويقال: إن اسمه عمرو، وسمي طرفة بسبب بيت قاله، وهو شاعر جاهلي، له معلقة مشهورة يقول في مطلعها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد مات مقتولًا، وعمره عشرون سنة، ودفن بالبحرين. انظر ترجمته في كتاب الشعر والشعراء "1/185-196"، وطبقات الفحول الشعراء ص"115-116". 6 في الأصل: "إني". 7 هذا البيت موجود في ديوانه طرفة ص"20"، وفي تفسير الطبري "2/359" كما هو موجود في نوادر اللغة للأنصاري ص"83"، وفي لسان العرب في مادة: "سود" والبيت هو: ألا إنني سقيت أسود حالكًا ... ألا بجلي من الشراب ألا بجل ويروى: "سالخًا" بدل "حالكا" كما يروى "من الحياة" بدل "من الشراب" وقد روى المؤلف: "كالحًا" بدل "حالكًا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 يعني: سقيت سمًا1 أسود، فاكتفي بذكر "أسود"، عن2 ذكر "السم" لمعرفة السامع؛ فقد صرح أبو بكر بأن هناك مضمرًا محذوفًا3. ويبين صحة هذا أن الموضع المذكور فيه "القرية"، والمراد أهلها، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} 4 [98/أ] ، ومعلوم أن المحاسبة والعذاب لم يقعا5 على الجدار. وقال {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} إلى قوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} 6. فإن قيل: هناك حذف في الكلام. قيل: إلا أن هذه الألفاظ لم يوضع لها في صميم اللغة؛ فإن لم تسمها مجازًا؛ فذلك منازعة في عبارة، مع تسليم المعنى الموجود في المجاز. وأيضًا: فإن أهل اللغة قد صنفوا في ذلك كتبًا؛ فمن منع ذلك؛ فهو كمن دفع أن يكون في اللسان مجاز.   1 في الأصل: "سم"، والتصويب من تفسير الطبري "2/360"، وفي كتاب النوادر لأبي زيد الأنصاري ص"83": أن المراد بالأسود الماء. 2 في الأصل: "من"، والتصويب من تفسير الطبري "2/360". 3 في الأصل: "مضمر محذوف"، وهو خطأ عربية. 4 "8" سورة الطلاق. 5 في الأصل: "لم يقع". 6 "112" سورة النحل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن المجاز كذب؛ لأنه يتناول الشيء على خلاف الوضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 والجواب: أن هذا خرق الإجماع؛ لأنهم استحسنوا التكلم بالمجاز مع استقباحهم الكذب، وعلى أن الكذب يتناول الشيء على غير سبيل المطابقة، والمجاز فيه تطابق الخبر من طريق العرف، وإن كان لا يطابق اللغة. واحتج: بأنه لو تكلم بالمجاز؛ لكان به حاجة إليه. والجواب: أن هذا يوجب أن لا يتكلم بالحقيقة؛ لأنه يقتضي الحاجة أيضًا؛ فإن قيل: إنما يتكلم بالحقيقة لحاجة عبيده، لا لحاجة نفسه، قيل: وكذلك المجاز. واحتج: بأن العدول عن الحقيقة إلى المجاز للضرورة؛ فلا يجوز وصف الله تعالى بالحاجة والضرورة إليه. والجواب: أنه يستعمل في غير ضرورة؛ بل ذلك يستحسن في لغتهم، كما تستحسن الحقيقة، كما أن الإطالة قد تستحسن في موضع من كتاب الله تعالى، ولم يدل ذلك على أنه إنما يحتاج إليها من لا يقدر على الإيجاز، كذلك ههنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 فصل: يصح الاحتجاج بالمجاز 1 والدلالة عليه: أن المجاز يفيد معنى من طريق الوضع، كما أن الحقيقة تفيد معنى من طريق الوضع. ألا ترى أن قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} 2 يفيد المعنى، وإن كان مجازًا؛ لأن الغائط هو المكان   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"170". 2 "43" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 المطمئن في الأرض، استعمل في الخارج. وكذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1 ومعلوم أنه أراد أعين الوجوه ناظرة؛ لأن الوجوه لا تنظر؛ وإنما العين. وقد احتج بهذه الآية في وجوب النظر في يوم النظر يوم القيامة، في رواية المروذي، والفضل بن زياد، وأبي الحارث. وأيضًا: فإن المجاز قد يكون أسبق إلى القلب، كقول الرجل لصاحبه: "تعال"، أبلغ من قوله: يمنة ويسرة، وكذلك قوله: لزيد علي درهم، مجاز، وهو أسبق إلى النفس، من قوله: يلزمني لزيد درهم. وإذا كان يقع المجاز أكثر مما يقع بالحقيقة؛ صح الاحتجاج به.   1 "23" سورة القيامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 مجاز من وجه آخر ... فصل: 1 [98/ب] قد قيل في المجاز2: لا يقاس عليه؛ لأنه غير موضوع لما تناوله3 في أصل اللغة؛ ألا ترى أنه لا يصح أن يقال: وأسأل الثوب والقلنسوة، ويريد صاحب الثوب وصاحب القلنسوة، قياسًا على قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 4 أو يقول: فبما كسبت أرجلكم، كما قال: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 5، ولا يقول: تحرير صدر، كما قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 6.   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"173". 2 نقل في المسودة ص"174"، أن أبا بكر الطرطوشي قال: "أجمع العلماء على أن المجاز لا يقاس عليه في موضع القياس". 3 في الأصل: "ما تناوله". 4 "82" سورة يوسف. 5 "30" سورة الشورى. 6 "92" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 تناول اللفظ الواحد للحقيقة والمجاز فيكون حقيقة من وجه مجازا من وجه آخر ... فصل 1: يجوز أن يكون اللفظ الواحد متناولًا لموضع الحقيقة والمجاز؛ فيكون حقيقة من وجه، مجازًا من وجه آخر: نحو قوله: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2 حقيقة في الوطء؛ بدليل أنه يستعمل في موضع لا يجوز فيه العقد، نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ناكح البهيمة 3، والناكح يده" 4. وقولهم: "انحكنا الفرا فسنرى"5، ثم استعمل في الموضعين جميعًا   1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"168". 2 "22" سورة النساء. 3 في الأصل: "اليتيمة". 4 النهي عن نكاح البهيمة ثابت بالسنة؛ ولكن المؤلف جمع بينه وبين النهي عن نكاح اليد، ولم أجدهما مجتمعين إلا في حديث ذكره الذهبي في كتابه: "الكبائر" ص"59"، ولفظه: "وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة يلعنهم الله تعالى، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ويقول: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل والمفعول به -يعني اللواط- وناكح البهيمة، وناكح الأم وابنتها، وناكح يده، إلا أن يتوبوا". وفي مسألة: "الاستمناء" آثار عن السلف؛ ساقها عبد الرزاق في كتابه "المصنف" في كتاب الطلاق باب الاستمناء "7/390"، كما ساق بعضها البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب النكاح، باب الاستمناء "7/199". 5 هذا مثل يضرب للتحذير من سوء العاقبة، وهو مثل قاله رجل لامرأته لما أكرهته على أن يزوج ابنتهما من رجل لا يريده، وكانت النتيجة كما توقع الأب، إساءة عشرة، أعقبها الطلاق. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني "2/335". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 في العقد؛ فيحرم عليه أن يتزوج بمن تزوجها أبوه، وإن لم يوجد منه الوطء. وكذلك قوله: "أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ" 1، حقيقة في اللمس باليد؛ إلا أنه يطلق على الجماع مجازًا؛ فيحمل عليهما جميعًا، ويوجب الوضوء منهما جميعًا. والدلالة عليه: أنه لا تدافع بين الإرادتين2 اللتين تتناول اللفظ بوضع الحقيقة والمجاز؛ فجاز اجتماعهما؛ ليكون اللفظ متناولًا لهما جميعًا. يبين صحة هذا: أن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3 متناول للرقبة الحقيقية ولغيرها من الأعضاء على طريق المجاز. وكذلك قوله: اشتريت كذا وكذا رأسًا من الغنم؛ فيتناول الرأس الذي هو العضو المخصوص وسائر الأعضاء. ويبين صحة هذا: اشتهار قولهم: "عدل العمرين"، يريدون أبا بكر وعمر، وهو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وكذلك قولهم: ما لنا طعام إلا الأسودان: التمر والماء.   1 "43" سورة النساء. قراءة: {لَمَسْتُمْ} بحذف الألف التي اختارها المؤلف، هي قرءة حمزة والكسائي وخلف. وقرأ الباقون: {لامَسْتُمْ} بإثبات الألف، كما هو في المصحف العثماني. راجع في هذا: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري "2/250"، وكتاب "الكشف عن وجوه القراءات السبع" للقيسي "1/391"، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص"191". 2 في الأصل: "أن الإرادتين". 3 "92" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 وقد نقل مهنا قال: سألت أبا عبد الله رحمه الله من العمران؟ قال: عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز1.   1 هو: أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي، المدني، ثم الدمشقي، الخليفة العادل. روى عن أنس وسعيد بن المسيب، وجماعة، وعنه سلمة بن عبد الرحمن والزهري وغيرهما، كان زاهدًا ورعًا متواضعًا مع الثقة والأمانة، كانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة عشر يومًا. مات سنة 101هـ. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/118"، و "تهذيب التهذيب": "7/475"، و "خلاصة تذهيب الكمال" ص"241"، و "طبقات الحفاظ" ص"46"، و "غاية النهاية في طبقات القراء": "1/593"، و "النجوم الزاهرة": "1/246". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 فصل: في وجوه المجاز : 1 منها: أن يستعمل اللفظ في غير ما هو موضوع له، نحو اسم "الحمار"، أطلقوه على البليد، واسم "الأسد" أطلقوه على الرجل الشجاع. ومنها: المستعمل في موضوعه وغير موضوعه، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 2 يتناول الرقبة وجيمع الذات. وقوله: "اشتريت كذا رأسًا من الغنم" يتناول الرأس وسائر الأعضاء. وكذلك إطلاق اسم الشيء على ضده؛ كإطلاقهم "السليم" على اللديغ، و"المفازة" على المهلكة.   1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"169"، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة "1/8-16"؛ فإنه ذكر كثيرًا من وجوه المجاز. 2 "92" سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 ومنها: الحذف كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1 حذف الأهل2: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} 3 حذف: حب العجل4. ومنها: الصلة [ك] قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 5 يعني: بما كسبتم. ومنها: [99/أ] أن يطلق اسم المصدر على المفعول، كقولك: "هذا الدرهم ضرب فلان، والعالم خلق الله"، أي: مخلوقه ومضروبه. ومنها: إطلاق اسم الفاعل على المفعول، كقوله: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 6، أي مرضية. واسم المصدر على الفاعل، كقولك: "رجل عدل"، أي عادل. ومنها: أن يطلق اسم الفاعل على المصدر، كقولهم: "لحقتني اللائمة"، يعني: اللوم. ومنها: أن يطلق اسم المدلول على الدليل، يقال: "سمعت علم فلان"، أي: عبارته عن علمه الدال عليه. ومنها: أن يطلق اسم المسبب على السبب، كإطلاقهم اسم الرحمة على المطر. فهذه جملة وجوه المجاز.   1 "82" سورة يوسف. 2 انظر: "مجاز القرآن": "1/8-47"، و "تأويل مشكل القرآن" ص"210". 3 "93" سورة البقرة. 4 انظر: "مجاز القرآن": "1/47"، و"تأويل مشكل القرآن" ص"210". 5 "30" سورة الشورى. 6 "21" سورة الحاقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 مسألة ليس في القرآن شيء بغير العربية (1) . ذكر ذلك أبو بكر في أول كتاب التفسير. وهو قول عامة الفقهاء والمتكلمين. وروي عن ابن عباس وعكرمة (2) : أن في القرآن شيئا بغير العربية (3) نحو قوله تعالى (طه) (4) و (نَاشِئَةَ الليل) (5) وغير ذلك، فقالوا: هي بالحبشية والسريانية، وغير ذلك من اللغات.   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (164) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (84) ، و"روضة الناظر" ص (35) . (2) هو عكرمة أبو عبد الله المدني، مولى عبد الله بن عباس. بربري الأصل. أحد المفسرين المشهورين. وأحد الرواة المكثرين عن ابن عباس رضي الله عنهما. رحل في طلب العلم إلى اليمن ومصر والمغرب وخراسان وأصبهان. مات سنة (105 هـ) أو سنة (106 هـ) أو سنة (107 هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/95) ، و"تهذيب التهذيب" (7/163) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (229) ، و"شذرات الذهب" (1/130) ، و"طبقات الفسرين" الداودي (1/380) ، و"طبقات الحفاظ" ص (37) ، و"النجوم الزاهرة" (1/263) . (3) أخرج ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه - ابنُ جرير الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب. (1/8) طبعة الحلبي. (4) (1) سورة طه. (5) (6) سورة المزمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 707 دليلنا: قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عَرَبيا لَعلكُم تَعْقِلُونَ) (1) ، وقال في آية أخرى: (قُرْآنا عَربَياً غَيْرَ ذي عِوَج) (2) ، وآيات كثيرة في هذا المعنى، فثبت أن جميع القرآن عربي لا شيء سواه. ولأن الله تعالى تحدى العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن وبمثل سورة منه، فلولا أن القرآن كله عربي (3) لما صح أن، يتحداهم بأن يأتوا بما ليس في لسانهم ولا يحسنونه، فثبت أنه كله عربي لا شيء سواه. واحتج المخالف: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى أهل اللغات كلها، فيجب أن يكون في كتابه من سائر اللغات. والجواب: أن هذا مطرح بالإجماع، فإنه ليس في القرآن من الزنجية، ولا من التركية، ولا من الخوارزمية، وهو كل مبعوث إلى هؤلاء. وعلى أنه لو اعتبر ما ذكروه لكان يجب أن يكون في القرآن من كل لغة قدر يقع به التبليغ، وإلا فإذا لم يكن فيه ما يقع به التبليغ لم يكن له معنى. ثم نقول (4) : النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد بُعِثَ إلى الكافة إلا أن المقصود العرب، الذين هم أهل الفصاحة واللسان، وغيرهم تبع لهم، فإذا بلغ العرب دخل الباقون على وجه التبع لهم، كا أن موسى لما أعجز السحرة كان الناس تبعاً لهم، وكذلك عيسى مع الطب.   (1) (2) سورة يوسف. (2) (28) سورة الزمر. (3) في الأصل: (عربياً) . (4) في الأصل بدون إعجام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 708 واحتج: بأنا نجد في القرآن شيئا بغير العربية، نحو قوله: (كَمشْكَاة) (1) قيل: كلمة هندية. و (اسْتَبْرَق) (2) كلمة فارسية، وقولهَ: (القِسْطَاس) (3) قيل: كلمة رومية. وقوله: (وَفَاكِهَة وَأبا) (4) الأب: لا يعرف في العربية، [99/ب] فثبت: أنها بغير العربية. والجواب: أن هذه الأشياء عربية، يجهلها بعض العرب، ويعرفها البعض. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أعرف كلمات من القرآن بلسان قومي حتى عرفتها من غيرهم. من ذلك قوله (5) : (فَاطِرِ السموات) (6) سمعت امرأة تقول: أنا فطرته، يعني ابتدأته، فعلمت أنه أراد مبتدأ السموات ومنشأها (7) .   (1) (35) سورة النور. (2) (31) سورة الكهف. (3) (35) سورة الاسراء. (4) (31) سورة عبس. (5) في الأصل: (قولهم) . (6) (14) سورة الأنعام. (7) لم أجد أن ابن عباس - رضي الله عنه - سمع ذلك من امرأة، وإنما الذي وجدته: أنه أتاه أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها قال ابتدأتها. وهذا الأثر أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "شعب الإيمان"، حكى ذلك السيوطي في كتابه "الدر المنثور" (5/244) . والأثر موجود في: "تفسير" ابن كثير (3/546) ، و"الكشاف" للزمخشري (3/595) ، و"فتح القدير" للشوكاني (4/339) ، و"اللسان" لابن منظور (6/362) مادة: (فطر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 709 ومثل هذا في العجمية، قد يكون ألفاظ يعرفها بعض العجم، ولا يعرفها البعض، فلا يخرجها ذلك عن أن تكون من جملة العجمية. والذي يبين صحة هذا، وأن هذه عربية: أن الله تعالى أضاف ذلك اليهم، فاقتضى الظاهر أن الكل لغة لهم. فصل تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد غير جائز (1) . لقوله تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلىَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون) (2) . وقال تعالى: (لتُبين للناس مَا نُزلَ إلَيْهِم) (3) فأضاف البيان إليه. وروى أبو بكر بإسناده عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (4) ، وروي أيضا بإسناده   (1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (174) . (2) (169) سورة البقرة. (3) (44) سورة النحل. (4) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/199) ، وقال فيه: "حديث حسن صحيح"، وفيه: (بغير علم) ، بدل (برأيه) ، وقد أخرجه جزء من حديث عن ابن عباس أيضا بسند آخر، ولفظه كلفظ المؤلف، وقال فيه: "حديث حسن". وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عنه: (1/233، 269، 323، 327) . وأخرجه عنه الطبري في "تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن: (1/34-35) . وأخرجه عنه البغوي في كتابه "شرح السنة"، كتاب العلم، باب من قال في القرآن بغير علم (1/257-258) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 710 عن جندب (1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال برأيه فأصاب فقد أخطأ) (2) .   = ورمز له السيوطي في "جامعه الصغير" بالصحة، وقد عقب عليه المناوي في شرحه "فيض القدير شرح الجامع الصغير" (6/190) بقوله: (.. ثم إن فيه من جميع جهاته "عبد الأعلى بن عامر الكوفي". قال أحمد وغيره: ضعيف، وردوا تصحيح الترمذي له) . وراجع في هذا الحديث أيضا: "تيسير الوصول" (1/80) . (1) هو: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي العلقي، أبو عبد الله. له صحبة. كان بالكوفة ثم انتقل منها إلى البصرة. له رواية عن أبي بن كعب وحذيفة بن اليمان. وعنه روى جماعة من أهل البصرة، وآخرون من أهل الكوفة. له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/256) ، و"الإصابة" القسم الأول، ص (509) طبعة دار نهضة مصر. (2) هذا الحديث رواه جندب بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/200) بمثل لفظ المؤلف. كما أخرجه عنه أبو داود في كتاب العلم، باب الكلام في كتاب الله بغير علم (2/287) ، بمثل لفظ المؤلف، غير أنه أبدل كلمة (القرآن) بكلمة (كتاب الله) . وأخرجه عنه الطبري في "تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي (1/35) طبعة الحلبي. وأخرجه عنه البغوي في كتابه: "شرح السنة" في كتاب العلم، باب من قال في القرآن بغير علم (1/259) . وقد رمز له السيوطي في كتابه "الجامع الصغير" بالحسن. وقال المناوي في شرحه "فيض القدير شرح الجامع الصغير" (6/191) تعقيباً على ذلك: (ولعله لاعتضاده، وإلا ففيه "سهل بن عبد الله بن أبي حزم" تكلم فيه أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم. وقال الترمذي: تكلم فيه بعضهم) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 711 قال أبو بكر (1) : معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: أنه "أخطأ" في فعله بِقيله فيه برأيه، وإن وافق قيلُه عينَ الصواب عند الله؛ لأن قيلَه فيه برأيه ليس فعِل عالم (2) ، فإن الذي قال، نُهي عنه وحظر عليه (3) . وبإسناده عن عائشة قالت ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفسر شيئاً من القرآن إلا آيا بعدد، علمهن إياه جبريل عليه السلام (4) . وروي بإسناده عن ابن عباس قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار (5) . وبإسناده عن سعيد بن المسيب (6) أنه سُئل عن آية من القرآن فقال:   = راجع في هذا الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (1/80) ، و"ذخائر المواريث" (1/183) . (1) يعني: عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال. (2) في تفسير الطبري: (1/35) : (ليس بقيل عالم) . (3) هذا القول قاله أيضا الطبري، ذكره في مقدمة تفسيره، في باب ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي (1/35) مطبعة الحلبي. (4) هذا الحديث روته عائشة رضي الله عنها، أخرجه عنها أبو يعلى، حكى ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" في أول كتاب التفسير (6/303) ولفظه. (عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفسر شيئاً من القرآن برأيه، إلا آيا بعدد علمه إياهُن جبريلُ) ، كما حكى الهيثمي: أن البزار أخرجه بنحوه. ثم عقب عليه بقوله: (وفيه راوٍ لم يتحرر اسمه عند واحد منهما، وبقية رجاله رجال الصحيح) . وأخرجه عنها الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي غلط في تأويلها منكرو القول في تأويل القرآن (1/37) مطبعة الحلبي. (5) هذا الحديث سبق تخريجه قريباً عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعاً ص (710) . (6) هو: سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي المدني، أبو محمد. سيد التابعين. محدث ومفسر وفقيه، مع زهد وورع وتقى. حج أربعين حجة. أكثر روايته = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 712 لا أقول في القرآن شيئاً (1) . قال أبو بكر في تفسيره: منه (2) ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك مثل (3) الخبر عن آجال حادثة وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك. قال الله تعالى: (يسْألُونَك عَنِ الساعة أيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنمَا عِلْمها عِنْدَ رَبَي لاَ يُجَليهَا لِوَقْتهَا إَلا هُوَ ثَقلتْ في السمَوَات وَالأرْض لاَ تأتِيكُمْ إلا بَغْتَة) (4) . ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وذلك [مثل] إقامة إعرابه ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم، وذلك كسامع منهم لو سمع تالياً يتلو: (وَإذا قيل لَهُم لاَ تُفْسِدُوا في الأرْض قَالُوا إنما نحْنَ مصْلِحُونَ أَلاَ إنهمْ   = عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد تزوج ابنته. ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر. ومات سنة (94 هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/58) ، و"تهذيب التهذيب" (5/183) ، و"شذرات الذهب" (1/102) ، و"طبقات الحفاظ" ص (19) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/413) . (1) هذا الأثر عن ابن المسيب، أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي غلط في تأويلها منكرو القول في تأويل القرآن: (1/37) مطبعة الحلبي. (2) في الأصل: (فيه) ، والتصويب من "المسودة" ص (175) ، ومن الكلام الآتي بعد ذلك. (3) في الأصل: (من) ، والتصويب من المسودة ص (175) ، فقد نقل فيها كلام المصنف هنا. (4) (187) سورة الأعراف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 713 هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَ يَشْعُرُونَ) (1) ، لم يجهل أن [100/أ] ، معنى الإفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الإصلاح هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة، وإن جهل المعاني التي جعلها الله تعالى [إفساداً، والمعاني التي جعلها الله] (2) صلاحاً (3) . فصل (4) فأما تعليم التفسير، ونقله عمن قوله حجة، ففيه ثواب وأجر، كتعليم الأحكام من الحلال والحرام. وقد فسر أحمد رحمه الله آيات كثيرة، رواها المروذي عنه في سور متفرقة، سُئل عنها، وقال في قوله تعالى: (إنني مَعَكُمَا) (5) : هو جائز في اللغة، يقول الرجل: سأجري عليك رزقاً،، أي: أفعل بك خيراً (6) . وظاهر هذا أنه أجاز تفسير القرآن على مقتضى اللغة. والدلالة عليه: قوله تعالى: (كتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدّبّرُوا آيَاتِه وَلِيَتَذَكرَ أولُوا الألْبَابِ) (7) ، وهذا فيه حث على معرفة التنزيل.   (1) (11-12) سورة البقرة. (2) ما بين القوسين ليس في الأصل، والزيادة من المسودة ص (175) ؛ لأنه نقل كلامه هنا، وأيضا فالسياق يقتضي تلك الزيادة. (3) في المسودة في الموضع السابق: (إصلاحاً) . (4) راجع هذا الفصل في: المسودة ص (175) . (5) (46) سورة طه. (6) هذا النص عن الإمام أحمد موجود في رسالته: "الرد على الجهمية والزنادقة" الجزء الأول من شذرات البلاتين ص (14) طبعة السنة المحمدية. (7) (29) سورة ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 714 واحتج على ذلك يحيى بن سلام في تفسيره بما رواه عن أبيه عن الخليل ابن مرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) (1) ، قال يحيى: ولولا أن علم التأويل من الحق ما دعا به النبي عليه السلام لابن عباس.   (1) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب المناقب، باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما (5/34) ، ولفظه: (ضمَني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: (اللهم علمه الحكمة) . وفي رواية أخرى له: (علمه الكتاب) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (4/1927) ، ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الخلاء، فوضعت له وضوء، فلما خرج قال: "من وضع هذا؟ " في رواية زهير، قالوا: ابن عباس، وفي رواية أبي بكر، قلت -أي: ابن عباس- قال: "اللهم فقهه") . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب المناقب، باب مناقب ابن عباس رضي الله عنهما (5/680) ، ولفظه كلفظ البخاري في روايته الأولى. وقال فيه: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/58) ، ولفظه كلفظ الترمذي، إلا أنه زاد فيه: (وتأويل الكتاب) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده من ثلاث طرق: الأولى: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زهير أبو خيثمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على كتفي، أو على منكبي، شك سعيد، ثم قال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل". قال الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على مسند الإمام أحمد" (4/127) "إسناده صحيح". الثانية: حدثنا هشيم عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: مسح النبي صلى = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 715 .................................   = الله عليه وسلم رأسي، ودعا لي بالحكمة. قال الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على المسند" (3/253) : "إسناده صحيح". ولعل هاتين الطريقين هما اللتان أرادهما الهيثمي بقوله في "مجمع الزوائد" (9/276) : (ولأحمد طريقان، رجالهما رجال الصحيح) . الثالثة: حدثنا أبو سعيد، حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثنا حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اعط ابن عباس الحكمة، وعلمه التأويل". قال الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على المسند" (4/138) : إسناده ضعيف، لضعف "الحسين بن عبد الله". وأخرجه عنه ابن سعد في "طبقاته" (2/365) ، ولفظه: (دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتيني الله الحكمة مرتين) . كما أخرجه عنه أيضا بلفظ: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح على ناصيتي، وقال: (اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب) . وأخرجه عنه بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة فوضعتُ له وضوءً من الليل، فقالت ميمونة: يا رسول الله وضع لك هذا عبد الله بن عباس. فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) . وأخرجه عن عكرمة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اعط ابن عباس الحكمة، وعلمه التأويل". وأخرجه عن ابن عباس الأصبهاني في كتابه "حلية الأولياء" (1/315) ، ولفظه: (قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام إلى سقاء، فتوضأ، وشرب قائماً، قلت: والله لأفعلن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت، وتوضأت، وشربت قائماً، ثم صففت خلفه، فأشار إلي لأوازيَ به، أقوم عن يمينه، فأبيت، فلما قضى صلاته قال: "ما منعك أن لا تكون وازيت بي"؟ قلت: يا رسول الله أنت أجل في عيني وأعز من أن أوازي بك، فقال: "اللهم آته الحكمة". = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 716 .................................   = وأخرجه عنه بلفظ: (ضَمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اللهم علمه الحكمة". وأخرجه عنه أبو الطاهر الذهلي في "فوائده"، ولفظه كلفظ المؤلف، وفيه قصة وضع الوضوء للنبي صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "الإصابة" في ترجمة ابن عباس (4/90) طبعة الخانجي. كما ذكر ابن حجر أن ابن أبي خيثمة أخرجه عن ابن عباس بسنده، ولفظه كلفظ المؤلف. وذكر الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (9/276) ، أن الطبراني أخرجه عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم ترجمان القرآن أنت" ودعا لي جبريل عليه السلام مرتين) . قال الهيثمي: (وفيه "عبد الله بن خراش"، وهو ضعيف) . كما ذكر أنه أخرجه عن ابن عباس أيضا، بلفظ: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره، ثم قال: "اللهم احش جوفه علماً وحلماً، فلم يستوحش في نفسه إلى مسألة أحد من الناس، ولم يزل حبر هذه الأمة، حتى قبضه الله) قال الهيثمي: (وفيه من لم أعرفه) . وقد جاء هذا الحديث من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، فقد نقل الحافظ ابن حجر في كتابه "الاصابة" (4/90) . أن البغوي أخرجه في "معجمه" بسنده إلى ابن عمر رضى الله عنهما، ولفظه: (أنه كان يقرب من ابن عباس ويقول: اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك، فمسح رأسك، وتفل في فيك، وقال: "اللهم فقهه في الدين: وعلمه التأويل") . كما نقل في المرجع السابق عن الزبير بن بكار أنه أخرجه بسنده عن ابن عمر قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال: "اللهم بارك فيه، وانشر منه") . وعن ابن عمر أخرجه أيضاً الأصبهاني في "حلية الأولياء" (1/315) ولفظه كلفظ الزبير بن بكار. ونختم تخريج هذا الحديث بما قاله ابن عبد البر في كتابه "الاستيعاب" (3/934-935) ، ونصه: (رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، أنه قال لعبد الله = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 717 وروى أبو بكر بإسناده في تفسيره عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن، حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن (1) وبإسناده عن شقيق (2) قال: استعمل علي بن أبى طالب ابن عباس علي الحج، قال: فخطب الناس خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا، ثم قرأ عليهم سورة النور، فجعل يفسرها (3) . وبإسناده عن سعيد بن جبير (4) قال: من قرأ القرآن، ثم لم يفسره،   = ابن عباس: "اللهم علمه الحكمة وتأويل القرآن". وفي بعض الروايات: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" وفي حديث آخر: "اللهم بارك فيه وانشر منه، واجعله من عبادك الصالحين". وفي حديث آخر: "اللهم زده علماً وفقهاً". وهي كلها أحاديث صحاح. وقال مجاهد عن ابن عباس: رأيت جبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم مرتين. ودعا لي النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين) . (1) هذا الحديث أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن.. (1/35) طبعة الحلبى. (2) هو: شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي. من سادات التابعين أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره. روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم. وعنه الشعبي وعمرو بن مرة ومنصور وآخرون. مات سنة (82 هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/268) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/60) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (142) ، و"طبقات الحفاظ" ص (20) . (3) هذا الأثر أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن.. (1/36) ، طبعة الحلبي. (4) هو: سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، الكوفي، أبو محمد، أو أبو عبد الله. من سادة التابعين. روى عن ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 718 كان كالأعمى أو كالأعرابي (1) فصل في تفسير القرآن على مقتضى اللغة هل يجوز أم لا؟ (2) قد فسر أحمد رحمه الله قوله: (إنني معكما) (3) على مقتضى اللغة، قال: هو جائز في اللغة، يقول الرجل: سأجري عليك رزقاً (4) . وقال أيضاً رحمه الله: تفسير روح الله إنما معناها: أنها روح خلقها الله تعالى، كما يقال: عبد الله، وسماء الله، وأرض الله (5) . ونقل الفضل بن زياد عنه وقد سئل عن القرآن تمثل له الرجال بشيء من   = مغفل وطائفة. وعنه الأعمش وعمرو بن دينار وسليم الأحول وغيرهم. قتله الحجاج سنة (95 هـ) . وعمره يناهز الخمسين. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/76) ، و"تهذيب التهذيب" (4/11) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (116) ، و"شذرات الذهب" (1/108) ، و"طبقات القراء الكبار" للذهبي (1/56) ، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/181) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/305) . (1) هذا الأثر عن سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى- أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن.. (1/36) طبعة الحلبي. (2) راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص (175) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (84/ب) . (3) (46) سورة طه. (4) راجع هذا النص عن الإمام أحمد في رسالته: "الرد على الزنادقة والجهيمة" ص (18-19) . (5) راجع هذا النص عن الإمام أحمد في المرجع السابق ص (32) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 719 الشعر، فقال: ما يعجبني. فظاهر هذا يقتضي المنع. ووجه الجواز: قوله تعالى: (إنا أنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِياً) (1) ، وقوله: (بلسَان عَرَبِي مُبينِ) (2) ، وهذا يفيد أنا إذا تحققنا معنى اللفظ من طريق اللغة، صح حمل القرآن عليه. ووجه من منع: قوله تعالى: (لِتُبَينَ للِناسِ مَا نُزلَ إلَيْهِم) (3) ، فاقتضى ذلك أن البيان من جهته يوجد. والجواب: أن هذا محمول على بيان الأحكام. واحتج بقوله: (الأعْرَابُ أشَد كُفْراً ونفَاقاً وَأجْدَرُ ألا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أنْزَلَ الله عَلى رَسُولِهِ) (4) . والجواب: أنا لا نحتج بقولهم في الحدود، وإنما نحتج بقولهم [100/ب] في الألفاظ. واحتج بأنا وجدنا منهم الكفر والكذب، نحو قولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وتسميتهم الأصنام آلهة فقال تعالى: (إنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُموها) (5) . والجواب: أنا نرجع اليهم في الألفاظ المفردة المرسلة، نحو السواد   (1) (2) سورة يوسف. (2) (195) سورة الشعراء. (3) (44) سورة النحل. (4) (97) سورة التوبة. (5) (23) سورة النجم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 720 والبياض والإنسان لا في الألفاظ المركبة، التي يقع فيها الصدق والكذب. وفي قولهم: ثالث ثلاثة، في أفراد هذه الألفاظ ليس فيها صدق ولا كذب. فصل وأما تفسير الصحابة فيجب الرجوع إليه (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في مواضع من كتاب طاعة الرسول رواه صالح عن أبيه فقال: قال الله تعالى: (يا أيها الَذينَ آمنُوا لاَ تقْتلوا الصيد وَأنْتُم حرُمٌ ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل) (2) فلما حكم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظبي بشاة (3) ، وفي النَعامة ببدنة (4) ، وفي الضبع بكبش (5) ، دل على أنه أراد   (1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (176) . (2) (95) سورة المائدة، والآية في الأصل: (يقتله منكم..) ، وهو خطأ. (3) نقل ذلك البيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب جزاء الصيد بمثله من النعم.. (5/181) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (4) حَكَم في النعامة ببدنه كلٌ من عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم، حكى ذلك البيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب فدية النعام وبقر الوحش وحمار الوحش (5/182) . (5) قضى بذلك عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، نقل ذلك البيهقي في "سننه" في كتاب الحج باب فدية الضبع (5/183-184) . وقد روي جابر بن عبد الله رضي الله عنه حديثاً يرفعه، أخرجه عنه أبو داود في كتاب الأطعمة باب في أكل الضبع (2/319) ، ولفظه: (هو صيد، ويجعل فيه كبش، إذا صاده المحرم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 721 السنة (1) . وقال: (فَمَنْ تَمتع بالْعُمرَةِ إلَى الْحج فما اسْتيسر مِن الْهَدْيِ) (2) فلما استدل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذبحوا البقرة عن سبعة، دلّ على أن ذلك أيسر (3) .   = وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب جزاء الصيد يصيبه المحرم (2/1030-1031) بلفظ: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشاً، وجعله من الصيد) . وأخرجه عنه البيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب فدية الضبع (5/183) . وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج، (2/246) . (1) وأخرج الدارقطني حديثاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعاً في كتاب الحج (2/247) ، ولفظه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظبي شاة، وفي الضبع كبشاً، وفي الأرنب عناقاً، وفي اليربوع جفرة فقلت لابن الزبير: وما الجفرة؟ قال: التي قد فطمت ورعت) . وأخرجه عنه البيهقي في كتاب الحج، باب فدية الضبع (5/183) ، كما أخرجه عن عمر بن الخطاب وقال: الصحيح أنه موقوف على عمر رضي الله عنه. وأخرجه عن عمر بن الخطاب أبو يعلى كما حكى ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" في كتاب الحج، باب جزاء الصيد (3/231) ، وقال عقبَه: (وفيه الأجلح الكندي، وفيه كلام، وقد وثق) . والأجلح هذا وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: "لا يحتج بحديثه". ولمزيد من الاطلاع، انظر: "نصب الراية" (3/134) ، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (389) ، و"تفسير ابن كثير" (2/97) طبعة الاستقامة، عند تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم 00) الآية. (2) (196) سورة البقرة. (3) في مسألة الأيسر هنا، ذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (1/205) فيه ثلاثة أقوال، أولها: أنه شاة، ونسبه إلى علي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن، وعطاء، وابن جبير، وابراهيم، وقتادة، والضحاك. ثانيهما: أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير. ونسبه لابن عمر وعائشة، والقاسم. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 722 وقال: (فَمَنْ لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) (1) ، فلما قال من قال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون آخر ذلك يوم عرفة، استقر حكم الآية على ذلك (2) . وقال: لما كان أكثر قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ان الكلالة من لا ولد له ولا والد (3) ، استقر حكم الآية على ذلك.   = ثالثها: أنه على قدر الميسرة، ونسبه لابن عباس. على أنه قد روي عن الحسن وقتادة قولهما: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة. كما نقل عن الإمام أحمد قوله: الهدي من الأصناف الثلاثة، من الإبل والبقر والغنم. حكى ذلك ابن الجوزي في "تفسيره"، في الموضع السابق. (1) (196) سورة البقرة. (2) لم يستقر حكم الآية على ذلك، بل هناك خلاف. وما ذكره المؤلف منسوب إلى ابن عمر رضي الله عنه، كما حكى ذلك ابن الجوزي في "تفسيره" (1/206) ، حيث قال: (ونقل عن ابن عمر أنه قال: من حين يحرم إلى يوم عرفة) . كما حكى عن علي رضي الله عنه أن هذه الثلاثة الأيام هي: قبل التروية بيوم. ويوم التروية، ويوم عرفة، وبه قال الحسن وعطاء والشعبي وأبو العالية وابن جبير: وطاوس وإبراهيم. وهناك آراء أخرى ذكرها ابن الجوزي في "تفسيره"، فارجع إليه إن شئت. (3) تفسير الكلالة بهذا، أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في كتاب الفرائض، باب الكلالة (10/301-304) عن أبي بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم. كما أخرج عن عمر وابن عباس أنهما قالا: الكلالة: من لا ولد له. ومثل صنيع عبد الرزاق، صنع البيهقي في: "سننه الكبرى" في كتاب الفرائض، باب حجب الأخوة والأخوات من كانوا بالأب والابن وابن الابن (6/224-225) ، فأخرج عن أبي بكر وعمرو ابن عباس -رضي الله عنهم- القول الأول، كما أخرج عن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- القول الثاني. راجع في هذا الأثر أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/89) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 723 والوجه فيه: أنهم شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، فعرفوا ذلك، ولهذا جعلنا قولهم حجة. فأما تفسير التابعين فلا يلزم. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي داود: إذا جاء الشيء عن الرجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي، لا يلزم الأخذ به (1) . وقال رحمه الله في كل موضع آخر: الاتباع أن يتبع ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، ثم هو بعد في التابعين مخير (2) . والوجه فيه: أن قول آحادهم ليس بحجة. ويفارق آحاد الصحبة، لأنه حجة. وقال في رواية المروذي: ينظر ما كان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن فعن أصحابه، فإن لم يكن فعن التابعين. ويمكن أن يحمل هذا على إجماعهم. مسألة لايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (3) . لأن وقت الحاجة وقت الأداء، فإذا لم يكن مبيناً تعذر الأداء، فلم يكن بد من البيان.   (1) هذه الرواية موجودة في "مسائل الإمام أحمد" التي رواها عنه أبو داود ص (276-277) ، وتكملة الرواية عند أبي داود: (ولكن لا يكاد يجيء الشيء عن التابعين إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. (2) هذه الرواية موجودة بنصها في المرجع السابق ص (276) . (3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (178-182) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (231) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (85/ب-86/أ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 724 وأما تأخيره عن وقت الخطاب وقبل وقت الحاجة: فقد اختلف أصحابنا: فقال شيخنا أبو عبد الله (1) رحمه الله يجوز ذلك. وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية صالح وعبد الله في [101/أ] الآية ترد عامة، ينظر ما جاءت به السنة، فهو دليل علي ظاهرها، ولا فرق بين تأخير البيان عن المجمل أو عن العموم. وذلك مثل قوله تعالى: (اقْتُلوا الْمشركينَ) (2) ، (وَالسارِقُ وَالسارِقة فَاقْطَعُوا أَيْديهما) (3) ، (الزَّانية وَالزَّاني فاجْلدُوا) (4) ، (وَآتُوا حقه يوْمَ حَصًادِهِ) (5) . وبهذا قالت الأشعرية، إلا أنهم لا يثبتون للعموم صيغة، لكنهم يجوزون تأخير بيان المراد، كاللفظ الذي أراد خلاف ظاهره، وبيان المجمل إلى وقت الفعل. وقال أبو بكر عبد العزيز وأبو الحسن التميمى: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب. فقال أبو بكر في أول كتاب التنبيه: لا يجوز تأخير البيان عن وقت النطق. وقال في مجموع له بخطه: بيان الرد على من قال بتأخير البيان إلى وقت العمل، وذكر كلاماً كثيراً.   (1) المراد به: الحسن بن حامد. (2) (5) سورة التوبة. (3) (38) سورة المائدة. (4) (2) سورة النور. (5) (141) سورة الأنعام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 725 وقال في إثباته: اتفق الفريقان على أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة، ولم يحده إلا وقت التكليف. وقال أبو الحسن التميمي في بعض مسائله: لا يختلف المسطور عن أحمد رحمه الله: أنه لا يجوز تأخير البيان. وبهذا قالت المعتزلة (1) ، وأهل الظاهر: داود وشيعته (2) . وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز تأخير بيان المجمل، ولايجوز تأخير بيان العموم (3) . واختلف أصحاب الشافعي على مذاهب: فذهب الأكثر منهم إلى جواز ذلك على الإطلاق. وقال بعضهم: يجوز في المجمل، ولايجوز في العموم (4) . فالدلالة على جواز تأخيره في الجملة: قوله تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) (5) فأمره أن يتبع قرآنه ويسمعه (6) ، وأخبر أنه يبينه فيما بعد؛ لأن "ثم" تقتضي مهلةً وفصلاً. فإن قيل: معناه: إن علينا إظهاره وإعلانه، ألا ترى أنه اشترط ذلك في جميع القرآن؟   (1) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين االبصري (1/342) . (2) راجع في هذا: "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (1/75) . (3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/174) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (1/46) . (4) راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي: (3/28) ، و"شرح جمع الجوامع" مع "حاشية البناني" (2/69) ، و"المستصفى" (1/368) . (5) (18-19) القيامة. (6) في الأصل: (يسمعها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 726 قيل: حقيقة البيان هو إظهار الشيء من الخفاء إلى حالة التجلي والإظهار، وهذا إنما يكون فيما يفتقر إلى البيان، فأما ما هو مبين فلا يوجد. وقولهم: إنه اشترط ذلك في جميع القرآن، فلا يمتنع أن يكون المراد به بعضه، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لتُبَينَ للنَّاسِ مَا نُزلَ إليهم) (1) ، والمراد بعضه (2) . وأيضاً قوله تعالى في قصة نوح: (إنَّ ابْنِي مِنْ أَهلِي وَإن وَعْدَكَ الحق) فقال: (إنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إنهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح) (3) فدل على أن الله تعالى قد كان أطلق الأهل، وأراد به المصلحين منهم، دون المفسدين، وأخر بيانه عن وقت الخطاب. وأيضاً: فإن الله تعالى أوجب الصلاة مجملة، فقال: (إن الصلاَةَ كانت علىَ الْمؤمنين كتاباً موقوتاً) (4) ، ثم بينها جبريل [101/ب] عليه السلام بفعله صلاة في أول الوقت وآخره، ثم بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله، فقال عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . وأيضاً: فإن تأخير بيان النسخ يجوز عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، كذلك يجوز تأخير بيان التخصيص؛ لأن النسخ تخصيص الأزمان، والتخصيص تخصيص الأعيان؛ لأن قوله: توجهوا إلى بيت المقدس في كل   (1) (44) سورة النحل. (2) تعقبه الشيخ ابن تيمية في "المسودة" ص (181) بعد أن نقل عن المؤلف الاستدلال بالآية، والاعتراض على الاستدلال ورد الاعتراض. تعقبه بقوله: (هذا ضعيف، بخلاف تفسير ابن عباس، ولا دلالة في الآية على محل النزاع) . (3) (45) سورة هود. (4) (103) سورة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 727 صلاة، قام في جميع الأزمان، وقد أراد به بعض الأزمان، وأخر بيانه. وقوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) (1) عام في جميع أعيان المشركين، وأراد به بعضهم، وأخر بيانه عن وقت الحاجة فلم يكن بينهما فرق. فإن قيل: تأخير بيان النسخ لا يخل بصحة الأداء، وتأخير بيان التخصيص يخل بصحة الأداء. قيل: لا يخل بصحة الأداء، لأنا لا نجوز تأخير البيان عن وقت الفعل. وجواب [آخر] وهو: أن خطاب العاجز عن الفعل يصح إذا أقدره عليه في حال الفعل، وعدم القدرة يخل بصحة الأداء، ولا يمنع ذلك من صحة الخطاب. فإن قيل: لا يجوز أن تؤخر القدرة عن وقت الفعل، فلا يخل بصحة الأداء. قيل: وكذلك لا يجوز أن يؤخر البيان عن وقت الفعل، فلا فرق بينهما. فإن قيل: الخطاب العام في الأزمان مخالف للخطاب العام في الأعيان في موضوع اللغة، ألا ترى أن رجلاً لو قال لعبده أو وكيله: اعط فلاناً كل يوم رطلاً من خبز، فلما كان بعد مدة منعه من ذلك، كان الخطاب في الأول حسناً عند جميع العقلاء، وإن كان قد أخر بيان وقت المنع إلى وقت الحاجة، ولو قال له: اعطه كل يوم رطلاً من تمر، وهو يريد به رطلاً من لحم أو خبز، كان الخطاب في قبيحاً، فدل على الفرق بينهما.   (1) (5) سورة التوبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 728 قيل: قوله: "اعطه كل يوم رطلاً من تمر"، وهو يريد رطلا، ً من لحم أو خبز لا يفيد المأمور به، فكان عبثاً أو لغواً، وليس كذلك إذا قال: "اقتلوا المشركين"، فإن القتل المأمور به معقول معلوم، والخطاب مفيد، وإنما أخر بيان من يوقع القتل فيه، كما أخر في النسخ بيان الزمان الذي يوقعه فيه. فإن قيل: لا يجوز تأخير بيان النسخ، إلا أن يقترن به بيان النسخ، فيقول: صلوا إلى بيت المقدس، ما لم أنسخه عنكم، وهذا يمنع من عموم الخطاب في جميع الأزمان. وقيل: إن هذا سؤال كان يورده ابن الدقاق (1) . قيل: هذا خطأ؛ لأن هذا مقرون بكل خطاب، وإن لم ينطق به المخاطب، لأن الدليل قد دل على جواز النسخ، فصار ذاك مقدراً في خطاب صاحب الشرع ومقروناً به، وإن لم يذكره، فوجب [102/أ] أن يكونا سواء، فيجب أن يخبر هذا في بيان العموم، فيقول (2) : اقتلوا المشركين إلا من أبين لكم. ودليل آخر، وهو: أنه يجوز أن يخاطب العاجز عن الفعل، ويؤخر خلق القدرة له وإيجاد الآلة التي بها يتمكن من الفعل إلي وقت الفعل؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك قبل الفعل، كذلك البيان لا حاجة به إليه قبل الفعل، ولا فرق بينهما؛ لأن الفعل يفتقر إلى القدرة كما يفتقر إلى البيان. فإن قيل: تأخير القدرة عن الفعل لا يفضي إلى أن يعتقد المخاطب جهلاً؛ لأنه يعلم أنه أريد به حال القدرة، والبيان متى تأخر اعتقد المخاطب جهل ما أمر به.   (1) هو محمد بن محمد بن جعفر، أبو بكر الدقاق، وقد سبقت ترجمته ص (107) . (2) في الأصل: (فإذا قال) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 729 قيل: لا يعتقد جهلاً؛ لأنه يعتقد قتل المشركين أجمع، ما لم يرد البيان. واحتج المخالف: بأن تأخير البيان يؤدي إلى اعتقاد الجهل والعزم على الباطل؛ لأن المخاطب يلزمه اعتقاد عمومه، وهذا اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به، وذلك جهل، ويلزمه أن يعزم على قتل من وصل إلى قتله من المشركين، وهذا عزم على باطل؛ لأن من بذل الجزية أو أمنه (1) مسلم لا يجوز قتله، وإذا أدّى إلى هذا، وجب أن لا يجوز تأخيره. والجواب: أنه لا يؤدي إلى هذا؛ لأنه يعتقد عمومه إذا تجرد عما يخصه ويصرفه عن ظاهره، كما نقول أجمع في النسخ، وكما نقول إذا أسمعه الله العام ولم يسمعه الخاص، وكان بيان الخصوص في الأصول سابقا للعموم، وكان يحتاج إلى الاجتهاد في طلبه، واستقراء الأصول بسببه، فإنه في حال اجتهاده يعتقد العموم إن تجرد عما يخصه عند المخالف، كذلك في مسألتنا يعتقد العموم والظاهر إن تجرد، والخصوص والباطن إن اقترنت به قرينة. واحتج: بأن العموم والخصوص يفيد كل واحد كل منهما غير ما يفيده الآخر، فلا يجوز أن يعبر بأحدهما عن صاحبه من غير بيان، كما لا يعبر بالصلاة عن الصيام، وإذا كان كذلك، بطل أن يعبر بالعموم عن الخصوص من غير إشعار. والجواب: أنه باطل بالعموم في الأزمان، فإنه يفيد غير ما يفيده الخصوص، ومع هذا فقد يعبر بأحدهما عن صاحبه كذلك. ولا يشبه هذا ما قالوه من الأمر بالصلاة، أنه لا يكون عبارة عن   (1) في الاصل: (لو أمنه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 730 الصيام، ألا ترى أنها لا تكون عبارة عنها بلفظ مقارن، فلو قال: "صلّ" ثم قال عقيبه: أردت بذلك الصيام لم يصح، ولو قال في العموم: "اقتلوا المشركين"، ثم قال متصلاً به: "إلا النساء"، صح. واحتج: بأنه لا سبيل للمخاطب إلى معرفة مراد المخاطب به، فوجب أن يكون قبيحاً، كما يقبح أن يخاطب العرب بلغة الزنج ولغة العجم، وكما يقبح أن يقول: "صلوا"، ويريد به: "صوموا"، ويقول: "صوموا" ويريد به: "صلوا". [102/ب] والجواب: أن ذلك الخطاب غير مفيد؛ وليس كذلك ها هنا؛ لأن هذا الخطاب مفيد؛ لأنه عرف لفظه، وعقل معناه، واعتقد فيه العموم إن بقي على حالته، والخصوص إن دل عليه الدليل. واحتج: بأن من خوطب بالعموم، فقد ألزم اعتقاده والإخبار به لغيره، فلو كان المراد به الخصوص، وقد أخبر عنه بالعموم لكان قد ألزم الإخبار بالكذب، وهذا لا يجوز تكليفه. والجواب: أن هذا يبطل بالنسخ، فإن هذا المعنى موجود فيه، ومع هذا فإنه يصح تأخيره. وعلى أنه يعتقده ويخبر عنه إن حكي معه، ولم ينقل عنه، كما قلنا في النسخ. واحتج: بأن من أطلق كلاماً له ظاهر، ثم قال بعد استقراره من غير إشعار بخلاف ذلك استقبح منه، وإن كان متعلقاً بحق آدمي لم يقبل منه، وإذا كان ذلك مستقبحا منه، لم يجز أن يرد كلام الله تعالى وكلام رسوله على ذلك. والجواب: أن هذا المعنى موجود في النسخ، وعلى أنه إنما يقبح ذلك في اللفظ الصريح، فأما المحتمل، فلا. واحتج: بأن البيان في العام كالاستثناء، فإذا لم يجز تأخير أحدهما، كذلك الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 731 والجواب: أنه لم يجز إلحاق التخصيص بالاستثناء دون إلحاقه بالنسخ، وإلحاقه بالنسخ أولى، لأن لفظ الخصوص إذا انفرد استقل بنفسه، فإنه يقول بعد يوم: لاتقتل أهل الذمة فيفيد حكماً بنفسه كلفظ النسخ، فكان إلحاقه به أولى. ويفارق لفظ الاستثناء، فإنه لا يستقل بنفسه، ولا يفيد حكماً، فإنه لو قال: اقتلوا المشركين، ثم قال بعد يوم: إلا أهل الذمة لم يفد هذا بمجرده فائدة، لأنه لا ندري هذا الكلام إلى ماذا يرجع. واحتج: بأن الله تعالى أمر نبيه بالتبليغ على الفور، فإذا أخر البيان عن وقت الخطاب، لايكون قد بلغ على الفور. والجواب: أنا لا نسلم أنه أمر بالتبليغ على الفور، بل أمر به على التراخي، وعلى أن البيان مخالف لحكم التبليغ، وذلك لأن التبليغ يجوز أن يتأخر بدليل آخر يدل عليه، والبيان لا يجوز عندهم أن يتأخر بدليل يدل عليه، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر. واحتج: بأن تأخير البيان يفضي إلى أن يكون اللفظ الوارد في حكم ما لم يرد ويكون المخاطب به بعد وروده بمنزلته قبل وروده؛ لأنه لا ندري المراد به. والجواب: أنه باطل بالنسخ، فإن لفظ العموم المستغرق للأزمان يرد (1) مع تجويز النسخ، ولا يكون بمنزلة ما لم يرد، وعلى أنه إذا لم يرد، لم يعقل المكلف شيئاً، ولا يفيد إلزام حكم عبادة، وليس كذلك [103/أ] ، ها هنا، فإنه يفيد إلزام حكم عبادة واعتقاد العموم، إن عريَ اللفظ عن دليل التخصيص. واحتج: بأنه لو جاز تأخير البيان، وأن يكون بيانه من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخترم النبي قبل بيان المراد به، فيلزم الأمة العمل، كذلك   (1) في الأصل: (فيرد) ، والفاء هنا لا معنى لها، لذلك حذفناها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 732 الخطاب، وليس المراد به هذا الظاهر، وتكون الأمة قد كلفوا غير المراد. والجواب: أنه لا يجوز في صفة الحكيم أن يخترم رسوله المبلغ المبين عنه معنى ما أراد، قبل (1) أن يبينه للناس، وإذا كان كذلك لم يفض (2) إلي ما قالوه. وعلى أنه باطل بالنسخ، لأنه يرد معرضاً، ثم قد يخترم النبي قبل بيان الناسخ، كذلك ها هنا. وعلى أن هذا غير ممتنع في بيان العموم؛ لأنه لإن اخترم قبل البيان تمسك الناس بذلك العموم، وأخذوا بموجبه، إذ ليس عليهم أن يعلموا مراد الله تعالى به من غير الظاهر منه. فصل وما ذكرنا من الدلائل، فهو دليل على أصحاب أبي حنيفة في فرقهم بين بيان العموم وبيان المجمل، ومما يخصهم أن بيان المجمل كبيان العموم؛ لأنه ينكشف به المراد باللفظ، ثم جاز ذلك في المجمل، وجب أن يجوز في العموم. فإن قيل: فرق بينهما، وذلك أن بيان العموم إذا أفاد إلزام اعتقاد أمر ليس بمراد، وهذا يقبح أن يرد به التكليف، والمجمل يفيد اعتقاد حكمه وبيان صفته حال الحاجه، فيحصل به توطين النفس لفعل المأمور به، وهذا حسن في التكليف. قيل: يبطل بالنسخ، فإنه يجوز تأخيره، وإن أفضى إلى ما قالوه.   (1) في الأصل: (مثل) . (2) في الأصل: (يفضي) بإثبات الياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 733 وعلى أنا قد بينا أنه يعتقد عموم ذلك، ما لم يخص، وينقل عنه، كما يعتقد ذلك في الزمان. مسألة (1) أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر فيها، فإن لم يكن على سبيل القربة، كالأكل والشرب واللباس والقيام والقعود ونحو هذا، فإنه يدل على أنه فعل مباح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل المحظور، وإن فعل لم يقر عليه. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله عن الاضطجاع، فقال: ما فعلته إلا مرة، وليس هو من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلم يجعل ذلك حجة؛ لأن الاضطجاع ليس بقربة. وإن كان على سبيل القربة والطاعة والعبادة، فعلى ثلاثة أضرب: ما كان بياناً، أو امتثالاً لأمر، أو ابتداءً من غير سبب. فإن كانت بيانا لم تدل على شيء غير البيان، ويكون حكمها مأخوذاً من المبين، فإن كان المبين واجباً، فقد بين الواجب، وإن كان ندباً، فقد بين الندب. والبيان على ضربين: [بيان] مجمل وتخصيص عموم. فبيان المجمل نحو قوله تعالى: (وَآتُوا حقَّهُ يَوْمَ حَصَاده) (2) ثم أخذ النبي يوم الحصاد العشر، فكان فعله صلى الله عليه بياناً لذلك [103/ب] المجمل، وفعله لا يدل على غير البيان.   (1) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (187) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (89/ب-90/أ) . (2) (141) سورة الأنعام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 734 وبيان التخصيص نحو قوله تعالى: (وَالسارِقُ وَالسارِقة فَاقْطَعُوا أيْديهمَا) (1) هذا عام في كل سارق سرق، قليلاً أو كثيراً، من حرز وغير حرز، فإذا حمل إليه سارق من غير حرز وأقل من ربع دينار فلم يقطعه كان (2) هذا بياناً وقع به التخصيص. وإنما يعلم أن هذا خرج على وجه البيان، إذا تقدم العام. وإن كانت امتثال أمر، لم تدل (3) أيضاً في أنفسها على شيء، غير أن ينظر إلى الأمر، فإن كان على الوجوب، علمنا أنه فعل واجباً بالأمر، وان كان ندباً، علمنا أنه فعل الندب بالأمر، فأما من فعْلِه، فلا. وأما إن كان ابتداءً من غير سبب مستند إليه ففيه روايتان: إحداهما: أنها على الوجوب، أومأ إليه رحمه الله: في مسائل، فقال في رواية حرب: يمسح رأسه كله، كذا جاء الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مسح الرأس كله" (4) . وقال أيضاً رحمه الله في رواية الأثرم: إذا رمي الجمار، فبدأ   (1) (38) سورة المائدة. (2) في الأصل مكررة. (3) في الأصل: (يدل) بالياء. (4) هذا جزء من حديث روته الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها. أخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم (1/28) . وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مسح الرأس مرة (1/49) ، وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عنها البغوي في كتابه: "شرح السنة"، كتاب الطهارة، باب مسح الرأس والأذنين (1/438) . وراجع في هذا الحديث أيضاً: "ذخائر المواريث" (2/187) ، والمنتقى من أحاديث الأحكام" ص (44) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 735 بالثالثة ثم الثانية ثم الأولى، لم يصح، قد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمار (1) ، وبين فيها سنته (2) . وقال أيضاً في رواية الجماعة: المغمى عليه يقضي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغمي عليه، فقضى (3) . وقد احتج بأفعاله على الوجوب.   (1) في "المسودة" ص (187) : (قد فعل النبي صلى الله عليه وسلم الرمي وبين فيه سنته) . (2) ترتيب رمي الجمار قد جاء فيه عدة أحاديث. منها ما روته عائشة رضي الله عنها. أخرجه عنها أبو داود في كتاب المناسك، باب في رمي الجمار (1/456) . وأخرجه عنها الحاكم في "مستدركه" في كتاب المناسك، باب طواف الافاضة ورمي الجمار: (1/477-478) ، وقال: "هذا حديث صحيح" على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وأخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده": (6/90) . وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (413) ، و"نصب الراية" (3/84) . (3) بعد طول البحث لم أقف على هذا الحديث، وانما الذي رأيته هو ما رواه الدارقطني في "سننه" في كتاب الصلاة، باب الرجل يغمى عليه وقد جاء وقت الصلاة هل يقضي أو لا؟ (2/81) عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأفاق نصف الليل، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وقد ذكر أبو داود في "مسائله" التي نقلها عن الإمام أحمد ص (49) أنه سأل الإمام أحمد عن المغمى عليه، هل يقضي؟ قال: نعم، يقضي ما فاته، واحتج بحديث عمار. وأيضاً، فإن ابن قدامة في كتابه: "المغني" (1/353-354) ذكر أن المذهب في المغمى عليه: أنه يقضي ما فاته، واستدل لذلك، ولم يذكر الحديث الذي أورده المؤلف، وانما ذكر فعل عمار - رضي الله عنه - واستدل به، ولو كان هناك حديث مرفوع، لذكره، وكان هو الفيصل في المسألة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 736 وبهذا قال أصحاب مالك (1) . وفيه رواية أخرى: أن ذلك لا يقتضي الوجوب، وإنما يقتضي الندب، نص عليه رحمه الله في رواية إسحاق بن ابراهيم فقال: الأمر من النبي سوى الفعل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل الشيء من جهة الفضل، وقد يفعل الشيء هو له خاص، وإذا أمر بالشيء فهو للمسلمين. وقال في رواية الأثرم: وقيل له: أليس ينبغي أن يستعمل بأن يقول كما يقول المؤذن؟ قال: ويجعل هذا واجباً، إنما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع المؤذن، قال كما يقول (2) ، فهو فضل، ليس على أنه واجب. وهو اختيار أبي الحسن التميمي فيما وجدته له مسألة مفردة، يقول فيها: انتهى إليّ من قول أبي عبد الله: أن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست على الإيجاب، إلا أن يدل دليل، فيكون ذلك الفعل الدليل الذي صار به على الإيجاب. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه أبو سفيان السرخسي عن   (1) راجع في هذا: "شرح تنقيح الفصول" ص (288) . (2) حديث فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا رواه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي (1/150) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب القول مثل ما يتشهد المؤذن (2/21) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الأذان (1/218) . وأخرجه عنه البغوي في كتابه: "شرح السنة" في كتاب "الصلاة" باب إجابة المؤذن (2/285-286) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 737 أصحابه (1) ، وأهل الظاهر أيضاً (2) . وذهبت المعتزلة (3) والأشعرية الى أن ذلك على الوقف، ولا يحمل على الوجوب، ولا على الندب إلا بدلالة. واختلف أصحاب الشافعي على مذاهب: منهم من قال: هي على الوجوب. ومنهم من قال: هي على الندب. ومنهم من قال: هي على الوقف (4) . فالدلالة [104/أ] على أنها على الوجوب: قوله تعالى: (قُلْ يا أيها الناس) إلى قوله: (وَاتَّبِعُوهَ لعلكم تَهْتدُونَ) (5) ، فأمر باتباعه، والأمر على الوجوب.   (1) هناك رأيان للحنفية في هذه المسألة هما: الأول: الندب. قال في "تيسير التحرير": (3/123) : (وهو معزو في المحصول إلى الشافعي، وفي القواطع إلى الأكثر من الحنفية..) . الثافي: الإباحة، وقد أفاد صاحب "مسلم الثبوت" (2/181) أنه الصحيح عند أكثر الحنفية. واختاره أبو بكر الجصاص. (2) راجع في هذا: "الاحكام" لابن حزم (4/422) . (3) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري (1/377) . (4) نسب الآمدي في "الإحكام": (1/160) القول بالوجوب إلى ابن سريج والاصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران.. أما القول بالندب فنسبه إلى الإمام الشافعي بصيغة (قيل) ، واختاره إمام الحرمين. أما القول بالوقف فنسبة إلى جماعة من الشافعية، منهم الصيرفي والغزالي. (5) (158) سورة الأعراف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 738 فإن قيل: الاتباع هو: أن يفعل ذلك على الوجه الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا لم يعلم الوجه الذي أوقع الفعل عليه، من وجوب أو ندب أو إباحة، لم نكن متبعين له. قيل: الاتباع يكون في الفعل، وإن اختلف قصد التابع والمتبوع، كالمتنفل يأتم بالمفترض، فيتبعه في صلاته، وإن اختلفا في القصد والاعتقاد وكذلك من خرج للجهاد، فتبعه آخر يريد تجارة، سمي متبعاً له في سفره وإن خالفه في قصده. فإن قيل: في الآية إضمار، وتقديره: واتبعوه في فعله، فيحتاج أن تثبت صفة الفعل على أي وجه وقع حتى يتبع فيه. قيل: نحن نستدل بالآية على وجوب اتباعه في فعله الواقع منه وفي صورته وصفته، فأما كيفية وقوعه فلا تعرض له. ويدل عليه قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول الله أسْوَةٌ حسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (1) . فإن قيل: هذا يدل على أن التأسي بالنبي مستحب. قيل: قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) تهديد (2) يدل على أن ذلك إيجاب وإلزام. فإن قيل: قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) ليس بتهديد، لأن الرجاء تأميل النفعة.   (1) (21) سورة الاحزاب. (2) في الأصل: (تهديداً) بالنصب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 739 قيل: المراد به ها هنا لمن كان يخاف الله واليوم الآخر. قال أبو ذؤيب الهذلي (1) : إذَا لسعَتْهُ النّحْلُ لم يَرْجُ لَسْعَهَا ... وخَالَفَها في بَيْتِ نُوب عَوَامِلِ (2) يريد: لم يخف لسعها من اشتيار (3) العسل في بيوت النحل. والنوب:   (1) هو: خويلد بن خالد بن محرث، وقيل: خويلد بن محرث، من بني مازن بن سويد بن تميم بن سعد بن هذيل. شاعر مخضرم. أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره. قال حسان: "هذيل أشعر الناس، وأبو ذؤيب أشعر هذيل". مات في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بطريق مكة، قريباً منها. وقيل: مات بالمغرب، وقيل: بمصر. له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1648) ، و"الاصابة" (7/63) ، و"الشعر والشعراء" (2/653) ، و"طبقات الشعراء" ص (110،103) . (2) هذا البيت نسبه السكري في كتابه: "شرح أشعار الهذليين" (1/144) إلى الشاعر المذكور. وهو البيت الخامس عشر من قصيدة بلغت ثلاثة وعشرين بيتاً، يقول في مطلعها: أساءلت رسم الدار أم لم تسائل ... عن السّكْنِ أو عن عَهْدِه بالأوائِل وقد ذكر السكري في كلمة: (خالفها) روايتين، إحداهما بالخاء المعجمة، والثانية بالحاء المهملة. كما ذكر أن "العوامل" هي التي تعمل العسل والشمع. في الأصل: (سعار) من غير اعجام. و"اشتيار العسل" اجتناؤه، وأخذه من موضعه. قال أبو عبيد: "شرتُ العسل، واشترته، اجتنيته وأخذته من موضعه". انظر: "اللسان": (6/103) مادة: "شور"، و"معجم مقاييس اللغة": (3/226) ، في المادة المذكورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 740 النحل (1) ، والنوب (2) : القرب. ويدل عليه قوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتبعُوني يُحْببْكم اللهُ وَيغفِرْ لكُم ذُنُوبكَمُ) (3) ، وهذا يدل على أن التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعه واجب. ومن جهة السنة: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، فخلع نعله، فخلعوا نعالهم، فلما فرغ قال: "لم خلعتم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا، فقال: "أتاني جبريل فأخبرني أن فيهما قذراً" (4) .   (1) في الأصل: (والنوب والنحل) . وسميت "النحل" بـ "النوب"، لرعيها ونوبها إلى مكانها. قال السكري في كتابه: "شرح أشعار الهذليين" (1/144) : ("نوب": تنتاب المرعى، فتأكل، ثم ترجع، فتعسل، و"تنوب": تذهب وتجيء) . وقال أبو عبيد: "إنما سميت: "نوباً"؛ لسواد فيها". نقل ذلك عنه السكري في المرجع السابق. وانظر أيضاً: "معجم مقاييس اللغة" (5/367) . (2) في الأصل: (البوب) بالباء. (3) (31) سورة آل عمران. (4) هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل (1/151) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعلين (1/260) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده": (3/20) . وأخرجه عنه الحاكم في "مستدركه" في كتاب الصلاة، باب "لا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره"، وليضعهما بين رجليه (1/260) وقال: (وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 741 فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استفهم منهم، فقالوا فعلنا كفعلك، فلم ينكر عليهم، ولم يقل لا يجوز لكم ذلك، بل أقرهم على اتباعه، وبين لهم السبب الذي فعل لأجله. فإن قيل: فلو كان اتباعه واجباً لم يستفهم منهم؛ لأنهم فعلوا الواجب. قيل: يحتمل أن يكون استفهم لينظر هل فعلوا ذلك لاتباعه أم لمعنى آخر؟ فلما أخبروه أنهم فعلوه لأجله، [104/ب] أقرهم عليه، وبين العلة التي خلعها لأجلها. فإن قيل: لم ينكر عليهم؛ لأنه قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) . قيل: لا نعلم أن هذا القول قاله قبل هذه القصة أو بعدها، فنقف حتى نعلم كيف كان، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يصلوا كما يصلي، وخلع النعل ليس بصلاة، وإنما هي أفعال أوقعها فيها من غيرها، بدليل: أن هذا لو كثر منه وتكرر بطلت صلاته. وأيضا: ما روت أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله سألوني عن القُبلة للصائم، فقال: "لِمَ لم تقولي لهم: إني أقبل وأنا صائم (1) ؟! ". فَعَرفها   = وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الصلاة، باب من صلى وفي ثوبه أذى لم يعلم به، ثم علم (2/402) . (1) حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب الصيام، باب ما جاء في تقبيل الرجل زوجته، وهو صائم (1/258- 259) ، ولفظه: (أن رجلاً قبل امرأته، وهو صائم، فوجَد من ذلك وجْداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة أم المؤمنين، فأخبرتها، فقالت أم سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 742 شرعَه، وأنكر عليها ترك إخبارهم لفعله. فلولا أن فعله يقتدى به لما أمرها بذلك. ولا معنى لقولهم: إن هذه أخبار آحاد فلا يثبت: بها أصول؛ لأن أخبار الآحاد إذا تلقيت بالقبول، كانت مقطوعًا بها كالتواتر. وليس في الأمة أحد يكذّب حديث خلع النعلين في الصلاة (1) . وأيضاً: وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وذلك أنهم لما اختلفوا في وجوب الغسل بالتقاء الختانين، فقال قوم: يجب. وقال أُبي بن كعب: لا يجب ما لم ينزل، وقال (2) : الماء من الماء (3) ، فسألوا عائشة فقالت: إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا (4) [فـ] رجعوا إليها وأقروها على ما احتجت به في وجوبه، فثبت أنهم أجمعوا على ذلك. وروي أن عمر رضي الله عنه قَبّل الحجر، وقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت حبيبي رسول الله قَبّلك ما قَتلتك (5) .   = صلى الله عليه وسلم عندها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال هذه المرأة؟ ". فأخبرته أم سلمة، فقال: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك"؟.) الحديث. (1) مضى تخريجه ص (741) . (2) في الأصل: (وقالوا) . (3) سبق تخريجه بهذا اللفظ ص (461) . (4) سبق تخريجه بهذا اللفظ ص (328) . (5) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الرمل في الحج والعمرة (2/17) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (2/925) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في تقبيل الحجر (1/433) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 743 وغير ذلك من رجوع الصحابة إلى أفعاله في المسح وغيره. وأيضا: فإن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كأقواله، بدليل: أنه يخص به العموم، ويبين به المجمل، فوجب أن يكون بمنزلته في حمله على الوجوب عند تجرده (1) . كما أن السنة لما ساوت الكتاب فيما ذكرنا ساوته في حملها على الوجوب عند التجريد. ولأن الفعل إذا كان منه على سبيل القربة، احتمل أن يكون ندباً واحتمل أن يكون واجباً واحتمل الندب، فحمله على الوجوب أولى لما فيه من الاحتياط؛ لأن الندب يدخل في الواجب، والواجب لا يدخل في الندب. فإن قيل: فقد يكون واجباً في حقه خاصاً له، فلا يلزم غيره. قيل: إطلاق أفعاله عندنا محمولة على أنها له ولأمته، وإنما بقع منها خاصاً بدلالة، وإلا فالأمر بيننا وبينه مشترك. واحتج من قال يستحب: بقوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنتُم تُحِبونَ اللهَ فَاتبعُوني يحبِبْكم اللهُ) (2) ، ومحبته تقتضي الاستحباب دون الإيجاب.   = وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في تقبيل الحجر (3/205) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب تقبيل الحجر (5/180) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب استلام الحجر (1/981) . (1) أعاد المؤلف الضمير بصيغة المفرد المذكر هنا وفي المواضع السابقة مع أنها عائدة إما على (أفعال) واما على (أقوال) ولعله قصد المفرد من ذلك. (2) (31) سورة آل عمران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 744 [105/أ] والجواب: أن قوله: (فَاتَّبِعُونِي) (1) أمر، والأمر يقتضي الإيجاب. فالآية حجة لنا من هذا الوجه. وقوله: (يُحْببْكُم اللهُ) لا يقتضي الاستحباب، لأن المحبة تكون لفعل الواجب والمستحب جميعاً. واحتج: بقوله تعالى: (لقدْ كَانَ لَكُم في رَسوُلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة) (2) ولم يقل عليكم، فدل على أن التأسي به مستحب. والجواب: أن في سياقها ما يدل على الوجوب، وهو قوله: (وَمَن يَتَول فَإن اللهَ هُوَ الْغَنِيَّ الْحَميدُ) (3) فتوعد على المخالفة. ولأنه قال تعالى: (وَلَهُم اللَّعْنَةُ، وَلَهمْ سُوءُ الدارِ) (4) معناه: عليهم اللعنة. واحتج: بأن وجوب أفعال - صلى الله عليه وسلم - لا تخلو من أن تثبت بالعقل أو بالسمع، والعقل لا يقتضي وجوبها؛ لأن المصالح تختلف باختلاف أحوال المكلفين، ولهذا خالفت الحائض الطاهر، والمقيم المسافر، فيجوز أن يكون فعله صلاحا له، ومتى فعلنا مثله كان فساداً لنا، فثبت بهذا أن العقل لا يقتضي وجوب مثل أفعاله علينا، والسمع لم يرد أيضاً بذلك ووجوبه. والجواب: أنها وجبت بالسمع، وقد بينا ذلك من الكتاب والسنة والإجماع. واحتج: بأنه متى وجب علينا أن نفعل مثل فعله كنا متبعين له فيه،   (1) في الأصل: (فاتبعوه) . (2) (21) سورة الأحزاب. (3) (24) سورة الحديد. (4) (52) سورة غافر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 745 ومعلوم أن المتبوع أوكد حالاً من التبع، فإذا كان كذلك، وكان (1) ظاهر فعله لا ينبىء عن وجوبه عليه، فلأن لا يدل على وجوبه علينا أولى. والجواب: أن هذا يبطل على أصل المخالف، بالأمر، فإنهم جعلوه دالاً على الوجوب في حق غيره، ولا يدل على وجوبه عليه، لأن الآمر لا يدخل تحت الأمر، فلا يمتنع أن يكون الفعل من جهته كالأمر. وعلى أنا نقول: إن ظاهر أفعاله تدل على الوجوب في حقه، كما قلنا في أوامره: هي لازمة له وهو داخل تحتها كالمأمور سواء، ولا فرق بينهما. وهذا قياس المذهب. واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل الأفعال في أحوال لا يشاهد فيها، ولا يمكن حضوره والوقوف عليه، وما هذه صفته لا يجوز أن يكون واجباً علينا؛ لأن ما لا طريق لنا إلى معرفته لا نتعبد به، وإذا لم يكن الفعل الذي هذه حاله واجباً علينا، لم يجب أيضاً غيره من الأفعال، لأنه ليس بعض أفعاله بالوجوب أولى من بعض. والجواب: أن ما يفعله في الخَلوَات يمكنه أن يخبر بها من لم يشاهد، كما أنه يجوز أن يأمر بالفعل من ليس يحضره، ثم يقع لهم بذلك الخبر. واحتج: بأنه لا يخلو أن يكون [105/ب] المعتبر في هذا الباب بصورة أفعاله التي ظهرت دون الوجوه التي عليها وقعت، أو يكون المعتبر بصورتها مع الوجوه التي وقعت عليها، ولا جائز أن يكون المعتبر بصورتها فقط؛ لأنه لو وجب ذلك لجاز لنا إيقاع مثل الفعل الذي فعله على جهة الإيجاب مع وقوعه منه على جهة الندب أو الإباحة، وهذا باطل بالاتفاق. وإذا وجب   (1) في الأصل: (فكان) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 746 اعتبار صورة الفعل مع الوجه الذي وقع، فهذا يمنع أن يكون ظهور فعله دلالة على الوجوب. والجواب: أن المعتبر بصورة الفعل فقط، إذا كان واقعاً على وجه القربة. وقولهم: إنه قد يقع منه على وجه الندب والإباحة، غلط؛ لأن إطلاق أفعال القرب منه يقتضي الإيجاب، وإنما يحمل على الندب بدلالة. واحتج: بأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - يَعْتوِرها معنيان: أحدهما الفعل و [ثانيهما] الترك؛ لأن الترك أحد قسمي الفعل، فلما لم يكن تركه موجباً علينا ترك الفعل الذي تركه، كذلك فعله، لا يوجب علينا مثل فعله. والجواب: أن هذا يبطل بالأمر فإنه يَعْتَوِره معنيان: الأمر والترك، وترك الأمر لا يوجب ترك ما ترك الأمر به، وأمره يوجب امتثال ما أمر به. واحتج: بأن حمله على الندب أولى؛ لأنه متحقق، وما عداه مشكوك فيه. والجواب: أن حمله على الوجوب أولى، لما فيه من الاحتياط والخروج من الغرر. واحتج أبو الحسن في مسألته (1) : بأن فعله قد يكون مصلحة له، دون أمته. والجواب: أنه يبطل بأمره إذا خرج في رجل بعينه قد تكون مصلحة له ولا يختصه.   (1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: (في مسائله) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 747 وذكر أيضاً: بأن الصغائر قد تقع من الأنبياء، قال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبهُ فَغَوَى) (1) . وأخبر عن موسى لما قتل الرجل (هَذَا مِن عَملِ الشَّيْطَانِ) (2) . وكذلك ما وجد من إخوة يوسف، ومن داود، وإذا ثبت وقوع الخطأ منهم، لم يجب علينا احتذاء أفعالهم. والجواب: أنا قد بينا أنه إنما يجب ما كان على سبيل القربه والطاعة. واحتج من قال: إنها على الوقف: بأنا لا نعلم على أي وجه فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل أن يكون فعله واجباً، ويحتمل أن يكون ندباً، ويحتمل [أن يكون] (3) إباحةً، ويحتمل أن يكون مخصوصاً دون أمته، وإذا لم يعلم على أي وجه أوقعه لم يصح الاقتداء به. والجواب: أن الفعل المتجرد عن القرائن لا يكون إلا واجبا عاما فيه وفي أمته، وإنما يكون ندباً أو خاصاً له عند انضمام قرينة الندب، كما قلنا في صيغة الأمر إذا وردت [106/أ] متجردة عن القرائن اقتضت الوجوب، وإنما يحمل على الندب بقرينة. وعلى أنه وإن كان محتملا للوجوب والندب، فحمله على الوجوب أولى، لما فيه من الاحتياط. وجواب آخر، وهو: أن الاتباع قد يكون في الفعل وإن اختلف   (1) (121) سورة طه. (2) (15) سورة القصص. (3) ما بين القوسين المعقوفين من تصويب الناسخ في هامش الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 748 قصد التابع والمتبوع، فالمتنفل يأتم بالمفترض، فيتبعه في صلاته، وإن اختلفا في القصد والاعتقاد. وكذلك من خرج للجهاد، فتبعه آخر يريد تجارة، سمي متبعاً له في سفره، وإن خالفه في قصده. ومما يلحق بأول المسألة ما رأيت (1) في آخر كتاب النفقات من كتاب الشافي بخط عتيق: روى محمد بن هبيرة البغوي (2) عن أحمد بن حنبل رحمه الله قلت له: أليس أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً؟ قال: نعم، إلا أن منه أشد، قلت له: ففعله؟ قال: فعله ليس عليك بواجب، وذلك أنه كان يقوم حتى ترم قدماه (3) ، ويفعل أفعالا لا تجب عليك (4) . وبهذا قال أصحاب أبى حنيفة. فصل وإذا ثبت أن أفعاله على الوجوب، فإن وجوبها من جهة السمع، خلافاً لمن قال: تجب بالعقل.   (1) في الأصل: (ورأيت) . (2) من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/325) . (3) هذا الحديث رواه المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أخرجه عنه البخاري في كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترم قدماه (2/60) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4/2171-2172) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (4/255) . (4) هذه الرواية عن الإمام أحمد نقلها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/325) ، في ترجمة محمد بن هبيرة البغوي، المذكور آنفا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 749 دليلنا: أن أصل النبوة لما لم يثبت عقلاً، وإنما يثبت بدليل، ففعله أولى. ولأن الأفعال الشرعية، تختلف بحسب اختلاف أحوال المكلفين، بدلالة أن الحائض مخالفة لحال الطاهر، وكذلك المقيم مخالف للمسافر، والغني والفقير، لم يمتنع أن تكون حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة لأحوالنا في الفعل، فيكون ما يفعله صلاحاً له، ومتى فعلنا مثله كان فساداً لنا، فوجب الرجوع في اتباع أفعاله إلى دلالة أخرى غير الفعل. واحتج المخالف: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل ذلك على وجه القربة كان من مصالحه، فيجب أن يكون من مصالحنا. والجواب: أن هذا يوجب كون الصلاة مصلحة في حق الحائض، لأنها مصلحة في حق الظاهر، وكذلك الصيام والقصر في حق المقيم، والزكاة في حق الفقير. واحتج بأن ما أوقعه صواب وحق، فوجب اتباعه. والجواب: أن هذا يبطل بما كان مخصوصاً به من الأشياء، ويبطل بالصلاة في حق الطاهر صواب وحق، وليس ذلك بصواب في حق الحائض. واحتج: بأن في ترك اتباعه إظهار خلاف عليه ومباينة له، وذلك يوجب التنفير عنه والتصغير لشأنه، فوجب حملها على الوجوب. والجواب: أن هذا باطل بما كان مخصوصاً به. ويبطل أيضاً بأفعاله المباحة من الأكل والشرب واللبس والمشي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 750 فإن ترك اتباعه فيها يفضي إلى ما قالوه، ومع هذا لا يجب اتباعه وعلى [106/ب] أن هذا يوجب المشاقة في حق من لا يوجبها، وعندنا أنه يجب اتباعه فيها، وإنما تختلف في الطريقة التي بها يجب، فلا يصح ماقالوه. مسألة (1) يجوز أن يكون النبي الثاني متعبداً بما تعبد به الأول، والعقل لا يمنع من ذلك؛ لما فيه من المصلحة له، فلما لم يمنع أن يتفق حكم زيد وعمرو فيما هو مصلحة لهما من الشرعيات، ولم يمتنع أيضاً أن يختلف حكمهما في ذلك، وجب أن يجوز كون النبي الثاني متعبداً بما تعبد به الأول. فإن قيل: لو جاز أن يكون الثاني متعبداً بما كان الأول متعبدا به لكان لا فائدة في بعثه وإظهار الإعلام على يده: ولأنه لم يأت بشريعة مبتدأة، وإنما نقل إلى قومه شريعة من تقدمه. قيل: إنما يحسن إظهار الإعلام على يد النبي الثاني؛ لأنه لا بد من أن يأتي بما لا يعرف إلا من جهته، إما أن يكون ما يأتي به في شريعة مبتدأة، أو يكون ذلك مما كان الأول متعبداً به، إلا أنه قد درس وصار بحيث لا يعرف إلا من جهة النبي الثاني (2) . فإن قيل: فما أنكرتم أن لا يجوز أن يتعبد الثاني بخلاف ما كان الأول   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (182) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (104/أ) ، و"روضة الناظر" وشرحها "نزهة الخاطر العاطر" (1/400) وما بعدها. (2) وقد تعقبه شيخ الاسلام ابن تيمية في "المسودة" ص (183) بقوله: (وهذا فيه نظر، فإنه يجوز عندنا إظهار الكرامات للأولياء، فكيف للنبي المتبع؟ وتكون فائدته التقوية كأنبياء بني إسرائيل) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 751 متعبداً به؛ لأْنه حينئذ يصير راداً لما أتى به الأول ومخالفاً له فيه، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز أن يخبر الثاني بخلاف ما أخبر به الأول. قيل: لو كان الثاني متعبداً بما تعبد به الأول [فذلك] لا يوجب أن يكون راداً لما أتى به في الأول؛ لأنه يقول: ما يأتي به الأول حق وصواب، مثل ما أتيت به، وإن كان مخالفاً له، كما أن المستشارين إذا أشار أحدهما بخلاف ما يشير به صاحبه، لم يكن أحدهما راداً لرأي الآخر، بل يقول كل واحد منهما: إن ما يراه صاحبي صواب منه، وما رأيت أنا صواباً مني، وليس هذه حال الخبر، لأنه إنما يكون صدقاً وكذباً بحال (1) يرجع إليه؛ لأنه إن كان مخبره على ما أخبر به كان صدقاً (2) ، وإن كان بخلاف ما أخبر به كان كذباً. وأما الأفعال الشرعية، فإنها لا تكون حقاً وصواباً بحال يرجع إليها، وإنما يكون صوابا، لما فيه من المصلحة، فيكون الفعل الواحد مصلحة في حال، وتكون المصلحة في خلافه في حال أخرى، كالمرأة الطاهر (3) تكون المصلحة لها في الصلاة والصيام، وإذا حاضت كانت المصلحة لها في ترك ذلك. وكذلك المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، ولا يمتنع أن تكون المصلحة للنبي الثاني في أن يتعبد بخلاف ما تعبد به الأول. فإن قيل: كيف يصح هذا على أصلكم، وعندكم أن العقل لا يبيح ولا يحظر؟ قيل: من أصلنا: أن العقل لا مدخل له في إباحة شيء [107/أ] ولا   (1) في الأصل: (محال) . (2) في الأصل: (صادقاً) . (3) في الأصل: (والطاهر) ، والواو هنا لا معنى لها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 752 حظره، وكلامنا هاهنا: هل العقل يحيل ذلك؟ ولسنا نمنع وجوب (1) أشياء لا يحيل وجودها العقل كرؤية الله تعالى، وأشياء يحيل العقل وجودها كاجتماع الضدين. مسألة (2) إذا ثبت جواز ذلك، فهل كان نبينا متعبداً بشريعة من قبله أم لا؟ فيه روايتان: إحداهما: أن كل ما لم يثبت نسخه من شرائع من كان قبل نبينا عليه السلام فقد صار شريعة لنبينا، ويلزمنا أحكامه من حيث إنه قد صار شريعة له، لا من حيث كان شريعة لمن قبله. وإنما يثبت كونه شرعاً لهم بمقطوع عليه، إما الكتاب أو الخبر (3) من جهة الصادق أو بنقل متواتر، فأما الرجوع إليهم وإلى كتبهم فلا. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا، فقال في رواية أبي طالب فيمن حلفت بنحر ولدها، [عليها] كبش (4) ، تذبحه وتتصدق بلحمه، قال الله تعالى: (وَفديناهُ بِذِبْح عَظِيم) (5) .   (1) لعله "وجود". (2) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (183) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (104/ب-106/ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها. "نزهة الخاطر" (1/400-403) . (3) في المسودة ص (184) : (مقطوعاً عليه إما بكتاب أو بخبر ... ) . (4) في الأصل: (فيمن حلفت بنحر ولدها كبشاً) ، والتصويب من المسودة ص (184) ، إلا أن القصة وقعت لرجل، والرواية من نقل صالح، وليست من نقل أبي طالب، كما هنا. (5) (107) سورة الصافات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 753 فقد أوجب أحمد رحمه الله كبشاً في ذلك، واحتج بالآية عليه، وهي شريعة إلي إبراهيم. وقال في رواية أبي الحارث والأثرم وحنبل والفضل بن [زياد و] (1) عبد الصمد (2) وقد سئل عن القرعة، فقال: في كتاب الله في موضعين: قال الله تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحضِينَ) (3) ، وقال: (إذْ يُلقُونَ أقلامهُم) (4) فقد احتج بالآيتين في إثبات القرعة، وهي في شريعة يونس ومريم. وقال أيضاً في رواية أبي طالب وصالح في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم فيهَا أَن النَّفْسَ بالنَّفْسِ) (5) فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يُقتل مؤمن بكافر) (6) ،َ قيل له: أليس قد قال الله تعالى: (النفس   (1) زدنا ما بين القوسين؛ لأن "الفضل" ليس ابن "عبد الصمد"، وإنما هو ابن "زياد"، وهو من أصحاب الإمام أحمد، وقد سبقت ترجمته. أما عبد الصمد هذا، فهو من أصحاب الامام أحمد أيضاً، كما سيأتي. وقد نقل صاحب "المسودة" ص (184) كلام المؤلف هنا، كما أثبتناه. (2) في "طبقات الحنابلة" (1/217-218) أربعة بهذا الاسم، كلهم من أصحاب الإمام أحمد الذين رووا عنه: أ- عبد الصمد بن أبي سليمان بن أبي مطر. ب- عبد الصمد بن يحيى. جـ- عبد الصمد بن محمد العبادي. د- عبد الصمد بن الفضل. (3) (141) سورة الصافات. (4) (44) سورة آل عمران. (5) (45) سورة المائدة. (6) هذا الحديث رواه أبو جحيفة رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الجهاد، باب فكاك الأسير (4/84) ولفظه: ( ... عن أبي جحيفة رضي الله = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 754 بالنفس) ؟ قال: ليس هذا موضعه، علي بن أبي طالب يحكي ما في الصحيفة (لا يقتل مؤمن بكافر) ، وعن عثمان ومعاوية (1) : "لم يقتلوا مؤمناً بكافر" (2) .   = عنه، قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر) . وأخرجه أبو داود عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه، وذلك في كتاب الديات، باب: أيقاد المسلم بالكافر؟ (2/488) . وأخرجه الترمذي عن أبي جحيفة في كتاب الديات، باب ما جاء لا يقتل مسلم بكافر (4/24) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب القسامة، باب سقوط القود من المسلم للكافر (8/21) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الديات، باب لا يقتل مسلم بكافر (2/110) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب القتل والجنايات، باب ما جاء في قتل الجماعة بالواحد وأنه لا يقتل مسلم بكافر (2/250) . وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده"، في كتاب القتل والجنايات، باب لا يقتل مؤمن بكافر (1/293) . وانظر في هذا الحديث أيضاً: "نصب الراية" (4/334) ، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (617) . (1) هو: معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب، القرشي الأموي، صحابي جليل. ولد قبل البعثة بخمس سنين على الأرجح. كان من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم. ولاه عمر إمارة الشام، وأقره عثمان عليها. وبعد موت عثمان لم يبايع علياً، وحصلت الفتنة الكبرى، التي كانت الأولى في حياة المسلمين، التي انتهت بإمرة معاوية. توفي سنة (60 هـ) . له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1416) ، و"الإصابة" (6/112) . (2) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في كتاب العقول، باب دية المجوسي = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 755 وهذا أيضاً يدل على أن الآية على ظاهرها في المسلمين ومن قبلهم، ولكنه عارضها بحديث الصحيفة، ولو لم يكن كذلك لما عارضها، ولقال: ذلك خاص لمن قبلنا. وبهذه الرواية قال أبو الحسن التميمي في جملة مسائل خرجها في الأصول. وهو قول أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه أبو سفيان عن أبي بكر الرازي. وفيه رواية أخرى أنه لم يكن متعبداً بشيء من الشرائع، إلا ما دل الدليل على ثبوته في شرعه، فيكون: شرعاً له مبتدأ. أومأ إليه رحمه الله في رواية أبي طالب في موضع آخر، فقال: (النفْسُ بالنفْسِ) كتبت على اليهود، وقال: (1) (وَكتبنا عليهمِ فِيهَا) (2) َ [أي] (3) في التوراة، ولنا (كُتِبَ عَليْكُم الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الحُر بِالحر وَالعبْدُ بالعبد وَاْلأنْثَى بالأنْثَى) (4) . وبهذا قالت المعتزلة (5) والأشعرية.   = عن ابن عمر رضي الله عنهما (10/96) ولفظه: (أن رجلاً مسلماً، قتل رجلاً من أهل الذمة عمداً، فرفع إلى عثمان، فلم يقتله به، وغلظ عليه الدية، مثل دية المسلم، قال الزهري: وقتل خالد بن المهاجر رجلاً من أهل الذمة في زمن معاوية، فلم يقتله به، وغلظ عليه الدية ألف دينار) . وراجع أيضاً: "تلخيص الحبير" (4/16) . (1) في "المسودة" ص (185) (قال) بحذف الواو، وهو الأولى. (2) (45) سورة المائدة. (3) الزيادة من "المسودة" ص (185) . (4) (178) سورة البقرة. (5) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" (2/899) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 756 واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: ما لم [107/ب] يثبت نسخه شرع لنا. ومنهم من قال: ليس بشرع لنا. واختلف القائلون بأنه كان متعبداً: فقال بعضهم: بشريعة إبراهيم. وقال قوم: بشريعة موسى إلا ما نسخ. وقال قوم: بشريعة عيسى؟ لأنها ناسخة لشريعة موسى. والأشبه: أنه كان متعبداً بكل ماصح من شرع من كان قبله من الأنبياء. فالدلالة على أنه شرع لنا: قوله تعالى: (أولئكَ الَّذيِنَ هَدىَ اللهُ فَبِهُداهُم اقْتَدِه) (1) ، فذكر الله تعالى أنبياءه (2) : إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وغيرهم، وأخبر أنه هداهم، وأمر باتباعهم فيما هداهم به، والأمر يقتضي الوجوب. فإن قيل: إنما أمر باتباعهم في التوحيد وما يدل العقل عليه لوجوه: أحدها: أنه أضاف ذلك إليهم، فاقتضى ما يقطع على كونه شرعاً لهم، وهو التوحيد، فأما غيره من الأحكام فغير مقطوع عليه، بل يحكم به من جهة غلبة الظن. ولأنه قال: (وَمِن آبائِهِم وَذُرياتِهِمْ) (3) ، وهدى الذرية هو التوحيد.   (1) (90) سورة الأنعام، ولفظ الجلالة ليس في الأصل. (2) في الأصل (وأنبياءه) ، والواو لا معنى لها هنا. (3) (87) سورة الأنعام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 757 ولأن الله تعالى ذكر من لم يكن نبياً في جملة من أمره بالاقتداء به من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم. ولأن ملة إبراهيم قد كان فيها المنسوخ، ومعلوم أنه لا يتعبد بالمنسوخ. قيل: الهدي يتناول التوحيد وغيره، فالآية تقتضي وجوب الاتباع في جميعه. وعلى أن التوحيد لا يتبع فيه غيره عندهم، وإنما يوحد بما هو مأمور [به] ، والآية تقتضي اتباع غيره. وجواب آخر وهو: أن التوحيد عندنا وما يدل العقل على صحته يجب بالشرع، ولا يجب بالعقل عبادة موجبة، ولا يصح السؤال. وقولهم: إننا لا نقطع على أن غير التوحيد هدى لهم، فمتى لم نقطع على ذلك ونعلمه من جهة يقع العلم بها لم يجب اتباعه. وما ذكروه من الذرية، فقد يكون التوحيد هدى لهم، وقد يكون غيره هدى لهم، فيجب اتباع جميعه. وأما ذكر من لم يكن نبياً في جملة أمره بالاقتداء به، فغير مانع مما ذكارنا؛ لأن من لم يكن نبياً كانوا على شرائع الأنبياء صلوات الله عليهم متمسكين بها، بدلالة قوله تعالى: (وَاجتبينَاهُم وَهديناهُم إلى صِرَاط مُستْقيم) (1) وقد قال تعالى: (وَاتبعْ سَبِيلَ مَنْ أنَابَ إلي) (2) ، وقال: (ويتبع غير سبيل المُؤْمِنِينَ) (3) ، فلما   (1) (87) سورة الأنعام، وفي الأصل: (فاجتبيناهم) . (2) (15) سورة لقمان. (3) (115) سورة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 758 كان سبيل المؤمنين متبعا، لم يمتنع أن يؤمر النبي باتباع ما اتبعه غيره ممن تقدمه. وقولهم: إن في شريعة إبراهيم منسوخاً لا يضر؛ لأنا لما علمنا أنه لا يصح تكليف المنسوخ، علم أن الأمر لم يتناوله. فإن قيل: لما أمر باتباعهم في هداهم صار ذلك ثابتاً بدليل شرعي، ونحن لا نمنع ذلك، وإنما الخلاف في حالة الإطلاق. قيل: عندكم إذا دل على ذلك دليل شرعي [108/أ] صار حكماً مبتدأ، فإذا فعله الإنسان، لم يكن مقتدياً بهم ولا متبعاً لهم، والآية تقتضي اتباعهم والاقتداء بهم فيه. ويدل عليه قوله تعالى: (وَكتَبْنا عَليهم فِيها أَنَّ النفْس بِالنفْسِ) (1) الآية، ولم يأمر بالاتباع، فلو كان الاتباع واجباً بأمر مجدد في شريعته لكان يقترن به، فلما لم يقترن به أمره دل على أنه إذا ثبت أنه شرع لغيره وجب عليه وعلى أمته الاتباع. ويدل عليه قوله تعالى: (ثُم أوْحينا إليك أَنِ اتبعْ مِلةَ إبْرَاهيمَ حنِيفا) (2) ، فأمره باتباع ملة إبراهيم، وأمره على الوجوب. ويدل عليه قوله تعالى: (إنا أَنْزَلْنا التَوْرَاةَ فيهَا هُدى وَنورٌ يحكُمُ بها النبيونَ الَّذينَ أسْلَمُوا للذينَ هادُوا) (3) ، ولم يفرق بين نبينا وبين سائر الأنبياء، قال: (وَمنْ لم يحكم بِما أَنْزَلَ اللهُ فأولِئكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، (فأولئِكَ هُمُ الظالِمونَ)   (1) (45) سورة المائدة. (2) (123) سورة النحل. (3) (44) سورة المائدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 759 (فأولئِكَ هُمُ الفاسقونَ) (1) ، والتوراة مما أنزله وتواعد من لم يحكم بها. يؤكد هذا ما روي أن الربيع (2) كسرت سن جارية فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (كتاب الله القصاص) (3) . والذي في كتاب الله ما حكاه عن التوراة، وأن السن بالسن، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى الأحكام عنها، وعمل بها. فإن قيل: قوله: (كتاب الله القصاص) إشارة إلى قوله: (فَمَنِ اعتَدى عَليْكُم فَاعتدوا عليْه) (4) ، ولم يرد قوله: (السن بالسن) . قيل: هذا عام، و (السن بالسن) خاص، فكان رد كلامه إلى ما هو نص أولى من العموم. وأيضاً: فإن الحكم إذا ثبت في الشرع لم يجز تركه، حتى يرد دليل بنسخه وإبطاله، وليس في نفس بعثة النبي ما يوجب نسخ الأحكام التي   (1) (44-47،45) المائدة. (2) هي: الربيع بنت النضْر الأنصارية. أم حارثة بن سراقة، وأخت أنس بن النضر، وعمة أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم. صحابية جليلة. لها ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1838) ، و"الإصابة" القسم السابع ص (642) طبعة دار نهضة كل مصر. (3) هذا الحديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الديات، باب السن بالسن (9/10) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الديات، باب القصاص في السن: (2/503) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب القسامة، باب القصاص في السن: (9/23) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الديات، باب القصاص في السن: (2/884) . وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (620) . (4) (194) سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 760 قبله، فإن النسخ إنما يكون عند التنافي، والبعثة إنما تكون بالتوحيد، وليس فيه منافاة لتلك الأحكام، فوجب التمسك بتلك الأحكام والعمل بها حتى يرد ما ينافيها ويزيلها، كما وجب ذلك قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيضا: فإنه شرع مطلق، فوجب أن يدخل فيه كل مكلف إلا أن يثبت نسخه، أصله ما ثبت من الشرع المطلق، ولأن نبينا كان قد بعثه متعبداً، فدل على أنه كان مأموراً بشرع من قبله. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (لِكل جَعلنا منكم شرعة ومنْهَاجاً) (1) ، والشرعة والشريعة واحد، والمنهاج: الطريق الواضح. والجواب: أنه لا بد أن يكون بين الشريعتين اختلاف من وجه، وهو ما نسخ، وإن كان بينهما اتفاق من وجه، فحصلت الإضافة لهذا المعنى. واحتج: بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بعثت إلى الأحمر والأصفر، وكل من بعث إلى قومه) (2) فدل على أنهم لم يكونوا مبعوثين [108/ب] إلينا، فلا يكون شرعهم لازماً لنا. والجواب: أن قوله: "بعث" يعني: متبوعاً مقصوداً إلى قومه، وغير قومه تبع له.   (1) (48) سورة المائدة. (2) هذا الحديث أخرجه مسلم في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/370) عن جابر بن عبد الله وفيه: (.. كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود ... ) . وأخرجه الدارمي في كتاب الجهاد باب أن الغنيمة لا تحل لأحد قبلنا (2/142) عن أبي ذر، وفيه (.. بعثت إلى الأحمر والأسود ... ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 761 واحتج بما روي عن عمر بن الخطاب: أنه خرج يوماً وبريده قطعة من التوراة، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ما هذا؟ جئت بها بيضاء نقية، لو أدركني موسى ما وسعه إلا اتباعي) (1) ، وأنكر حمل التوراة، وأخبر أن موسى لو أدركه لزمه أن يتبعه. والجواب أنه إنما أنكر عليه، لأن التوراة مبدلة مغيرة، وأكثرها   (1) حديث حسن رراه عبد الله بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، أخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" في (3/470-471) ، وأخرجه عنه الطبراني كما حكى ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/173) وقال: (رجاله رجال الصحيح، إلا أن فيه "جابراً الجعفي" وهو ضعيف) . وأخرجه عنه البزار، قال الهيثمي: (رجاله رجال الصحيح، إلا "جابراً الجعفي" وهو ضعيف اتهم بالكذب) . ورواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/338) . كما أخرجه عنه أبو يعلى والبزار، فيما حكى الهيثمي، وفيه "مجالد بن سعيد" قال الهيثمي: (ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما) . وأخرجه عنه البغوي في كتابه "شرح السنة" في كتاب العلم، باب حديث أهل الكتاب (1/270) . وأخرجه عنه البزار كما حكى الهيثمي، وفيه "جابر الجعفي" كما أخرج الإمام أحمد بعضه من هذه الطريق. ورواه أبو الدرداء رضي الله عنه، أخرجه عنه الطبراني في "الكبير" قال الهيثمي: (وفيه أبو عامر القاسم بن محمد الاسدي، ولم أر من ترجمه، وبقية رجاله موثقون) . ورواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجه عنه أبو يعلى، وفيه كما قال الهيثمي "عبد الرحمن بن إسحاق" ضعفه أحمد وجماعة. ويلاحظ: أن القصة وردت بعدة ألفاظ، ولولا خوف الإطالة لأوردناها، ولكن من أراد الوقوف عليها فلينظر المراجع السابق ذكرها وبخاصة "مجمع الزوائد" (1/173-174) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 762 منسوخ، فلا يجوز التمسك بها والرجوع إليها، ونحن لا نرجع إلى ما ثبت بالتوراة، وإنما نرجع إلى ما ثبت بدليل مقطوع عليه من قرآن أو خبر متواتر أو سنة متواترة أو وحي نزل به. وقوله: (لو أدركني موسى لزمه أن يتبعني) ؛ لأنه يقتضي [أن يكون] واحداً من أمته، فيلزمه اتباعه. فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العلة في نهيه عن النظر في التوراة: أنه لو كان موسى حيا لم يسعه إلا أن يتبعه، فامتنع أن تكون العلة في النهي كونها مغيرة مبدلة. قيل (1) : واحتج: بأن شرع من قبلنا لو كان شرعاً لنا لم يتوقف عن الجواب في الحادثة حتى ينزل الوحي، فلما توقف ولم يعمل بشرع من قبله، ثبت (2) أنه ليس بشرع له. والجواب: أنه توقف؛ لأنه لم يكن عنده الحكم، ولا ثبت عنده الحكم في شرع غيره، فلهذا توقف، ألا ترى أن ما ثبت عنده صحته من أحكامهم، مثل استقبال بيت المقدس في الصلاة (3) ، وغير ذلك، لم يتوقف فيه، بل كان يسارع إلى اتباعه والاقتداء به. واحتج: بأنه لا يمتنع أن تكون المصلحة لأمة نبي في شيء، ومصلحة أمة أخرى في ضدها، فإذا لم يمتنع هذا امتنع (4) أن يكون: شرعهم شرعاً لنا.   (1) هكذا في الأصل، لم يذكر الجواب عن هذا الاعتراض. (2) في الأصل: (لم يثبت) . (3) سبق تخريجه في قصة تحويل القبلة ص (354) . (4) في الأصل: (فإذا لم يمتنع هذا لم يمتنع..) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 763 والجواب: أنه لا يمتنع أن تكون مصلحة لهم، ويتصل بأمة بعدها، كما أن الصحابة تتعبد بما هو مصلحة لهم، ويكون شرعاً وديناً لمن بعدهم من التابعين. واحتج: بأنه لو وجب علينا اتباع شرعهم لوجب أن نتتبع أدلتهم ونعرفها، كما يجب ذلك في حكم الإسلام، ولوجب علينا حفظ شريعتهم ودراستها. والجواب: أنه لا يمتنع أن يقال: إنه ثبت عندنا صحة بعض الأدلة بالأوجه التي ذكرناها، فوجب (1) المصير إلى موجبه والعمل به، كما يجب المصير إلى نفس الحكم، ويجب حفظه ودراسته ما يلزمنا حكمه، وهو ما ثبت عندنا كونه شرعاً لهم، فأما ما لم يثبت، وإنما يخبرون هم به، فإنه لا يجب ذلك؛ لأن حكمه لا يلزمنا. واحتج: بأنه إنما يجب الرجوع إلى أحكام [109/أ] الشرع، إذا عرف جمل أحكامه وتفصيلها، لجواز أن يكون هناك ناسخ أو شيء يخص العام، وهذا غير ممكن في شرعهم. والجواب: أن ما أخبر الله تعالى به فالظاهر أن حكمه ثابت غير منسوخ ولا مخصوص، لأنه لو كان منسوخاً أو مخصوصاً، لكان مطرحاً، ولم يبين حكمه. واحتج: بأنه أضاف جميع الشرع إلى موسى وعيسى. والجواب: أن هذا لا ينفي أن يكون الشيء منه شرعاً لغيره، لأننا نقول: إن جميعه مضاف إليه، وإن كان قد يلزم حكمه لغير أهل ملته.   (1) في الأصل: (وجب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 764 واحتج: بأنه لو كان شرع من قبلنا شرعاً لنا، لوجب أن يبعث نبين في وقت واحد بشريعة واحدة، فلما لم يجز هذا، ثبت أنه ليس شرع من قبلنا شرعاً لنا، لأنه يفضي إلى أن يكون شرع نبيين على وجه واحد. والجواب: أنه يجوز، وقد فعل، بعث إبراهيم وابن أخيه بشريعة واحدة، في وقت واحد، وبعث موسى وهارون بشريعة واحدة، في وقت واحد. على أنه لو كان الأمر على ما قالوه، فإنما يمتنع هذا لوجود نبيين في وقت واحد، فأما إذا انقرض واحد، وقام غيره بعده، فإن شريعته شريعة نبي واحد. واحتج: بأن جميع الشريعة مضافة إلى نبينا، فلو كان ما ليس فيها يجب العمل به بشريعة غيره، لم تضف إليه. والجواب: أن ما يتبعه من شرع غيره، فهو شريعته، ومضاف إليه؛ لأنه لم ينسخه عنا. فصل (1) فأما قبل البعث، فإن نبينا عليه السلام كان متعبداً بشريعة من قبله، سواء قلنا: ليس شرع من قبله له بعد البعث، أو قلنا: هو شرع له. وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية حنبل فقال: من زعم أن   (1) راجع في هذا الفصل: المسودة ص (182) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (104/ب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 765 النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على دين قومه، فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ وبه قال أصحاب الشافعي (1) . وقال قوم: ذلك على الوقف (2) ، يجوز أن يكون متعبداً، ويجوز أن لا يكون. وحكى أبو سفيان السرخسي عن أصحابه (3) أنه بعد البعث شرع من قبله قد صار شرعاً له، لا من حيث كان شريعة له قبله، فأما قيل أن يبعث، فإنه لم يكن متعبداً بشيء من الشرائع. والدلالة على أنه كان متعبداً: ما تقدم من قوله تعالى: (ثُم أَوْحيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتبعْ مِلة إبْرَاهيمَ) (4) ، وغير ذلك من الآيات. ولأنه قبل البعث كان متبعاً لهم، بدليل أنه ركب الحيوان، وأمر بذبح الحيوان، وأكل لحمه، وحج واعتمر مراراً، فقيل: انه حج ثلاثاً، وكل هذا لا يوجد [109/ب] بالعقل، وإنما يفعل يشرعا، ثبت أن ما فعله شرع من قبله. فإن قيل: ركوب الحمار وذبح الحيوان بالعقل. قيل: الحج والعمرة لا يثبتان (5) بالعقل، وقد فعل ذلك، ثبت أنه   (1) المختار عند الشافعية: الوقف، كما في جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/352) . (2) ومنهم إمام الحرمين والغزالي والآمدي. انظر المستصفى (1/246) ، والإحكام (4/121) . (3) أي: الحنفية، وهو المختار عندهم، كما في مسلم الثبوت (2/183) مطبوع مع شرحه فواتح الرحموت. (4) (123) سورة النحل. (5) في الأصل: (لا يثبت) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 766 فعل ذلك بالشرع لا غير. وكذلك ذبح الحيوان ينافيه العقل، لما فيه من إيلام الحيوان. وكذلك الحصل عليه وركوبه (1) ، طريقه الشرع دون العقل. واحتج المخالف: بما تقدم لمن منع أن يكون شرع من تقدم شرعاً لنا، وقد أجبنا عنه. واحتج: بأنه لو كان كذلك لوجب ظهور عمله بتلك الشريعة واقتدائه بها، ولو ظهر لنقل، ولم يخفَ على أهله ومن أتى به. والجواب: أنه قد ظهر، ونقل مما ذكرناه عنه من صلاته وصيامه وحجه وعمرته وذبحه وركوبه. ن (2) .   (1) في الأصل: (من ركوبه) . (2) علامة الانتهاء من الباب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 767 باب النسخ (1) حقيقة النسخ: هو الرفع والإزالة، ومنه يقال: نسخت الريحُ التراب والآثار، إذا أزالت ذلك. ونسخت الشمسُ الظل، إذا أزالته. وقد يعبر به عن نقل الخط مِنْ موضع إلى كل موضع، يقال: نسخ فلان هذا الخبر إذا نقل ما فيه. ومنه قوله تعالى: (إنَّا كنَا نستنسخ ما كنتم تعملون) (2) ، يعني نكتبه وننسخه، وهذا مجاز. ويفتقر النسخ إلى وجود خمس شرائط: أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ، فإن كان ملفوظاً به معه، فإنه يكون استثناء وتخصيصاً. وأن يكون الحكم المنسوخ قد ثبتت بالشرع، ثم رفع، فأما إن كان الناس فعلوا شيئاً بعادة لهم، أقروا عليها، ثم رفع ذلك، لم يكن نسخاً، وكان ابتداء شرع.   (1) راجع في هذا الباب: "المسودة" ص (195-232) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (93/أ-104/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/189-235) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (254-271) . (2) (29) سورة الجاثية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 768 وأن يكون الرافع المزيل دليلاً شرعياً، فأما إن زال حكم العبادة من غير دليل، كمن جنَ أو مات، فإن فرض العبادة يسقط عنه، ولا يكون نسخاً. وأن لا يكون للعبادة المنسوخة مدة معلومة، بل كانت مطلقة فقطع دوامها في الثاني. فأما إن كانت معلقة بمدة معلومة ففي نسخها كلام. وأن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله، ولا يكون أضعف منه. مسألة (1) يجوز نسخ الشرائع عقلاً وشرعاً. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية صالح وأبي الحارث: قوله تعالى: (ما نَنْسَخْ منْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأهَا) (2) أن ذلك لجواز النسخ، وأن الله   (1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (195) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (94/أ-95/أ) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (256) ، و"روضة الناظر" مع شرحها، "نزهة الخاطر" (1/198) . (2) (106) البقرة. وفي قوله: (نَنْسَأها) قراءتان: الأولى: (ننسأها) بفتح النون الأولى والسين، وسكون الهمزة بين السين والهاء، وهذه القراءة هي التي اختارها المؤلف، وقد كررها ثلاث مرات. وبهذه القراءة قرأ ابن كثير وأبو عمرو. كما قرأ بها عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعى وابن محصن. والمعنى على هذه القراءة: ما ننسخ من آية الآن أو نؤخر نسخها. مأخوذ من النسأ، وهو التأخير. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 769 تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما أحب. وبهذا قالت الجماعة. وحكي عن أبي مسلم الأصفهاني (1) : أنه كان يمنع وقوع النسخ شرعاً ويجيزه عقلاً (2) .   = الثانية: (نُنْسِهَا) بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز. وبها قرأ الباقون، أي من عدا ابن كثير وأبا عمرو. والمعنى على هذه القراءة: ما ننسخ من آية أو ننسكها يا محمد، فلا تذكرها. مأخوذ من النسيان الذي هو ضد الذكر. راجع في هذا: "النشر في القراءات العشر" (2/219-220) ، وكتاب "الكشف عن وجوه القراءات السبع" ص (1/257-259) وكتاب "السبعة في القراءات" ص (168) ، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص (145) . (1) هو: محمد بن بحر الأصفهاني. قال ابن النديم: (كان كاتباً مترسلا بليغاً متكلماً جدلا) . كان على مذهب المعتزلة، وقد ألف كتاباً في التفسير على مذهب المعتزلة أسماه: "جامع التأويل لمحكم التنزيل". له ترجمة في: "طبقات المعتزلة" ص (299) ، و"طبقات المفسرين" للداودي (2/106) ، و"الفهرست" ص (196) الطبعة التجارية و"لسان الميزان" (5/89) . وتد ذكر صاحب "المسودة" ص (195) أن اسمه: (يحيى بن عمر بن يحيى الأصبهاني) . كما ذكر صاحب "فواتح الرحموت" (2/55) أنه الجاحظ. ولعل الصواب أنه "محمد بن بحر"، فقد نص الفتوحي في كتابه: "شرح الكوكب المنير" ص (256) على ذلك. (2) نقل ذلك عنه عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه: "أصول الدين" ص (226-227) وقال: ( ... ولا اعتبار بخلافه في هذا الباب، مع تكذيبه لقوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها ... ) . ونقل الفتوحي في كتابه: "شرح الكوكب المنير" ص (256) عن ابن السمعاني = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 770 واختلفت [110/أ] اليهود في جواز نسخ الشرائع على مذاهب: منهم من منع ذلك من طريق العقل. ومنهم من قال: لا يجوز من جهة السمع. ومهم من قال: يجوز من جهة السمع والعقل، ولكن لا يؤمن بما جاء به نبينا، ولا يقر بمعجزاته، ولا يقبل شريعته. والدلالة على جوازه شرعاً: أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجباً بلا خلاف، ثم نسخه الله بالتوجه إلى الكعبة، بقوله تعالى: (فَوَل وَجْهكَ شطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ) (1) الآية. وكذلك تقديم صدقة بين يدي نجوى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان واجباً بقوله تعالى: (إذَا نَاجيتم الرَّسُولَ فَقَدمُوا بيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَة) (2) ثم نسخ الله تعالى ذلك (3) .   = قوله: (وهو رجل معروف بالعلم، وإن كان قد انتسب إلى المعتزلة، ويعد منهم. وله كتاب كبير في التفسير، وله كتب كثيرة، فلا أدري كيف وقع هذا الخلاف منه؟!) . وقد علق ابن بدران في كتابه: "نزهة الخاطر" (1/199) على ذلك بقوله: ( ... وبالجملة، فإن أبا مسلم إن كان قال هذا القول على إطلاقه فهو جاهل بأسرار الشريعة المحمدية جهلاً منكراً، والجاهل لا عبرة بخلافه، ولا بوفاقه في هذا الفن؛ لأنه فن المجتهدين، لا فن الأغبياء المقلدين) . (1) (144) سورة البقرة. (2) (12) سورة المجادلة. (3) والناسخ قوله تعالى: (أَأَشفَقْتُم أَنْ تُقَدمُوا بَيْنَ يَدي نَجواكُم صَدَقَات فَإذْ لمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيكُم فَأقيمُوا الصَلاَةَ وآتُوا الزكَاةَ) الآية (13) من سورة المجادلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 771 وقال تعالى: (ما نَنسَخ من آيَةِ أَوْ نَنْسَأهَا (1) نَأتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (2) فأخبر أن فيه ناسخاً ومنسوخاً. وقال تعالى: (فبِظُلْم من الذينَ هَادُوا حَرمنا عَلَيْهمْ طَيِّبَات أحِلَّتْ لَهُمْ) (3) ، فأخبر أنه قد حرّم عليهم ما كان حلالاً لهم. وهذا هو النسخ. ونظائر ذلك كثير. والدلالة على جوازه عقلاً: أن الناس في التكليف على قولين: منهم من قال: لله تعالى أن يكلف عباده بما شاء أن يكلفهم، لمصلحة ولغير مصلحة، ولكن لا يختلف أن التكليف إنما وقع على وجه المصلحة، كما أن ما يفعل فينا إنما يفعله للمصلحة. ومنهم من قال: حسن التكليف لما فيه من مصالحهم. وأيهما كان فإن النسخ يجب أن يكون جائزاً، لأنه على القول الأول، النسخ بمنزلة ابتداء التكليف، وعلى القول الثاني لا يمتنع أن يختلف حال المكلف في المصلحة، فيختلف التكليف، ألا ترى أن الرجل قد يكون من مصلحته في وقت البر واللطف، وفي وقت آخر مصلحته التشديد والعنف. ويبين صحة هذا أن الطاهر تصوم وتصلي، والحائض تمنع منها. ولأن تأخير بيان المراد باللفظ العام من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز، كتأخير بيان التخصيص، وهو تأخير لبيان المراد باللفظ العام في   (1) هذه قراءة في الآية، وقد سبق الكلام على ذلك في أول المسألة. (2) (106) سورة البقرة. (3) (160) سورة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 772 الأعيان، مثل قوله تعالى: (فَإذَا انْسَلَخَ الأشْهرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمشْركينَ) (1) وما أشبه ذلك. فإن قيل: تخصيص عموم القرآن يجوز بخبر الواحد وبالقياس، ولا يجوز نسخه بهما. قيل: يجوز ذلك في العقل، كما جاز ذلك في التخصيص، وإنما منعناه (2) شرعاً، وهو أن التخصيص لا يرفع الجملة، فجاز أن يقع بما هو دونه، والنسخ يرفع الجملة فلم يقع إلا بما هو أقوى من المنسوخ. ولأن عندهم أن اعتقاد نبوة موسى عليه السلام، قبل أن بعث وظهرت معجزاته لا يجوز، ولم يجز الإخبارُ عن الله تعالى في تلك الحال وكان محظوراً، فلما ظهرت المعجزة على يده، صار الإخبار بثبوته طاعة، فما أنكرتم أن يكون الشيء عبادة ثم يخرج من [110/ب] أن يكون عبادة. وأيضاً: لما حسن أن ينقلنا من حال إلى حال في الخلقة، فننقل من الصغر إلى الكبر. ومن الشباب إلى الهرم، ومن الصحة إلى السقم، ومن الحياة إلى الممات، حسن أن ينقلنا في التكليف، لأنه لا فرق بين ما يفعله بنا، وبين ما يأمرنا بفعله. ولأن الله تعالى أمر آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه، وحرم ذلك في شريعة من بعده من الأنبياء. وأباح العمل في السبت على ألسنة سائر الأنبياء، وحرمه على لسان موسى عليه السلام. وكذلك إبراهيم عليه السلام خَتَن نفسه بعد الكبر. وهم يزعمون أن من   (1) (5) سورة التوبة. (2) في الأصل: (معناه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 773 شرع موسى المبادرة إلى الختان في اليوم الذي في يولد المولود. وكذلك يزعمون أن يعقوب جمع بين الأختين في وقت واحد، وذلك لا يجوز في شريعة موسى. وهذا يدل على بطلان ما قالته اليهود، لعنهم الله. واحتج من منع ذلك عقلاً: بأن النسخ يفضي إلى البَدَاء، فإنه قد يكون أمر بشيء وأراده ثم علم من حال المأمور به في الثاني ما لم يكن قد علمه منه في وقت الأمر به، فأوجب النهي عنه، إذ لو لم يكن ذلك لكان بيّن مدة الفعل في وقت الأمر، وفي حصول الإجماع على بطلان ذلك دليل على فساد قول ما أدى إليه. والجواب: أنا لا نقول: إنه لما أمر بها أراد بقاءها على الدوام، ثم بان له خلاف ذلك فنسخها، بل نقول: أمر بما أمر به، وهو عالم بما أمر وبما ينهي عنه بعده، ولم يظهر له شيء كان خفياً عنه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل نقول: إنه حين أمر بها أمر وهو يريد بقاءها والتعبد بها، إلى أنه معلوم عنده أن فيه مصلحة أو لا مصلحة فيه، وإن لم يطلع عليه، ولا يوجب ذلك أن يكون قد ظهر له منه في حال النهي مالم يكن عالماً به، ألا ترى أنه إذا نهى عن فعل من الأفعال ابتداء، فإنه لا يوجب ذلك أن يكون عالماً حال النهي ما لم يكن قد علمه قبل ذلك، ثم هذا يبطل بنقل الانسان من حال إلى حال. وقيل الجواب عن هذا: إنما يقتضي البَدَاء لو أمر بفعل عبادة في وقت، ثم ينهي عنها في ذلك الوقت على جهة واحدة، فأما إذا نهي عن مثل تلك العبادة التي أمر بها، فلا يفضي إلى البدَاء. وقد كشف بعض المتكلمين عن هذا الجواب، وقال: إن هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 774 يجري مجرى ما لو علق الآية بمدة، نحو قوله: "صلوا عشرين سنة"، فإن ما بعد المدة يسقط الأمر على غير وجه البَدَاء، كذلك إذا أمر به مطلقاً إلى مدة معلومة عنده، وكذلك أفعال الله تعالى تجري هذا المجرى بدليل أنه يغني الواحد في وقت، ويفقره في وقت آخر، ويسود الشيء في وقت، ويبيضه في وقت، [111/أ] ويحرك الشيء في وقت، ويسكنه في وقت، ويحييه في وقت، ويميته في وقت. وكذلك آدم كان يزوج بناته من بنيه، وكان مباحاً، ثم حظره الله تعالى عندهم. وكذلك جميع ما شرعه موسى لم يكن لمن قبله من الأنبياء. وكذلك اختتان إبراهيم عليه السلام بعد الكبر. واحتج: بأنه يؤدي إلى التناقض من قبَل أنه أمر بعبادة، وكان عملها حسنا، فإذا نهي عنها بعد مدة يصير فعلها مفسدة، بعد أن كان مصلحة. والجواب: أنه لا يؤدي إلى ذلك، لأنا لا نجعل العبادة الواجبة مصلحة ومفسدة، أو حسنة وقبيحة، وإنما نجعل العبادة مصلحة في وقت، ومفسدة في وقت آخر. ثم إن هذا يبطل بانتقالنا من حال إلى حال. واحتج: بأن الأمر إذا ورد مطلقاً اقتضى فعل المأمور به أبداً، ووجب على المأمور أن يعتقد وجوبه عليه أبداً، ويكون ذلك الاعتقاد حسناً، فلو جاز ورود النهي عن مثل ذلك في المستقبل، لكان ذلك دلالة على البداء؛ لأنه قد نهي عما وقع الأمر به على الوجه الذي أمر به، ولصار الاعتقاد الذي كان محكوماً له بالحسن قبيحاً. والجواب: عن قوله: إن الأمر يقتضي فعل المأمور به أبداً، خطأ؛ لأن التكليف قد يسقط بمعانٍ (1) تطرأ على المكلف، مثل الموت والجنون   (1) في الأصل: (معاني) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 775 والعجز، وما يجري هذا المجرى، فكيف يصح أن يكون الأمر مقتضياً لوجوب المأمور به أبداً. وقوله: إن ذلك يكون بدَاءً، خطأ؛ لأن النهي ها هنا لا يقع عما وقع الأمر به، وإنما وقع النهي عن مثله في المستقبل، وهذا غير ممتنع؛ لأن الفعلين قد يكونا متماثلين من جنس واحد، مع كون أحدهما حسناً وفيه المصلحة، وكون الآخر قبيحاً ولا مصلحة فيه، ألا ترى أن اعتقاد المكلف نبوته، واعتقاده لها يكون مصلحة بعد بعثه الله تعالى إياه، ولا يكون مصلحة قبل أن يبعثه نبياً. وقولهم: إن عليه أن يعزم على الفعل ويعتقده أبداً، فليس كذلك، وإنما يعتقد وجوبه إلى ما لم يرفع عنه. واحتج: بأنه لو جاز ورود النسخ في الشرائع، لجاز مثله في اعتقاد التوحيد. والجواب: أن الفعل الشرعي يجوز أن يكون مصلحة في وقت، ولا يكون مصلحة في وقت آخر مع بقاء التكليف، ويكون مصلحة لزيد، ولا يكون مصلحة لعمرو. فاما فعل التوحيد، فلا يخرج عن أن تكون المصلحة فيه لجميع المكلفين وفي جميع الأوقات. يبين صحة هذا: أنه لايجوز أن يجمع بين الأمر بالفعل الشرعي وبين النهي عن مثله، بأن يقول: "صلوا هذه السنة، ولا تصلوا بعدها"، ولا يجوز أن يجمع بين إيجاب اعتقاد التوحيد وبين النهي [111/ب] عن مثله في المستقبل. واحتج: بأنه لو جاز ورود النهي عن الفعل بعد ورود الأمر بمثله مطلقاً، لكان ذلك مؤدياً إلى أن لا يكون ها هنا معنى يدلنا على تأبيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 776 العبادة، وفي ذلك إبطال قدرة الله تعالى على أن يدلنا على تأبيد العبادة إلى وقت زوالها بزوال التكليف. والجواب: أنه يجوز تأبيد العبادة بأن ينقطع الوحي، أو يضطر إلى قصد (1) الرسول فيه، كما اضطررنا إلى قصده في تأبيد شريعته، وأنه لا نبي بعده. واحتج من قال منهم بأنه لا يجوز النسخ شرعاً: بما روي عن موسى عليه السلام أنه قال: "شريعتي مؤبدة ما دامت السموات والأرض". والجواب: أن هذا كذب. وقيل: إن أول من قال هذا لليهود ابنُ الراوندي (2) بأصبهان (3) ، فإنه أخذ منهم دنانير، وعلمهم ذلك، وقال: قولوا لهم: إن شريعتنا مؤبدة، كما يقولون.   (1) في الأصل: (فعله) والتصويب من "المسوّدة" ص (195) . (2) هو: أحمد بن يحيى بن الراوندي. نسبة إلى: (رواوند) قرية من قرى (قاسان) بالسين المهملة من نواحي (أصبهان) . كان ملحداً ملازماً للزنادقة والرافضة. وكان من المعتزلة، ثم خرج عنهم، وصنف الكتب في الرد عليهم. له كتب كثيرة، منها: "الدامغ" يدمغ به القرآن، ومنها "الزمردة"، ومنها نصيحة المعتزلة. مات سنة (300 هـ) ، أو (301 هـ) . له ترجمة في "شذرات الذهب" (2/235) ، و"طبقات المعتزلة" ص (299) . (3) (أصبهان) بفتح الهمزة وكسرها، والأول أكثر وأشهر. وهي لفظ معرب معناها الجيش، والكلام على تقدير مضاف، أي: مدينة الجيش، وهي مدينة عظيمة مشهورة ويطلق: (أصبهان) على الاقليم كله. انظر: "مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع" (1/87) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 777 والدليل على ذلك: أن هذا لو كان صحيحاً لوجب أن يكون اليهود قالوا لعيسى ونبينا صلى الله عليهما وسلم مع تصديقهما لموسى عليه السلام ومخالفتهما لشريعته عليهم السلام، فلما لم ينقل أن أحداً قال لهما هذا، مع حرصهم على تكذيبهما والرد عليهما وتنفير الناس عنهما، دل على أنه لا أصل له. وجواب آخر وهو: أنه لو ثبت لكان معناه إلا أن يدعو صارف إلى تركها وهو من ظهرت المعجزة على يده، وثبتت نبوته، مثل ما ثبتت نبوة موسى، والخبر يجوز تخصيصه كما يجوز تخصيص الأمر والنهي. فصل (1) والنسخ في اللغة عبارة عن شيئين: أحدهما: الإزالة، فإذا كان في موضع آثار، فزالت، قالوا: "نسخت الآثار"، ويقال: "نسخت الشمس الفيء"، إذا أزالت الفيء. والثاني: عبارة عن نقل مثل الشيء عن موضعه إلى موضع آخر، ومنه قوله تعالى: (إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كنْتم تَعْمَلُون) (2) ، معناه ننسخ العمل، وهو باق على ما كان (3) . وهو في الشرع: عبارة عن إخراج ما لم يرد باللفظ العام في الزمان، مع تراخيه عنه.   (1) راجع في هذا الفصل: "التمهيد" الورقة (93/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها، "نزهة الخاطر" (1/189) . (2) (29) سورة الجاثية. (3) في المعنى اللغوي راجع: "القاموس المحيط" (1/271) مادة "نسخ"، و"معجم مقاييس اللغة" (5/424) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 778 وقولنا: مع تراخيه، احتراز من التخصيص، فإنه يكون متراخياً ومقارناً. ولا يبطل هذا بقوله: (ثُم أَتمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْل) (1) ، أن زمان العبادة ينقص، وليس بنسخ؛ لأَنا قلنا مع تراخيه، والحد مقارن. وقال قوم من المتكلمين: هو إخراج ما أريد باللفظ. وهذا غلط، لأنه يؤدي إلى البَداء على الله تعالى فإنه إذا أراد أن يكون التوجه إلى بيت المقدس واجباً بعد ستة عشر شهراً، ثم لم يرد ذلك، كان بداءً، وذك لا يجوز عليه لاستحالة جواز الجهل [112/أ] والنسيان عليه. فإن قيل: فقد أجزتم نسخ الشيء قبل فعله، وإن كان بداءً. قيل: ليس ذلك بداءً؛ لأنه يحمله على أن الأمر اقتضى مقدمات الفعل، ويكون تقديره ما لم أنسخه عنك؛ لأنه ليس من شرط الأمر إرادة المأمور به. الفرق بين النسخ والتخصيص والفرق بين النسخ والتخصيص من وجوه: أحدها: من شرط الناسخ أن يتأخر عن المنسوخ، فلا يسبقه، ولا يقارنه. وأما التخصيص: فالذي يقع به التخصيص يصح أن يسبق المخصوص ويقارنه ويتأخر عنه. والثاني: لا يصح النسخ إلا بمثل المنسوخ في القوة، وأقوى منه، والتخصيص يصح بمثل المخصوص وما دونه، وأضعف منه، لأن   (1) (187) سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 779 التخصيص لا يرفع كل الخطاب، وإنما يخص بعضه، وترك الباقي على ما هو عليه، فكان أخف من النسخ، فصح التخصيص بأخبار الآحاد والأفعال والقياس، والنسخ أقوى؛ لأنه رفع الخطاب كله، فقوي في بابه، فلا يجوز رفعه إلا بمثله في القوة أو ما هو أقوى. الثالث: النسخ يرفع كل النطق، والتخصيص يبقي بعض اللفظ (1) . فصل (2) والنسخ على ثلاثة أضرب: نسخ الحكم دون الرَّسْم، ونسخ الرسم دون الحكم، ونسخ الرسم والحكم. أما نسخ الحكم دون الرسم فجائز، وذلك مثل الوصية للوالدين والأقربين (3) . ومثل عدة الوفاة، فإن ذلك منسوخ، ورسمه في القرآن. وذلك أن العدة كانت في بدء الأمر حولاً، فنسخت إلى أربعة أشهر وعشر، وهما جميعاً في القرآن، قال تعالى: (وَالّذِين يتَوَفّوْنَ مِنْكُم وَيَذَرُونَ أزْوَاجاً وَصِيّةً لأزْوَاجِهِم مَتَاعاً إلَى الْحَوْلِ   (1) بقي بعض الفروق بين النسخ والتخصيص، لم يذكرها المؤلف، وقد ذكر جملة منها ابن قدامة في كتابه: "روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (197-198) ، فارجع إليه إن شئت. (2) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (198) ، و"روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (1/201-203) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (262-264) . (3) يشير المؤلف بهذا إلى قوله تعالى: (كُتِبَ عَليكُمِ إذَا حَضَرَ أَحَدَكمُ الموتُ إنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيّةُ للْوالدينِ والأقرَبِين بِالْمَعْرَوفِ حَقاً عَلَى المتقِينَ) ، وقد وفى ابن كثير الموضوع حقه في تفسيره (1/211-212) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 780 غيرَ إخْراج) (1) ، نسخ بقوله: (والّذِينَ يتوَفَّوْنَ منْكُم وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسهن أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً) (2) . وأما نسخ الرسْم دون الحكم فجائز أيضاً، وذلك مثل آية الرجم، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لولا أن يقال: عمر زاد في كتاب الله، لكتبت في حاشية المصحف: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم (3) . وكذلك نسخ التتابع في صوم كفارة اليمين في قراءة عبد الله، وبقي حكمها (4) .   (1) (240) سورة البقرة. (2) (234) البقرة. وراجع في هذا: تفسير ابن كثير (1/296-297) . (3) هذا الحديث روي مطولاً، كما روي مختصراً، وقد أخرجه البخاري في كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى من الزنا (8/210) . وأخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب رجم الثيب الزاني (3/1317) . وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في الرجم (2/456) . وأخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في تحقيق الرجم (4/38) . وأخرجه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب الرجم (2/853) . وأخرجه الإمام مالك في كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم ص (514) . وأخرجه الدارمى في كتاب الحدود، باب في حد المحصنين بالزنا (2/99) . وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحدود، باب النهي عن مقدمات الزنا وما يوجب الرجم ... (2/283) . وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (5/183) . وهي من الآيات التي نسخت تلاوتها، وبقي حكمها، ومراد عمر من قوله هذا أن يبقى في أذهان الناس حكم الآية، لا تلاوتها، والله أعلم. (4) وذلك في قوله تعالى: (فَصِيَام ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كفّارَةُ أيْمَانِكُم) قرأ ابن مسعود رضي الله عنه: (فَصيَامُ ثَلاثَةِ أيَّام مُتَتَابِعَات) . راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (1/148) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 781 وقال قوم: لا يجوز نسخ الرسم مع بقاء حكمه. دليلنا: أن التلاوة لا تفتقر إلى الحكم الشرعي، ولا الحكم الشرعي يفتقر إلى التلاوة، بل يجوز أن ينفصل كل واحد كل منهما عن الآخر؛ لأن الحكم قد يثبت من غير تلاوة، مثل أفعال النبي، فصارت التلاوة مع حكمها بمنزلة عبادتين، فلما جاز نسخ إحدى العبادتين دون الأخرى، كذلك نسخ التلاوة [112/ب] دون الحكم، ونسخ الحكم دون التلاوة. فإن قيل: لما لم يجز وجود العلم في القلب من غير أن يكون صاحبه عالماً، ولا وجوده عالماً من غير وجود العلم في قلبه، كذلك لا يجوز وجود الحكم من غير تلاوة. قيل: قد بينا هذا، وقلنا: إن التلاوة والحكم ينفصل كل واحد منهما، وليس كذلك العلم، لأنه لا يجوز أن ينفصل كونه علماً يعلم من العلم الذي صار به عالماً. وأما نسخهما فمثل ما روي عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: (كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات فتوفي (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي مما يقرأ في القرآن) (2)   (1) في الأصل: (من في) . (2) هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات (2/1075) . وأخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء لا تحرم المصة والا المصتان (3/147) . وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب هل يحرم ما دون خمس رضعات (1/476) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 782 فكانت العشر (1) منسوخة الحكم والرسم. وقد ينسخ إلى بدل وغير بدل: فما نسخ إلى غير بدل: العدة حولاً إلى أربعة أشهر وعشر، وما زاد على أربعة أشهر لغير بدل. وما ينسخ إلى بدل فعلى أربعة أضرب: نسخ واجب إلى واجب، وواجب إلى مباح، وواجب إلي ندب، ومحظور إلى مباح. فأما واجب إلى واجب، فعلى ضربين: واجب مضيق إلى مثله، كنسخ القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة (2) . وواجب مخير إلى مضيق، كالصيام، كان المطيق القادر عليه في صدر (3) الإسلام مخيراً بين الصيام والفدية، فنسخ إلى مضيق وحتم (4) ،   = وأخرجه النسائي في كتاب النكاح باب القدر الذي يحرم من الرضاعة (6/83) . وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا تحرم المصة ولا المصتان (1/625) . وأخرجه الدارمي في كتاب النكاح، باب كم رضعة تحرم؟ (2/80) . وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الرضاع، باب جامع ما جاء في الرضاعة ص (376) . وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب تحريم الرضاع كتحريم النسب (2/333) . (1) في الأصل: (العشرة) . (2) سبق تخريج هذا في قصة تحويل القبلة ص (354) . (3) في الأصل: (صدور) . (4) ومن القائلين بالنسخ معاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وابن أبي ليلى وعلقمة وابن شهاب، ورجحه الطبري. وهناك فريق من العلماء ذهبوا إلى أن الآية محكمة وليست منسوخة، ثم اختلفوا بعد ذلك في تفسيرها فذهب ابن عباس والسدي وسعيد بن المسيب إلى أن معنى قوله تعالى: (وَعَلَى الذينَ يُطِيقُونَهُ) = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 783 قال الله تعالى: (وَعَلى الّذينَ يطيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَام مَسَاكِين) (1) ، ثم قال: (فَمنْ شَهِدَ مَنْكُمُ الشَّهْرَ فَليَصُمْهُ) (2) . وأمّا واجب إلى مباح، فالصدقة عند مناجاة الرسول، كانت واجبة بقوله تعالى: (إذَا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدموا بيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدقة) (3) ، فنسخ ذلك الوجوب إلى جواز تركها وجواز فعلها بقوله [تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدَمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَات فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكمْ فَأَقيموا الصَلاَةَ وَآتُوا الزكاةَ 000) ] (4) وأما واجب إلى ندب [فـ] كالمصابرة في صدر الإسلام، على كل واحد أن يصابر عشرة، فنسخ إلى اثنين، وندب إلى ما زاد بقوله تعالى:   = يطيقون صومه في حال شبابهم وصحتهم، فإذا ما كبروا وعجزوا عن الصوم فعليهم فدية طعام مسكين. وذهب ابن عباس وعلي وعكرمة وطاوس والضحاك إلى أن الآية تقرأ: (وَعَلَى الذينَ يُطَوِّقُونَهُ) ، ومعنى ذلك: أن الشيخ والشيخة العاجزين عن الصوم لكبرَهما الذين يكلفهما الصوم، فلا يطيقانه، لهما أن يفطرا، وعليهما فدية طعام مسكين عن كل يوم. راجع في هذا: "تفسير الطبري" (3/418-438) ، و"تفسير ابن كثير" (1/213-215) . (1) (184) البقرة. وقراءة (مساكين) بالجمع، كما أثبتها المؤلف، قرأ بها نافع وابن ذكوان وغيرهما. أما قراءة (مسكين) بالافراد، فقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وغيرهم. انظر: "اتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص (154) . (2) (185) سورة البقرة. (3) (12) سورة المجادلة. (4) (13) سورة المجادلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 784 (إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عشْرونَ صَابِرُونَ يَغْلبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يكنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبوا أَلْفاً مِنَ الَّذينَ كًفَرُوا) (1) فنسخ الله هذا رحمة منه لعباده ورخصة بقوله: (الآنَ خَففَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أن فِيكُمْ ضَعْفاً فَإنْ يَكنْ منكمْ مائةٌ صابِرَةٌ يَغْلبوا مِائَتيْنِ وَإنْ يَكُنْ منْكُمْ أَلْفٌ يَغْلبُوا أَلْفَيْنِ بإذْن الله) (2) فنسخ إلى مصابرة كل واحد اثنين، وندب إلى مصابرة أكثر. وأما نسخ حظر إلى أمر (3) إباحة، كقوله: (عَلِمَ اللهُ أنّكُمْ كنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عليْكمْ وَعفَا عنكمْ فَالآْنَ بَاشَرُوهُن وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لكُمْ وَكُلُوا وَاشْربُوا حَتّى يَتَبَيّن لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيضُ مِنَ الْخَيْط الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (4) فكان الأكل والشرب والمباشرة [113/أ] محظورَة، ثم نسخت. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (كنتم قد نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا إلا خيراً) ، فأباحه بعد الحظر. مسألة (5) يجوز نسخ الشيء بمثله، وأخف منه وأثقل. وهو قول الجماعة. واختلف أهل الظاهر فيما حكاه الحرزي في مسائله:   (1) (65) سورة الأنفال. (2) (66) سورة الأنفال. (3) غير واضحة في الأصل. (4) (187) سورة البقرة. (5) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (201) ، و"التمهيد في أصول الفقه" = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 785 فذهب جماعة منهم إلي هذا. ومنع منه آخرون، وقالوا: لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل، وهو قول أبي [بكر بن] (1) داود. دليلنا: أن الله تعالى أوجب الصوم في أول الإسلام على التخيير. ثم نسخ ذلك وحتمه: والانحتام أغلظ من التخيير. وهكذا كان حد الزاني في أول الإسلام الحبس (2) بقوله تعالى: (وَالَلاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نسائِكُم فَاسْتَشْهِدُوا عَليْهِن أَرْبعة مِنْكمْ فَإنْ شَهِدُوا فأَمْسكوهُن فِي الْبُيوتِ حَتّى يَثوَفاهن الْمَوْتُ أَوْ يجْعلَ الله لهن سَبِيلاً) (3) ثم نسخ ذلك، وجعل حد البكر الجلد والتغريب، والثيب الجلد والرجم. وهذا نسخ شيء إلي ما هو أغلظ منه وأشد، فثبت جواز ذلك. ولأن حقيقة النسخ: الرفع والإزالة، وإثبات الحكم الثاني طريقه ابتداء شرع، لا أنه من مقتضى الحكم الأول وموجبه، ألا ترى أن الله تعالى لو رفع حكماً ولم يثبت مكانه شيئاً آخر كان ذلك نسخاً، فلم يمتنع أن يزيل حكماً ويثبت مكانه أغلظ منه وأشد؟   = الورقة (95/ب) ، و"الواضح في أصول الفقه" الجزء الثاني الورقة (235/أ-239/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (1/217-225) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (261) . (1) الزيادة من "التمهيد في أصول الفقه" لأبي الخطاب الورقة (95/ب) . (2) في الأصل: (في الحبس) ، و"في" هنا زائدة، لا معنى لها. (3) (15) سورة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 786 ولأنه لا يمتنع أن تكون المصلحة في الأغلظ، وفيما مضى من الأخف. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (ما ننْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نَنْسأها نَأت بِخيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (1) ومعلوم أنه لم يرد بقوله: خيراً منها فضيلة الناسخ على المنسوخ؛ لأن القرآن كله متساوي الفضيلة، فعلم أنه إنما أراد بالخير الأخف. والجواب: أن الشيء إنما يوصف بأنه خير من غيره؛ لأن النفع الذي فيه يكون موفياً على النفع الذي في غيره. ألا ترى أنك تقول: فعْلُ الفرض خير لك من فعل النافلة، تريد (2) أنه أنفع له (3) ، ومعلوم أن النفع في الفعل، إنما يكثر بكثرة المشقة فيه، أو بكثرة انتفاع غير الفاعل به، بدلالة أن القتال في سبيل الله أكثر نفعاً في باب الثواب من الصوم؛ لأن المشقة فيه أكثر من المشقة في الصوم، وإن دعوة نبينا إلى دين الله تعالى كانت أعظم ثواباً من دعوة غيره من الأنبياء عليهم السلام. لأنه قد انتفع بها أكثر مما انتفع بدعوة غيره، [113/ب] إذ كان من أجابه إليها أكثر ممن أجاب إلى دعوة غيره من النبيين، وإن كان فيهم من لحقه من المشقة أكثر مما لحق نبينا عليه السلام، فإذا كان فعل الأشق أنفع من فعل الأخف في باب الثواب وجب أن يكون أنفع منه، فيصح النسخ به. واحتج بأن النسخ في اللّغة هو الإزالة، وإسقاط العبادة، فمقتضاه التخفيف دون التثقيل.   (1) (106) سورة البقرة. (2) في الأصل: (يريد) ، بالمثناة التحتية. (3) في الأصل: (به) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 787 والجواب: أن الإزالة والإسقاط موجود ها هنا، لأنه رفع ما كان عليه من الحكم السابق. وقولهم: إن كل مقتضاه التخفيف ليس كذلك؛ لأن الحكم الثانى ابتداء شرع، لا أنه من كل مقتضى الحكم الأول وموجبه. واحتج بأن الله تعالى نسخ الشيء رحمه للمكلف وطلباً لنفعه، فيجب أن لا ينسخ إلا بما هو أخف منه؛ لأن ذلك أولى بالرحمة. والجواب: أن من رحمة الله تعالى له أن يكلفه أنفع الأشياء له، وأدعاها إلى عظيم ثوابه، وقد يكون ذلك فيما يشق عليه، كما يكون فيما هو أخف منه، بل قد يكون الأشق أنفع وأجزل لثوابه. وجواب آخر وهو: أن هذا يوجب أن لا يبتدىء أحداً بتكليف ما يشق عليه، لأن ذلك أخف وأسهل وأدعي إلى الرحمة، ويلزمه أن يكون الله تعالى إذا أسقط عبادة، أسقطها لا إلى بدل أصلاً؛ لأن ذلك أخف. مسألة (1) لا يجوز نسخ القرآن بالسنة شرعاً، ولم يوجد ذلك. نص عليه رحمه الله في روية الفضل بن زياد وأبي الحارث وقد سئل: هل تنسخ السنة القرآن، فقال: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، والسنة   (1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (201) ، و"التمهيد في أصول الفقه" لأبي الخطاب الورقة (97/ب) و"الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل الجزء الثاني الورقة (224/ب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 788 تفسر القرآن (1) . وبهذا قال الشافعي (2) . وقال أبو حنيفة: يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة (3) . وحكي ذلك عن مالك (4) والمتكلمين من المعتزلة (5) واختلف أهل الظاهر في ذلك (6) . دليلنا: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِن آية أو ننسها نأت بخير منها أَوْ مِثْلِها) (7) ، وقرىء: (نَنسَأهَا) (8) ، والمراد به من   (1) وهناك رواية ثانية عن الإمام أحمد، ذكرها أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة (97/ب) واختارها وهي أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة. على أن هناك أيضاً رواية ثالثة عن الإمام أحمد، ذكرها ابن عقيل في كتابه "الواضح" الجزء الثاني الورقة (246/أ) وهي: أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة والآحادية. (2) راجع في هذا: "الرسالة" للإمام الشافعي ص (56) ، و"المنخول" للغزالي ص (292) . (3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/203) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/78) . (4) راجع: "شرح تنقيح الفصول" ص (311-312) . (5) راجع: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري، باب نسخ القرآن بالسنة (1/424-431) . (6) لم يذكر ابن حزم خلافاً في ذلك، بل ذكر أن السنة تنسخ القرآن، سواء كانت منقولة بالتواتر أو بالآحاد، وذلك في كتابه: "الإحكام" (4/477) . (7) (106) سورة البقرة. (8) سبق أن تكلمنا عن القراءتين في هذه الآية في هامش مسألة : يجوز نسخ الشرائع عقلاً وشرعاً ص (769) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 789 التأخير، ومنه: بيع النسيئة، وهو البيع إلى أجل، فكأنه قال: أو نَنْسَأه فلا ننسخه إلى مدة، فأخبر الله تعالى أن كل ما ينسخ من القرآن، فإنما ينسخ بخير منه أو بمثله، والسنة ليست بخير من القرآن ولا بمثل له، فلا يجوز أن يقع نسخ القرآن بالسنة، لأن خبر الله تعالى لا يقع بخلاف مخبره، يبين صحة هذا قوله: (نَأت بِخيْرِ منْهَا) ، وهذا إنما يتناول القرآن [114/أ] الذي يأتي من عند الله دون السنة التي يأتي بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويبين صحة ذلك قوله: (إنَّ الله علىَ كل شَيْء قَديِرٌ) ، فاقتضى ذلك: أن ما يأتي به مما يختص بالقدرة عليه، وهو القرآن دون السنة التي يتعلق بها قدرة غيره. فإن قيل: الآية تقتضي أنه إذا نسخ آية يأتي (1) بخير منها أو مثلها، وليس فيه أن ما يأتي به يكون هو الناسخ، بل يجوز أن يكون الناسخ غيره. قيل: قوله تعالى: (نَأت بخَيْرِ منْهَا) يقتضي أن يكون ما يأتي بدلاً (2) عما نسخه، وإنما يكون بدلاً عنه إذا كان ناسخاً، فأما إذا كانت آية مبتدأة فلا يكون بدلاً عنها. يبين صحة هذا أن قوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةِ) شرط، وقوله: (نَأتِ بِخَيْرٍ منْهَا) جزاء، لأن "ما" يجازى بها، كما يجازى "بمن"، ولهذا جزم قوله: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا) ، وقال تعالى في سورة فاطر: (مَا يَفْتَح اللهُ للِنّاس مِن رَحْمَة فَلاَ مُمْسِك لَهَا وَمَا يُمسك فلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) (3) ،   (1) في الأصل (يأت) . (2) في الأصل: (بدل) بالرفع. (3) (2) سورة فاطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 790 وإذا كان كذلك وجب أن يكون الجزاء متعلقاً بالشرط، ولهذا نقول: إذا قال: "ما تصنع أصنع، وما أخذه أعطه مثله"، إن الثاني موجب بالأول ومفعول لأجله، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون ما يأتي به ناسخاً. فإن قيل: فلا خلاف أنه يجوز نسخه بغير قرآن، بأن ينسيه الله تعالى من حفظه ورفعه عن أوهامهم. قيل: ما ينسيه ويرفعه يجرى مجري القرآن، لأنه من جهة الله تعالى. فإن قيل: قوله تعالى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا) في النفع، وقد يكون ما ثبت بالسنة أنفع لنا في باب المصلحة مما ثبت بالآية المنسوخة. يبين صحة هذا أن التلاوة لا يكون بعضها خيراً من بعض، وإنما يكون ذلك في النفع، فيكون بعض الأحكام أسهل. قيل: الآية تقتضي أن تكون خيراً منها في النفع من القرآن، كما إذا قال القائل: "ما آخذ منك ثوباً إلا أعطك (1) خيراً منه أو مثله، وما آخذ منك درهماً إلا أدفع إليك مثله أو خيراً منه"، يقتضي ثوباً مثل ثوبه أو خيراً منه، ودرهماً مثل درهمه أو خيراً منه. وجواب آخر وهو: أن قوله: (نأتِ بخير منها أو مثلها) يقتضي [الخيرية أو المثلية] من كل وجه، والقرآن المنسوخ فيه معجز، فيجب أن يكون الناسخ معجزاً، والسنة ليس فيها معجز، والقرآن في امتثال حكمه ثواب، وفي تلاوته ثواب، وكل واحد منهما عبادة، والسنة: الثواب في جهة واحدة منها، وهو امتثال حكمها، فأما درسها وتلاوتها، فليس بعبادة ولا ثواب، وإذا كان كذلك، لم تكن السنة مثلاً للقرآن، والآية تقتضي أن النسخ بالمثل أو بخير منه.   (1) في الأصل: (أعطيك) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 791 فأما قولهم: إن التلاوة لا يكون بعضها خيراً من بعض، فلا يصح؛ لأنه قد يكون [114/ب] بعضها خيراً من بعض، على معنى أنها أكثر ثواباً، مثل سورة "طه" و"يس"، وما أشبه ذلك. وقد يكون في بعضها من الإعجاز في اللفظ والنظم أكثر مما في البعض وقد كانت العرب تعجب من بعض، ولا تعجب من بعض. وعلى أنا لو سلمنا أنه لا يجوز في التلاوة تفاضل، فإننا نحمل قوله: (نأت بخيرٍ منْها) على الحكم، وقوله: (أَوْ مِثْلِها) على التلاوة ولا شك أن المماثلة متأتية في التلاوة، ولا يتأتى أن يقال ذلك في السنة، فإنها ليست مثل القرآن. ويدل عليه ما روى الدارقطني (1) في سننه في جملة النوادر قال: حدثنا محمد بن مخلد (2) ، حدثنا محمد بن داود القنطري أبو جعفر الكبير (3) .   (1) هو الحافظ الإمام علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن البغدادي. روى عن البغوي وابن صاعد وغيرهما. وعنه الحاكم وأبو حامد الاسفراييني وغيرهما. له كتب منها: "السنن"، و"العلل"، و"الافراد". ولد سنة (306) ومات سنة (385) . له ترجمة في: "البداية والنهاية" (11/317) ، و"تاريخ بغداد" (12/34) ، و"تذكرة الحفاظ" (3/991) ، و"شذرات الذهب" (13/116) ، و"غاية النهاية" لابن الجزري (1/558) ، و"طبقات الحفاظ" ص (393) ، و"اللباب" (1/404) ، و"المنتظم" (7/183) ، و"النجوم الزاهرة" (4/172) . (2) هو: محمد بن مخلد بن حفص أبو عبد الله الدوري العطار الخضيب، ثقة مأمون. روى عن مسلم بن الحجاج والحسن بن عرفة. وعنه الدارقطني مات سنة (331 هـ) وله من العمر ثمان وتسعون سنة. له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (3/310) ، و"تذكرة الحفاظ" (3/828) ، و"طبقات الحفاظ" ص (344) . (3) روى عن جبرون بن واقد حديثين باطلين، كما قال الذهبي في "الميزان" (3/ = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 792 حدثنا جبرون بن واقد (1) ببيت المقدس، حدثنا سفيان بن عيينة (2) عن أبي الزبير (3) عن جابر بن عبد الله (4) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كلامي لا   = 540) ، ونقل عن ابن عدي أنه ذكر الحديثين في ترجمة جبرون، وقال: "تفرد بهما محمد"، يعني محمد بن داود القنطري. (1) هو: جبرون بن واقد الإفريقي. روى عن سفيان بن عيينة، وعنه محمد بن داود القنطري، قال الذهبي في "الميزان" (1/387) : "متهم" وقال في "المغني في الضعفاء" (1/127) ليس بثقة، روى بقلة حياء عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر "كلام الله ينسخ كلامي" ... "الحديث". (2) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون أبو محمد الهلالى الكوفي. الإمام المتقن. روى عن عمرو بن دينار والزهري وخلق. وعنه الشافعي وابن المديني وابن معين وخلائق. مات بمكة سنة (198هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/174) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/262) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (123) ، و"شذرات الذهب" (1/354) ، و"غاية النهاية" (1/308) ، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/190) ، و"ميزان الاعتدال" (2/170) . (3) هو: محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير الأسدي المكي. روى عن جابر وابن عمر وابن عباس وغيرهم. وعنه مالك والسفيانان والزهري وغيرهم. وثقه ابن معين والنسائي وابن المديني، وضعفه ابن عيينة وآخرون مات سنة (128 هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/126) ، و"تهذيب التهذيب" (9/440) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (360) ، و"ميزان الاعتدال" (4/37) . (4) هو جابر بن عبد الله أبو عبد الله الأنصاري. صحابي جليل. كان من المكثرين الحفاظ للسنن كما قال ابن عبد البر. كف بصره في آخر حياته مات سنة (74 هـ) وهو ابن اربع وتسعين سنة على ما قيل. له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/219) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/43) و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (50) . و"شذرات الذهب" (1/84) و"النجوم الزاهرة" (1/198) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 793 بنسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً) (1) وهذا نص. فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد. قيل: قد سبق الجواب عن مثل هذا في غير موضع. ولا يصح حمله على أخبار الآحاد، لأن تعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسقطه، وهو قوله: (كلام الله ينسخ بعضه بعضاً) . وأيضا: فإنه لا يجوز نسخ الأخبار المتواترة بأخبار الآحاد، لضعف الآحاد وقوة التواتر، كذلك لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة، لأن السنة أضعف من الكتاب من وجهين: أحدهما: أن الكتاب فيه إعجاز، والسنة لا إعجاز فيها. والكتاب في قراءته ثواب، وليس في قراءة السنة ثواب، فلم يصح نسخ القوي بالضعيف، كما لم يجز نسخ الأخبار المتواترة بالآحاد والقياس. فإن قيل: هذه القوة في اللفظ، فأما الحكم فهما متساويان فيه. قيل: الخلاف في نسخ اللفظ ونسخ الحكم واحد، فإنه (2) عند المخالف يجوز أن ترد السنة بنسخ تلاوة القرآن، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا لا تقرأوا هذه الآية. فتصير تلاوتها منسوخة بالسنة.   (1) هذا الحديث أخرجه الدارقطني في "سننه" في جملة النوادر كما قال المؤلف. وذلك في (4/145) ، وهو حديث هالك؛ لأن فيه محمد بن داود القنطري، وجبرون بن واقد، وكل منهما متكلم فيه، بما سبق بيانه في ترجمة كل واحد منهما. وقد حكم عليه الذهبي في كتابه "الميزان" (1/388) بالوضع، حيث قال بعد أن ذكره وذكر حديثاً آخر: "تفرد به القنطري وبالذي قبله، وهما موضوعان". (2) في الأصل: (فإن) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 794 وعلى أن الحكم إذا نسخ صار اللفظ منسوخاً، وإن كان يتلى، فإنه يقال: هذه آية منسوخة متى كان الحكم مرتفعاً. ولأنه متى نسخ الحكم تعطل اللفظ وخرج عن كونه مفيداً، فكما لا يجوز نسخ اللفظ بالأمر الضعيف، لا يجوز نسخ حكمه أيضاً، ألا ترى أنه لما لم يجز نسخ لفظ الكتاب بأخبار الآحاد، لم يجز نسخ حكمه. فإن قيل: لو كان الاعتبار بما ذكره، لوجب أن يجيزوا نسخ ما لا إعجاز فيه، وهي الآية الواحدة. قيل: في الآية الواحدة إعجاز، ولو لم يكن فيها إعجاز، فهي من جنس المعجز، وفيها إعجاز وثواب، وليست السنة من جنس المعجز، ولا في تلاوتها ثواب. فإن قيل: درس السنة وتعليم العلم [115/أ] عبادة، وفيه ثواب. قيل: يريد بذلك بعد تعلمها وحفظها، فإن تلاوتها لا ثواب فيها، وهذا لا خلاف فيه. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لِتُبَينَ للِنّاسِ مَا نُزلَ إلَيْهِم) (1) والنسخ ضرب من البيان، كالتفسير والتخصيص. والجواب: أنه قد قيل: إن التبيين ها هنا هو التبليغ عن الله تعالى. وقد قيل: النسخ ليس بيان للمنسوخ، وإنما هو إزالة وإسقاط حكمه. وعلى أن هذا محمول على التخصيص بدليل ما ذكرنا. واحتج بأنه دليل مقطوع عليه، فجاز النسخ به كالآية.   (1) (44) سورة النحل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 795 والجواب: أنه يبطل بالإجماع، فإنه بهذه الصفة، ولا يجوز النسخ به. وعلى أنه لا يمتنع أن يتفق دليلان في هذه الصفة، ويختلفا في النسخ، كما أن القياس وخبر الواحد يتفقان في أن طريق كل واحد منهما غلبة الظن، ويجوز النسخ بخبر الواحد، ولا يجوز بالقياس، وكذلك الإجماع والسنة يتفقان في العلم بكل واحد منهما، ولا يجوز النسخ بالإجماع، ويجوز بالسنة. فإن قيل: إذا أجمع أهل عصر على خلاف حكم القرآن، حكمنا بأنه منسوخ. قيل: الإجماع لا يكون ناسخاً؛ لأن الناسخ هو الوحي، والإجماع لا يصح إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والوحي قد انقطع بعده، ومتى وجدنا خبر الإجماع على خلافه، تركناه بالإجماع، ولا نقول: نسخ بالإجماع بل يستدل بالإجماع على نسخه؛ لأنه لو كان الخبر ثابتاً لما خرج عن الأمة؛ لأن الأمة ضبطوا الأخبار. فإن قيل: المجمعون لا يقولون: إنا ننسخه، وإذا لم يوجد ذلك منهم، لم يتصور النسخ من جهتهم. قيل: نقول في السنة كذلك، لأن النسخ لا يوجد من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله تعالى أخبر أن نسخ القرآن لا يكون من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجواب آخر وهو أن السنة المتواترة، وإن ساوت الكتاب فيما ذكروه، من القطع، فهي مخالفة له في الإعجاز، وفي حصول الثواب في قراءتها، فلم يصح وقوع نسخه بها، وإن ساوته في العلم والعمل، كما لا يجوز نسخه بالإجماع، وإن ساواه في العمل والعلم. واحتج: بأن النسخ كالتخصيص؛ لأن النسخ لا يقتضي تخصيص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 796 الأعيان، والتخصيص لا يقتضي تخصيص الزمان، ثم ثبت أن تخصيص الكتاب يجوز بالسنة، كذلك النسخ. والجواب: أنه يبطل بخبر الواحد وبالقياس، فإن التخصيص بهما [جائز] ، ولا يجوز النسخ بهما، وعلى أن النسخ مفارق للتخصيص؛ لأن النسخ يزيل حكم اللفظ كله، والتخصيص يبقي بعضه، ولا يسقط [115/ب] جملته، فافترقا. واحتج: بأن النسخ إنما يقع في الحكم، والسنة في إثبات الحكم بمنزلة الكتاب، فصح نسخ حكمه بها. والجواب: أنا قد بيّنا أنه لا فرق عند المخالف بين نسخ الحكم وبين نسخ التلاوة. وعلى أنهما وإن تساويا في إثبات الحكم، فهما مختلفان فيما ثبت به الحكم، فحكم الكتاب ثبت بلفظ معجز، وحكم السنه ثبت بلفظ غير معجز، فلم يجز نسخ ما ثبت بأمر قوي بما ثبت بأمر ضعيف، وإن تساوى الحكمان، ألا ترى أنه لا يجوز نسخ حكم خبر الواحد بالقياس؛ لقوة الخبر الواحد وضعف القياس، وإن كان حكمهما متساوياً، بأن طريقهما معاً غلبة الظن. واحتج: أنه إنما جاز النسخ إلى غير بدل؛ لأننا نجوز أن يكون قد نسخ بما هو مثله أو أقوى منه، وليس يوجب ذلك جواز النسخ إلى بدل هو أضعف منه، ألا ترى أنه يجوز النسخ إلى غير بدل، ولا يجوز النسخ إلى بدل هو خبر واحد أو قياس. واحتج: بأن ذلك قد ورد في الشرع، وذلك أن الله تعالى أوجب الوصية للوالدين والأقربين، ونسخ ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وصية لوارث) ، وكذلك نسخ حد الزنا من الحبس والأذى بقوله عليه السلام: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 797 (خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) (1) . ونسخ قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ (2) عند الْمَسْجِدِ الْحرَامِ) (3) بقوله لما قيل له: إن   (1) هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً، أخرجه عنه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الزنا (3/1316) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحدود، باب في الرجم (2/455) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم على الثيب (4/41) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب حد الزنا (2/852) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الحدود، باب في تفسير قوله تعالى: (أوْ يجعلَ اللهُ لَهُن سبيلاً) (2/101) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/476) . وأخرجه عنه الإمام الشافي في كتاب الحدود باب رجم الزاني الحصن وجلد البكر وتغريبه (2/286) . وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الحدود، باب رجم الزاني المحصن وجلد البكر وتغريبه (1/298) . راجع في هذا الحديث أيضاً: "ذخائر المواريث" (1/280) ، و"نصب الراية" (3/329) . (2) القراءة في قوله تعالى: (وَلاَ تَقتلُوهُمْ عنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام حَتى يَقْتُلُوكمْ فيه) التي أثبتها المؤلف في قوله تعالى: (تَقْتُلُوهُمْ) . وكررَها بعد ذلك. بغير ألف في الموضعين، وهي قراءة حمزة والكسائي. وقرأ الباقون: (ولاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِد الْحَرَامِ حَتى يُقَاتِلوكُمْ فِيهِ) بالألف فيهما. راجع في هذا: "تفسير الطبري" (3/566-569) ، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص (155) وحجة القراءات ص (127،128) . (3) (191) سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 798 ابن خطَل (1) متعلق بأستار الكعبة-: (اقتلوه) (2) . والجواب: أن الوصية منسوخة بآية المواريث، فلهذا قال عليه السلام: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) . وأما حد الزنى فمنسوخ بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا   (1) هو عبد الله بن خطل التميمي. أسلم، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً، وكان له غلام مسلم، وحدَث مرة أن أمر غلامه أن يصنع له طعاماً، ثم نام، فلما استيقظ إذا بالغلام لم يعمل شيئاً، فعدى عليه، فقتله. ثم ارتد عن الإسلام. ولم يقف أمره على هذا، بل اتخذ في قينتين يغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فتحت مكة رأى ابن خطل أنه هالك، فذهب إلى الكعبة، وتعلق بأستارها، عله ينجو، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أمر بقتله، فاشترك في قتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، وذلك عام الفتح سنة (8) من الهجرة. راجع: "تاريخ الطبري" (2/335) ، و"السيرة النبوية" لابن هشام القسم الثاني ص (409) . (2) هذا الحديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح (5/188) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام (2/989-990) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الاسلام (2/54) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الجهاد، باب ما جاء في المغفر (4/202) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب دخول مكة بغير احرام (5/158) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب السير، باب كيف دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر (2/140) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/164) . وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الحج، باب جامع الحج ص (273) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 799 كل وَاحِدٍ منهَما مائة جَلْدَة) (1) . وأما في الثيب المحصن، فإنه منسوخ بآية الرجم التي نسخ رَسمها. وقيل: إن آية الحبس لم تنسخ؛ لأن النسخ: أن يرد لفظ عام يتوهم دوامه، ثم يرد ما يرفع بعضه، والآية لم ترد بالحبس على التأبيد، وإنما وردت إلى غاية، وهو أن يجعل الله تعالى لهن سبيلاً، فأثبت الغاية، فوجب الحد بعد الغاية بالخبر. وقيل: إن آية الحبس (2) وآية الأذى في الأبكار، والمراد بالأولى النساء، والثانية الرجال، ونسختهما جميعاً آية الحد، فثبت ابتداء بالسنة (3) . وأما قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوهمْ عنْدَ الْمَسْجِدِ الْحرَام) (4) منسوخ (5) بقوله تعالى: (اقْتلوا الْمُشْركينَ حيْثُ وَجدْتُمُوهمْ) (6) .   (1) (2) سورة النور. (2) غير واضحة في الأصل. (3) راجع تفسير الآيتين في "تفسير الطبري" (8/73-88) . (4) (191) سورة البقرة. (5) اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؟ فذهب قتادة والربيع إلى أنها منسوخة، ورجحه الطبري. وذهب مجاهد إلى أنها محكمة، فلا يجوز مقاتلة أحد في المسجد الحرام إلا في حالة اعتداء الكافرين بالقتال فيه. راجع: "تفسير الطبري" (3/567-569) . (6) (5) سورة التوبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 800 مسألة (1) فأما نسخ القرآن بالسنة من جهة العقل، فلا يمتنع جوازه. واختلف أصحاب الشافعي: [116/أ] فمنهم من أجاز ذلك عقلاً. ومنهم من منعه، وقال: لا يجوز عقلاً ولا شرعاً. فالوجه في جوازه عقلاً: أن النسخ تعريف بقضاء مدة العبادة وإعلام سقوط مثل ما كان واجباً بالمنسوخ، وارتفاعه فيما يستقبل من الزمان، والمعرفة بذلك تقع بالسنة كما تقع بالقرآن. والوجه لمن منع من ذلك: أنه يؤدي إلى الارتياب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يدل عليه قوله تعالى: (وَإذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ) (2) فلما كان نسَخَ القرآن بالسنة يزيد في ارتيابهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم - لم يجز نسخه: بل ينسخ بقرآن مثله؛ ليكون أقطع لشكوكهم، وأشد إبطالاً لدعاويهم. والجواب: أن المشركين كانوا ينسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الافتراء إذا بدلت آية بآية مكانها، وهكذا حكى الله عنهم، فلو كان فعلهم ذلك مانعاً من جواز نسخ القرآن بالسنة، لمنع أيضاً من جواز نسخ القرآن بالقرآن.   (1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (202) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (97/ب-100/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (1/224-227) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (264) . (2) (101) سورة النحل. راجع في تفسير هذه الآية: "تفسير الطبري" (4/176) طبعة الحلبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 801 مسألة (1) يجوز نسخ السنة بالقرآن أومأ إليه أحمد رحمه الله فقال عبد الله: سألت أبي عن رجل أخذ منه الكفار عهد الله وميثاقه أن يرجع إليهم، قال فيه: خلاف، قلت لأبي: حديث أبي جندل، قال: ذلك صالح على أن يردوا من جاءهم مسلماً (2) ، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال، ومنع النساء ونزل فيهم: (فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤمنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) (3) . وظاهر هذا أنه أثبت نسخ السنة (4) بقرآن. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة (5) . وللشافعي قولان: أحدهما مثل هذا، والثاني: لا يجوز نسخ السنة بالقرآن (6) .   (1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (205) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (264) ، و"روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (1/223-227) . (2) في الأصل: (سلماً) . (3) (10) سورة الممتحنة. وراجع تفسيرها في: "تفسير الطبري" (28/69) طبعة الحلبي. (4) في الأصل: (النسخ القضية) . (5) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/202) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/78) . (6) اختار الإمام الغزالي القول بالجواز، كما في كتابه "المستصفى" (1/124) ، وذكر الجلال المحلى في "شرحه على جمع الجوامع" (2/80) أن بعض الأصحاب حكى عن الإمام الشافعي القول بالمنع جزماً. وبعضهم حكى عنه القولين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 802 دليلنا: قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا علَيْكَ (1) الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكلِّ شَيْء) (2) والنسخ تبيان مدة الحكم، فوجب (3) أن يجوز بالكتاب. ولأن الكتاب أقوى من السنة، فإن السنة فيها ما يوجب العلم والعمل، وفيها ما يوجب العمل دون العلم، والكتاب كله يوجب العلم. ولأن في الكتاب إعجازاً، وليس في السنة إعجاز، فإذا جاز نسخ السنة بمثلها، فبأن يجوز نسخها بما هو أقوى منها أولى. ألا ترى أنه لما جاز نسخ خبر الواحد بخبر الواحد، كان جواز نسخه بالمتواتر أولى. ولأن القرآن ثابت بوحي من عند الله تعالى، كما أن السنة التي بوحي ثابتة من قبله، فإذا كان كذلك، وجاز نسخ السنة بسنة مثلها، وجب أن يجوز بالقرآن. وأيضاً: فإنه قد وجد نسخ السنة بالقرآن في مواضع: من ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم-[116/ب] صالح من شاء عام الحديبية، على أن يرد إليهم من جاءه كل منهم من المسلمين، وجاءه أبو بصير (4) وأبو   (1) في الأصل: (اليك) . (2) (89) سورة النحل. (3) في الأصل (وجب) بدون الفاء. وراجع في تفسير هذه الآية "تفسير الطبري" (4/161) طبعة الحلبي. (4) هو: عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد.. أبو بصير الثقفي. اشتهر بكنيته ورد ذكره في قصة صلح الحديبية. وقد مات بعد ذلك بقليل؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رده لما جاءه مسلماً، وذلك حسب شروط صلح الحديبية، فخرج هو وأبو جندل إلى الساحل، وكانوا يتعرضون لعير قريش وغيرها. فأرسلت قريش = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 803 جندل، فردهما (1) ، ثم جاءت امرأة مهاجرة، فمنع الله تعالى من ردها، ونسخ ذلك بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) إلى قوله: (فَلاَ تَرْجعُوهُنَّ إلى الْكُفارِ) (2) ، وهذا نسخ سنة بقرآن (3) . وكذلك أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم الخندق الظهر والعصر والمغرب حتى بعد المغرب بهوي (4) من الليل، فصلاها (5) ، ثم نسخ تأخيرها بالقرآن، وهو قوله: (فَإنْ خِفْتمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) (6) ، وقوله: (فَإذَا كُنتَ فيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ) (7) .   = إلى النبي صلى الله وسلم ترجوه أن يضمهم إليه في المدينة، فكتب إليهما ولكن وصل الكتاب وأبو بصير يحتضر فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فصلى عليه أبو جندل، ودفنه في مكانه. له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1612) ، و"الإصابة" (2/213) . (1) قصة صلح الحديبية. وما جرى لأبي جندل وأبي بصير أخرجهما البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (5/162) . (2) (10) سورة الممتحنة. (3) راجع تفسيرها في "تفسير الطبري" (28/69) طبعة الحلبي. (4) الهَويّ بفتح الهاء وكسر الواو بعدهما ياء مشددة: السقوط من أعلى إلى أسفل. والمراد هنا: ذهاب جزء من الليل. انظر "المصباح المنير" مادة (هوى) . (5) هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه. أخرجه عنه النسائي في كتاب الأذان، باب الأذان للفائت من الصلوات (2/15) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الحبس عن الصلاة (1/296) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (3/25) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب قضاء الفوائت (1/55) . (6) (239) سورة البقرة. راجع تفسيرها في: "تفسير الطبري" (2/572) ، طبعة الحلبي. (7) (102) سورة النساء. راجع تفسيرها في "تفسير الطبري" (5/250) ، طبعة الحلبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 804 ومن ذلك نسخ القبلة، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة صلى ستة عشر شهراً إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله ذلك بقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1) ، ومعلوم أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس لم يكن ثابتاً بقرآن، وقد نسخ بالقرآن. ومن ذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على عبد الله بن أُبي بن سلول (2) المنافق (3) ، ثم أنزل الله تعالى: (وَلاَ تُصَلِّ عَلىَ أحَدٍ منْهُم مَاتَ   (1) (144) سورة البقرة. (2) وقد توفي في شهر ذي القعدة من السنة التاسعة للهجرة. كما نقل ذلك ابن كثير عن ابن إسحاق في كتابه "البداية والنهاية" (5/34) . طبعة مكتبة المعارف ببيروت. (3) قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول المنافق واعتراض عمر رضي الله عنه على هذه الصلاة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "أخر عني يا عمر، إني خيرت، فاخترت، قد قيل لي "استغفر لهم" الآية، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له، لزدت"، قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره، حتى فرغ منه، قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم. قال: فوالله ما كان إلا يسيراً، حتى نزلت هاتان الآيتان: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قبرِهِ) الآية، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل. هذه القصة أخرجها البخاري عن عمر رضي الله عنه في كتاب التفسير، باب: سورة التوبة (6/85-86) . وأخرجها عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب: ومن سورة براءة (5/279) وقال فيه: (حديث حسن صحيح غريب) . وأخرجها عنه النسائي في كتاب الجنائز، باب الصلاة على المنافقين (4/54-55) . وأخرجها عنه ابن جرير الطبري في "تفسيره"، عند كلامه على تفسير آية (وَلاَ تُصَلِّ عَلَىَ أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً) (14/408) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 805 أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (1) . ونظائر ذلك كثير. واحتج المخالف: بقوله: (وَأنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ (2) لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم) (3) فجعل السنة بياناً للقرآن. فلا يجوز أن يكون القرآن بياناً للسنة. والجواب: أن المراد به التبليغ، يبين صحة ذلك: أنه يجوز تخصيص السنة بالقرآن، وكذلك يجوز تفسير مجمل السنة به. واحتج: بأنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وجب أن لا يجوز نسخ السنة بالقرآن. والجواب: أن القرآن أعلى من السنة، فلم يجز نسخ الأعلى بالأدنى، وجاز نسخ الأدنى بالأعلى، ألا ترى أن ما ثبت بخبر الواحد يجوز نسخه بما ثبت بالتواتر، وما ثبت بالتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد. واحتج: بأن القرآن أصل والسنة فرع له؛ لأنها بكتاب الله قبلت، وإذا كانت فرعاً، فلو قلنا: القرآن يبين معناها، لجعلناها أصلاً، والقرآن فرعاً.   = وذكر ذلك ابن كثير في "تفسيره" (2/378-379) عند تفسيره للآية المذكورة. كما ذكره في كتابه "البداية والنهاية" (5/35) طبعة مكتبة المعارف ببيروت، وذلك عند كلامه على وفاة عبد الله بن أبي بن سلول وقد سبق الكلام على هذه الآية ص (456) . (1) (84) سورة التوبة. (2) في الأصل: (الكتاب) . (3) (44) سورة النحل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 806 والجواب: أن هذا باطل بالتخصيص، فإن القرآن يخص عموم السنة، ومع هذا فلا يقضي إلى ما قالوا. واحتج: بأنه لو جاز نسخ القرآن بالسنة؛ لأفضى (1) إلى الاختلاط وهو أن بيانه ببيان الله تعالى، وهذا لا سبيل إليه. والجواب: أنه لا يختلط؛ لأن بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخصيص الأعيان، والنسخ: رفع الخطاب في المستقبل، فلا يختلط أحدهما بصاحبه. واحتج: بأن الشيء إنما ينسخ [117/أ] بجنسه، ألا ترى أن القرآن ينسخ بالقرآن والسنة بالسنة، والقرآن لا ينسخ بالسنة. والجواب: أن الشيء ينسخ بجنسه، أو بما هو أقوى منه، والقرآن أقوى من السنة، فوجب أن ينسخ به. مسألة (2) يجوز نسخ الحكم قبل فعله وبعد دخول وقته. وهذا لا خلاف فيه. واختلفوا في نسخه قبل وقت فعله: فقال شيخنا أبو عبد الله (3) : يجوز أيضاً. وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنه قال في رواية صالح   (1) في الأصل: (أفضى) . (2) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (207) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (95/ب-97/ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/203-208) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (256) . (3) يعني الحسن بن حامد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 807 وأبي الحارث في قوله: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا) (1) أن ذلك لجواز النسخ وأن الله تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما أحب. وظاهر هذا جواز النسخ في عموم الأحوال. وبهذا قال أكثر أصحاب الشافعي (2) ، وهو قول الأشعرية. وقال أبو الحسن التميمي من أصحابنا: لا يجوز (3) . وهو قول أصحاب أبي حنيفة (4) ، وأكثر المعتزلة (5) . وبعض الشافعية (6) . فالدلالة على جوازه: قوله تعالى في قصة إبراهيم: (يَا بُنَيّ إنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أذْبَحُكَ فَانْظُر مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَت افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (7) ، وَقوله: (إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) قال القتبي (8) في "غريب القرآن" (9) :   (1) (106) سورة البقرة. (2) راجع في هذا: "المنخول" للغزالي ص (297) و"المستصفى" له (1/112) ، و"الإحكام" للآمدي (3/115) . (3) وذكر في "المسودة" ص (207) أنه قد نُقِل عنه القولان. (4) هذا العزو غير محرر، فإن جمهور الحنفية يقولون بالجواز، وبعضهم يقول بعدم الجواز. ومنهم الكرخي والجصاص والماتريدي والدبوسي. راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/187) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/61/62) . (5) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري (1/407) . (6) هو: أبو بكر الصيرفي. كما حكى ذلك الآمدي في "الإحكام" (3/115) . (7) (102) سورة الصافات. (8) هو ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم الدينوري، أبو محمد، وقد مضت ترجمته في أول الكتاب ص (68) . (9) هذا الكتاب من أجود مؤلفاته، وقد نسبه إليه ابن العماد الحنبلي في كتابه: "شذرات الذهب" (2/169) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 808 معناه: إني سأذبحك. فكأنه أمر بذبحه في المنام، وكانت رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحياً، يجب العمل به، ولهذا قال: (افعل ما تؤمر) ثم نسخه: (بذبح عظيم) ، وهذا نص يدل على جواز نسخ الحكم قبل وقته. فإن قيل: إبراهيم كان مأموراً بمقدمات الذبح، من الإضجاع وأخذ المُديَة ونحو ذلك. دون الذبح نفسه، وإنما سمي ذلك ذبحاً؛ لأن مقدمة الشيء قد تسمى باسم ذلك الشيء، ألا ترى أنهم يسمون النائحة باكية؛ لأنها تفعل مقدمات البكاء والأسباب التي يبكي عندها. وكذلك يسمى المريض المخوف عليه ميتاً؛ لحصول مقدمات الموت. قالوا: ويبين هذا قوله تعالى: (قَدْ صَدّقْتَ الرؤيَا) (1) ، ولو كان الواجب عليه الذبح بعينه، لم يكن قد صدق رؤياه وهو لم يذبحه، فعلم بذلك أنه كان مأموراً بمقدمات الذبح. قيل: هذا لا يصح لوجوه: أحدها: أنه قال: (إنِّي أَرَىَ فِي الْمَنَامِ) والذَّبح: اسم للشق والفتح، ولا يعبر به عن مقدماته، لا حقيقة ولا مجازاً. ومنه قول الشاعر: كأن بين فَكِّها والفَكِّ ... فَأرةُ مِسْك ذُبِحَت في سَكِّ (2) يعني به: الفتح والشق.   (1) (105) سورة الصافات. (2) هذا الرجز للشاعر منظور بن مرثد الأسدي. هكذا نسبه ابن يعيش في شرحه على المفصل (4/138) ، وفي (8/91) ، وذكر قبله قوله: يا حبذا جارية من عَكِّ ... تَعْقِد المُرْطَ على مِدَك مثل كثيب الرمل غير رَكِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 809 الثاني: قوله: (سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) ، وليس في مقدمة الذبح ما يحتاج إلى الصبر. الثالث: أنه قال: (إنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاَءُ الْمُبِينُ) (1) ، ولا يجوز أن يفخم هذه التفخيم، والمأمور به مقدمة الذبح. الرابع: قوله: (وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (2) ، ولا يكون [117/ب] الفداء مع الامتثال للأمر. وأما قوله: (قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيَا) فقد قيل معناه: التصديق بالقلب؛ لأن حقيقة التصديق بالقلب فكأنه قال: لما صدقت وآمنت واعتقدت وجوبه وعزمت على فعله جزيناك كما نجزي المحسنين، فنسخنا عنك فعل الذبح بذبح كبش. وقيل فيه جواب آخر: أن النسخ إذا ورد قبل وقت الفعل، تبيَّنا أن المراد به إيجاب مقدمات الفعل، وكل النسخ هكذا؛ لأن النسخ تخصيص الزمان، وبيان لما لم يرد باللفظ، كالتخصيص في الأعيان، ولا نقول: إن الله تعالى نسخ ما أمر به وأوجب علينا فعله؛ لأن ذلك يؤدي إلى البداء على الله تعالى. وقيل فيه جواب آخر وهو: أنه يحتمل أن يكون الأمر بالذبح أراد به ما لم أنسخه عنك، ومعناه: افعل في وقت كذا، ما لم أنسخه عنك، فإذا نسخه قبل وقته تبيَّنا أن الذبح لم يكن مأموراً به، وإنما أمره أن يعتقد وجوبه، ويعزم على فعله بهذا الشرط. والجواب الصحيح عندي هو الأول؛ لأن الثاني والثالث تسليم لما قاله   (1) (106) سورة الصافات. (2) (107) سورة الصافات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 810 المخالف؛ لأن عنده: أن المأمور به أمارات الذبح. وعنده أيضاً: أنه يصح تعليق الأمر بشرط التمكن. فإن قيل: إنما تعبده الله تعالى بذبح لا تبطل الحياة عنده، فكان كلما، قطع جزءاً من موضع الذبح ألحمه الله تعالى وأعاده إلى حاله، فكان الفداء واقعاً من الذبح الذي تبطل الحياة عنده. قيل: القرآن يقتضي أن يكون الذى فعله تلَّه للجبين، ثم جاءه النداء والفداء، فلم يجز أن يقال: إنه ذبحه. ولأن لو كان ذبحه لذكره، وكان ذكره أولى من ذكر تلَّه للجبين. ولأنه ذلك معجزة عظيمة، وآية كبيرة، فلو كان كما قال، لوجب أن يكون قد ذكرها وتواتر النقل بها. ولأنه لو كان فعل الذبح لم يكن الذبح فداءً، وإنما يكون الذبح فداءً، إذا لم يكن فعل الذبح. فإن قيل: فقد روي أن الله تعالى ضرب على مذبحه صفيحة من نحاس، فكان إيراهيم كلما وضع المُدْية على الموضع انقلبت ولم يقع بها قطع (1) . قيل: هذا لا يصح على أصل المخالف لوجهين: أحدهما: أنه لا يصح تكليف ما لا يطاق. وهذا تكليف ما لا يطاق. والثاني: لا يكون الأمر أمراً إلا بإرادة الآمر، وإذا حال بينه وبين الفعل لم يُردْه. وأيضاً: فإن نسخ الفعل بعد التمكين من اعتقاد وجوبه يجوز، أصله الفعلُ الثاني والثالث.   (1) هذا أثر أخرجه الطبري في تفسيره، في سورة الصافات (23/78) بسنده إلى السدي، طبعة الحلبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 811 يبين صحة هذا أن الأمر يوجب على المكلف أن يعتقد وجوب فعل تلك العبادة عند دخول وقتها والعزم على فعلها، ويصير بذلك مطيعاً، فإذا نسخت (1) عنه قبل دخول الوقت، فقد نسخت بعدما صار مطيعاً [118/أ] ومثاباً شيء تضمنه حكم الأمر، فجاز ذلك، كما لو أمر بفعل عبادات ففعل بعضها، جاز نسخ الثاني، ولا فصل بين الأمرين. والمعتمد على الآية. واحتج المخالف: بأن الأمر بالعبادة يقتضي الأمر بالحسن، والنهي يقتضي القبح، فلو كان الأمر بالفعل قد دل على حسنه كان النهي عنه قبل مجيء وقته نهياً عن حسن، والنهي عن الحسن قبيح، كما أن الأمر بالقبيح قبيح، وهذا لا يجوز في صفات الله تعالى. والجواب: أن الأمر يقتضي الحسن ما دام الأمر باقياً، فأما بعد زواله، فإنه يقتضي قبحه (2) ، والأمر على هذا الوجه ورد، وهو أن الفعل يكون حسناً مع بقائه، ما لم يرد النسخ به، فإذا ورد خرج الفعل عن كونه حسناً، وليس يمتنع أن يكون الشيء الواحد حسناً إذا فعل على وجه، وغير حسن إذا فعل على وجه آخر كالصلاة إذا فعلت لله تعالى كانت حسنة، [و] إذا فعلت للشيطان كانت قبيحة، وفعلها في الحالين على صورة واحدة. وقيل في جواب هذا: إن الأمر تعلق بمقدمات الفعل الذي تناوله ظاهر الأمر، كما نقول: إن الله تعالى لما نسخ التوجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ولم يرد فيما زاد عليها، وإن كان ظاهر الأمر التأبيد، ولا يقال: إنه أراد أن يكون التوجه واجباً عليهم أبداً، ثم نسخه؛ لأنه يكون بداءً على الله تعالى.   (1) في الأصل: (نسخ) . (2) في الأصل: (نسخة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 812 واحتج: بأن النهي عن الفعل المأمور به قبل مجيء وقته، يدل على البداء؛ لأن حال المأمور به لو كانت عنده على ما كانت عليه وقت الأمر لما كان (1) يجوز أن ينهي عنه على الوجه الذي أمر به؛ لأن ذلك يكون عبثاً، فمتى نهي عنه علمنا أن حال المأمور به يعرف عنده، إما بأن ظهر له ما لم يكن عالماً به في حال الأمر، أو خفي عنه ما كان عالماً به وقت الأمر. والجواب: أنه لا يقتضي البَدَاء؛ لأن البداء أن يظهر للإنسان ما لم يكن عالماً به، والله تعالى حين أمر بهذه العبادة كان عالماً بأن المصلحة في بقاء فرضها إلى وقت النسخ، فلا يكون قد ظهر له ما لم يكن يعلمه، حتى يكون بداء. وقيل فيه: لا يفضي إلى البداء؛ لأنه كان مأموراً بمقدمات الذبح، وقد وجدت منه، أو كان مأمورا بشرط. واحتج بأن النسخ بمنزلة التخصيص، فلما استحال أن يقول: "صلوا إذا زالت الشمس، لا تصلوا إذا زالت الشمس"، لم يصح أن يأمر بالصلاة ثم ينهي عنها قبل مجيء وقتها. والجواب: أنه إنما لم يصح ذلك؛ لأنه لا يفيد شيئاً، فيكون عبثاً ولعباً، وليس كذلك إذا كانا في زمانين مختلفين؛ لأنه يتمكن من فعل مقدماته: اعتقاد وجوب المأمور به، والعزم على فعله بشرط، فيكون ذلك طاعة ينال بها الثواب، وإذا كان [118/ب] مفيداً جاز ورود الشرع به.   (1) في الأصل: (لكان) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 813 مسألة (1) الزيادة في النص ليس بنسخ. وهو قول أصحاب الشافعي (2) . وقال أصحاب أبي حنيفة: هو نسخ (3) . ويفيد هذا: جواز الزيادة في النص بالقياس، وبخبر الواحد (4) ، مثل: إيجاب النية في الوضوء بالخبر (5) والقياس، وإن كان ذلك زيادة على قوله تعالى: (اغْسلُوا وُجُوهكُمْ) (6) . وكذلك: إيجاب النفي في حد الزنا (7) ، وإن كان زيادة على قوله (فَاجْلِدُوا كُل وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدةٍ) (8) .   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (207) و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (102/أ-103/ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/208-214) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (270) . (2) راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (3/155) ، و"شرح جمع الجوامع" (2/91) ، و"المستصفى" للغزالي (1/117) . (3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/218) ، و"فواتح الرحموت" بشرح "مسلم الثبوت" (2/91) . (4) في الأصل: (الواجب) . (5) لعل هذا إشارة إلى حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً (إنما الأعمال بالنيات ... ) الحديث، وقد سبق تخريجه ص (205) . (6) سورة المائدة. (7) هذا إشارة إلى حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً ... ) الحديث، وقد سبق تخريجه ص (798) . (8) (2) سورة النور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 814 وكذلك: إيجاب شرط الإيمان في كفارة الظهار بالقياس علي كفارة القتل، وإن كان فيه زيادة على قوله: (فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ) (1) . وكذلك: الحكم بشاهد ويمين جائز بالخبر (2) ، وإن كان فيه زيادة على قوله تعالى: (فَإنْ لَمْ يَكُونَا رجُلَيْنِ فرَجُل وامْرَأتَانِ) (3) . ونحو هذا، كله يجوز عندنا، وعندهم لا يجوز. وقال أصحاب الأشعري: إن كانت الزيادة تُغير حكم المزيد عليه، مثل: أن يأمر بركعتين، ويجعلها أربعاً، كان نسخاً. وإن كانت لا تغير حكمه، مثل: أن يزيد عشر جلدات على المائة، لم يكن نسخاً.   (1) (3) سورة المجادلة. (2) هذا إشارة إلى حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد. أخرجه مسلم في "صحيحه" في كتاب الأقضية. باب القضاء باليمين والشاهد (3/1337) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد (2/277) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب القضاء والشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد (2/234) . وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب القضاء والشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد (4/144) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الاحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين (2/793) . وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (814) و"تيسير الوصول" (3/184) . (3) (282) سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 815 دليلنا: أن النسخ بيان مدة ما لم يرد مما وجب دخوله في إطلاق اللفظ، ويكون الرافع متأخراً عن وقت الفعل المأمور به، وهذان الشرطان مفقودان هاهنا؛ لأن القياس الذي يدل على الزيادة يقترن بالمزيد عليه، غير متأخر عنه، فلم يكن نسخاً. ولأن النسخ هو: رفع الحكم وإزالته، والزيادة لا توجب رفع المزيد عليه، ألا ترى أنه إذا كان في الكيس مائة درهم، فزدت فوقها درهماً، أن ذلك لا يوجب رفع شيء مما كان في الكيس، فلا يوجب ضم الزيادة إليه مع بقائه. وكذلك إذا فرض الله تعالى على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، ثم فرض صوم شهر رمضان، فلا يكون فرض الصوم نسخاً للصلوات، كذلك هاهنا. والذي يبين صحة هذا وأن النسخ هو الرفع والإزالة: قولهم: "نَسخت الشمسُ الظل، إذا أزالته"، و"نسخ الريحُ الأثرَ، إذا ذهب به وأزاله". فإن قيل: وقد لا يكون عبارة عن الإزالة ألا ترى أنك تقول: نسخت الكتاب، وإن لم يزل، ما كان فيه من الكتابة؟ قيل: هذا مجاز واتساع، والحقيقة ما ذكرنا. والذي يبين صحة هذا أن النسخ عندنا هو الإزالة، وعند مخالفينا هو تغيير الحكم، ونسخ الكتاب لا يوجد فيه شيء من ذلك، فعلم أنه مجاز. ويدل علي جواز الزيادة بالقياس وبخبر الواحد، فنقول [119/أ] كل جاز تخصيص الحكم به جاز الزيادة فيه، أصله القرآن والخبر المتواتر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 816 وأيضاً: فإن التخصيص نقصان مما وجب دخوله في اللفظ، وليس في الزيادة نقصان، فإذا جاز التخصيص، فلأن تجوز الزيادة أولى. واحتج المخالف: بأن النسخ هو: أن لا يلزم في المستقبل مثل ما كان لازماً فيما مضى وهذا المعنى موجود في الزيادة في النص؛ لأن إيجاب النية في الطهارة، وشرط الإيمان في كفارة الظهار يمنع أن يلزم في المستقبل مثل ما كان لازما فيما مضى، وكذلك إيجاب التغريب مع الجلد، فوجب أن يكون نسخاً. والجواب: أنا لا نسلم أن هذا هو النسخ، وإنما هو ما ذكرنا من الرفع والإزالة، أو بيان ما لم يُرَد مما وجب دخوله، وهذا معدوم ها هنا. وعلى أنه يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإن الصلاة كانت جميع الشرع، ثم صارت بعضه، فلم يلزم في المستقبل مثل ما كان لازماً فيما مضى، ومع هذا فلم يكن نسخاً، وهما سواء؛ لأنه كان لازماً فيما مضى عبادة واحدة، فزيد عليها أخرى، وكذلك كان لازما جلد مائة، فزيد عليه التغريب. واحتج: بأن الزيادة تغير حكماً ثابتاً في المزيد عليه، فوجب أن يكون نسخاً، كما إذا نسخ الحكم الثابت، مثل القبلة، والتقديم (1) ، وحد الزنا، والوصية. ووجه التغيير: أنه قبل الزيادة كان جميع الحكم، فصار بالزيادة بعض الحكم. والجواب: أنا لا نسلم أنها غيرته؛ لأن حكم المزيد ثابت، كما   (1) في الأصل: (القديم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 817 كان، ولكن يحتاج إلى زيادة ليقع موقعه، فكأن المائة قد وقعت موقعها، ولكن تحتاج إلي زيادة. وقولهم: كان جميع الحكم، فصار بعضه، يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإن الصلاة كانت جميع الشرع، ثم صارت بعضه، ولا يكون ذلك نسخاً. ثم يبطل هذا بالنقصان فإنه إذا سقط من المائة خمسون، لم يكن نسخاً للباقي، وقد صارت كل الحد بعد أن كانت بعضه. واحتج: بأن النقصان نسخ، فوجب أن تكون الزيادة نسخ. والجواب: أن النقصان يسقط حكماً ثابتاً فأوجب دخوله في اللفظ في وقت مستقبل، وليس كذلك الزيادة؛ لأنها لا تسقط حكماً، وهذا كما نقول: إنه إذا نسخ صوماً أو صلاةً، كان نسخاً، وإن زاد صوماً بعد الصلاة، لم يكن نسخاً فدل على الفرق بين النقصان وبين الزيادة. واحتج: بأنه لا يصح أن يجمع بين الزيادة وبين حكم النص في خطاب واحد، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول الله تعالى: إذا غسلتم فى هذه الأعضاء أجزأتكم الصلاة وإن لم تنووا، ثم يقول مع ذلك: إن لم تنووا الطهارة لم تجزئكم صلاتكم، وكذلك [119/ب] لا يقول: قد أوجبت عليكم إذا حكمتم أن تحكموا بشهادة رجل واحد وامرأتين دون غيرهم، ثم يقول مع ذلك: واخترت لكم الحكم في الشاهد واليمين. وكذلك لا يصح أن يقول: إن جلد مائة جميع حد الزاني، ثم يقول مع ذلك: هو بعض حده، فإذا استحال جمعها (1) في خطاب واحد، وجب أن يكون ورود الزيادة بعد استقرار حكم النص موجباً لنسخه. والجواب: أن هذا يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإنه لا يصح أن يجمع بين الصوم وبين الصلاة في خطاب واحد، فلا   (1) في الأصل: (جميعها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 818 يصح ان يقول: إذا صليتم برأت ذمتكم من كل عبادة، وإن لم تصوموا، ثم يقول مع ذلك: إن لم تصوموا لم تبرأ ذمتكم، ومع هذا فإيجاب الصيام بعد الصلاة لا يكون نسخاً للصلاة، كذلك ها هنا. واحتج من قال بأنها إذا غيرت كانت نسخاً: بأن الركعتين قبل الزيادة عليهما (1) كانتا تجزئان عن الفريضة ويصحان بانفرادهما، فلما ضم إليهما (2) ركعتين آخرتين صارتا غير مجزئتين ولا يصحان (3) بانفرادهما، فكان ذلك نسخاً لهما. والجواب: أن الركعتين صحيحتان واقعتان عن الفرض، لكن ضم إليهما شيء آخر، فهو بمنزلة إشتراط ستر العورة فيها واستقبال القبلة ونحو ذلك من الشرائط. ثم هذا باطل بالزيادة على الحد، فإنه كان قبل الزيادة محرماً، وتحصل به الكفارة، وبعد الزيادة لا تجزىء، ولا يكون ذلك نسخاً عند هذا القائل، وكذلك مبيحة للنكاح، فإذا زيد فيها، لم تكن مبيحة للنكاح من غير الزيادة، ولا يكون نسخاً، كذلك ها هنا. واحتج: بأنكم قد جعلتم الزيادة على النص نسخاً لدليل الخطاب، فيجب (4) أن يكون نسخاً للمزيد عليه، وبيانه: إذا أمر الله تعالى بأن يجلد الزاني مائة واستقر ذلك، ثم زاد بعد ذلك عليها زيادة، كان ذلك نسخاً لدليل الخطاب، لأن قوله: اجلدوا مائة، دليله: لا يجلد أكثر منها.   (1) في الأصل: (عليها) . (2) في الأصل: (إليها) . (3) في الأصل: (يصح) . (4) في الأصل: (يجب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 819 وهذا كما قال الصحابة والتابعون: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الماء من الماء) منسوخ، وإنما المنسوخ حكم دليل الخطاب منه، دون حكم النطق؛ لأن حكم النطق ثابت لم يتغير. والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن المزيد عليه لم يتغير حكمه، فهو (1) بعد الزيادة، كهو (2) قبلها، وليس كذلك دليل الخطاب، فإنه قد زال، لأن تقديره: لا تزيدوا على المائة، وقد أوجب الزيادة عليها، فصار المنع من الزيادة منسوخاً. وربما قال قائل: إن ذلك ليس بنسخ، وإنما هو جار مجرى التخصيص للعموم، قال: لأن دليل الخطاب من القرآن والسنة المتواترة يجوز تركه بالقياس وبخبر الواحد. والصحيح: أنه نسخ؛ لأن [120/أ] العموم إذا استقر بتأخير بيان التخصيص كان ما يراد من التخصيص بعده نسخاً، كذلك دليل الخطاب إذا استقر كان ما يرد بعده مما يوجب تركه نسخاً. فصل (3) إذا نص على حكم في عين من الأعيان بمعنى، وقيس عليه كل موضع وجد فيه ذلك المعنى، ثم نسخ الله تعالى حكم تلك العين صار حكم الفروع منسوخاً.   (1) في الاصل: (وهو) . (2) في الاصل: (فهو) . (3) راجع هذا الفصل في المسودة ص (213) ، (220) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (101/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/230-232) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (268) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 820 وقال أصحاب أبي حنيفة: يبقى الحكم في جميع الفروع (1) ، وذكروا ذلك في مسألتين: إحداهما وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنبيذ الذي كان مع عبد الله بن مسعود (2) . فقيل لهم: إنه كان نيئاً، ولا يجوز عندكم أن يتوضأ بالنبيذ النيء. فقالوا: إذا ثبت بالنص جواز الوضوء بالنيء، لأنه ثمرة طيبة وماء طهور، وجب جوازه بالمطبوخ، لأن هذا المعنى موجود فيه، وقد نسخ حكم النيء وبقي حكم المطبوخ. والمسألة الثانية: النية لصوم رمضان بالنهار، فرووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بعث إلى أهل العوالي (3) يوم عاشوراء (4) أن من لم يأكل   (1) هذا العزو إلى الحنفية غير محرر. فقد ذكر الكمال بن الهمام في كتابه "التحرير" (3/215) مطبوع مع شرحه "تيسير التحرير" ما نصه: (ومبناه على المختار من أن نسخ حكم الأصل، لا يبقى معه حكم الفرع..) . وقال صاحب "مسلم الثبوت" (2/86) مطبوع مع شرحه "فواتح الرحموت" (مسألة: اذا نسخ حكم الأصل لا يبقى حكم الفرع، وقيل: يبقى، ونسب إلى الحنفية) . ثم عقب الشارح على كلامه هذا بقوله: (أشار إلى أن هذه النسبة لم تثبت، وكيف لا، وقد صرحوا: أن النص المنسوخ لا يصح عليه القياس، وسيجيء في شروط القياس أن من شروطه أن لا يكون حكم الأصل منسوخاً) . ويلاحظ: أن الكمال بن الهمام نص في الموضع السابق على أن التسمية بالنسخ من عدمها انما هو خلاف لفظي، أو سهو من المخالف، إذ المؤدي واحد. (2) حديث وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بالنبيذ، سبق تخريجه ص (341) . (3) "العوالي": ضاحية من ضواحي المدينة المنورة. (4) "عاشوراء" هو: اليوم العاشر من شهر محرم، خلافاً لابن عباس رضي الله عنه في قوله هو اليوم التاسع منه، كما أخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء؟ (2/797) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 821 فليصم (1) فأجاز صوم يوم عاشوراء بالنية من النهار، وكانت العلة فيه: أنه صوم مستحق في زمان بعينه، وهذا المعنى موجود في صوم رمضان وغيره، ثم نسخ صوم عاشوراء، وبقي حكمه في غيره. دليلنا: أن ما ثبت تابعاً لغيره وجب أن يزول بزوال الموجب والمقتضى إذا   (1) هذا الحديث رواه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الصيام. باب صيام يوم عاشوراء (3/55) بلفظ: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذن في الناس أن من كان أكل، فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل، فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه (2/798) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصيام، باب إذا لم يجمع من الليل هل يصوم ذلك اليوم من التطوع (4/162) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصيام، باب في صوم يوم عاشوراء (1/354) . وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصيام، باب من زعم أن صوم عاشوراء كان واجباً ثم نسخ وجوبه (4/288) . راجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (350) . وهناك حديث آخر روته الربيع بنت معوذ رضي الله عنها، أخرجه عنها البخاري في كتاب الصيام باب صوم الصبيان (3/45) ، بلفظ: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار، من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم ... ) الحديث. وأخرجه عنها مسلم في كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء، فليكف بقية يومه (2/798) . وأخرجه عنها البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الصيام، باب من زعم أن صوم عاشوراء كان واجباً ثم نسخ وجوبه (4/288) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 822 زال، كالحكم المتعلق بالعلة إذا زالت العلة زال الحكم المتعلق بها. واحتج المخالف: بأنه لو نسخ ذلك لكان نسخاً بالقياس على موضع النص، وهذا لا يجوز بالإجماع. والجواب: أنه ليس بنسخ بالقياس، وإنما زال الموجب فزال ما تعلق به، كما زالت العلة فزال الحكم المتعلق بها، وإنما النسخ بالقياس: أن ينسخ حكم الفرع بعد استقراره بالقياس على أصل شرع بعد استقراره، وهذا لا يجوز بالإجماع، فأما إزالته بنسخ أصله، فليس ينسخ بالقياس. فصل (1) إذا كان الناسخ مع جبريل عليه السلام، ولم يَصِل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ليس بنسخ. وإن وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل يكون نسخاً؟ ظاهر قول أصحابنا: أنه ليس بنسخ إلا عند من بلغه ذلك وعلمه؛ لأنه أخذ بقصة (2) قباء، واحتج بها على إثبات خبر الواحد في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: مثل هذا، ومنهم من   (1) راجع هذا الفصل في المسودة ص (223) ، و"التمهيد في أصول الفقهه" الورقة (101/ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/221-223) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (255) . (2) في الأصل: (بعضه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 823 قال: يكون نسخاً، ولا يعتبر علمهم به (1) . دليلنا: أن أهل قباء صلوا ركعة إلى بيت المقدس، ثم استداروا في الصلاة، ولو كان النسخ ثبت [120/ب] في حقهم لأمروا بالقضاء، فلما لم يؤمروا بالقضاء، دل على أن النسخ لم يكن ثبت في حقهم. ولأن الخطاب لا يتوجه إلى من لا علم له به، كما لا يخاطب النائم والمجنون لعدم علمهما وتمييزهما. ولأنه لا خلاف أنه مأمور بالأمر الأول، ومتى تركه مع جهله بالناسخ كان عاصياً، فدل على أن الخطاب باق عليه. واحتج المخالف: بأنه لا يمتنع أن يسقط حكم الخطاب بما لم يعلمه، ألا ترى أنه إذا وكل في بيع سلعة، ثم عزل الوكيل، ولم يَعْلم بعزله انعزل، وإن باع السلعة بطل بيعه، كذلك ها هنا. والجواب: أن في تلك المسألة روايتين: إحداهما: لا ينعزل، ويحكم بصحة بيعه، وكذلك لو مات الموكل، فباع، يصح بيعه، فعلى هذا لا فرق بينهما (2) . وعلى هذا قال أصحابنا: إذا حلف على زوجته فقال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فأذن لها، وهي لا تعلم، وخرجت وقع الطلاق،   (1) هكذا نقل الآمدي عنهم في كتابه: "الإحكام" (3/153) ، واختار القول بالنفي. (2) هذه الرواية ذكرها ابن قدامة في كتابه "المغني" (5/102) ، عن الامام أحمد، وعليها يدل ظاهر كلام الخرقي في "مختصره" ص (99) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 824 ولم يكن لذلك الإذن حكم. وفيه رواية أخرى: ينعزل الوكيل وإن لم يعلم (1) . فعلى هذا الفرق بينهما: أن أوامر الله تعالى ونواهيه مقرنة بالثواب والعقاب، فاعتبر فيها علم المأمور [به] والمنهي عنه فيها، وليس كذلك الإذن في التصرف والرجوع فيه، فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب. فصل (2) في الخبر هل يصح نسخه أم لا؟ ينظر فيه: فإن كان لا يصح أن يقع إلا على الوجه المخبر به، فلا يصح نسخه، كالخبر عن الله تعالى بأنه واحد ذو صفات، والخبر بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء أنهم كانوا أنبياء موجودين، والخبر بخروج الدجال في آخر الزمان ونحو هذا، فهذا لا يصح نسخه؛ لأن نسخه والرجوع عنه يفضي إلى الكذب، وهذا لا يجوز على الله تعالى، فلم يجز ذلك. وإن كان مما يصح أن يتغير، ويقع على غير الوجه المخبر عنه، فإنه يصح نسخه كالخبر عن زيد بأنه مؤمن أو كافر، أو عبد أو فاسق، فهذا يجوز نسخه، فإذا أخبر عن زيد بأنه مؤمن، جاز أن يقول بعد ذلك: هو كافر. وكذلك يجوز أن يقول: الصلاة على المكلف في المستقبل،   (1) هذه الرواية ذكرها أيضاً ابن قدامة في كتابه "المغني" (5/103) عن الإمام أحمد نصاً، وذلك من رواية جعفر بن محمد عنه. (2) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (196) ، فإنه نقل عن المؤلف من كتابه "العدة"، وذكر جملة من كلام المؤلف هنا، وراجع أيضاً: "شرح الكوكب المنير" ص (257-260) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 825 ثم يقول بعد مدة: ليس على المكلف فعل الصلاة؛ لأن نسخ ذلك لا يفضي إلى الكذب في الخبر؛ لأنه يجوز أن تتغير صفته من حال إلى حال، كما يجوز أن يتغير حكم المكلف عن العبادة من زمان إلى زمان. فصل (1) في الإجماع لا يصح نسخه؛ لأنه (2) حجة: انعقدت بعد انقطاع علم الوحي؛ لأنه ينعقد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد انقطع الوحي بعد وفاته. وإذا لم يصح نسخه لم ينسخ به أيضاً؛ لأن الناسخ هو الوحي، والوحي قد انقطع، فلا نسخ بغيره. فإن قيل: أليس اذا وجدتم خبر الواحد تركتموه بالإجماع؟ قيل: يترك بالإجماع، [121/أ] ولا ينسخه به، بل يستدل بالإجماع على نسخه؛ لأنه لو كان الخبر صحيحاً لم يخرج عن الأمة؛ لأن الأمة ضبطوا الأخبار، فإذا رأينا خبراً يخالف ما اجماعهم عليه، استدللنا بإجماعهم على نسخه. فإن قيل: أليس إذا كانت الصحابة على قولين، ساغ الأخذ، بكل واحد منهما، فإذا أجمع التابعون على أحد القولين بدل القول الآخر، فقد نسختم بالإجماع. قيل: لا يزول القول الآخر بإجماع التابعين، لأن التابعين لو أدركوا   (1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (224) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (100) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/229-230) ، و" شرح الكوكب المنير" ص (266) . (2) في الأصل: (لأنها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 826 كلهم عصر الصحابة، وكانوا مع أحد القولين لم يزل الأخذ، فبأن لا يزول بإجماعهم بعد انقراض الصحابة أولى. وإن قلنا: يزول أحد القولين، لم يكن نسخاً بالإجماع، لكنا نقول: إنما ساغ العمل بكل واحد منهما بشرط أن لا يكون مانع منه، فإذا وجد ما يمنع منه، لم يسغ العمل به، كما نقول: يجوز الاجتهاد والعمل به ما لم يعلم النص، فإذا علم زال الاجتهاد لوجود النص، لا أنه نسخ الاجتهاد، كذلك ها هنا. فصل (1) فأما القياس فلا ينسخ؛ لأنه يستنبط من أصل، فلا يصح نسخه مع بقاء الأصل المستنبط منه، والأصل باق، فكان القياس باقياً ببقائه. وإذا لم يصح نسخه لم ينسخ به أيضاً؛ لأنه إنما يصح ما لم يعارضه أصل، فإن عارضه أصل سقط في نفسه. فبطل أن ينسخ الأصل به مثل أن يقول: علة الربا في البر: مكيل جنس، فإن وجد خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواز التفاضل في الأرز، سقط القياس. ولأن القياس دليل محتمل، وليس بالقوى الذي يقع به النسخ. فصل (2) وأما دليل الخطاب وما في معناه من التنبيه، نحو قوله: (فلا تقل   (1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (225) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (100/ب-101/أ) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (267) . (2) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (222) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (101/أ) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (268) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 827 لهمَا أفّ) (1) ، فإنه ينسخ وينسخ به. وهو قول المتكلمين. خلافاً لأصحاب الشافعي، فيما حكاه الإسفراييني (2) : أنه لا ينسخ ولا ينسخ به (3) . دليلنا: أن المنع من الضرر ثبت نطقاً لا قياساً، فصح نسخه، والدليل على ثبوته نطقاً: أنهم قالوا: هذا مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه. ولأن ما ثبت باللفظ ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، ألا ترى أنه لو قال: اقتلوا أهل الذمة؛ لأنهم كفار، جاز قتل عبدة الأوثان بهذا اللفظ، وإن لم يتناولهم اللفظ من طريق الصيغة، لكن من طريق العلة والتنبيه، كذلك ها هنا. ولأن القياس: ما يختص بفهم أهل النقل والاستدلال، وما دل عليه فحوى الخطاب، فإنه يستوي فيه العالم والعامي.   (1) (23) سورة الاسراء. (2) في الأصل: (الاسفراينين) ، والصواب ما أثبتناه؛ لأنه نسبة إلى "اسفراين". وفي "المسودة" ص (222) . "الاسفرائيني" بالهمزة بعدها "ياء"؛ لأنه نقل كلام المؤلف من أول الفصل إلى هنا، ونسبه إليه. والإسفراييني: هو: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، أبو إسحاق الإسفراييني، نسبة إلى "اسفراين" بُليدة بنواحي نيسابور، على منتصف الطريق إلى جرجان، كما قال صاحب اللباب، والاسفراييني أحد العلماء المشهورين أصولاً وفروعاً. له كتب، منها: "تعليقة في أصول الفقه"، و"الجامع في أصول الدين والرد على الملحدين". مات بنيسابور سنة (418 هـ) . له ترجمة في: "البداية والنهاية" (12/24) ، و"شذرات الذهب" (3/209) ، و"طبقات الشافعية" للسبكي (4/256) ، و"طبقات الشافعية" للاسنوي (1/59) ، و"اللباب" (1/55) ، و"وفيات الأعيان" (1/8) . (3) فصل القول في ذلك الآمدي في كتابه: "الإحكام" (53/150) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 828 فإن قيل: ما ثبت نطقاً؛ لأنا لا ننطق بالمنع من الضرب، ولا سمع منه صيغة الضرب، وإنما عرف ذلك من معنى النطق، ومعنى النطق هو نفس القياس. قيل: قد بينا أنه ثبت بالنطق من الوجه الذي بينا، وهو أنه يضاف [121/ب] إلى اللفظ. ولأن الصيغة غير معتبرة من الوجه الذي بينا. وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة في باب القياس، وذكرنا أن الحكم الثابت من طريق التنبيه، لا يسمى قياساً، وإنما هو مفهوم الخطاب وفحواه. فصل (1) مما يعلم به النسخ ويعلم بثلاثة أشياء: أحدها: النطق كقوله تعالى: (اْلآنَ خَففَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أن فِيكُمْ ضَعْفاً) (2) فنسخ عنهم أن يصابر كل واحد عشرة إلى أن يصابر اثنين نطقا. وهكذا قال تعالى: (عَلِمَ اللَهُ انتَكُم كُنْتمْ تَخْتَانُونَ أئفُسَكمْ فَتَابَ علَيْكمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَاْلآنَ بَاشِرُوهُن   (1) رجع في هذا الفصل: "التمهيد في أصول الفقه" الورقة (103/ب-104/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/234-235) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (265) . (2) (66) سورة الأنفال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 829 وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَينَ لَكمّ الخيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخيطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (1) ، فكان الأكل والشرب محرماً عليهم بغير القرآن، فنسخ عنهم (2) بالقرآن. وهكذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) و (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروا) فنسخ ذلك نطقاً. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية الحسن بن علي بن الحسن الإسكافي (3) ، وقد سئل هل في الحديث ناسخ ومنسوخ؟ فقال: نعم، مثل لحوم الأضاحي وما أشبهه. الثاني: أن يرد خبران متعارضان، ويعلم أن أحدهما يغير الآخر، مثل أن يقول: لا تزوروا القبور، ثم ثبت أنه قال بعد ذلك: زوروها، فيعلم بأن المتأخر عن الأول ناسخ للأول. وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كنت رخصت لكم في جلود الميته، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) (4) ؛ لأن النسخ باللفظ لا يعلم بأنه بعد الأول.   (1) (187) سورة البقرة. (2) في الأصل: (عليهم) . (3) أبو علي. من أصحاب الامام أحمد. ذكره ابو بكر الخلال، فقال: جليل القدر، عنده عن أبي عبد الله مسائل صالحة حسان كبار، أغرب فيها على أصحابه. له ترجمة في: "الإنصاف" للمرداوي (12/285) ، و"طبقات الحنابلة" (1/136-137) . (4) هذا الحديث أورد المصنف منه جزءاً بلفظ: (أن لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 830 وهذا قد نزل متأخرأ في التلاوة متقدماً في التنزيل، كقوله: (لا يَحِلُّ لَكَ النَسَاءُ مِن بَعْدُ) (1) ، هذا منسوخ بقوله تعالى: (يَا أَيها النبي إنا أحْلَلْنَا لَكَ أَزْواجَكَ) (2) الآية، والناسخ متقدم في التلاوة ومتأخر في التنزيل. وهكذا كانت العدة حولاً، فنسخت بأربعة أشهر وعشر، وكان الناسخ متقدماً في التلاوة، والمنسوخ متأخراً، وهو قوله: (وَالّذِين يُتَوَفّونَ مِنْكم وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبصنَ بِأَنْفُسِهِن أَربَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (3) ، نسخ بها قوله تعالى: (وَصِية لأزْوَاجِهِم متَاعاً إلى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاج) (4) وهذا متأخر في التلاوة. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية عبد الله: تستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر، فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به. والثالث: أن يرى خبر الواحد يخالف الإجماع، فيستدل بالإجماع على نسخه، لا أن الإجماع نسخه. وإذاك ثبت أن العلم بالمتأخر يقع به النسخ، فالمتأخر يعلم بأحد أسباب ثلاثة: أحدها: النطق، كقوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) ، (كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا) ، هذا عرف المتأخر منه لفظاً.   (1) (52) سورة الأحزاب. (2) (50) سورة الأحزاب. (3) (234) سورة البقرة. (4) (240) سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 831 الثاني: أن يخبر الصحابي أن هذه الآية نزلت بعد آية، فيصير إليه [122/أ] ، وينسخ بخبره. الثالث: أن ينقل الراوي خبراً، ثم ينقل غيره ضده، فيعلم أن الأول مات قبل إسلام الراوي الثاني، فإن نقل الثاني يعلم أنه متأخر عن الأول، وذلك في مس الذكر، روى طَلْق بن علي (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وضوء من مسه) (2) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه: (وجوب الوضوء   (1) هو طلق بن علي بن طلق بن عمرو السحيمي الحنفي اليمامي، أبو علي صحابي جليل. روى عنه ابنه قيس، وعبد الرحمن بن علي بن شيبان. له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/776) ، و"الإصابة" القسم الثالث ص (538) طبعة دار نهضة مصر، و"خلاص تذهيب الكمال" ص (181) . (2) حديث طلق - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، أي: في ترك الوضوء من مس الذكر (1/41) بلفظ: ( ... هل هو إلا بِضعَة منه، أو قال: بضعة منه) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر (1/131) ، وقال فيه: "هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من ذلك (1/84) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك أي: في ترك الوضوء من مس الذكر (1/163) . وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من مس الفرج بظهر الكف (1/134) . وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب نواقض الوضوء (1/57) . وأخرجه عنه الإمام أحمد، كما في "الفتح الرباني" في كتاب الطهارة، باب حجة من رأى عدم نقض الوضوء بمس الذكر (2/88-89) . وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار"، في كتاب الطهارة، باب مس الفرج هل يجب فيه الوضوء أو لا؟ (1/75-76) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 832 من مسه) (1) ، وكان خبر أبي هريرة متأخراً؛ لأن أبا هريرة أسلم   = وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القبل والدبر والذكر، والحكم في ذلك (1/149-150) . وحديث طلق هذا قد جاء من عدة طرق تكلم عنها الزيلعي في "نصب الراية" (1/60-69) ، وأحسن طرقه طريق ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد صححه ابن حبان والطبراني وابن حزم. وقال فيه الطحاوي في المرجع السابق: (فحديث ملازم، صحيح مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده، ولا في متنه، فهو أولى -عندنا- مما روينا أولاً من الآثار المضطربة في أسانيدها) . وقال ابن المديني: هو -عندنا- أحسن من حديث بسرة. وضعف الحديث الإمامُ الشافعي، فقد نقل عنه البيهقي في المرجع السابق قوله: "سألنا عن قيس، فلم نجد من يعرفه، بم، يكون لنا قبول خبره؟، وقد عارضه من وصفنا ثقته ورجاحته في الحديث، وتثبته". كما ضعفه البيهقي، وأبو حاتم، والدارقطني، وأبو زرعة، وابن الجوزي. والحقيقة: أن في الحديث كلاماً كثيراً، ولولا خشية الإطالة لبسطنا ذلك، ولكن نكتفي بالإشارة إلى المراجع لمن أراد الاستزادة، وهي -بالاضافة إلى ما سبق-: "تلخيص الحبير" (1/125) ، والتعليق على "نصب الراية" (1/63-69) . فإنه وفّى البحث حقه، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (55-56) ، و"الفتح الرباني" (2/88-89) . (1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده كما في "الفتح الرباني"، في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الفرج (2/85-86) ولفظه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن أفضى بيده إلى ذكره، ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء") . وأخرجه عنه الإمام الشافعي، في كتاب الطهارة، باب ما جاء في نواقض الوضوء (1/34) . وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القبل والدبر = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 833 بعد وفاة طَلْق بن علي، وقبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربع سنين (1) .   = والذكر، والحكم في ذلك (1/147) . وأخرجه عنه البيهقي في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر (1/130-131) ، ولفظه: (من مس ذكره فعليه الوضوء) . وأخرجه عنه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر (1/138) ، وقال: "حديث صحيح". وأخرجه عنه ابن حبان في "صحيحه"، وقال: "هذا حديث صحيح سنده، عدول نقلته". كما صححه ابن عبد البر، وقال ابن السكن: "هو أجود ما روي في الباب". انظر: تلخيص الحبير (1/126) . وذكر الزيلعي في "نصب الراية" (1/56) أن البيهقي أخرجه من طريق البخاري موقوفاً على أبي هريرة، كما ذكر عن الذهبي قوله في "مختصره": إن البخاري أخرجه في تاريخه موقوفاً. (1) والعلماء في هذه المسألة فريقان: فريق ذهب إلى القول بأن مس الفرج ينقض الوضوء، مستدلين بحديث أبي هريرة هذا، وبحديث بسْرة بنت صفوان رضي الله عنهما. وأجابوا عن حديث طلق بجوابين: الأول: أنه منسوخ بالأحاديث التي دلت على نقض الوضوء من مس الفرج، وبخاصة حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما بين المؤلف. الثاني: أن حديث طلق بن علي ضعيف، لا ينهض لمعارضة الأحاديث الأخرى المعارضة. وفريق ذهب إلى القول بأن مس الفرج لا ينقض الوضوء. وأجابوا عن حديث أبي هريرة وأمثاله، بأنها أحاديث ضعيفة، لا تنهض لمعارضة حديث طلق بن علي رضي الله عنه. ونختم هذا البحث بكلمة للشيخ عبد الحي اللكنوي - كما جاءت في هامش "التلخيص" (1/125) وهي: (والإنصاف في هذا المبحث: أنه إن اختير طريق النسخ، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 834 فصل (1) والنسخ إنما يقع مع التعارض، هو: أن يعارض الناسخ المنسوخ، فأما إذا ورد شرعان لا يتعارضان، فلا ينسخ أحدهما الآخر. وقول من يقول: إن صوم رمضان نسخ صوم عاشوراء، لا يصح؛ لأن فرض رمضان لا ينافي صوم عاشوراء، وإنما وافق نسخ عاشوراء فرض رمضان، فقال الناس: نسخ به، وليس كذلك، بل ينسخ مع فرضه لا به. فصل (2) إذا قال الصحابي: هذه الآية منسوخة، فإنا لا نصير إلى قوله حتى يخبر بماذا نسخت. أومأ إليه في رواية صالح فقال: هذا ما خرجه أبي في الحبس فقال في أوله: بعث نبيه، وأنزل عليه كتابه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من باطنه وظاهره، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه. وهذا يدل على أنه مخصوص بذلك. ثم ذكر بعد ذلك بأوراق قوله تعالى: (وَالَذِينَ يُتَوَفوْنَ مِنْكُمْ   = فالظاهر انتساخ حديث طلق، لا العكس، وإن اختير طريق الترجيح، ففي أحاديث النقض كثرة وقوة، وان اختير طريق الجمع، فالأولى أن يحمل الأمر على العزيمة وعدم النقض على الضرورة) . (1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (229) . (2) نقل في المسودة ص (230-231) عن الباجي في المسألة هذه ثلاثة أقوال: أحدها: الذي ذكره المؤلف. ثانيها: أنه ان ذكر الناسخ لم يقع به فخ، وان لم يذكره وقع. ثالثها: يقع النسخ به على كل حال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 835 ويذَرُونَ أزوَاجاً وَصيَة لأِزْوَاجِهِم متاعاً إلى الْحوْل غَيْرَ إخْرَاج) (1) ، فمن دل على أنها منسوخة غيرهم. وإنما أراد بذلك الصحابة، وظاهر هذا أنه يصار إلي قوله. وذكر بعد ذلك بأوراق قوله تعالى: (وَعَلىَ الذِين يطُيقونَهُ فِدية) (2) قال ابن عباس: الفديةُ ولا قضاء عليه (3) . وقال علقمة (4) وعبيدة (5) : نسختها الآية التي بعدها (فَمنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَهْرَ فليصمْهُ) (6) . وظاهر هذا أنه صار إلى قول التابعين، ثم قال: لا يصير إلى قوله. وهو قول أصحاب أبي حنيفة والشافعي، لئلا تناول نسخَها بما لا   (1) (240) سورة البقرة. (2) (184) سورة البقرة. (3) سبق الكلام على تفسير هذه الآية ص (783) . (4) هو: علقمة بن قيس بن عبد الله أبو شبل النخعي الكوفي. أحد أعلام التابعين. روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم. وعنه الشعبي وإبراهيم النخعي وآخرون. كان من أعلم الناس بابن مسعود وأشبههم به. ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومات سنة (62 هـ) . له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (271) طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/70) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/516) . (5) هو: عبيدة بن عمرو، ويقال: ابن قيس، أبو مسلم، وقيل: أبو عمرو الكوفي، أحد التابعين. أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره. روى عن علي وابن مسعود وغيرهما. وعنه الشعبي والنخعي وغيرهما. كان فقيهاً عالماً. مات سنة (72 هـ) . له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (256) طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/78) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/498) . (6) (185) سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 836 يجوز نسخُها به كأخبار التواتر. وقد بينا أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز، ولأن أكثر أحواله أن ينقل خبراً من جهته، فلا ينسخ به القرآن. فأما خبر الواحد إذا أخبر به صحابي، وزعم أنه منسوخ، فإن على قول من يجوز للراوي نقل معنى الأخبار، يجب أن يثبت به النسخ؛ لأن ظاهر كلامه أنه معنى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النسخ؛ لامتناع أن يحمل قوله على غير جهته. وأما على قول من يعتبر اللفظ، فلا ينسخ به؛ لجواز أن يكون ما سمعه ظن أنه ناسخ، ولو أظهره لم يكن ناسخاً عندنا. ويفارق هذا إذا روى الصحابي خبراً وفسره، قبلنا تفسيره، لأنا إنما نقبل تفسيره في الخبر المحتمل، على ما تقدم، بيانه، فجعلنا تفسيره، لمشاهدة التنزيل وحضور التأويل [122/ب] [و] ها هنا اللفظ المنسوخ غير محتمل. فصل (1) نسخ بعض العبادة لا يوجب نسخ الباقي وحكي عن بعض الشافعية أن المنقوص إذا لم يكن ثابتاً على الوجه الذي كان ثابتاً عليه في الابتداء، فإن نقصانه يوجب نسخ جميعه، كنسخ التوجه نسخ (2) لجميع الصلاة (3) .   (1) راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص (212) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (103/ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/214-215) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (270) . (2) في الأصل: (ينسخ) . (3) راجع في تفصيل رأي الشافعية في هذه المسألة: "الممستصفى" (1/116) ، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 837 دليلنا: أن الله تعالى لما نسخ التوجه إلى بيت المقدس، لم يوجب ذلك نسخ أوصاف الصلاة، فوجب أن يكون على ما كان عليه، وجرى مجرى نسخ منها، كالطهارة والستارة. ولأن النسخ جارٍ مجرى التخصيص في باب كون كل واحد منهما رافعاً لبعض ما تناوله اللفظ، وكان تخصيص بعض ما تضمنه العموم لا يوجب سقوط جميعه، كذلك نسخ بعضه لا يوجب نسخ جميعه. فصل يجوز النسخ بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في التخصيص للعموم بأفعاله. خلافاً لأبي الحسن التميمي من أصحابنا قال: لا يجوز، بناه على أن أفعاله لا تدل على الوجوب. وذكر هذا في أوراق وقعت إلي فيها النسخ بأفعاله، والتخصيص بأفعاله، وأجاز التخصيص بأفعاله. والدلالة عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته في أحكام الشرع سواء، إلا ما دل عليه دليل التخصيص. ن   = و"الإحكام" للآمدي (3/162) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 838 باب الأخبار (1) حقيقة الخبر: ما دخله الصدق أو الكذب، كقوله: رأيت زيداً، وضربت عمراً، يحتمل أن يكون صادقاً، ويحتمل أن يكون كاذباً. وقد يدخل في معنى الخبر ما ليس بخبر، كالإيماء والإشارة، مثل أن يقال ": أَمَر بك العسكر"؟، فيومىء برأسه، أو يشير بيده "لا"، أو"نعم"، فيحتمل الصدق أو الكذب، وليس بخبر؛ لأن حقيقة الخبر ما كان لفظاً أو نطقاً. وليس يعرف كون الخبر صدقاً أو كذباً من نفس الأخبار، وإنما يعلم بدليل غيره أنه صدق أو كذب، لا نفس الأخبار، فلهذا المعنى جاء الطلب والاستخبار والتمني خارجاً من هذا الحد لكونهما مما لا يصح فيهما الصدق أو الكذب. ولا يجوز أن يقال: حد الخبر: ما صح أن يدخله الصدق فقط؛ لأن   (1) راجع هذا الباب في "المسودة" ص (232-314) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (106/ب-131/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/236-331) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (210-224) ، (246-318) من الملحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 839 الإخبار عن الحال خبر، وإن لم يجرِ فيه الصدق. ولا يحد بأنه: ما صح فيه الكذب فقط؛ لأن الخبر عن الواجب خبر، وان لم يدخله الكذب. ولا يجمع أيضاً بين الأمرين لامتناع جوازهما في أخبار الله تعالى وأخبار رسوله، وإن كان [123/أ] خبر صدق لا يجوز أن يكون إلا على صفة واحدة. ومن الناس من قال: هذا الحد على ما كانت تعرفة العرب من الأخبار، ولا يدخل في ذلك أخبار الله تعالى وأخبار رسوله صلى الله عليه [وسلم] . مسألة (1) للخبر صيغة تدل بمجردها على كونه خبراً كالأمر، ولا يفتقر إلى قرينة يكون بها خبراً، وهو قول القائل: قام زيد، وزيد قام، وضرب زيد، وزيد ضارب. وقالت المعتزلة: لا صيغة له، وإنما يدل اللفظ عليه بقرينة، وهو قصد المخبر إلى الإخبار، كقولهم في الأمر (2) . وقالت الأشعرية: الخبر نوع من الكلام، وهو معنى قائم في النفس يعبر عنه بعبارة تدل تلك العبارة على الخبر لا بنفسها، كما قالوا في الأمر والنهي، والكلام في هذه كالكلام في تلك المسألة (3) .   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (232) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (248-249) من الملحق. (2) انظر: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري (2/541-542) . (3) سبق للمؤلف الكلام على هذه المسألة ص (214) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 840 دليلنا: ما ذكرنا، وهو أن ما احتمل الصدق والكذب خبر، وما لم يحتمل فليس بخبر، فدل على أن الخبر إنما كان خبراً لما وضع له من كونه محتملاً للأمرين، كما قلنا في الأمر، لما كان استدعاء الفعل ممن هو دونه، دل على أن الأمر إنما يكون أمراً لكونه استدعاء. مسألة (1) العلم يقع من جهة الأخبار المتواترة، مع اختلاف في صفة التواتر كما يقع من جهة المشاهدات. وهذا ظاهر على أصلنا؛ لأنه أثبت العلم بأخبار الصفات. وهو قول كافة أهل العلم. وحكي عن بعض الأوائل -وقيل هم السمنية (2) ، وقيل: هم البراهمة (3) - أنه لا يقع العلم بشيء من الأخبار، وإنما يقع العلم بالمحسوسات والمشاهدات.   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (233) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (107/أ-108/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/244-247) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (258) من الملحق. (2) السمنية فرقة ضالة، ظهرت قبل الاسلام، قالت بتناسخ الأرواح، كما قالت بقدم العالم، وزعموا أن النظر والاستدلال باطل، والمعلومات لا تدرك إلا من جهة الحس. انظر: "الفرق بين الفرق" ص (270) ، و"الغلو والفرق الغالية" للدكتور عبد الله السامرائي ص (129) . (3) البراهمة: فرقة ضالة، ظهرت في الهند، تنسب إلى رجل يقال له: "براهم"، كان يقول بنفي النبوات، وأن وقوعها أمر مستحيل في حكم العقل؛ لأن الرسول إما أن يأتي بأمر معقول. أو بأمر غير معقول فإن كان الأول فقد كفانا فيه العقل، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 841 دليلنا: أنا نجد نفوسنا عالمة بالبلدان النائية "كمكة" و"البصرة" و"الصين" وغير ذلك من البلاد والسير الماضية كأيام بني أمية وبني العباس، كما نجدها عالمة بالمشاهدات والمحسوسات. ومنكر هذا كمنكر علم المشاهدات من السوفسطائية (1) ، ولا طريق له غير الخبر. فإن قيل: لو كان العلم بالخبر جارياً مجرى العلم بالمشاهدات، لم يحتج في ذلك إلى تكرار الخبر وتواتره، كما لا يحتاج إلى تكرار المشاهدات والمحسوسات، ولما احتيج في ذلك إلى التواتر، دل على أن العلم لا يقع به. قيل: إنما اختلفا من هذا الوجه؛ لأن العلم بالمشاهدات من كمال العقل، إذ لا يصح أن يكون كامل العقل يشاهد (2) الشيء ولا بعلمه، وليس كذلك العلم بالأخبار؛ لأن الله تعالى أجرى العادة في العلم به عند   = فلا حاجة لنا إلى الرسول. وإن كان الثاني، فلا يمكن قبوله، لأنه خروج بالانسانية إلى حيز البهيمية وقد انقسموا إلى فرق، ذكر الشهرستاني منهم ثلاث فرق، هي: أصحاب "البددة"، وأصحاب "الفكرة"، وأصحاب "التناسخ". انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني (2/250-255) . (1) السفسطة: كما يقول الجرجاني في كتابه "التعريفات" ص (63) : (قياس مركب من الوهميات، والغرض منه تغليط الخصم واسكاته) . والسفسطائية -كما يقول ابن حزم في كتابه "الفصل" (1/7) - "هم مبطلو الحقائق"، وهم ثلاث فرق في ذلك: فرقة نفت الحقائق جملة، وفرقة شكت فيها، وفرقة فصلت، فقالت: "هي حق عند من هي عنده حق، وهي باطل عند من هي عنده باطل". وقد ناقشهم ابن حزم في كتابه السابق ذكره ص (8-9) . (2) في الأصل: (فيشاهد) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 842 التواتر [123/ب] فكان وقوع العلم به تابعاً للعادة. يبين صحة هذا أن الله تعالى قد أجرى العادة ممن يدرس الشيء ليحفظه إذا كرر الدرس، وكذلك أجرى العادة في السكر عند تكرار الشرب. واحتج المخالف: بأنه لو كان خبر التواتر يوجب العلم ويقطع العذر لوجب أن لا تنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنكم تعلمونه بنقل تواتر، فلما لم تثبتوا نبوته قطعاً بطل أن يكون التواتر موجباً للعلم. والجواب: أنه إنما لم تثبت نبوته قطعاً؛ لأنها لم تثبت ضرورة، وإنما عرفت بالاستدلال القوي، وهو الآيات والمعجزات على يده، ونقل إلينا ذلك نقلاً، فلذلك (1) لم تثبت ضرورة، لا لمعنى يعود إلى الأخبار. وجواب آخر أجود من هذا وهو: أن ردهم للخبر لا يدل على أن العلم لم يقع به، بدليل أنهم شاهدوا معجزاته وعاينوها وردوها، ومعلوم أن العلم يقع بالمشاهدات، ومع هذا فقد ردوها، وكذلك الخبر عنه. واحتج: بأن اليهود تخبر بأن موسى عليه السلام قال: شريعته مؤبدة، وهم عدد كثير وجم غفير، ولا يقع العلم بخبرهم، والنصارى تخبر بقتل المسيح عليه السلام وصلبه، ولا يقع العلم بخبرهم. والجواب: أن النصارى عدد يسير أخبروا بمشاهدة قتله، وكانوا قد شبه لهم. ويجب أن يكون أولهم وآخرهم ووسطهم سواء في النقل، والعدد الكثير إذا رووا عن عدد قليل، فإن العلم لا يقع بصحة المخبر عنه. وأما خبر اليهود فكذلك أيضأ؛ لأن "بُخْتنصّر" (2) قتلهم، فلم   (1) في الأصل: (فلما) . (2) "بختنصر" رجل من العجم، يقال: إن اسمه "بخترشه"، كان في خدمة الملك = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 843 يكن خبرهم عمن يثبت بنقله التواتر. [و] قد قيل: إن "ابن الرواندي" (1) لقنهم ذلك بأصبهان، ولا يعرف ذلك إلا من جهته. والدليل عليه: أنهم لم يقولوا هذا لعيسى ولا لمحمد عليهما السلام، فلو كان صحيحاً لوجب من طريق العادة أن يكون ذلك أولى ما يقولونه لهما، ويقصدون بذلك تكذيبهما. وجواب آخر وهو: أن اليهود لم تكن مجمعة على هذا الخبر، بدلالة أن جماعة منهم آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك النصارى. ولأن النصارى كانوا يختلفون -وإلى وقتنا هذا- في قتل المسيح، واليهود اختلفوا في آية الرجم. واحتج: بأنه إذا جاز عليهم الصدق مع كثرتهم، جاز عليهم الكذب أيضاً، وما الفرق بينهما؟ والجواب: أن الصدق له سبب يدعو إلى الإخبار به، وهو علم كل واحد منهم بما شاهده (2) وأدركه، وليس للكذب سبب، وإنما يكذب الكاذب لغرض يخصه [124/أ] ، وأغراض العدد الكثير لا تتفق، وخواطرهم لا تتسق إلا بجامع يجمعها وحامل يحملها على ذلك من رغبة أو رهبة، ولهذا   = "لهراسب"، ثم في خدمة ابنه "بشتاسب"، ثم في خدمة "بهمن"، وأن "بهمن" هذا وجهه إلى بيت المقدس لإجلاء اليهود عنها، فسار إليهم، وانتصر عليهم، بعد أن أنزل بهم الهزيمة الساحقة. وهناك حكايات أخرى عنه، ساقها الطبري في "تاريخه" (1/535-565) ، فارجع اليه، إن شئت. (1) هو: أحمد بن يحيى بن الرواندي، وقد سبقت ترجمته ص (777) . (1) في الأصل: (يشاهده) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 844 إذا دخل غريب "بغداد"، واستدل على "جامع المنصور"، ولم يجز أن يقع من العدد الكثير أن يدلوه على "بِيعة"، ويجوز أن يتفق هذا من عدد يسير، ويجوز أن يتفق العدد الكثير على أن يدلوه على المسئول عنه، وَيصدقوا فيه، فدل على الفرق بينهما. واحتج: بأنه لا يخلو إما أن يقع العلم بخبر الأول أو الأخير، ولا يجوز وقوعه بالأول ولا بالأخير؛ لأنه آحاد، فدل على أنه لا يصح أن يقع العلم بالخبر بوجه. والجواب: أن العلم يقع بخبر جميعهم؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بحصول العلم عند اجتماعهم، ولهذا إذا شككنا فيه مشكك لم نشك، وفي خبر الواحد نشك فقط، فسقط ما قالوه. مسألة (1) والعلم الواقع بالأخبار المتواترة ليس من شرطه أن يجمع الناس كلهم على التصديق به وهذا ظاهر على أصلنا؛ لأن أحمد رحمه الله أثبت أخبار الصفات، وهي موجبة للعلم مع اختلاف الناس في قبولها. خلافاً لليهود في قولهم: من شرط وقوع العلم به أن لا يكون في الناس من يكذبه (2) .   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (233) . (2) في الأصل: (يكذبها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 845 دليلنا: أنه لو كان من شرط (1) العلم به اجتماع الناس على تصديقه، لم يجز وقوع العلم بخبر على وجه من الوجوه، إذ يستحيل من الواحد أن يلْق جميع الناس ويسير إليهم أو يسيروا إليه (2) ، ولما أجمعنا على صحة العلم بخبر التواتر، دل على فساد قولهم. فإن قيل: لا يعتبر العلم بتصديق جميع الناس، وإنما يعتبر أن لا يعلم فيهم من يكذب المخبرين. قيل: إذا جاز أن يعلم صحة المخبر عنه مع تجويز أن يكون في الناس من يكذبه، لم يكن من شرط (3) وقوع العلم بصحته اجتماع الكافة على التصديق. فإن قيل: إذا لم أعلم أن فيهم مكذباً علمت أنه لا مكذب فيهم، إذ لو كان فيهم ذلك لكذب المخبرين، وكان تكذيبه حينئذ ينقل إلينا؛ لأن العادة جارية بأن مثل هذا لا يترك نقله. قيل: إذا كانت العادة جارية أن مثل هذا لا يترك نقله، فالعادة أيضاً جارية أن الجماعة الكثيرة التي لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب، إذا أخبرت بشيء وقع العلم بخبرهم، ولا فرق بين من منع ذلك وبين من منع ترك نقل تكذيب من يُكذب المخبرين. وأيضاً: فإنا نجد أنفسنا ساكنة إلى العلم ببعض البلدان [124/ب] التي أخبرنا بها، وإن كنا نعلم أن في الناس من لم يسمع بذلك ولم يخطر على باله،   (1) في الأصل: (شرطه) . (2) في الأصل: (يصير) بالصاد في الموضعين. (3) في الأصل: (شرطه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 846 فضلاً عن أن يصدق به، فلو كان تصديق جميع الناس شرطاً في وقوع العلم بخبر المخبر، لم يصح وقوع العلم لنا بما ذكرنا وفي علمنا بوجود ذلك دليل على فساد ما ذهبوا إليه. واحتج المخالف: بأن المسلمين كلهم كالنفس الواحدة، ولا يجوز وقوع العلم بنقلهم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنها تكون شاهدة لنفسها. والجواب: أن هذا المعنى قائم في اليهود؛ لأنهم كالنفس الواحدة، فيلزمهم أن لا يثبتوا معجزات موسى عليه السلام بنقلهم لها. فإن قيل: إنما صح وقوع العلم بمعجزات موسى عليه السلام، لأن المسلمين والنصارى قد شهدوا بصحتها. وأما اليهود فلم يشهدوا بصحة معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلهذا لم يجز وقوع العلم بنقلها. قيل (1) : المسلمون والنصارى عند اليهود كفار، فكيف تصح شهادتهم؟! بل وجود شهادتهم عند اليهود كعدمها. مسألة (2) العلم الواقع بالأخبار المتواترة معلوم من جهة الضرورة لا من جهة الاكتساب والاستدلال وهو قول أكثر أهل العلم. وحكي عن البلخي وغيره من المعتزلة: أن العلم يقع به اكتساباً، ولا يقع اضطراراً.   (1) في الأصل: (فصل) ، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه؛ لأن ما بعد ذلك جواب عن الاعتراض السابق. (2) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (234) ، و"التمهيد في أصول الفقه" = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 847 دليلنا: أنه لو لم يكن معلوماً ضرورة لأدى إلى الشك في النبوات، وهذا لا يجوز. ولا يلزم على هذا معرفة الله تعالى أنها استدلال. ولا يفضي ذلك إلى الشك؛ لأنه لا طريق إلى معرفة القديم من طريق الإحاطة والإدراك، وليس كذلك المحدثات، لان الإحاطة والإدراك يصدق (1) عليها. ويبين هذا أن ما جعل طريقاً إلى معرفة الضرورات يتطرق على المحدثات، وهو الحواس الخمس، ولا يتطرق ذلك على القديم. ولأن هذا النوع من العلم علم بمحدث لا يمكن دفعه عن النفس ولا الشك منه ولا الارتياب، فثبت أنه معلوم ضرورة كالمشاهدات، ولو كان مكتسباً لدخل فيه الشك إذا شكك فيه والريبة. وإنما شرطنا في الدليل: علم بمحدَث، لئلا يدخل عليه معرفة الله تعالى، لأنها معلومة على وجه لا يمكن الارتياب والشك فيه، وهي من جهة الكسب؛ لأن ذلك علم بقديم لا بمحدث. ودليل آخر وهو: أنه لو كان معلوماً من جهة الاستدلال [125/أ] والكسب لم يقع إلا لمن هو من أهل التأويل والنظر، فلما وقع ذلك لمن ليس من أهل التأويل والنظر كالصبيان وغيرهم، ثبت أنه معلوم من جهة الضرورة.   = الورقة (108/أ-ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/247-250) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (258-259) من الملحق. (1) في الأصل: (يتصدق) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 848 واحتج المخالف: بأنه لما حسنت المطالبة بالدلالة على أن خبر التواتر يوجب العلم. وحسنت إقامة الدلالة عليه علمنا أن العلم الواقع عنده اكتساب، وليس هو بضرورة. والجواب: أن هذا باطل بالعلم بالمشاهدات، فإن السوفسطائية تطالبنا بالدليل على صحة ذلك؛ لأن ذلك عندهم ظن وحسبان، ومع هذا فقد أجمعنا نحن ومخالفينا على حصول العلم الضروري في ذلك مع حسن الدليل عليه، كذلك فيما حصل من جهة الخبر المتواتر. واحتج: بأنه لا يقع العلم بخبرهم إلا على صفات تصحبهم يستدل بها على صدقهم، فدل على أنه من جهة الاستدلال، يدل على ذلك أن العلم بحدث الأجسام، لما وقع لأجل الصفات التي عليها الأجسام من اجتماع وافتراق وحركة وسكون كان العلم بها مكتسباً. والجواب: أن العلم بصدقهم لا يفتقر إلى اعتبار صفاتهم ولا يستدل بذلك على صدقهم، بل نعلم صدقهم، ولهذا يخالف حدوث الأجسام، فإن العلم لا يقع به إلا بعد النظر والاستدلال باختلاف صفات معانيها. واحتج: بأن العلم الواقع بأخبار الله وأخبار رسوله استدلالا غير ضرورة، كذلك خبر غيرهما. والجواب: أنا عرفنا الله بأنه واحد صادق بالاستدلال، وإذا ورد الخبر من عنده قطعنا على صدقه استدلالا، وكذلك أخبار رسوله عليه السلام، لأن ثبوت نبوته من حيث الاستدلال وجبت بظهور المعجزات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 849 مسألة (1) خبر التواتر لا يولد العلم فينا، وإنما العلم الواقع عنده من فعل الله تعالى، يفعله عند الإخبار بالعادة التي أجراها بذلك، وهو قادر على أن يفعل فينا ذلك مع عدم الإخبار، وهو بمنزلة إجرائه تعالى العادة بخلق الولد عند الوطء، وإن كان قادراً على خلقه مع عدم الوطء، هذا بناءً على إبطال القول بالتولد. ومن الناس من يقول: إن العلم بذلك يولد فينا عند خبر المخبرين. دليلنا: أن هذا العلم لو كان متولداً من (2) الخبر، لوجب أن يكون المخبر الأخير هو الذي ولد خبره فينا العلم؛ لأن العلم حصل عند خبره، ولو كان كذلك لوجب أن يكون خبره يوقع لنا العلم به ابتداءً؛ لأنه هو الموجب للعلم، فوجب أن يكون موجباً [125/ب] لذلك في جميع الأحوال كما أن خبر الجماعة الذي يحصل بهم التواتر، لما أوجب العلم كان موجباً لذلك على كل حال، وفي علمنا بأن خبر الأخير لو وقع ابتداء لم يوجب العلم، علمنا أنه لا يولد العلم على وجه من الوجوه. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الخبر الأخير مولداً للعلم فينا على شرط تقدم الأخبار الأخر له، كما أن الاعتماد يولد اصطكاكاً في المحلين على شرط وجود الصلابة فيهما. والنظر مولد للعلم على شرط أن يكون الناظر عالماً بالدليل. وإذا كان كذلك لم يكن في امتناع وقوع العلم بالخبر الأخير لو انفرد ما يمنع أن يكون مولداً لعلم، إذا تقدمته أخبار أخر.   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (235) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (259) من الملحق. (2) في الأصل: (في) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 850 قيل: الشيء إنما جعل شرطاً في غيره، إذا كان متعلقاً به أو محدداً لصفة فيه، ألا ترى أن صلابة المحلين لما كانت شرطاً في كون الاعتماد مولداً للاصطكاك، كانت موجبه لتجدد صفة بمحل الاعتماد، وكذلك كون الناظر عالماً بالدليل، لما كان شرطاً في كون نظره مولداً للعلم، كان موجباً لتجدد صفة له، وإذا كان كذلك لم يكن لكل واحد من الأخبار تعلق بالآخر، ولم يتجدد صفة للخبر الأخير بتقدم الأخبار الأخر له، لم يجز أن يكون تقديم غيره من الأخبار شرطاً في توليده العلم. ولأن الخبر من صفات الحي كالعلم والإرادة والإدراك، ثم ثبت أن تلك الصفات لاتولد شيئاً؛ لأن العلم لا يولد المعلوم، والإرادة لا تولد المراد، والإدراك لا يولد المدرك، بل المعلوم والمراد والمدرك خلق الله تعالى، كذلك الخبر يجب أن لا يولد شيئاً. ولأن الأكل والشرب والعلاج وجبر الكسر يطلب به حصول غيره، وهو الشبع والري وزوال المرض، ومع ذلك فهو غير مولد، كذلك الخبر. واحتج المخالف: بأن العلم بخبر التواتر، لو كان تابعاً للعادة لأجل فعل الله تعالى، لوجب أن تختلف العادة في ذلك، فيقع العلم بخبر الجماعة التي يصح بهم التواتر، ولا يقع بخبر جماعة مثلها، كما أن خلق الولد عند الوطء لما كان من فعل الله تعالى لما أجرى به العادة، جاز أن تختلف فيه العادة، فيخلق الولد عند وطء واحد، ولا يخلق عند وطء آخر، وفي بطلان اختلاف العادات في وقوع العلم بالأخبار دليل على أن العلم فيها ليس من فعل الله تعالى، وإنما هو توليد. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون العلم بالشيء واقعا من فعل الله تعالى، وإن لم تختلف العادة فيه، ألا ترى أنا نعلم أن وجود هذه الأجسام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 851 التي نشاهدها ضرورة، لأن العلم [126/أ] بوجودها من كمال العقل، ويكون هذا العلم من فعل الله تعالى فينا، وإن لم تختلف العادة فيه، كذلك لا ننكر أن يكون وقوع العلم بمخبر الخبر المتواتر يجري على طريقة واحدة ويكون مع ذلك من فعل الله تعالى. واحتج: بأنه لما كان العلم يحصل بوجود الخبر علمنا أنه مولد له. والجواب: أن الشبع والري يحصلان (1) بالأكل والشرب، وليس هما مولدين لهما (2) . مسألة (3) لا يجوز على الجماعة العظيمة كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته. وزعمت الإمامية (4) أن ذلك قد يجوز على الجماعة لداع يدعو إليه، وعلى هذا بنوا كلامهم في ترك نقل النص [في علي رضي الله عنه] (5) .   (1) في الأصل: (يحصل) . (2) في الأصل: (ليس هو مولداً له) . (3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (235) ، و"التمهيد" الورقة (109/أ-ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/258-259) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (261-262) من الملحق. (4) الإمامية: فرقة تقول بأن الإمامة لعلي رضي الله عنه نصاً، ولا يجوز أن تخرج عن أولاده من بعده، فهي منصب إلهي لهم. وجعلوا التصديق بذلك ركناً من أركان الإيمان. وقد افترقوا إلى فرق كثيرة، لا زال بعضها موجوداً في عصرنا الحاضر. انظر: "الفرق بين الفرق" ص (53) وما بعدها، و"اللباب" (1/83) ، و"التعريفات" للجرجاني ص (21) و"الغلو والفرق الغالية" ص (82-112) . (5) الزيادة من "المسودة" ص (235) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 852 والدليل على فساد هذا القول: أن كتمان ما يحتاج إلى نقله يجري في القبح مجرى الإخبار عنه بخلاف ما هو به، فلما لم يجز على الجماعة التي يصح بهم التواتر أن يخبروا عن (1) الشيء بخلاف ما هو مع علمهم بحاله، كذلك لايجوز أن يجتمعوا على كتمان ما يحتاج إلى معرفته. يبين صحة هذا أن رجلاً لو دخل بغداد يسأل كل من يلقاه عن جامع المنصور، لم يجز أن يكتموه كلهم ذلك، كما لا يجوز أن يخبروا عنه بالكذب، وكذلك لو حدث في الجامع يوم الجمعة وقت الخطبة حادثة عظيمة هائلة، لم يجز أن يترك جميع من حضرها نقلها، كما لا يجوز أن يخبر جميعهم عنها بالكذب مع علمهم بأنه كذب. فإن قيل: أليس قد تركت الصحابة نقل شرائع الأنبياء المتقدمين، وإن لم يجز أن يتواطؤوا (2) على الكذب، فما أنكرتم مثله ها هنا. قيل: إنما تركت نقل ما ذكرت لبعد عهده، ولفقد ما يدعو الى نقله، فأما ما قرب عهده، ووجد الداعي الى نقله، فغير جائز أن يجتمعوا على ترك نقله. يبين صحة هذا: أن شريعة موسى عليه السلام لما لم تكن متباعدة العهد، وكان هناك ما يدعو إلى نقلها -وهو بقاء تمسك قوم بها- نقلت. وكذلك شريعة عيسى عليه السلام، ولم تنقل شريعة غيرهما من الأنبياء مثل هود ويونس وأمثالم عليهم السلام؛ لما لم يبقَ من يتدين بها، وكانت منسوخة. فإن قيل: النصارى لم ينقلوا كلام المسيح في المهد، ونقلوا إحياءه   (1) في الأصل: (على) . (2) في الأصل: (يواطوا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 853 الموتى وإبراءه الأكمه والأبرص مع الحاجة إلى معرفة ذلك وإن كان عهده غير متباعد، فبان بهذا: أن قرب العهد وبعده لا تأثير له في باب النقل. قيل: إنما لم ينقلوا كلام المسيح في المهد؛ لأنه قد كان ذلك قبل ظهور أمره، وكان إحياؤه [126/ب] الموتى وإبراؤه (1) الأكمه والأبرص بعد ظهوره، فلهذا نقلوا ذلك. وقد يقوى نقل الشيء لأجل ظهوره، ويترك لأجل خفائه، ألا ترى أن اليهود قد نقلت ما كان ظاهراً من معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم -، مثل إتيانه بالقرآن وتحدي العرب به، ولم ينقلوا ما لم يكن في ظهور ذلك من معجزاته؟ وكذلك قد اختلف نقل سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب الظهور والخفاء، فلم يجرِ جميعها على طريقة واحدة، ألا ترى أن كثيراً من السنن تذهب على العالم، وإن لم يذهب عليهم ما ظهر منها واشتهر؟ فإن قيل: فما أنكرتم أن يكون الصحابة تركت نقل ما يحتاج إليه لداع دعاهم إلى ذلك من تقية أو خوف فتنة أو نحو ذلك. قيل: كل من يجوز عليه ترك نقل ما يحتاج إليه لما ذكرت، فإنه يجوز عليه الإخبار عن الشيء بالكذب لأجل هذه العلة بعينها، فلما لم يجز هذا على الصحابة رضي الله عنهم، كذلك لا يجوز عليهم ترك نقل ما يحتاج إلى نقله. فإن قيل: أليس قد تركوا نقل المسح إلا وقت وقوع الخلاف فيه، وتركوا نقل القِران والإفرَاد حتى اختلفوا فيه، وكذلك الرجم، ونظائر ذلك كثير؟.   (1) في الأصل: (ابراء) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 854 قيل: أما المسح، فإنهم لم يتركوا نقله، بل نقلوه نقلاً مستقصاً، إلا أن من لم ينقله، لم ينقله؛ لأنه جعل القرآن أولى منه، وهكذا القول في الرجم. فأما القِران والإفراد: فإنه قد كان علمهم المناسك (1) ، فلم يحتاجوا إلى نقله، وإنما اختلفوا في نقله؛ لأن من شاهده وقت التلبية يلبي بالعمرة مع الحج نقل القِران، ومن شاهده يلي بالحج من غير ذكر العمرة نقل الإفراد، على حسب ما بينا في المناسك من مسائل الخلاف (2) ، فقد صح بذلك فساد ما تعلقوا به في ذلك. مسألة (3) ولا يعتبر في التواتر عدد محصور، وإنما يعتبر ما يقع به العلم على حسب ما جرت به العادة أن النفس تسكن إليه، لا يتأتى منهم التواطؤ على   (1) في الأصل: (بالمناسك) . (2) هذا الكتاب يسمى: التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة، وجد منه المجلد الرابع من نسخة كتبت سنة (870 هـ) ، ويبتدىء بكتاب الحج، ويثنى بكتاب البيوع. على أنه لم يكمل كتاب البيوع في هذا المجلد، ويقع هذا المجلد في (597) صفحة من القطع الكبير، كل صفحة يقع فيها (25) سطراً، وفي كل سطر (16) كلمة تقريباً. والمخطوطة في دار الكتب المصرية رقم (140) فقه حنبلي. وقد صورت في معهد المخطوطات بالجامعة العربية على ميكروفيلم رقم (18) اختلاف الفقهاء. وقد فصلنا الكلام فيه في القسم الدراسي، عند كلامنا عن مؤلفات أبي يعلى. (3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (235) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (108/ب-109/أ) ، و"روضة الناظر" وشرحها "نزهة الخاطر" (1/255-257) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (262) من الملحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 855 الكذب، إما لكثرتهم أو لدينهم وصلاحهم؛ لأنه لا دليل على عددهم من طريق العقل ولا من طريق الشرع، ولكنا نعلم أنه يجب أن يكونوا أكثر من أربعة؛ لأن خبر الأربعة لو جاز أن يكون موجباً للعلم لوجب أن يكون خبر كل أربعة كل موجباً ولو كان هكذا لوجب إذا شهد أربعة على رجل بالزنا، أن يعلم الحاكم صدقهم ضرورة، ويكون ما ورد به الشرع من السؤال عن عدالتهم باطلاً، وإذا كان ذلك صحيحاً دل على أن خبر الأربعة لا يوجب العلم بصدق مُخبرِهم. فإن قيل: لا يمتنع [127/أ] أن الله تعالى لم يفعل ذلك عند شهادة الشهود لضرر من المصلحة، وفعل ذلك عند الخبر الذي ليس بشهادة. قيل: لا فرق بين الخبر الواقع على وجه الشهادة، وبين الواقع على غيرها، بدليل: أن الجماعة التي يقع لنا العلم بخبرهم، لا فرق بين أن يشهدوا عند الحاكم بحق، وبين أن يكون خبرهم بغير شهادة في وقوع العلم بخبرهم، كذلك فيمن دونهم. وقد حكي عن قوم: أن العلم يقع بخبر اثنين. وعن آخرين: يقع بخبر أربعة. وعن آخرين: يقع بخمسة فصاعداً (1) . وعن آخرين: يقع باثني عشر؛ اعتباراً بعدد النقباء.   (1) من حَد وقوع العلم باثنين، اعتبر نصاب الشهادة. ومن حده بأربعة، اعتبر أعلى نصاب الشهادة، كما في إثبات الحدود. ومن حده بخمسة اعتبر الزيادة على أعلى عدد في الشهود. وهناك من حده بعشرين، لقوله تعالى: (إنْ يكن منْكمْ عشرونَ صَابرُونَ) . انظر: "التمهيد في أصول الفقه" الورقة (108/ب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 856 وعن آخرين: يقع بسبعين؛ اعتباراً بعدد أصحاب موسى عليه السلام. وعن آخرين: يقع بثلاثمائة وكسر، اعتباراً بعدد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر. وهذا غير صحيح، لأن الاعتبار بمن يقع العلم بخبرهم، وليس يختص ذلك بعدد دون عدد؛ لأن العدد الكثير قد يتواطئوا على الكذب، ولا يقع العلم بخبرهم، بل يقع بخبر أقل منهم، إذا لم يتواطئوا على ذلك، فلم يجز أن يشترط في ذلك عدد محصور. والمواضع التي ذكروها إنما اتفق حصول ذلك العدد، لا أنه اشترط العلم بخبرهم. مسألة (1) يجوز ورود التعبد بأخبار الآحاد من طريق العقل ومن الناس من يمنع منه. دليلنا: أنه لا يمتنع أن تكون المصلحة لنا في العمل بما يخبرنا به الواحد، وإن جاز أن يكون غير صادق، ألا ترى أن من خَوّفنا سلوك طريق نربد سلوكه، فإن الواجب علينا: أن نقبل منه، وأن نتوقف فيما أردنا من سلوك ذلك الطريق، وإن جاز أن يكون كاذباً في خبره، وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يتعبدنا الله تعالى بقبول خبر الواحد في باب الديانات.   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (238) ، و"التمهيد" الورقة (109/ب-110/ب) . و"روضة الناظر" وشرحها "نزهة الخاطر" (1/264- 265) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (267) من الملحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 857 فإن قيل: فيلزمكم على هذا: أن تجيزوا ورود التعبد بالعمل لما يخبر به الواحد، وإن كان فاسقاً، كما يجب علينا قبول خبر الفاسق إذا خَوفنا من سلوك بعض الطرق. قيل: العقل لا يمنع من ذلك، وإنما نرجع في المنع منه إلى السمع. وأيضاً: فإن الله تعالى قد تعبد الحاكم بقبول قول الشهود للعمل به، وإن جاز أن يكونوا غير صادقين. وكذلك تعبد الله المستفتى بالعمل على قول المفتي، مع جواز كونه كاذباً فيما يفتي به، كذلك لا يمتنع أيضاً: أن يتعبد الله تعالى بالعمل بما يخبر به الواحد مع جواز كونه غير صادق. فإن قيل: فيلزمكم أن تجيزوا ورود التعبد بصدق النبي، وإن لم يكن معه ما يدل على صدقه من الإعلام بالمعجزة، وأن تجيزوا [127/ب] العمل بخبر الواحد في إثبات القرآن وأصول الدين. قيل: أما العمل بخبر النبي، فإنما لم يجب ما لم يكن معه ما يدل على صدقه؛ لأن العمل بخبر الواحد، إنما يجب علينا إذا ورد السمع بذلك، فما لم تقم الحجة بأصل الشريعة فإنا لا نعلم أنا قد تعبدنا بالعمل بخبر الواحد في الشرعيات، فإذا كان كذلك، كانت الحجة إنما تقوم بأصل الشريعة، إذا أقام الله تعالى الإعلام بالمعجزة على من تعبدنا على لسانه، ليدلنا بذلك على صدقه، ويؤمننا من غلطه فيما هو الحجة فيه، لم يجز لنا القبول منه، ما لم يعلم صدقه، وليست هذه حال خبر الواحد؛ لأن تجويزنا لكذبه لا يمنع من أن يلزمنا العمل به من جهة النبي، بأن يوجب علينا العمل بما يخبرنا الواحد. وأما خبر الواحد في إثبات القرآن، فإنه لا يمتنع أن يتعبد بقبول خبره فيه، فيدل على ما تضمنه من الحلال والحرام، ولا يقطع على أنه من القرآن، وإنما منع الشرع منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 858 مسألة (1) يجب العمل بخبر الواحد، إذا كان على الصفة التي يجوز معها قبول خبره. نص عليه رحمه الله في مواضع: فقال في رواية أبي الحارث: إذا كان الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيحاً ونقله الثقات، فهو سنة، ويجب العمل به على من عقله وبلغه، ولا يلتفت إلى غيره من رأي ولا قياس. وقال أيضاً رحمه الله في رواية أبي الحارث في موضع آخر: إذا جاء خبر الواحد، وكان إسناده صحيحاً وجب العمل به، ثم قال: أليس قصة القبلة حين حولت، أتاهم الخبر وهم يصلون، فتحولوا نحو الكعبة. وخبر الخمر أهراقوها، ولم ينتظروا غيره؟ وقال أيضاً رحمه الله في رواية الفضل بن زياد: خبر الواحد صحيح، إذا كان إسناده صحيحاً، وذكر قصة القبلة حين حولت، وقصة الخمر لما حرمت. وقال أيضاً رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث: إن قوماً دفعوا خبر الواحد: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل قول ذي اليدين (2) حتى سأل غيره (3) .   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (238) ، و"التمهيد" الورقة (110/ب- 114/أ) و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/268-279) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (267-270) من الملحق. (2) ذو اليدين، حجازي من بني سليم، يقال له: "الخرباق". صحابي وليس هو ذا الشمالين كما زعم. وهو الذي كلم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سها في الصلاة. عاش ذو اليدين حتى روى عنه بعض متأخري التابعين. له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/475) ، و"الاصابة" القسم الثاني ص (420) طبعة دار نهضة مصر. (3) هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 859 وليس هذا حجة، ذو اليدين جاء إلى يقين النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيله، فلم يقبل منه، وهذا جاءه خبر لم يكن عنده خلافه. فلم يقبله. وقال أيضاً رحمه الله في رواية الميموني: من الناس من يحتج في رد خبر الواحد: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنع بقول ذي اليدين، وليس هذا شبيه ذاك، ذو اليدين أخبر بخلاف يقينه (1) ، ونحن ليس عندنا علم نرده، وإنما هو علم يأتينا به. ونحو هذا قال في رواية أحمد بن الحسين (2) الترمذي (3) .   = كتاب الصلاة، باب من لم يتشهد في سجدتي السهو (1/82) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1/403) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء الرجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر (2/247) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب السهو في السجدتين (1/231) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب السهو، باب ما يفعل من سلم من ركعتين ناسياً وتكلم (3/17) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب فيمن سلم من اثنتين أو ثلاثاً ساهياً (1/383) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب سجدتي السهو من الزيادة (1/290) . وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده" في كتاب الصلاة، باب من سلم من ركعتين (1/110) . (1) الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (2) في طبقات الحنابلة: (الحسن) مكبراً. (3) أبو الحسن من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه المسائل الفقهية والأحاديث النبوية. له ترجمة في "طبقات الحنابلة" (1/37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 860 وبهذا قال [128/أ] جمهور الفقهاء والمتكلمين. وقال قوم من أهل البدعة: لا يجوز العمل به، ولا يجوز ورود التعبد به. وقال القاشاني (1) وأبو بكر بن داود: لا يجوز العمل به من طريق الشرع، وكان يجوز ورود التعبد به. وقال الجبائي: لا يقبل في الشرعيات أقل من اثنين. دليلنا: قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَة منْهُمْ طَائفَة ليَتَفقهُوا فِي الدين وَليُنذرُوا قَومَهُمْ إذَاً رَجعوا إلَيْهَمْ لًعَلهُمْ يَحْذرُونَ) (2) .َ وقوله: (فَلَوْلاَ) معناه: فهلا نفروا. وقوله: (فِرْقَة) معناه جماعة، أقلها ثلاثة. وقيل: قد يقع هذا الاسم على واحد بدليل قوله تعالى: (وَإنْ طَائِفَتَان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اْقتَتَلُوا فَأصْلحُوا بَينَهُمَا ... ) (3) ، إلى قوله. (بَيْنَ أخَوَيكُم) ، وقوله. (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (4) ، قيل أقلها واحد.   (1) هو: محمد بن إسحاق أبو بكر القاشاني، بالمثلثة، أو القاساني، بالمهملة. كان ظاهرياً، ثم صار شافعياً. له مؤلفات، منها: "كتاب الرد على داود في إبطال القياس"، و"كتاب الفتيا الكبير". له ترجمة في: "الفهرست" ص (300) طبعة المكتبة التجارية. (2) (122) سورة التوبة. (3) (9) سورة الحجرات. (4) (2) سورة النور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 861 وقال محمد بن كعب (1) في قوله: (إن نعْفُ عَنْ طَائفَة منكُمْ) (2) ، كان هذا رجلاً واحداً (3) . وقوله: (مِنْهُم) يعني من المسلمين. وقوله: (طَائِفَة) معناه: جماعة، أقلها واحد. وإذا ثبت هذا فمن الآية دليلان: أحدهما: قوله: (لِيُنْذرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِم) فلولا أن الإنذار قد يقع بالآحاد ما حثّ عليه ولا أمر به. والثاني: قوله: (لَعَلّهُمْ يَحْذرُونَ) فلولا أن خبر الواحد يوجب العمل لما وقع به الحذر. فإن قيل: الآية تقتضي وجوب الإنذار، وليس فيها وجوب الرجوع إلى قول المنذر، بل يجوز أن يرجع المنذر إلى أمر آخر، وليس من حيث وجب الإنذار وجب الرجوع إليه، فإنه يجب على الإمام أن يخبر غيره بمعرفة الله تعالى ووحدانيته، ولا يجب على المخبر الرجوع إلى قوله، بل يرجع إلى دليل آخر. ولهذا نظائر.   (1) هو: محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي أبو حمزة، وقيل: أبو عبد الله. أحد العلماء بالتفسير مع الثقة والتقى والورع. روى عن المغيرة بن شعبة ومعاوية وابن عباس وخلق، وعنه محمد بن المنكدر وموسى بن عبيدة وابن عجلان وآخرون. مات سنة (118) وقيل: غير ذلك. له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (9/422) ، و"الخلاصة" ص (357) طبعة بولاق. (2) (66) سورة التوبة. تفسير "محمد بن كعب" لهذه الآية، ذكره الطبري بسنده في "تفسيره" (10/173) طبعة الحلبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 862 قيل: في الإية تحذير من المخالفة بقوله: (لعَلّهمْ يحْذرُونَ) والتحذير لا يكون إلا في الأمر الواجب. وعلى أن الظاهر يقتضي وجوب الرجوع إلى قول المنذر حيث أمر هو بالإنذار، وإلا بطل فائدة الأمر بذلك، وإنما لم يلزم الرجوع إلى ما ذكروه من الأخبار عن معرفة الله سبحانه وما أشبه ذلك، لقيام (1) دليل عليه، وهو: أنه يجب العلم بتلك الأشياء ومعرفتها قطعاً. فإن قيل: المراد بالآية: أنهم يرجعون إلى قومهم فيفتونهم ويؤخذ بقولهم في الفتيا. قيل: الآية عامة في الأمرين معاً. وعلى أن الإنذار في الظاهر إنما يعتبر به عن الإخبار عن الشيء دون الفتيا. فإن قيل: الحذر هو: أن ينظر ويعمل بما دل عليه الدليل. قيل: الطائفة إذا قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يفعل كذا أحرق [128/ب] بالنار، أو من فعل كذا أحرق بالنار، كان الحذر منه بالقبول والعمل بما أخبره، ومن لم يقبله ولم يعمل بذلك، لم يكن حاذراً ما أنذر به. ويدل عليه قوله تعالى: (إنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنبأِ فَتبينوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالةِ) (2) فدل على أن العدل إذا جاء بنبأ، لا نتبين ولا نتثبت فيه، من طريق دليل الخطاب، فلو كانا سواءً لم يكن لتخصيصه بالفاسق بالتثبت معنى. ويدل عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث لتبليغ شرعه وأحكامه إلى النواحي والقبائل والبلاد آحاداً، فبعث أبا بكر أميراً على الحاج، وبعث   (1) في الأصل: (لقوام) . (2) (6) سورة الحجرات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 863 عمر ساعياً على الصدقة، وبعث عليا قاضياً إلى اليمن، وبعث. معاذاً جابياً للصدقات إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد (1) إلى مكة والياً، وبعث مصعب بن عمير (2) إلى المدينة، وأمر منادياً بتحريم الخمر، وتحريم صيام أيام منى، وغير ذلك مما يكثر نقله، فلولا أن خبر الواحد يوجب العمل ما بعث إليهم ما لا يجب العمل عليهم بقوله. وكذلك أيضاً بعث الكتب، فكتب إلى كسرى كتاباً، وكتب إلى قيصر كتاباً، وبعث به مع واحد، فدل على ما قلناه. فإن قيل: هذه أخبار آحاد، فلا يحتج بها في إثبات خبر الواحد. قيل: وإن كانت آحاداً في اللفظ فهي متواترة في المعنى بمجموعها؛ لأن الأمة تلقتها بالقبول، وتطابقت على العمل بها. فإن قيل: فما ينكر أن يكون قد تقدم علمهم بالأحكام، كما قلتم: إنه يقدم علمهم بوجوب العمل بأخبار الآحاد.   (1) هو: عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس أبو عبد الرحمن القرشي الأموي. أسلم يوم فتح "مكة"، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على "مكة" عام الفتح ولم يزل أميراً عليها. حتى وفاته سنة (13 هـ) ، في اليوم الذي مات فيه أبو بكر، رضي الله عن الجميع. له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1023) ، و"الإصابة" القسم الرابع ص (429) طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (257) ، طبعة بولاق. (2) هو: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف أبو عبد الله، القرشي العبدري. من السابقين إلى الإسلام. ومن أول من هاجر إلى الحبشة. بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قبل الهجرة، يقرىء أهلها القرآن، ويعلمهم دينهم. شهد بدراً، وكان حامل الراية. وشهد أحداً، حاملاً الراية، وفيها استشهد. له ترجمة قي: "الاستيعاب" (4/1473) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (123) ، طبعة دار نهضة مصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 864 قيل: الأحكام لم يوجد فيها الخبر المتواتر، ولو وجد ذلك لعلمناه، كما علمنا سائر ما تواتر به الخبر. وأما وجوب العمل بها: فقد كان يتواتر به الخبر، وعلم (1) المسلمون والكفار ذلك من فعله وقوله، كما علمناه. فإن قيل: أليس قد كان يبعث الدعا [ة] إلى الإيمان بالله وبالرسول وهذا لم يكن معلوماً من جهة الداعي. فما ينكر ذلك للأحكام. قيل: وجوب ذلك عندنا بالشرع دون العقل، ولا فرق بينهما، وعند المخالف: وجوبه من طريق العقل، فبعث من ينبههم على ما في عقولهم، وليس كذلك سائر الأحكام؛ فإنه لا طريق لهم إليها إلا من جهة خبر من بعثه إليهم. وأيضاً: فإن الصحابة أجمعت على العمل بخبر الواحد، لأنا نعلم أن بعضهم كان يقبل من بعض، ولا يطالبه بالتواتر والاستفاضة، وهذا معلوم من أحوالهم ضرورة. فروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عمل بخبر المغيرة (2) ومحمد   (1) في الأصل: (وعلمه) . (2) هو: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أبو، عبد الله، وقيل: أبو عيسى. أسلم عام الخندق. أحد دهاة العرب المشهورين. ولاه عمر البصرة، ثم عزله عنها وولاه الكوفة، وأقره عثمان عليها، ثم عزله. ولما تم الأمر لمعاوية أعاده والياً عليها. ومات بها سنة (50 هـ) . له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1445) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (197) ، طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (385) ، طبعة بولاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 865 ابن مَسْلَمة (1) في ميراث الجدة (2) . وعمل عمر رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف (3) [129/أ] في أخذ الجزية من المجوس. وعمل بخبر حَمل في مالك بن النابغة في غرة عبد أو أمة في الجنين، وقال: كدنا أن نقضي فيه برأينا. وعمل بخبر الضحاك بن سفيان في توريث النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أشْيَم الضبابى من دية زوجها. وقال عبد الله بن عمر: كنا نخابر أربعين سنة، فلا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج، فتركناها لقول رافع.   (1) هو: محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد الأنصاري الحارثي، أبو عبد الرحمن. وقيل: أبو عبد الله - صحابي. شهد بدراً والمشاهد كلها. استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة في بعض غزواته. اعتزل الفتنة. مات بالمدينة سنة (43 هـ) وله سبع وسبعون سنة تقريباً. له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1377) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (33) ، طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (359) ، طبعة بولاق. (2) هذا الحديث سيأتي تخريجه ص (870) ، فقد ذكره المؤلف بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعمها السدس) . (3) هو: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحارث القرشي الزهري، أبو محمد. جمع بين الهجرتين، هجرة الحبشة، وهجرة المدينة. شهد بدراً والمشاهد كلها. أحد العشرة المبشرين بالجنة. وأحد الستة الذين جعل عمر المشورة فيهم. مات بالمدينة ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان، ذلك سنة (31 هـ) . عن عمر يناهز الخامسة والسبعين. له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/844) ، و"الإصابة" القسم الرابع ص (346) طبعة دار نهضة مصر. و"الخلاصة" ص (232) ، طبعة بولاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 866 وعمل عثمان رضي الله عنه بخبر فريعة بنت مالك (1) في سكنى المتوفى عنها [زوجها] (2) . وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما حدثني أحد بحديث إلا   (1) هي: فُرَيْعَة بنت مالك بن سنان الخدرية؟ ويقال لها: الفارعة. وهي أخت أبي سعيد الخدري، وهي التي أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تمكث في بيتها، حتى يبلغ الكتاب أجله. وقد عمل عثمان بما روت. لها ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1903) ، و"الإصابة" (8/166) . (2) حديث فريعة - رضي الله عنها - هذا أخرجه عنها الترمذي في كتاب الطلاق باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها (3/499) ، ولفظه: (.. أنها -أي فريعة- جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرة، وأن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كان بطرف القدوم -موضع حول المدينة- لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلي الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يترك لي مسكناً يملكه، ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فالت: فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة، أو في المسجد، ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر بي، فنوديت له، فقال: "كيف قلت"؟ قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، قال: "أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً. قالت: فلما كان عثمان، أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه، وقضى به. ثم قال الترمذي في الحديث: (حديث حسن صحيح) . وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل (1/536) . وأخرجه عنها النسائي فيه، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل (6/165) . وأخرجه عنها ابن ماجه فيه، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها (1/654) . وأخرجه عنها الدارمي فيه، باب خروج المتوفى عنها زوجها (2/90) . وأخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب النفقات، باب اعتداد المتوفى عنها في بيت زوجها ... (2/409) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 867 استحلفته إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر (1) . ورجع ابن عباس عن قوله: إنما (2) الربا في النسيئة (3) ، بخبر أبي سعيد الخدري (4) .   (1) كلام علي - رضي الله عنه - هذا قاله ضمن حديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الأستغفار (1/349) ، ولفظه: (كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، قال: وحدثني أبو بكر، وصَدَق أبو بكر، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وما من عبد يذنب ذنباً، فيحسن الطهور، ثم يقوم، فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله، إلاَ غَفَر الله له"، ثم قرأ هذه الآية: "وَالَذيِنَ إذَا فَعَلُوا فَاحشَةً، أوْ ظَلموا أَنفُسَهم، ذَكَرُوا اللهَ ... ") . وأخرجه عنه ابن ماجه في كَتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في أن الصلاة كفارة (1/446) ، ولفظه قريب من لفظ أبي داود. وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (1/2) ، ولفظه قريب من لفظ أبي داود. وسنده حسن، وصححه ابن حبان (2454) . (2) في الأصل: (لهما) . (3) قصة رجوع ابن عباس رضي الله عنهما عن حصره الربا في ربا النسيئة، أوردها البيهقي في سننه الكبرى بسنده، وذلك في كتاب البيوع، باب ما يستدل به على رجوع من قال من الصدر الأول: "لا ربا إلا في النسيئة" عن قوله ونزوعه عنه (5/281-282) . (4) حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - هذا أخرجه مسلم عنه في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (3/1211) ، ولفظه: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرّ بالبرّ، والشعير بالشعير، والتّمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء") . وأخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة (3/92) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/9) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 868 وعملوا بخبر عائشة في التقاء الختانين. وعمل زيد بن ثابت برواية امرأة من الأنصار: أن الحائض تنفر بلا وداع (1) . ورجيع أهل قباء إلى خبر الواحد في تحويل القبلة. وكذلك رجع جماعة في إراقة الخمر إلى خبر الواحد. ومثل هذا كثير، يطول شرحه، فدل على إجماعهم. فإن قيل: طريق ذلك كله من طريق الآحاد، فلا يجوز إثبات خبر الواحد بمثله.   (1) قصة رجوع زيد بن ثابت رضي الله عنه في ذلك، أخرجها البخاري في كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت (2/210) بسنده إلى عكرمة قال: إن أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة طافت، ثم حاضت، قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد، قال: إذا قدمتم المدينة، فسلوا، فقدموا المدينة فسألوا، فكان فيمن سألوا أم سليم، فذكرت حديث صفية. وقد ذكر البخاري حديث صفية قبل هذا، وذلك أنها حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحابستنا هي"؟ قالوا: إنها قد أفاضت. قال: "فلا إذاً". وأخرج ذلك: مسلم في كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض (2/963) . بسنده إلى طاوس، قال: كنت مع ابن عباس، إذ قال زيد بن ثابت: تفتى أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس: أما لا، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قاد: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت. وأخرج ذلك أيضاً: البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الحج، باب ترك الحائض الوداع (5/163-164) ، وساق كلاً من لفظ البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 869 قيل: هذا متواتر من طريق المعنى، وقد بيناه. وعلى أنه مع كثرته، لا يجوز أن يكون جميعه باطلاً، كما لا يجوز أن يقال: جميع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون خطأ، وكما لا يجوز أن يقال: إن الجماعة الكثيرة من المسلمين لا يجوز أن يكون جميعهم كَذَبَة في خبرهم، مع اعتقادهم الإسلام. فإن قيل: يجوز أن يكون حكموا بهذه الأخبار مع سبب قارنها أوجب العلم بصدقها. قيل: لم يرد غير الأخبار ورجوعهم إليها، فدل على أنه كان سببها. ولأنه لا يجوز أن ينقل الخبر ويترك السبب الذي لأجله حكموا به. وعلى أن ابن عمر قال: فتركناها لقول رافع. وقال عمر: لو لم نسمع هذا؛ لقضينا برأينا. فدل على أن القضاء بالخبر حصل. فإن قيل: فقد روي عنهم: أنهم ردوا خبر الواحد ولم يقبلوه حتى انضاف إلى المخبر غيره. فروي عن أبي بكر في قصة الجدة: فيكم من سمع من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] شيئأ، فأخبره المغيرة بن شعبة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطعمها السدس) (1) فقال أبو بكر: من يشهد معك؟ فقال: محمد بن مسلمة: أنا، فلما كملا شاهدين عمل بقولهما.   (1) هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الفرائض، باب في الجدة (2/109-110) . وأخرجه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة (4/419-420) . وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة (2/909-910) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 870 وعن عمر أن أبا موسى (1) استأذن عليه ثلاثاً، فلم يؤذن له، فانصرف، فراسله عمر فقال: لم انصرفت؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثاً، فلم يؤذن له، فلينصرف) (2) ، فقال: من يشهد لك؟ فمضى أبو موسى [128/ب] إلى الأنصار، فقالوا: نبعث معك بأصغرنا أبي سعيد الخدري فمضى، فسمع عمر منهما.   (1) هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر الأشعري أبو موسى. أسلم بمكة قديماً، ثم رجع إلى قومه، ثم قدم في جماعهَ من الأشعريين على النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر. ولاه النبي صلى الله عليه وسلم اليمن ثم ولاه عمر البصرة، ثم عزله عنها عثمان بعد أن وليها صدراً من خلافته، ولكن عثمان ولاه الكوفة. فظل والياً عليها حتى عزله علي. مات بالكوفة، وقيل بمكة سنة (44 هـ) . له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/979) ، و (4/1762) ، و"الاصابة" القسم الرابع ص (211) ، طبعة دار نهضة مصر. (2) قصة استئذان أبي موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما وما جرى فيها، رواها أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرجها عنه البخاري في كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً (8/67) . وأخرجها عنه مسلم في كتاب الآداب، باب الاستئذان (3/1694) . وأخرجها عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان؟ (2/637) . وأخرجها عنه الترمذي في كتاب الاستئذان، باب ما جاء في الاستئذان ثلاثة (5/53) . وأخرجها عنه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب الاستئذان (2/1221) . وأخرجها عنه الدارمي في كتاب الاستئذان، باب الاستئذان ثلاثاً (2/187) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 871 وعن علي أنه كان ما يسمع الخبر حتى يستحلف عليه (1) . فثبت: أنهم ما قبلوا خبر الواحد بانفراده. قيل: يحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك احتياطاً، ولهذا روي عن عمر أنه لما فعل ذلك قال: خفت أن يجترأ على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فكأنه احتاط، فأما أن يكون فعله على الوجوب فلا. وكذلك ما كان عَلِيّ يفعله من اليمين، كان على طريق الاحتياط، ولهذا قبل قول أبي بكر بغير يمين. ولأن من لا يقبل خبر الواحد، لا يقبله مع اليمين أيضاً. وأيضاً: فقد ثبت الرجوع إلى قول المفتي وشهادة الشهود، وإن لم يكن ذلك أمراً مقطوعاً عليه، وإنما يحكم به من جهة غلبة الظن والاستدلال، كذلك الرجوع إلى قول المخبر، فإنه في معنى ذلك، بل الرجوع إلى المخبر أولى، فإن المفتي يخبر عن اجتهاد، والمخبر يخبر عن مشاهدة وسماع، فحاله أقوى من حال المفتي، فكان بالقبول أولى. ولأنه لو لم يقبل إلا المتواتر أفضى إلى بطلان العمارات وخراب الدنيا، لتشاغلهم بالنقل عنها، وإذا قلنا: يتشاغلون بالعمارات، حفظوا الدنيا، وضيعوا الشريعة، فلا بد من ترك أحدهما، فحفظنا المعاش بتشاغلهم بها، وحفظنا السنة بقبول خبر الواحد، فكان حفظهما معاً أولى من تعطيل أحدهما. وهذا كالشهادات لا بد للناس منها، فلو لم يقبل في الشهادات غير المتواتر أفضي إلى تشاغل الناس بحفظ ذلك وخراب الدنيا، وإذا قبلنا شهادة   (1) هذا الأثر عن علي، رضي الله عنه، سبق تخريجه ص (868) بلفظ: (ما حدثني أحد بحديث، إلا استحلفته، إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 872 الآحاد حفظنا الحقوق والدنيا معاً، فكان حفظهما أولى من تضييع أحدهما، كذلك الأخبار. فإن قيل: قولكم: لا بد من قبول خبر الواحد، غير مُسَلم، فإن منه ألف بدٍ، وذلك أن العمل في أحكامنا على ما ثبت قطعاً، وهو القرآن وخبر المتواتر، وما لم نجده فيهما بنيناه على الأصل في العقل. قيل: فعلكم هذا ترك للشريعة. وعلى أن في الأحكام ما لا يعرف بالعقل ولا بالعمل على ما كان في الأصل، كالدية على العاقلة، ونحو هذا، فبطل أن لا يعمل على خبر الواحد. ولأن خبر الواحد لو كان مما لا يوجب العمل، لوجب أن ينكر على من يحفظه ويكتبه ويدونه؛ لأنه لا فائدة فيه، كمن كتب ما لا يفهم، ويحفظ ما لا ينفع، فإن كل واحد ينكر عليه ويسفهه، فلما [لم] نجد أحداً من سلف هذه الأمة وغيرهم أنكر هذا، ثبت أنهم إنما أقروا عليه لهذه الفائدة التي ذكرنا. فإن قيل: فالناس ينقلون اللغة ويكتبونها، ولا يستفاد منها حكم. [130/أ] قيل: لا ينقل إلا لفائدة، وهو يتأدب بها ويعرف، وكذلك الخبر لا فائدة في نقله غير العمل بموجبه والمصير إلى حكمه. ويختص من اعتبر رواية اثنين بأنه خبر عن حكم شرعي، فوجب أن لا يعتبر في العدد قياساً على الفتيا، وما لا يشثرط في قبول قول المفتي لا يشترط في قبول [قول] النبي، أصله: الذكورية والحرية والنسب. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (1) ، وقوله   (1) (36) سورة الإسراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 873 تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (1) . والجواب: أن وجوب العمل به معلوم؛ لأن الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد موجب للعلم قاطع للعذر، كما يقول المخالف في حكم الحاكم بالشاهدين، وغير ذلك مما ذكرته من (2) نظائره. وجواب آخر وهو: أن هذا ينقلب عليهم في إبطالهم القول بخبر الواحد، فإنهم حكموا بذلك، وهو غير معلوم عندهم. واحتج: بقوله تعالى: (إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي منَ الْحَقِّ شَيْئاً) (3) . والجواب: أن المراد به الظن الذي لا دليل على العمل به (4) ، مع أنه ينقلب عليهم في ترك القول بخبر الواحد. واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل خبر ذي اليدين حتى انضاف إليه غيره. والجواب: أن من لم يقبل خبر الواحد لم يقبل خبر الاثنين أيضاً، فلا حجة له في ذلك. على أنا نقول بظاهر الخبر، ولا يقبل في مثل ذلك أقل من اثنين؛ لأن قول المأمومين، الواحد منهم ليس بأقوى من ظنه، فلم ينصرف عن ظنه بقوله.   (1) (169) سورة البقرة. (2) كلمة (من) مكررة في الأصل. (3) (28) سورة النجم. (4) العبارة في الأصل هكذا: (أن المراد به الذي لا دليل على العمل به الظن) ، وما أثبتناه هو الصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 874 فأما إن سبّح به اثنان، كان قولهما أولى من ظنه، وليس كذلك أخبار الديانات؛ لأنه ليس عنده ما يخالف خبره، فلهذا وجب قبوله. واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر في الإشهاد على عقوده على (1) اثنين، فدل على أن الواحد غير مقبول. والجواب: أنه لم يشهد على عقوده النساء والعبيد، ولم يدل ذلك على امتناع قبول خبرهم. واحتج: بأنه لا يقبل قول من ادعى أنه نبي إلا بحجة توجب العلم. والجواب: أنه إنما لم يقبل قوله؛ لأنه لا دليل معه على وجوب قبول قوله والعمل به، وليس كذلك خبر الواحد في الأحكام، فإن عليه دليلاً يوجب قبول قوله والعمل به. واحتج: بأنه لا يقبل في أصول الديانات، كذلك في فروعها. والجواب: أن هذا يبطل بشهادة الشاهدين، وبقول المفتي يقبل في فروع الدين، وإن لم يقبل في أصوله. [130/ب] وعلى أنه يعمل بخبر الواحد في كل حكم لا دليل عليه يوجب العلم ويقطع العذر. وأما الحكم الذي عليه دليل موجب للعلم، فلا يعمل فيه بخبر الواحد لأنه إذا أمكن الوصول إليه من طريق العلم، لم يجز من طريق الظن، وليس كذلك في هذه الأحكام الشرعية، فإنه لا طريق إليها من جهة العلم، ففرض علينا الحكم بخبر العدل الذي ظاهره الصدق، كما يقول المخالف في الحكم بالشهاة والفتيا، ولأن ذلك يتضمن نقل ملة إلى أمة (2) ، فاحتاج إلى معرفة ذلك قطعاً.   (1) في الأصل: (من) . (2) في الأصل: (ملة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 875 واحتج: بأن طريق العمل به هو الشرع، وقد طلبنا الشرع، فلم نجد. والجواب: أنه يجوز عليك الخطأ في طلبه والعدول عن طريقه. واحتج: بأن الأصول قد تهذبت وتجهزت، فلا يترك اليقين بالشك. والجواب: أنه باطل بالشهادات، فإن الأصل: أن الحق في الذمة، وإذا شهد اثنان على أصل القضاء والإبراء، تركنا اليقين لغالب الظن. وباطل بالفتيا؛ فإن الإنسان على يقين من عقد النكاح، وفي شك من وقوع الفرقة، ومع هذا ترك اليقين بقول المفتي. واحتج: بأنه لما لم يجز تقليد العالِم للعالِم؛ لأنه لا يقطع بصحته، كذلك لا يجب الرجوع إلى خبر الواحد. والجواب: أنه إنما لم يقلده؛ لأن معه آلة يتوصل بها إلى الحكم، فلم يرجع إليه فيه، وليس كذلك الخبر؛ لأن المخبر ليس معه من آلة الحكم ما مع المخبر، فلهذا قبل قوله فيه [ولا يمنع] (1) هذا أن يقلد العامي العالِم، فإنه جائز؛ لأنه ليس معه آلة يقع له العلم بها. واحتج: بأن في إيجاب العمل به ما يفضي إلى ترك العمل به؛ لأن الأخبار في الشريعة كثيرة، لا تحصى، ولا يأتي عليها حصر، وفيها الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، فإذا أوجبنا عليه العمل بخبر الواحد، لزمه أن يستوفي كل ما ورد منها؛ لأنه قد يكون فيما لم يبلغه ناسخ ما بلغه. ولأن العمل به يفضي إلى التوقف في عمومات القرآن؛ لأنا نخص عموم القرآن به، ونرد (2) به الظاهر عن ظاهره، فإذا لزم هذا، لزم   (1) ما بين القوسين بياض في الأصل. (2) في الأصل: (ونريد به) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 876 البحث عن الأخبار؛ لئلا يكون هناك ما يخص به هذا العموم، والإحاطة به. والجواب: أن المفتي لا يصح منه الفتيا، حتى يكون من أهل الاجتهاد، بأن يعرف جمل الشريعة: الكتاب والسنة، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والمجمل والمفسر، كل هذا يعلمه، ويبني بعض الكلام على بعض، ولكن فيما انتهى إليه وعرفه، [131/أ] فأما فيما لم يتصل به، ولا يعرفه، فلا يلزمه التوقف فيما بلغه، لجواز أن يكون هناك مالم يبلغه، ألا ترى أن الحاكم إذا شهد عنده بالقتل اثنان، قضى بشهادتهما، وهو يجوز أن يكونا فاسقين، وأن يكون القول ساقطاً عن المشهود عليه، كذلك ها هنا. واحتج من قال: لا يقبل الخبر، حتى ينقله اثنان: بأنه لما لم تقبل الشهادة إلا من اثنين، كذلاث الخبر، يجب أن يكون مثله. والجواب: أن الشهادة قد تقبل من واحد في رؤية الهلال، وفي شهادة القابلة. وعلى أن هذا موجب أن لا يقبل الخبر فيما يوجب الحد إلا من أربعة، كما لا يقبل في الزنا أقل من أربعة. وعلى أن الشهادة مؤكدة بما لم يؤكد به الخبر، وهو أنها لا تسمع حتى يبحث عن حال الشهود، ويقبل الخبر ممن ظاهره العدالة، من غير بحث عنه. ويقبل خبر العنعنة، وهو قول الراوي عن فلان كذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهادة العنعنة لا تقبل حتى ينقل اللفظ، فيقول: أشهدني فلان على شهادته بكذا، واللفظ يعتبر في الشهادة دون الخبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 877 وتقبل فيه النساء، ولا تقبل في كثير من الشهادات، فكانت الشهادات أقوى، فاعتبر فيها العدد، ولم يعتبر في الخبر، وإنما كان كذلك؛ لأن حكم الخبر يستوي فيه المخبِر والمخبَر، والشهادة لا يستوي فيها الشاهد والمشهود له، فلهذا قبلنا الواحد في هلال رمضان؛ لأنه يستوي فيه الشاهد والمشهود له، فبان الفرق بينهما. مسألة (1) ما يعم فرضه يقبل فيه خبر الواحد كما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (2) .   (1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (239) . (2) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في التسمية على الوضوء (1/23) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية في الوضوء (1/140) . وأخرجه عنه الحاكم في كتاب الطهارة، باب التسمية عند الوضوء (1/146) ، وقال فيه: (هذا حديث صحيح الإسناد، وقد احتج مسلم بيعقوب بن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة: دينار، ولم يخرجاه) . وقد تعقبه الذهبي بقوله: (صوابه: حدثنا يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه عن أبي هريرة.. وإسناده فيه لين) . وتعقبه ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير" (1/72) بقوله: (.. ورواه الحاكم من هذا الوجه فقال: يعقوب بن أبي سلمة، وادعى أنه الماجشون، وصححه لذلك، والصواب: أنه الليثي، قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه، ولا لأبيه من أبي هريرة. وأبوه ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "ربما = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 878 وكما روي في رفع اليدين في الركوع (1) ، وما يضارع ذلك من الأخبار.   = أخطأ"، وهذه عبارة عن ضعفه، فإنه قليل الحديث جداً، ولم يرو عنه سوى ولده، فإذا كان يخطىء مع قلة ما روى، فكيف يوصف بكونه ثقة) ؟ ثم نقل ابن حجر عن ابن الصلاح قوله: "انقلب إسناده على الحاكم، فلا يحتج لثبوته، بتخريجه له". كما نقل عن ابن دقيق قوله: "لو سلم للحاكم أنه يعقوب ابن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة: دينار، فيحتاج إلى معرفة أبي سلمة، وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال، فلا يكون أيضاً صحيحاً". وأخرجه عن أبي هريرة الدارقطني في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء (1/71) ولفظه: (ما توضأ من لم يذكر اسم الله، وما صلى من لم يتوضأ، وما آمن بي من لم يحبني، وما أحبني من لم يحب الأنصار) . وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى"، في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء (1/44) ، وقال فيه: (وهذا الحديث لا يعرف من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة إلا من هذا الوجه، وكان أيوب بن النجار (أحد رواة الحديث) يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير (أحد رواة الحديث) إلا حديثاً واحداً، وهو: حديث التقى آدم وموسى، ذكره يحيى بن معين فيما رواه عنه ابن أبي مريم، فكان حديثه هذا منقطعاً والله أعلم) . والحديث له شواهد أوردها الزيلعي في "نصب الراية" (1/3-5) ، وكذلك "تلخيص الحبير" كما سبق الإشارة إلى ذلك، فارجع إليهما إن شئت. (1) هذا اشارة إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع (1/177-178) ولفظه: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه، حتى تكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول: "سمع الله لمن حمده" ولا يفعل ذلك في السجود") . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع (1/292) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة (1/166) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 879 وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقبل فيه خبر الواحد (1) . دليلنا: أن الصحابة اختلفوا في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال وهذا مما يعم فرضه، فأرسلوا إلى عائشة يسألونها، فقالت: (إذ التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاغتسلنا) ، فصاروا إلى ما روت. وكذلك ميراث الجدة، مما يعم فرضه، أثبتوه بخبر الواحد؛ لأن الجدة جاءت أبا بكر، فقال: لا أجد لك في كتاب الله شيئاً. فروى له المغيرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعمها السدس) وتابعه محمد بن مسلمة، فعمل   = وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع (2/35) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب السهو، باب رفع اليدين للقيام إلى الركعتين الأخريين حذو المنكب (3/4) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع (1/279) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب في رفع اليدين في الركوع والسجود (1/229) . وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكر التكبير ورفع اليدين عند الافتتاح والركوع والرفع منه (1/287-288) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب تكبيرة الإحرام ودعاء الافتتاح ورفع اليدين عند التكبير (1/70-71) . وأخرجه عنه الطحاوي في "كتابه" شرح معاني الآثار، في كتاب الصلاة، باب التكبير للركوع والتكبير للسجود والرفع منه (1/222) . (1) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/112) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/128) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 880 به أبو بكر. وغير ذلك. ولأن خبر الواحد مما قد دل دليل قاطع على ثبوته والعمل به، [131/ب] يجري مجرى الآية المقطوع على وجوب الرجوع إليها. ولأن خبر الواحد أصل القياس، فإنه منه يستنبط ويتفرع، فإذا جاز إثبات هذه الأحكام بالقياس مع ضعفه، كان جواز ذلك بخبر الواحد أولى. ولأنه خبر عدل فيما يتعلق بالشرع، مما لا طريق فيه للعلم، ولا يعارضه مثله، فوجب العمل به قياساً على ما لا يعم فرضه. واحتج المخالف: بأن ما يعم فرضه سائر المكلفين، لا بدّ من توقيف من النبي [صلى الله عليه وسلم] للكافة على حكمه؛ لأنه غير جائز ترك تعريف ما لا يعرف إلا من جهته، ومتى وقف الكافة عليه، فإن نقله يكون عاماً مستفيضاً، فإذا رواه الآحاد علمنا أنه غير صحيح في الأصل أو منسوخ. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن ما يعم فرضه، ليس من شرطه توقيف من النبي [صلى الله عليه وسلم] لهم، بل يجوز أن يتعبد في ذلك بالظن، ورجوع العامة إلى اجتهاد أهل العلم [فيـ] لقى حكمه إلقاء خاصاً، فلا يظهره، ويكون من بلغه خبره يلزمه حكمه، ومن لم يبلغه خبره مأموراً بالاجتهاد، وطلب ذلك الحكم من جهة الخبر. وجواب آخر، وهو: أنا لو سلمنا ذلك، فإن النقل لا يجب أن يكون على حسب البيان؛ فإن الصحابة كانت دواعيهم مختلفة، وكان بعضهم لا يرى الرواية، وكان يؤثر الاشتغال بالجهاد على الرواية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 881 وقال السائب بن يزيد (1) : صحبت سعد بن أبي وقاص زماناً، فما سمعت منه حديثاً، إلا أني سمعته ذات يوم يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق، والخليطان: ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي) (2) .   (1) هو: السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود بن أخت النمر الكندي، وقيل: أزدي، وقيل: غير ذلك. صحابي ابن صحابي ولد سنة اثنتين من الهجرة. وحج به أبوه مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. كان من عمال عمر على سوق المدينة. مات بالمدينة سنة (86 هـ) ، وقيل: سنة (91 هـ) ، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/576) ، و"الإصابة" القسم الثالث ص (26) ، طبعة دار نهضة مصر، و"خلاصة تذهيب الكمال" (132) طبعة بولاق. (2) هذا الحديث أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الزكاة، باب صدقة الخلطاء (4/106) . وأخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب تفسير الخليطين (2/104) . وهذا الحديث غير صحيح، وآفته من "ابن لهيعة"، فإنه تفرد بهذا الحديث. وقد قال البيهقي: "أجمع أصحاب الحديث على ضعف ابن لهيعة وترك الاحتجاج بما ينفرد به". وقال ابن أبي حاتم في كتابه "العلل" (1/219) : سألت أبي عن هذا الحديث، فقال: "هذا حديث باطل عندي، ولا أعلم أحدا رواه غير ابن لهيعة. قال أبي: ويروى من كلام سعد فقط". ونال ابن معين: "هذا الحديث باطل، وإنما هو من قول يحيى بن سعيد، هكذا حدث به الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد من قوله". راجع في هذا: "تلخيص الحبير"، كتاب الزكاة، باب صدقة الخلطاء (2/155) . قلت: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ... ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ... ) ، وهو جزء من حديث أنس الطويل. أخرجه البخاري وأحمد = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 882 ويبين صحة هذا: أنه بين الحجة، بياناً عاماً، ونقل من جهة الآحاد، واختلف الناقلون له فيه. وكذلك رجم ماعز، وأشياء كثيرة من هذا الجنس. واحتج: بأن عموم فرضه للكافة، يقتضي ظهور فعله فيهم، وما يظهر فعله في الكافة، لا يقبل فيه خبر الأفراد، ألا ترى أنه لا يقبل خبر الأفراد في حدوث فتنة عظيمة في الجامع يوم الجمعة وقت صعود الخطيب المنبر؟ لأن ما هذا حاله يشترك فيه الجماعات، ولهذا لم يقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر ذي اليدين، حين أخبره بالسهو في صلاته، حتى أخبره معه جماعة؛ لأنه أخبر بأمر ظهر للجماعة، فلم يقبل فيه خبره. والجواب: [132/أ] أنا قد، بينّا: أن عموم فرضه لا يقتضي ظهور فعله فيهم. وقولهم: إن ما يظهر فعله لا يقبل فيه الأفراد، كالفتنة في يوم الجمعة، لا يشبه (1) أخبار الديانات؛ لأن العادة في مثل ذلك: أنه إذا جرى مثل ذلك، سارع الناس الى روايته، والهمم والطباع مجبولة على ذلك فإذا انفرد به الواحد لم يقبل (2) ، وليس كذلك أخبار الديانات؛ لأنه ليس العادة أن يتطابق الكل على نقله، بل قد بينّا: أن أحوال الصحابة في ذلك مختلفة، فمنهم من كان لا يتشاغل بذلك. واحتج: بأنكم قلتم: إن قول الرافضة (3) -: إن علي بن أبي طالب   = وأبو داود والنسائي كما حكى ذلك المجد في كتابه: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (311-313) وابن الديبع في كتابه: "تيسير الوصول" (2/58-60) . (1) في الأصل: (ولا يشبه) . (2) في الأصل: (تقبل) بالتاء المثناة. (3) الرافضة: فرقة كانت مع "زيد بن علي" رحمه الله، وكانت تقول بإمامته. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 883 رضي الله عنه منصوص على إمامته بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطل؛ لأنه لو كان كذلك، لوجب أن ينقل نقلاً مستفيضاً، كذلك ها هنا. والجواب: أنا أنكرناه؛ لأن عندهم أنه من فرض كل واحد أن يعلمه ومثله لا ينقل خاصاً، وليس كذلك ما يعم فرضه، فإنا كلفنا الحكم فيه بالظن، فافترقا. واحتج: بأن قبول خبر الواحد في مثل هذا الحكم يفضي إلى التوقف في أحكام الكتاب، لجواز أن يكون نسخت، ولم ينقل نسخها. والجواب: أن النسخ لا يجري هذا المجرى؛ لأنه رفع حكم وإسقاط، فإذا كان ذلك الحكم ثابتاً من جهة الاستفاضة، فلا يجوز أن ينقل إسقاطه (1) من جهة الآحاد، وهذا إثبات حكم مبتدأ، فيجوز ذلك بالأمر المقطوع عليه والمظنون. واحتج: بأنه، لما لم يجز إثبات القرآن بخبر الواحد، لأنه ما يعم فرضه، كذلك في هذا الحكم. والجواب: أن القرآن قد أخذ علينا معرفته قطعاً ويقيناً، فلا يجوز   = وقد طلبوا منه التبرؤ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فامتنع، فرفضوه، وتفرقوا عنه. وقيل: إن الذي سماهم بذلك "المغيرة بن سعيد"؛ لأنه زعم أن أبا جعفر أوصى له، لكن بعضهم لم يسمع منه وتركه، فسماهم "رافضة". وقبل: إن هذا الاسم قد توسع فيه، حتى أصبح يطلق على كل من يغالي في حب آل البيت، وعلى هذا فهم فرق شتى، وطوائف كثيرة. راجع: "الفرق بين الفرق" ص (21) ، وهامشه للشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، و"كتاب الزينة" القسم الثالث منه لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي ص (270) مطبوع مع كتاب: "الغلو والفرق الغالية". (1) في الأصل: (إسقاط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 884 إثباته بخبر الواحد المظنون، وهذا الحكم طريقه غلبة الظن، فجاز إثباته بأمر مظنون، وقد أثبتنا قرآناً من جهة الحكم بخبر واحد، نحو قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وغير ذلك. مسألة (1) ما تعم البلوى به يقبل فيه خبر الواحد مثل ما روي من الوضوء في مس الذكر (2) ومس المرأة (3) ، وما يجري هذا المجرى. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقبل فيه خبر الواحد (4) . دليلنا: ما نقدم في المسألة التي قبلها. ولأن شروط البيوع والأنكحة وما يعرض في الصلاة والوضوء من الخارج من غير السبيلين، والمشي مع الجنازة، وبيع رباع مكة وإجارتها، ووجوب الوتر ونحوه، أثبته المخالف بخبر الواحد، وهو مما يعم به البلوى.   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (238) ، و"التمهيد" الورقة (115/ب-116/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/327-328) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (268) من الملحق. (2) حديث الوضوء من مس الذكر قد سلف تخريجه ص (832) . (3) الوضوء من مس المرأة قد سلف تخريجه ص (328) . (2) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/112) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/128) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 885 [32/ب] وذهب المخالف إلى ما حكيناه عنه في ال مسألة التي قبلها، وقد أجبنا عنه. مسألة (1) يقبل خبر الواحد في إثبات الحدود. وقد أثبت أحمد رحمه الله اجتماع الجلد والرجم على الزاني المحصن بخبر عبادة (2) . وأثبت النفي والجلد على الزاني البكر بخبر العسيف (3) ، وغير ذلك.   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (239) ، و"التمهيد" الورقة (116/أ) ، (2) و"روضه الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/338) . (2) حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا) الحديث، قد سبق تخريجه ص (814) . (3) حديث العسيف رواه أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أخرجه عنهما البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جواز فالصلح مردود (3/228) ، وقصة العسيف معروفة، فلا داعي لسردها. وأخرجه عنهما مسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (3/1324) . وأخرجه عنهما أبو داود في كتاب الحدود، باب في المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة (2/463) . وأخرجه عنهما، وعن شبل جميعاً الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم على الثيب (4/39) . وأخرجه عنهما النسائي في كتاب آداب القضاة، باب صون النساء عن مجلس الحكم (8/211) . وأخرجه عنهما وعن شبل جميعاً ابن ماجه في كتاب الحدود، باب حد الزنا (2/852) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 886 وهو قول أصحاب الشافعي (1) . واختلف أصحاب أبي حنيفة: فحكى أبو سفيان عن أبي يوسف (2) : أنه يقبل. وهو اختيار أبي بكر الرازي. وحكى عن الكرخي: أنه لا يقبل فيه، ولا فيما يسقط بالشبهة (3) . دليلنا: أنه خبر عدل فيما يتعلق بالشرع مما لا طريق فيه للعلم، ولا يعارضه مثله، فوجب العمل به، قياساً على غير الحدود.   = وأخرجه عنهم الدارمي في كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا (2/98) . وأخرجه عن أبي هريرة وزيد بن خالد الإمام الشافعي في كتاب الحدود باب رجم الزاني المحصن وجلد البكر وتغريبه (2/284) . وأخرجه الطيالسي عن زيد بن خالد في كتاب الحدود، باب قصة العسيف (1/298) . (1) راجع في هذا: "المنخول" للغزالي ص (253) ، و"شرح الجلال على جمع الجوامع" مع "حاشية البناني" (2/131) ، و"الإحكام" للآمدي (2/106) . (2) هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، أبو يوسف. من أكبر أصحاب الإمام أبي حنيفة. تولى القضاء للمهدي وابنيه. وهو أول من لقب بقاضي القضاة. توفي ببغداد سنة (182هـ) . انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (14/242) ، و"تاج التراجم في طبقات الحنفية" ص (81) ، و"شذرات الذهب" (1/298) ، و"طبقات الفقهاء" لطاش كبرى زادة ص (15) ، و"النجوم الزاهرة" (2/107) ، وقد ألف فيه الأستاذ محمود مطلوب كتاباً سماه: "أبو يوسف حياته وآثاره وآراؤه الفقهية" تحدث فيه عن الجوانب المختلفة في شخصية أبي يوسف. (3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/88) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/136) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 887 ولأن خبر الواحد يوجب غلبة الظن، كما أن شهادة الشاهدين توجب غلبة الظن، ثم ثبت أن الحد يجب بشهادتهم، فالخبر كذلك. يبين صحة هذا: أن الحكم بالشهادة ثابت من طريق موجب للعلم وهو الإجماع ونص القرآن وخبر الواحد، كذلك الحكم به ثابت من طريق موجب للعلم، وهو الإجماع والقرآن. واحتج المخالف: بأن الحدود موضوعة في الأصل على أن الشبهة تسقطها، وخبر الواحد لا يوجب العلم، وإنما يوجب غلبة الظن، فيصير ذلك بمنزلة حصول شبهة، فيمتنع من ثبوته. والجواب: أن هذا يوجب أن لا يحكم بالحد بشهادة الشهود؛ لأن العلم لا يحصل مع شهادتهم، وقد أجمعنا على ثبوته بقولهم، فبطل ما ذكروه. مسألة (1) خبر الواحد مقدم على القياس وهذا ظاهر على أصله، فإنه أخذ بحديث الأقرع (2) : (لا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة) (3) ، وترك القياس فيه.   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (239) ، و"التمهيد" الورقة (116/أ-117/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/328-331) . (2) هو: الحكم بن عمرو الغفاري صحابي. ولاه زياد على البصرة، ثم عزله عنها وولاه بعض أعمال خراسان. مات سنة (50 هـ) قيل: بالبصرة وقيل: بخراسان. له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/356) ، و"الإصابة" القسم الثاني ص (107) طبعة دار نهضة مصر. (3) هذا الحديث أخرجه عن الحكم بن عمرو الغفاري، وهو الأقرع أبو داود في = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 888 وكذلك إيجاب غسل اليدين عند القيام من النوم، وخالف بين نوم اللّيل ونوم النهار. وكذلك القرعة بين العبيد، قدم الخبر على القياس؛ لأن القياس يمنع جمع عتق في ستة إلى اثنين، وغير ذلك. وهو قول أصحاب الشافعي (1) . وقال أصحاب أبي حنيفة: إن خالف الأصول أو معنى الأصول لم يحتج به، ويقبل إذا خالف قياس الأصول (2) . وحكي عن مالك: أن القياس أولى من خبر الواحد. دليلنا على أنه مقدم على القياس: إجماع الصحابة، روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه   = كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك - أي عن الوضوء فضل وضوء المرأة (1/19) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في كراهية فضل طهور المرأة (1/92-93) ، وقال فيه: "حديث حسن". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب النهي عن فضل وضوء المرأة (1/146) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك (1/132) . (1) راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (3/107) ، و"اللمع في أصول الفقه" ص (41) . (2) هذا النقل غير محرر، فإن صاحب "تيسير التحرير" (3/116) ذكر أن الإمام أبا حنيفة يقول بتقديم خبر الآحاد على القياس مطلقاً. أما السرخسي فيقول في "أصوله" (1/341) : (وما خالف القياس، فإن تلقته الأمة بالقبول فهو معمول به، وإلا فالقياس الصحيح شرعاً مقدم على روايته فيما ينسد باب الرأي فيه..) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 889 ترك القياس بخبر حمل بن مالك بن النابغة في غرة الجنين. وكان يفاضل بين ديات [133/أ] الأصابع، ويقسمها على قدر منافعها، فلما روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (في كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل) (1) رجع عنه إلى الخبر، وكان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينكر ذلك منكر، ولم يخالفه فيه مخالف، فدل على أنه إجماع عنهم. وأيضاً: لو كان القياس والقول الخاص مسموعين من النبي - صلى الله عليه وسلم -،   (1) هذا الحديث، وقصة رجوع عمر رضي الله عنه عن رأيه، أخرجهما البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الديات، باب الأصابع كلها سواء (8/93) بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: قضى عمر رضي الله عنه في الأصابع، في الإبهام بثلاث عشر، وفي التي تليها باثنتي عشر وفي الوسطى بعشر، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست، حتى وجد كتاب عند آل عمرو بن حزم يذكرون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما هنالك من الأصابع "عشر، عشر". قال سعيد: فصارت الأصابع إلى عشر، عشر. وحديث عمر بن حزم رضي الله عنه أخرجه النسائي في كتاب القسامة، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له (8/51) وذكر له إسنادين قال عقب السند الأول: "خالفه محمد بن بكار بن بلال". وقال عقب السند الثاني: "وهذا أشبه بالصواب والله أعلم. وسليمان بن أرقم [أحد رواة السند الثاني] متروك الحديث. وقد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلاً. ثم ساق بعد ذلك الرواية المرسلة. وفي الباب عند أبي موسى الأشعري عند أبي داود برقم (4557) والنسائي (8/56) وابن ماجة برقم (2654) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عند أبي داود برقم (4566،4563،4562) وسنده حسن. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الزكاة، باب زكاة الذهب (1/395-397) ، وصححه، وقال: "هو قاعدة من قواعد الاسلام". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 890 لوجب تقديم القول الخاص. مثاله: أن يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنت الأمة جلدت خمسين لرقها، وإذا زنى العبد جلد مائة، فيكون نصه على العبد أولى من القياس. وكذلك إذا كان كل واحد منهما مجتهداً فيه، وجب أن يكون الخاص أولى من القياس. وأيضا: فإن القياس يفتقر إلى الاجتهاد في موضعين: أحدهما: في ثبوت العلة في الأصل. والثاني: في الحكم في الفرع؛ لأن من الناس من قال: إذا ثبتت العلة في الأصل لا يجب الحكم بها في الفرع، إلا أن يحصل الأمر بالقياس، والاجتهاد في خبر الواحد في ثبوت صدق الراوي، فإذا ثبت صدقه من طريق يوجب الظن، وجب المصير إليه، ولم يبق موضع آخر يحتاج إلى اجتهاد فيه؛ ولأن طريق ثبوت صدقه في الظاهر أجل من طريق ثبوت العلة؛ لأنه يدل عليه عادته في الزمان الطويل في اتباع الطاعات وتحرز الصدق وتجنب الإثم، فدل هذه العادة على أنه مختار للصدق فيما حدث به، فيكون أولى من طريق العلة. وأيضاً: فإن الخبر أصل بنفسه، وليس بمقيس على غيره، كما أن الأصول المنصوص عليها والمتفق على حكمها، أصول بأنفسها، غير مقيسة على أغيارها، فإذا كان كذلك، كان (1) موجب الأصل المجمع عليه أقوى من موجب القياس، كذلك موجب خبر الواحد، يكون أقوى من موجب القياس. وليس لهم أن يقولوا: إن العلم وقع لنا بموجب تلك الأصول؛ لأنه لا معتبر بوقوع العلم فيما ذكر؛ لأن موجب العقل في باب الإبا حة ونحوها يدفعه القياس وخبر الواحد، وإن كان موجب   (1) في الأصل: (وكان) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 891 العقل ثابتاً من جهة توجب العلم. وأيضا: فإن الخبر مما يؤدي إلى العلم، إذا أكثر من يخبر به، والقياس لا يؤدي إلى العلم، وإن كثرت وجوه الشبه فيه، فكان ما يؤدي إلى العلم أقوى مما لا يؤدي إلى ذلك. واحتج المخالف: بأن القياس يتعلق [133/ب] بفعله، وهو استدلاله على صحة العلة في الأصل، وصدق الراوي في خبره مغيب عنه، غير متعلق بفعله وثقته، فما هو متعلق بفعله أكثر تنبيهاً مما هو متعلق بغيره، فوجب أن يكون أولى. والجواب: أن هذا يبطل بعلم الحاكم، فإنه أكثر تنبيهاً من قول الشهود. وعندنا وعند مالك: لا يحكم بعلمه، ويحكم بشهادة الشهود، على أنهما سواء؛ لأنه يستدل على صدق الراوي بما يعلمه من أفعاله الدالة على صدقه، كما أن القياس يستدل [به] على أن صاحب الشريعة حكم في الأصل لمعنى من المعاني، وقصده يكون ثبوت قصد صاحب الشريعة بالنظر في الأمارات الدالة عليه، كثبوت صدق الراوي، ولا فرق بينهما. واحتج: بأن خبر الواحد يجوز فيه مما يمنع العمل به أربعة أوجه، وهي: كونه منسوخاً، وكونه كذباً، وكون المخبر به فاسقاً، وكونه خطأً، والقياس لا يجوز فيه ما يمنع العمل به، إلا وجه واحد، وهو كونه خطأً. والجواب: أن ما يوجب فساد الشيء، لا يعتبر فيه بالقلة والكثرة، ألا ترى أن كون الراوي مغفلاً، لما كان مانعاً من قبول خبره، لم يختلف فيه وجود الفسق مع الغفلة وعدم الفسق معها، وإن كان أحد الوجهين أقوى في باب الفسق من الآخر، فإذا كان [كذلك] لم يجز أن يرجح القياس على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 892 الخبر لوجود كثرة وجوه الخطأ في الخبر، وقلتها في القياس، وليس هذا بمنزلة ما اعتبرناه من كثرة وجوه الشبه في القياس، أنها توجب ترجيحه على ما قلتّ وجوه الشبه فيه لأن ما يوجب صحة الشيء وثباته، فإنه يقوى بكثرة وجوه الإثبات، ألا ترى أن كثرة الرواة يقوى بها الخبر، ويحصل له بها المزية على ما قلَّت رواته، لما كانا موجبين للثبات والصحة، وإن لم يرجع أحد الخبرين على الآخر في باب الفساد، لكثرة وجوه الفساد. وجواب آخر وهو: أنه لو كان على الاعتبار بما ذكره، لوجب أن يكون خبر الواحد أولى من القياس المستنبط من الخبر؛ لأنه قد اجتمع فيه خمسة أوجه من جواز ما يمنع العمل به، أربعة منها ما ذكره المخالف في الخبر، والوجه الخامس ما ذكره في القياس، فقد بَانَ بهذا: أن ما اعتبره يؤدي إلى كون الخبر أولى من القياس على القضية التي صار إليها. واحتج: بأن القياس لا يصح فيه معنى الحقيقة والمجاز والاحتمال، ويصح ذلك في الخبر. والجواب: أن هذا كله موجود في نص القرآن والسنة المقطوع [134/أ] بها. واحتج: بأنه يجوز أن يقع الإجماع على موجب القياس، ولا يمنع أن يجمعوا على العمل بخبر الواحد؛ لأن إجماعهم على العمل بموجب الخبر يخرجه عن كونه خبر واحد، ويجعله في حيز التواتر عندكم، لأنهم لا يجمعون إلا على ما قامت به الحجة في الأصل، وعلموا مخبره، وإن ضعف نقله. والجواب: أن الإجماع إنما يحصل على الحكم الثابت بالقياس، ولا يحصل الإجماع على القياس نفسه، فكيف يكون ذلك موجباً له، إن صح القياس على خبر الواحد؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 893 فصل وأما أصحاب أبي حنيفة فإن قالوا: يرد خبر الواحد إذا خالف الأصول التي هي نص الكتاب ونص السنة المتواترة والإجماع، فنحن نوافق على ذلك، إلا أنهم يقولون هذا في المصراة والتفليس والقرعة، وليس فيها شيء من ذلك. فإن قالوا: يرد إذا خالف قياس الأصول ومعناها. وقولهم بمنزلة قول أصحاب مالك. وقد بينا فساد ذلك. على أن هذا ليس بمذهب أبي حنيفة (1) ؛ لأنه قال: إذا أكل ناسياً لم يفطر، وكان القياس أن يفطر، ولكن ترك القياس بخبر أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الله أطعمك وسقاك) (2) . وأوجب الوضوء من نبيذ التمر بخبر عبد الله بن مسعود (3) ، وخالف   (1) سبق أن نقلنا عن كتاب "تيسير التحرير" (3/116) ، أن الإمام أبا حنيفة يقول بتقديم خبر الآحاد على القياس تقديماً مطلقاً. (2) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذ أخرجه عنه البخاري في كتاب الصوم باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً (3/38) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (2/809) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسياً (3/91) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصيام، باب من أكل ناسياً (1/559) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في من أفطر ناسياً (1/535) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصيام، باب فيمن أكل ناسياً (1/346) . (3) الذي يروى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بالنبيذ، وقد سبق تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 894 معنى الأصول. وكذلك انتقاض الوضوء بالقهقهة في الصلاة (1) .   (1) خبر القهقهة، الذي يشير إليه المؤلف، رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - أخرجه عنه الطبراني، كما ذكر ذلك الزيلعي في نصب الراية (1/47) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/246) ، ولفظه: ( ... بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، إذ دخل رجل، فتردى في حفرة كانت في المسجد -وكان في بصره ضرر- فضحك كثير من القوم، وهم في الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء، ويعيد الصلاة) . وهذا الحديث في إسناده ثلاثة رواة متكلم فيهم: أولهم: "محمد بن عبد الملك الدقيقي"، وثقه النسائي والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو داود: لم يكن بمحكم العقل. وقال الهيثمي في تعليقه على الحديث: (.. وفيه محمد بن عبد الملك الدقيقي، وبقية رجاله موثقون) . راجع في ترجمته: "تهذيب التهذيب" (9/317) ، و"الميزان" (3/632) . ثانيهم: "محمد بن موسى بن أبي نعيم الواسطي" قال أبو حاتم: "صدوق". وقال ابن معين: "كذاب خبيث". وقال مرة أخرى: "ليس بشيء". وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه تفرد به". راجع ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (2/637) ، و"الميزان" (4/49) . ثالثهم: "هشام بن حسان الفردوسي البصري". إمام مشهور. ثقة، الا أن يحيى ابن سعيد يضعفه. وفي حديثه عن الحسن وعطاء مقال. وصفه ابن المديني وأبو حاتم بالتدليس. انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" (1/163) ، و"تهذيب التهذيب" (11/34) ، و"الخلاصة" ص (351) ، و"طبقات الحفاظ" ص (71) ، و"طبقات = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 895 وكذلك القسامة حكموا فيها بخلاف القياس بما ذكروه (1) من الأثر. وعلى أن الخبر الوارد في بعض الأصول، لا يكون إلا مخالفاً للأصول. ولأن خبر الواحد أصل كغيره من الأصول، فلئن جاز أن تترك الأصول، جاز أن تترك الأصول له، لمساواتها. فإن قالوا: ما خالف الأصول: أن يكون نفس ما ورد به الخبر موجوداً في الأصول، ومعناه فيه، ولا حكم له، مثل: ترك استعمال القرعة في الحرية في حر وعبد، في أن تنقل الحرية من أحدهما إلى الآخر، لمعنى أن الحرية لا يلحقها الفسخ. وما خالف قياس الأصول: أن يكون ما ورد به الأثر غير موجود مثله في الأصول، ومن جنسه، ولا حكم له، مثل: نبيذ التمر المطبوخ، الذي ورد الخبر فيه، أو القهقهة في الصلاة، على ما ورد فيه الأثر، غير موجب للوضوء. وإنما يقيس مخالفنا على نبيذ الزبيب، أو يقيس القهقهة على غيرها من المعاني، التي لا تؤثر في الطهارة خارج الصلاة، فيرد به الأمر، فيكون الخبر مقدما عليه.   = المدلسين" لابن حجر الورقة (16/أ) ، و"المغني في الضعفاء" (2/709) ، و"ميزان الاعتدال" (4/295) . وقد أخرج هذا الحديث الدارقطني في "سننه" في كتاب الطهارة، باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها (1/161-175) ، عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه، وعن أنس، وعن أبي هريرة، وعن عمران بن حصين، وعن جابر رضي الله عنهم، وفي كل حديث مقال يقدح في صحة الحديث، ولولا خوف الإطالة، لتكلمت عن علل كل حديث على انفراد. ولكن من أراد الاطلاع على ذلك، فلير جع إلى "سنن الدارقطني" في الموضع السابق، وإلى "نصب الراية" (1/48-53) . (1) في الأصل: (ذكره) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 896 والوجواب: أنه لا فرق بينهما، وذلك أن خبر القرعة، وخبر [134/ب] المصراة وخبر المفلس، خالف قياس الأصول على ما قالوه، كما خالف خبر النبيذ والقهقهة لقياس الأصول. فأما أن يكون أحدهما مخالفا للأصول فلا؛ لأن الأصول هي: الكتاب والسنة والاجماع، وليس واحد منهما يعارض أحد هذه الأخبار، فلا فرق بينهما. وقد نص أحمد رحمه الله على أن الحديث إذا عارض الأصول سقط. فقال في رواية يوسف بن موسى (1) في الخبر الواحد: "نستعمله إذا صح الخبر، ولم يخالفه غيره". فقد نص على استعماله بشرط أن لا يخالفه غيره، فدل على أنه إذا خالفه غيره لم يستعمل، وليس هاهنا ما يطرح له الخبر سوى الأصول الثلاثة، فأما القياس فهو مقدم عليه. وكذلك قال في رواية أبي الحارث: إذا جاء الحديث الصحيح الإسناد، يقال: هو سنة، إذا لم يكن له شيء يدفعه أو يخالفه. وكذلك قال في رواية عبد الله: يقال له: سنة، إذا لم يكن له مضاد يخالفه، ولم يكن شيء يدفعه.   (1) في "طبقات الحنابلة" (1/420-421) شخصان بهذا الاسم. أحدهما: يوسف بن موسى العطار الحربي. والآخر: يوسف بن موسى بن راشد، أبو يعقوب القطان الكوفي. وكلاهما من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقلوا عنه بعض المسائل الفقهية والحديثية. لم يذكر للأول تاريخ وفاة. أما الثاني فقد مات سنة (253هـ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 897 مسألة (1) خبر الواحد لا يوجب العلم الضروري وقد رأيت في كتاب معاني الحديث جمع أبي بكر الأثرم بخط أبي حفص العُكْبَري (2) رواية أبي حفص عمر بن بدر (3) قال: الأقراء الذي يذهب إليه أحمد بن حنبل رحمه الله: أنه إذا طعنت في الحيضة الثالثة، فقد برىء منها وبرئت منه. وقال: إذا جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح، فيه حكم أو فرض، عملت بالحكم والفرض، وأَدَنْتُ الله تعالى به، ولا أشهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك. فقد صرح القول بأنه لا يقطع به. ورأيت في كتاب "الرسالة" (4) لأحمد رحمه الله رواية أبي العباس   (1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (240) . (2) هو: عمر بن محمد بن رجاء أبو حفص العكبري. حنبلي من الطبقة الثانية. كان موصوفاً بالعبادة والصلاح والكره الشديد للرافضة. حدث عن عبد الله بن الإمام أحمد، كما حدث عن قيس بن إبراهيم الطوابيقي وموسى بن حمدون العكبري. مات سنة (339) . له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (2/56) ، و"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص (514) . (3) هو: عمر بن بدر بن عبد الله أبو حفص المغازلي. سمع من ابن بشار ومن عمر القافلائي بعض المسائل حدث عنه ابن شاقلا وأبو حفص البرمكي وغيرهما. له اختيارات في المذهب الحنبلي، كما له بعض المصنفات. انظر ترجمته في: "طبقات الحنابلة" (2/128) . (4) يحتمل أن تكون هذه الرسالة هي الكتاب المسمى "السنة" للإمام أحمد رحمه الله تعالى، لأنني وجدت النص المشار إليه موجوداً بنصه فيها، إلى قوله: ( ... ونصدقه، ونعلم أنه كما جاء، ولا ننص الشهادة) ص (46) الجزء الأول من = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 898 حمد بن جعفر بن يعقوب الفارسي (1) عنه بخط أحمد بن سعيد الشيحي (2) وسماعه فقال: "ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة (3) أتاها، إلا أن يكون ذلك في حديث، كما جاء على ما [روي] ، (4) ، نصدقه (5) ، ونعلم (6) أنه كما جاء ولا ننص الشهادة، ولا نشهد على أحد أنه في الجنة بصالح عمله ولا بخير أتاه، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء، على ما روي، ولاننص الشهادة". وقوله: "ولا ننص الشهادة"، معناه عندي: -والله أعلم- لا يقطع على ذلك. وقد نقل أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: ها هنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً، ولا يوجب علماً فعابه، وقال: ما أدري ما هذا؟!. وظاهر هذا أنه سوّى فيه العلم والعمل.   = شذرات البلاتين، جمع محمد حامد الفقي، المطبوع في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة، سنة 1375هـ-1956م. (1) الاصطخري. من أصحاب الإمام أحمد، الذين نقلوا عنه مسائل شتى في الفقه والعقيدة. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/24) . (2) أبو العباس الشامي. حدث عن عبد المنعم بن غليون. وأكثر من مصاحبة عمر البرمكي. كان ثقة مع دين وصلاح. مات ببغداد سنة (406هـ) ، ودفن بباب حرب. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (2/179) . (3) في كتاب "السنة" ص (46) : (ولا بكبيرة) . (4) الزيادة من كتاب "السنة" ص (46) . (5) في كتاب "السنة" ص (46) : (نصدق به) . (6) في الأصل: (يعلم) بالمثناة التحتية، والتصويب من "كتاب السنة" ص (46) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 899 وقال في رواية حنبل في أحاديث الرؤية: نؤمن بها، ونعلم أنها حق. فقطع على العلم بها. وذهب إلى ظاهر هذا الكلام جماعة من [135/أ] ، أصحابنا، وقالوا: خبر الواحد إن كان شرعاً أوجب العلم. وهذا عندي: محمول على وجه صحيح من كلام أحمد رحمه الله، وأنه يوجب العلم من طريق الاستدلال، لا من جهة الضرورة. والاستدلال يوجب العلم من أربعة أوجه: أحدها: أن تتلقاه الأمة بالقبول، فدل ذلك على أنه حق؛ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ، ولأن قبول الأمة يدل على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته؛ لأن عادة خبر الواحد الذي لم تقم الحجة به، لا (1) تجتمع الأمة على قبوله، وإنما يقبله قوم ويرده قوم، كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت" (2) .   (1) في الأصل: (ولا) والواو هنا لا محل لها؛ لعدم استقامة المعنى بوجودها. (2) هذا الحديث أخرجه عن عائشة رضي الله عنها البخاري في كتاب الحج باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم.. (2/160) . وأخرجه مسلم عنها فيه، باب الطيب للمحرم عند الإحرام (2/846) . وأخرجه عنها أبو داود فيه، باب الطيب عند الإحرام (1/405) . وأخرجه عنها الترمذي فيه، باب ما جاء في الطيب عند الإحلال قبل الزيارة (3/250) . وأخرجه عنها النسائي فيه، باب إباحة الطيب عند الإحرام (5/105) . وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الطيب عند الإحرام (2/976) . وأخرجه عنها الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب الطيب عند الإحرام (1/364) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 900 والثاني: أن يخبر الواحد، ويدعي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه منه، فلا ينكره، فيدل على أنه حق، فيصدق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على الكذب. الثالث: أن يخبر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وهو واحد، فيقطع بصدقه؛ لأن الدليل قد دل على عصمته وصدق لهجته صلى الله عليه [وسلم] . الرابع: أن يخبر الواحد، ويدعي على عدد كثير أنهم سمعوه منه، فلا ينكر منهم أحد، فيدل على أنه صدق؛ لأنه لو كان كذباً، لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه؛ لأن الله تعالى خالف بين الطباع وبَايَن بين الهمم. والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب؛ لأنه واقع عن نظر واستدلال. وقال إبراهيم النظام (1) : خبر الواحد يجوز أن يوجب العلم الضروري إذا قارنه أمارة (2) . دليلنا: أن خبر الواحد لو كان موجباً للعلم؛ لأوجبه على أي صفة وجد، من المسلم والكافر، والعدل والفاسق، والحر والعبد، والصغير والكبير، كما أن خبر المتواتر لما أوجب العلم، لم يختلف باختلاف صفات المخبرين، بل استوى في ذلك الكفار والمسلمون، والصغار والكبار، والعدول والفساق، فلما ثبت أن خبر الكافر والفاسق والصغير غير موجب   (1) هو: إبراهيم بن سيار بن هاني النظام أبو إسحاق البصري المعتزلي. ابن أخت أبي الهذيل العلاف. له آراء شاذة عرف بها، وتبعه فيها ناس، فسموا بالنظامية. كان ذكياً فصيحاً قيل: انه كان لا يكتب ولا يقرأ. له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (6/67) ، و"فضل الاعتزال" و"طبقات المعتزلة" ص (264) ، و"اللباب" (3/316) ، و"النجرم الزاهرة" (2/234) . (2) هكذا نقل عنه أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد في أصول الفقه" (2/566) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 901 للعلم، دل أن هذا من النوع الذي لا يوجب العلم. ولأنه لو كان موجباً للعلم لكان الأنبياء إذا أخبروا ببعثهم وقع العلم بما يخبرون به، واستغنوا عن إظهار المعجزات والأدلة على صدقهم، ولكان لا يحتاج في الشهادات إلى عدد، بل كان الشاهد الواحد إذا أخبر الحاكم بشيء، وقع للحاكم علم ذلك ومعرفته، ولكان المدعي على غيره عند الحاكم حقاً أن يصدقه؛ لأن العلم يقع بقوله، وفي كون الأمر بخلاف ذلك دليل (1) على أن خبر الواحد لا يوجب العلم. فإن قيل: إنما لم يوجب العلم ها هنا [135/ب] ؛ لأنه ليس من الشرعيات وإنما نقول: إنه يوجب العلم فيما كان شرعاً لنا. قيل: فالشهادة شرع، لأن على الشاهد أن يشهد بما عنده، قال الله تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُوا الشهَادَةَ) (2) ، وعلى المشهود عنده: العمل بذلك، ومع هذا شهادة الشاهدين لا توجب العلم. وأيضاً: لو كان خبر الواحد يوجب العلم، لوجب أن لا يشكك نفسه عنده، كما لا يشككها عند خبر التواتر، فلما ثبت أنه يشكك نفسه عنده، ويجوز عليه الصدق والكذب، ثبت أنه لا يوجب العلم. ولأنه لو كان يوجب العلم لوجب أن لا ينكر عليه قريش حين أخبرهم: أن الله تعالى قد أسرى به إلى بيت المقدس في ليلة واحدة، وأنه عرج به إلى السماء؛ لأن العلم قد وقع لهم بما أخبرهم به، فلما أنكروا عليه، وردوا قوله، حتى أتى أبو بكر فأخبروه بما يقول، فقال لهم: إن كان قد قال هذا، فقد صدق. ثبت: أن خبر الواحد لا يوجب العلم. والمعتزلة: تنكر حديث المعراج، وتقول: إنه منام، ولو كان على ما   (1) في الاصل: (دليلاً) . (2) (283) سورة البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 902 قالوه، لما أنكروا عليه أنه رأى في المنام هذا، ولأن (1) كل أحد يرى في منامه أعظم من هذا، فلما أنكروا عليه، ثبت: أنه إنما قال لهم ذلك في اليقظة. وأيضاً: فإن الواحد يجوز أن يكذب لغرض له أو شهوة، أو يخطىء. فيخبر به، وهذا التجوز يمنع وقوع العلم بصدقه؛ لأنه لا يجتمع التجويز لكذبه [لغرض] ، أو شهوة، والقطع على صدقه. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ) (2) ، دل على أنه لا يقفو ما ليس بعلم، فلما ثبت أنه يقفو خبر الواحد، ثبت أنه متعلق بما هو علم. وهكذا قال: (إلا منْ شَهِدَ بالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (3) ومعلوم أن الله تعالى تعبدنا بنقل خبر الواحد، وتعبدنا بالعمل به إذا ورد، فلما لزم نقله، ولزم العمل به، ثبت: أنه أوجب العلم. والجواب عن الآية أن التعلق بها من دليل الخطاب، وهذا لا يوجب العلم، على أنا نحملها على العلم الظاهر، أو على مسائل الأصول بدليل ما ذكرنا. وأما قولهم: لما أوجب على السامع نقله، وعلى المنقول إليه العمل به، ثبت أنه يوجب العلم، فهو باطل بالشهادة، فإنها على هذا الوصف، ومع هذا فلا توجب العلم. واحتج: بأن الشريعة محفوظة بقوله تعالى: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا   (1) في الأصل: (وأن) . (2) (36) سورة الإسراء. (3) (86) سورة الزخرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 903 الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (1) ، وهذا يمنع من دخول الكذب والسهو فيها. والجواب: أن هذا إشارة إلى القرآن، وذلك مقطوع على صحته. فأما غيره من الأخبار الشرعية فلا، يدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده [136/أ] من النار) (2) ، فلولا خوفه من دخول الكذب، لم يتوعد عليه. واحتج: بما روي عن علي أنه قال: "ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته، إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر" (3) . فقد قَطعَ على صدقه وهو واحد. والجواب: أن الخبر حجة على هذا القائل؛ لأن عنده أن أبا بكر   (1) (9) سورة الحجر. (2) هذا الحديث قد تعددت طرقه حتى بلغ حد التواتر، وقد أخرجه البخاري في عدة مواضع، منها ما أخرجه في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (1/37-38) . وأخرجه مسلم في عدة مواضع أيضاً، منها ما أخرجه في كتاب الإيمان، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/9-10) . وأخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/287) . وأخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (5/35-36) . وأخرجه ابن ماجه في مقدمة "سننه"، باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/13-14) . وأخرجه الدارمي في مقدمة "سننه"، باب اتقاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والتثبت فيه (1/66-68) . (3) مضى تخريج هذا الحديث عن على رضي الله عنه ص (868) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 904 وسائر الصحابة سواء في قبول قولهم، وقد أخبر أنه كان يستحلفه، فلو كان العلم يقع به لقول الواحد، لم يستحلفه. وأما قوله: "وصدق أبو بكر"، فإنما فرق بينه وبين غيره؛ لأن جنبته أقوى؛ لأن صدقه منصوص عليه، فإنه سمي صديقاً. واحتج النظام: بأنه قد يخبر الرجل بموت أمه وأبيه أو بعض أهله فيقع العلم بصدقه. وقد تخبر القابلة بولادة امرأته، فيقع له العلم بصدقها. وقد يخبر الإنسان بموت زيد، وهناك أسباب تقتضي مثل ذلك، مثل رؤية المغتسل والجنازة على باب الدار، فيقع العام بذلك، كما يقع بخبر الجماعة الكثيرة (1) . والجواب: أنا لا نسلم ذلك؛ لأنه قد يخبر الواحد بذلك على سبيل اللّعب والمجون والمبايعة على عوض، وقد وجد ذلك بالبصرة وبخوارزم (2) مع بعض الحكام، وفعله رجل باليمن، لدفع أذية السلطان. وكذلك الولادة مثل ذلك؛ لأن المرأة قد تستعير الولد وتلتقطه وتدعيه، رغبةً في الزوج وفي ماله، يبين صحة هذا: أنه لو شككنا فيه مشكك، وقفنا في ذلك. واحتج: بأنه لو لم يقع العلم بخبر الواحد، لم يقع العلم به وإن انظم إليه غيره من الجماعة الكثيرة؛ لأن ما يجوز على الأول من الغلط والكذب   (1) دليل أبي إسحاق النظام هذا، ذكره أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد" (2/566) باختصار. (2) "خوارزم" اسم لناحية كبيرة، قصبتها الجرجانية، وهي ولاية عظيمة، متصلة القرى، كثيرة العمارة، تقدر مساحتها بثمانين فرسخاً في مثلها. وقد فتحها المسلمون بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي. انظر: "اللباب" (1/466) ، و"مراصد الاطلاع" (1/487) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 905 والسهو، يجوز على الثاني والثالث والرابع، ولما حصل العلم بانضمام الجماعة، وجب أن يحصل العلم به. والجواب: أن الخبر إذا تكرر قويَ في قلوبنا وغلب في ظنوننا صدق المخبرين به، فحينئذ وقع العلم به، وهذا معدوم في الخبر الواحد. وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن لا يوجبه حال الانفراد، ويوجبه حال الاجتماع، كالشهادة، ولا يقبل شهادة كل واحد من الشاهدين حال الانفراد، ويقبل حال الاجتماع، وكذلك الشاهد واليمين. مسألة الخبر المرسل حجة ويجب العمل به (1) وصورته: أن يترك الراوي رجلاً في الوسط، مثل أن يروي التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يروى تابعي التابعي عن صحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا إذا ذَكَر المروى [عنه] ، ولكنه ذِكْر لا يعرف به، [136/ب] وهو أن يقول: أخبرني الثقة عن فلان، أو أخبرني رجل من بني فلان عن فلان، في إحدى الروايتين. نص عليه رحمه الله في رواية الأثرم قال: إذا قال الرجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمه، فالحديث صحيح. قيل له: فإن قال يرفع الحديث فهو عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: فأي شيء؟!. ونقل الميموني أيضاً: كان يعجب أبو عبد الله رضي الله عنه ممن يكتب   (1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (250) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/323-326) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 906 الإسناد ويَدع المنقطع، وقال: ربما كان المنقطع أقوى إسناداً، قد يكون الإسناد متصلاً، وهو ضعيف، فيكون المنقطع أقوى إسناداً منه، وهو يوقفه، وقد كتبه على أنه متصل. وقال في رواية الفضل بن زياد: مرسلات سعيد في المسيّب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم (1) لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح (2) ؛ فإنهما يأخذان عن كلٍ.   (1) هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران. أحد أعلام التابعين. رأى جماعة من الصحابة، ولم يصح له سماع منهم. فكان يرسل عن بعضهم. قال الذهبي في الميزان: "استقر الأمر على أن إبراهيم حجة. وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس بحجة" مات بالكوفة سنة (96هـ) وله من العمر تسع وأربعون سنة. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/73) ، و"تهذيب التهذيب" (1/177) ، و"شذرات الذهب" (1/111) ، و"طبقات الحفاظ" ص (29) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/29) ، و"اللباب" (3/220) ، و"ميزان الاعتدال" (1/74) . (2) هو: عطاء بن أبي رباح أسلم أبو محمد القرشي بالولاء، المكي. أحد أعلام التابعين. كان مفتي مكة ومحدثها. سمع من عائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. وعنه أبو حنيفة والأوزاعي وابن إسحاق. ولد في خلافة عمر على الأرجح. ومات بمكة المكرمة سنة (114هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/98) ، و"تهذيب التهذيب" (7/199) ، و"شذرات الذهب" (1/147) ، و"طبقات الحفاظ" ص (39) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/513) ، و"ميزان الاعتدال" (3/70) ، و"النجوم الزاهرة" (1/273) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 907 وقال في رواية عبد الله: آخذ بحديث ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة (1) وعمرو بن دينار (2) عن النبي [صلى الله عليه وسلم] في العبد الآبق إذا جيء به دينار (3) .   (1) هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيكَة، واسم أبي مليكة: زهير بن عبد الله أبو بكر، أو أبو محمد القرشي التيمي، المكي. روى عن عائشة وأم سلمة وابن عباس وغيرهم. وعنه ابنه يحيى وعطاء وغيرها. كان قاضي مكة لعبد الله بن الزبير، كما كان إمام الحرم المكي وشيخه ومؤذنه. مات سنة (117هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/101) ، و"تهذيب التهذيب" (5/306) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (174) ، و"شذرات الذهب" (1/153) ، و"طبقات الحفاظ" ص (41) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/430) ، و"النجوم الزاهرة" (1/276) . (2) هو: عمرو بن دينار أبو محمد، الجمحي بالولاء، المكي. أحد التابعين روى عن العبادلة وخلق، وعنه السفيانان والحمادان وغيرهم. كان ثقة ثبتاً، قال فيه الذهبي في الميزان: "أما عمرو بن دينار الجمحي، عالم الحجاز، فحجة، وما قيل عنه من التشيع فباطل". مات بمكة سنة (126هـ) . له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (288) طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/171) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/600) ، و"ميزان الاعتدال" (3/260) . (3) هذا الحديث المرسل أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في باب الجعل في الآبق (8/207-208) قال: (أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى في الآبق يوجد في الحرم بعشرة دراهم) . وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كما نقل ذلك الزيلعي في كتابه "نصب الراية" (3/471) ، واللفظ الذي ذكره الزيلعي هو: (قضى في العبد الآبق يؤخذ خارج الحرم بدينار أو عشرة دراهم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 908 وبهذا قال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة (1) ، ومالك (2) والمعتزلة (3) . وفيه رواية أخرى: ليس بحجة إلا مرسل الصحابة. أومأ إليه في رواية إسحاق بن إبراهيم، وقد سئل عن حديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] مرسل برجال ثَبَت، أحبُّ، إليك، أو حديث عن الصحابة متصل برجال ثَبَت؟ فقال: عن الصحابة أعجب إليّ. وهذا يدل من قوله على أنه ليس بحجة، إذ لو كان حجة، لم يقدم عليه قول الصحابي؛ لأن من جعله حجة قدمه على قول الصحابي. وقال مهنا: سألت أحمد رحمه الله عن حديث ثوبان (4) : (أطيعوا قريشاً ما استقاموا لكم) (5) ، قال: ليس بصحيح، سالم بن أبي الجعد (6) لم يلقَ ثوبان.   (1) راجع رأي الحنفية في هذا الموضوع في: "تيسير التحرير" (3/102) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/147) . (2) راجع رأي الإمام مالك هنا في: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص (379) . (3) انظر تفصيل القول عند المعتزلة في الحديث المرسل في كتاب "المعتمد" لأبي الحسين البصري (2/628) . (4) هو: ثوبان بن بجدد، أبو عبد الله، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه. روى عنه جبير بن نفير الحضرمي، وأبو إدريس الخولاني وخلق. خرج بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام، فنزل "الرملة" ثم انتقل إلى "حمص"، وبها مات سنة (54هـ) . له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/218) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (413) طبعة دار نهضة مصر. (5) هذا الحديث أخرجه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" حكى ذلك الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (5/195) ، وقال بعد ذلك: (ورجال الصغير ثقات) . (6) هو: سالم بن أبي الجعد رافع، الأشجعي بالولاء، الكوفي. روى عن ثوبان = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 909 فقد حكم ببطلان الحديث، لأجل أنه مرسل. وبهذا قال الشافعي. وجه الرواية الأولى: قوله تعالى: (وَليُنْذرُوا قَوْمَهمْ إذَا رَجَعُوا إليْهِمْ) (1) ، ولم يفرق بين من أنذر بمرسل أو بمسند. ولأن من عادة التابعين إرسال الأخبار، من ذلك ما روي عن الأعمش (2) أنه قال: قلت لإبراهيم: إذا حدثتني فأسند، فقال: إذا قلت لك: حدثني فلان عن عبد الله، فهو الذي حدثني، وإذا قلت لك: قال عبد الله، فقد حدثني جماعة عنه. وروي ذلك عن الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي (3) ، وإذا كان   = وعلي بن أبي طالب وخلق. وعنه قتادة وعمرو بن دينار والأعمش وغيرهم. وثقه ابن معين والنسائي وأبو زرعة وابن سعد، وذكره ابن حبان في "الثقات". مات سنة (100هـ) . له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (3/432) ، و"التاريخ الصغير" (1/211) ، و"جامع التحصيل" للحافظ العلائي ص (391) ، رسالة "ماجستير" تحقيق الدكتور عمر حسن عثمان. (1) (122) سورة التوبة. (2) هو: سليمان بن مهران، أبو محمد، الأعمش، الكاهلي بالولاء، الكوفي، أحد العلماء المشهورين. روى عن عكرمة وإبراهيم النخعي وأبي عمرو، الشيباني وغيرهم. وعنه شعبة والسفيانان وغيرهم. مات سنة (148هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/3) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/154) ، و"الخلاصة" ص (131) ، و"شذرات الذهب" (1/220) ، و"طبقات القراء" للذهبي (1/88) ، و"العبر" (1/209) ، و"غاية النهاية" (1/315) ، و"ميزان الاعتدال" (2/224) . (3) هو: عامر بن شراحيل أبو عمرو الشعبي الكوفي من أعلام التابعين. روى عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة وغيرهم. وعنه الأعمش وأشعث بن سوار وأبو = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 910 معروفاً من عاداتهم، فلو كان عندهم أنها غير مقبولة، كانوا قد ضيعوا سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الفعل، وهذا لا يجوز. ولأن المرسِل للخبر مثبت لعدالة راويه من وجهين: أحدهها: أنه لا يجوز [137/أ] أن يحدثه، ويكتم اسمه، ثم يحدث به غيره، فيلزمه قبوله. والثاني: أنه لو أرسل عن غير ثقة، كان قد قطع على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، بقول من هو كذاب عنده، وهذا فعل ممنوع منه وإذا كان ذلك تعديلاً له، لم يعتبر جواز أن يجرحه غيره لو ظهر اسمه، يدلل عليه: أن من زكاه الحاكم، فله أن يقضي بشهادته، ولا يراعي جواز جرحه أن لو نادى في البلد باسمه، أو كاتب به إلى البلدان التي تقرب منه، فَبانَ أن تعديله، موجب قبول خبره، ولهذا جعل أحمد رحمه الله رواية العدل عن غيره تعديلاً للغير، فقال في كتاب العلل للأثر [م] : إذا روى عبد الرحمن (1) عن رجل، فروايته عنه حجة.   = حنيفة وغيرهم. ولد لست سنين مضت من خلافة عمر. ومات سنة (103هـ) ، أو سنة (104هـ) ، أو سنة (107هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (12/229) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/79) ، و"تهذيب التهذيب" (5/65) ، و"شذرات الذهب" (1/126) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/350) ، و"اللباب" (2/21) ، و"النجوم الزاهرة" (1/253) . (1) المراد به: عبد الرحمن بن مهدي، كما يأتي التصريح بذلك ص (934) وهو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان أبو سعيد البصري اللؤلؤي الحافظ الثقة. روى عن شعبة ومالك والسفيانين وغيرهم. وعنه الإمام أحمد وإسحاق وابن المدينى وآخرون. قال فيه ابن المديني: "كان أعلم الناس". مات بالبصرة سنة (198) ، وله من العمر ثلاث وستون سنة. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 911 وقال أيضاً في رواية أبي زرعة الدمشقي (1) : مالك بن أنس إذا روي، يعني عن رجل لا يعرف، فهو حجة. فإن قيل: هذا لا يدل على عدالته، كما لم يدل شاهدي الفرع على [عدالة] شاهدي الأصل. قيل: الفرق بين الشهادة والخبر باقٍ (2) . فإن قيل: يحتمل أن يعرف جرحه غيره، فوجب تسميته؛ ليقف عليه. قيل: فيجب أن يلزم الحاكم تسمية الشاهدين الذين حكم بهما، لهذا المعنى، ولأن حاكماً لو حكم بشهادة شاهدين لم يسمهما، لم يجز لأحد أن يعترض على حكمه؛ لأجل تركه تسمية الشهود، وكان أمرهم محمولاً على الجواز والعدالة في الشهادة، فلأن يكون كذلك فيما طريقه الاخبار أولى؛ لأن الأمر فيها أوسع. ولأن مرسل الصحابي مقبول، وكل معنى منع من قبول مرسل التابعين   = له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/244) ، و"تاريخ بغداد" (10/240) ، و"تذكرة الحفاظ"، (1/129) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (199) ، و"شذرات الذهب" (1/355) ، و"النجوم الزاهرة" (2/159) . (1) هو: عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري أبو زرعة الدمشقي. شيخ الشام في عصره. ثقة حافظ. روى عن أحمد بن حنبل وأبي نعيم وأبي مسهر وغيرهم. وعنه أبو داود والطبراني والطحاوي وغيرهم مات بدمشق سنة (281 هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/624) ، و"تهذيب التهذيب" (6/236) ، و"شذرات الذهب" (2/177) ، و"طبقات الحنابلة" (1/205) ، و"طبقات الحفاظ" ص (266) ، و"النجوم الزاهرة" (3/87) . (2) في الأصل: (باقي) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 912 فهو مأخوذ في مرسل الصحابة، وقد ثبت أن الصحابي أو التابعي لو قال: أخبرني بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا، فهو بمنزلة المسند، وكذلك إذا قال التابعي: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يجب أن يكون مثله. وقد قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فالحديث صحيح؟ قال: نعم. فإن قيل: الصحابي معلوم عدالته، بأن الله تعالى عدله وزكاه وأخبر عن إيمانه، ورضي عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه. قيل: قد شهد النبي [صلى الله عليه وسلم] للتابعين، كما شهد للصحابة فقال: (خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (1) ، وليس من شرط قبول الخبر أن يكون ممن يقطع على عدالته، وإنما تعتبر عدالته في الظاهر، وهذا المعنى موجود في التابعين ومن بعدهم، فيجب أن يتساووا في النقل. وأيضاً: فإن الشافعي قد قال: إن كان الظاهر من حال المرسِل الثقة من التابعين، أن ما يرسله مسنداً عند غيره، قُبِل منه. وهذا لا معنى له [137/ب] لأن القبول منه: إن كان لأجل إسناد   (1) هذا الحديث رواه عمران بن حصين رضى الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في أول كتاب فضائل الصحابة (5/2) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (4/1964) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الفن، باب ما جاء في القرن الثالث (4/500) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (2/518) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر (7/17) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 913 غيره فالمرجع إلى المسند، وما سماه مرسلاً، فليس بمرسل في الحقيقة. وإن كان يقول: إن إسناد غيره يوجب قبول مرسَله، مع جواز أن يكون مرسلاً، فهو قول بعيد، إذا كان يمنع قبولَ المراسيل، ويلزمه أن لا يعتبر ظاهر أمره مع الجواز، كما لا يعتبر ظاهر تعديله مع جواز أن يكون غير عدل. وقال أيضاً: المرسَل مقبول، فيمن وجد أكثر مراسيله أصول في الأسانيد. وهذا أيضاً ليس بشيء؛ لأن وجود ذلك في أكثر مراسيله، لا يمنع أن يكون قد أرسل، فالواجب: أن يعتبر ذلك في كل خبر بعينه. وقال أيضاً: المراسيل تقبل، إذا عمل بها بعض الصحابة. وهذ ليس بشيء؛ لجواز أن يكون القائل قد سمعه بنفسه، أو يكون من مذهبه قبول المراسيل. وقال أيضاً: المرسل يعمل به إذا أفتى به عوام العلماء. وهذا أيضاً ليس بشيء؛ لأنه أراد جميع الأمة، وأن إجماعها على قبول المرسل، لا ركون مع اختلافهم في حكمه، وإنما الواجب: أن يكون بعضهم قبله؛ لصحة المراسيل عنده، والباقون، لأنه مسند عندهم، فيخرج أن يكون مرسلاً في الحقيقة. فإن أرادوا (1) به أكثر العلماء، فإن خلاف الواحد معتدّ به، فلم يجز أن يستدل به على صحة قبول الخبر. ولأنه قد قال في مراسيل ابن المسيب: إنها مقبولة، لأنه وجد مراسيله مسانيد، وهذا صحيح فيما قد وقف على أنه مسند، فأما ما لم يوقف على   (1) الأولى الخطاب بالإفراد، لأن الكلام لا زال مع الإمام الشافعي رحمه الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 914 حاله، فلا يجوز أن يحكم به؛ لأنه وجد إسناداً لغيره، وكان التجويز فيه موجوداً، ولا يجوز أن يقال: إنه خص مرسل ابن المسيب؛ لأنه لا يرسل إلا عن ثقة؛ لأن هذا الاعتقاد في حسن الظن بابن المسيب معتبر في غيره. فإن قيل: ما ذكرتموه، إنما أراد به الشافعي قوته في الترجيح، لا إثبات الحكم به. قيل: الترجيح لا يجوز بما لا يثبت به حكم، فإن كان يريد إثبات الحكم بالمرسل الذي قاربه قياس أو قول صحابي، فالحكم عنده للقياس لا للاستدلال. واحتج المخالف: بأن هذا خبر عمن شرطت عدالته في في قبوله، والعدالة مجهولة، فلم يجز قبوله والعلم به، قياساً على شاهدي [الفرع] إذا لم يسميا شاهدي الأصل. والجواب: أنا لا نسلم أن العدالة مجهولة؛ لما بينا: أن رواية العدل عنه تدل (1) على عدالته. ثم الفرق بين الخبر والشهادة من وجوه: أحدها: أن الشهادة على الشهادة تفتقر إلى الاسترعاء، وهو أن يقول شاهد (2) الأصل لشاهدي الفرع: اشهدا على شهادتي [138/أ] فلما افتقرت إلى الاسترعاء، افتقرت إلى تسمية الأصل، وليس كذلك الإخبار؛ لأنه لا يفتقر إلى استرعاء، بل إذا سمع منه حديثاً، جاز نقلة والعمل عليه، وإن لم يقل: اسمع مني.   (1) في الأصل: (يدل) . (2) في الأصل: (اشهدا) بالتثنية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 915 ولأن المشهود على شهادته يكون كالمحكوم عليه، ألا ترى أن من الفقهاء من يوجب عليه الضمان، ولما لم يجب الحكم على من ليس بمعين، لم يجز قبول شهادة شهود الفرع، حتى يذكروا أسماء شهود الأصل، ولما كان هذا المعنى معدوماً في الخبر، وأنه لا تعلق للخبر الثاني بالأول، لم يجز أن يحمل الخبر على الشهادة. ولأن الشهادة أكدت باعتبار العدد والحرية والذكورية، وأن يكون ذاكراً لما شهد به، فجاز أن تعتبر تسمية شهود الأصل؛ لتأكيد الأمر فيها، والخبر بخلاف ذلك. ولأنه لو قال نفسان من التابعين: أشهدنا اثنان من الصحابة على شهادتهما، لم يجز حتى يعيناهما، وفي الخبر يجوز عند الجميع، فدل على الفرق بينهما. فإن قيل: أليس مع افتراقهما من هذه الوجوه قد تساويا في اعتبار العدالة في كل واحد منهما؟ قيل: فالعدالة موجودة مع الإرسال من الوجه الذي بينّا، وهو أن إرسال التابعي له، تزكيه له. وعلى أن تساويهما في العدالة لم يمنع افراقهما من الوجوه التي ذكرناها، فدل على أن الشهادة آكد. وإنما كان حكم الشهادة آكد من الخبر من الوجوه التي ذكرناها: أن الشهادة حكم على الغير، فالتهمة تلحق، والخبر يشترك فيه المخبِر والمُخْبَر، فالتهمه لا تلحق. واحتج: بأن الجهل بعين الراوي أكثر من الجهل بصفته؛ لأن من جهلت عينه، جهلت عينه وصفته، ثم ثبت: أنه لو كان معروف العين مجهول الصفة، مثل أن يقول: أخبرني فلان، ولا أعرف أثقة هو أم غير ثقة؟ لم يقبل خبره، فبأن لا يقبل خبره، إذا لم يذكره أصلاً أولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 916 والجواب: أنا لا نسلم أن صفته مجهولة؛ لأن رواية العدل عن رجل تعديل له؛ لما بينا، وهو أنه لا يجوز في حقه أن يروى عن فاسق. وقد قيل: إنه إذا كان فلان معروفا بالإسلام، فإنه يقبل خبره؛ لأن ظاهر أمره العدالة وترك مواقعة المحظور، وجواز أن كون فَعَل ما يوجب جرحاً في شهادته غير معلوم، فلم يكن في معرفة عدالته أكثر من عدم العلم بجرحه. فإن قيل: تقبل شهادته، وإن لم يبحث عن عدالته للمعنى الذي ذكرت. قيل: تقبل شهادته في إحدى الروايتين، فعلى هذا لا فرق، ولا نقبلها في الأخرى احتياطاً للشهادة، كما احتطنا لها من الوجوه التي ذكرنا. واحتج: [138/ب] بأن الخبر ضربان: آحاد وتواتر، ثم ثبت أن الراوي لو روى حديثاً، وذكر أنه من أخبار التواتر، لم يقبل قوله: إنه متواتر، حتى يعرف أنه متواتر، كذلك إذا قال: أخبرني الثقة أن لا يقبل خبره، حتى تعلم ثقته؛ لجواز أن لا يكون ثقة عند المخبر. والجواب: أن الخبر المتواتر ما استوى طرفاه ووسطه في عدد يقع العلم بخبرهم، وتسكن النفس إليهم في العادة، وهذا لا يؤخذ بقول الواحد: هذا متواتر، وليس كذلك أخبار الآحاد، فإن طريقها يقبل العدل عن العدل، وهذا موجود ها هنا. فصل (1) إذا ثبت أن المرسل حجة، فلا فرق بين مرسل عصرنا ومن تقدم. هذا ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني؛ لأنه قال: ربّما كان   (1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (251) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 917 المنقطع أقوى إسناداً من المتصل، ولم يفرق (1) . وحكي عن عيسى بن أبان أنه قال: ومن أرسل من أهل عصرنا حديثاً، فإن كان من الأئمة الذين حمل عنهم أهل العلم، فإن مرسَله مقبول، كما يقبل مسنَده، ومن حمل الناس عنه المسنَد دون المرسَل، فإن مرسَله موقوف (2) . وقال أبو سفيان: مذهب أصحابنا: مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين مقبولة. وحكي عن الكرخي: أنه لم يفرق بين أهل سائر الأعصار (3) . وهو اختيار الجرجاني.   (1) تعقبه الشيخ ابن تيمية في "المسودة" ص (251) بقوله: (قلت: ما ذكره القاضي وابن عقيل أن مرسل أهل عصرنا مقبول كغيره، ليس مذهب أحمد، فإنا نجزم أنه لم يكن يحتج بمراسيل محدثي وقته وعلمائهم، بل يطالبهم بالإسناد. نعم المجتهدون في الحديث الذين يعرفون صحيحه وضعيفه، إذا قال أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، واحتج بذلك، فهذا نعم، كتعليق البخاري المجزوم به. وبحث القاضي يدل على أنه: أراد بالمرسل من أهل عصرنا ما أرسله عن واحد، فهذا قريب بخلاف ما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن سقوط واحد أو اثنين، ليس كسقوط عشرة، وحجته لا تتناول إلا ما سقط منه واحد، فإنه قال: المرسل إذا كان ثقة، فظاهره أن الذي أرسل عنه عدل، وهذا المعنى موجود في أهل الأعصار) . (2) نقل ذلك عنه أبو بكر السرخسي في "أصوله" (1/363) ، والكمال ابن الهمام في "تحريره" (3/102) مطبوع مع شرحه "تيسير التحرير"، وابن عبد الشكور في كتابه "مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/174) . (3) نقل ذلك عن الكرخي أبو بكر السرخسي في "أصوله": (1/363) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 918 دليلنا: أن المرسِل إذا كان ثقة، فظاهره أن الذي أرسل عنه عدل، وهذا المعنى موجود في أهل الأعصار. ولأن الناقل إذا ثبتت عدالته، فهو كالعدل من العصر الأول في قبول خبره، فيجب أن يكون فيما يرسله كذلك. ولأنه لا معنى لاعتبار حمل الناس عنه؛ لأن توقفهم في النقل عنه إن كان بمعنى يعود إلى عدالته، فإن مرسَله ومسنَده واحد، وإن كان بمعنى ركود إلى إرسال الخبر، فإن وقوف من لا يرى نقل المراسيل فيه، لا يوجب التوقف فيمن يرى ذلك، كالشافعي. واحتج المخالف: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على القرون الثلاثة، فحالتهم أوكد ممن بعدهم (1) ، فقد قال: (إن الكذب يفشو فيهم) (2) ، فوجب التوقف في مرسله، إلا أن ينضم إليه نقل أهل العصر له. والجواب: أن ثناءه على التابعين وتابعيهم، لم يوجب لهم القطع،   (1) في الأصل: (من بعدهم) . (2) هذا جزء من حديث رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الشهادات، باب منه، أي: مما جاء في شهادة الزور (4/549) ، ولفظه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب، حتى يشهد الرجل، ولا يستشهد، ويحلف الرجل، ولا يستحلف") . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد (2/791) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (1/18) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 919 ولم ينفِ عنهم في تجويز الفسق، بخلاف الصحابة، ومع هذا فقد جاز قبولُ إرسالهم بَعد التهم في الظاهر، كذلك من بعدهم؛ لأن الخبر إنما يعتبر فيه العدالة في الظاهر. [139/أ] فصل فيه كلام الإمام أحمد رحمه الله في ترجيح المراسيل بعضها على بعض. نقلته من كتاب "العلل" للخلال من الجزء الحادي والسبعين منه، فقال في رواية أبي الحارث: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا يرى أصح من مرسلاته، فأما الحسن وعطاء، فليس بذلك، هو أضعف المرسلات (1) ، كأنهما كانا يأخذان من كلٍ. وقال في رواية الفضل بن زياد [أما] مرسلات عطاء، ففيها شيء (2) . وأما ابن سيرين فما أحسن كل مخرجه أيضاً. ومرسلات سعيد بن المسيب أصح. المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها. وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، كأنهما كانا يأخذان من كل. وقال في رواية مهنا وقد سأله عن مرسلات سعيد بن جبير أحب إليك أم مرسلات عطاء؟ قال: مرسلات سعيد بن جبير أقرب، وهي أحب إلىّ من مرسلات عطاء. وسأله عن مرسلات سعيد بن جبير أحب إليك أم مرسلات مجاهد (3) ؟   (1) في الأصل: (المراسلات) . (2) في الأصل: (ففيه شيء) . (3) هو: مجاهد بن جبر، أبو الحجاج، المكي، المخزومي بالولاء، أحد أئمة التفسير روى عن أبي هريرة وجابر وأم سلمة وغيرهم، رضي الله عنهم، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 920 فقال: مرسلات سعيد. وسأله عن مرسلات مجاهد أحب إليك أم مرسلات عطاء؟ فقال: مرسلات مجاهد، لأن عطاء روى عمن هو دونه، ومجاهد لم يرو عمن هو دونه. وقال في رواية أبي الحارث: مرسلات عطاء فيها شيء. وقال في رواية مهنا وقد سأله عن مرسلات طاوس أحب إليك أو مرسلات أبي إسحاق (1) ؟ قال: مرسلات طاوس. وسأله عن مرسلات إسماعيل بن أبي خالد (2) أحب إليك أم مرسلات   = وروى عنه قتادة وعطاء وعكرمة وخلق. ولد سنة (21 هـ) ، ومات بمكة سنة (102 هـ) أو (103 هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/92) ، و"تهذيب التهذيب" (10/42) ، و"الخلاصة" ص (315) ، و"شذرات الذهب" (1/125) ، و"العبر" (1/125) ، و"غاية النهاية" (2/41) ، و"ميزان الاعتدال" (3/435) . (1) هو: عمرو بن عبد الله بن عبيد، أبو إسحاق السبيعي، الهمداني الكوفي. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه. روى عن علي بن أبي طالب والمغيرة ابن شعبة رضي الله عنهما كما روى عن خلق آخرين. وروى عنه قتادة والأعمش والثوري وغيرهم. مات سنة (108 هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/114) ، و"تهذيب التهذيب" (8/63) ، و"الخلاصة" ص (246) ، و"شذرات الذهب" (1/174) ، و"طبقات الحفاظ" ص (43) . (2) أبو عبد الله البجلي، الأحمسي بالولاء، الكوفي، الحافظ. سمع من ابن أبي أوفى وأبي جحيفة وطارق بن شهاب وآخرين. وحدث عنه شعبة والسفيانان ويحيى القطان وغيرهم. مات سنة (146 هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/153) ، و"تهذيب التهذيب" (1/291) ، و"الخلاصة" ص (28) ، و"طبقات الحفاظ" ص (66) ، و"العبر" (1/203) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 921 عمرو بن دينار؟ فقال: إسماعيل بن أبي خالد لا يبالي (1) عمن حدث، عن أشعث بن سوار (2) وعن مجاهد، وعمرو، بن دينار لا يروي إلا عن ثقة، مرسلات عمرو أحب إليّ. وسأله أيما أحب إليك، إبراهيم عن علي، أو مجاهد عن علي؟ قال: إبراهيم عن علي؛ لأن هذا كان مقيماً، وكان مجاهد إنما تقع إليهم الأخبار إلى الكوفة. وقال في رواية أبي الحارث وقد سأله عن مرسلات النخعي، قال: ما أصلحها ليس بها بأس، أصلح من مرسلات الحسن. وسأله مهنا: لم كرهت مرسلات الأعمش؟ قال: كان الأعمش لا يبالي عمن حدث. قيل له: فإن له رجلاً ضعيفا (3) غير إسماعيل بن مسلم (4) ويزيد الرَّقاشي (5) ؟ قال: نعم، كان يحدث عن عتاب بن إبراهيم.   (1) في الأصل: (لا يبال) . (2) الكندي التوابيتي، الأفرق، الأثرم الثقفي بالولاء، الكوفي. روى عن الحسن البصري والشعبي وعكرمة وخلق. وعنه أبو إسحاق السبيعي وشعبة وخلق. وهو راوٍ ضعيف. وقد أخرج له مسلم متابعة. مات سنة (136 هـ) . له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (1/352) ، و"الخلاصة" ص (38) بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/91) . (3) في الأصل: (رجل ضعيف) . (4) أبو إسحاق، المكي، البصري. روى عن الشعبي والزهري وقتادة وغيرهم. وعنه الأعمش والسفيانان وغيرهم. وهو راوٍ ضعيف عندهم، حتى قال النسائي فيه: "متروك". له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (1/331) ، و"الخلاصة" ص (36) بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/87) ، و"ميزان الاعتدال" (1/248) . (5) هو: يزيد بن أبان أبو عمرو الرقاشي البصري. روى عن أنس والحسن وغيرهما. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 922 وسأله أيضاً عن مرسلات الأعمش، وسليمان النخعي (1) ، ويحيى ابن أبي كثير (2) ؟ قال: مرسلات يحيى بن أبي كثير أحب إليّ. وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله عن مراسيل يحيى بن أبي كثير؟ فقال: لا تعجبني؛ لأنه يروي عن رجال صغار ضعاف. وقال في رواية أبي طالب [139/ب] ، وقد سأله عن رجل ما قال الحسن: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، وجدناه من حديث أبي هريرة وعائشة ُوسَمُرة (3) ، قال. صدق.   = وعنه حماد بن سلمة ومعتمر بن سليمان وجماعة. وهو راوٍ ضعيف. قال فيه النسائي: "متروك". وقال أحمد: "منكر الحديث". وقال ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به". له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (11/311) ، و"الخلاصة" ص (430) ، بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/747) ، و"ميزان الاعتدال" (4/418) . (1) هو: سليمان بن عمرو، أبو داود النخعي. قال أحمد: "كان يضع الحديث"، وقال البخاري: "متروك". له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/282) ، و"ميزان الاعتدال" (2/216) . (2) هو: يحيى بن أبي كثير صالح بن المتوكل، أبو نصر اليمامي، الطائي بالولاء. روي عن أنس وعكرمة وغيرهم. وعنه ابنه عبد الله والأوزاعي وغيرهما. قال فيه أحمد: "من أثبت الناس، إنما يعد مع الزهري ويحيى بن سعيد" مات سنة (129 هـ) . له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/34) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/128) ، و"تهذيب التهذيب" (11/268) ، و"الخلاصة" ص (367) ، و"طبقات الحفاظ" ص (51) ، و"العبر" (1/169) . (3) هو: سمرة بن جندب بن هلال بن جريج، أبو عبد الرحمن، الفزاري صحابي جليل. كان من الحفاظ المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى عنه الحسن والشعبي وغيرهما. نزل "البصرة"، وبها مات، سنة (58 هـ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 923 وقال في رواية مُهَنَّا، وقد سأله: هل شيء يجيء عن الحسن؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو صحيح، ما نكاد نجدها إلا صحيحة. وقال في رواية أبي الحارث: مرسلات ابن سيرين صحاح حسنة المخرج. وقال في رواية مُهَنَّا. وقد سأله عن مرسلات سفيان (1) ، فقال: كان سفيان لا يبالي عمن روي. وسأله عن مرسلات مالك بن أنس، قال: هي أحب إليّ. فصل ولا يقبل الخبر حتى في تجتمع في ناقله شرائط خمس: أحدها: أن يكون عاقلاً، ليعرف ما ينقل، ويميّز خبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] وخبر غيره.   = له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/653) ، و"الإصابة" القسم الثالث ص (178) طبعة دار نهضة مصر، و"تهذيب التهذيب" (4/236) ، و"الخلاصة" ص (156) طبعة بولاق. (1) هو: سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله، الثوري، الكوفي. روى عن أبيه وجعفر الصادق وأيوب وخلق. وعنه ابن المبارك ويحيى القطان وغيرهما. قال فيه شعبة: "أمير المؤمنين في الحديث". ولد سنة (97 هـ) ، ومات بالبصرة سنة (161 هـ) . انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (1579) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/203) ، و"تهذيب التهذيب" (4/111) ، و"الخلاصة" ص (123) ، و"شذرات الذهب" (1/250) ، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/186) ، و"غاية النهاية" (1/308) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 924 والثاني: أن يكون عدلاً في الظاهر؛ لقوله تعالى: (إنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بنبَإ فَتَبَينوا أن تُصيبوا قَوْماً بجهَالَة) (1) الآية، إذا لم يكن عدلاً، لا يؤمن أن يكذب فيما ينقل؛ لأن من ارتكب الفاحشة ارتكب أن يكذب فيما ينقله. وقَد قال أحمد رحمه الله في رواية أحمد بن الحسين (2) : لا يكتب الحديث عمن يسكر. وقال في رواية إبراهيم وسندي (3) ، واللفظ لسندي، في الرجل يعرف بالكذب في الشيء، يحدث به القوم، فليس نعرف منه الكذب في الرواية: كيف يؤمن هذا على الرواية، أن يكذب فيها، إذا عرف منه الكذب في شيء؟!. وإذا ثبت: أن العدالة شرط، فإن كل من أتي بكبيرة، فهو فاسق، حتى يتوب. وكل من أتي بصغيرة، ليس بفاسق، ومن تتابعت منه الصغائر، وكثرت، رد خبره وشهادته. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي الصقر (4) في الصلاة خلف آكل الربا: إن كان أكثر طعامه الربا، لم تصل خلفه. فاعتبر الكثرة في ذلك؛   (1) (6) سورة الحجرات. (2) الترمذي، وقد سبقت ترجمته. (3) أبو بكر. الخواتيمي، البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقل عنه مسائل صالحة. له ترجمة في: "الإنصاف" (12/286) ، و"طبقات الحنابلة" (1/170) . (4) هو: يحيى بن يزداد، أبو الصقر، أحد أصحاب الإمام أحمد. نقل عن الإمام أحمد جزءاً، فيه مسائل حسان، في الحِمَى والمساقاة والمزارعة والصيد واللقطة، وغير ذلك. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/409) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 925 لأنا لو لم نقبل إلا من محّض الطاعة، لم يقبل أحد؛ لأن أحداً لا يمحض الطاعات، حتى لا يشق بها المعصية. يدل عليه قوله تعالى: (وعَصَى آدَمُ رَبهُ فَغَوَى) (1) ، وأراد بالغي: وضع الشيء في غير موضعه. قال تعالى -في قصة داود-: (أنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفر رَبهُ وَخَر رَاكِعاً وَأَنَابَ) (2) ، فأخطأ، وتاب الله عليه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من أحد إلا عصى أو هَم بمعصيه إلا يحيى بن زكريا) (3) ، فثبت: أن الأنبياء لم يسلموا من الخطأ والمعاصي، ولو قبلنا كل عاص، لم نرد أحداً، وقد أمرنا برد الفاسق، وإنفاذ العدل، فلم يكن بد من تفصيل بينهما، فكان الفصل بينهما ما ذكرنا. فأما من ثبت كذبه، فإنه يرد خبره وشهادته، وإن لم يتكرر ذلك منه.   (1) (121) سورة طه. (2) (24) سورة ص. (3) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً. أخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (4/2292) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، وتمام الحديث عنده: ( ... وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى، عليه السلام) . وقد ذكره ابن كثير في "تفسيره" في تفسير سورة "مريم" (3/114) ثم قال: ( ... وهذا أيضاً ضعيف، لأن "علي بن زيد بن جدعان" له منكرات كثيرة) . وذكر الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (8/209) ، واقتصر على لفظ المؤلف، مع اختلاف بسيط، ثم قال: ( ... رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وزاد: "فإنه لم يهم بها، ولم يعملها" والطبراني وفيه "علي بن زيد"، وضعفه الجمهور، وقد وثق، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح". وقد خالف الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- الجمهور - فوثق "علي بن زيد" في تعليقه على "المسند" (4/2292) . وانظر "الدر المنثور" (4/262) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 926 وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية علي بن سعيد (1) في الرجل يكذب كذبةً واحدةً: لا يكون في موضع العدالة، الكذب شديد. وكذلك نقل ابن منصور: أنه قال لأبي عبد الله [140/أ] : متى يترك حديثه؟ قال: إذا كان الغالب عليه الخطأ، قال له: الكذب من قليل وكثير؟ قال: نعم. ونقل أحمد بن أبي عبيدة (2) عنه في الرجل يكذب، فقال: إن كثر كذبه، لم تصل خلفه. وظاهر هذا: أنه لا يخرج من العدالة بكذبة واحدة. وهذا على ظاهره فيما سئل عنه من صحة إمامته [أما] في الخبر والشهادة فلا؛ لأن الحاجة في الخبر إلى صدق المخبِر ومن ظهر منه ذلك أولى بالردّ ممن جعلت (3) أمارة رده المعاصي، التى يسمى بها فاسقاً. ويدل عليه ما روى إبراهيم الحربي في كتاب النهي عن الكذب بإسناده عن موسى الجندي قال: رد النبي [صلى الله عليه وسلم] شهادة رجل في كذبة كذبها. وبإسناده عن يحيى بن سالم (4) قال: اطلع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، من وافد   (1) النسوي، تقدمت ترجمته. (2) هو: أحمد بن أبي عبدة -هكذا بالتكبير- أبو جعفر الهمداني. من أصحاب الإمام أحمد الذين أخذوا عنه، وماتوا قبله. قال فيه الإمام أحمد: "ما عبر هذا الجسر أنصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من أحمد بن أبي عبدة". قال الخلال: يعني: جسر النهروان. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/84) . (3) في الأصل: (جمعت) . (4) الكوفي. يروى عن إسرائيل. قال الدارقطني: "ضعيف". = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 927 قوم على كذبة فقال له: (لولا سخاء فيك، ومدحك الله عليه؛ لشردتك من وافد قوم) . ولقد نقلة له أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد الحلبي (1) قال: سألت أحمد بن حنبل رحمه الله عن محدث كَذَب في حديث واحد، ثم تاب ورجع، قال: توبته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يكتب عنه حديث أبداً (2) . وسألت قاضي القضاة أبا عبد الله الدامغاني (3) [عن ذلك] فقال: يقبل حديثه المردود وغيره، بخلاف الشهادة، إذا ردت، ثم تاب، لم يقبل   = ونقل ابن حجر في "اللسان" أن ابن حبان ذكر في كتابه "الثقات" رجلاً آخر بهذا الاسم، يروى عن ابن عمر، وعنه روى الأعمش وفطر بن خليفة. وقد ظهر لابن حجر أن الأخير غير الأول، وعلل ذلك بقوله: (فإن ليحيى ابن سالم الراوي عن إسرائيل ذكرا في ترجمة أشعث بن عمر بن الحسن بن صالح بن حي، وهو متأخر الطبقة عمن يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما) . انظر ترجمته في "لسان الميزان" (6/257) ، و"ميزان الاعتدال" (4/377) . (1) من أصحاب الإمام أحمد، سمع منه ومن عبيد الله بن عمرو الرقي. كانت عنده مسائل كبار، يغرب بها على أصحاب أحمد. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/197) . (2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/198) عند ترجمته لعبد الله بن أحمد الحلبي. (3) هو: محمد بن علي بن محمد بن الحسين أبو عبد الله الدامغاني. ولد سنة (398 هـ) كان حنفي المذهب. تفقه على القدوري، وسمع من الصوري وجماعة. ولِيَ القضاء ببغداد سنة (447هـ) ، واستمر فيه ثلاثين سنة. مات ببغداد سنة (478هـ) . له ترجمة في: "الجواهر المضيئة" (2/96) ، و"شذرات الذهب" (4/362) ، و"المنتظم" (9/22) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 928 في تلك الشهادة خاصة، قال: لأن هناك حكماً (1) من جهة الحاكم بردها، فلا يقبل؛ لأن فيه نقضاً للحاكم، ورد الخبر ممن روى له ليس بحكم؛ لأنه ليس بحاكم. وسألت أبا بكر الشامي (2) [عنه] فقال: لا يقبل خبره فيما ردّ، ويقبل في غيره اعتباراً بالشهادة. دليلنا: أن من أقدم على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استدل على زندقته؛ لأنه لا يقدم علي ذلك -مع ما فيه من الوعيد- إلا زنديق، وتوبة الزنديق غير مقبولة في ظاهر الحكم على الرواية المشهورة أحمد. ويفارق هذا الشهادة؛ لأن الكذب لا يدل على ذلك؛ لأنه يجوز أن يحمله علي ذلك الرغبة في الرشوة وقضاء الحق، فلهذا قبلت شهادته فيما لم يرد. وكذلك إذا رد خبره بغير الكذب في الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه [وسلم] ، أنه لا يدل على زندقته؛ لأنه يحتمل فعل تلك الأشياء المحظورة رغبة في إزالتها وحصول الأغراض.   (1) في الأصل: (حكم) . (2) هو: محمد بن المظفر بن بكران أبو بكر الحموي الشامي، كان شافعي المذهب. ولد بحماة سنة (405هـ) . رحل إلى بغداد، وبها تفقه على أبي الطبيب الطبري. وسمع من ابن بشران وابن غيلان وغيرهما. تولى القضاء ببغداد سنة (478هـ) ، وقد اشتهر بالعدل والزهد والورع. مات سنة (488هـ) . له ترجمة في: "شذرات الذهب" (3/391) ، و"طبقات الشافعية" لابن السبكي (4/202) ، و"العبر" (3/322) ، و"المنتظم" (9/94) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 929 وقد روى أبو إسحاق في تعاليقه عن أبي بكر النقاش (1) عن محمد بن سعيد (2) عن محمد بن سهل بن عسكر (3) سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: "إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا حديث غريب أو فائدة، فاعلم أنه خطأ، وإذا سمعتهم يقولون: هذا حديث لاشيء، فاعلم أنه صحيح". أما قوله: إذا قالوا: "غريب أو فائدة"، فاعلم أنه خطأ، فذلك لأنهم لا يستغربون إلا الحديث الشاذ، الذي بمشهور، ولا رواه أئمة أصحاب الحديث، وما هذا سبيله يجوز عليه [140/ب] الغلط والسهو. وقوله: "إذا سمعتهم يقولون: هذا حديث لا شيء، فاعلم أنه صحيح"، فذلك لأنهم يقولون هذا في الحديث المشهور، الذي تواتر طريقه، وعرف لفظه، فيقولون: لاشيء، يعني أنه ما أفادنا شيئاً؛ لاشتهاره   (1) هو: محمد بن الحسن بن محمد بن زياد، أبو بكر النقاش، الموصلي. كان مقرئاً، عالماً بحروف القراءات، حافظاً للتفسير، سافر في طلب العلم إلى كثير من البلدان. روى عن إسحاق بن سنين الختلي وأبي مسلم الكجي غيرهم. وعنه الدارقطني وابن شاهين وابن رزقويه وغيرهم قال فيه الخطيب البغدادي: (وفي أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة) مات سنة (351هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (2/201) ، و"المنتظم" (7/14) . (2) هو: محمد بن سعيد، أبو بكر الحربي، المعروف بابن الضرير. كان زاهداً، ورعاً، ثقة. روى عن ابن رزقويه. مات سنة (351) . له ترجمة في: "المنتظم" (7/15) . (3) هو: محمد بن سهل بن عسكر بن عمارة، أبو بكر البخاري. حدث عن عبد الرزاق وغيره. وكان من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل. وروى عنه إبراهيم الحربي والبغوي وابن صاعد وغيرهم. قال ابن الجوزي فيه: "كان ثقة" مات سنة (351هـ) . له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/298) ، و"المنتظم" (7/15) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 930 وتكرره ومعرفتنا له، وما هذا سبيله ينتفي عنه السهو والغلط، فيحكم بصحته. فصل ولا يقبل الجرح إلا مفسراً وليس قول أصحاب الحديث: "فلان ضعيف"، و"فلان ليس بشيء" مما يوجب جرحه ورد خبره (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد (2) رحمه الله في رواية المروذي؛ لأنه قال له عن يحيى بن معين (3) : سألته عن الصائم يحتجم، فقال: لا شيء عليه، ليس يثبت فيها خبر (4) ، فقال أبو عبد الله: هذا كلام مجازفة. فلم يقبل مجرد الجرح من يحيى.   (1) من أول هذا الفصل إلى هنا، نقله الخطيب البغدادي بنصه في كتابه "الكفاية" ص (179) ونسبه إلى القاضي أبي الطيب الطبري. (2) وهذا القول هو الذي ذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، مثل البخاري ومسلم وغيرهما، هكذا قال الخطيب البغدادي في "المرجع السابق"، واختاره، وصرح بأنه هو الصواب. (3) أبو زكريا، المري بالولاء، البغدادي. من حفاظ الحديث ونقاده، سمع هشيماً وابن المبارك وإسماعيل بن مجالد وغيرهم. وعنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. ولد سنة (158هـ) ومات بالمدينة سنة (233هـ) . له ترجمة في: "التاريخ الكبير" (8/307) ، و"التاريخ الصغير" (2/362) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/429) ، و"الخلاصة" ص (368) ، و"طبقات الحفاظ" ص (185) ، و"العبر" (1/415) . (4) لم يذكر المؤلف الراوي الذي جاء في الخبر، والذي جرحه ابن معين بدون تفسير، كما لم يذكر لفظ الخبر، حتى يمكن البحث في سنده. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 931 وكذلك نقل مُهَنّا عنه قلت لأحمد: حديث خديجة (1) : كان أبو [ها] ، ما يرغب أن يزوجه (2) ، فقال أحمد رحمه الله: الحديث معروف سمعته من غير واحد، قلت: إن الناس ينكرون هذا، قال: ليس هو منكر. فلم يقبل مجرد إنكارهم.   = وإذا أردت الوقوف علي الأحاديث التي وردت في أن الحجامة تفسد الصوم، والأحاديث التي وردت في عدم فساده بها، إذا أردت ذلك فارجع إلى "تلخيص الحبير" (2/191-194) . (1) هي: أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشية الأسدية. زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم أولاده، عدا إبراهيم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبها. ويثني عليها دائماً ماتت بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين. لها ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1817) ، و"الإصابة" القسم السابع ص (600) طبعة دار نهضة مصر. (2) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه عنه الإمام أحمد في: "مسنده" (1/312) ، من طريق أبي كامل، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس فيما يحسب حماد: (.. ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة، وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه فصنعت طعاماً وشراباً، فدعت أباها وزمراً من قريش، فطعموا، وشربوا، حتى ثملوا، فقالت خديجة لأبيها: إن محمد بن عبد الله يخطبني، فزوجني إياه، فزوجها إياه، فخلعته وألبسته حلة، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء، فلما سرى عنه سكره، نظر، فإذا هو مخلق، وعليه حلة، فقال: ما شأني؟ ما هذا؟!. قالت زوجتني محمد بن عبد الله، قال: أنا أزوج يتيم أبي طالب؟! لا، لعمري، فقالت خديجة: أما تستحي؟ تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران، فلم تزل به حتى رضي) . بعد أن ذكره الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (9/220) باللفظ المذكور قال: (رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد والطبراني رجال الصحيح) . وذكر ابن عبد البر في كتابه: "الاستيعاب" (4/1817) أن الذي زوجها هو عمها: "عمرو بن أسد بن عبد العزى بن قصي". ولم يذكر غير هذا القول. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 932 ونقل عنه المروذي ما يدل على أنه يقبل، فقال: قريء على أبي عبد الله رحمه الله: حديث عائشة كانت تلبي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمه لك) (1) فقال أبو عبد الله: كان فيه: و"الملك لا شريك لك"، فتركته؛ لأن الناس خالفونا، وقوله: تركت روايته، لأجل ترك الناس، وإن لم يظهر العلة. وجه الأول: أن الناس اختلفوا فيما يفسق به، ولا بد من ذكر سببه؛ لينظر هل هو فسق أم لا، وعلى هذا لو شهد رجلان: أن هذا الماء نجس، لم تقبل شهادتهما، حتى يُبَيِّنا سبب النجاسة؛ لأن الناس اختلفوا فيما ينجس به الماء (2) . ووجه الثاني: أن المعاني التي في يختلف في تأثيرها في الخبر معروفة (3) ، فالواجب حمل أمر المزكي على الصحة، وأنه لا يحمل (4) للقاضي ما يعلم أنه لو فسره، لم يؤثر عنده. إذا تقرر هذا، فإن صرح عدلان بما يوجب الجرح، ثبت الجرح.   = قلت: ولعله الصواب؛ لأن أباها قد مات قبل ذلك، كما في "طبقات ابن سعد" (8/16) ؛ ولأن النفس غير مرتاحة لما جاء في حديث أحمد من تزويج أبيها لها، على تلك الصفة. والله أعلم. (1) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب التلبية.. (2/162) . وأخرجه أحمد في "مسنده" (6/32) . وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الحج، باب ما جاء في التلبية.. (1/211) . (2) من قوله: (أن الناس اختلفوا فيما يفسق به ... ) إلى هنا نقله الخطيب البغدادي بنصه في كتابه "الكفاية" ص (179) ، ونسبه إلى القاضي أبي الطيب الطبري. (3) في الأصل: (معروف) . (4) بدون إعجام في الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 933 فإن صرح أحدهما بما يوجب الجرح، ثبت الجرح أيضاً، وهذا قياس قوله في التعديل: إنه يثبت بقول الواحد، على ما نذكره. والوجه فيه: أن العدد ليس بشرط في قبول الخبر، فلم يكن شرطاً في جرح الراوي، ويخالف الشهادة؛ لأن العدد شرط في قبول الشهادة والحكم بها، فلهذا لم يقبل جرح الواحد. فأما تعديل الواحد فيقبل، كما يقبل جرحه. قال في روارية الأثرم: إذا روى الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن رجل، فهو حجة، وهذا يدل على أن رواية العدل عن غيره تعديل له، ويدل أيضاً على: أن تعديل الواحد مقبول. وكذلك نقل أبو زُرعة قال سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: مالك (1) بن أنس إذا روي عن رجل لا يعرف [141/أ] فهو حجة. وقد نقل مُهنَّا عنه ما يدل على أن رواية العدل [لا] تكون تعديلاً، ويجب السؤال عنه، فقال سألت أحمد رحمه الله عن رباح بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب (2) ؟ فقال: مدني،   (1) في الأصل: (لمالك) . (2) لم أجد أحداً بهذا الاسم، وإنما الذي وجدته هو: أ- رباح بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب العدوي. روى عن سهيل بن أبي صالح وغيره. وعنه هشام بن يوسف. قال فيه أحمد والدارقطني: "منكر الحديث". وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج بما تفرَّد به". له ترجمة في: "التاريخ الصغير" (2/147) ، و"التاريخ الكبير" (3/316) ، و"ميزان الاعتدال" (2/37) . ب- عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي. روى عن أبيه وعبد الله بن عامر بن ربيعة وغيرهما. وعنه شعبة ومالك. ضعفه يحيى ومالك والنسائي. وقال ابن حبان: "كثير الوهم، فاحش الخطأ"، وقال أبو حاتم = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 934 روى عنه عبد الرزاق (1) . قلت: كيف هو؟ قال: ضعيف. وظاهر هذا أنه لم يجعل رواية العدل تعديلاً. وهو قول أصحاب الشافعي. فالدلالة على أن تعديل الواحد مقبول: لأنه يقبل جرحه من الوجه الذي ذكرنا، فقبل تعديله. وقد نَقل إسماعيل بن سعيد قال: قلت لأحمد: تعديل الرجل الواحد، إذا كان مشهوراً: بالصلاح؟ قال: يقبل ذلك. ذكرها الخلال في كتاب "الشهادات". فظاهر هذا: [أن] تعديل الواحد للشاهد مقبول. والدلالة على أن روايته تعديل له:   = وأبو زرعة: "منكر الحديث". وقال الدارقطني: "يترك". له ترجمة في: "التاريخ الصغير" (1/316) ، و"التاريخ الكبير" (6/484) ، و"ميزان الاعتدال" (2/353) . وبناءً على ما سبق يظهر: أن اسم "عاصم" الذي أورده المؤلف زائد، لا محل له. أو أن اسم "رباح" محرف عن اسم "عاصم"، والله أعلم. (1) هو: عبد الرزاق بن همام بن نافع، أبو بكر، الحِمْيَري بالولاء، الصنعاني أحد أئمة الإسلام. روى عن ابن جريج ومعمر والسفيانين والأوزاعي ومالك وغيرهم. وعنه أحمد وإسحاق وابن المديني وغيرهم. وهو ثقة، وكان يتشيع. وفي حديثه بعد أن كف بصره بعد المائتين مقال مات سنة (211هـ) . له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/265) ، و"التاريخ الصغير" (2/320) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/364) ، و"تهذيب التهذيب" (6/310) ، و"الخلاصة" ص (201) : و"شذرات الذهب" (1/272) ، و"ميزان الاعتدال" (2/209) ، و"النجوم الزاهرة" (2/202) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 935 ما تقدم في مسألة خبر المرسل، وهو: أنه لا يجوز أن يحدث عن فاسق لمن لا يعرفه، ويكتم ذلك، فيلزمه قبوله. ولأنه لو روي عن غير ثقة كان قد قطع على رسول الله صلى الله عليه [وسلم] ، بقول من هو كذاب عنده، وهذا ممنوع منه. والوجه لمن قال: لا يكون تعديلاً: بأنه يجوز أن يروي عمن لا يعرف عدالته، وإذا لم يحرم ذلك، لم تكن روايته تعديلاً، اللهم إلا أن يروي عنه ويعدّله بقوله أو بعمل [لا] يحرم فيكون تعديلاً. فصل ولا يقبل خبر من لم تعرف عدالته وإن عوف إسلامه وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الفضل بن زياد، وقد سأله عن أبي حميد يروي عن مشايخ لا يعرفهم، وأهل البلد يثنون عليهم؟ فقال: إذا أثنوا عليهم، قبل ذلك منهم، هم أعرف بهم. وظاهر هذا: أنه لا يقبل خبره إذا لم تعرف عدالته؛ لأنه اعتبر تعديل أهل البلد لهم. وحكي عن أبي حنيفة: أنه يقبل خبر من لم تعرف عدالته، إذا عرف إسلامه. دليلنا: أن كل خبر لم يقبل من الفاسق، كان من شرطه معرفة عدالة المخبِر، كالشهادة، ولا يلزم عليه الخبر المرسل أنه مقبول، وإن لم تعرف عدالته؛ لأنه غير مجهول العدالة، لما بينا: أن رواية العدل عن غيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 936 تعديل له؛ لأنه لا يجوز أن يرويَ عن فاسق. والذي روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة الأعرابي في رؤية الهلال لما علم إسلامه بقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" (1) وذلك لأنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -، عرف من حال الشاهد أنه عدل ثقة، فلذلك حكم بشهادته. وليس من شرطه معرفة العدالة الباطنة؛ لأن اعتبارها يشق. ويفارق الشهادة؛ لأن اعتبارها لا يشق؛ لأن لها معتبراً، وهو الحاكم، والاعتبار إليه، وليس كل من سمع الحديث حاكماً.   (1) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في الصوم بالشهادة (3/65-66) ، ولفظه: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الهلال، قال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمداً رسول الله؟ " قال: نعم. قال: "يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غداً") . ثم قال الترمذي بعد ذلك: (حديث ابن عباس فيه اختلاف. وروى سفيان الثوري وغيره عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً) . وأخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (1/547) ، عن ابن عباس مسنداً. كما أخرجه عن عكرمة مرسلاً. ثم قال بعد ذلك: (رواه جماعة عن سماك عن عكرمة مرسلاً ... ) . ولفظه قريب من لفظ الترمذي. وأخرجه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنه مسنداً، في كتاب الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/106-107) ، كما أخرجه عن عكرمة مرسلاً، ولفظه قريب من لفظ الترمذي. وأخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنه مسنداً، في كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال (1/529) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 937 فصل (1) [141/ب] وقد أطلق أحمد رحمه الله القول بالأخذ بالحديث الضعيف. فقال مهَنّا (2) : قال أحمد: الناس كلهم أكْفاء إلا الحائك والحجام والكساح (3) ، فقيل له: تأخذ بحديث (كل الناس أكْفاء إلا حائكاً (4) أو حجاما) (5) وأنت تضعفة؟ فقال: إنما نضعف إسناده، لكن العمل عليه.   (1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (273) ، فإنه نقل هذا الفصل بالنص، مع اختلاف طفيف. (2) في الأصل: (بهذا) ، والتصويب من "المسودة" ص (273) . (3) الكسح: الكنس، والكساح الكناس، ولعله المقصود هنا. راجع مادة: (كسح) في "تهذيب اللغة"، و"القاموس" و"اللسان". (4) في الأصل: (إلا حائك أو حجام) . (5) هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب النكاح، باب اعتبار الصنعة في الكفاءة (7/134-135) بلفظ: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل والموالي أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، إلا حائك أو حجام) . ثم قال البيهقي بعد ذلك: (هذا منقطع بين شجاع وابن جريح حيث لم يسمع شجاع بعض أصحابه) . وذكر له بعد ذلك طرقاً أخرى، حكم عليها كلها بالضعف. وقال ابن أبي حاتم في كتابه: "العلل" (1/412) : (سألت أبي عنه.. فقال: هذا كذب لا أصل له) . ونقل عن أبيه (1/421) قوله: (باطل، أنا نهيت ابن أبي شريح أن يحدث به) . ونقل عن أبيه مرة ثالثة (1/424) قوله: (.. هذا حديث منكر، رواه هشام الرازي، وزاد في الحديث "إلا حائك أو حجام أو دباغ" قال: فخرج عليه الدباغون، واجتمعوا، حتى أن بعض الناس حسّن الحديث، وقال: إنما معنى = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 938 وكذلك قال في رواية ابن مُشَيْش (1) وقد سأله: عمن تحل له الصدقة وإلى أي شيء يذهب في هذا؟ فقال: إلى حديث، حكيم بن جبير (2) ، فقلت: وحكيم بن جبير (3) ثَبَت عندك في الحديث (4) ؟ قال: ليس هو عندي ثَبَتاً في الحديث.   = هذا: "أو دباب"، إنما أراد هؤلاء الذين يتخذون الدباب) .. وقال الدارقطني في هذا الحديث: لا يصح. وقال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع. وقد تكلم الزيلعي عن هذا الحديث في كتابه: "نصب الراية" (3/197) ، كما تكلم عنه ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير" (3/164) فارجع إليهما إن شئت. (1) هو: محمد بن موسى بن مشيش البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد المقدمين عنده. كان جاراً للإمام أحمد، ومكرماً لديه. نقل عنه كثيراً من المسائل. له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (3/240) ، و"طبقات الحنابلة" (1/323) ، و"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص (511) ، و"المنهج الأحمد" (1/246) . (2) حديث "حكيم بن جبير" هذا ذكره الذهبي في كتابه: "ميزان الاعتدال" (1/584) ، عند كلامه عن "حكيم" المذكور، ولفظه: (لا تحل الصدقة لمن عنده خمسون درهماً) . (3) في الأصل: (حبير) بالحاء المهملة، وهو خطأ. (4) روى حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير وأبي جحيفة وغيرهما. وعنه شعبة وزائدة وغيرهما. قال فيه أحمد: "ضعيف منكر الحديث" وقال النسائي: "ليس بالقوي" وقال الدارقطني: "متروك" وقال الجوزجاني: "كذاب" وقال فيه الذهبي: "فيه رفض، ضعفه غير واحد، ومشاه بعضهم، وحسن أمره، وهو مقل". له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/186) ، و"ميزان الاعتدال" (1/583) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 939 وكذلك قال مُهَنّا: سألت أحمد رحمه الله: عن حديث مَعْمَر عن الزهري عن سالم (1) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن غيلان (2) أسلم وعنده عشر نسوة (3) ، قال: ليس بصحيح، والعمل عليه، كان عبد الرزاق يقول: عن مَعْمر عن الزهري مرسلاً.   (1) هو: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عمر، أو أبو عبد الله، المدني. أحد الفقهاء السبعة. روى عن أبيه وأبي هريرة وعائشة وغيرهم. وعنه ابنه أبو بكر وحنظلة بن أبي سفيان وغيرهما. مات سنة (106هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/88) ، و"تهذيب التهذيب" (3/436) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (111) ، و"شذرات الذهب" (1/133) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/301) و"النجوم الزاهرة" (1/256) . (2) هو: غيلان بن سلمة بن شرحبيل الثقفي. أسلم بعد فتح الطائف. ولم يهاجر. كان مقدماً في قومه، كما كان شاعراً محسناً. توفي في آخر خلافة عمر رضي الله عنه. له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1256) ، و"الإصابة" القسم الخامس ص (330) . (3) هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنه؛ أخرجه عنه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة (3/426) ولفظه: (أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم، وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير أربعاً منهن) . ثم قال الترمذي بعد ذلك: (والعمل على حديث غيلان بن سلمة عند أصحابنا..) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، (1/628) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب أنكحة الكفار وإقرارهم عليها.. (2/349) . وأخرجه عنه الحاكم في "المستدرك"، في كتاب النكاح، باب قصة إسلام غيلان الثقفي، وتخييره، لأربع من النساء (2/193) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 940 [و] معنى قول أحمد: "ضعيف": على طريقة أصحاب الحديث؛ لأنهم يضعفون بما لا يوجب تضعيفه عند الفقهاء، كالإرسال والتدليس والتفرد بزيادة في حديث لم يروها الجماعة، وهذا موجود في كتبهم: تفرد به فلان وحده، فقوله: "هو ضعيف"، على هذا الوجه وقوله: "والعمل عليه" معناه: على طريقة الفقهاء. وقد ذكر أحمد رحمه الله جماعة ممن يروي عنه مع ضعفه. فقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: قد يحتاج أن يحدث الرجل عن الضعفاء مثل عمرو ابن مرزوق (1) ، وعمرو بن حكام (2) ، ومحمد بن معاوية (3) وعلي بن   = وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى"، في كتاب النكاح، باب عدد ما يحل من الحرائر والإماء (7/149) . قال ابن عبد البر في هذا الحديث: "طرقه كلها معلولة". لمزيد من الاطلاع على ما في هذا الحديث من الكلام، راجع: "تلخيص الحبير" (3/168) . (1) هو: عمرو بن مرزوق الباهلي أبو عثمان البصري. روى عن عكرمة بن عمار وشعبة وغيرهما. وعنه البخاري مقروناً بغيره، وأبو داود وغيرهما. وثقه أبو حاتم ويحيى، ونقل عن أحمد توثيقه، مع أن المؤلف نقل عنه تضعيفه. كان يحيى بن سعيد لا يرضاه. وكان ابن المديني يقول: "اتركوا حديث العمرين"، يعني عمرو بن مرزوق، وعمرو بن حكام. مات سنة (224هـ) . له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (293) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/489) ، و"ميزان الاعتدال" (3/287) . (2) عمرو بن حكَام؛ روى عن شعبة. قال البخاري فيه: "ليس بالقوي عندهم". ضعفه ابن المديني. وقال أحمد: "ترك حديثه". له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (2/482) ، و"ميزان الاعتدال" (3/254) . (3) في كتاب المغني في "الضعفاء" (2/634) ثلاثة بهذا الاسم: = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 941 الجعد (1) ، وإسحاق بن أبي إسرائيل (2) ، ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم. وقال أيضاً في رواية ابن القاسم (3) في ابن لهيعة (4) : ما كان حديثه   = الأول: محمد بن معاوية النيسابوري. الثاني: محمد بن معاوية عن جويرية بن أسماء. الثالث: محمد بن معاوية أبو جعفر الأنماطي. وكذلك الشأن في كتاب: "ميزان الاعتدال" (4/44-45) ، ولم أتوصل إلى معرفة المقصود منهم ها هنا. (1) هو: علي بن الجعد أبو الحسن الجوهري، الهاشمي بالولاء البغدادي، روى عن الثوري وشعبة وابن أبي ذئب. وعنه البخاري وأبو داود ومسلم في غير الصحيح. وثقه ابن معين وقال أبو حاتم فيه: "متقن". وقال النسائى: "صدوق". وقال فيه مسلم: "ثقة، لكنه جهمي". وكان أحمد لا يكتب عمن أجاب في الفتنة، ولذلك لم يمكن ابنه عبد الله من الكتابة عن ابن الجعد هذا. مات سنة (230هـ) . له ترجمة في: "الخلاصة" ص (272) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/444) ، و"ميزان الاعتدال" (3/116) . (2) هو: إسحاق بن أبي إسرائيل إبراهيم أبو يعقوب المروزي. روى عن شريك وحماد بن زيد وغيرهما. وعنه أبو داود والبغوي وغيرهما. وثقه يحيى بن معين والدارقطني. كان قليل العقل. وكان يقف في القرآن. مات سنة (246 هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/484) ، و"تهذيب التهذيب" (1/223) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (27) طبعة بولاق، و"ميزان الاعتدال" (1/182) . (3) هو: أحمد بن القاسم. من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه المسائل. كما كان من أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/55) . (4) هو: عبد الله بن لَهيعَة بن عقبة أبو عبد الرحمن الحضرمى المصري الفقيه. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 942 بذلك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، أنا قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد. وقال في رواية المروزي: كنت لا أكتب حديثه -يعني جابر الجعفي (1) - ثم كتبته أعتبر به. فقال له مُهَنّا: لم تكتب عن أبي بكر بن أبي مريم (2) ، وهو   = روى عن عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وغيرهما. وعنه الثوري والأوزاعي وشعبة وغيرهم. قال فيه أحمد: "احترقت كتبه، وهو صحيح الكتاب، ومن كتب عنه قديماً فسماعه صحيح". وقال فيه مرة: "ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة". وقال ابن معين: "لي بذاك". وقال مسلم: "تركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي". ولد سنة (97هـ) ، ومات سنة (174هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/237) ، و"تهذيب التهذيب" (5/373) ، و"خلاصه تذهيب الكمال" ص (179) ، و"شذرات الذهب" (1/283) ، و"المغني في الضعفاء" (1/352) . (1) هو: جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي الشيعي. روى عن عامر بن واثلة والشعبي وأبي الطفيل وخلق. وعنه شعبة والسفيانان وخلق. وثقه الثوري. وقال شعبة: "صدوق" قال النسائي: "متروك" وقال أبو داود: "ليس بالقوي في حديثه". وقال يحيى: "لا يكتب حديثه، ولا كرامة" وكذبه أبو حنيفة والجوزجاني. مات سنة (128هـ) . له ترجمة في: "تنزيه الشريعة المرفوعة" (1/44) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (59) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/126) ، و"ميزان الاعتدال" (1/379) . (2) هو: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الحمصي: اختلف في اسمه، فقيل: بكير. وقيل: عبد السلام. وقيل: عمرو. وقيل: عامر. روى عن مكحول وخالد بن معدان. وعنه إسماعيل بن عياش وبقية. قال فيه الجوزجاني: "هو متماسك" وقال ابن عدي: "أحاديثه صالحة، ولا يحتج به". وقد ضعفه = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 943 ضعيف؟ قال: أعرفه. والوجه في الرواية عن الضعفاء: أن فيه فائدة، وهو أن يكون الحديث قد روي من طريق صحيح. فيكون برواية الضعيف ترجيحاً، أو ينفرد الضعيف بالرواية، فيعلم ضعفة؛ لأنه لم يرد إلا من الطريق الضعيف فلا يقبل. فصل في بيان الكبائر من المعاصي فروى أبو بكر بإسناده في كتابه عن عبيد بن عمير (1) عن أبيه (2) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الكبائر تسع: الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة، وقذف المحصنة، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، والإلحاد بالبيت الحرام) (3) .   = أحمد وابن معين وابن حبان وغيرهم. مات سنة (156هـ) . له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (444) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/774) ، و"ميزان الاعتدال" (4/497) . (1) هو: عبيد بن عمير بن قتادة أبو عاصم الليثي المكي. ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن عمر وعائشة وعلى غيرهم. وعنه مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وآخرون. وثقه أبو زُرعة وابن معين مات سنة (64هـ) على ما قيل. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/50) ، و"تهذيب التهذيب" (6/71) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (216) ، و"طبقات الحفاظ" ص (14) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/496) . (2) هو: عمير بن قتادة بن سعد الليثي الكوفي. صحابي، سكن مكة. لم يرو عنه غير ابنه عبيد. له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1219) ، و"الإصابة" القسم الرابع ص (724) طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (297) طبعة بولاق. (3) هذا الحديث أخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان، باب الكبائر تسع = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 944 وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن (1) عن [142/أ] أبي هريرة قال [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الكبائر سبع: أولهن الإشراك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبروا، وفرار (2) من الزحف، وزنا بالمحصنات، وانقلاب إلى الأعراب بعد   = (1/59) عن عميرة بن قتادة رضي الله عنه، وعقب عليه بقوله: (وقد احتجا برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان، فأما عمير بن قتادة، فإنه صحابي، وابنه عبيد، متفق على إخراجه والاحتجاج به) . وقال الحافظ المنذري في كتابه: الترغيب والترهيب (2/509) بعد أن أورد هذا الحديث: (رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن) . وأخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب ذكر الكبائر (2/82) ، ولفظه: (.. أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: "هن سبع أعظمهن: إشراك بالله، وقتل النفس بغير حق، وفرار يوم الزحف". ثم قال النسائي بعد ذلك: (مختصر) . ومدار الحديث على: "عبد الحميد بن سنان". وثقه ابن حبان. وقال الذهبي في الميزان: (عداده في التابعين، لا يعرف، وقد وثقه بعضهم) . وقال البخاري: فيه نظر. وقد روى عنه يحيى بن أبي كثير. انظر ترجمته في: "الخلاصة" ص (222) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/369) ، و"ميزان الاعتدال" (2/541) . (1) هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني. اسمه كنيته وقيل: اسمه: عبد الله. روى عن أبيه وأبي هريرة وأسامة بن زيد وخلق. وعنه الأعرج والشعبي والزهري وآخرون. كان مع علمه بالحديث فقيهاً. مات سنة (94هـ) وله اثنان وسبعون سنة. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/63) ، و"تهذيب التهذيب" (12/115) ، و"الخلاصة" ص (388) ، و"شذرات الذهب" (1/105) ، و"طبقات الحفاظ" ص (23) . (2) في الاصل: (فراراً) بالنصب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 945 الهجرة) (1) ، ويجب أن يكون من جملتها السرقة؛ لأن القطع أعظم من الجلد في الزنا، وكذلك شرب الخمر. وقد حَدّ أحمد رحمه الله الكبائر: بما يوجب حداً في الدنيا ووعيداً في الآخرة، فقال في رواية جعفر بن محمد (2) : سمعت سفيان بن عيينة يقول في قوله تعالى: (إلا اللمَمَ) (3) قال: ما بين حدود الدنيا والآخرة. قال أبو عبد الله: حدود الدنيا مثل السرِق والزنا، وعد أشياء، وحد الآخرة: مايحد في الآخرة، واللمم: الذي بينهما. قال أبو بكر في تفسيره لقوله تعالى: (إنْ تَجْتنبوا كبائر مَا تنهون) (4) ، قد روي أنها سبع.   (1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا أخرجه البزار، ولفظه قريب من لفظ المؤلف، إلا أنه ذكر: (قذف المحصنات) بدل: (زنا بالمحصنات) . راجع: "الترغيب والترهيب" (2/505) . وأخرجه الطبراني في معجمه الأوسط عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولفظه كلفظ البزار مع اختلاف طفيف. انظر: الفتح الكبير (2/338) . وأصل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صحيح البخاري، في كتاب المحاربين، باب رمي المحصنات (8/218) ، ولفظه: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) . (2) يوجد كثير بهذا الاسم في "طبقات الحنابلة" (1/123-127) ، وكلهم من أصحاب الإمام أحمد الذين تنلمذوا عليه، ونقلوا عنه، ولم أتوصل إلى معرفة المراد منهم. (3) (33) سورة النجم. (4) (31) سورة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 946 وروى عبد الله بن أنيس الجهني (1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من الكبائر: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس) (2) ، قال: فما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه [وسلم] الشرك بالله. وعقوق الوالدين، وقتل النفس المحرم قتلها، وقول الزور، وقد يدخل في قتل النفس المحرمة: قتل الرجل ولده، من أجل أنه يطعم معه، والفرار من الزحف، والزنا بحليله الجار. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (هي سبع) ، يكون معنى قوله: (سبع) على التفصيل، ويكون معنى قوله في الخبر الذي روي عنه أنه قال: (وهي الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور) (3) على الإجمال، إذا كان قوله: (وقول الزور) يحمل (4) على معان شتى، وإن جمع ذلك قول الزور، فأما أبو بكرة (5) ومن جلد معه، فلا يرد خبرهم؛ لأنهم جاؤوا مجيء   (1) أبو يحيى المدني. صحابي. كان حليفاً لبني سلمة من الأنصار، شهد أحداً وما بعدها. مات بالشام سنة (54هـ) . له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/869) ، و"الإصابة" (4/37) . (2) هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النساء (5/236) ، وقال فيه: "حديث حسن غريب". (3) هذا الحديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: (ومن أحياها) : (9/4) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (1/91) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النساء (5/235) . وأخرجه عنه النسائى في كتاب القسامة، باب تأويل قول الله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً ... ) (8/57) . (4) في الأصل: (يحتمل) . (5) هو: نفيع بن مسروح، وقيل: نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو، أبو بكرة الثقفي. صحابي. أسلم يوم الطائف. كان كثير العبادة. أحد الثلاثة الذين شهدوا = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 947 الشهادة، وليس بصريح في القذف، وقد اختلفوا في وجوب الحد، ويسوغ فيه الاجتهاد، ولا ترد الشهادة بما يسوغ فيه الاجتهاد. ولأن نقصان العدد معنى من جهه غيره، فلا يكون سبباً في رد شهادته. عدنا إلى ذكر الشرائط التي يقبل معها الخبر، وقد ذكرنا منها شرطين أحدهما العقل والثاني العدالة. الثالث: أن لا يكون مبتدعاً يدعو إلى بدعة. لأنه إذا دعى إلى بدعة، لا يؤمن أن يضع لما يدعو إليه حديثاً يوافقه. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الأثرم، وقد ذكر له: أن فلاناً أمر (1) بالكَتْب عن سعد العَوْفي (2) ، فاستعظم ذلك، وقال: جهمي، ذاك امتحن فأجاب قبل أن يكون ترهيب. وقال في رواية أبي داود: احتملوا من المرجئة الحديث، ويكتب عن القدري، إذا لم يكن داعية. الرابع: [142/ب] أن يكون ضابطاً لما ينقله. لأنه متى لم يضبط، غيَّر اللفظ والمعنى.   = على المغيرة بن شعبة، فجلدهم عمر. مات أبو بكرة بالبصرة سنة (51هـ) . له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1614) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (467) ، طبعة دار نهضة مصر. (1) في الأصل: (أمين) ، وهو خطأ، والتصويب من "المسودة" ص (264) . (2) هو: سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي. ضعيف روى عن أبيه وعمه الحسن وفليح. وعنه ابنه محمد وابن أبي الدنيا وغيرهم. قال فيه الإمام أحمد: "جهمي ... "، كما قال: "ولم يكن هذا أيضاً ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعاً لذاك". = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 948 وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي: لا ينبغي للرجل إذا لم يعرف الحديث أن يحدث به، ثم قد صار الحديث يحدث به من لا يعرفه. وقال في الكبير لا يعرف الحديث ولا يعقل: إذا كتب، فلا بأس أن يرويه. الخامس: أن يكون بالغاً: لأن من لم يبلغ لا رغبة له في الصدق، ولا حذر عليه في الكذب؛ لأنه لا عقاب عليه، فحاله دون حال الفاسق؛ لأن الفاسق قد يرجو ثواباً، ويتجنب ذنوباً يخشى العقاب عليها، ولا يقبل خبر الفاسق، فالصبي أولى. ولأنا لما نقبل إقراره على نفسه، لم نقبله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأما تحمله الخبر، إذا كان عاقلا مميزاً، ورواه بعد، بلوغه، فجائز لإجماع السلف على عملهم بخبر ابن عباس، وابن الزبير (1) ، والنعمان بن بشير (2) ، وغيرهم من أحداث الصحابة.   = له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/126) ، و"لسان الميزان" (3/18) . (1) هو: عبد الله بن الزبير بن العوام أبو بكر القرشي الأسدي. من صغار الصحابة. ولد سنة اثنتين من الهجرة. وقيل: في السنة الأولى. بويع بالخلافة بعد موت معاوية ابن يزيد، سنة (64هـ) أو سنة (65هـ) ، وظل كذلك حتى قتل وصلب سنة (73هـ) ، وله من العمر (72) سنة. له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/905) ، و"الإصابة" القسم الرابع ص (89) طبعة دار نهضة مصر، و"شذرات الذهب" (1/79) . (2) هو: النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي، ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثمان سنين تولى إمرة الكوفة لمعاوية ستة أشهر. ثم تولى له إمرة حمص، ولابنه يزيد من بعده. ولما مات يزيد تبع ابن الزبير. فخالفه أهل حمص، وقتلوه سنة (64هـ) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 949 ولأنه، لما جاز أن يتحمل الشهادة قبل بلوغه، ويؤديها بعد بلوغه، مع ضيق الشهادة، فأولى أن يتحمل الخبر ويؤديه بعد بلوغه، مع سعة الخبر. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث، والمروذي وحنبل: يصح سماع الصغير إذا عَقَل وضبَطَ. وقد روى البخاري (1) في صحيحه عن محمد بن يوسف (2) عن أبي مِسْهَر (3)   = له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1496) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (440) طبعة دار نهضة مصر، و"شذرات الذهب" (1/72) . (1) هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أبو عبد الله البخاري الجعفي بالولاء الحافظ المتقن. طبقت شهرته الآفاق. روى عن أحمد وابن المديني وخلق. وعنه مسلم والترمذي وخلق. له كتب منها: "الجامع الصحيح" و"التاريخ الكبير". مات سنة (256هـ) . له ترجمة في: "البداية والنهاية" (11/24) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/555) ، و"تاريخ بغداد" (2/4) ، و"تهذيب التهذيب" (9/47) ، و"شذرات الذهب" (2/134) . (2) هو: محمد بن يوسف بن واقد الفريابي الضبي بالولاء، أبو عبد الله روى عن السفيانين والاوزاعي وغيرهم. وعنه البخاري وأحمد وغيرهما. مات سنة (212هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/376) ، و"شذرات الذهب" (2/28) ، و"طبقات الحفاظ" ص (159) . (3) هو: عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى، أبو مسهر الغساني الدمشقي روى عن إسماعيل بن عياش ومالك وغيرهما. وعنه الذهلي وأبو زرعة وغيرهما. حبسه المأمون في بغداد وظل في محبسه حتى مات سنة (218هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (11/72) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/381) ، و"شذرات الذهب" (2/44) ، و"طبقات الحفاظ" ص (163) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 950 عن محمد بن حرب (1) عن الزبيدي (2) عن الزهري عن محمود بن الربيع (3) قال: (عَقَلْت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مَجّةً مَجّهَا في فيَّ، وأنا ابن خمس سنين) (4) ، وهذا يدل على أن ابن خمس يعقل ويضبط، فيصح سماعه. فأما الذكورية: فلا تعتبر؛ لأن النساء نقلن الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا تعتبر الحرية؛ لأن الحديث موضوع على حسن الظن بالراوي، لأنه يروي ما يشترك فيه المخبِر والمخبَر.   (1) في الاصل: (جرير) ، والصواب: ما أثبتناه، والتصويب من "صحيح البخاري": (1/29) ، و"الاستيعاب" (3/1378) في ترجمة محمود بن الربيع رضي الله عنه. وهو: محمد بن حرب أبو عبد الله الحمصي الخولاني، المعروف بالأبرش كان قاضي دمشق. وكان حافظاً مكثراً. روى عن الأوزاعي وابن جريج وآخرين. وعنه أبو مسهر وحيوة بن شريح. مات سنة (194هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/310) ، و"شذرات الذهب" (1/341) ، و"طبقات الحفاظ" ص (128) ، و"النجوم الزاهرة" (2/146) . (2) هو: محمد بن الوليد بن عامر أبو الهذيل الزبيدي الحمصي. الحافظ المتقن. روى عن الزهري ونافع وآخرين. وعنه محمد بن حرب والأوزاعي وغيرهما. مات سنة (146هـ) وله سبعون سنة. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/162) ، و"تهذيب التهذيب" (9/503) ، و"طبقات الحفاظ" ص (71) . (3) هو: محمود بن الربيع بن سراقة أبو نعيم، وقيل: أبو محمد الخزرجي الأنصاري. من صغار الصحابة. معدود في أهل المدينة. أكثر روايته عن الصحابة. روى عنه ابن شهاب ورجاء بن حيوة. مات سنة (97هـ) وله ثلاث وتسعون سنة. له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1378) ، و"الإصابة" (6/66) . (4) هذا الحديث أخرجه البخاري بالسند المذكور في كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير؟ (1/29) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب المج في الإناء (1/216) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 951 ولا يعتبر فيه البصر، لأن الشهادة مع تأكدها، يصح تحملها وأداؤها من الضرير على أصلنا، فأولى أن يصح الخبر مع سعته. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية عبد الله في سماع الضرير البصير: إذا كان يحفظ من المحدث فلا بأس، وإذا لم يكن يحفظ فلا، وقال: الأمي بهذه المثابة إلا ما حفظ من الحديث. [حكم الرواية عن أصحاب الرأي] قال أحمد رحمه الله في رواية أصحاب الرأي: لا يروى عنهم الحديث (1) . وهذا محمول على أهل الرأي من المتكلمين، كالقدرية ونحوهم (2) . [حكم الرواية عن الجندي] وقال في رواية المروذي وقد سأله: يكتب عن الرجل، إذا كان جندياً؟ فقال: أما نحن فلا نكتب عنهم. وكذلك قال في رواية إبراهيم بن الحارث: إذا كان الرجل في الجند، لم أكتب عنه. وهذا محمول على طريق الورع؛ لأن الجندي لا يتجنب المحرمات في الغالب.   (1) كلام الإمام أحمد هذا من رواية ابنه عبد الله، كما في "المسودة" ص (265) . (2) تعقبه في "المسودة" ص (265-266) بقوله: (قلت: ليس كذلك بل نصوصه في ذلك كثيرة، وهو ما ذكرته في المبتدع أنه نوع من الهجرة، فإنه قد صرح بتوثيق بعض من ترك الرواية عنه كأبي يوسف ونحوه، ولذلك لم يرو لهم في الأمهات كالصحيحين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 952 [حكم الرواية عمن أجاب في المحنة] وقال في رواية محمود بن غيلان (1) : [لا] أحب أن أحدث عمن أجاب، يعني في [143/أ] المحنة (2) . وقال في رواية حجاج الشاعر (3) : أما أنا فلا أكتب عمن أجاب في المحنه. وهذا على ظاهره؛ لأن من أجاب من غير إكراه كان مختاراً للبدعة. [حكم الرواية عمن يبيع العِينَة أو يأخذ الأجرة على الحديث] وقال في رواية سَنَدي الخَواتيمي: لا يعجبني أن يكتب الحديث عن معينٍ (4) . يعني يبيع هذه العينة.   (1) أبو أحمد المروزي. من أصحاب الإمام أحمد. سمع من الفضل بن موسى السيناني وسفيان بن عيينة. وعنه البخاري ومسلم وغيرهما. مات سنة (239هـ) ، وقيل: سنة (249هـ) . له ترجمة في: "شذرات الذهب" (2/92) . و"طبقات الحنابلة" (1/340) . (2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/340) في ترجمة محمود بن غيلان. (3) هو: حجاج بن يوسف بن حجاج أبو محمد الثقفي، المعروف بابن الشاعر البغدادي مولداً ونشأةً. روى عن الإمام أحمد وعبد الرزاق وغيرهما. وعنه مسلم وأبو داود وغيرهما. مات سنة (259هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (8/240) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/559) ، و"شذرات الذهب" (2/139) ، و"طبقات الحفاظ" ص (244) ، و"طبقات الحنابلة" (1/148) . (4) في الأصل: (معن) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 953 وقد قال في رواية حُبَيش (1) وسلمة بن شبيب (2) : لا نكتب عن هؤلاء الذين يأخذون الدراهم على الحديث ويحدثون، ولا كرامة. وهذا على طريق الورع؛ لأن بيع العينة، وأخذ الأجرة على رواية الحديث، مما يسوغ فيه الاجتهاد، وما يسوغ فيه الاجتهاد لم يفسق فاعله. [التدليس] فأما التدليس (3) فإنه يكره (4) ، ولكن لا يمنع من قبول الخبر.   (1) هو: حبيش بن سندي. من كبار أصحاب الإمام أحمد. يقال: إنه كتب عن الإمام أحمد نحواً من عشرين ألف حديث. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/146) . وهناك شخص آخر بهذا الاسم في "طبقات الحنابلة" (1/147) هذا الشخص هو: حبيش بن مبشر بن أحمد الثقفي، الطوسي الأصل. من أصحاب الإمام أحمد. مات سنة (258هـ) . والذي يظهر لي أن المقصود هو الأول؛ لأنه أشهر، وكثير الرواية عن الإمام، ولأن الأخير يذكر باسم: حبيش بن مبشر. والله أعلم. (2) النيسابوري. من أصحاب الإمام أحمد. ذكره أبو بكر الخلال، وقال فيه: رفيع القدر، حدث عن شيوخنا الأجلاء. له ترجمة في: "الإنصاف" (12/286) . و"طبقات الحنابلة" (1/269) . (3) أصل مادة (د ل س) تدل -كما يقول ابن فارس-: "على ستر وظلمة"، "فالدلس": يأتي بمعنى "الظلمة"، ويأتي بمعنى: "اختلاط الظلمة بالنور". وسميت الصفة المعروفة لدى المحدثين بهذا الاسم لاشتراكهما في الخفاء كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "نخبة الفكر" و"شرحها" ص (77) مطبوع مع لفظ الدرر. وراجع في ذلك أيضاً: "المصباح المنير" (1/305) ، و"معجم مقاييس اللغة" (1/296) مادة (دلس) . (4) ليس ذلك على إطلاقه، كما سيأتي بيان ذلك في ص (955-957) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 954 وصورته: أن ينقل عمن لم يسمع منه، يوهم أنه قد سمع منه، مثل أن يكون عاصر الزهري، ولم يسمع منه، لكنه سمع عن رجل عنه، فأتي بلفظ يوهم أنه سمعه من الزهري بلا واسطة، فيقول: روى الزهري أو قال الزهري: عروة (1) ، أو عن عروة، فكل من سمع هذا يذهب إلى أنه سمعه من الزهري بلا واسطة (2)   (1) هو: عروة بن الزبير في العوام أبو عبد الله الأسدي المدني. أحد الفقهاء السبعة. روى عن أمه وخالته عائشة وأبي هريرة وغيرهم، وعنه أولاده عثمان وعبد الله وهشام ويحيى وخلائق. كان بحراً في العلم. ولد سنة (23هـ) ، وقيل سنة (29هـ) ومات سنة (91هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/62) ، و"تهذيب التهذيب" (7/180) ، و"الخلاصة" ص (224) ، و"شذرات الذهب" (1/103) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/511) ، و"النجوم الزاهرة" (1/228) . (2) أشار المؤلف بهذه الصورة إلى تدليس الإسناد، وقد ذكر الشيخ مصطفى أمين التازي في كتابه "مقاصد الحديث" (2/177-184) أربع صور لتدليس الإسناد هي: الأولي: "أن يروي الراوي عمن لقيه وسمع منه حديثاً لم يسمعه منه بصيغه توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه"، وهذه الصورة كما يقول الشيخ متفق على تسميتها بتدليس الإسناد. الثانية: "أن يروي الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه حديثاً بصيغة توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه" وهذه الصورة ذكر الشيخ فيها قولين، أحدهما: تدليس إسناد، وثانيها: إرسال خفي. الثالثة: "أن يروي الراوي عمن عاصره، ولم يلقه حديثاً لم يسمعه منه بصيغة توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه"، والخلاف فيها كالتي قبلها. الرابعة: "أن يروي الراوي عمن لم يعاصره حديثاً لم يسمعه منه بصيغة توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه"، والخلاف فيها كالخلاف في الصورتين السابقتين. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 955 وكذلك إذا سمع الخبر من رجل معروف بعلامة مشهورة، فعدل عنها إلى غيرها من أسمائه، مثل أن يكون مشهوراً بكنية، فيروي عنه باسمه، أو كان مشهوراً باسمه، فيروي عنه بالكنية، حتى لا يعلم من الرجل (1) ؟.   = ويلتحق بتدليس الإسناد: تدليس القطع وهو -كما يقول الشيخ التازي في المرجع السابق (2/186) -: "أن يسقط الراوي أداة الرواية مقتصراً على اسم الشيخ الذي لم يسمع الحديث منه مباشرة.. أو أن يسقط الراوي اسم الشيخ الذي سمع الحديث منه مباشرة مقتصراً على ذكر أداة الرواية". ويلتحق به أيضاً: تدليس العطف، وهو كما يقول الشيخ التازي في المرجع السابق (2/87) : "أن يصرح الراوي بالتحديث عن شيخ له، ويعطف عليه شيخاً آخر له، لم يسمع ذلك المروي منه". كما يلحق به تدليس التسوية، وهو -كما يقول الشيخ التازي أيضاً في المرجع السابق-: "أن يروي الراوي عن شيخه الثقة حديثة سمعه منه، ورواه ذلك الثقة عن ضعيف أو أكثر، وقد رواه ذلك الضعيف عن ثقة آخر، فيجعله الراوي من رواية شيخه الثقة عن الثقة الآخر بلفظ يوهم السماع منه مسقطاً ما بينهما من ضعيف أو ضعفاء". من العرض هذا للتدليس: وأقسامه، يتبين لنا أنه على مراتب، أشدها مؤاخذة تدليس التسوية، وبخاصة إذا أسقط الراوي الضعيف أو الضعفاء من السند، وهو يعتقد أن من أسقطه غير ثقة، بحيث لو صرح بمن أسقطه لرد الحديث، فهذا عندي حرام ويمنع من قبول الخبر، ويجرح به الراوي. والله أعلم. (1) أشار المؤلف بهذه الصورة إلى تدليس الشيوخ، وهو: -كما يقول الشيخ التازي في "المرجع السابق" (2/185) -: "أن يذكر الراوي شيخه الذي سمع منه أو من فوقه من الشيوخ بما لا يعرف به عند أهل الحديث بأن يسميه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما ليس مشهوراً به، كيلا تسهل معرفته عند غيره". فهذا النوع من التدليس يختلف في الحكم باختلاف السبب الحامل على التدليس، وأشدها جرماً الذي يدلس عن شيخه أو من فوقه من الشيوخ، بقصد قبول الحديث، وهو يعلم أن المدلس فيه غير ثقة، بحيث لو صرح بما يعرف به المدلس = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 956 فكل هذا مكروه، نص عليه في رواية حرب فقال: أكره التدليس، وأقل شيء فيه: أنه يتزين للناس (1) ، أو يتزيد (2) شك حرب. وكذلك نقل الميموني عنه: لا يعجبني التدليس، هو من الريبة. وكذلك نقل مهنا عنه: التدليس عيب. وإنما كان مكروهاً؛ لأنه يوهم أنه كان سمع منه، وما كان سمع، ولأنه يفعل ذلك كراهيه التواضع في الحديث أوله (3) ، ومن كره التواضع في الحديث فقد أساء، وهذا معنى قول أحمد رحمه الله: "يتزين". [حكم الحديث المدلس] وإذا ثبت أنه مكروه، فإنه لا يمنع من قبول الخبر، نَص عليه في رواية مُهَنّا وقيل له: كان شعبة (4) يقول: التدليس كذب، فقال أحمد رحمه الله: لا، قد دلس قوم نحن نروي عنهم.   = فيه، لرد الحديث، فهذا عندي حرام، ويمنع من قبول الخبر، ويجرح به الراوي، والله أعلم. (1) في الأصل: (يرى الناس) ، والتصويب من "المسودة" ص (277) ، وعليه يدل كلام المؤلف فيما بعد. (2) في الأصل: (يزيد) ، والتصويب من "المسودة" ص (677) . (3) هكذا في الأصل. (4) هو: شعبة بن الحجاج بن الورد أبو بسطام العتكي الأزدي بالولاء. أحد أئمة الحديث المشهورين. سمع قتادة وابن أبي كثير ومعاوية بن قرة وآخرين. وعنه سفيان الثوري والأعمش وابن المبارك وخلائق. ولد سنة (82هـ) ، ومات سنة (160هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/255) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/193) ، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 957 وقال عبد الله: سمعت أبي وذكر يعني عمر بن علي بن مقدم (1) فأثنى عليه خيراً، وقال: كان يدلّس. وذهب قوم من أصحاب الحديث: إلى أنه لا يقبل خبره؛ لأنه يروي عمن لم يسمع، فهو كما لو قال: قال الزهري، وما سمع منه. وهذا غلط؛ لأنه ما كذب فيما نقل، بل كان ما قاله صدقاً في الباطن، إلا أنه أوهم [في خبره و] (2) من أوهم في خبره لم يرد خبره، كمن قيل له: حججت؟ فقال: لا مرة ولا مرتين، يوهم أنه حج أكثر، وحقيقته أنه ما حج أصلاً، فلا يكون كذباً. ويفارق هذا إذا حدث عمن لم يسمع منه، فقال: حدثني؛ لأنه كذب فيما قال، ومن كذب في الحديث سقط حديثه، فلهذا لم يسمع [143/ب] حديثه. وقال محمد بن مخلد: حدثنا حمدان بن علي الورّاق (3) قال: سمعت   = و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/244) ، والخلاصة ص (140) ، و"شذرات الذهب" (1/247) . (1) هو: عمر بن علي بن عطاء المقدمي أبو جعفر البصري الثقفي بالولاء. روى عن إسماعيل بن أبي خالد وهشام بن عروة وغيرهما. وعنه أحمد بن حنبل وسليمان بن حرب وآخرون. أثني عليه أحمد وقال: كان يدلس كما اتهمه بالتدليس ابن معين والدارقطني وغيرهما. مات سنة (190هـ) . انظر ترجمته في: "التقريب" (2/61) ، و"تهذيب التهذيب" (7/485) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/292) ، و"الخلاصة" ص (242) ، و"طبقات الحفاظ" ص (122) ، و"الكاشف" للذهبي (2/319) ، و"المغني في الضعفاء" (2/471) ، و"ميزان الاعتدال" (3/214) . (2) ما بين القوسين المعقوفين من "المسودة" ص (277) . (3) هو: محمد بن علي بن عبد الله بن مهران أبو جعفر الوراق. المعروف بحمدان. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 958 أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: كان حجاج بن أرطاة (1) يقول لهم: لا تقولوا من حدثك؟ ولكن من أخبرك؟ قولوا: من ذكره يا أبا (2) أرطاة. فصل فإن روي العدل عن العدل خبراً، ثم نسي (3) المروي عنه الخبر، فأنكره، لم يجب اطراح الخبر، ووجب العمل به في إحدى الروايتين. وهو قول أصحاب الشافعي (4) .   = أصله من جرجان، ونشأ ببغداد. سمع أبا نعيم ومعلى بن أسد والإمام أحمد وغيرهم. روى عنه عبد الله البغوي وأبو بكر الخلال وغيرهما. قال فيه الخلال: رفيع القدر كان عنده عن أبي عبد الله مسائل حسان. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/308) . (1) أبو أرطاة النخعي الكوفي. قاضي البصرة. سمع من الشعبي وعطاء وعكرمة وغيرهم. وعنه سفيان وشعبة وحماد بن زيد وغيرهم. قال فيه أبو حاتم: "صدوق، يدلس عن ضعفاء". وقال ابن معين: "صدوق ليس بالقوي". مات سنة (147هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/186) ، و"تقريب التهذيب" (1/152) ، و"تهذيب التهذيب" (2/196) ، و"التاريخ الصغير" ص (257) ، و"الكاشف" للذهبي (1/205) ، و"المغني في الضعفاء" (1/149) ، و"ميزان الاعتدال" (1/458) . (2) في الأصل: (بابا) بالموحدة التحتية فيهما. (3) في الأصل: (بين) ، والتصويب من "المسودة" ص (278) . (4) الإنكار في هذا المقام على قسمين: الأول: أن يكون الإنكار مصحوباً بالتكذيب من الأصل للفرع، ففي هذه الحالة يرد الخبر بالاتفاق. لأن كلاً منهما مكذب للآخر. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 959 وفيه رواية أخرى: يرد الخبر، ولا يجوز العمل به. وقد نَصّ أحمد رحمه الله على الروايتين في إنكار الزهري روايته حديث عائشة في الولي (1) ، فقال في رواية الأثرم، فيما ذكره في كتاب "العلل": قلت لأبي عبد الله: يضعف الحديث عندك بمثل هذا: إن حدث الرجل الثقة بالحديث عن الرجل، فيسأل عنه فينكره ولا يعرفة؟ فقال: لا، ما يضعف عندي بهذا، فقلت: مثل حديث الولي، ومثل حديث اليمين مع الشاهد، فقال: قد كان مَعْمَر يروي عن ابنه عن نفسه عن عبد الله بن عمر. وكذلك نقل الميموني عنه لما ذكر له حديث الزهري وما قاله، فقال: كان ابن عيينة يحدث بأشياء (2) ، ثم قال: ليس من حديثي ولا أعرفه، وقد (3) يحدث الرجل ثم ينسى. وكذلك نقل أبو طالب عنه أنه قال: يجوز أن يكون الزهري حدث به ثم نسيه، فقد نص على قبوله (4) . ونقل عنه خلاف هذا، فقال أبو الجود (5) : قلت لأبي عبد الله: أيما امرأة زُوجت بغير ولي؟ فقال: لا أحسبه صحيحاً؛ لأن إسماعيل قال:   = الثاني: أن يكون الإنكار منشأه النسيان والتوقف، فهذا الذي وقع فيه الخلاف. راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (2/96) . (1) هو حديث: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل) ، وقد سبق تخريجه ص (471) . (2) الأصل: بما شاء والتصحيح من المسودة ص (278) . (3) في المسودة ص (278) : (قد) بدون واو. (4) في الأصل: (قوله) ، والتصويب من "المسودة" ص (278) . (5) في "المسودة" ص (278) : (أبو الحارث) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 960 [قال] (1) ابن جريج: لقيت الزهري وسألته [عنه] (2) ؟ فقال: لا أعرفه. وكذلك نقل حرب عنه: أنه سئل عن حديث الولي، فقال: لا يصح؛ لأن الزهري سئل عنه فأنكره. فالدلالة على وجوب العمل به: أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن (3) روي عن سهيل بن أبي صالح (4) عن أبيه (5) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه قضى باليمين مع الشاهد) (6) ، ثم   (1) ما ركن القوسين المعقوفين زيادة من "المسودة" ص (278) . (2) ما بين القوسين المعقوفين زيادة من "المسودة" ص (278) . (3) اسم أبيه: فروخ، وكنيته: أبو عبد الرحمن المدني. مولى آل المنكدر: المعروف بربيعة الرأي. أحد التابعين. ثقة مشهور. روى عن أنس بن مالك والأعرج ومكحول وآخرين. وعنه السفيانان وشعبة وخلق. كان أحد المفتين بالمدينة. مات سنة (136هـ) ، بالمدينة، وقيل: بالأنبار. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (8/420) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/157) ، و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/189) ، و"الخلاصة" ص (99) ، و"شذرات الذهب" (1/194) ، و"طبقات الحفاظ" ص (68) ، و"ميزان الاعتدال" (2/44) . (4) هو: سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان أبو يزيد المدني. اختلف فيه، فوثقه بعضهم، وضعفه بعضهم. روى عن أبيه وسعيد بن المسيب وغيرهما. وعنه ربيعة الرأي وشعبة ومالك وآخرون. مات في خلافة المنصور. له ترجمة في: "الخلاصة" ص (158) ، طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/289) ، و"ميزان الاعتدال" (2/243) . (5) هو: ذكوان أبو صالح السمان المدني. ثقة. روى عن أبي هريرة وأبي الدرداء وعائشة وخلق. وعنه بنوه سهيل وعبد الله وصالح والأعمش وآخرون. مات سنة (101هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/89) ، و"الخلاصة" ص (112) ، طبعة بولاق، و"طبقات الحفاظ" ص (33) . (6) سبق تخريجه ص (815) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 961 نسيه سهيل، فكان يقول: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويروي هكذا، ولا ينكره أحد من التابعين، ولا يخالفه مخالف منهم، فدل على جوازه. ولأن المروي عنه غير عالم ببطلان روايتة، والراوي عنده ثقة، فوجب تصديقه والعمل بخبره، كما يجب على سائر الناس، إذا لم ينس المروي عنه، فيكون المروي عنه في هذه الحالة بمنزلة سائر الناس. ولأن النسيان الطاريء عليه لم يقدح في عدالته حال روايته، ولا أثر فيها، فلم يوجب رد خبره، وإن خرج عن كونه ذاكراً له، كما لو طرأ عليه جنون أو مرض. واحتج المخالف: بأنه لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين، فقال شاهدا الأصل: لا نذكر ولا نحفظه، لم يجز للحاكم أن [144/أ] يحكم بشهادتهما. وكذلك الخبر. وكذلك الحاكم إذا ادعى رجل أنه قضي له بحق على فلان، ولم يذكر القاضي، فأحضر المدعي بينه على حكمه، لم يرجع إليها، كذلك ها هنا. والجواب: أنا لا نسلم هذا في القاضي، بل نقول: يرجع. وأما شهود الفرع، فإنما لم تسمع شهادتهم؛ لما ذكرنا من أن الشهادة أغلظ حكماً، وأضيق طريقاً من الخبر، وقد بينته فيما مضى. واحتج: بما روي أن عماراً (1) قال لعمر بن الخطاب في باب جواز   (1) هو: عمار بن ياسر بن مالك أبو اليقظان العنسي المخزومي بالولاء صحابي جليل. شهد بدراً والمشاهد كلها، كما شهد اليمامة، وفيها قطعت أذنه. مات مقتولاً في موقعة صفين سنة (37هـ) وله من العمر نيف وتسعون سنة. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 962 التيمم للجنب: أما تذكر أنا كنا في الإبل، فأجْنَبْت، فَتمَعّكْت بالتراب، ثم سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنما يكفيك أن تضرب بيديك) (1) فلم يقبل عمر من عمار، مع كونه عدلاً ثقة. والجواب: أن عمر قبل قول الهرمزان أنه أمنه، لما شهد له بذلك أنس وغيره (2) . نقل من كتاب "الإيمان" تصنيف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال عبد الله: سمع أبي يقول: سمعت حماداً (3) يقول: عمير بن   = له ترجمة في: الاستيعاب (3/1135) ، و"الإصابة" القسم الرابع ص (575) ، طبعة دار نهضة مصر. و"الخلاصة" ص (279) ، طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/45) . (1) حديث عمار رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في كتاب التيمم، باب التيمم ضربة (1/91-92) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحيض، باب التيمم (1/280-281) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم (1/268) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم ضربة واحدة (1/188) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب تيمم الجنب (1/139) . وراجع في هذا الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (2/324) ، و"ذخائر المواريث" (3/34) ، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (77) . (2) قصة تأمين عمر للهرمزان، وشهادة أنس بذلك أوردها ابن كثير في كتابه: "البداية والنهاية" (7/85-86) طبعة مكتبة المعارف، بيروت والنصر بالرياض. (3) هو: حماد بن زيد بن درهم أبو إسماعيل الأزدي الجهضمي البصري. أحد الأئمة المشهورين. روى عن ثابت البناني ومحمد بن سيرين وغيرهما. وعنه الثوري وابن عيينة، وخلائق. ولد سنة (98هـ) ، ومات بالبصرة سنة (179هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/228) ، و"تهذيب الأسماء" (1/167) ، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 963 يزيد (1) ليس فيه عن أبيه، فقلت: إنك حدثتتي عن أبيه عن جده، فقال: أحسب أنه عن أبيه، وهذا يدل على أنه رجع إلى رواية أبيه عنه. وجملة ما ذكرناه مما رد به الخبر، فهو لأجل المخبِر، وهو أن ينقله ثقة عن ثقة، فإنه يرد بأحد خمسه أشياء: أحدها: أن يخالف موجبات العقول، كقوله: إن الله خلق نفسه. الثاني: أن يخالف نص كتاب الله أو سنة متواترة، فإنه يرد؛ لأنه دليل مقطوع به، فلا يعارضه ما هو غير مقطوع به. الثالث: أن يكون بخلاف الإجماع؛ لأن الإجماع دليل مقطوع [به] ؛ ولأنه إذا خالف الإجماع كان دليلاً على نسخه؛ لأنه لو كان ثابتاً لما خرج عن الأمة. الرابع: أن يروي ما يجب على الكافة علمه، مثل أن يروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى أبي بكر أو إلى عثمان أو إلى علي، فإذا انفرد الواحد بنقل مثل هذا كان مردوداً.   = و"الخلاصة" ص (87) ، و"شذرات الذهب" (1/292) ، و"طبقات الحفاظ" ص (96) . (1) في الأصل: (عمير بن حبيب) ، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه؛ لأن عمير ابن حبيب صحابي، ممن بايع تحت الشجرة، كما في: "الاستيعاب" (3/1213) ، و"التاريخ الكبير" (3/531 ق 2) . و"الجرح والتعديل" (3/375) . وأما حفيده فهو: عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب أبو جعفر الخطمي. روى عن أسعد بن سهل وابن المسيب، وعنه هشام الدستوائي وشعبة. حكى الدارمي عن ابن معين توثيقه. له ترجمة في: "التاريخ الكبير" و"الجرح والتعديل"، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في ترجمة جده، و"الخلاصة" ص (297) ، طبعة بولاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 964 فإن قيل: أليس ما يعمّ به البلوى يفتقر إليه كل أحد، ومع هذا يثبت بخبر الواحد؟ قيل: كل أحد مفتقر إلى العمل به، لا إلى علمه، فلهذا ثبت بخبر الواحد، وليس كذلك ثبوت الخلافة والعهد إلى واحد؛ لأن على كل واحد أن يعرفه ويعلمه نطقاً، فلهذا لم يثبت بخبر الواحد. الخامس: أن ينفرد بما جرت العادة في نقلة بالتواتر، مثل أن ينفرد بنقل أن الخطيب سقط يوم الجمعة من المنبر، فالعادة جرت بأن الواحد لا ينفرد بنقله، فإذا انفرد هو به عَلِمْناه بخلاف العادة، فرددناه. وهذا في العلل التي رد لها خبر الواحد. فأما الأسباب الموهمة التي لا يرد لأجلها خبر الواحد: منها: أن تلحقه غفلة في وقت، فإن خبره لا يرد؛ لأن [144/ب] أحداً لا ينفك عن أن تلحقه غفلة (1) في وقت، بل إن روى خبراً في حال غفلته، لم يثبت خبره. وقد قال عبد الله: قلت لأبي: إن بشر بن عمر (2) زعم أنه سأل مالكاً عن صالح مولى التّوْأَمة (3) ، فقال: ليس بثقة. قال أبي: مالك أدرك   (1) في الأصل: (عقله) . (2) هو: بشر بن عمر بن الحكم بن عقبة، أبو محمد الزهراني البصري. ثقة صدوق. روى عن مالك وشعبة وحماد بن سلمة وغيرهم. وعنه إسحاق بن راهويه والذهلي وعباس العنبري وغيرهم. مات سنة (206هـ) أو (207هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/337) ، و"تهذيب التهذيب" (1/455) ، و"الخلاصة" ص (42) ، و"طبقات الحفاظ" ص (141) . (3) هو: صالح بن نبهان مولى التوأمة، وهي ابنة أمية بن خلف. روى عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما. وعنه ابن أبي ذئب والثوري وغيرهما. وثقه = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 965 صالحاً وقد اختلط، وهو كبير، ما أعلم به بأساً، من سمع منه قديماً، قد روى عنه أكابر أهل المدينة، نقلت ذلك من كتاب أبي بشر محمد بن أحمد الدُّولابي (1) . ومنها: أن يضطرب بعض حديثه، فلا يرد خبره؛ لأن كل أحد لا يقدر علي ضبط ما سمعه كله، بل يكون ببعضه أضبط من بعض. ومنها: أن ينفرد (2) بنقل حديث واحد، لا يروي غيره، فلا يرد حديثه، لجواز، أن ينفرد به عن كل واحد، كأنه حدثت له حادثة، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه عنها. ومنها: أن لا تعرف له مجالسه مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يرد خبره؛ لأنه قد يجالسه، فلا، يعرف ذلك منه، وقد يأخذ الحديث عنه من غير مجالسة. ومنها: أن يروي حديثاً، وفعل رسول الله صلى الله عليه [وسلم] يخالفه، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لاَ يَنْكح المحرم ولا يُنْكح) (3) ثم يروي عنه ابن عباس: أنه   = ابن معين وغيره. وقال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه. وقال مالك ويحيى القطان ليس بثقة. وقال الذهبي: صدوق، لكنه عُمّر واختلط. مات سنة (125هـ) . انظر ترجمته في: "الخلاصة" ص (172) ، طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/305) ، و"ميزان الاعتدال" (2/302) . (1) هو: محمد بن أحمد بن سعيد بن مسلمة أبو بشر الدولابي الأنصاري الرازي. مختلف في توثيقه، روى عن بندار وهارون بن سعيد الأيلي وغيرهما. وعنه ابن عدي والطبراني وغيرهما. مات سنة (224هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/759) ، و"شذرات الذهب" (2/260) ، و"طبقات الحفاظ" ص (319هـ) و"ميزان الاعتدال" (3/459) . (2) في الأصل: (يرد) . (3) سبق تخريجه ص (438) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 966 نكح ميمونة، وهو محرم (1) ؛ فلا يرد به خبره، لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قد يفعل ما هو خاص له دون أمته، فلا يستدل به على رد خبره. ومنها: أن يروي حديثاً يخالفه فيه أكثر الصحابة، فلا يرد لذلك، لجواز أن يخفي عليهم ما عرفه، فيكون الحق معه دونهم. ومنها: أن يكون معروفاً باللقب، وقد اختلف اسمه، كالحذا (2)   (1) حديث ابن عباس - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب تزويج المحرم (3/18) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته (2/1031) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الرخصة في ذلك (3/192) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب الرخصة في النكاح للمحرم (5/150) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب المحرم يتزوج (1/632) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب في تزويج المحرم (1/368) . وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الحج، باب في نكاح المحرم (1/213) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في نكاح المحرم وانكاحه (2/19) . وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار"، في كتاب مناسك الحج، باب نكاح المحرم (2/269) . راجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (387) . و"نصب الراية" (3/171-172) . (2) وهو: خالد بن مهران الحذاء أبو المنازل البصري. ثقة مشهور. روى عن الحسن البصري وابن سيرين وآخرين. وعنه شعبة وابن المبارك وغيرهما. مات سنة (141هـ) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 967 ونحو ذلك، فلا يرد خبره؛ لأنه متفق عليه، وإنما وقع الاختلاف فيما لا يكون به كل مجهولاً. ومنها: أن ينسى بعض حديثه، فذُكِّر فعاد إليه، فلا يرد حديثه لذلك؛ لأن الإنسان قد ينسى الشيء، ثم إذا ذُكر تذكر، بلى إن روى حديثاً، لا أصل له، وقال: نقلته على بصيرة مني بذلك، فهو مردود الحديث لأنه قد أخبر عن نفسه بالكذب على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . فإن روى حديثاً، لا أصل له، وقال: سهوت فيه، أو أخطأت، قبل خبره؛ لأنه قد يجوز عليه السهو والغلط. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية حرب: في الرجل إذا سها في الإسناد، فأخطأ فيه، ولا يتعمد ذلك: أرجو أن لا يكون به بأس. مسألة (1) [رواية الحديث بالمعنى] والمستحب رواية الحديث بألفاظه، فإن نقله على المعنى، وأبدل اللفظ بغيره بما يقوم مقامه، من غير شبهة ولا لبس على سامعه، جاز، إذا كان عارفاً بالمعنى، كالحسن ونحوه، مثل أن يقول بدل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صبوا   = له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/149) ، و"الخلاصة" ص (88) ، و"شذرات الذهب" (1/210) ، و"طبقات الحفاظ" ص (64) ، و"ميزان الاعتدال" (1/642) . (1) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (281) . فإنه نقل كثيراً عن المؤلف في هذه المسألة، وراجع أيضاً: "روضة الناطر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/318-323) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 968 عليه ذنوباً من ماء) (1) : أريقوا عليه ذنوباً (2) من ماء. وقد نصّ أحمد رحمه الله على هذا في رواية حرب والميموني والفضل ابن زياد [145/أ] وأبي الحارث ومُهَنّا، كل عنه: تجوز الرواية على المعنى وقال: ما زال الحفاظ يحدثون بالمعنى. وحكي عن ابن سيرين وجماعة من السلف: أنه يجب نقل اللفظ على صورته، وحكاه أبو سفيان عن أبي بكر الرازي. دليلنا: ما حدثنا أبو محمد الخلال (3) بإسناده عن ابن مسعود قال: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك تحدثناً حديثاً، لا نقدر أن نسوقه، كما نسمعه، فقال: (إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث) (4) ، وهذا نص.   (1) هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء باب صب الماء على البول في المسجد (1/63) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض (1/275) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول (1/90) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل (1/17) . (2) في "المسودة" ص (282) : (دلواً من ماء) ، وهو الأولى. (3) هو: الحسن بن محمد بن الحسن بن علي أبو محمد الخلال ولد سنة (352هـ) . ثقة. سمع القطيعي وابن المظفر وغيرهما. ومنه القاضي أبو يعلى والخطيب البغدادي. مات ببغداد في شهر جمادى الأولى من عام (439هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (3/1109) ، و"شذرات الذهب" (3/262) ، و"طبقات الحفاظ" ص (426) ، و"العبر" (3/189) و"المنتظم" (8/132) . (4) هذا الحديث أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه: "الكفاية في علم الرواية" ص (302) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 969 ورأيت بخط عتيق: أنبأنا مسند (1) عن مكحول (2) قال: دخلنا على واثلة بن الأسقع (3) فقلنا: حدثنا حديثاً ليس فيه تقديم وتأخير، فغضب، وقال: لا بأس إذا قدمت أو أخرت، إذا أصبت المعنى (4) . ولأن المقصود من السنة حكمها دون له لفظها، فإذا أتى بمعناها جاز الإخلال باللفظ، فلو سمع إقرار رجل بالفارسية جاز له أن ينقل إقراره إلى الحاكم بالعرب، وكذلك المترجم بالمعنى.   (1) لم أجده. وإنما وجدت أن الذي، رواه عن مكحول هو: العلاء بن الحارث. أنظر: المراجع الآتية في تخريج الأثر. (2) هو: مكحول بن أبي مسلم شهراب بن شاذل أبو عبد الله الدمشقي. المحدث الفقيه. روى عن واثلة وأنس وثوبان وغيرهم. وعنه الزهري وأبو حنيفة وحميد الطويل وخلق. مات سنة (112هـ) . أنظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" (1/107) ، و"تهذيب التهذيب" (10/289) ، و"الخلاصة" ص (311) ، و"شذرات الذهب" (1/146) ، و"طبقات الحفاظ" ص (43) ، و"النجوم الزاهرة" (1/272) . (3) هو: واثلة بن الأسقع بن عبد العزى الليثي أبو الأسقع، وقيل: أبو محمد. أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز لغزوة تبوك. وكان من أهل الصفة. نزل البصرة على ما قيل، ثم سكن الشام، وشهد المغازي بدمشق وحمص. مات ببيت المقدس، وقيل: بدمشق سنة خمس أو ست وثمانين هجرية، وله من العمر ثمان وتسعون سنة. له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1563) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (591) طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (419) ، طبعة بولاق. (4) هذا الأثر أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه: "الكفاية" ص (308) وأخرجه الرامهرمزي في كتابه "المحدث الفاصل" ص (533) وأخرجه ابن عبد البر في كتابه: "جامع بيان العلم وفضله" (1/94-96) ، وأخرجه الدارمي في مقدمة "سننه" باب من رخص في الحديث إذا أصاب المعنى (1/79) . ويلاحظ: أن هناك اختلافاً في ألفاظ الأثر. ولكن المعنى واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 970 فإن قيل: إنما جاز ذلك؛ لأن الحاكم يمكنه أن يتثبت ذلك، ويتعرف ما نقله إليه الشاهد والمترجم [و] لا يمكن ذلك في خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قيل: فيجب أن يخبر الرواة على المعنى في خبرهم (1) للنبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ لأنه يتوصل إلى معرفة ذلك، وعندك لا يجوز. وأيضاً: لما كان نقل الحديث من غير النبي [صلى الله عليه وسلم] بلفظ آخر، كذلك في الرواية عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ألا ترى أنهما اتفقا في منع الروية على وجه لا يأمن المخبر أن يكون كاذباً فيه؟ فإن قيل: الكذب على النبي [صلى الله عليه وسلم] يعظم ما لا يعظم على غيره. قيل: إن اختلفا من هذا الوجه، فلم يختلفا في قبح الكذب عليهما، واختلافهما في عظم المأثم لا يوجب اختلافهما في الجواز، كما أن المعصية الصغيرة والكبيرة لا يختلفان في المنع، وإن اختلفا فيما يستحق عليهما من العقاب. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رحم الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، وأدّاها كما سمعها) (2) .   (1) في الأصل: (خبره) . (2) هذا الحديث صحيح رواه جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم. فرواه زيد بن ثابت أخرجه عنه أبو داود في كتاب العلم، باب فضل نشر العلم (2/289) . وأخرجه عنه ابن ماجه في مقدمة "سننه" باب من بلغ علماً (1/84-86) ، كما أخرجه عن جماعة من الصحابة بطرق متعددة. وأخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (5/33-34) ، وقال: "حديث حسن" كما أخرجه عن ابن مسعود، وقال: "حديث حسن صحيح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 971 والجواب: أن المقصود به الاستحباب. واحتج: بأنه لما كان لفظ القرآن والأذان في التشهد شرطاً، كذلك لفظ الحديث. والجواب: أن القرآن لفظه مقصود لما فيه من الإعجاز، ولما يستحق في قراءته من الثواب، فكذلك لم يجز الإخلال به، وكذلك الأذان، القصدُ منه الإعلام. [و] إذا أخلّ بلفظه، لم يحصل المقصود وإن قاسوا عليه، إذا لم يكن الراوي ضابطاً، فالمعنى فيه أنه ربما غير الحكم. [145/ب] . فصل (1) نقلت من خط أبي حفص البرمكي (2) تعليقاً مما كان على مسائل صالح   = وأخرجه عنه الرامهرمزي في كتاب "المحدث الفاصل" ص (164) ، كما أخرجه من طرق ابن مسعود وأبي سعيد وابن عباس رضي الله عنهم (164-166) . وأخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمستمع العلم وحافظه ومبلغه (1/46-50) ، كما أخرجه من طرق عن زيد بن ثابت وابن مسعود وأبي بكرة وجبير بن مطعم وأنس بن مالك رضى الله عنهم. ويلاحظ: أن الحديث في جميع طرقه ورد بلفظ: (نضر) بدل لفظ (رحم) ، التي أتى بها المؤلف. وراجع في الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (3/5-6) ، و"ذخائر المواريث" (1/215) ، و"مجمع الزوائد" (1/137) . (1) راجع هذا الفصل في "المسودة" ص (282) . (2) هو: عمر بن أحمد بن إبراهيم أبو حفص البرمكي. كان ذا عبادة وزهد كما كان من الفقهاء المشهورين. حدث عن ابن الصواف والخطبي وغيرهما. صحب = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 972 سمعت عمر المغازلي (1) يقول: قال أحمد بن حنبل: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . وقال النبي [صلى الله عليه وسلم] واحد، فألزمه بعض أصحابنا حديث البَرَاء ابن عازب (2) : (ورسولك الذي أرسلت، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت) (3) قال: هذا لا يلزم؛ لأنه كان نبياً ثم أرسل، فقال: "ونبيك الذي أرسلت"، ولم يقل: "وبرسولك الذي أرسلت"، لأنه لا تكون رسالة بعد رسالة، وإنما أراد رسالة بعد نبوة، فقد [أجاز] (4) عمر بن   = أبا بكر عبد العزيز غلام الخلال وعمر بن بدر المغازلي، مات ببغداد في شهر جمادى الأولى سنة (387هـ) . انظر ترجمته في: "طبقات الحنابلة" (2/153) . (1) هو: عمر بن بدر أبو حفص المغازلي، سبقت ترجمته ص (898) . (2) هو: البراء بن عازب بن حارث بن عدي أبو عمارة الأنصاري الحارثي الخزرجي صحابي، أول غزوة شهدها هي غزوة الخندق. كان يحارب في صف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبعد ذلك نزل الكوفة، ومات بها سنة إحدى أو اثنتين وسبعين هجرية. له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/155) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (278) ، طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (46) ، طبعة بولاق. (3) حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل من بات على وضوء (1/68) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (4/2081) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم (2/606) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه (5/468) . وراجع في هذا الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (2/18) ، و"ذخائر المواريث" (1/98) ، و"المحدث الفاصل" ص (531) ، و"الكفاية في علوم الرواية" ص (306) . (4) في الأصل: (ن) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 973 بدر (1) : أن التابعي إذا سمع رجلاً، من أصحاب النبي صلى الله عليه [وسلم] يقول: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وروي عنه قال: قال النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أو سمعه يقول: قال النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، أن ذلك جائز؛ لأن القصد من الرواية أن يعلم أن هذا الخبر مرفوع عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وهذا المعنى يحصل بكل واحد من اللفظين، والرسول والنبي في هذا المعنى واحد. ويبين صحة جواز رواية الخبر على المعنى، وهذا موجود ها هنا، وقد أجاب (2) عمر بن بدر عن الحديث المروي عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، (آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت) وأنه لا يجعل مكان نبيك رسولك؛ لأن المعنى يختلف، وذلك أن الرسالة تطرأ على النبوة، ولا تطرأ رسالة على رسالة، فلهذا لم يجعل موضع النبي: الرسول. مسألة (3) إذا وجد سماعه في كتاب، ولم يذكر أنه سمعه، جاز روايته. أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله في مواضع: فقال في روارية مُهَنّا: إذا كان يحفظ الشيء، وفي الكتاب شيء فالكتاب أحب إليّ. فقد اعتبر ما في الكتاب، وإن كان حفظ غيره. وكذلك في رواية الحسين بن حسان في الرجل يكون له السماع مع الرجل، فلا بأس أن يأخذه بعد سنين، إذا عرف الخط. وكذلك نقل الحسين بن محمد بن الحارث عنه: إذا عرف خطه فلا   (1) هو عمر بن بدر، أبو حفص المغازلي، وقد سبقت ترجمته ص (898) . (2) في الأصل: (أجاز) . (3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (279) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 974 يشهد عليه إلا ما يحفظه، إلا أن يكون منسوخاً عنده في حرزه، فكأنه إذا كان عنده مكتوباً في حرزه، شهد به وإن لم يحفظه، ثم قال: كتاب العلم أيسر (1) ، يعني يشهد عليه، قيل له (2) : إذا أعار (3) كتاب العلم، فقال: [لا] بدّ من أن يفعل ذلك، إذا أعاره من يثق به، قيل له: فإن لم يثق به: كل ذاك أرجو أن لا يحدث فيه، فإن الزيادة في الحديث ليس تكاد تخفي، وكأنه رأى ذلك أوسع من الشهادة. وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد (4) . وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يرويه، إذا لم يذكر سماعه. دليلنا: [146/أ] : أن الأخبار مبني أمرها على حسن الظن والمسامحة ومراعاة الظاهر من الحال، ألا ترى أنه لا يشترط فيها العدالة في الباطن ويقبل فيها قول العبيد والنساء وحديث العنعنة، والظاهر من حال السماع الموجود الصحة، فجاز العمل عليه.   (1) في الأصل: (أليس) والتصويب من "المسودة" ص (280) . (2) في الأصل: (قيل به) . (3) في الأصل: (إذا غاب) والتصويب من "المسودة" ص (280) . (4) هو: محمد بن الحسن بن فرقد، أبو عبد الله الشيباني. صاحب الإمام أبي حنيفة. روى عن الإمام مالك بن أنس. لَينه النسائي من قِبَل حفظه. وقال فيه الذهبي: وكان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك. له كتب كثيرة، منها: "الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير" و"السير الكبير" و"السير الصغير". مات بالري. سنة (187هـ) وله من العمر ثمان وخمسون سنة. له ترجمة في: "الجواهر المضيئة" (2/42) ، و"شذرات الذهب" (1/321) ، و"المغني في الضعفاء" (2/567) ، و"ميزان الاعتدال" (3/513) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 975 وأيضاً: رجوع الصحابة إلى كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمل عليها من أدل الدليل على الرجوع إلى الخط والكتاب. واحتج المخالف: بأنه، لما لم يجز أن يؤديَ الشهادة معتمداً على خطه من غير ذكره، كذلك الحديث، والمعنى فيه: أن الشاهد يحتاج إلى ذكر المشهود به، كما أن المخبر يحتاج إلى ذكر المخبر به. والجواب: أن الشهادة مبنى أمرها على التأكيد والتغليظ، فكذلك إذا وجد خطه، ولم يذكر، لم يشهد به. على أن الحسين بن محمد بن الحارث نقل عنه: أنه أجاز الشهادة، إذا عرف الخط، ولم يخرج عن يده، ولكن المذهب المشهور عنه: أنه لا يجوز، لما بينّا. واحتج: بأن الإخبار بما لا نأمن المخبر. أن يكون كاذباً فيه، يجري مجرى الإخبار بالكذب في القبح، فإذا لم يذكر أنه سمعه يحدث به، لم نأمن أن يكون كاذباً، وجب أن لا يجوز أن يحدث به، كما لا يجوز له ذلك لو علم أنه كاذب فيه. والجواب: أن هذا يوجب أن لا يجوز خبر الضرير فيما سمع؛ لأنه لا يأمن أن يكون كاذباً فيه؛ لأن الصوت قد يشبه الصوت، فيخبر عن رجل لم يسمع منه، وأنه شبه له صوته، وكذلك السماع من وراء حجاب، وقد أجازوا رواية الضرير، كذلك ها هنا، وقد نص أحمد رحمه الله على جواز رواية الضرير، وحكيناه فيما تقدم. فإن قيل: هناك يمكنه أن يشترط ما يأمنان الكذب فيه، بأن يخبرا عن ظنهما، فلا يقطعان على ما يحدثان به عن فلان. قيل: فاشترط مثل هذا في مسألتنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 976 فصل في كيفية رواية الحديث بعد سماعه إذا قرأ المحدث عليه، قال: سمعته، وحدثني، وأخبرني، وقرأ عليّ؛ لأنه قد أخبره وحدثه وسمع منه وقرأ عليه، ولا فرق بين أن يقول له بعد ذلك: إروه عني، أو لا يقول. وكذلك إن أملى عليه المحدث، فالحكم فيه على ما مضى، ويزيد أملى عليّ. وقد نصّ على هذا رحمه الله فيما رأيته في آخر جزء فيه السنة لحرب، فقال: حدثه عبد الله بن أحمد بن معدان قال: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، فقيل له: يا أبا عبد الله إن عبد الرزاق كان لا يقول: حدثنا، فقال [146/ب] أحمد: حدثنا وأخبرنا عندنا واحد، إن كان سماعاً من الشيخ. وإن قرأ هو على المحدث فلم يسمع، أو قرأ عليه فأقرَّ به، قال: قُرِئ على فلان أو قَرأتُ علي فلان، ولا يجوز أن يقول: سمعتُ فلاناً، ولا أملى عليّ. وهل يجوز أن يقول: حدثني وأخبرني أو لا؟ فيه روايتان: إحدهما: لا يجوز، نص عليه في رواية إسحاق بن إبراهيم قال: سألته، وأنا أقرأ عليه شيئاً من الأحاديث أقول: حدثني أحمد؟ فقال: إن قال، فما أرى به بأساً: ولكن يقول: قرأت عليه، أحب إليّ، أريد به الصدق. فقد نصّ على جوازه، واختار أن يحكي الحال كما جرت. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 977 وفيه رواية أخرى: لا يجوز أن يقول: أخبرني ولا حدثني، ولكن يقول قُرِئ عليه، أو قَرأتُ عليه، نصّ عليه رحمه الله في رواية حنبل: وقيل له: سأل عوف الحسن فقال له: أقرأ عليك فأقول: حدثنا الحسن؟ قال: نعم، قال حنبل: سألت أحمد عن ذلك، فقال: لا، ولكن يقول: قَرأتُ. وبهذا قال بعضهم. ولا فرق بين أن يقول: هو كما قرأته عليك؟ فيقر به، وبين أن يقول: أرويه عنك؟ فيقول: أروه عني وأنه على الخلاف الذي حكينا. وذكر أبو إسحاق (1) في تعاليقه في كتاب "العلل": سمعت أبا محمد عبد الخالق بن الحسن بن محمد بن نصر السقطي (2) يقول: سألت ابن منيع (3) فيما يقرأه على الناس، ويقرأ عليه، فقال لى: سألت أحمد ابن حنبل عما سألتني عنه، فقال لي: إذا قرأ عليك، فقل: حدثنا، وإذا قرئ عليه [فقل] : حدثنا، فلان قراءةً عليه. وظاهر هذا يقتضي جواز القول فيما قُرِئ عليه، لكن بشرط أن يقرر قراءةً عليه.   (1) هو: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا، وقد سبقت ترجمته. (2) سمع الباغندي. روى عنه ابن رزقويه. قال ابن الجوزي. (وكان ثقة، أحد الشهود المعدلين، وكان البرقاني يثني عليه ويوثقه) . مات سنة (356هـ) . له ترجمة في: "شذرات الذهب" (3/19) ، و"المنتظم" (7/40) . (3) هو: أحمد بن منيع بن عبد الرحمن، أبو جعفر الأصم، المروزي. سمع عبد العزيز بن أبي حازم، وهشيم بن بشير وسفيان بن عيينة وغيرهم ومنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. وثقه النسائي. مات سنة (244هـ) ، وعمره ثمان وثمانون سنة. له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (5/160) ، و"شذرات الذهب" (2/105) ، و"طبقات الحنابلة" (1/76) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 978 وذكر أبو عبد الله محمد بن مخلد بن حفص العطار في جزء صنفه في الإجازة والمناولة والقراءة فقال: حدثنا سليمان بن الأشعث أبو داود قال: سمعت أحمد -يعني ابن محمد حنبل- يقول: أرجو أن يكون العرض لا بأس به، يعني قراءة الحديث على المحدث، قيل لأحمد: فكيف يعجبك أن يقول؟ قال: يعجبني أن يقول كما يفعل: إن قَرأَ يقول: قرأتُ (1) . قال: وسمعت أبا داود وسليمان بن الأشعث يقول: قلت لأحمد يعني ابن حنبل: كأن "أخبرنا" أسهل من "حدثنا"؟ قال: نعم، "حدثنا" شديد (2) . فإذا قلت: أيجوز أن يقول: أنبأنا وحدثنا؟ فتوجيهه أن إقراره بما قرىء عليه جواب عن الاستفهام، والجواب في الاستفهام "بنعم"، يقوم مقام خبره به، ألا ترى أن الحاكم إذا سأل المدعى عليه عن دعوي المدعي: هل عليك الحق الذي ادعاه عليك؟ فقال المدعى عليه: نعم، جاز للقاضي أن [147/أ] يقول: أقرَّ فلان عندي بكذا، فيكون قوله: "نعم" مقام إقراره بالحق الذي ادعى عليه. وكذلك إن قرأ الشاهد الكتاب على المشهود عليه، ثم قال له: أشهد عليك بما في هذا الكتاب؟ فقال المشهود عليه: نعم، جاز للشاهد أن يقول: أشهدني فلان على نفسه بكذا، فإذا كان كذلك، وثبت أن يكون قول المقروء عليه الحديث: نعم، بمنزلة إخباره (3) بما قرىء عليه وحدث به.   (1) هذه الرواية موجودة بنصها في: "مسائل الإمام أحمد"، رواية أبي داود ص (281-282) . (2) هذه الرواية موجودة بنصها في: "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود ص (282) . (3) في الأصل (إخبار) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 979 ورأيت بخط أبي حفص البرمكي تعليقاً على ظهر جزء، فيه "الرد على من انتحل غير مذهب أصحاب الحديث"، قال عبد العزيز: فقال: قراءتك على العالم، وقراءة العالم عليك سواء. واحتج من قال لا يجوز ذلك: بأن قول حدثني وأخبرني، ينبغي أن يكون المقروء عليه قد فعل الحديث والإخبار، وإذا لم يوجد منه ذلك، لم يجز للقارئ أن يقول: حدثني وأخبرني. والجواب: أنا قد بينا أن قوله: "نعم" بمنزلة فعله الإخبار والحديث في الأصول. واحتج: بأن جوابه في الاستئذان لأن يحدث عنه بنعم، أمر له بالحديث عنه، والأمر لا يكون خبراً عن المأمور به. والجواب: أنه لا فرق عند هذا القائل بين أن يكون جوابه في الرواية عنه، وبين أن يكون جواباً في الاستفهام عن صحة ما قرىء عليه. وقد بينا أن الجواب في الاستفهام بنعم، يقوم مقام الخبر به، إذا ثبت في أحد الموضعين أنه خبر وليس بأمر، ثبت في الموضع الآخر، لأن أحداً ما فرق بينهما. فإن قرأ عليه وهو ساكت لم يقرّ به، فالظاهر أنه إقرار؛ لأن سكوته مع سماع القراءة رضى منه بما قرأه وأمضاه، فجاز أن يقول: أخبرني وحدثني، كما لو أقر به، والأحوط أن يقول له: هو كما قرأته عليك، أو قرئ عليك؟ فإذا قال: نعم، حَدّث به عنه. فإن قال المحدث: أخبرنا فلان فهل يجوز للمستمع أن يروي عنه فيقول: قال حدثنا فلان، فيجعل مكان أخبرنا حدثنا، ومكان حدثنا أخبرنا؟ فيه روايتان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 980 إحداهما: لا يجوز؛ لأنه يحكي عنه خلاف اللفظ الذي سمعه منه. وقد نصّ على هذا في رواية حنبل فقال: إذا قال الشيخ: حدثنا قلت حدثنا، تتبع لفظ الشيخ، إنما هو خبر، ولا تقول لأخبرنا: حدثنا، ولا لحدثنا: أخبرنا، على لفظ الشيخ. وفيه رواية أخرى: يجوز؛ لأن المعنى فيهما واحد؛ لأن المحدث له هو مخبر له في التحقيق، وكذلك المخبر هو محدث في الحقيقة. وقد نصّ على هذا فيما حدثنا به أبو محمد الحسن بن محمد (1) قال: سمعت محمد بن رزق قال: سمعت جعفر بن هارون النحوي يقول: سمعت عبد الله بن أحمد الكسائي قال: سمعت أحمد بن [147/ب] عبد الجبار (2) يقول: سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: حدثنا وأخبرنا واحد. وهو اختيار أبي بكر الخلال؛ لأنه لما ذكر رواية حدثنا في المنع، قال: قد سهل أبو عبد الله في هذا المعنى على جواز رواية الحديث علي المعني. فإن قال له: قد أجزت لك أن تروي هذا الحديث عني، أو ما صح عندك من حديثي، جاز أن يقول: أجاز لي فلان، وأَخبرني فلان إجازة فيما صح عنده من سماعه، ولا يقول: حدثني ولا أخبرني مطلقاً؛ لأنه لم يخبره؛ وإنما أجازه إجازة. وكذلك إذا ناوله كتاباً فيه حديث، وقال له: قد أجزت لك أن   (1) الخلال. شيخ للقاضي أبي يعلي، وقد سبقت ترجمته ص (969) . (2) هو: أحمد بن عبد الجبار، أبو بكر التيمي، العطاردي. الكوفي. سمع ابن عياش وابن ادريس وغيرهما. حدث ببغداد، وكان يروي مغازي ابن إسحاق. وثقه ابن حبان. مات بالكوفة سنة (272هـ) . له ترجمة في: "الأعلام" (1/140) و"تذكرة الحفاظ" (2/582) ، و"شذرات الذهب" (2/162) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 981 تؤدي عني ما فيه من الحديث، جاز أن يقول: ناولني فلان، أو أخبرني فلان مناولةً. وكذلك إذا كتب إليه بحديث جاز أن يقول: كتب إلي فلان، أو أخبرني فلان مكاتبةً. وقد نصّ أحمد رحمه الله على هذا فقال في رواية المروذي: إذا أعطيتك كتابي، وقلت لك: اروه عني، وهو من حديثى، فلا تبال سمعته أو لم تسمعه. وقال أبو بكر الخلال (1) : أخبرني أبو المثنى العنبري أن أبا داود حدثهم: أن أبا عبد الله قال: لم أسمع من أبي توبة (2) شيئاً (3) ، [وإنما] كتب إليّ بأحاديث.   (1) هو: أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال البغدادي الحنبلي، أحد الذين عنوا بمذهب الإمام أحمد جمعاً وترتيباً. سمع الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وغيرهما. حدث عنه غلامه أبو بكر عبد العزيز ومحمد بن الظفر وغيرهما. ألف كتاب: "السنة"، و"العلل" و"الجامع". مات ببغداد شهر ربيع الآخر من سنة (311هـ) . انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (5/112) ، و"تذكرة الحفاظ" (3/785) ، و"شذرات الذهب" (2/261) ، و"طبقات الحفاظ" ص (329) ، و"طبقات الحنابلة" (2/12) ، و"المنتظم" (6/174) . (2) هو: الربيع بن نافع أبو توبة الحلبي الطرسوسي. ثقة حجة. روى عن ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما. وعنه أبو داود والدارمي وأبو حاتم وغيرهم. مات سنة (241هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/472) ، و"الخلاصة" ص (115) . طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (2/99) ، و"طبقات الحفاظ" ص (205) . (3) في الأصل: (شيء) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 982 قال أبو بكر الخلال: وكان محمد بن عوف الحمصي (1) يحدثنا كثيراً، فيكثر فيما نسمع منه من المسند خاصةً، فيقول: أخبرني أبو ثور (2) في كتابه إليّ. وقال عبد الله: رأيت عبد الرحمن المتطبب (3) جاء الى أبي، فقال: يا أبا عبد الله أخبرني هاذين الكتابين، فقال له: ضعهما، فأخذهما أبي، فعارض بهما حرفاً حرفاً، فلما جاء دفعهما اليه، وقال: قد أجزت لك هذه بهذا. وبهذا قال أصحاب الشافعي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف -فيما حكاه أبو سفيان عنهما-: لا   (1) هو: محمد بن عوف بن سنان أبو جعفر الطائي الحمصي. من أصحاب الإمام أحمد. قال فيه أبو بكر الخلال: حافظ إمام في زمانه، معروف بالتقدم في العلم والمعرفة على أصحابه، روى عن الإمام أحمد وأبي المغيرة وغيرهما. وعنه أبو بكر الخلال، والإمام أحمد فيما قيل. انظر ترجمته في: "طبقات الحنابلة" (1/310) . (2) هو: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الكلبي البغدادي. أحد الفقهاء المشهورين. ثقة مأمون. سمع وكيعاً وابن عيينة وغيرهما. ومنه أبو داود ومسلم وغيرهما. مات سنة (240هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (6/65) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/512) ، و"تهذيب التهذيب" (1/118) ، و"شذرات الذهب" (2/93) ، و"طبقات الحفاظ" ص (223) ، و"ميزان الاعتدال" (1/29) ، و"النجوم الزاهرة" (2/301) . (3) أبو الفضل، وقيل: أبو عبد الله البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد الذين تفقهوا عليه، و"نقلوا عنه المسائل". ذكره الخلال فقال: "عنده مسائل حسان عن أبي عبد الله. وكان يأنس به أحمد بن حنبل". له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/208) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 983 تجوز الرواية بالإجازة والمناولة والمكاتبة، سواء قال حدثني به إجازةً أو مناولةً أو مكاتبةً، أو لم يقل ذلك. وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي أنه قال: إن قال الراوي لرجل: قد أجزت لك أن تروي عني جميع ما في هذا الكتاب، فاروه عني، فإن كانا عَلِمَا ما فيه جاز له أن يروي عنه، فيقول: حدثني فلان، وأخبرني فلان، كما أن رجلاً لو كتب صكّاً، والشهود يرونه، ثم قال لهم: اشهدوا علىّ بجميع ما في هذا الكتاب، جاز لهم إقامة الشهادة عليه بما فيه. وأما إذا لم يعلم الراوي ولا السامع ما فيه، فإن الذي يجب على مذهبنا: لا يجوز له أن يقول: أخبرني فلان، كما قالوا في الصك، إذا أشهدهم وهم لا يعلمون ما فيه لم تصح الشهادة، وكذلك إذا قال له: قد أجزت لك ما يصح عندك من صك فيه إقراري، فاشهد به علىّ، لم يصح. قال: وإن علم المكتوب إليه أن هذا كتاب فلان إليه، جاز له أن يقول: أخبرني [148/أ] فلان، يعني الكاتب، ولا يقول حدثنا. دليلنا على جواز الرواية في الإجازة والمناولة والمكاتبة على الوجه الذي ذكرنا: أنه ليس فيه أكثر من أنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث، وهذا لا يمنع الرواية عنه، كما لو قرئ عليه الحديث فأقر به، فإنه لم يوجد منه فعل الحديث، ومع هذا فإنه تصح الرواية عنه، كذلك ها هنا. فإن قيل: هناك وجد منه ما هو في حكم الحديث، وهو إقراره به. قيل: إقراره به ليس من فعل الحديث من جهته، وإنما هو إقراره بأنه سماعه، وهذا المعنى موجود ها هنا. ولأن أمر الأخبار مبنى، على حسن الظن والظاهر، ولهذا قبل فيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 984 العبيد والنساء وقول الواحد، والظاهر من حال الخط أنه صحيح لا يشتبه [فيه] ، فجازت الرواية به. واحتج المخالف: بأنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث، ولا ما هو في حكم الحديث؛ لأنه لم يحدث به، ولا قرئ عليه، فلم يجز أن يقول: حدثني ولا أخبرني. والجواب: أنه يبطل به، إذا قرئ عليه، فأقرَّ به. واحتج: بأن الشهادة على الشهادة لا تقبل في مثل هذا؛ لأنه لو كتب شاهدان إلى شاهدين: اشهدا على شهادتنا لم يجز، كذلك الأخبار. والجواب: أن الأخبار (1) أمرها مبني على حسن الظن. فإن كانت الإجازة مطلقة لجميع من أراد، جاز. وقد رأيت ذلك بخط أبي حفص البرمكي، أو بخط والده أحمد بن إبراهيم البرمكي (2) في حاشيه الورقة الأولى من جزء خرجه أبو بكر عبد العزيز ترجمه: "الرد على من انتحل [غير] (3) مذهب أصحاب الحديث"، فقال: سمعت هارون بن موسى (4) وأجازه الشيخ معي جميع   (1) في الأصل: (الشهادة) ، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه. (2) هو: أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل البرمكي. من الطبقة الثالثة. تخصص في صحبة أبي الحسن بن بشار، ونقل كثيراً من أخباره. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (2/74) . (3) سبق للمؤلف ص (980) أن ذكر هذا الكتاب معزوا إلى أبي بكر عبد العزيز كما أثبتناه. (4) هو: هارون بن موسى بن حيان أبو موسى القزويني. حدث عن أبي حاتم الرازي، وروى عنه علي بن عمر الحربي، وأبو بكر عبد العزيز. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 985 ما خرج عنه لجميع من أراده، وذلك أن الراوية بالإجازة إنما تصح لما صح عنده من حديثه، وهذا المعنى موجود في المطلقة والمقيدة. فإن روى حديثاً عن غيره فقال: حدثني فلان عن فلان، حمل على أنه سمع ذلك منه من غير واسطة، ويكون خبراً متصلاً. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي الحارث وعبد الله: ما رواه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو [ثابت] (1) ، وما رواه الزهري عن سالم عن أبيه، وداود عن أشعث عن علقمة عن عبد الله، ثابت. وبهذا قال أصحاب الشافعي. ومن الناس من قال: حديث العنعنة غير صحيح؛ لأن قول عبد الرزاق عن مَعْمَر، يحتمل: أن يكون غير مَعْمَر، وهو عنه على ما روى، ولكن لا لأنه سمعه منه. وهذا غلط؛ لأن الظاهر من حال الراوي إذا قال: حدثني فلان عن فلان، أن كل واحد منهم سمع ذلك من [148/ب] الذي روى عنه من غير واسطة، فإنه لو كان واسطة لذكره وما أدرجه، فحمل الأمر على ذلك، ووجب العمل بالخبر. مسألة إذا روى صحابي عن صحابي خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لزمه العمل به،   = له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (14/32) ، وورد ذكره في ترجمة أبي بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلال في: "تاريخ بغداد" (10/459) ، وله أيضاً ترجمة في "طبقات الحنابلة" (2/119) . (1) بياض بالأصل يقدر بكلمة والتصويب دل عليه نقل أبي البقاء الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" ص (289) من الملحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 986 فإن لقي المروي له النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك، لم يلزمه أن يسأله عن الخبر، بل يقتصر على السماع الأول. وقال بعض الناس: يلزمه أن يسأله عن ذلك. وهذا غلط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث العمال والسعاة والمعلمين والحكام إلى البلاد، وكان الناس يرجعون إلى قولهم ويتعلمون منهم، ويقدمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يسألونه عن شيء من ذلك، بل يقتصرون على ما عرفوه من جهة رسله، فثبت: أنه لا يجب الرجوع إليه ومساءلته. واحتج المخالف: بأن لهم طريقا إلى معرفة الحكم من جهة الرسول قطعاً، ومعرفته من جهة الصحابي غير مقطوع عليه، فلم يجز ترك القطع والاقتصار على غلبة الظن. والجواب: أنه ليس يمنع مثل هذا في أحكام الشرع، ألا ترى أن الإنسان يجوز له ترك التوضؤ بالماء من وسط النهر، ويتوضأ من ماء في إناء على طرف النهر. فصل فيمن يقع عليه اسم الصحابي ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن اسم الصحابي مطلق على من رأى النبي عليه السلام، وإن لم يختص به اختصاص المصحوب، ولا روى عنه الحديث؛ لأنه قال في رواية عبدوس بن مالك العطار (1) : أفضل الناس   (1) أبو محمد. روى عن الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما. وعنه عبد الله بن الإمام أحمد وأبو العباس السراج النيسابوري وغيرهما. كان من المقربين عند = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 987 بعد أهل بدر القرن الذي بعث (1) فيهم، كل من صحبه سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه، فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، فقد أطلق اسم الصحبة على من رآه، وإن لم يختص به. وحكى أبو سفيان عن بعض شيوخه: أن اسم الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي صلى الله عليه [وسلم] واختص به اختصاص الصاحب بالمصحوب سواء روى الحديث أو لم يروه، وأخذ العلم أو لم يأخذه، فاعتبر تطاول الصحبة في العادة. وذكر أبو سفيان عن أبي سفيان عمرو بن بحر: أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - واختلاطه به، وأخذ العلم، وهذا القائل اعتبر طول الصحبة ونقل العلم. وحكى الإسفراييني: أن الصحبة في العرف: عبارة عمن صحب غيره، فطالت صحبته له ومجالسته معه. دليلنا: أن الصحبة في اللغة: من صحب غيره قليلاً أو كثيراً، ألا ترى أنه يقال: صحبت فلاناً، وصحبته ساعة؟ ولأن ذلك الاسم مشتق من الصحبه (2) ، وذلك يقع على القليل والكثير، [149/أ] كالضارب مشتق من الضرب، والمتكلم مشتق من الكلام، وذلك يقع على القليل والكثير، كذلك ها هنا.   = الإمام أحمد، وممن نقلوا عنه بعض المسائل. له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (11/115) ، و"طبقات الحنابلة" (1/241) . (1) في الأصل: (بعثت) ، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، وهو الموافق لما في طبقات الحنابلة (1/243) ، في ترجمة (عبدوس) ؛ لأنه نقل الرواية تامة، مع أنها رواية طويلة. (2) في الأصل: (الكلام) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 988 ولأنه ليس يحتاج في إطلاق هذا الاسم إلى من قد روى الحديث عنه صلى الله عليه [وسلم] وأخفى العلم عنه؛ لأن جماعة من الصحابة قد امتنعوا من رواية الحديث، ولم يكن ذلك مانعاً من إجراء هذا الاسم عليهم. يبين صحة هذا: أن دواعيهم كانت مختلفة، وكان بعضهم لا يرى الرواية، وكانوا يؤثرون الاشتغال بالجهاد على الرواية. قال السائب بن يزيد: صحبت سعد بن أبي وقاص زماناً، فما سمعت منه حديثاً، إلا أني سمعته ذات يوم يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق، والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي) . وكذلك أخذ العلم منه لا يكون شرطاً في استحقاق هذه التسمية؛ لأن من اختص بغيره فإنه يطلق عليه أنه صاحب فلان، وان لم يأخذ منه العلم. واحتج المخالف: بأن عادة الأمة جارية بإطلاق هذا الاسم على من اختص بالنبي [صلى الله عليه وسلم] ، والمنع من إطلاقه على من لم يختص به، وإن كان قد رآه وسمع منه، كمن ورد عليه من الوفود والرسل (1) ومن يجري مجراهم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون هذا الاسم جارياً على من اختص به الاختصاص الذي ذكرناه. ويبين صحة هذا: أن العالم إذا كان له أصحاب يصحبونه ويلازمونه كانوا هم أصحابه، وإن كان في البلد من يلقاه ويستفتيه، فلا يكون من أصحابه، كذلك النبي صلى الله عليه [وسلم] أصحابه من صحبه دون من لقيه مرة. والجواب: أن من يرد عليه من الوفود والرسل إن كانوا مؤمنين به   (1) في الأصل: (والرسلا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 989 انطلق عليهم الاسم، وإن كانوا كفاراً لم ينطلق عليهم الاسم؛ لأنهم غير تابعين له. وأما من صحب غيره من العلماء على وجه التبع له في العلم ينطلق عليه الاسم وإن قل، ويقال: فلان صاحب فلان، وكذلك من صحب فلاناً يوماً على وجه الخدمة، يقال: هذا صاحب فلان، وأما من مشى معه في الطريق إذا استفتاه، فلا ينطلق عليه الاسم؛ لأنه لم يحصل تابعاً له في صحبته. ومن كان في وقت النبي صلى الله عليه [وسلم] كان تابعاً له، فأما من يجوز الإخبار عنه بأنه صحابي، فهو من يخبر عنه الصحابي. وحكى أبو سفيان عن بعض شيوخه: أنه لا يجوز الإخبار عنه بأنه صحابي إلا بعد أن يقع لنا العلم بذلك، إما اضطراراً أو اكتساباً. دليلنا: أنه لو أخبر عن نفسه بأنه صحابي، قبل منه باتفاق منا ومن هذا القائل، فإذا أخبر عن غيره، يجب أن يقبل منه. يبين صحة الجمع بينهما: أن [149/ب] فسقه لما كان مانعاً من قبول خبره بذلك عن نفسه، كان فسق غيره مانعاً من قبول خبره. ولأنه لما وجب العمل بخبر الواحد، كذلك جاز الحكم بخبر الواحد في إثبات الصحبة. وذهب المخالف إلى أنه لا يجوز لنا أن نخبر فلاناً من أن يكون الخبر عنه كذباً، كما لا يجوز لنا أن نخبر بالكذب، فإذا كان كذلك وكنا لا نأمن في الإخبار عن زيد بأنه صحابي، أن يكون حديثاً كذباً، وجب أن لا يجوز لنا الإخبار بذلك عنه. والجواب: أن هذا موجود في الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر الواحد، فإنا نجوز أن يكون كاذباً فيه، ومع هذا يجب العمل بخبره، كذلك ها هنا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 990 ويلزم عليه أيضاً إخباره عن نفسه، فإن أخبرنا عن نفسه بأنه صحابي، جاز قبول خبره، كما يقبل خبر غيره. وحكي عن بعض الناس: أنه لا يقبل خبره، وإنما يعمل على خبر غيره. دليلنا: أنه لما قبل خبر غيره عنه بأنه صحابي، كذلك يجوز قبول خبره عن نفسه بذلك. يبين صحة هذا وتساويهما: أن العدالة معتبرة فيما يخبر غيره عنه، وفيما يخبر هو عن نفسه. فإن قيل: لا يمتنع أن يقبل قول غيره له، ولا يقبل قوله لنفسه، كما تقبل شهادة غيره له، ولا يقبل إقراره لنفسه؛ لأنه يجر إلى نفسه منفعة، وهذا موجود ها هنا. قيل: هذا لا يمنع خبره لنفسه، ألا ترى أن من روى خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل منه وإن كان نفعه يعود بالمخبر؟ كذلك قوله: أنا صحابي لا يمنع، وإن عاد نفعه إليه ويفارق هذا الشهادة والدعوى؛ لأن حصول النفع يمنع قبول ذلك. وأيضاً: فإن العقل لا يمنع من قبول خبره بذلك، والسمع لم يرد بالمنع، فجاز قبوله. مسألة (1) إذا قال الصحابي: من السنة كذا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من السنة أن لا يقتل حر بعبد (2) . اقتضى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.   (1) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (294) . (2) قول علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحدود والديات = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 991 وكذلك إذا قال التابعي: من السنة كذا، كان بمنزلة المرسل، فيكون حجة على الصحيح من الروايتين، كما قال سعيد بن المسيب: من السنة إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته أن يفرق بينهما (1) . وكذلك إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فإنه يرجع إلى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهيه. وكذلك إذا قال: رخص لنا في كذا. وقد نقل أبو النضر العجلي عن أحمد رحمه الله: في جراحات النساء مثل جراحات الرجال. حتى تبلغ الثلث، فإذا زاد فهو على النصف من جراحات الرجل، قال: هو قول [150/أ] زيد بن ثابت (2) ، وقول علي   = (3/134) . وأخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب الجنايات، باب لا يقتل حر بعبد (8/34) . والأثر ضعيف؛ لأن في إسناده عندهما "جابراً الجعفي" وهو ضعيف. راجع في هذا الأثر أيضاً: "تلخيص الحبير" (4/16) . (1) هذا الأثر أخرجه الإمام الشافعي بسنده عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب، وذلك في كتاب النفقات، باب وجوب النفقة للزوجة، وإثبات الفرقة لها إذا تعذرت النفقة باعساره ونحوه (2/420) ، ولفظه: ( ... عن أبي الزناد، قال: سألت سعيد بن المسيب عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟ قال: يفرق بينهما. قال أبو الزناد: قلت سُنّة؟ فقال سعيد: سنّة. قال الشافعي: والذي يشبه قول سعيد: "سنة" أن يكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في كتاب الطلاق، باب الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته (7/96) بسنده عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب بمثل لفظ الشافعي. وأخرجه بسنده عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب، ولم يقل: "من السنة". وراجع في هذا الأثر. أيضاً: "تلخيص الحبير" (4/8) . (2) قول زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 992 كله على النصف (1) . قيل له: كيف لم تذهب إلى قول علي؟ قال: لأن هذا -يعني قول زيد- ليس بقياس، قال سعيد بن المسيب: هو السنة (2) . وهذا يقتضي أن قول التابعي: من السنة، أنها سنة النبي صلى الله عليه [وسلم] ؛ لأنه قدم قوم زيد على قول علي؛ لأنه وافق قول سعيد: إنما هي السنة، وبين أنه ليس بقياس. وقد رأيت بعض أصحابنا، ويغلب على ظني أنه أبو حفص البرمكي (3) ذكره في مسائل البرزاطي (4) ، لما روى الحديث عن ابن عمر أنه قال:   = في كتاب الديات، باب ما جاء في جراح المرأة (8/96) ، بإسناد منقطع. راجع أيضاً: "نصب الراية" (4/364) . (1) هذا الأثر عن علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب الديات، باب ما جاء في جراح المرأة (8/95-96) بإسنادين، أحدهما منقطع. راجع أيضاً: "نصب الراية" (4/363) . (2) أثر سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى- أخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب الديات، باب ما جاء في جراح المرأة (8/96) ولفظه: ( ... عن ربيعة أنه سأل سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر. قال: كم في اثنتين؟ قال: عشرون، قال: كم في ثلاث؟ قال: ثلاثون. قال. كم في أربع قال: عشرون. قال ربيعة: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها. نقص عقلها! قال: أعراقي أنت؟ قال ربيعة: عالم متثبت أو جاهل متعلم. قال: يا ابن أخي إنها السنة) . راجع أيضاً: "نصب الراية" (4/364) . (3) حرر هذا القائل بأنه ابن بطة، كما في "المسودة" ص (295) . (4) هو: محمد بن أحمد أبو عبد الله البرزاطي. روى عن الحسن بن عرفة وعلي بن حرب الطائي وغيرهما. وعنه أبو بكر بن شاذان. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (1/382) ، و"اللباب" (1/137) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 993 مضت السنة أن ما أدركت الصفقة حياً (1) مجموعاً فهو من مال المبتاع (2) ، فقال بعد هذا: صار الحديث مرفوعاً بقوله: مضت السنة، ويدخل في المسند (3) . واختلف أصحاب أبي حنيفة في ذلك: فحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي: أنه لا يضيف ذلك، وحكى عن غيره من أصحابه: أنه يضاف إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] . واختلف أصحاب الشافعي أيضاً: فذهب الصيرفي (4) إلى أنه لا يضاف إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وذهب غيره: إلى أنه يضاف إليه. دليلنا: أن السنة المطلقة في أحكام الشرع ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أطلق وجب رجوع ذلك إليه؛ لأنه إذا أريد بها سنة غيره فإنها لا تطلق، بل تضاف إلى صاحبها. يبين صحة هذا: أن الناس يقولون: عليكم بالقرآن والسنة، فلا يعقلون من ذلك إلا اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -.   (1) في "المسودة" ص (295) بالباء الموحدة وفي "صحيح البخاري" (حياً) بالمثناة التحتية كما أثبتناه. (2) حديث ابن عمر رضي الله عنه ذكره البخاري معلقاً بصيغة: (قال) ولم يذكر قوله: (مضت السنة) ، وذلك في كتاب البيوع، باب إذا اشترى متاعاً أو دابة، فوضعه عند البائع، أو مات قبل أن يقبض. (3) تعقب الشيخ ابنُ تيمية المؤلفَ في هذا، حيث قال في "المسودة" ص (295) : (قلت: ويغلب على ظني أن هذا الضرب لم يذكره أحمد في الحديث المسند، فلا يكون عنده مرفوعاً) . (4) هو أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي، وقد سبقت ترجمته ص (105) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 994 ولأن إطلاق الأمر في الشريعة يرجع إلى صاحب الشريعة، ولهذا كان أنس بن مالك يقول: أُمر بلال (1) أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة (2) ويحدث به هكذا، ولا يقول له أحد: من الآمر به؟ فدل على ما قلناه.   (1) هو: بلال بن رباح الحبشي، أبو عبد الله، مولى أبي بكر رضي الله عنه، ومؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. صحابي جليل، من أول الناس إسلاماً. شهد بدراً والمشاهد كلها. مات بدمشق سنة (20) وله من العمر ثلات وستون سنة. له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/178) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (326) ، طبعة دار نهضة مصر. (2) حديث أنس - رضي الله عنه - هذا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب بدء الأذان (1/148) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة (1/286) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في إفراد الإقامة (1/369-370) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الإقامة (1/121) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأذان، باب تثنية الأذان (2/4) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأذان، باب إفراد الإقامة (1/241) . وأخرجه عنه الدارمى في كتاب الصلاة، باب الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة (1/116) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب حديث أبي محذورة في صفة الأذان (1/59) . وأخرجه عنه أبو داود الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة، باب صفة الأذان والإقامة (1/79) . وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار، في كتاب الصلاة، باب الإقامة كيف هي (1/132) . وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (105) و"نصب الراية" (1/271) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 995 وكذلك عبد الله بن عمر قال: رخص للمتمتع في صيام أيام التشريق (1) ولا يقول أحد: من رخص للمتمتع في صيامها (2) ؟ وقد احتج بعضهم في ذلك: بأن الأمر إنما يحسن لكون المأمور به مصلحة، توجب أن يكون في إضافته إلى من يعلم المصالح أولى من إضافته إلى من لا يعلم، والرسول [صلى الله عليه وسلم] أعلم بذلك دون غيره. واحتج المخالف: بأن الأمر والنهي والسنة لا يختص بالنبي دون غيره، قال تعالى: (أطيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرسُولَ وَأُولي الأمْرِ مِنْكُم) (3) فأمر باتباع أمر الولاة، كما أمر باتباع أمره عز وجل وَأمر رسوله صلى الله عليه [وسلم] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من [150/ب] سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سُنةً سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ، فأثبت لغيره سنة كما أثبت ذلك لنفسه. وكذلك روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في   (1) هذا الحديث أخرجه البخاري بسنده عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما في كتاب الصيام، باب صيام أيام التشريق (3/53-54) ، ولفظه: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) . راجع فيه أيضاً "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (358) . (2) في الأصل: (صيامهما) . (3) (59) سورة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 996 الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة (1) . فسمى رأيهم في أيام عمر سنة. والجواب عن قوله تعالى: (وأولي الأمر منكم) : يحتمل ما أخبروا به عن الله عز وجل ورسوله [- صلى الله عليه وسلم -] . وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) يحتمل ما رووه عن النبي صلى الله عليه [وسلم] ، فكأنه قال: عليكم ما سمعتموه مني، وبما حدثكم به خلفائي عني. وكذلك قوله: (من سن سنة حسنة) معناه: ما رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] . وقوله: (ومن سن سنة سيئة) فليس شيئاً مما نحن فيه؛ لأن خلافنا في السنة الشرعية، والسيئة ليست بشرعية، فلا يتناولها الإطلاق. وجواب آخر وهو: أن الخلاف في إطلاق السنة، وها هنا مقيدة منسوبة إلى الخلفاء إلى غير النبي [صلى الله عليه وسلم] . وأما قول علي: "وكل سنة"، فهو أنا نحمله على سنة النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ لأن الزيادة عندنا حد، وقد ثبت الحد بالسنة، وقال علي ابن أبي طالب لقنبر: ما إخال أن أحداً يعلمنا السنة، وأراد منه النبي صلى الله عليه [وسلم] .   (1) حديث علي - رضي الله عنه - هذا أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الخمر (3/1331-1332) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحدود، باب في الحد في الخمر (2/473) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب حد السكران (2/858) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الحدود، باب في حد الخمر (2/97) . وراجع فيه أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (656) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 997 مسألة (1) إذا قال الصحابي أو التابعي: كانوا يفعلون كذا، حمل ذلك على الجماعة دون الواحد منهم. وهو قول أصحاب أبي حنيفة. وذلك نحو قول عائشة رضي الله عنها: كانوا لا يقطعون في الشيء، التافه (2) . وقول إبراهيم النخعي: كانوا يحذفون التكبير حذفاً. فيكون هذا عن جماعتهم؛ لأن الصحابي والتابعي إذا قال: كانوا يفعلون كذا، فإنما يقول ذلك على وجه الدلالة على صحة ما فعلوا، فإذا كان كذلك، وكانت الجماعة التي فعلها وقولها حجة، هي الأمة وجب أن يكون قول القائل منهم راجعاً إليهم. فإن قيل: يجوز أن يكون المراد به فعل بعض الصحابة؛ لأن فعل بعضهم يكون حجة. قيل: الواحد لا يقع عليه اسم الجماعة.   (1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (296) . (2) هذا الأثر عن عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها بالسند المتصل ابن أبي شيبة في مصنفه، كما حكى ذلك الزيلعي في كتابه: "نصب الراية" (3/360) ، ولفظه: (قالت: لم تكن يد السارق تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه، ولم تقطع في أدنى من ثمن حجفه أو ترس) . كما أخرجه مرسلاً عن عروة. وأخرجه عنها ابن عدي في كتابه: "الكامل" بالسند المتصل، وفي إسناده عبد الله بن قبيصة الفزاري، قال ابن عدي: "لم يتابع عليه" نقل ذلك الزيلعي في كتابه المذكور آنفاً. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب اللقطة، باب في كم تقطع يد السارق؟ (10/234-235) عن عروة مرسلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 998 فإن قيل: فيجب أن لا يسوغ خلاف ذلك؛ لأنه حينئذ يكون خلاف الإجماع، فلما ساغ، دل على أن ذلك لم يقتض الإجماع. قيل: إنما سوغنا الخلاف فيما هذا سبيله، لأنا نعلم أنهم أجمعوا عليه، وإنما استدللنا عليه بخبر الواحد، وخبر الواحد لا يوجب العلم بما تضمنه. مسألة إذا قال الصحابي: [151/أ] قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : كذا وكذا، حكم بأنه سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويصير كما لو قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، أو حدثني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . وحكي عن أبي بكر ابن الباقلاني قال: لا أحكم بأنه سمع ذلك منه، بل يجوز أن يكون بينهما واسطة. دليلنا: أنه لما قال [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أضاف القول إليه، وقطع على أنه قال، والظاهر من حال الإنسان أنه لا يقطع على الشيء ويطلقه إلا بعد أن يتحققه ويسمعه شفاهاً من قائله، فوجب حمل الأمر على ذلك، والحكم به. واحتج المخالف: بأنه قد يخبره بذلك العدد الكبير: فيقطع عليه، وإن لم يسمعه منه. والجواب: أنه لو كان كذلك لكان بيّن الواسطه، ولا يطلق إضافة القول إليه، فلما أطلق كان الظاهر سماعه منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 999 مسألة إذا قال الصحابي: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، بكذا، ونهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن كذا، أو قال: فرض رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كذا، أو أباح، أو حرم، فإن الحكم يثبت بذلك ويحكم به بالأمر والنهي. وقد احتج أحمد رحمه الله على فرض زكاة الفطر: بقول ابن عمر: فرض رسول الله (1) [صلى الله عليه وسلم] . وحكى عن القاضي أبي الحسن الجزري (2) أنه قال: مذهب داود: أن لا يثبت بذلك، ولا يحكم به.   (1) حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر (2/153) ، ولفظه: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر (2/677) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الفطر (3/52) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب كم يؤدى في صدقة الفطر؟ (1/373) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب كم فرض؟ (5/36) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر (1/584) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الفطر (1/246) من "بدائع المنن". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب في زكاة الفطر (1/329) . (2) هو عبد العزيز أحمد بن الحسن أبو الحسن الجزري. كان ظاهرياً على مذهب = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1000 وحكى عن ابن بيان القصار خلاف هذا، وكان على مذهب داود وأنكر ذلك، وقال: يجوز الاحتجاج به. دليلنا: أن تصديق الراوي واجب فيما ينقله ويرويه، فإذا قال: زنى ماعز فرجمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسجد، وجب تصديقه، ويكون بمنزلة قوله - صلى الله عليه وسلم - زني ماعز فرجمته، وسهوت فسجدت، فإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ونهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بمنزلة قوله صلى الله عليه [وسلم] : أمرتكم ونهيتكم، وقد كان النبي صلى الله عليه [وسلم] يقول مثل ذلك، فروي عنه صلى الله عليه [وسلم] أنه قال: (آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع) (1) .   = داود، وكان قاضياً بالحرم وحريم دار الخلافة وغير ذلك. مات سنة (391هـ) . انظر ترجمته في: "البداية والنهاية" (11/330) ، و"شذرات الذهب" (3/137) . (1) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- في قصة وفد عبد القيس: أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (2/125) ، ولفظه: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إن هذا الحى من ربيعة، قد حالت بيننا وبينك كفار مضر، ولسنا نخلص إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بشيء نأخذه عنك، وندعو إليه من وراءنا، قال: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله، وعقد بيده هكذا، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدباء، والحنتم، والنقير والمزفت") . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين (1/46) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1001 ويدل عليه أن الصحابة اقتصروا على هذا اللفظ، وعولوا عليه، واحتجوا به، ولا يجوز في حقهم أن يعولوا على ما لا تقوم به الحجة. من ذلك قولهم: أمر رسول الله صلى الله عليه [وسلم] برجم ماعز ورجم الغامدية، وأمر بالمضمضة والاستنشاق، وقول ابن عمر: كنا لا نرى بالمخابرة بأساً، حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، فترك القول بالمخابرة بما نقل عنه من قوله: نهى عن المخابرة، فلولا أن الحجة تقوم به لم يرجعوا إليه. ويدل [151/ب] عليه قول موسى لقومه: (إن اللهَ يأمركم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (1) وقد أظهر من إعناتهم واستفهامهم وكثرة سؤالهم ما قد اشتهر، ولم يقولوا لموسى: عرفنا ما يأمر الله لنقف على لفظه، فدل على أنه يستغنى بذلك عن ذكره ما بين أمره ولفظه. فإن قيل، ليس قولهم مما يجب الانقياد إليه. قيل: قد لزم ذلك، ألا ترى أنهم لما سألوا أي بقرة هي أجابهم وإن كان ذبح ما يقع عليه الاسم يجزئ، فلولا أنه يجب الانقياد (2) ، لم يحسن التوقيف فيه ولا الجواب عنه. ويدل عليه أنه قد ثبت من مذهب الصحابة: أن ما تنازعوا في مفهومه نقلوا لفظه، ولم يقتصروا على ما أمر النبي صلى الله عليه [وسلم] .   = وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الايمان (5/8) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الإيمان، باب أداء الخُمس (8/105) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأشربة، باب في الأوعية (2/296) . (1) (67) سورة البقرة. (2) في الأصل: (للانقياد) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1002 من ذلك: ابن عمر لما روى أن النبي صلى الله عليه [وسلم] قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا) ، ثم بين اعتقاده: أنه افتراق الأبدان. وكذلك عمر في قوله: [هاء وهاء] وكذلك قول أبي هريرة في الولوغ. ويدل عليه: أن المجمعين إذا أجمعوا على شيء من طريق الحجة، نقلوا إجماعهم في الفتيا، ولم ينقلوا الحجة؛ لأنهم قد علموا أن الإجماع تقوم به الحجة، فاستغنوا عن نقل ما به أجمعوا. ويدل عليه: أن الصحابة إذا قالت: أخبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثبت، ولم نطالبه بما قد علم الخبر، كذلك الأمر؛ لأنهم يعلمون ما به يعلم الخبر، والأمر في اللغة والشرع، وفي الخبر خلاف، كما في لفظ الأمر على قول الواقفة للاحتمال. ويدل عليه: أن الصحابة من أهل الفصاحة، وقد شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل، فإذا رووا عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه أمر ونهى وجب أن يحمل ذلك على حقيقته، ولا يكون ....... (1) عرف بذلك منهم. واحتج المخالف: بأن الناس اختلفوا في الأمر، فمنهم من قال: هو الإيجاب، ومنهم من قال: الندب والإيجاب جميعاً أمر، ومنهم من قال: الإباحة أيضاً مأمور بها (2) ، وإذا كان كذلك، وجب نقل لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والجواب: أن قوله: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي إطلاقه أمراً مطلقاً،   (1) بياض بالأصل، يقدر بكلمة. (2) في الأصل: (به) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1003 والأمر المطلق من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب، وإنما يصرف عنه إلى الندب بدليل. جواب آخر: هو أنه معرفتهم (1) بذلك أكثر من معرفتنا، فإذا سمعوا ما لا تنازع فيه نقلوه، وما كان فيه نزاع بينوه، بدليل ما قدمنا من قول ابن عمر في الافتراق. مسألة (2) إذا روى جماعة من الثقات حديثاً، وانفرد أحدهم بزيادة لا تخالف المزيد عليه. مثل أن يقولوا: إن النبي صلى الله عليه [وسلم] دخل البيت، وانفرد أحدهم بزيادة، فقال: [152/أ] دخل البيت وصلى، ثبتت تلك الزيادة بقوله، كالمنفرد بحديث مفرد عنهم. وهكذا لو أرسلوه كلهم، فرفعه واحد إلى النبي صلى الله عليه [وسلم] يثبت مسنداً بروايته. وهكذا لو وقفوه كلهم على صحابي، فرفعه واحد منهم إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ثبت هذا المرفوع، ولم يرد. وقد نصّ أحمد رحمه الله على الأخذ بالزائد في مواضع: فقال أحمد بن القاسم (3) : سألت أبا عبد الله رحمه الله عن   (1) في الأصل: (معرفته) . (2) هذه المسألة فصل القول فيها الحافظ ابن الصلاح في "مقدمته" ص (111-114) مطبوعة مع شرحها "التقييد والايضاح"، فارجع إليها إن شئت، وارجع أيضاً إلى "المسودة" ص (300) . (3) أحد أصحاب الإمام أحمد الذين حدثوا عنه، ونقلوا بعض المسائل الفقهية. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1004 مسألة في فوات الحج ، فقال: فيها روايتان: إحداهما: فيها (1) زيادة دم، قال أبو عبد الله: والزائد أولى أن يؤخذ به (2) ، قال: ومذهبنا في الأحاديث: إذا كانت الزيادة في أحدهما، أخذنا بالزيادة. ونقل الميموني عنه أنه قال: نقل أن النبي صلى الله عليه [وسلم] دخل الكعبة ولم يصل (3) ، ونقل [أنه] صلى (4) ، فهذا يشهد أنه صلى. وابن عمر يقول: لم يقْنُت في الفجر (5) ، وغيره يقول: قنتَ (6) ،   = له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/55) . (1) في الأصل: (فيه) ، والتصويب من "المسودة" ص (300) . (2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/55) في ترجمة أحمد بن القاسم السابق ذكره، وذكر انها من مروياته عن الإمام أحمد. (3) سبق تخريج هذا الحديث، ص (628) . (4) سبق تخريج هذا الحديث، ص (628) . (5) حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه، في أبواب الصلاة، باب القنوت (3/107) ، ولفظه: ( ... عن أبي الشعثاء قال: سألت ابن عمر عن القنوت في الفجر، فقال: ما شعرت أن أحداً يفعله) . وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب القنوت في صلاة الفجر وغيرها (2/246) ، بلفظ: ( ... ما أحفظه عن أحد من أصحابي) ، وبلفظ: (ما شهدت، وما رأيت) ، وبلفظ: (ولا رأيت أحداً يفعله) ، وبلفظ: (ما رأيت ولا علمت) . وراجع في هذا أيضاً: "نصب الراية": (2/130) . (6) من هؤلاء أنس بن مالك - رضي الله عنه - فقد أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في أبواب الصلاة، باب القنوت (3/110) ، ولفظه: ( ... ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا) . وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب صفة القنوت وبيان موضعه (2/39) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1005 فهذه شهادة عليه أنه قنت. وحديث أنس: لم يأنِ لرسول الله صلى الله عليه [وسلم] أن يخضب (1) ، وقوم يقولون: قد خضب (2) ، فهذه شهادة على الخضاب، فالذي شهد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو أوكد. وبهذا قال جماعة الفقهاء والمتكلمين.   = وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب القنوت في الصلاة (1/333) ، ولفظه: (سئل -أي أنس- هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ فقال: نعم..) . وبمثل هذا اللفظ أخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب القنوت في صلاة الفجر وغيرها (2/243) . وراجع في هذا أيضاً: "نصب الراية" (2/131-132) . (1) حديث أنس - رضي الله عنه - في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب. أخرجه عنه البخاري في كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (4/228) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الفضائل، باب شيبه صلى الله عليه وسلم (4/1821) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزينة، باب الخضاب بالصفرة (8/121-122) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب ترك الخضاب (2/1198) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الترجل، باب في الخضاب (2/403) . (2) حديث تخضب الرسول صلى الله عليه وسلم للحيته، رواه أبو رمثة رضي الله عنه. أخرجه عنه النسائي في كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم (8/121) ، كما أخرجه عن ابن عمر رضي الله عنهما في الموضع المذكور. وأخرجه عن ابن عمر رضي الله عنهما ابن ماجه في كتاب اللباس، باب الخضاب بالصفرة (2/1198) . وأخرجه أبو داود عن أبي رمثة - رضي الله عنه - كما أخرجه عن ابن عمر رضي الله عنهما وذلك في كتاب الترجل، باب في الخضاب، وباب ما جاء في خضاب الصفرة (2/403-404) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1006 وذهب جماعة من أصحاب الحديث إلى أن ما انفرد به الواحد منهم كان مردوداً، وهذا أبداً في كتبهم: تفرد به فلان وحده، يعنون الرد بذلك. وقد روي عن أحمد رحمه الله نحو هذا في رواية الأثرم وإبراهيم ابن الحارث والمروذي: إذا تبايعا فخير أحدهما صاحبه بعد البيع، فهل يجب؟ فقال: هكذا في حديث ابن عمر، قيل له: أتذهب إليه؟ قال: لا أنا أذهب إلى الأحاديث الباقية، الخيار لهما ما لم يتفرقا، ليس فيها شيء من هذا. فقد اطّرح رواية ابن عمر بزيادتها؛ لأن الجماعة ما نقلوها، وإنما تفرد بها ابن عمر. وقال في رواية أبي طالب: كان الحجاج بن أرطاة من الحفاظ، قيل له: فلم هو عند الناس ليس بذاك؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، ما يكاد له حديث إلا فيه زيادة. دليلنا: أن الجماعة إذا نقلت حديثاً، وانفرد واحد منهم بزيادة لا تخالف المزيد عليه، كان كالمنفرد بحديث سواه ولو انفرد بحديث سواه كان مقبولاً فوجب أن تقبل هذه الزيادة. فإن قيل: فقد رد أحمد رحمه الله مثل هذا، فإنه روى أن النبي صلى الله عليه [وسلم] قال: (من اعتق شرْكاً له في عبد، قوم عليه نصيب شريكه، ثم يعتق) (1) ، فانفرد سعيد بن   (1) هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. أخرجه عنه البخاري في كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل (3/172) كما = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1007 أبي عُروبة (1) فروى: (من أعتق شركاً له في عبد، استسعى العبد غير مشقوق عليه) ، فقال أحمد رضي الله عنه في رواية الميموني في حديث أبي هريرة في الاستسعاء (2) : يرويه ابن أبي عروبة، وأما شعبة   = أخرجه في كتاب العتق، باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أَمة بين الشركاء (3/179) . وأخرجه عنه مسلم في أول كتاب العتق (2/1139) . وأخرجه عنه أبو داود، باب فيمن روى أنه لا يستسعى (2/349) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين، فيعتق أحدهما نصيبه (3/620) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب الشركة في الرقيق (7/281) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب العتق، باب من أعتق شركاً له في عبد (2/844-845) . (1) هو: سعيد بن أبي عروبة مهران أبو النضر البصري العدوي بالولاء. ثقة مشهور. روى عن قتادة والحسن وابن سيرين وغيرهم. وعنه الأعمش والثوري وشعبة وآخرون. مات سنة (156هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/177) ، و"تهذيب التهذيب" (3/63) ، و"الخلاصة" ص (120) و"شذرات الذهب" (1/239) ، و"ميزان الاعتدال" (2/151) . (2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب العتق، باب إذا أعتق نصيباً في عبد وليس له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه على نحو الكتابة (3/180) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب العتق، بأن ذكر سعاية العبد (2/1140-1141) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب العتق، باب من ذكر السعاية في هذا الحديث (2/349) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين، فيعتق أحدهما نصيبه (3/621) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1008 وهشام (1) الدّستوائي (2) فلم يذكروا، لا أذهب إلى الاستسعاء. [152/ب] فقد امتنع من الأخذ بها. قيل: هذا باب آخر، وهو أن الزيادة تخالف المزيد عليه، فيكون كأنه تفرد بضد ما نقلته الجماعة، فينتقل الكلام إلى جنس آخر، وهو أن تقدم ما كثرت رواته على ما قلت رواته، وكذلك فيما نقل عن النبي عليه السلام في زكاة الفطر، نصف صاع من بر (3) ، ورويَ صاع من   = وأخرجه عنه "ابن ماجه" في كتاب العتق، باب من أعتق شركاً له في عبد (2/844) . (1) في الأصل: (تمام) . (2) هشام بن أبي عبد الله سنبر أبو بكر الدستوائي الربعي البصري. ثقة حافظ، رمى بالقدر، روى عن قتادة ويحيى بن أبي كثير وطائفة، وعنه أبو داود الطيالسي وأبو نعيم وخلق. مات سنة (154هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/164) ، و"الخلاصة" ص (351) ، و"طبقات الحفاظ" ص (84) ، و"ميزان الاعتدال" (4/300) . (3) حديث الاكتفاء بنصف صاع من البر في زكاة الفطر، أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب من روى نصف صاع من قمح (1/375) عن ثعلبة بن صعير رضي الله عنه مرفوعاً، ولفظه: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صاع من بر أو قمح على كل اثنين، صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثي..") . وأخرجه عنه الدارقطني من عدة طرق في كتاب زكاة الفطر (2/147-149) ، ولفظه في أحدها: (أدوا صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو نصف صاع من بر، عن كل صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد) . كما أخرجه في الكتاب المذكور (2/149) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً، ولفظه: (.. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صدقة الفطر: "عن كل صغير وكبير، حر وعبد، نصف صاع من بر، أو صاعاً من تمر") . كما أخرجه أيضاً في الموضع السابق موقوفاً. وقال: "هو الصواب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1009 بر (1) فهذه الزيادة تخالف المزيد عليه، فيقدم أحدهما بكثرة الرواة، فأما في خبرنا فلا يخالف المزيد عليه، فلهذا قبلناه. فإن قيل: فهذا الواحد قد يسهو، إذ لو كان صحيحاً لسمعوا كما سمع، ونقلوا كما نقل، فلما لم ينقلوا ثبت أنه سهو. قيل: النبي صلى الله عليه [وسلم] قد يكرر الأصل مراراً فيضبط، ويذكر الزيادة مرة فيضبطها واحد، وقد تنسى الجماعة ويذكره هو وحده وقد تنصرف الجماعة قبل إكماله الحديث. ويثبت هو حتى يكمله فينفرد بالزيادة. وأيضاً: فان الخبر كالشهادة وكل شهادة خبر، وليس كل خبر شهادة، ثم ثبت أنه لو شهد ألف على إقراره بألف، وشهد شاهدان على إقراره بألفين، ثبتت الزيادة بقولهما، وإن كانا قد انفردا عن الجماعة، كذلك في الخبر مثله. فإن قيل: يجوز أن يقرّ مرتين. قيل: ويجوز أن يقوله النبي [صلى الله عليه وسلم] مرتين. ولأنه لا خلاف أن القرآن نقل نقلاً متواتراً، وانفرد الشواذ لما خالفوا فيه الجمهور، كقراءة ابن مسعود وأُبي، فنقل كل واحد، ولم ينكر [و] هـ، ولم يقولوا لما انفرد بالزيادة كان كل مردوداً، كذلك الخبر مثله.   (1) حديث النص على الصاع من البر في زكاة الفطر أخرجه الدارقطني في كتاب زكاة الفطر (2/147-148) ، عن ثعلبة بن صعير رضي الله عنه من عدة طرق، ولفظه في أحدها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أدوا عن كل إنسان صاعاً من بر، عن الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والغني والفقير ... ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1010 ولأن الواحد إذا انفرد بالزيادة غلب على الظن صدقه، فإنه لا ينقل إلا ما سمعه وعرفه، والجماعة إذا لم ينقلوا جاز أن يحمل ذلك على سهو ونسيان، وذلك يجوز عليهم، ولا يجوز على الواحد الثقة نقل ما لم يسمعه، فوجب أن يقبل قوله فيما تفرد به. واحتج المخالف: بأنه إذا نقله الكل وانفرد واحد بالزيادة، كان ما تفرد به سهواً، لأنهم ما حفظوه حين قاله النبي [صلى الله عليه وسلم] مراراً سمعوه كلهم فلو كان ما تفرد به صحيحاً لقال الزيادة، كما قال المزيد عليه، ولو قال سمعوه كما سمع ونقلوه كما نقل. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنه يجوز أن يكون نسواً وسهواً، وذكر هو، وسمعوا بعض الحديث، وسمع هو جميعه. ويحتمل أن يكون أحدهم أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآخر أبعد، فسمع لقربه ما خفي على الأبعد. ولأنه يبطل بالشهادة على الإقرار، إذا انفرد بعضهم بالزيادة. واحتج: بأن الأصل متحقق والزيادة مشكوك فيها؛ فلا تترك الحقيقة بالمشكوك فيه. والجواب: أنا لا [153/أ] نسلم أنها مشكوك فيها؛ لأن غالب الظن فيه الصدق فيما تفرد به للاحتمال الذي ذكرنا. ولأنه يبطل بالشهادة، ويبطل به إذا انفرد بخبر، عمل عليه [و] لا يقال: كيف نقل هذا؟ وحفاظ الصحابة وعلماؤهم ما نقوله. واحتج: بأنه إذا خالف الكل هنا انفرد، فقد خالف أهل الصنعة، فكان ما نقله كل مردوداً، كخبر الواحد إذا خالف الإجماع يرد، لأنه خالف أهل الصنعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1011 والجواب: أنه ما خالفهم، لأنه واحد منهم، وإنما خالف بعض أهل الصنعة، وليس هذا كالإجماع، لأنه خالف الكل فلهذا ترك. ولأن خبر الواحد يسقط بالإجماع، لأنه في ضد ما أجمعوا عليه وهاهنا ما خالف ما نقلوا، بل نقل ما نقلوا، بل لو خالف ما نقلوا رجحنا بكثرة الرواة. واحتج: بأن الراوي قد يفسر الحديث فيتأوله، فيسمعه بعض الرواة مطلقاً فيرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كثير، روي عن ابن عباس وأبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً) (1) ، وقال أبو هريرة وابن عباس: "والهر" (2) .   (1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - سبق تخريجه ص (225) . (2) تخريج حديث (أبي هريرة) السابق لم يذكر فيه "الهر"، أما ذكر "الهر" في الحديث، فقد أخرجه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الكلب (1/151) ، ولفظه: ( ... عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات: أولاهن، أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة") . وقال الترمذي -بعد ذلك-: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أبو داود موقوفاً، وذلك في كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الكلب (1/17) ، ولفظه قريب من لفظ الترمذي. وقد نص البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة (1/247) ، أن بعض الرواة أدرج قول أبي هريرة في الهرة في الحديث المرفوع في الكلب. ونقل الزيلعي في: "نصب الراية" (1/136) عن صاحب "التنقيح" قوله: "وعلة الحديث أن مسدداً رواه عن معتمر، فوقفه". كما نقل عن صاحب "الإمام" قوله: "والذي تلخص أنه مختلف في رفعه = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1012 وروي ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى، قال ابن عباس: ولا أحسب غير الطعام الا كالطعام (1) فأدرجه بعض الرواة، فرفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة) (2) ، قال الراوي: في كل خمس شاة، فأدرجه بعض الرواة فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.   = واعتمد الترمذي في تصحيحه على عدالة الرجال عنده، ولم يلتفت لوقف من وقفه، والله أعلم". قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "سنن الترمذي" (1/152) : (وهذا الذي قال العلامة ابن دقيق العيد في "الامام": صحيح جيد وأزيد عليه أن مسدداً -في رواية أبي داود عنه- روى الحديث كله موقوفاً، في ولوغ الكلب، وفي ولوغ الهر، فلو كان هذا علة لكان علة في الحديث كله، ولكن ليس علة، ولا شبيهاً بها، بل الرفع من باب زيادة الثقة، وهي مقبولة، فما صنعه الترمذي من تصحيح الحديث هو الصواب) . (1) قد مضى للمؤلف أن استدل بهذا الحديث وأورده بلفظ: (من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يستوفيه) ، وقد خرجناه ص (179) . (2) هذا الحديث أخرجه أبو داود في: "مراسيله" ص (14) عن حماد قلت لقيس ابن سعد: خذ لي كتاب محمد بن عمرو فأعطاني كتاباً أخبرني أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه لجده. فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل، فقص الحديث إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك، فعد في كل خمسين حقة، وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة من الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم، في كل خمس ذود شاة ... وقد نقل الزيلعي في: "نصب الراية" (2/343) أن ابن راهويه أخرجه في "مسنده"، والطحاوي في "مشكله". وهو حديث متكلم فيه، فقد نقل الزيلعي أن ابن الجوزي قال في كتابه "التحقيق": = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1013 فإذا كان هذا جارياً معتاداً، وجب التوقف في الزيادة التي انفرد بها لئلا يكون في هذا المعنى. والجواب: أنه قد يدرج الراوي ما يفسره الصحابي، ولكن الظاهر إذا قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه كله مضاف إلى الرسول (1) [صلى الله عليه وسلم] ، مسموع منه، منقول كله عنه، حتى يُبين خلاف هذا، فلا يترك الظاهر من الحال بأمر متوهم مظنون. واحتج: بأن مقومين لو قوموا المتلف بدرهم، وقوم آخران بدرهمين لكان، الواجب هو الأقل ولم تجب الزيادة، كذلك ها هنا. والجواب: أن شهادتهما متعارضة في الزيادة؛ لأنهم قد اتففقوا على   = هذا حديث مرسل، كما نقل عن ابن هبة الله الطبري قوله: هذا الكتاب صحيفة، وليس بسماع.. وقال فيه البيهقي في "سننه الكبرى" (4/94) : ( ... وهو منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيس بن سعد أخذه عن كتاب لا عن سماع، وكذلك حماد بن سلمة أخذه عن كتاب لا عن سماع، وقيس ابن سعد وحماد بن سلمة وإن كانا من الثقات فروايتهما هذه بخلاف رواية الحفاظ عن كتاب عمرو بن حزم وغيره. وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه، ويتجنبون ما يتفرد به عن قيس بن سعد خاصة وأمثاله، وهذا الحديث قد جمع الأمرين ما فيه من الانقطاع، وبالله التوفيق) . على أن هذا الحديث قد أخرجه الطحاوي عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً، ولفظه: ( ... فإذا بلغت العشرين ومائة، استقبلت الفريضة بالغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين، ففرائض الإبل) . قال البيهقي: "إنه موقوف ومنقطع". راجع: "نصب الراية" (2/345) . (1) في الأصل: (الرسولة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1014 صفه المتلف واختلفوا في قدر القيمة بالسعر القائم في السوق فوجب (1) أن يكون اللذان أثبتا الزيادة واللذان نفيا الزيادة مخطئين. وقيل فيه: بأن من قوَّمه بدرهم يقول: عرفت صفة المتلف وسعر السوق في وقت الإتلاف، فكانت قيمته درهماً، ومن قوَّمه بدرهمين (2) يقول: عرفت تلك الصفة بعينها وسعر [153/ب] السوق، تعارضت شهادتهما في الزيادة، فلم تثبت، وليس كذلك رواية من لم يروا الزيادة؛ لأنه لا ينفيها على ما ذكرت. مسألة إذا سمع خبراً، فأراد أن ينقل بعضه ويترك بعضه، نظرتَ، فإن كان بعض متعلقاً ببعض، بحيث إذا ترك البعض أخلّ ببعض حكم المنقول، لم يجز ذلك. وإن كان لا يتعلق به، بل كان يشتمل علي حكمين، لا يتعلق أحدهما بالآخر، كان له نقل أحد الحكمين وترك الآخر؛ لأنه إذا كان بعضه متعلقاً ببعض كان ترك بكل بعضه تغييراً لخبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] وزوال المقصود، ولا يجوز ذلك، وإذا اشتمل على الحكمين منفردين حصل بمنزلة حديثين منفردين، ومن كان عنده خبران جاز أن يرويَ أحدهما دون الآخر. وقد نصّ أحمد رحمه الله على جواز ذلك، فقال أبو الحارث: كتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله عن تقطيع الأحاديث، إذا أراد الرجل منه كلمة والحديث طويل، فقال: إذا كان يحتاج من الحديث إلى حرف، يريد أن   (1) مكررة في الأصل. (2) في الأصل: (قومه درهمين) بدون حرف الجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1015 يقتصر لطوله، فأرجو أن لا يكون عليه شيء، قال: ورأيت أبا عبد الله قد أخرج أحاديث، أخرج منها حاجته من الحديث وترك الباقي، يخرج من أول الحديث شيئاً، ومن آخره شيئاً، ويدع الباقي. وذكر الأثرم في كتاب "العلل" قال: ذكر أبو عبد الله حديث طَلْق ابن علي في المسكر الذي ذكر فيه: لا يشربه رجل ابتغاء لذة سكر، ربما يذكر (1) ذكت هذه الكلمة: ابتغاء لذة سكر (2) ، مخافة أن يتأولوها على غير تأويلها، ونقل هذا. ونقلت من مسائل إسحاق بن إبراهيم من باب الرأي والعلم، قال: سألتة عن الرجل يسمع الحديث، وهو إسناد واحد، فيقطعه ثلاثة أحاديث قال: قال: لا يلزمه كذب، وينبغي أن يحدث كما سمع فلا يغيره. قال أبو بكر الخلال: قد حكى اختصار الحديث عن أبي عبد الله جماعةٌ، وبين عنه أبو الحارث، وذكر عنه الفضل بن زياد وأبو أمية الطرسوسي (3) اختصاراً لا يكون شيء أبين ولا أحسن اختصاراً (4) من   (1) كلمة: (يذكر) لا معنى لها، فالأولى حذفها. (2) في الأصل: (سكره) . (3) هو: محمد بن إبراهيم بن مسلم، أبو أمية، البغدادي، ثم الطوسي، من أصحاب الإمام أحمد. روى عن عبد الله بن بكر السهمي وأبي اليمان، وخلق. وروى عنه أبو عوانة وابن جوصاء وغيرهما. وثقه أبو داود وغيره. مات بطرسوس سنة (273هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (10/425) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/581) ، و"الخلاصة" ص (276) ، و"طبقات الحفاظ" (258) ، و"طبقات الحنابلة" (1/365) ، و"العبر" (2/51) . (4) في الأصل: (اختصر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1016 حديث الإسراء وحديث النعمان بن بزرج (1) ، وهذان الحديثان كل (2) واحد منهما في أوراق. وحكى أبو بكر في الباب حكاية فقال: أخبرنى يزيد بن عبد الله الأصفهاني (3) قال: سمعت إسماعيل بن محمد الغزال (4) من حملة العلم قال: سمعت نعيم بن حماد (5) يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: أنت الذي تميز حديثي؟ فقلت: إن حديثك ربما دخل في أبواب، فسكت عني.   (1) في الأصل: (بن بزرح) بالحاء المهملة، والصواب: (بزرج) بالجيم المعجمة، كما أثبتناه. وهو: النعمان بن بزرج، اليماني، الصنعاني. يقال: إن له صحبة. وقيل: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه. ووهم أبو نعيم حين قال: "لا يعرف له إسلام". وقد بين الحافظ ابن حجر سبب الوهم، ورده. مات في خلافة عبد الملك، وله من العمر مائة وثلاثون سنة، على ما قيل. له ترجمة في: "الإصابة" القسم السادس ص (498) طبعة دار نهضة مصر. (2) في الأصل: (بكل) . (3) لم أقف عليه. (4) لم أقف عليه. (5) هو: نعيم بن حماد بن معاوية أبو عبد الله الخزاعي المروزي الفرضي. روى عن إبراهيم: بن طهمان وابن المبارك وهشيم وغيرهم. وعنه يحيى بن معين والذهلي والدارمي وخلق. وثقه أحمد وابن معين وغيرهما وضعفه النسائي. حبس بسامراء بسبب محنة القرآن، حتى مات سنة (228هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (13/306) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/418) ، و"الخلاصة" ص (346) ، و"شذرات الذهب" (2/67) ، و"طبقات الحفاظ" ص (180) ، و"ميزان الاعتدال" (4/267) ، و"النجوم الزاهرة" (2/257) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1017 وذكر أبو بكر الخلال في باب غسل الحائض من كتاب "العلل" عن المروذي، وذكر لأحمد حديث ابن أبي شيبة (1) عن وكيع (2) ، كأنه اختصره، فقال: ويحك، يحل له أن يختصر؟ قال أبو بكر [154/أ] الخلال: أبو عبد الله لا يرى بأساً باختصار الحديث وابن أبي شيبة اختصر في غير موضع الاختصار. واختلف الناس في هذا، فمن قال: لا يجوز نقل الحديث على المعنى وعلى الراوي نقل لفظه بعينه قال ها هنا: لا يجوز أن ينقل بعضه (3) ويترك بعضه. واحتج بما تقدم من قوله: (رَحِمَ الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها) .   (1) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي: ولاءً، الكوفي موطناً، الحافظ، صاحب "المصنف" و"المسند" روى عن شرَيك القاضي وابن المبارك وابن عيينة وغيرهم. وعنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائي وخلق. مات سنة (235هـ) . له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/315) ، و"تاريخ بغداد" (10/66) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/432) ، و"الخلاصة" ص (179) و"شذرات الذهب" (2/85) ، و"طبقات المفسرين" (1/146) ، و"ميزان الاعتدال" (2/490) ، و"النجوم الزاهرة" (2/282) . (2) هو: وكيع بن الجراح بن مليح، أبو سفيان الرواسي الكوفي. أحد الحفاظ المشهورين. روى عن السفيانين ومالك وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل وإسحاق ويحيى وخلق. قيل: إن فيه تشيعاً قليلاً. مات سنة (196هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (13/466) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/306) ، و"الخلاصة" ص (356) ، و"شذرات الذهب" (1/349) ، و"ميزان الاعتدال" (4/335) ، و"النجوم الزاهرة" (2/153) . (3) كلمة (بعضه) كررت في الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1018 ومن قال: يجوز نقل الحديث على المعنى، قال ها هنا: يجوز على الصفة التي ذكرناها، والكلام في هذا الأصل قد تقدم. وقد أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال بإسناده عن نعيم بن حماد قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: أنت الذي تقطع حديثي؟ قال: قلت يا رسول الله: إنه يبلغنا الحديث عنك فيه ذكر الصلاة وذكر الصيام وذكر الزكاة، فيجعل ذا في ذا وذا في ذا؟ قال: نعم إذن. فصل (1) في ترجيحات الألفاظ إذا تعارض لفظان من الكتاب والسنة، فلم يمكن الجمع بينهما، أو أمكن الجمع بينهما من وجهين مختلفين، وتعارض الجمعان، وجب تقديم أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح التي أذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإنما وجب التقديم بالترجيح؛ لأنه يدل على قوته، ويجب تقديم الأقوى، وإذا ثبت هذا فالترجيح يقع تارةً بما يرجع إلى إسناد الخبر، وتارةً إلى متنه، وتارةً إلى غيرهما. فأما ما يرجع إلى الإسناد فمن وجوه: أحدها: أن يكون أحد الخبرين أكثر رواةً، فيجب تقديمه. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الأثرم فيما روي عن علي رضي الله عنه في امرأة المفقود، هي امرأته حتى يعلم أحيّ أم ميت (2) ؟ فقال:   (1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (305-314) . (2) أثر علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب العدد، باب عدة الأمة وأم الولد وما تفعل من فقد زوجها (2/407) ، ولفظه: (.. أنه قال في امرأة المفقود: إنها لا تتزوج) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1019 أبو عوانة (1) تفرد بهذا، لم يتابع عليه. وقال أيضاً في رواية الميموني، وقد ذكر له حديث بلال بن الحارث (2) في فسخ الحج لنا خاصة (3) ،: لو عرف بلال أن أحد عشر رجلاً من   = وأخرجه عنه البيهقي في كتاب العدد، باب من قال: امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين وفاته (7/444) بمثل لفظ الإمام الشافعي. راجع في هذا الأثر أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/237) . (1) هو: وضاح بن عبد الله أبو عوانة اليشكري الواسطي. روى عن الأعمش وابن المنكدر وخلق. وعنه شعبة وابن مهدي وابن المبارك وخلق. قال الذهبي في الميزان: (مجمع على ثقته، وكتابه متقن بالمرة) . قال أبو حاتم: "ثقة يغلط كثيراً إذا حدث من حفظه". مات سنة (176هـ) له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (13/460) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/236) ، و"الخلاصة" ص (360) ، و"شذرات الذهب" (1/287) ، و"طبقات الحفاظ" ص (100) ، و"ميزان الاعتدال" (4/334) . (2) هو: بلال بن الحارث بن عصم بن سعيد أبو عبد الرحمن المزني. وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد مُزَينة سنة خمس من الهجرة. روى عنه ابنه الحارث، وعلقمة بن وقاص، وعمرو بن عوف. مات سنة (60هـ) ، وله من العمر ثمانون سنة. له ترجمة في الاستيعاب (1/183) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (326) طبعة دار نهضة مصر و"الخلاصة" ص (53) ، طبعة بولاق. (3) حديث بلال بن الحارث - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتاب الحج، باب الرجل يهل بالحج، ثم يجعلها عمرة (1/420) ولفظه: (.. قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة، أو لمن بعدنا؟ قال: "بل لكم خاصة") . وأخرجه عند النسائي في كتاب الحج، باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي (5/140) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب من قال: كان فسخ الحج لهم خاصة (2/994) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1020 أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يروون ما يروون (1) [من الفسخ] ، أين يقع بلال بن الحارث؟ (2) . وبهذا قال أصحاب [الشافعي] . واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب الجرجاني وأبو سفيان السرخسي إلى أنه يرجح بكثرة الرواة. وحكى أبو سفيان عن الكرخي: أنه لا يرجح بذلك. دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرجع إلى قول ذي اليدين حتى أخبره بذلك غيره، فرجع إلى قولهم، وكذلك أبو بكر الصديق لما روي له المغيرة: أن النبي صلى الله عليه [وسلم] . أطعم الجدة السدس، فطلب   = وقد تكلم الزيلعي في "نصب الراية" (3/104) عن هذا الحديث، فارجع إليه إن شئت. (1) في الأصل: (يروى ما روى) . (2) نقل المجد ابن تيمية في كتابه: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (382) كلام الإمام أحمد في هذا الحديث، ونصه: (قال أحمد بن حنبل: حديث بلال ابن الحارث عندي ليس يثبت، ولا أقول به ولا يعرف هذا الرجل -يعني الحارث بن بلال- وقال: أرأيت لو عرف الحارث بن بلال، إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يروون ما يروون من الفسخ، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟!) . كما نقل بعد ذلك قول الإمام أحمد من رواية أبي داود: (وليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة. وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر وشطراً من خلافة عمر) . ويلاحظ أن كلامَ الإمام أحمد في رواية الميموني التي ساقها المؤلف منصبّ على بلال بن الحارث رضي الله عنه، وهو صحابي، وهذا بخلاف ما نقله عنه المجد ابن تيمية؛ لأن كلامه هنا منصب على الحارث ابن الصحابي بلال بن الحارث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1021 أبو بكر الزيادة، فشهد له محمد بن مسلمة، فقضى به، فدل على أن للزيادة في العدد قوة في [154/ب] العمل بالخبر. ولأن الشيء بين الجماعة الكثيرة أحفظ منه بين الجماعة اليسيرة، ولهذا قال الله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) (1) فإذا كان كذلك كان خبر الجماعة أولى بالحفظ والضبط. ولأن خبر لأعلم الأتقن أولى بالتقديم عندهم؛ لأن مع الأعلم من الضبط ما ليس مع غيره، كذلك يجب تقديم خبر الجماعة لهذا المعنى. ولأن الخبر إذا كان أكثر رواة، فهو أقرب إلى الصواب وأبعد من الخطأ، وأشبه بالثواب، فوجب تقديمه والأخذ به. ولأن كثرة العدد لها تأثير (2) في إيجاب العلم؛ لأن المخبرين إذا بلغوا عدداً مخصوصاً وقع العلم بمخبرهم، وإذا كانت كثرة العدد طريقاً إلى العلم، وجب أن يكون الخبر الذي حصلت هذه المزية له أقوى من الخبر الذي لم يحصل فيه ذلك. ولأن كثرة وجوه الشبه لما كانت موجبة لقوة ما يثبت من طريق الشبه وجب أن يكون كثرة رواة الخبر موجباً لقوة ما ثبت بالخبر؛ لأن طريق الحكم بالقياس هو من جهة السنة، كما أن الحكم بالخبر هو من جهة الخبر. واحتج المخالف: بأن خبر الواحد وخبر الجماعة التي لا يقع بها العلم سواء؛ لأن طريق كل واحد منهما غلبة الظن.   (1) (282) سورة البقرة. (2) في الأصل: (تأثيراً) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1022 والجواب: أن خبر الجماعة أقوى في الظن، فكان تقديم الأقوى أولى، ويبطل بكثرة وجوه الشبه في أحد القياسين. واحتج: بأن شهادة الشاهدين وشهادة الأربعة فأكثر سواء، ولا فرق بينهما، كذلك خبر الواحد وخبر الجماعة يجب أن يكونا سواء. والجواب: أن الشهادة مخالفة للخبر؛ لأن شهادة الأعلم والأتقن وشهادة غيرهما سواء، والخبر يرجح بعلم الراوي وإتقانه. ولأن العدد في الشهادة منصوص عليه، فكان ذلك وما زاد سواء، وليس كذلك الخبر، فإنه منصوص على العدد فيه، فكان الأكثر في العدد أولى؛ لأنه أقوى في الظن. واحتج: بأن كثرة عدد المجتهدين، لا يوجب قوة اجتهادهم، كذلك كثرة عدد الرواة. والجواب: أن العلم لا يقع باجتهاد المجتهدين أبداً دائماً، وإنما يقع العلم إذا أجمعوا على الحكم المجتهد فيه بإجماعهم دون اجتهادهم والعلم الواقع بخبر التواتر إنما يقع بخبر العدد المخصوص دون معنى سواه. الثاني: أن يكون أحد الروايين أتقن وأعلم، فتكون روايته أولى؛ لأنه أولى بالضبط والحفظ من غيره، ومثاله أن مالكاً وسفيان أعلم وأتقن من زائدة (1) وعبد العزيز بن أبي حازم (2) ، ومثل هذا كثير.   (1) هو: زائدة بن قدامة أبو الصلت الثقفي الكوفي. ثقة ثَبَت. روى عن إسماعيل السدي وحميد الطويل وغيرهما. وعنه ابن المبارك وأبو داود الطيالسي وآخرون. مات سنة (161هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/215) ، و"تهذيب التهذيب" (3/306) ، و"الخلاصة" ص (120) . و"شذرات الذهب" (1/251) ، و"طبقات الحفاظ" ص (91) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/288) ، و"النجوم الزاهرة" (2/39) . (2) هو: عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار أبو تمام المدني المخزومي بالولاء. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1023 وقد قال عبد الله بن أحمد [155/أ] : حدثني صالح بن علي النوفلي (1) قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول (2) : المثبتون في الحديث أربعة شعبة وسفيان وزائدة وزهير (3) . وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: المشهور بالرواية أولى. الثالث: أن يكون أحد الراويين مباشراً لما رواه؛ لأن المباشر أعرف بالحال، ومثاله ما قلناه في رواية أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نكح ميمونة وهو   = روى عن أبيه وسهيل بن أبي صالح وغيرهما. وعنه الحميدي وعلي بن حجر ويعقوب الدورقي وخلق. ثقة، ليّنه بعضهم. ولد سنة (107هـ) ومات ساجداً سنة (184هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/268) ، و"تهذيب التهذيب" (6/333) ، و"الخلاصة" ص (202) ، و"شذرات الذهب" (1/306) ، و"طبقات الحفاظ" ص (114) ، و"ميزان الاعتدال" (2/626) . (1) هو: صالح بن علي النوفلي من آل ميمون بن مهران. من أصحاب الإمام أحمد، كان مقدماً على أهل حلب. سمع من أحمد بن حنبل. ومنه أبو بكر الخلال. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/177) . (2) كلام الإمام أحمد هذا نقله السيوطي في كتابه: "طبقات الحفاظ" ص (91) . (3) هو: زهير بن معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي، الثقة الحافظ. روى عن الأعمش وحميد الطويل وسماك وغيرهم. وعنه القطان وأبو داود الطيالسي وابن مهدي وآخرون. مات سنة (172هـ) . له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/233) ، و"الخلاصة" ص (105) و"شذرات الذهب" (1/282) ، و"طبقات الحفاظ" ص (98) و"ميزان الاعتدال" (2/86) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1024 حلال) (1) أنه أولى من رواية ابن عباس: (أنه نكحها وهو حرام) (2) ؛ لأن أبا رافع كان السفير بينهما، والقابل لنكاحها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الرابع: أن يكون أحد الراويين صاحب القصة، كميمونة، قدمنا قولها: تزوجني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ونحن حلالان (3) ، على [قول] ابن عباس؛ لأنها المعقود عليها، فهي أعرف بوقت عقدها من غيرها لاهتمامها به ومراعاتها لوقته. ومنع الجرجاني: أن يكون هذا ترجيحاً، وقال: هذا الحكم لا يعود إلى صاحب القصة، وإنما يعود إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ،   (1) هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أبي رافع - رضي الله عنه - في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم (3/191) ، وقال الترمذي -بعد ذلك- (هذا حديث حسن ولا نعلم أحداً أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة) وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (6/392-393) . وأخرجه عنه ابن حبان في صحيحه: كما حكى ذلك الزيلعي في "نصب الراية" (3/172) . وأخرجه مالك في "الموطأ" عن سليمان بن يسار مرسلاً، وذلك في كتاب الحج، باب نكاح المحرم (2/272) ، مطبوع مع "شرح الزرقاني". (2) سبق تخريجه ص (967) . (3) حديث ميمونة -رضي الله عنها- أخرجه عنها مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم (2/1032) . وأخرجه عنها أبو داود في كتاب المناسك، باب المحرم يتزوج (1/427) . وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب النكاح باب المحرم يتزوج (1/632) . وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم (2/192) . وأخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده" (6/332) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1025 وقد يكون الغير أقرب إليه، وأعرف بأحواله في نفسه من المرأة. والصحيح ما ذكرنا؛ لأن صاحب القصة أعرف بذلك من غيره. الخامس: أن يكون موضعه أقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم -. فيكون أسمع لقوله وأعرف به، وقد شبهوا ذلك بحديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج (1) ، قدمناه على رواية أنس: أنه قرن (2) ؛ لأنه روي عن ابن عمر قال: كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه [وسلم] فسالَ عليّ لعابها. السادس: أن يكون أحدهما من كبار الصحابة، والآخر من صغارهم فإن الكبار كانوا (3) أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله عليه السلام: (لِيليني منكم أولوا الأحلام والنّهَى) (4) .   (1) حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب في الإفراد والقران بالحج والعمرة (2/904-905) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (2/97) . وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج (2/238) . (2) حديث أنس - رضي الله عنه - هذا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب في الافراد والقران بالحج والعمرة (2/905) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في الإقران (1/416-417) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الجمع بين الحج والعمرة (3/175) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب من قَرنَ الحج والعمرة (2/989) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/99) . (3) في الأصل: (كان) . (4) هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها.. (1/323) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف (1/156) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1026 السابع: أن يكون أحدهما سمع بغير حجاب: فيقدم على من سمع دون حجاب؛ لأنه أقرب إلى الضبط، ومثاله: أن حديث عروة بن الزبير والقاسم بن محمد (1) عن عائشة رضي الله عنهم: أن بريرة أعتقت وكان زوجها عبداً (2) ، فقدم على حديث الأسود عن عائشة: أن زوجها   = وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب من يلي الإمام ثم الذي يليه (2/68) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب من يستحب أن يليَ الإمام (1/312) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب من يلي الإمام من الناس (1/233) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (1/457) . (1) هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد التيمي المدني. أحد الفقهاء السبعة. روى عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. وعنه الزهري والشعبي ونافع وخلق. قال فيه ابن سعد: كان ثقة عالماً فقيهاً إماماً كثير الحديث. مات سنة (106هـ) وقيل غير ذلك، وله من العمر سبعون سنة تقريباً. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/96) و"تهذيب الأسماء" (2/55) ، و"تهذيب التهذيب" (7/333) ، و"الخلاصة" ص (267) ، و"شذرات الذهب" (1/135) ، و"طبقات الحفاظ"، ص (38) . (2) حديث عروة عن خالته عائشة رضي الله عنها في أن زوج "بريرة" كان عبداً، أخرجه مسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (2/1143) . وأخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج (3/451-452) . وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد (1/517) . وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك (6/134-135) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1027 كان حرّاً (1) ؛ لأنهما سمعا منها من غير حجاب؛ لأنها خالة عروة وعمة القاسم. فإن كان أحدهما سمع بغير كتاب، والآخر يرويه عن كتاب، فهما سواء.   = وأخرجه الدارقطني (3/290-292) . وأما حديث القاسم بن محمد الذي رواه عن عمته عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه مسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (2/1143-1144) . وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد (1/517) . وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا عتقت (1/671) . وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك (6/135) . وأخرجه الدارمي في كتاب الطلاق: باب تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق (2/91) . وأخرجه الدارقطني (3/292) . (1) حديث الأسود عن عائشة -رضي الله عنها- في أن زوج "بريرة" كان حرّاً أخرجه البخاري في كتاب الفرائض، باب الولاء لمن أعتق، وباب ميراث السائبة (8/191-192) ، وقال في آخر الحديث: (قال الحكم: وكان زوجها حرّاً، وقول الحكم مرسل، وقال ابن عباس: رأيته عبداً) كما قال في سند آخر: (قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس رأيته عبداً أصح) . وأخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج (3/453) . وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب من قال: كان حراً (1/518) . وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا عتقت (1/670) . وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها حر (6/233) . وأخرجه الدارمي في كتاب الطلاق، باب تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق (2/90-91) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1028 وقد عارض أحمد رحمه الله أخبار الدباغ بحديث ابن عكيم (1) ، وهو عن كتاب؛ لأن ناقل الكتاب جارٍ (2) مجرى راوي اللفظ؛ لأنه إما أن يقول: قرأه علينا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، أو يقول: هذا كتابه: كما يقول: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، وما يتطرق على أحدهما يتطرق على الآخر مثله من التغيير. وقال الجرجاني: ما [155/ب] سمعه أولى مما روي عن كتاب؛ لأن التغيير يجوز على الكتاب، ولا يجوز ذلك فيما سمعه. قيل: لا يجوز مثل هذا عليه؛ لأن الرسول صحابي؛ ولأنه إن جاز التغيير على الكتاب، جاز التغيير فيما يحكيه لفظاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثامن: أن يكون أحدهما أمسّ سياقاً للحديث، وأشد تقصياً، فيكون أولى؛ لأنه يدل على حفظه وضبطه، ومثاله ما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج (3) ، وقد وصف خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة مرحلةً مرحلةً ودخوله مكة، ومناسكه على ترتيبه، وانصرافه إلى المدينة. التاسع: أن يكون أحد الراويين لم يضطرب لفظه، والآخر قد اضطرب لفظه، فيقدم خبر من لم يضطرب لفظه؛ لأنه يدل علي حفظه   (1) هو عبد الله بن عكيم أبو معبد الجهني، وقد سبقت ترجمته، كما قد سبق تخريج حديثه، وقد أورده المؤلف بلفظ: (أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) . (2) في الأصل: (جاري) . (3) حديث جابر - رضي الله عنه - هذا أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام.. (2/881-885) بعدة ألفاظ. وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في إفراد الحج (1/414-415) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الإفراد في الحج (2/988) . وتكلم عنه الحافظ ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير" (2/231) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1029 وضبطه، وسوء حفظ صاحبه، ومثاله: ما روى عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع اليدين في ثلاثة مواضع (1) ، فيقدم على ما روى البَرَاء ابن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود (2) ، قال سفيان بن عيينة: كان يزيد بن أبي   (1) حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أخرجه عنه البخاري في كتاب، الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء (1/137) ولفظه: ( ... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه، إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع. وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام.. (1/292) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة (1/166) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع (1/279) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الافتتاح، في ثلاثة أبواب متتابعة، أولها باب العمل في افتتاح الصلاة (2/93-94) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع (2/35) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الركوع والسجود (1/229) . وأخرجه عند الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكر التكبير ورفع اليدين عند الافتتاح (1/287) . (2) حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع (1/273) ، ثم قال بعد ذلك: (هذا الحديث ليس بصحيح) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1030 زياد (1) يروي هذا الحديث، ولا يذكر: "ثم لا يعود"، ثم دخلت الكوفة، فرأيت يزيد بن أبي زياد يرويه، وقد زاد فيه: "ثم لا يعود"، وكان قد لقن فتلقن. العاشر: أن لا تختلف الرواية عن أحدهما، فتقدم روايته على رواية من اختلفت الرواية عنه؛ للمعنى الذي ذكرنا.   = وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكر التكبير ورفع اليدين عند الافتتاح (1/293-294) ، كما أخرجه عنه ولم يذكر قوله: (ثم لم يعد) ، وقال: "هو: الصواب، إنما لُقِّن يزيد في آخر عمره"، "ثم لم يعد"، فتَلَقّنه، وكان قد اختلط. ثم نقل عن "علي بن عاصم" -أحد رواة الحديث- أنه قدم الكوفة قبل أن يموت "يزيد بن أبي زياد" الذي عليه مدار الحديث، فحدثه بهذا الحديث، ولم يذكر الزيادة، فقال له علي: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: "ثم لم يعد"، فقال: لا أحفظ هذا، ثم أعاد عليه فقال: لا أحفظه. وهذا الحديث قال فيه أحمد بن حنبل: "لا يصح"، وقال مرة أخرى: "هذا حديث واه، وقد كان "يزيد" يحدث به برهة من دهره، لا يقول فيه: (ثم لا يعود) فلما لقنوه تلقن، فكان يذكرها" وقد ضعف هذا الحديث البخاري ويحيى والدارمي وغيرهم. وقال الحافظ ابن حجر: (اتفق الحفاظ على أن قوله: "ثم لم يعد" مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد) . راجع في هذا: "تلخيص الحبير" (1/221-222) . (1) هو: يزيد بن أبي زياد الكوفي. أحد علماء الكوفة المشهورين. روى عن مجاهد وابن أبي نعيم وغيرهما. وعنه ابن أبي ليلى وهشيم وغيرهما. قال فيه أحمد: "ليس بذلك". وقال ابن المبارك: "إرم به" وقال يحيى: "ليس بالقوي". وقال ابن فضيل: "ابن أبي زياد، من أئمة الشيعة الكبار". وقال ابن حبان: "صدوق، إلا أنه كبر وساء حفظه". له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (2/749) ، و"ميزان الاعتدال" (4/423) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1031 ومنهم من قال: تتعارض الروايتان عنه. ويسقطان، ويعمل برواية من لم تختلف الرواية عنه. الحادي عشر: أن يكون أحدهما مسنداً والآخر مرسلاً، فالمسند أولى. قال أبو بكر الأثرم: رأيت أبا عبد الله إذا كان الحديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] في إسناده شيء يأخذ به، إذا لم يجد خلافه أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب (1) ، ومثل حديث إبراهيم الهجري (2) ، وربما أخذ بالحديث المرسَل، إذا لم يجيء خلافه، وذلك لأن من الناس من قال: إن المرسَل لا يحتج به. ولأن المسنَد عدالة راويه معلومة من جهة الظاهر، لمعرفتنا به، والمرسَل عدالة الراوي مستدل عليها من جهة أنه لا يروي إلا عن عدل عنده، فكان المعلوم أولى من المستدل عليه. وقال الجرجاني: المرسل أولى من المسند؛ لأن المرسل شاهد على رسول   (1) هو: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل أبو إبراهيم السهمي. روى عن الربيع بنت معوذ الصحابية وعن أبيه وطاووس وغيرهم. وعنه مكحول وعطاء والزهري وخلق. وثقه ابن معين وابن راهويه وغيرهما. وقال البخاري فيه: رأيت أحمد وعلياً وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث عمرو ابن شعيب، فمن الناس بعدهم؟ قال الذهبي معلقاً على قول البخاري: (ومع هذا القول، فلم يحتج به في صحيحه) . مات بالطائف سنة (118هـ) وتحرير القول فيه أنه حسن الحديث إذا كان الراوي عنه ثقة. له ترجمة في "تهذيب التهذيب" (8/48) و"المغني في الضعفاء" (2/484) ، و"ميزان الاعتدال" (3/263) . (2) هو: إبراهيم بن مسلم الهجري. روى عن عبد الله بن أبي أوفى. وعنه شعبة وجعفر بن عون وغيرهما. ضعفه ابن معين والنسائي وغير واحد وتركه ابن الجنيد. له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/26) ، و"ميزان الاعتدال" (1/65) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1032 الله صلى الله عليه [وسلم] قاطع لإضافة الحكم إليه، فصار أولى منه. وهذا فاسد؛ لأنه غير قاطع فيما يرسله ويسنده، وإنما تجوز له الرواية عمن عرف عدالته في الظاهر، فلا فرق بين أن يظهره أو يكتمه، في أن الرواية عن كل واحد منهما [156/أ] جائزة، فأما من تأخر إسلامه، فإنه لا يوجب ذلك تأخير خبره عن خبر من تقدم إسلامه. وذهب بعض الشافعية إلى أن ذلك يوجب تأخير خبره، وسووا في ذلك خبر قيس بن طَلْق (1) مع خبر أبي هريرة في الوضوء من مس الذكر (2) . والدلالة عليه: أن كفر الكافر لا يمنع صحة سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جاز أن يكون الراوي قد سمع كما رواه في حالة كفره من النبي   (1) الصواب: أن يقول المؤلف: طلق بن علي؛ لأنه هو الصحابي الراوي لحديث عدم النقض من مس الذكر، وقد سبق للمؤلف ص (832) أن ذكره كذلك، كما أورد الحديث بلفظ: (لا وضوء من مسه) وقد سبق ترجمة طلق بن علي وتخريج حديثه المذكور في الموضع المشار إليه. وليس المقصود: قيس بن طلق، وإن كان هو الراوي للحديث عن أبيه طلق بن علي، وما دام المؤلف ذكره كذلك، فإليك ترجمته: هو: قيس بن طلق بن على الحنفي روى عن أبيه. وثقه العجلي ويحيى في رواية. وقال: ابن القطان: "يقتضي أن يكون خبره حسناً لا صحيحاً". وضعفه أحمد ويحيى في رواية. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: "ليس ممن تقوم به حجه". له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (2/527) ، و"ميزان الاعتدال" (3/397) . (2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه في وجوب الوضوء من مس الذكر، قد سبق تخريجه ص (833) ، وقد ذكره المؤلف بلفظ: (وجوب الوضوء من مسه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1033 [صلى الله عليه وسلم] ، ثم رواه بعد إسلامه، لم يكن في تأخير إسلامه دليل على تأخير خبره. وأمّا الترجيح الذي يعود إلى متنه فمن وجوه: أحدها: أن يكون أحدهما قد جمع النطق ودليله، كما قدمنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الشفعة فيما لم يقسم، وإذا وقعت الحدود فلا شفعة) (1) ؛ لأن جمعه بينهما أشد تيقظاً للبيان. والثاني: أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً؛ لأن القول أبلغ في البيان. الثالث: أن يكون أحدهما قولاً وفعلاً، والآخر قولاً، فيكون اجتماعهما أولى.   (1) هذا الحديث رواه جابر رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الشفعة، باب الشفعة ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (3/108) ، ولفظه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الشفعة (2/256) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء إذا حدث الحدود، ووقعت السهام فلا شفعة (3/643-644) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب الشركة في الرباع (7/281) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب البيوع، باب في الشفعة (2/186) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/296) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الشفعة، باب ما جاء في الشفعة (2/211) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1034 الرابع: أن يكون أحدهما لم يدخله التخصيص، والآخر دخله التخصيص، فيكون ما لم يدخله التخصيص أولى؛ لأنه أقوى؛ لأن دخول التخصيص يضعف اللفظ، ومن الناس من قال: يصير مجازاً. الخامس: أن يكون قد قضى بأحدهما على الآخر في موضعه، واختلفا في غيره، فيكون القضاء به أولى. السادس: أن يكون أحدهما مطلقاً، والآخر وارداً على سبب، فإنه يقضي على سببه، ويقدم المطلق عليه، لأن الوارد على سبب قد ظهرت فيه أمارة التخصيص، فيكون أولى بإلحاق التخصيص به. مثاله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من بدّل دينه فاقتلوه) (1) ، فإنه يقدم على نهيه عن قتل النساء؛ لأنه وارد في الحربية. السابع: أن يكون أحدهما قصد به بيان الحكم المختلف فيه: فيكون أولى، كما قدمنا قوله: (وَأَنْ تجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ) (2) على قوله: (أَوْ مَا مَلَكَت أَيْمَانُكُم) (3) في تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ لأن قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) قصد به الزوج دون بيان الحكم. الثامن: أن يكون أحد المعنيين أظهر في الاستعمال، كما قدمنا الحمرة في الشّفق. التاسع: أن يكون أحد التأويلين موافقاً لفظه من غير إضمار، كما قلنا في قوله عليه السلام للمرتهن: (ذهب حقك) (4) يعني من الوثيقة دون   (1) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ ص (352) . (2) (23) سورة النساء. (3) (3) سورة النساء. (4) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ ص (141) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1035 الدين؛ لأن (1) حمله على الدين يحتاج إلى إضمار، فيقول: ذهب حقك: دينك إذا كان مثل قيمة الرهن. والعاشر: أن يكون أحد التأويلين لا يتضمن تخطئة النبي [صلى الله عليه وسلم] في الباطن، والآخر يتضمن تخطئة، كما يقول [156/ب] في ضمان علي بن أبي طالب عن الميت، وقوله: (هما علي يا رسول الله وأنا لهما ضامن) (2) ابتداء ضمان، وليس بإخبار عن ضمان سابق؛ لأنه لو كان إخباراً عن ضمان، لكان الميت قد خلف وفاءً، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بامتناعه عن الصلاة يكون مخطئاً في الباطن. والحادي عشر: أن يكون أحدهما إثباتاً والآخر نفياً، فيكون الإثبات أولى، كما قدمنا رواية بلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت، وصلى (3) ، على رواية أسامة (4) : أنه لم يصل (5) ؛ لأن من رآه يصلي، معه زيادة علم. وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على هذا في رواية الميموني فقال: الذي يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة ولم يصلّ، وهذا يقول: صلَّى، فهذا يشهد أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى. وابن عمر [يقول] :   (1) في الأصل: (ولأن) ، باثبات الواوا، والصواب: حذفها، كما فعلنا. (2) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ ص (142) . (3) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ عن ابن عمر ص (628) . (4) هو: أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل أبو زيد الكلبي. كان حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى عنه عروة بن الزبير وعثمان النهدي وجماعة، مات في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة (54هـ) . له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/75) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (49) ، طبعة دار نهضة مصر. (5) سبق تخريجه بلفظ: (دخل البيت، ولم يصل) عن ابن عباس ص (628) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1036 لم يقنت النبي [صلى الله عليه وسلم] (1) ، وغيره يقول: قنت (2) ، فهذه شهادة عليه أنه قنت. وحديث أنس: لم يأنِ لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يخضب (3) وغيره (4) يقول قد خضب (5) ، فهذه شهادة على الخضاب، والذي يشهد على النبي [صلى الله عليه وسلم] ليس بمنزلة من لم يشهد. الثاني عشر: أن يكون أحدهما زائداً، كما قدمنا خبر التكبير سبعاً في صلاة العيد (6) على غيره أنه كبر ..............................   (1) مضى تخريجه ص (1005) . (2) مضى تخريخه ص (1005) . (3) حديث أنس - رضي الله عنه - سبق تخريجه ص (1005) . (4) في الأصل: (عروة) ، وهو خطأ. وقد سبق للمؤلف ص (1006) أن ذكر ما يدل على ذلك. (5) حديث تخضيب النبي صلى الله عليه وسلم سبق تخريجه ص (1006) . (6) أخرج ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: أبو داود في كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين (1/262) ، ولفظه: (.. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً) . وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين (1/407) . وأخرجه عنها الحاكم في "المستدرك" في كتاب العيدين، باب تكبيرات، العيدين (1/298) وقال بعد ذلك: (تفرد به عبد الله بن لهيعة، وقد استشهد به مسلم في موضعين، وفي الباب عن عائشة وابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، والطريق إليهم فاسدة) . وأخرجه الدارقطني عنها في كتاب العيدين (2/46) . وأخرجه عنها البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب صلاة العيدين، باب التكبير في صلاة العيدين (3/286) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1037 .................................   = وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الزيادات، باب صلاة العيدين، كيف التكبير فيها (4/343-344) ثم قال بعد ذلك: (أما حديث ابن لهيعة، فبين الاضطراب، مرة يحدث عن عقيل، ومرة عن خالد ابن يزيد، عن ابن شهاب، ومرة عن خالد بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب، ومرة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها وأبي واقد رضي الله عنه، فذكرنا ذلك كله في هذا الباب) . وقد نقل الزيلعي في: "نصب الراية" (2/216) ، عن الدارقطني أن في هذا الحديث اضطراباً، ثم بين بعد ذلك الاضطراب، كما نقل عن الترمذي قوله في كتابه "العلل" سألت محمداً -يعني البخاري- عن هذا الحديث، فضعفه، وقال: لا أعلم [أحداً] رواه غير ابن لهيعة. والتكبير سبع في الأولى وخمس في الثانية، أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، في الموضع السابق ذكره (1/262) . كما أخرجه عنه ابن ماجه في الموضع المذكور سابقاً (1/407) . وأخرجه عنه الدارقطني في الموضع السابق (2/48) . وأخرجه عنه البيهقي في الموضع السابق (3/285-286) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (2/180) . وأخرجه عنه الطحاوي في الموضع السابق (4/343) . وهذا الحديث يدور إسناده على "عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي" وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين مرة: "صويلح" وقال مرة: "ضعيف". وقال ابن عدي: "أما سائر حديثه فعن عمرو بن شعيب، وهي مستقيمة، فهو ممن يكتب عنه" قال الذهبي بعد ذلك - (قلت: ثم خلطه بمن بعده فوهم) . وقال النسائي وأبو حاتم وغيرهما: "ليس بالقوي". راجع: "المغني في الضعفاء" (1/344) ، و"الميزان" (2/452) . وقد نقل الزيلعي في "نصب الراية" (2/217) عن النووي أنه قال في كتابه "الخلاصة": قال الترمذي: سألت البخاري عنه، فقال هو صحيح. أما الطحاوي فقد قال في المرجع السابق (4/344) : (.. وإنما يدور على "عبد الله = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1038 أربعاً (1) ، وكما قدمنا في صدقة الفطر رواية ......................   = ابن عبد الرحمن"، وليس عندهم بالذي يحتج بروايته، ثم هو أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وذلك عندهم ليس بسماع ... ) . أما الترمذي فقد أخرجه عن عمر بن عوف المزني رضي الله عنه، في كتاب الصلاة، باب ما جاء في التكبير في العيدين (2/416) ، وقال: (حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي عليه السلام) . وأخرجه عنه ابن ماجه في الموضع السابق (1/407) . وأخرجه عنه الدارقطني في المرجع السابق (1/48) . وأخرجه عنه الطحاوي في المرجع السابق (4/344) . وأخرجه عنه البيهقي في المرجع السابق ذكره (3/286) . ومدار هذا الحديث على: "كثير بن عبد الله بن عمرو المزني" قال الشافعي فيه: "ركن من أركان الكذب". وقال ابن معين: "ليس بشيء". وقال الدارقطني: "متروك". وقال النسائي: "ليس بثقة". انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (2/531) ، و"الميزان" (3/406) . أما تحسين الترمذي لهذا الحديث، فقد رده ابن دحية في كتابه "العلم المشهور" حيث قال: وكم حسن الترمذي في كتابه من أحاديث موضوعة، وأسانيد واهية، منها هذا الحديث نقل ذلك عنه الزيلعي في "نصب الراية" (2/217-218) . (1) حديث التكبير في صلاة العيدين أربعاً، رواه أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما. أخرجه عنهما أبو داود في كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين (1/263) ، ولفظه: (أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعاً، تكبيرُهُ على الجنائز، فقال حذيفة: صدق، فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبر في البصرة، حيث كنت عليهم) . وأخرجه عنهما الإمام أحمد في "مسنده" (4/416) . وأخرجه عنهما البيهقي في كتاب صلاة العيدين، باب ذكر الخبر الذي روي في التكبير أربعاً (3/289) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1039 الصاع (1) على من روى نصف صاع (2) . والثالث عشر: أن يكون أحدهما متأخراً؛ لأن ابن عباس قال: كنا نأخذ من أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأحدث فالأحدث. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية عبد الله؛ تستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة، فإن الخبر قبل الخبر، فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به. والرابع عشر: أن يكون أحدهما فيه احتياط للفرض وتبرئة للذمة بيقين، أو يكون احتياطاً للفعل المقصود، مثل الاحتياط للحرب في صلاة الخوف.   = وأخرجه عنهما الطحاوي في كتاب الزيادات، باب صلاة العيدين، كيف التكبير فيها (4-345-346) ، وقال بعد ذلك: (فهذا ما ثبت عندنا في التكبير في العيدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم نعلم شيئاً روي عنه مما يثبت مثله، يخالف شيئاً من ذلك) . ومدار هذا الحديث على "عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الدمشقي" وعلى: "أبو عائشة، جليس أبي هريرة". أما الأول فقد اختلفوا فيه، فقال ابن معين: "ليس به بأس". وقال مرة: "ضعيف". ووثقه أبو حاتم ودحيم. وقال أحمد: "أحاديثه مناكير"، وقال: "ليس يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تكبير العيدين حديث صحيح". وقال النسائي: "ليس بالقوي". راجع في ترجمته: "المغني في الضعفاء" (2/377) ، و"الميزان" (2/551) . أما الثاني، وهو"أبو عائشة" فقال الذهبي: "غير معروف". وسبقه إلى ذلك ابن القطان، حيث قال: "لا أعرف حاله"، وابن حزم حيث قال: "هو مجهول". انظر ترجمته في: "الميزان" (4/543) ، و"نصب الراية" (2/215) . (1) سبق تخريجه ص (1010) . (2) سبق تخريجه ص (1009) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1040 والخامس عشر: أن يتقابل لفظ القرآن ولفظ السنة ويكون بناء كل واحد منهما على الآخر ممكناً، فظاهر كلام أحمد: تقديم السنة وترتيب القرآن عليها (1) ، وقال: السنة بيان القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (2) . وقال في رواية أبي الحارث: السنة تفسر القرآن وتبينه، والسنة تعرف الكتاب. وقال في رواية أبي داود: السنة تفسر القرآن. وفي رواية عبد الله: السنة تدل على معنى القرآن. ويحتمل أن يقدم القرآن وترتب السنة عليه؛ لأنه مقطوع بطريقه، ومثاله: أن يبيح أكل كلب الماء وخنزيره بقوله عليه السلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) (3) ويعارض هذا الخصم بقوله تعالى: (أوْ لَحْمَ خنزيرٍ) (4) ، وهذا ينبني على نسخ السنة بالقرآن، وقد ذكرنا جواز ذلك. السادس عشر: أن يكون أحدهما حاظراً، والآخر مبيحاً، [157/أ] فالحاظر أولى؛ لأن في الحظر احتياطاً؛ لأن ترك المباح لا إثم فيه، وفعل المحظور إثم، فكان تركه أولى من الفعل ها هنا. ولأنه إذا اجتمع ما يبيح وما يحظر، وجب تغليب الحظر، كما نقول   (1) في الاصل: (عليه) . (2) (44) سورة النحل. (3) سبق تخريج الحديث ص (665) ، وقد أورده المؤلف بلفظ: (البحر، هو: الطهور ماؤه..) الحديث. (4) (145) سورة الانعام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1041 في المتولد من بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، وبين من يباح مناكحتهم ومن يحرم، والمذكي بمن تباح ذكاته ومن لا تباح. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية إسماعيل بن سعيد في الأمر المختلف فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم ناسخه من منسوخه: نصير في ذلك إلى قول علي نأخذ بالذي هو أهنأ وأهدى وأبقى. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب الكرخي والرازي إلى مثل قولنا. وذهب عيسى بن أبان: إلى أنه لا يرجح بمثل هذا، ويتعارضان ويسقطان ويصيران كأنهما لم يردا، ويرجع في حكم الحادثة إلى غير هذا الخبر. واختلف أصحاب الشافعي أيضاً على نحو ما ذكرنا من الاختلاف. ومن قال: لا يرجح بالحظر احتج: بأن تحريم المباح كإباحة المحظور، فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية. والجواب: أنه يبطل بالأصول التي ذكرناها، وهو المتولد من بين المباح والمحظور، فإن الحظر غلب الإباحة، وإن كان هذا المعنى الذي ذكره موجوداً (1) ؛ فلأن تحريم المباح كإباحة المحظور فيما تثبت إباحته، وها هنا ما ثبتت إباحته. ولأن للحظر مزية، ألا ترى أنه يحكم به، وإن كان لم تكمل شرائط الحظر، والمباح لا يحكم به، حتى تكتمل جميع شرائطه، وبيان هذا:   (1) في الأصل: (موجود) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1042 أن البيع يحرم بوجود شرط واحد ويفسده، وإباحته لا تحصل إلا بعد كمال شرائط الإباحة. واحتج: بأن الشيء الواحد يستحيل أن يكون محظوراً على الواحد في وقت مباحاً له في ذلك الوقت، كما يستحيل أن يكون الواحد بمكة وبغداد في يوم واحد، وقد ثبت أن أربعة لو شهدوا على رجل أنه رُئِيَ يوم النحر بمكة، وشهد أربعة آخرون أنه رئِيَ في ذلك اليوم ببغداد، أو شهد عليه شاهدان أنه قتل زيداً يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه قتل عمراً ذلك اليوم ببغداد، أن شهادة الجميع تسقط، كذلك إذا ورد خبر بحظر شيء، وورد آخر بإباحة ذلك الشيء في وقت واحد، وجب أن يسقط الخبران. والجواب: أن الشهادة كانت على حقيقة الفعل، فلهذا استحال وجود الفعل منه بمكة وببغداد في يوم واحد، وكذلك يستحيل قتله لزيد يوم النحر، و [قتله لعمرو في ذلك اليوم بـ] بغداد، تهادرت البينتان، وليس كذلك الخبران بإباحة الشيء وحظره؛ لأنهما يوجبان ذلك [157/ب] الشيء من طريق الحكم، ويجوز أن يكون الشيء مباحاً في الأصل، ثم يحظره النبي [صلى الله عليه وسلم] ويخفي علينا الباقي، ونظير هذا من الشهادة أن يتعارضا في الملك المطلق وأحدهما خارج، فإنما تقدم بينة الخارج. واحتج: بأنه لو أخبر بطهارة الماء واحد. وأخبر غيره بنجاسة ذلك الماء، ولم يكن لأحد المخبرين مزية على الآخر، ولا كان للمخبر رأي يعمل على الغالب منه، أنهما يسقطان، ويبقي الماء على أصل الطهارة وكذلك لو أن رجلين أخبر أحدهما بأن هذا اللحم ذبيحة مجوسي، وأن هذا الشراب خالطه خمر، وأخبر آخر أن ذلك حلال طاهر، ولم يكن للمخبر رأي يعمل على ما يغلب في رأيه: أن الخبرين يسقطان، ويبقى الطعام والشراب على أصل الإباحة، كذلك إذا عدم التاريخ بين خبري الحظر والإباحة، يجب أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1043 يسقطا، ويبقى الشيء على حكم الإباحة في الأصل. والجواب عنه: ما تقدم من الوجه الذي بينا. وهو أن الشيء يكون مباحاً في الأصل، ثم يحظره النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وغير جائز أن يكون الماء نجساً، ثم يصير طاهراً، أو الطعام نجساً فيصير طاهراً. السابع عشر: أن يتعارض خبران في الحد، فإنه لا يقدم المسقط للحد، ولهذا أخذ أحمد رحمه الله بحديث عبادة في اجتماع الجلد والرجم (1) ، ولم يقدم عليه حديث ماعز (2) وأنيْس (3) في إسقاط الجلد. ومن أصحاب الشافعي من قدم المسقط للحد؛ لقوله عيه السلام: (ادرؤوا الحدود بالشبهات وادرؤوا ما استطعتم) (4) .   (1) حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي يشير اليه المؤلف، سبق تخريجه ص (798) ، كما سبقت ترجمة عبادة. (2) حديث ماعز - رضي الله عنه - الذي يشير اليه المؤلف، سبق تخريجه ص (319) كما سبق ترجمة ماعز هناك. (3) حديث أنيس - رضي الله عنه - سبق تخريجه ص (886) في قصة العسيف. أما ترجمته فإليك إياها: هو: أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي، أبو يزيد. صحابي. شهد فتح مكة وحنيناً، كما كان عين الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أوطاس. مات أنيس سنة (20هـ) . له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/115) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (138) ، طبعة دار نهضة مصر. (4) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً. أخرجه عنها الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود (4/33) ، ولفظه: ( ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة") . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1044 وهذا غير صحيح؛ لأن الشبهة لا تؤثر في ثبوته شرعاً، ألا ترى أنه يثبت بخبر الواحد والقياس مع وجود الشبهة فرضاً؟ الثامن عشر: أن يكون في أحدهما إلحاق النقض بالصحاح، كخبر القهقهة (1) . التاسع عشر: أن يرجح بالقرائن. مثاله قوله تعالى: (أوْ لامستُم النسَاءَ) (2) حمله على لمس اليد أولى من الجماع؛ لأنه قرن ذلك بالمجيء من الغائط، وذلك يوجب الطهارة الصغرى. العشرون: أن يرجح باستعمال مثله في نظير لفظه، مثاله: أن يقضيَ بقوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) على قوله: (فيما سقت السماء العشر) ، كما قضى بقوله: (ليس فيما دون   = أخرجه الترمذي موصولاً، ورواه موقوفاً، وقال: الموقوف أصح. وأخرجه عنها الدارقطني في أوائل كتاب الحدود (3/84) . وأخرجه عنها البيهقي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات (8/238) . وأخرجه عنها الحاكم في المستدرك، في كتاب الحدود، باب إن وجدتم لمسلم مخرجاً فخلوا سبيله (4/384) ، وقال بعد ذلك: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) . ومدار هذا الحديث على: "يزيد بن زيادة"، أحد رواة هذا الحديث قال البخاري فيه: "منكر الحديث". وقال النسائي: "متروك الحديث" وضعفه الترمذي وغيره. انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (2/749) ، و"الميزان" (4/425) . وراجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "تلخيص الحبير" (4/56) و"تيسير الوصول" (1/311) ، و"نصب الراية" (3/309) . (1) خبر القهقهة، الذي يشير إليه المؤلف: سبق تخريجه ص (895) . (2) (43) سورة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1045 خمس أواق من الورقة صدقة) على قوله: (في الرقة ربع العشر) . الحادي والعشرون: أن يكون أحدهما يجمع بينهما، والآخر يسقط أحدهما، فيكون الجمع بينهما أولى من إسقاط أحدهما بالآخر. وأما الترجيح الذي لا يعود إلى الإسناد والمتن وإنما هو إلى غيرهما فمن وجوه: أحدها: أن يكون أحدهما موافقاً لظاهر القرآن، أو موافقاً لسنة أخرى، فيقدم بذلك، ومثاله: حدث التغليس (1) يقدم على حديث الإسفار (2) ؛ لأنه يوافق قول الله تعالى:   (1) حديث التغليس بصلاة الفجر روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر (1/143) ، ولفظه: (كان نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغلس) . وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في التغليس بالفجر (1/287-288) . وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت الصبح (1/100) . وأخرجه عنها النسائي في كتاب المواقيت، باب التغليس في الحضر (1/217) . وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر (1/220) . وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الصلاة، باب التغليس في الفجر (1/221) . وأخرجه عنها الامام الشافعي في كتاب الصلاة، باب وقت الصبح (1/50) . وأخرجه عنها الطيالسي في كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الصبح (1/73) . وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة باب الوقت الذي يصلى فيه الفجر.. (1/176) . (2) حديث الإسفار بصلاة الفجر، رواه رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر (1/289) = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1046 (حَافظُوا على الصلَوَاتِ) (1) . وقوله تعالى: (سَارِعُوا إلَى مَغْفِرَة مِنْ ربِكُمْ) (2) ، ويوافقه أيضاً قول النبي صلى الله عليه [وسلم] : (أول الوقت رضوان الله) (3) ،   = وقال: (حديث حسن صحيح) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب في وقت الصبح (1/100) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب المواقيت، باب الإسفار (1/218) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر (1/221) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الإسفار بالفجر (1/221) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب وقت الصبح (1/50-51) . وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار (1/74) . وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب الوقت الذي يصلى فيه الفجر (1/178) . (1) (238) سورة البقرة. (2) (133) سورة آل عمران. (3) هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل (1/321) ، ولفظه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوقت الأول من الصلاة من رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله") . وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك، في كتاب الصلاة. باب في مواقيت الصلاة (1/189) ولفظه: ( ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الأعمال الصلاة في أول وقتها") ، ثم قال بعد ذلك: (ويعقوب بن الوليد -أحد رواة الحديث- هذا شيخ من أهل المدينة، سكن بغداد، وليس من شرط هذا الكتاب، إلا أنه شاهد عن عبيد الله) ، وتعقبه الذهبي بقوله: (يعقوب كذاب) . وأخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى"، في كتاب الصلاة، باب الترغيب في التعجيل بالصلاة في أوائل الأوقات (1/435) ، ثم قال بعد ذلك: (قال الشيخ: هذا حديث يعرف بيعقوب بن الوليد المدني، ويعقوب. منكر الحديث، ضعفه = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1047 وقوله: (أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها) (1) ، ومثل قوله: (لا نكاح إلا بوليّ) ، فيرجح على قوله: (ليس للولي مع الثيب أمر) ، بحديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) . فإن كان مع أحدهما ظاهر القرآن، ومع الآخر ظاهر سنة أخرى، فأيهما أولى؟ فنقل محمد بن أشرس: أن أحمد رحمه الله سئل عن الحديث إذا كان صحيح الإسناد، ومعه ظاهر القرآن، ثم جاء حديثان صحيحان   = يحيى بن معين، وكذبه أحمد بن حنبل، وسائر الحفاظ، ونسبوه إلى الوضع، نعوذ بالله من الخذلان، وقد روى بأسانيد كلها ضعيفة) . وقد أخرج الدارقطني في "سننه" في كتاب الصلاة، باب فضل الصلاة في أول وقتها (1/246-250) عن جرير بن عبد الله، وعن أبي محذورة، وعن أنس رضي الله عنهم، وكلها لا تخلو من علة قادحة، ولمزيد من الاطلاع إرجع إلى السنن المذكورة، وإلى "نصب الراية" (1/242-244) ، و"تلخيص الحبير" (1/180-181) . (1) هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أم فروة -رضي الله عنها- في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل (1/319-320) لفظه: (قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول وقتها") . ثم قال بعد ذلك: (حديث أم فرود لا يروى إلا من حديث عبد الله بن عمر العمري، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث، واضطربوا عنه في هذا الحديث، وهو صدوق. وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد من قبل حفظه) . وأخرجه عنها الحاكم في "المستدرك" في كتاب الصلاة، باب في مواقيت الصلاة (1/189) . كما أخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وقال: (هو صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وله شواهد في هذا الباب) . راجع في هذا ايضاً: "تلخيص الحبير" (1/181) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1048 خلافه، أيما أحب إليك؟ فقال: الحديثان أحب إليّ إذا صحا. وهذا مبني على أصل قد تقدم، وهو إذا تقابل لفظ القرآن ولفظ السنة، ويمكن بناء كل واحد منهما على الآخر، هل تقدم السنة أو القرآن؟ فقد حكينا خلافاً في المذهب، فكذلك ها هنا. الثاني: أن يروى معنى أحدها بألفاظ مختلفة من وجوه أخر، مثل ما قدمنا حديث لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله) ، وقوله: (أفضل [الأعمال] الصلاة في أول وقتها) ، وقوله: (إن أحدكم ليصلي الصلاة، وقد ترك من أول الوقت ما هو خير له من أهله وماله) (1) . ْالثالث: أن يكون أحدهما موافقاً للقياس، مثل قوله عليه السلام: (ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة) (2) ، فيقدم على حديث   (1) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب فضل الصلاة في أول وقتها (1/248) . قلت: وفي إسناده: "إبراهيم بن الفضل المخزومي" قال فيه النسائي وجماعة: "متروك" وقال ابن معين: "ضعيف لا يكتب حديثه" وقال مرة: "ليس بشيء". انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (1/22) ، و"الميزان" (1/52) . (2) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في عبده صدقة (2/142) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الزكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه (2/675-676) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب صدقة الرقيق (1/369) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الخيل (5/25) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1049 فورك السعدي؛ لأن ما لا تجب الزكاة في ذكوره لا تجب في إناثه، قياساً على الحمير والبغال وسائر الحيوانات التي لا زكاة فيها. الرابع: أن يكون مع أحدهما حديث مرسل؛ لأن مجيئه من طريق مسند ومرسل أقوى له. الخامس: أن يكون أحدهما عمل به الأئمة الأربعة، كما قدمنا رواية من روي في تكبيرات العيدين سبعاً وخمساً (1) على رواية من روى أربعاً، كأربع الجنائز (2) ؛ لأنه عمل به أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في مواضع:   = وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء ليس في الخيل والرقيق صدقة (3/14-15) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب صدقة الخيل والرقيق (1/579) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب ما لا تجب فيه الصدقة من الحيوان (1/322-323) . وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الرقيق والخيل والعسل (2/137) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الزكاة، باب جامع الأشياء التي ليس فيها زكاة (1/239-240) . وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في الخيل والرقيق والعسل.. (1/173-174) . وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الزكاة باب الخيل السائمة هل فيها صدقة أم لا؟ (2/29) . (1) التكبير في صلاة العيدين في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، سبق تخريجه ص (1037) . (2) التكبير في صلاة العيدين أربعاً في الأولى والثانية، سبق تخريجه ص (1039) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1050 فقال في رواية صالح: رويَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (توضؤوا مما مست النار) (1) ، وروي أنه نهس (2) عظماً وصلى ولم يتوضأ (3) ، فنظر إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لم يتوضئوا مما مست النار، فقد تكافأت (4) الرواية فيه.   (1) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار (1/273) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب التشديد في ذلك (1/44) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مما غيرت النار (1/114) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيرت النار (1/87) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيرت النار (1/163) . وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما مست النار والرخصة في ذلك (1/58) . (2) في الأصل: (أنهش) . (3) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق (1/60-61) بلفظ (أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار (1/273) بمثل لفظ البخاري. وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في ترك الوضوء مما مست النار (1/43) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما غيرت النار (1/90) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك (1/164) . وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما مست النار والرخصة في ذلك (1/59) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/419) عن ضباعة، ولفظه (نهس لحماً، وصلى، ولم يتوضأ) . (4) في الأصل: (تكافت) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1051 وكذلك نقل أبو الحارث عنه في الحديثين المختلفين، وهما جميعاً بإسناد صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ينظر إلى ما عمل به الأئمة الأربعة، فيعمل به. وكذلك نقل الفضل بن زياد في الحديثين بإسناد صحيح: ينظر إلى ما عمل أو ما قال الخلفاء بعده [158/ب] ، يعني: أبا بكر وعمر. فإن اقترن بأحدهما عمل أهل المدينة، لم يقدم به، خلافاً لأصحاب الشافعي في قولهم: يقدم به، وذكروا ذلك في حديث الترجيع (1) في الأذان (2) ، وأنه يقدم على غيره؛ لأنه عمل به أهل المدينة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.   (1) الترجيع في الأذان: إعادة الشهادتين بصوت عال بعد ذكرهما بصوت منخفض. (2) حديث الترجيع في الأذان رواه أبو محذورة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان (1/366) ، وقال: "حديث صحيح". وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأذان، باب كم الأذان من كلمة، وباب كيف الأذان؟ (2/5-6) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان؟ (1/117) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأذان، باب الترجيح في الأذان (1/234) . وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الترجيع في الأذان (1/116) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/409) . وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكار أذان أبي محذورة (1/233-235) ، وذكر اختلاف الروايات في ذلك. وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب حديث أبي محذورة في صفة الأذان (1/57) . وأخرجه عنه البيهقي في كتاب الصلاة، باب الترجيع في الأذان (1/393) . وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار"، في كتاب الصلاة، باب الأذان كيف هو؟ (1/130) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1052 وكذلك إن اقترن به عمل الكوفة، لم يقدم به، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني في أصوله: أنه يقدم بعمل أهل الكوفة إلى زمن أبي حنيفة، قبل ظهور البدع؛ لأن أمراء بني مروان غَلَبوا على المدينة والكوفة، وكان فيهم تغير شيء من الشريعة، وإنما لم نرجح بذلك؛ لأنه بلد من البلاد، فلم يرجح نقل أهله كسائر البلاد. السادس: أن يقترن، بأحدهما تفسير الراوي، كما قدمنا ما روى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أيما رجل أَعمر عمْرى له ولعقبه، فإنها للذي يعطاها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه اعطى عطاء ووقعت (1) فيه المواريث) (2) على رواية (من أَعمر عمرى فهي له، ولعقبه، يرثها من يرثه من عقبه) (3) ، كما روى معمر عن الزهري عن   (1) في الأصل: (وقت) ، والتصويب من مراجع تخريج الحديث الآتي ذكرها. (2) حديث جابر - رضي الله عنه - هذا، أخرجه مسلم عنه في كتاب الهبات، باب العُمْرى (3/1245) . وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب من قال فيه: ولعقبه (2/264) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب العمرى، باب ذكر الاختلاف على الزهري فيه (6/234) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في العمرى (3/623) . وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الشفعة واللقطة، باب العمرى والرقبى (2/217) . وراجع أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/71) ، و"نصب الراية" (4/127-129) ، و"تيسير الوصول" (3/23) . (3) أخرجه عن جابر رضي الله عنه بهذا اللفظ أبو داود في كتاب البيوع، باب في العمرى (2/263) . وأخرجه عنه بهذا اللفظ النسائي في كتاب العمرى، باب ذكر الاختلاف على الزهري فيه (6/232) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1053 أبي سلمة (1) عن جابر بن عبد الله أنه قال: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما اذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) (2) . وكذلك حملنا التفرق على التفرق بالبدن، لما روي عن ابن عمر أنه كان إذا اراد أن يوجب البيع مشى قليلاً ثم رجع، وقال أبو بردة: لا أراكما تفرقتما. وكذلك رجع أحمد رحمه الله الى تفسير ابن عمر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فاقدروا له، وأنه كان يتراءى الهلال، فإن كانت السماء ذات غيم أصبح صائماً، وإن كانت ذات صحو أصبح مفطراً، إذا لم ير الهلال) (3) . قال أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار في الجزء الذي فيه المناولة والإجازة حدثنا العباس بن محمد بن حاتم بن واقد الدوري (4) حدثنا روح   = وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الهبة والهدية، باب ما جاء في العمرى (1/281) ، ولفظه: (من أعمر عمرى، فهي له ولعقبه من بعده) . (1) هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. "ثقة مكثر". مات سنة (94) هـ. التقريب (2/430) . (2) حديث جابر - رضي الله عنه - هذا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الهبات، باب العمرى (3/1246) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب من قال فيه: ولعقبه (2/264) . راجع في هذا أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/71) ، و"نصب الراية" (4/128) ، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (501) . (3) سبق تخريجه ص (124) . (4) أبو الفضل البغدادي. أحد الحفاظ المشهورين. روى عن أبي داود الطيالسي وشبابة بن سوار، وخلق. وعنه النسائي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وخلق. وثقه النسائي. أخذ الجرح والتعديل عن يحيى بن معين. مات سنة (271هـ) وله من العمر ثمان وثمانون سنة. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1054 ابن عبادة (1) حدثنا داود بن قيس (2) عن محمد بن عمرو بن عطاء (3) قال كان موسى بن يسار (4) جالساً معنا، فقال له ابن عمر: يا موسى بن   = له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (12/144) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/575) ، و"الخلاصة" ص (160) ، و"طبقات الحفاظ" ص (257) . (1) أبو محمد القيسي البصري. ثقة حافظ. روى عن شعبة وحسين المعلم وخلق. وعنه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وخلق. كان كثير الحديث. صنف الكتب في التفسير والحديث والأحكام. مات سنة (205هـ) . له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (8/401) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/349) و"الخلاصة" ص (101) ، و"شذرات الذهب" (2/13) ، و"ميزان الاعتدال" (2/58) . (2) أبو سليمان، القرشي بالولاء، المدني الدباغ، روى عن عمرو بن شعيب وإبراهيم ابن حنين. وعنه القعنبي وابن وهب وغيرهما. وثقه أبو حاتم. مات قبل سنة (160هـ) على ما قيل. له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (3/198) ، و"الخلاصة" ص (110) طبعة بولاق. (3) أبو عبد الله القرشي العامري المدني. روى عن أبي هريرة وأبي حميد وغيرهما وعنه يزيد بن أبي حبيب ومحمد بن عمرو بن حلحلة وغيرهما. وثقه ابن سعد. مات في آخر ولاية هشام. له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (9/373) ، و"الخلاصة" ص (354) طبعة بولاق. (4) المطلبي بالولاء، المدني. روى عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروى عنه ابن أخيه محمد بن إسحاق وعبيد الله بن عمر العمري وغيرهما. وثقه ابن معين. وذكره ابن حبان في "الثقات". له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (10/377) ، و"الخلاصة" ص (393) طبعة بولاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1055 يسار إذا فرغت من حديثك، فسلم، فإنك في صلاة. قال: وحدثنا العباس بن محمد الدوري أيضاً قال: حدثنا موسى بن داود (1) حدثنا ابن لهيعة عن حنين بن أبي حكيم (2) عن نافع (3) عن ابن عمر قال: من أراد حفظ الحديث فليردده ثلاثاً (4) .   (1) أبو عبد الله الضبي الخلقاني الكوفي الطرسوسي. ولي قضاء الثغور. روى عن شعبة وابن الماجشون وغيرهما. وعنه الإمام أحمد وعباس الدُّوري وخلق. وثقه الدارقطني. وقال أبو حاتم: "في حديثه اضطراب". مات سنة (217هـ) . له ترجمة في: "الخلاصة" ص (390) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/683) ، و"الميزان" (4/204) . (2) في الأصل: (ابن أبي حاتم) ، وهو خطأ. والتصويب من مراجع الأثر الآتي ذكرها. وهو: حنين بن أبي حكيم شيخ لابن لهيعة. روى عن مكحول وعلي بن رباح وغيرهما. وعنه الليث وعمرو بن الحارث وابن لهيعة. وثقه ابن حبان. وقال ابن عدي: "لا أعلم روى عنه غير ابن لهيعة، فلا أدري البلاء منه، أو من ابن لهيعة؛ لأن أحاديثه غير محفوظة، ولا يكاد يعرف". وقال الذهبي: "ليس بعمدة". وقال: "ليس بحجة، ولا يكاد يعرف". له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/198) ، و"الميزان" (1/621-622) . (3) هو: نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر. روى عن ابن عُمَر وأبي لبابة وأبي هريرة رضي الله عنهم، وعنه مالك وابن جريج وخلق. قال البخاري: "أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر". مات سنة (120هـ) ، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/99) ، و"تهذيب الأسماء" (2/123) ، و"تهذيب التهذيب" (10/413) ، و"الخلاصة" ص (343) ، و"شذرات الذهب" (1/154) ، و"طبقات الحفاظ" ص (40) . (4) هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله عنه، أخرجه عنه بسنده الدارمي في مقدمة "سننه"، باب مذاكرة العلم (1/120) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1056 باب الإِجماع الإِجماع (1) في اللغة: ما اجتمع القوم عليه، سواء كانوا ممن تثبت الحجة بقولهم أو لا تثبت (2) . وهو في الشرع: عبارةٌ عمن تثبت الحجة بقوله (3) . وسمي إجماعاً؛ لاجتماع الأقوال المتفرقة [159/أ] والآراء المختلفة.   (1) راجع هذا الباب في: أصول الجصاص الورقة (215) والتمهيد في أصول الفقه (3/224) ، وروضة الناظر ص (67) وشرح مختصرها للطوفي الجزء الثاني الورقة (39) وشرح الكوكب المنير (2/210) والمختصر لابن اللحام ص (74) والمسودة ص (315) . (2) هذا أحد معنيي "الإجماع" في اللغة، الذي يعبر عنه بالاتفاق، وهو الذي يتناسب مع المعنى الاصطلاحى عند الأصولين. (3) هذا إشارة إلى تعريف الإِجماع عند الأصوليين، والعبارة وصف للمجمعين لا للإجماع، ولو عبر بقوله: عبارة عن اتفاق من تثبت الحجة بقولهم، لكان أولى. وقد سبق للمؤلف في مقدمة كتابه هذا ص (170) أن عرف الإجماع بقوله: (اتفاق علماء العصر على حكم النازلة) ، وهو تعريف غير سليم؛ لأنه غير مانع، فقوله: (علماء العصر) يشمل المسلمين وغيرهم، كما يشمل المجتهدين وغيرهم. وعرفه تلميذ المؤلف أبو الخطاب في كتابه التمهيد (3/224) بقوله: (الاتفاق من جماعة على أمر من الأمور، إما فعل أو ترك) . وهر تعريف غير سليم أيضاً؛ لأنه غير مانع، فالجماعة تشمل المسلمين وغيرهم، كما تشمل المجتهدين وغيرهم، وهي مشعرة باتفاق بعضهم، والاجماع لا يكون إلا باتفاقهم كلهم. وهذا التعريف لأبي الحسين البصري، كما في المعتمد (2/457) . والتعريف الذي أرتضيه هو تعريف ابن السبكى في كتابه "جمع الجوامع" (1/176) مطبوع مع حاشية البناني حيث قال: (إتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر على أي أمر كان) . وهناك تعريفات كثيرة تزيد أو تنقص عن التعريف الذي ذكرته، حسب ما يراه المعرف. ومن أجل الوقوف على بعض تلك التعريفات أرجع إلى: الإحكام للآمدي (1/179) وإرشاد الفحول ص (71) وشرح العضد (2/29) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1057 وقيلِ: سُمِّي بذلك من القطع وإمضاء الرأي وتنفيذه، ومنه قوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا أمْرَكَم (1)) أي: اعزموا (2) . مسألة (3) الإِجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته (4) ، ولا يجوز أن تجتمع الأمَّةُ على الخطأ.   (1) (71) من سورة يونس. (2) هذا إشارة إلى المعنى اللُّغوي الثاني للإِجماع، وقد صرح الفخر الرازي في كتابه المحصول (4/19) بأن الإجماع مشترك بين المعنيين: أي العزم والاتفاق. وهذا ما يؤكده الأزهر في كتابه تهذيب اللغة (1/396) فقد نقل عن الفراء قوله: (الإجماع: الإعداد والعزيمة على الأمر..) كما نقل عن غيره قوله: ( ... وكذلك يقال: أجمعتُ النَّهبَ، والنهب: إبل القوم التى أغار عليها اللصوص، فكانت متفرقة في مراعيها فجمعوها من كل ناحية حتى اجتمعت لهم، ثم طردوها وساقوها) . ثم نقل عن بعضهم قوله: (جمعت أمري. والجمع: أن تجمع شيئاً إلى شىء. والإجماع: أن تجعل المتفرق جميعاً) . ومن هذا يتبين بجلاء: أن الإجماع يطلق على المعنيين في أصل اللغة، فيعتبر من قبيل المشترك. (3) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (215/ب) والتمهيد (3/242) وروضة الناظر ص (67) وشرح مختصرها للطوفي الجزء الثاني الورقة (40/1) وشرح الكوكب المنير (2/214) والمختصر لابن اللحام ص (74) والمسودة ص (315) . (4) لو أعاد الضمير مذكراً بأن قال: الإِجماع حجة مقطوع عليه، يجب المصير إليه، وتحرم مخالفته أو ذكره مؤنثاً في المواضع الثلاثة لكان أولى؛ لأن عدم ذلك أحدث خللاً في الأسلوب. وبمراجعة كتاب المسودة ص (315) وجد النص كما هو في الأصل، غير أن المحقق ذكر في الهامش أن نسخة (د) من كتاب المسوَّدة فيها: (الإِجماع حجة قطعية ... ) . ورُبما قيل: مقطوع عليه ويصار إليه لكونه حجّة، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1058 وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية عبد الله وأبي الحارث: "في الصحابة إذا اختلفوا لم يُخْرَج من أقاويلهم، أرأيت إن أجمعوا، له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث، قول أهل البدع، لا ينبغي (1) أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا" (2) . وقد علق القول في رواية عبد الله فقال: "من ادعى الإِجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المَرِّيسي (3) والأصم (4) ، ولكن [يقول] : لا نعلم، [لعل] الناس اختلفوا ولم يبلغه" (5) .   = فلذلك جاء التأنيث، وتحرم مخالفته لكونه إجماعاً، فلذلك جاء التذكير، إذ الأمة لا تجتمع على باطل. (1) في المسودة ص (315) .. (لا ينبغى لأحد) . (2) هذه الرواية منقولة بنصها في المسوَّدة في الموضع السابق. (3) هو: بشر بن غياث بن أبي كريمة، أبو عبد الرحمن المريسى، بفتح الميم وتخفيف الراء، نسبة إلى "مَرِيس"، بفتح الميم وكسر الراء قرية بمصر أو بفتح الميم وتشديد الراء نسبة إلى "مَرِيسة" وإليه ينسب درب "المَريسي" ببغداد. وهو معتزلي، رُمي بالزندقة، يقول بالإِرجاء، وإليه تنسب الفرقة "المريسية" مات ببغداد سنة (218) وله سبعون سنة تقريباً. انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (7/56) ولسان الميزان (2/29) والمغني في الضعفاء (2/916) وميزان الاعتدال (1/322) . (4) هو عبد الرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصم. من كبار المعتزلة. اشتغل بالفقه والتفسير. وله مقالات في الأصول. مات نحو (225هـ) . له ترجمة في: طبقات المفسرين للداودي (1/269) وفضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص (268) ولسان الميزان (3/427) . (5) نص الرواية مشوش، ولذلك حاولنا تقويمه بما ترى. والرواية موجودة في مسائل عبد الله التى رواها عن أبيه أحمد بن حنبل ص (438-439) ونصها: (سمعت أبي يقول: ما يدعى الرجل فيه الإِجماع، هذا الكذب، من ادعى الإجماع فهو = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1059 وكذلك نقل المروذي عنه: أنه قال: "كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا إذا سمعتهم يقولون: أجمعوا فاتهمهم، لو قال: إني لم أعلم لهم مخالفاً جاز" (1) . وكذلك نقل أبو طالب عنه: أنه قال: "هذا كذب، ما علمه (2) أن الناس مجمعون، ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافاً، فهو أحسن من قوله: إجماع الناس". وكذلك نقل أبو الحارث: "لا ينبغي لأحد أن يدعي الإِجماع، لعل الناس اختلفوا" (3) . وظاهر هذا الكلام أنه قد منع صحة الإِجماع، وليس ذلك على ظاهره، وإنما قال هذا على طريق الورع، نحو أن يكون هناك خلاف لم يبلغه. أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأنه قد أطلق القول بصحة الإِجماع في رواية عبد الله وأبي الحارث (4) . وادعى الإِجماع في رواية الحسن بن ثواب، فقال: "أذهب في التكبير من غداة يوم   = (كذب) ، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المَريسي والأصم، ولكن يقول: لا يعلم، الناس يختلفون، أو لم يبلغه ذلك، ولم ينته إليه فيقول: لا يعلم، الناس اختلفوا) . (1) الرواية هذه منقولة بنصها مع اختلاف يسير في المسوَّدة ص (315) . (2) في المسودة ص (316) : (ما أعلمه) . وهو الصحيح وما في الأصل تصحيف. (3) هذه الرواية والتي قبلها منقولتان بالنص في المسوَّدة ص (315-316) . (4) ذكر المؤلف هنا تخريجين لكلام الإِمام أحمد في هذا الموضع. ولكن شيخ الاسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (316) يحمل إنكار الإِمام أحمد على إجماع من بعد الصحابة، أو بعدهم وبعد التابعين، أو بعد القرون الثلاثة المحمودة. والقول بأن الإجماع خاص بإجماع الصحابة هو رأي الطوفي الحنبلي في شرحه على مختصر الروضة الجزء الثاني الورقة (40/أ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1060 عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شيء تذهب؟ قال: بالإِجماع (1)   (1) الرواية موجودة بنصها في المسوَّدة ص (316) وقريب منه ما في كتاب المغني (2/294) وفي كتاب الكافي (1/236) ولم يذكر فيهما من نقلها عن الإِمام أحمد. وجاء في مسائل الإِمام أحمد رواية ابن هانيء النيسابوري (1/4) وقد سئل عن التكبير في أيام التشريق، فقال: (من صلاة الصبح يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق يكَبّر العصر ولا يُكبر المغرب. وفي مسائل الامام أحمد رواية ابنه عبد الله ص (241) . (يبدأ بالتكبير يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، يكبر في العصر، ويقطع، وهو قول علي، وذلك في الأمصار. وقد يقول بعض الناس: إنما يكبر الناس بمنى إذا رموا الجمرة، وإذا ترك التلبية بدأ في الظهر من يوم النحر لا يجمع التكبير والتلبية؛ لأنه إذا رمى الجمرة يوم النحر فقد انقطعت التلبية، فيبدأ بالتكبير في الظهر من يوم النحر) . وقريب من ذلك ما رواه أبو داود في المسائل التى نقلها عن الإمام أحمد ص (61) . ويلاحظ: أن كتب المسائل الثلاثة المذكورة ليس فيها السؤال عن دليل الإِمام أحمد فيما ذهب إليه، ولا احتجاجه بالإجماع. وحكاية الإِجماع هذه غير مسلمة للأمور الآتية: الأول: ما نقله ابن قدامة في المغنى (2/393) عن ابن مسعود -وهو أحد من اعتمد عليه الإِمام في الإِجماع-: أنه كان يكبر من غداة يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر. ومثل ذلك نقله ابن حزم في المحلى (5/134) . ومثله نقله ابن أبي شيبة في كتاب الصلوات، باب التكبير من أي يوم هو إلى أي ساعة (2/165) . وأخرجه كذلك أبو يوسف في كتابه الآثار في كتاب الصلاة باب صلاة العيدين ص (60) . وهذا مخالف لما ذكره الإِمام أحمد عن ابن مسعود. الثاني ما نقله ابن قدامة- أيضاً- في كتابه المذكور عن ابن عمر: أن التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق. والنقل عنه كذلك في المحلى (5/135) . وكذلك أخرج عنه البيهقى في سننه في كتاب صلاة العيدين باب من = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1061 عمر (1) وعلي (2) وعبد اللَّه بن   = قال يكبر في الأضحى خلف صلاة الظهر من يوم النحر (3/313) . وأخرج البيهقي مثله عن زيد بن ثابت. وأخرج الدارقطني في سننه في كتاب العيدين (2/50-51) عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري -رضى الله عنهم- (أنهم كانوا يكبرون في صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق، يكبرون في الصبح ولا يكبرون في الظهر) . الثالث: ما رواه أبو داود في مسائله ص (61) حيث قال: (سمعت أحمد مرة أخرى سئل عن التكبير أيام التشريق؟ قال: من حين يرمون الجمرة إلى أن يرجع الناس من منى ... ) فهذه الرواية جعلت المدة تبدأ من بعد رمي جمرة العقبة بينما الرواية التى حكى الإِجماع عليها جعلت بداية المدة غداة يوم عرفة، ولم يفرق الإِمام أحمد بين الحاج وغيره. فكيف يقع الإِجماع مع اختلاف النقل عن ابن مسعود وابن عباس مع نقل مخالفة ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري لما ذكره المؤلف. والله أعلم. راجع في تلك الآثار أيضاً: نصب الراية (2/222-223) وزاد المعاد (1/449) مع الهامش. (1) هذا الأثر أخرجه البيهقى في سننه في كتاب صلاة العيدين، باب من استحب أن يبتدئ بالتكبير خلف صلاة الصبح من يوم عرفة (3/314) ولفظه (كان عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- يكبر بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق،) ثم ساق البيهقى بعد ذلك رواية مفادها: أن عمر يرى التكبير إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات، باب التكبير من أي يوم هو إلى أيّ ساعة (2/166) . وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب العيدين (1/299) . (2) هذا الأثر أخرجه البيهقى في سننه في كتاب صلاة العيدين، باب من استحب أن يبتدئ بالتكبير خلف صلاة الصبح من يوم عرفة (3/314) ولفظه: (كان علي = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1062 مسعود (1) ، وعبد الله بن عباس" (2) . وهذا قول جماعة الفقهاء والمتكلمين (3) .   = - رضي الله عنه - يكبر بعد صلاة الفجر غداة عرفة، ثم لا يقطع حتى يصلى الإِمام من آخر أيام التشريق، ثم يكبر بعد العصر) . كما روي عنه قبل ذلك وفيه: (إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق) . وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات، باب التكبير من أي يوم هو إلى أي ساعة (2/165) ، ولفظه قريب من لفظ البيهقي. وأخرجه عنه أبو يوسف في كتابه الآثار، في كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين ص (60) وفيه: (إلى بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق) . وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب العيدين (1/299) . (1) هذا الأثر أخرجه عنه الحاكم في مستدركه في كتاب العيدين (1/300) وانظر: إرواء الغليل للألباني (3/125) . (2) هذا الأثر: أخرجه عنه البيهقى في كتاب صلاة العيدين، باب من استحب أن يبتدىء بالتكبير خلف صلاة الصبح من يوم عرفة (3/314) بلفظ: (كان يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق) كما أخرجه بمثله وزاد: (يكبر في العصر ويقطع في المغرب) وبلفظ: (إلى آخر أيام التشريق) بدون ذكر (صلاة العصر) . وأخرجه أيضاً في باب كيف التكببر؟ (3/315) بلفظ: (يكبر من غداة عرفة إلى آخر أيام النفر، لا يكبر في المغرب) . وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب العيدين (1/299) . وذكره الحافظ ابن حجر في كتابه المطالب العالية، في كتاب الصلاة باب صلاة العيدين (1/186) . وكلام المؤلف من أول الباب إلى هنا منقول بنصه في المسوَّدة ص (315-316) . (3) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/457-458) والبرهان لإمام الحرمين (1/670-675) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1063 وحُكي عن إبراهيم النَّظَّام (1) : أن الإِجماع ليس بحجة، وأنه يجوز اجتماع الأمة على الخطأ (2) . وحُكِي عن الرافضة: أن الإِجماع ليس بحجة، وأن قول الإِمام وحده حجة (3) . دليلنا: قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبيَّن لَهُ الْهُدَى، وَيَتَّبع غَيْرَ سَبِيلِ المُؤمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَىَّ، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (4) . فوجه الدلاَلَة: أن الله تعالى توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، فدل على أن أتباع سبيلهم واجب. فإن قيل: هذا احتجاج من دليل الخطاب، ونحن لا نقول به. قيل: دليل الخطاب عندنا حجة، ونحن نبني فروعنا على أصولنا.   (1) هو: إبراهيم بن سيار بن هانيء النظام، أبو إسحاق البصري المعتزلي ابن أخت أبي الهذيل العلاف. له آراء شاذة عرف بها، وتبعه فيها ناس، فسموا بالنظامية. كان ذكيا فصيحاً. له ترجمة في: تاريخ بغداد (6/67) وفضل الاعتزال ص (264) واللباب (3/316) والنجوم الزاهرة (2/234) . (2) حكى ذلك عنه أبو الحسين البصري في المعتمد (2/458) . (3) وضح ذلك القاضى النعمان بن محمد الإِسماعيلي في كتابه اختلاف أصول المذاهب ص (81-136) وذكر كثيراً من النصوص التي استدل بها العلماء على حجية الإِجماع، ووجهها لنصرة مذهبه. وما ذكره المؤلف هنا ذكره أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/458-459) حيث قال: (وقالت الإِمامية: ذلك صواب؛ لأن الإِمام داخل فيهم، وهو الحجة فقط) . (4) الآية (115) من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1064 وعلى أن هذا ليس بدليل الخطاب (159/ب) ، وإنما هو احتجاج بتقسيم عقلي؛ لأنه ليس بين اتباع غير سبيلهم (1) وبين اتباع سبيلهم قسم ثالث، وإذا حرّم الله تعالى اتباع غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم. فإن قيل: (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) في الأقوال مجاز، وإنما السبيل هو: الطريق. قيل: الأصل في الاستعمال الحقيقة، وقد استعمل فيهما، فوجب أن يكون حقيقة فيهما (2) . وعلى أنه لو كان مجازاً، لكان إذا كثر الاستعمال فيه، جرى مجرى الحقيقة.   (1) في الأصل: (سبيل) . (2) ظاهر كلام ابن فارس في كتابه: معجم مقاييس اللغة (3/129-130) أن السبيل حقيقة في الحسيات حيث يقول: (سبل: السين والباء واللام أصل واحد، يدل على إرسال شيء من علو إلى سفل، وعلى امتداد شيء، فالأول من قيلك: أسبلت الستر.. والممتد طولاً: السبيل، وهو الطريق، سمي بذلك لامتداده..) . وبمراجعة كتاب تهذيب اللغة للأزهري (12/436) ولسان العرب (3/340) والقاموس المحيط (3/392) مادة "سبل" وجد أنهم يعبرون عن "السبيل" بالطريق، ولكن عند التمثيل يطلقون "السبيل" على الطريق حسية أو معنوية، بدون إشارة إلى الحقيقى والمجازي في ذلك. وفي ذلك يقول الرازي في كتابه المحصول (4/54) : (سلمنا: حظر اتباع غير سبيلهم مطلقاً، لكن لفظ "السبيل" حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشى، وهو غير مراد -ها هنا- بالاتفاق، فصار الظاهر متروكاً، فلا بُدّ من صرفه إلى المجاز، وليس البعض أولى من البعض، فتبقى الآية مجملة) . وفي ص (77) يقول: (قوله السبيل: هو الطريق الذي يحصل المشي فيه، قلنا: لا نسلم؛ لقوله تعالى: (قل هذه سبيلى) وقوله (ادع إلى سبيل ربك) سلمناه، لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك غير مراد -ها هنا- ولا نزاع في أن أهل اللغة يطلقون لفظ: "السبيل" على ما يختاره الإنسان لنفسه في القول والعمل. وإذا كان ذلك مجازاً ظاهراً، وجب حمل اللفظ عليه، لأن الأصل عدم المجاز الآخر) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1065 والاستعمال في القول مثل الاستعمال في الطريق إذا كثر، قال الله تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (1) ، وقال: (مَنْ هُوَ أهْدَى سَبِيلاً) (2) ، (وَأضَلُّ سَبِيلاً) (3) ، (وَلَنْ يَجْعَلَ اْللَّهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤمِنِينَ سَبِيلاً) (4) ، ويقال: سبيل المعروف، وسبيل الوقوف، وما أشبه هذا مما يكثر   = وقد أورد الإسنوي في كتابه نهاية السول (3/865) بعض الاعتراضات على وجه الاستدلال من الآية، منها: (الرابع: لا نسلم أن "السبيل" هو قول أهل الإِجماع، بل دليل الإِجماع، وبيانه: أنَّ السبيل لغة هو: الطريق الذي يُمْشَى فيه وقد تعذرت إرادته هنا، فتعين الحمل على المجاز وهو إما قول أهل الإِجماع، أو الدليل الذي لأجله أجمعوا والثاني أولى؛ لقوة العلاقة بينه وبين الطريق، وهو كون كل واحد منهما موصلاً إلى المقصد. وأجاب المصنف بأن "السبيل" أيضاً يطلق على الإِجماع؛ لأن أهل اللغة يطلقونه على ما يختاره الإِنسان من قول أو فعل، ومنه قوله تعالى: (قل هذه سبيلى) وإذا كان كذلك فحمله على الإِجماع أولى لعموم فائدته، فإن الإِجماع يعمل به المجتهد والمقلِّد، أما الدليل فلا يعمل به سوى المجتهد) . ومن هذا العرض يتضح: أولاً: أن "السبيل" يستعمل حقيقة في الطريق التى يُمْشَى فيها. ثانياً: أن "السبيل" يستعمل في الأقوال، فقيل على سبيل الحقيقة، وقيل على سبيل المجاز، وهو الذي يؤيده ما نقلناه عن ابن فارس في معجم مقاييس اللغة حيث حصر الحقيقة في أصل واحد. ويؤيده أيضاً ما جاء في أساس البلاغة للزمخشري (1/420-421) حيث قال: (ومن المجاز ... والزم سبيل الله خير السبيل ... ) . فقد صرح أن ذلك من باب المجاز. (1) آية (108) من سورة يوسف. (2) آية (84) من سورة الإسراء. والآية في الأصل (من أهدى سبيلاً) بدون الضمير، وهو خطأ ظاهر. (3) آية (72) من سورة الاسراء. (4) آية (141) من سورة النساء والآية في الأصل: (ولم) بدل (ولن) ، وهو خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1066 تعداده. وهذا بمنزلة المذهب الذي هو حقيقة في الطريق وفي القول والاعتقاد (1) . فإن قيل: الذي تعلق بمشاقة الرسول وباتباع غير سبيل المؤمنين، فثبت أنه لا يتعلق بأحدهما على الانفراد. قيل: مشاقة الرسول محرمة بانفرادها، وإن لم يكن هناك مؤمن، فدلَّ على أن التوعد على كل منهما بانفرادِه، وهذا مثل قِوله تعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلهاً آخَرَ وَلاَ يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بالْحَق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (2) ، فجمع بين هذه الأفعال في الوعيد، وكان منصرفاً إلى كل واحد منهما (3) .   (1) يقول الأزهري في تهذيب اللغة (6/262-266) . (والمَذهَب: مصدر كالذهاب) . ويقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (ط/362) : ( ... وبقى أصل آخر، وهو ذهاب الشيء: مُضِيه، يقال: ذَهَبَ يَذْهَبُ ذَهَابَاً وذُهوباً، وقد ذهب مَذهباً حسناً) . من هذين النصين يتبين أن المذهب، معناه: المضى في الشيء في أصل اللغة ولكنهما لم يوسعا المدلول، غير أن صاحب القاموس (1/70) يبين ذلك بصورة أوسع، حيث يقول ( .... المَذْهَبُ: المُتَوضأ والمُعْتَقد الذي يذهب إليه والطريقةُ والأصلُ) . وقريب من ذلك ما قاله صاحب المصباح المنير (1/323) ( ... وذهب مَذْهب فلان قَصَد قصْده وطريقته، وذهب في الدين مَذْهباً: رأى فيه رأياً) . فمن هذين النصين يتبين لنا: أن ما ذهب إليه المؤلف صحيح، وأن ذلك الاستعمال حقيقة. إلاَّ أن الزمخشريَّ في كتابه أساس البلاغة (1/307) يرى أن استعمال المذهب في القول والاعتقاد من باب المجاز. (2) آية (68) من سورة الفرقان. (3) في الأصل: (منهما) ، وهو خطأ؛ لأن الضمير عائد على جمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1067 وجواب آخر، وهو: أن (1) اتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن محرماً بانفراده لم يحرم مع مشاقة الرسول كسائر المباحات، ألا ترى أنه لا يجوز الجمع بين القبيح والمباح في باب الوعيد، فلما جمع تعالى بين مشاقة الرسول وبين ترك اتباع سبيل المؤمنين في الوعيد علم أن كل واحد منهما يقتضي الوعيد. فإن قيل: فالمؤمنون لا يعرفون بأعيانهم؛ فلا يصح الاحتجاج به. قيل: إذا أجمع الكل دخل المؤمنون فيهم؛ لأن من أظهر الإِيمان وجب أن يحكم بإيمانه، ولا اعتبار بما غاب عنا من اعتقاده، فإذا كان كذلك سقط السؤال. فإن قيل: ذكر (المُؤْمِنِينَ) بالألف واللام، فاقتضى جنس المؤمنين إلى يوم القيامة. قيل: لا يجوز أن يريد به جميعهم، لأن التكليف في ذلك يكون يوم القيامة ولا تكليف في الآخرة، فعلم أن المراد به بعض المؤمنين، وإذا كان المراد به البعضَ، فقد أجمعوا على أنه لم يرد ما زاد على أهل العصر، فكان (2) المراد به أهل العصر. ولأن من [160/أ] لم يخلق لا يسمى مؤمناً، ومن خلق ومات فلا يسمى مؤمناً حقيقة، وإنما كان مؤمناً. جواب آخر، وهو: أن الآية أريد بها بعض المؤمنين؛ لأنه توعد من خالف سبيلهم، فاقتضى ذلك أن يكون هناك متوعد غير الذين يخالف سبيلهم. فإن قيل: الوعيد على ترك سبيل المؤمنين فيما صاروا به مؤمنين، وهو   (1) في الأصل (أنه) وهو خطأ؛ لأن اسم (أن) ظاهر. (2) في الأصل (كان) بدون الفاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1068 التوحيد وفعل الإِيمان (1) . قيل: هذا تخصيص لعموم الآية بغير دليل. وعلى أنه لا اعتبار في ذلك بالاتباع، وإنما يجب العمل فيه بموجب الدليل،   (1) وأيدوا ذلك بأمرين: الأول: سبب نزول الآية في بشير بن أبَيْرِق المنافق لما سرق، ثم رمى بذلك لبيد بن سهل، ولما كشفَ أمره هرب إلى مكة، ولحق بالمشركين، فأنزل الله الآيات (105-116) من سورة النساء. روى ذلك قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - أخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب الحدود باب حكاية سرقة متاع رفاعة.. (4/385-388) وقال عقبه: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي. وأخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب التفسير (5/244-247) ثم قال: (هذا حديث غريب، لا نعلم أحداً أسنده غير محمد ابن سلمة الحرَّاني، وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً، لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده) . لكن كلام الترمذي غير مسلم؛ لأن الحاكم أخرجه في الموضع السابق عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان مسنداً. راجع في ذلك: أسباب النزول للواحدي ص (172) وأسباب النزول للسيوطى ص (64) والدر المنثور للسيوطي (2/214-217) وتفسير ابن الجوزي (2/190) وتفسير الطبري (9/177-189) مع هامش ص (181-182) فإن للشيخ أحمد شاكر كلاماً جيداً في ذلك. الثاني: مجيىء قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) بعد الآية المستدل بها، والشرك هو المقابل للتوحيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1069 فوجب حمله على غيره من أحكام الشرع. فإن قيل: اتباع سبيل المؤمنين: أن ينظر، ويجتهد، ويثبت الحكم من الطريق الذي أثبتوه، وإذا كان كذلك فتكون الآية حجة عليكم. قيل: النظر المؤدي إلى قولهم لا يمنع منه، وإنما يمنع من النظر المؤدي إلى خلاف قولهم؛ لأن من فعل ذلك يكون تاركاً لسبيلهم ومخالفاً لهم. وكذلك من دخل مصراً من أمصار المسلمين جاز له أن يجتهد، فإذا أدى اجتهاده إلى صحة محاريبهم (1) صلى إليها، ولا يجوز مخالفتها. فإن قيل: الوعيد إنما هو على اتباع غير سبيل المؤمنين، وأنتم تطلقون الوعيد لترك السبيل. قيل: إذا لحقه الوعيد باتباع غيرهم والعدول عنهم، ثبت أنه قد ترك واجباً، فلحقه الوعيد بالعدول عنه (2) . وطريقة أخرى: قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُم أمَّةً وسَطَاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ) (3) والوَسَطُ: العَدْلُ الخِيَار (4) .   (1) المحاريب جمع محراب، والمراد: مقام الإِمام من المسجد. القاموس مادة (حرب) (1/53) . (2) اعتمد المؤلف -رحمه الله تعالى- في معظم هذه الاعتراضات والرد عليها على كتاب أصول الجصاص الورقة (217) وعلى كتاب المعتمد لأبي الحسين البصري (2/462-469) وقد أطنب الفخر الرازي في ذكر الاعتراضات وردها، وذلك في كتابه المحصول (2/46-89) . (3) (143) سورة البقرة. (4) ذكر الزمخشري -عند تفسيره لهذه الآية (1/317) - معنيين للوسط: الأول: (وسطاً) : "خيارا"، ... وقيل للخيار: وسط؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والإِعوار، والأوساط محمية محوطة..) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1070 وهذا كما قال في آية أخرى (1) (قَالَ أوْسَطهُمْ ألمْ أقل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ) (2) يعنى: أعدلهم وخيرهم (3)   = الثاني: (وسطاً) "عدلاً"؛ لأن الوسط عدل بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض) . ويفسر ابن منظور "الوسط" في كتابه اللسان مادة "وسط" (9/306) بالعدل. ويعلل أبو السعود في تفسيره (1/172) وصفهم بذلك؛ لأنهم يتصفون بالصفات الحميدة، لا تفريط ولا إفراط، خياراً عدولاً مزكين بالعلم والعمل. ويرى الشوكاني في تفسيره فتح القدير (1/130) أنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير "الوسط" في الآية بالعدل، وساق الروايات المرفوعة في ذلك فارجع إليه إن شئت. ويقول ابن جرير الطبرى في تفسيره (2/142) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر: (إن الوسط في هذا الموضع: هو"الوسط" الذي بمعنى الجزء الذى هو بين الطرفين، مثل "وسط الدار" ... وأرى أن الله تعالى ذكره: وصفهم بأنهم: "وسط" لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوه فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به ... ) . قلت: ولا منافاة بين ما ذكره المفسرون هنا، فهم خيار عدول، وكل صفة من صفاتهم الحميدة تصح أن تكون سبباً في وصفهم بأنهم "وسط" والله أعلم. (1) في الأصل: (في روامه) وبعدها موضع كلمة مطموسة. والتصويب دل عليه السياق، دل عليه قول أبي الخطاب في كتابه التمهيد (3/254) : (وهو حجة، لنا قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُم أمة وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس وَيَكونَ الرسُولُ عَلَيكُم شَهِيداً) والوسط: الخيار العدل، بدليل قوله تعالى: (قَالَ أوْسَطُهُمْ ألم أقُل لكُم) معناه: أعدلهم) . (2) آية (28) من سورة القلم. (3) وبهذا فسره الزمخشري في الكشاف (4/145) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1071 وكما قال الشاعر: هم وَسَط يَرْضى الإِله (1) بِحُكْمِهم ... إذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللَّيَالِى بِمُعْظَمِ (2) ويقال: مِيَزان وَسَط، إذا لم يكن فيه ميل. وإذا أخبر الله تعالى أن الأمة عدل، لم يجز عليهم الضلالة؛ لأنه لا عدالة مع الضلالة، وجعلهم شهداء على الناس، كما جعل الرسول شهيداً عليهم، فلما كان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجة، كذلك قول الأمة. فإن قيل: إنما جعلتم شهداء عليهم في الآخرة. يبين صحة هذا: قوله (3) : (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ولا يمكن شهادتهم على الجميع إلا في الآخرة.   = ويرى أبو السعود في تفسيره (9/16) : ("قال أوسطهم": رأياً أو سناً) . (1) هكذا في الأصل: (يرضى الإله) وفي هامش الأصل: (الإمام) محرفة عن (الأنام) ، والأنام هو الصواب الموافق لمراجع التخريج الآتية. (2) البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، ذكره النحاس في شرحه للقصائد التسع (1/332) هكذا: لِحَيِّ حِلاَلٍ يَعْصِمُ الناسَ أمرُهم إذا طَرَقَت إحدى الليَالي بمُعْظَم والبيت أنشده الجاحظ في كتابه: البيان والتَبيين (3/225) غير منسوب، إلا أنه قال: (إذا طرقت) بدل (إذا نزلت) . وفي تفسير الطبري (3/142) وتفسير الشوكاني (1/130) منسوب إلى زهير بمثل الرواية التي أثبتناها. راجع بالإضافة إلى ما ذكر: هامش تفسير الطبري للشيخ أحمد شاكر وأخيه الأستاذ محمود. (3) في الأصل: (أن قوله) ، و (أن) هنا لا يستقيم المعنى بوجودها ولذلك حذفناها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1072 قيل: هذا خرج مخرَج المدح لهم في الدنيا، فلو كانوا شهداء في الآخرة لم يكن مدحاً لهم في الدنيا. وعلى أنه جعلهم شهداء على الناس كما جعل الرسول، فلما كان المراد شهادة النبي في الدنيا، كذلك في الأمة (1) . فإن قيل: [160/ب] كونهم شهداء لا يمنع وقوع الخطأ منهم، كما لا يمنع وقوع ذلك من الشاهِدَيْن. قيل: لأن الله تعالى لم ينص على شاهدين بأعيانهما حتى [يكون] ذلك مانعاً من وقوع الخطأ والكذب منهما، ولو نص على شاهدين لامتنع ذلك منهما كالأمة (2) . وطريقة أخرى، وهو: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لاَ تَجْتَمِعُ أمَتي عَلَى ضَلاَلة) .   (1) التحقيق: أن الشهادة في الآية تكون في الدنيا، وتكون في الآخرة، وقد جاءت النصوص بذلك، وأورد الإمام الطبري في تفسيره (2/145-154) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر وأخيه كثيراً من الأحاديث في ذلك، كما ذكر الإِمام الشوكاني في تفسيره (1/131-132) بعض ذلك، فارجع إليهما إن شئت. (2) الرد هنا غير واضح، وقد بينه العلامة الجصاص في أصوله الورقة (216/أ-ب) حيث قال: (قيل له: لا يجب ذلك؛ لأن الله لم ينص على قبول شهادة شاهدين بأعيانهما، فلم يحكم لهما بالعدالة، وإنما أمرنا في الجملة بقبول شهادة عدول عندنا، ومن في غالب ظننا أنهم عدول، والظن قد يخطىء ويصيب، فلذلك لم يجز لنا القطع على عينهما.. فلو كان الله شهد لشاهديْن بأعيانهما بالعدالة وصحة الشهادة لقطعنا على عينهما، وحكمنا بصدقهما، وأما الأمة فقد حكم الله لها بالعدالة وصحة الشهادة على من بعدها، على معنى أنها تشتمل على من هذه صفته، فمتى وجدناها مجمعة على شىء حكمنا بأنه حكم الله تعالى؛ لأن العدول في الدين حكم الله بصحة شهادتهم، فقد قالت ذلك، وقولها صدق ... ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1073 وروي: (عَلَى خَطَأ) (1) .   (1) هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذى في سننه في كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة (4/466) ولفظه: (إن الله لا يجمع أمتى، أو قال: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار) ، ثم قال بعد ذلك: (هذا حديث غريب من هذا الوجه ... ) . وأخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب العلم (1/115-116) وذكر أن الحديث مختلف فيه على المعتمر بن سليمان من سبعة أوجه، ثم ذكرها. ثم عقب عليها بقوله: (فقد استقر الخلاف في إسناد هذا الحديث على المعتمر بن سليمان، وهو أحد أركان الحديث من سبعة أوجه، لا يسعنا أن نحكم أن كلها محمولة الخطأ بحكم الصواب لقول من قال عن المعتمر عن سليمان بن سفيان المدني عن عبد الله بن دينار، ونحن إذا قلنا هذا القول نسبنا الراوي إلى الجهالة فوهّنا به الحديث، ولكن نقول: إن المعتمر بن سليمان أحد أئمة الحديث، وقد روى عنه هذا الحديث بأسانيد يصح بمثلها الحديث، فلابد أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد، ثم وجدنا للحديث شواهد من غير حديث المعتمر، لا أدعي صحتها، ولا أحكم بتوهيتها، بل يلزمنى ذكرها لإجماع أهل السنة على هذه القاعدة من قواعد الإسلام) ثم ذكر الشواهد بعد ذلك. قال الشيخ الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/61) : (قلت: وعلته سليمان المدني، وهو ابن سفيان، وهو ضعيف، ولكن الجملة الأولى من الحديث صحيحة [وهى قوله "لا تجتمع أمتي على ضلالة"] ، لها شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه الترمذى والحاكم وغيرهما بسند صحيح، ومن حديث أسامة بن شريك عند ابن قانع في المعجم) . ورواه أيضاً أبو مالك الأشعري - رضي الله عنه - مرفوعاً أخرجه عنه أبو داود في كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها (2/414) ولفظه: (إن الله أجاركم من ثلاث خلال) وذكر منها: (وأن لا تجتمعوا على ضلالة) وقد حكم عليه الشيخ الألباني بالضعف. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1074 .................................   = انظر ضعيف الجامع الصغير وزياداته (2/67) . وأخرجه عنه ابن أبي عاصم في كتابه السنة (2/434) وقد صححه الشيخ الألباني في تعليقه على الحديث. وأخرجه عنه الطبراني، حكى ذلك العجلوني في كشف الخفاء (2/488) كما حكاه السخاوي في المقاصد ص (460) . ورواه أيضاً: أنس بن مالك -رضى الله عنه- مرفوعاً أخرجه عنه ابن ماجة في سننه في كتاب الفتن، باب السواد الأعظم (2/1303) ، ولفظه: (إن أمتى لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم. وفي إسناده "أبو خلف الأعمى" وهو ضعيف كما قال صاحب مجمع الزوائد. وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في الموضع السابق (1/116-117) بلفظ: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل ربه أربعاً، سأل ربه أن لا يموت جوعاً، فأعطى ذلك، وسأل ربه أن لا يجتمعوا على ضلالة، فأعطي ذلك ... ) الحديث وفي إسناده "مبارك بن سُحَيم" قال عنه الحاكم بعد ذلك: (فإنه مما لا يمشي في هذا الكتاب، لكني ذكرته اضطراراً) . ورواه عمرو بن قيس -رضى الله عنه- مرفوعاً أخرجه عنه الدارمي في سننه في المقدمة، باب ما أعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفضل (1/32) ، جزء من حديث فيه ( ... وإن الله وعدني في أمتى وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة) . ورواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه الحاكم في مستدركه في الموضع السابق. بلفظ: (لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة) . قال الذهبى: (وإبراهيم، يعنى: "إبراهيم بن ميمون العَدَنى" عدّله عبد الرزاق، ووثقه ابن معين) وعلى هذا فالحديث صحيح. وهو ما عناه الشيخ الألباني في كلامه السابق. قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص (460) : "وبالجملة فهو حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة، وشواهد متعددة في المرفوع وغيره، فمن الأول: (أنتم شهداء الله في الأرض) ، ومن الثاني قول ابن مسعود: (إذا سئل أحدكم فلينظر في = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1075 وروي: (ما رآه المسلمونَ حسناً، فهو عندَ الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عندَ الله قبيحٌ) (1) .   = كتاب الله، فإن لم يجده ففي سنة رسول الله، فإن لم يجده فيها فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون، وإلا فليجتهد) . وقد نقل العجلوني هذا الكلام بنصه في كتابه كشف الخفاء (2/488) . وعلق الحافظ العراقي على الحديث بعد أن ذكر بعض طرقه في تخريجه لأحاديث مختصر المنهاج ص (298) من مجلة البحث العلمى والتراث الإسلامى الصادرة عن مركز البحث العلمى في كلية الشريعة في مكة المكرمة - بقوله: (وفي كلها نظر، وقد حسن الترمذي حديث ابن عمر) . قلتُ: ولم أجد تحسيناً للترمذي لحديث ابن عمر، فلعل الحافظ العراقي اطلع على نسخة أخرى من نسخ الكتاب غير النسخة التى طبع عليها الكتاب؛ لأن الشيخ أحمد شاكر لاحظ مثل ذلك في تحقيقه للجزء الأول والثاني من الكتاب. ولمزيد من الاطلاع انظر: مجمع الزوائد (1/177) و (5/217) ، والفتح الكبير (1/318) و (375) ، والفقيه والمتفقه (1/161) . (1) هذا جزء من حديث موقوف على ابن مسعود -رضى الله عنه- أخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده (1/379) بلفظ: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء) . وأخرجه عنه الحاكم -موقوفاً أيضاً- في كتاب معرفة الصحابة، باب فضائل أبي بكر -رضى الله عنه- (3/78-79) بسند الإِمام أحمد، ولفظه: (ما رأى المسلمون.) الحديث، وزاد في آخره: (وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر -رضى الله عنه-) ثم قال بعد ذلك: (حديث صحيح الإِسناد، ولم يخرجاه) . وقال الذهبى: صحيح. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1076 وروي: (من فارق الجماعة (1) قِيدَ شِبْر، فقد خَلَع   = وأخرجه عنه البزار بسنده في باب الإِجماع من كتاب كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي (1/88) . وأخرجه ابن حزم بسنده إلى ابن مسعود موقوفاً في كتابه الإِحكام في أصول الأحكام (6/759) قال: (فذكر كلاماً -يعنى ابن مسعود- فيه: "فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن") . وقد قال ابن حزم قبل إيراد السند: (وهذا لا نعلمه بسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه أصلاً، وأما الذى لا شك فيه فإنه لا يوجد البتة في مسند صحيح، وإنما نعرفه عن ابن مسعود) . قال الزيلعى في نصب الراية (4/133) : (قلت: غريب مرفوعاً، ولم أجده إلا موقوفاً على ابن مسعود، وله طرق) ثم ذكر بعد ذلك تلك الطرق. وقال الهيثمى في مجمع الزوائد (1/177-178) (رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، ورجاله موثقون) . وقال السخاوي في كتابه المقاصد الحسنة ص (367) : (وهو موقوف حسن) . وقال العلائي - فيما نقله عنه السيوطي في الأشباه والنظائر ص (99) وابن نجيم في الأشباه والنظائر أيضاً ص (93) : (لم أجده مرفوعاً في شىء من كتب الحديث أصلاً، ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- موقوفاً عليه) . وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5/3601) (إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن مسعود) . والحديث روي مرفوعاً من حديث أنس -رضى الله عنه- نقل العجلوني في كتابه كشف الخفاء (2/263) رقم (2214) عن ابن عبد الهادى قوله: (روى مرفوعاً من حديث أنس بإسناد ساقط والأصح: وقفه على ابن مسعود) . والخلاصة: أن الحديث لا يثبت رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو موقوف على ابن مسعود - رضي الله عنه - بسند صحيح. (1) الجماعة: أهل الفقه والعلم والحديث، كما يقول الترمذي في سننه (4/467) . والمراد بهم: أهل الحل والعقد، فلا يجوز الخروج عما أجمعوا عليه في الإِمامة وغيرها. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1077 رِبْقة (1) الإِسلام من عُنقِه) (2) .   = ويقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي في تعليقه على كتاب الإحكام للآمدى (1/219) : (المراد بالجماعة: أهل الحق المتبعون للكتاب والسنة، قلوا أو كثروا) . والمراد بالمفارقة هنا - كما يقول ابن أبي جمرة فيما نقله صاحب الفتح (13/7) : (السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير، ولو بأدني شىء) . (1) الربقة -كما يقول ابن الأثير في كتابه النهاية (2/62) مادة (ربق) -: (في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها فاستعارها للإسلام، يعنى: ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام أى: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه ... ) . (2) هذا الحديث رواه أبو ذر - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب السنة، باب قتل الخوارج (2/542) بمثل لفظ المؤلف، وسكت عنه. ْوأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/180) ، كما أخرجه عن الحارث الأشعرى - رضي الله عنه - مرفوعاً (4/130، 202) من حديث طويل، وفيه (.. فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه إلا أن يرجع..) . كما أخرجه مرفوعاً عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أراه أبا مالك الأشعرى (5/344) . ولفظ الشاهد قريب من اللفظ السابق. وأخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الصوم (1/421-422) جزء من حديث عن الحارث الأشعري - رضي الله عنه - ولفظه كلفظ الإمام أحمد السابق ذكره، ثم عقب عليه بقوله: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبى على ذلك. والحاصل: أن الحديث الذي رواه أبو ذر، وأخرجه عنه أبو داود وأحمد -كما سبق بيانه- في سنده "خالد بن وهبان" وهو مجهول، ولكن الحديث صحيح للشواهد الكثيرة، منها: عن الحارث الأشعري فيما أخرجه الإمام أحمد والحاكم كما سبق بيانه أيضاً. انظر: تعليق الشيخ الألباني على مشكاة المصابيح (1/65) ، وفتح الباري (13/7) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1078 (ومن فَارَقَ الجماعةَ ماتَ مِيتَةً جَاهلية) (1) .   (1) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الفتن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سترون بعدي أموراً تنكرونها.. (9/59) ولفظه (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه؛ فإن من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية) . كما أخرجه في كتاب الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (9/78) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الامارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين. (3/1475) . وأخرجه عنه الدارمى في سننه في كتاب السير باب في لزوم الطاعة والجماعة (2/158) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/297) . وأخرجه النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب تحريم الدم، باب التغليظ فيمن قاتل تحت راية عمية (7/112) ضمن حديث جاء فيه (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية..) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/296) ، (306) ، (488) . ورواه عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - مرفوعاً أخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده (3/445) . ورواه ابن عمر -رضى الله عنهما- مرفوعاً أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/133) . والتشبيه في قوله - صلى الله عليه وسلم - (مات ميتة جاهلية) إما أن يكون مراداً أولا: فإن كان غير مراد فيكون المعنى: يموت موت أهل الجاهلية على ضلال، وليس له إمام مطاع، لأن الجاهليين لايعرفون ذلك، وعلى هذا يموت عاصياً لا كافراً. وإن كان التشبيه مراداً، فيكون المعنى: = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1079 وروي: (عليكم بالسَّواد (1) الأعظم) (2) . وروي: (ثلاث لا يغل (3) عليهن (4) قلب مؤمن (5) : إخلاص العمل لله والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين) (6) .   أنه يموت مثل موت الجاهلي، وإن لم يكن جاهلياً. أو أن ذلك ورد مورد الزجر، وظاهره غير مراد. انتهى ملخصاً من فتح الباري (13/7) . (1) المراد بالسواد الأعظم - كما يقول ابن الأثير في كتابه النهاية (2/191) مادة "سود": (جملة الناس ومعظمهم الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك النهج المستقيم) . (2) هذا جزء من حديث رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعاً ضمن حديث: (لا تجتمع أمتي على ضلالة .... ) وقد مضى تخريجه قريباً. (3) كلمة "يغل" وردت بثلاث روايات: الأولى: "يُغِلّ" بضم الياء، من الإغلال، الذي هو الخيانة في كل شيء. الثانية: "يَغِلّ" بفتح الياء، من الغل، وهو الحقد. الثالثة: "يَغِلُ" بفتح الياء والتخفيف من الوغول، وهو الدخول في الشيء. والمعنى: أن هذه الخصال الثلاث، يستصلح بها قلب العبد المؤمن، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة. انظر: النهاية في غريب الحديث (3/168) مادة "غلل". في الأصل: (علهم) ، وهو خطأ. (5) عند الامام أحمد من رواية جبير بن مطعم (قلب المؤمن) ، وعند الترمذي من رواية ابن مسعود (قلب مسلم) وهو كذلك عند أحمد من رواية زيد بن ثابت، وعند أحمد من رواية أنس (صدر مسلم) والمعنى لا يختلف. (6) هذا جزء من حديث رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (5/34-35) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1080 وروي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الشذوذ، وقال: (مَن شَذ (1) شَذَّ فِى النَّار) (2) . وهذا كله يدل على أن اتباع المجمعين فيما أجمعوا عليه واجب (3) . فإن قيل: هذه أخبار آحاد فلا يجوز الاحتجاج بها في مثل المسألة. قيل: هذه مسألة شرعية، طريقها مثل مسائل الفروع، ليس للمخالف فيها طريق تمكنه أن يقول: إنه موجب القطع. وجواب آخر، وهو: أنه تواتر في المعنى من وجهين:   = ورواه جبير بن مطعم -رضى الله عنه- مرفرعاًَ، أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/80) ، ولفظه قريب من لفظ المؤلف. وأخرجه عنه الدارمى في سننه في المقدمة باب الاقتداء بالعلماء (1/56) بلفظ قريب من لفظ المؤلف. وأخرجه عنه ابن ماجة في سننه في كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر (2/1015) رقم الحديث (3056) . رواه: أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفرعاً، أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (3/225) . ورواه زيد بن ثابت - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/183) . (1) الشُّذُوذُ معناه: الانفراد والمفارقة، وشَذَّ: ندر عن الجمهور والمراد هنا: مفارقة جماعة المسلمين. انظر: معجم مقاييس اللغة (3/80) ، والقاموس (1/354) مادة (شذّ) . (2) هذا جزء من حديث رواه ابن عمر -رضى الله عنهما- مرفوعاً سبق تخريجه بلفظ: (لا تجتمعُ أمتي على ضلالة) . (3) هذا إشارة إلى وجه الاستدلال من الأحاديث التي ذكرها المؤلف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1081 أحدهما: أن الألفاظ الكثيرة إذا وردت من طرق مختلفة، ورواة شتَّى، لم يجز أن يكون جميعها كذباً، ولم يكن بد من أن يكون بعضها صحيحاً. ألا ترى أن الجمع الكثير إذا أخبروا بإسلامهم، وجب أن يكون فيهم صادق (1) قطعاً. ولهذا نقول: لا يجوز أن يقال: جميع ما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون كذباً موضوعاً. ولهذا أثبتنا كثيراً من معجزات رسول الله، وأثبتنا وجوب العمل بخبر الواحد بما روي عن الصحابة -رضى الله عنهم- من العمل به في قضايا مختلفة. والثاني: أن هذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، ولم ينقل عن أحد أنه رده، ولهذا نقول: إن قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (نحن معشر الأنبياء لا نُورَث، ما تركنا صدقة) (2) ، لما اتفقوا على العمل به، دل على أنه صحيح عندهم.   (1) في الأصل: (صادقاً) وهو خطأ؛ لأن حقه الرفع اسم "يكون". (2) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً. أخرجه عنها البخاري في صحيحه في كتاب الفرائض باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا نورث، ما تركنا صدقة) (8/185-187) . وأخرجه عنها مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (لا نورث) .. الحديث (3/379-1383) . وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال (2/126- 128) . وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة -رضى الله عنه- مرفوعاً، في كتاب السير باب ما جاء في تركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- (4/157-158) . راجع أيضاً: تيسير الوصول إلى جامع الأصول (3/148-149) والمنتقى من أحاديث الأحكام ص (524) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1082 فإن قيل: نحمل قوله: (لا تجتمع أمتي على الخَطَأ) (1) يعنى: على كفر. قيل: هذا محمول على الأمرين جميعاً (2) . وعلى أن الخطأ إنما يعبر به عن المعاصى والآثام، دون الكفر. فإن قيل: قوله: (لا تجتمعُ على ضلالة) معناه: لا يجمعهم الله على الضلال. قيل: الخبر عام، لا يجمعهم الله ولا يجتمعون. فإن [161/أ] قيل: قوله: (لا تجتمع أمتي) ، وإن كان لفظه لفظ الخبر، فالمراد به: النهي، وتقديره: لا تجتمعوا على ضلال؛ لأنه لو كان خبراً لوقع بخلاف مخبره؛ لأنا نجد في الأمة اجتماعها على الضلال. قيل: قوله: (لا تجتمع على ضلالة) (3) خبر، وقوله: "يقع بخلاف مخبره" غلط؛ لأنا لم نجد اجتماع الأمة على ضلالة، وإنما يوجد بعضهم، والخبر اقتضى اجتماعهم. فإن قيل: فهذه الأخبار يعارضها ما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن (لا تقوم الساعة إلا على أشرار (4) الناس) (5) ، وكيف يكون اجتماع الناس حجة؟   (1) الرواية التي ذكرها المؤلف فيما سبق: (لا تجتمع أمتي على خطأ) وهى المناسبة لأن يذكر بعدها قول المعترض: (يعنى: على كفر) . (2) لم يذكر إلا أمراً واحداً وهو: "الكفر" ولكن الجواب عن الاعتراض فيما بعد يوضح الأمرين. (3) في الأصل: (ضلال) ، والحديث: (لا تجتمع على ضلالة) . (4) هكذا في الأصل: (أشرار) ، وفي القاموس مادة "شر" (2/57) : وأشَر قليلة أو رديئة. وفي هامش الأصل، ومصادر التخرج الآتي ذكرها: (شرار) بدون الألف المهموزة. (5) هذا الحديث رواه ابن مسعود -رضى الله عنه- مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن، باب قرب الساعة (4/2268) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/435) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1083 قيل: أراد به الغالب، فهم الشرار، وهذا سائغ إطلاقه. وأيضاً: فإنه لا خلاف أن نصب الزكاة والمقادير الواجبة فيها ثابتة مقطوع بها، في خمس من [الإبل] شاة، وفي عشرين [ديناراً] نصف دينار، وفي خمس وعشرين من الإبل بنتُ مخاض (1) ، وفي ثلاثين من البقر تبيع" (2) ، وأربعين مسنة (3) ، و [في] ، أربعين (4) [شاةٌ] ، شاةٌ، وفي مائتين [من الدراهم] ، خمسةُ دراهم (5) . وكذلك أركان الصلاة مقطوع بها، ومعلوم: أنه ما ثبت فيها خبر تواتر، وإنما نقل فيها أخبار آحاد: ابن عمر وأنس وغيرهما، عدد معروف، فلما اتفقوا عليها، وقطعوا على ثبوتها، علمنا أن ثبوتها قطعاً من حيث الإِجماع، لا من حيث أخبار   = ورواه علباء السلمي - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (3/499) ولفظه (لا تقوم الساعة إلا على حثالة الناس) . (1) المَخَاضُ: وجع الولادة، وهو الطَّلْق أيضاً، وبنت المخاض: ما استكملت سنة، ودخلت في الثانية، والكلام على تقدير محذوف، أي: بنت ناقة مخاض، ولا يشترط مخاض أمها. انظر: تهذيب اللغة للأزهرى (7/121) والمطْلع على أبواب المقْنِع للبعلي ص (123) . (2) التبيع من البقر: ماله سنة، وسمي بذلك لأنه يتبع أمه، والأنثى: تبيعة. انظر: تهذيب اللغة (2/283) ، والمطلع على أبواب المقنع (125) . (3) المسنة من البقر: مالها سنتان ودخلت في الثالثة، وهي الثنية؛ لأن البقرة تثني في السنة الثالثة. انظر: تهذيب اللغة (12/299) ، والمطلع على أبواب المقنع ص (125) . (4) في الأصل: (أربعون) . (5) كان الأولى أن يرتب المؤلف هذه المقادير، فيأتي بمقدار الذهب والفضة، ثم يأتي بمقدار الزكاة في الأنعام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1084 الآحاد، بل من ناحية أن الأمة تلقتها بالقبول، فصارت الأخبار فيها كالمتواترة. واحتج بعضهم فيها بطريق عقلي، فقال: كان سائر الأمم إذا أتفقت على باطل، وأجمعت على تغيير وتبديل، بعث الله إليهم نبياً، فردهم إلى الحق والصواب، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء، ولا نبي بعده، فجعلت أمتُه معصومةٍ، لتكون عصمتُها عوضاً عن بعثة النبي. واحتج المخالف: بقوله: (وَنَزَّلنَا عَلَيْكَ (1) الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُل شَىْء (2)) ثبت أنا لا نفتقر معه إلى غيره. وقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ) (3) يبين أن لا حكم لغيره. وقال تعالى: (فَإِن تَنَازعْتُم فِى شَىْءٍ فَرُدوُّه إلى اللهِ وَالرسُولِ) (4) . وأشباه هذه الظواهر. والجواب: عن قوله: (تِبْيَاناً لِّكُل شَىْءٍ) فهكذا نقول، فقد بين الله تعالى عن الإِجماع بقوله: (وَمنْ يُشَاقِقِ الرسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيل الْمُؤْمِنينَ) (5) . وأما قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) وقوله: (فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) معناه: إلى كتاب الله، وكذا نقول، وفي الكتاب والسنة أن الإِجماع حجة.   (1) في الأصل: (وأنزلنا إليك) وهو خطأ. (2) آية (89) من سورة النحل. (3) آية (10) من سورة الشورى. (4) آية (59) من سورة النساء. (5) آية (115) من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1085 واحتج: بما روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: (بم تحكم إذا عرض لك قضاء؟ فقال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب الله قال: بسنة رسول الله [161/ب] قال: فإن لم تجد في سنة رسولِ الله، قال: أجتهد رأيى، ولا آلو، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه) (1) فذكر الأدلة، ولم يذكر فيها الإجماع. والجواب: أنه لا حجة فيه؛ لأن الإجماع إنما يعتبر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز أن ينعقد الإجماع في حياته دونه، وقوله بانفراده عنه لا يفتقر إلى قول غيره، فلم يكن في عصره اعتبار بالإجماع. واحتج بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خُطبة الوَداع: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضربُ بعضُكم رقابَ بعض) (2) .   (1) تكملة الحديث: (لما يرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . وفي رواية لأحمد (5/236) : (الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . وفي رواية له (5/242) : (الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضى رسوله) ، وقد مضى تخريجه (2/566) . (2) هذا جزء من حديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (2/205) . وأخرجه عنه الترمذى في كتاب الفتن، باب: ما جاء لا ترجعوا بعدي كفاراً يَضربُ بعضُكم رقابَ بعض (6/486) ، وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/230) . وأخرجه مسلم عن أبي بكرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، في كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (3/1305) . وأخرجه أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً، في كتاب = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1086 وروي عنه أنه قال: (لتركبنَّ سَنَن (1) من كان قبلكم، حَذْوَ القذة (2) بالقُذَّة) (3) . وهذا يدل على أن ذلك جائز على الأمة.   = السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصه (2/523-524) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب تحريم القتل (7/115) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (2/1300) . وأخرجه الدارمي في سننه عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعاً، في كتاب المناسك، باب حرمة المسلم (1/395) . (1) السنة الطريقة: انظر: النهاية، والقاموس مادة (سن) . (2) القُذَّة: ريش السهم، والمعنى: لتسلكن طريقة من كان قبلكم في كل شيء، كالقذة تقدر على قدر أختها ثم تقطع. أفاده ابن الأثير في نهايته وزاد: (يضرب مثلاً للشيئين يستويان ولا يتفاوتان) : انظر النهاية واللسان مادة (قذذ) . (3) هذا الحديث لم أجده بهذا اللفظ إلا في النهاية واللسان مادة (قذذ) وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/125) عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - بلفظ: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خَلَوْا من قبلهم أهل الكتاب حذو القذة بالقذة) . وقد أخرجه الطبراني، حكى ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد (7/261) وقال: (ورجاله مختلف فيهم) . ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً أخرجه عنه الحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان، باب اتباع هذه الأمة سنن من قبلهم (1/37) ولفظه (لتتبعن سنن من قبلكم باعاً فباعاً، وذراعاً فذراعاً، وشبراً فشبراً، حتى لو دخلوا جُحر ضَب لدخلتموه معهم، قال: قيل: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟) ثم قال الحاكم بعد ذلك: (صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ) ووافقه الذهبى. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1087 والجواب: أن هذا خطاب لبعض الأمة، وقوله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) خاص في حال الإِجماع، والخاص يجب أن يُقْضَى به على العام. واحتج: بأن كل واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ بانفراده، فإذا اجتمع مع غيره كان بمنزلة المنفرد؛ لأنه مجتهد برأيه المعرض للخطأ. والجواب أن عصمة الأمة في حال الاجتماع أثبتناه بالشرع دون العقل، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى: أنهم لا يختارون الخطأ في حالة الاجتماع، ولا يقع ذلك منهم، فإذا أخبر بذلك وجب المصير إليه والعمل به. وجواب آخر، وهو: أن هذا باطل بأخبار التواتر، فإنها توجب العلم عند كثرة المجتهدين، وإن كان كل واحد منهم لو انفرد لم يوجب خبره العلم، وهكذا   = وأخرجه البزار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال الهيثمى في مجمع الزوائد في الموضع السابق - بعد أن ذكره: (ورجاله ثقات) . وذكر الهيثمي: أن الطبراني رواه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ: (أنتم أشبه الأم ببني إسرائيل، لتركبن طريقهم حَذوَ القُذة بالقذة، حتى لا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم مثله، حتى إن القوم لتمر عليهم المرأة، فيقوم إليها بعضهم، فيجامعها، ثم يرجع إلى أصحابه يضحك لهم ويضحكون له) ثم قالَ الهيثمي: (وفيه من لم أعرفه) . قلت: ومعنى الحديث صحيح، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب العلم، باب: اتباع سنن اليهود والنصارى (4/2054) ولفظه: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضَب لاتبعتوهم قلنا: يا رسول الله: أليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) راجع في هذا الحديث أيضاً: كتاب السنة لأبي بكر عمرو بن أبي العاص الشيباني (1/36) وفيض القدير (5/261) وصحيح الجامع الصغير للألباني (5/13) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1088 الجماعة تحمل الحجر العظيم، وإن كان الواحد لو انفرد به لم يطق حمله. وكذلك الطعام إذا كثر أشبع، والماء إذا كثر روى، وإن كان اليسير منهما لا يشبع ولا يروي. واحتج: بأن الآية لا تحصر، ولا يمكن سماع أقاويلهم، وما لا سبيل إلى معرفته، فلا يجوز أن يجعله صاحب الشريعة دليلاً على شريعته. والجواب: أن الإِجماع ينعقد عندنا باتفاق العلماء، وإذا اتفقوا جملة كانت العامة تابعة لهم. ويمكن معرفة اتفاق أهل العلم؛ لأن من اشتغل بالعلم حتى صار من أهل الاجتهاد فيه، لم يخف أمره على أهل بلده وجيرانه، ولم يخف حضوره وغيبته، ويمكن الإِمام أن يبعث إلى البلاد، ويتعرف أقاويل الممتنع. فإن قيل: يجوز أن يكون قد أسر في الغزو رجل من أهل العلم، وهو في مطمورة (1) المشركين. قيل: لا يخفى ذلك، وإذا جرى ذلك لم ينعقد الاجماع إلا بالوقوف على مذهبه. وأجاب بعضهم عن هذا: بأنا نسمع أقاويل الحاضرين [162/أ] ، والخبر عن الغائبين.   (1) المطمورة: حفرة تحفر تحت الأرض. قال ابن دريد: بنى فلان مطمورة إذا بنى بيتاً في الأرض. والمعنى: أن العالم يجوز أن يكون مأسوراً في مكان خفي، لا يمكن الوصول إليه ليؤخذ رأيه في القضية المطروحة. انظر: المصباح المنير مادة (طمر) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1089 مسألة إجماع أهل كل عصر حجة، ولا يجوز إجماعهم على الخطأ (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي، وقد وصف أخذ العلم فقال: "ينظر ما كان عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن، فعن أصحابه، فإن لم يكن فعن التابعين". وقد عَلَّق القول في رواية أبي داود فقال: "الاتباع: أن تتبع ما جاء عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وهو بعد في التابعين مخير" (2) . وهذا محمول من كلامه على آحاد التابعين، لا على جماعتهم. وقد بين هذا في رواية المروذي فقال: "إذا جاءك الشىء عن الرجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي، لا يلزم الأخذ به" (3) . وبهذا قال جماعة الفقهاء (4) والمتكلمين (5) .   (1) راجع في هذه المسألة: أصول الجصاص الورقة (218/ب) والتمهد (3/224) ، والمسودة ص (317) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/372) وشرح الكوكب المنير (2/214) . (2) هذه الرواية موجودة في "مسائل الإمام أحمد" التي رواها أبو داود (276) . (3) هذه الرواية نقلها أبو داود عن الإمام أحمد في "مسائله" ص (276) والرواية هكذا في نسخة الظاهرية، أما نسخة المدينة ففيها: ( .... حدثنا أبو داود، قال سمعت أحمد سئل إذا جاء الشىء من التابعين لا يوجد فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يلزم الرجل أن يأخذ به؟ قال: لا، لا يكاد الشيء، إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ) وعلى هذه الرواية يكون تأويل المؤلف لكلام الإمام أحمد لا دليل عليه. (4) انظر: أصول الجصاص الورقة (218/ب) ، وأصول السرخسى (1/313) . (5) انظر: البرهان لإمام الحرمين ص (720) ، والتبصرة للشيرازي ص (359) والمعتمد لأبي الحسين البصري (1/483) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1090 وقال أهل الظاهر: داود وأصحابه: الإجماع: إجماع الصحابة دون غيرهم (1) . ويدل عليه أيضاً: قوله: (لا تجتمع متي على ضلالة) و (على الخطأ) . وقوله (ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح) . وقوله: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية، ومن فارق الجماعة قيدَ شبر خلع رِبْقة الإِسلام من عنقه) . ونحو ذلك من الأخبار التى تقدم ذكرها، وهو عام في الصحابة. [وفي غيرهم] . فإن قيل: الأمة عبارة عن الجماعة، وحقيقة ذلك الموجود حال (2) حصول هذا القول منه (3) دون عصر من يوجد. قيل: هو حقيقة في الكل. ولأن غير الصحابة أكثر عدداً من الصحابة، ومنهم من أهل [162/ب] الاجتهاد أكثر منهم، فإذا وجب الرجوع إلى قول الصحابة مع قلتهم، فالرجوع إلى قول الأكثر أولى. واحتج المخالف:   = انظر في ذلك: الإحكام لابن حزم ص (506) وما بعدها. وقول الظاهرية هذا ذكر أبو الخطاب في كتاب التمهيد (3/256) أن الإمام أحمد أومأ إليه في رواية أبي داود: (الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وهو بعد في التابعين مخير) . وقد حمل المؤلف هذه الرواية على آحاد التابعين، لا على جماعتهم كما سبق بيانه. (2) في الأصل: (من حال) و"من" هذه زائدة. (3) الضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1091 بقوله: (فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرسُولِ) (1) . والجواب: أن معناه: فردوه إلى أدلة الله ورسوله، والإجماع من أدلته، فقد رددناه إليه. واحتج بقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ) (2) وهذا خطاب مواجهة للصحابة، فلا يدخل فيهم غيرهم (3) . وكذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً) (4) . والجواب: أن هذا عام في الصحابة وغيرهم من الوجه الذي بينا. وأن ذلك جار مجرى قوله: (أقِيمُوا الصَّلاَةَ) (5) ، و (حُجُّوا) (6) و (جَاهِدُوا) ، (7)   (1) آية (59) من سورة النساء. ووجه الاستدلال من الآية: أن القول بالإجماع ليس رداً إلى الله ورسوله. (2) آية (110) من سورة آل عمران. (3) انظر المعتمد لأبي الحسين البصري (1/484) . (4) آية (143) من سورة البقرة. ووجه الاستدلال من هذه الآية مثل وجه الاستدلال من الآية التي قبلها، ولو ذكر المؤلف الآيتين ثم جاء بوجه الاستدلال منهما بعد ذلك لكان أولى، وهو ما فعله أبو الحسين البصرى في المرجع السابق. (5) آية (43) من سورة البقرة. (6) هذا جزء من حديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (2/975) ولفظه: (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا ... ) الحديث. وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/508) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب المناسك، باب وجوب الحج (5/83) . (7) آية (35) من سورة المائدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1092 وأنه على العموم. واحتج: بأنا قد علمنا من ناحية العقول: أنه لا فَصْل بين هذه الأمة وبين من تقدمها في جواز الخطأ وتعمد الباطل في الأخبار: بالكذب فيها (1) ، وإنما انفصلت الصحابة ممن تقدمها من الأمم لورود الخبر بذلك، وبقي غيرهم على موجب الدليل في المنع من قولهم. والجواب: أن قولك: لا فرق بين هذه الأمة وبين من تقدمها غلط؛ لأن من تقدمها إذا كذبت في الإِخبار عن نبيها وأخطأت فيما يتعلق بالدين، علم خطؤها وكذبها من جهة من يرد عليها من بعد نبيها من الأنبياء، وليس كذلك أمة نبينا؛ لأنها إذا ضَلّت وأخطأت لم يرد من بعد من يعرف من جهته ضلالتها، فحرس الله تعالى من أجل ذلك هذه الأمة من الضلالة والكذب والخطأ في الدين. وجواب آخر، وهو: أن كل دليل ورد بعصمة جميع الصحابة، فهو دليل على أعصمة، غيرهم، وعام فيهم وفي غيرهم. واحتج: بأن الصحابة لها مزية كل غيرهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى اتباعهم بقوله: (أصحَابِي كالنُّجُوم، بأيُّهم اقتديتم اهتَديْتُم) (2) .   (1) في الأصل: (منها) . (2) هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله (2/111) ثم قال (هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول) . وأخرجه عنه ابن حزم في كتابه الإحكام ص (810) ثم قال بعد ذلك: (أبو سفيان -أحد رواة الحديث- ضعيف، والحارث بن غصين -أحد رواة الحديث- هو أبو وهب الثقفى، وسلام بن سليمان -أحد رواة الحديث أيضاً- يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك، فهذه رواية ساقطة من طريق ضعف إسنادها) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1093 ولأنهم مقطوع على عدالتهم، وشاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل. والجواب: أنهم وإن خُصُّوا بهذه المزية، فلم يكن قولهم حجة لهذه المعاني، وإنما كان لأجل أنهم من أهل الاجتهاد، وهذا موجود في غيرهم كوجوده فيهم.   = ورواه أيضاً ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه عنه عبد بن حميد في مسنده وابن عدي في الكامل من رواية حمزة بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: (بأيهم أخذتم) بدل قوله: (بأيهم اقتديتم) قال الحافظ العراقي بعد ذلك في كتابه تخرج أحاديث مختصر المنهاج ص (299) مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي: (وإسناده ضعيف من أجل: حمزة، فقد اتهم بالكذب) . ثم ذكر الحافظ العراقي بعد ذلك: (أن البيهقي رواه في المدخل من حديث ابن عمر وابن عباس بنحوه من وجه آخر مرسلاً، وقال: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة، ولم يثبت في إسناد) . قال ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله: (2/111) : (قد روى أبو شهاب الحناط عن حمزة الجذري عن نافع عن ابن عمر) وذكر الحديث، ثم عقب عليه بقوله: (وهذا إسناد لا يصح، ولا يرويه عن نافع من يحتج به) . وأخرجه البزار من رواية عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن ابن المسيب عن ابن عمر وقال: (منكر لا يصح) . ذكر ذلك العراقي في المرجع السابق. ونقل ابن عبد البر في كتابه السابق ذكره عن البزار قوله: (وهذا الكلام لا يصح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - رواه عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر، وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد؛ لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً منكر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ... ) . وبالجملة فالحديث لا يصح بوجه من الوجوه. ولمزيد من الفائدة ارجع إلى: كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ص (78) ، وهامش كتاب تخريج أحاديث مختصر المنهاج = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1094 مسألة انقراض العصر معتبر في صحة الإجماع واستقراره (1) . فإذا أجمعت الصحابة على حكم من الأحكام، ثم رجع بعضهم أو جميعهم انحل الإجماع. وإن أدرك بعض التابعين عصرهم -وهو من أهل الاجتهاد- اعتد بخلافه، إذا قلنا: إنه يعتد بخلافه معهم. وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية عبد الله فقال: "الحجة على من زعم أنه إذا [163/أ] ، كان أمراً مجمعاً عليه، ثم افترقوا، ما نقف على ما أجمعوا عليه حتى يكون إجماعاً. إن أم الولد كان حكمها حكم الأمة بإجماع، ثم أعتقهن عمر، وخالفه علي بعد موته، ورأى (2) أن تُسْتَرَق (3) . فكان الإجماع في الأصل: أنها أَمة.   = للحافظ العراقي لمحققه الأستاذ صبحى السامرائي (299) . وعلى فرض صحة الحديث، فقد أوله المزني بقوله -فيما نقله عن ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم (2/110) -: ( ... إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليهم، فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به لا يجوز عندي غير هذا، وأما ما قالوا فيه برأيهم، فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضاً، ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه، فتدبَّر) . (1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (227) /أ) والتمهيد (3/346) والمسودة ص (320) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (2/366) وشرح الكوكب المنير (2/246) . والمختصر في أصول الفقه لابن اللحام ص (78) . (2) في الأصل: (أبي) وهو خطأ، لدلالة السياق، ولما يأتي في مراجع تخرج الأثر. (3) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه باب بيع أمهات الأولاد (7/291-292) بإسناده عن عبيدة السلماني قال: (سمعت علياً يقول: اجتمع رأيي ورأي = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1095 وحد الخمر: ضرب أبو بكر أربعين، ثم ضرب عمر ثمانين، وضرب علي في خلافة عثمان أربعين، فقال: ضرب أبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكل سنة (1) . والحجة عليه في الإجماع في الضرب أربعين، ثم عمر خالفه، فزاد أربعين، ثم ضرب على أربعين". وظاهر هذا: أنه اعتبر انقراض العصر؛ لأنه اعتد بخلاف على بعد عمر في أم الولد. وكذلك اعتد بخلاف عمر بعد أبي بكر في حد الخمر.   = عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن، قال: ثم رأيت بعدُ أن يُبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة أو قال: في الفتنة- قال فضحك علي) . وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب البيوع والأقضية، باب في بيع أمهات الأولاد (6/436-437) . وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الخلاف في أمهات الأولاد (10/348) . (1) هذا إشارة إلى الحديث الذى رواه حُضَيْن بن المنذر، أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحدود، باب حد الخمر (3/1331-1332) وفيه قصة الوليد بن عقبة لما شرب الخمر، وأراد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إقامة الحد عليه، فقال: لعلي - رضي الله عنه -: قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارَّها، (فكأنه وجد عليه) ، فقال: يا عبد الله ابن جعفر قم فاجلده، فجلده، وعليٌ يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبى صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1096 وذهب المتكلمون من المعتزلة (1) والأشعرية (2) وأصحاب أبي حنيفة (3) -فيما حكاه أبو سفيان- إلى أن انقراض العصر غير معتبر في صحة الإجماع. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال مثل قولنا (4) . ومنهم من قال مثل قولهم (5) . ومنهم من قال: إن كان الإجماع مطلقاً لم يعتبر انقراض العصر عليه، وإن كان بشرط، وهو: إن قالوا: هذا قولنا، ويجوز أن يكون الحق في غيره، فإذا وضح   (1) انظر: "المعتمد" لأبي الحسين البصرى (2/502) ولو عبر المؤلف ببعض المعتزلة لكان أدق؛ لأنه نقل عن أبي على الجبائي القول باشتراطه في الإجماع السكوتي دون الإجماع بالقول والفعل أو بأحدهما، حكى ذلك الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ص (84) ، وهو ما عبر به ابن أمير الحاج في كتابه "التقرير والتحبير" (3/87) حيث عبر عن الجبائي: ببعض المعتزلة. (2) وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني، نقله عنه إمام. الحرمين في كتابه: البرهان (1/693) ولو عبر المؤلف: ببعض الأشعرية لكان أصوب؛ لأن بعض الأشعرية كإمام الحرمين له تفصيل في المسألة ذكره في كتابه المذكور آنفاً (1/694) . (3) نصّ أبو بكر الجصاص الحنفي في أصوله الورقة (227/أ) على أنه الصحيح عندهم. وقال السرخسى الحنفي في أصوله (1/315) : (وأما عندنا فانقراض العصر ليس بشرط) . (4) وهم القلة من الشافعية، ونسبه الآمدي في كتابه الإحكام (1/231) إلى الأستاذ أبي بكر بن فورك، ونسبه ابن السبكي في جمع الجوامع (2/182) إلى ابن فورك وإلى سليم الرازي. (5) وهذا عليه أكثر الشافعية، وهو المعتمد عندهم. انظر: المستصفى (1/192) والإحكام للآمدي (1/231) وجمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلي (2/181) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1097 صرنا إليه، لم يكن إجماعاً (1) . وفائدة الخلاف: من قال: لا يعتبر انقراض العصر عليه، يقول: لا يسوغ أن يرجع الكل عما أجمعوا عليه، وإن رجع واحد منهم ساغ رجوعه، لكنه محجوج بقول الباقين. وإذا حدث من التابعين من هو من أهل الاجتهاد فخالفهم لم يكن خلافه خلافاً. ومن قال: يعتبر انقراض أهل العصر، يقول: يجوز أن يرجع الكل عن ذلك القول إلى غيره، ويرجع الواحد منهم عن القول معهم، فيكون خلافه خلافاً ويسوغ للتابعين مخالفتهم، فيكون خلافهم (2) خلافاً. والدلالة على اعتبار انقراض العصر: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطَاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكَونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (3) . فوجه الدلالة: أنه جعلهم شهداء على غيرهم، ولم يجعلهم شهداء على أنفسهم. ومن قال لا يعتبر انقراض العصر لا يجوز رجوعهم عما أجمعوا عليه، فيكون قولهم حجة على أنفسهم. فإن قيل: ليس في الآية ما يمنع كونهم شهداء على أنفسهم، وإنما فيها إثبات كونهم شهداء على غيرهم. قيل: لما غاير بينهم وبين غيرهم، فجعلهم شهداء على غيرهم، وجعل الرسول شهيداً عليهم، ثبت أن حكمهم مخالف لحكم غيرهم.   (1) هذا إشارة إلى قول إمام الحرمين في هذه المسألة، حيث قسم الإجماع إلى مقطوع به وإلى حكم مطلق أسنده المجمعون إلى الظن بزعمهم، ولم يشترط انقراض العصر في الأول واشترطه في الثاني على تفصيل ذكره في كتابه البرهان (1/694) . (2) في الأصل: (خلافه) وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. (3) آية (143) من سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1098 فإن قيل: إذا كانوا شهداء على غيرهم، فيجب أن يكونوا شهداء على أنفسهم. قيل: من كان شهيداً وحجة على غيره، فليس بحجة على نفسه، كالشاهد هو شاهد على غيره [163/ب] ، ولا يكون شاهداً على نفسه، وإنما يكون مقراً، وقول النبى حجة على غيره، وليس حجة على نفسه. فإن قيل: إذا كانوا شهداء على غيرهم، فيجب أن يكونوا شهداء على أنفسهم؛ لأن الحجة لا تختص بقوم دون قوم ولا بعصر دون عصر. قيل: قد بينا اختصاص الحجة بجهة دون جهة. وعلى أن الموضع الذي نجعله حجة على غيره نجعله حجة في نفسه في الفتيا لغيره. فأما إذا رجع فليس بحجة على غيره ولا على نفسه. وأيضاً: ما احتج به أحمد من إجماع الصحابة، وذلك أنه روي عن علي أنه قال: (كان رأيي مع أمير المؤمنين عمر: أن لا تباع أمهات الأولاد، وأرى (1) الآن أن يبعن، فقال له عبيدة السَّلْمَاني (2) : رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) (3) . فعلىُّ أظهر الخلاف بعد الإجماع، فأقر عليه. فلو كان انقراض العصر غير معتبر ما سَاغَ له الخلاف.   (1) في الأصل (أرى أن) وحرف (أن) هنا لا معنى لها، ولذلك حذفناها. (2) هو عبيدة بن عمرو أبو مسلم، وقيل: أبو عمرو، السَّلْمَاني المرادي. أسلم قبل وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - ولم يره. صحب علياً وابن مسعود -رضي الله عنهما- مات سنة (72 هـ) . له ترجمة في: الاستيعاب (3/1023) وتاريخ بغداد (11/117) وتذكرة الحفاظ (1/50) واللباب في تهذيب الأنساب (2/127) . (3) مضى تخريج هذا الأثر ص (1095) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1099 فإن قيل: ما خالف الإجماع؛ لأنه كان قوله وقول عمر على ذلك وحدهما، فخالف عمر فقط. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: (والله ما هنَّ إلا بمنزلة بعيرِك وشاتِك) (1) . وكان عبد الله بن الزبير: يبيح بيع أمهات الأولاد (2) . فدل على أنهم لم يجمعوا. قيل: قول عبيدة له: (رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) ، يدل على (3) أن الجماعة كانت مع عمر، ومعه علىٌّ، أن لا يبعن (4) .   (1) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، باب بيع أمهات الأولاد (7/290) عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار -أظنه- عن عطاء عن ابن عباس، ثم ذكره وفيه (هي) بدل (هن) و (أوشاتك) بحرف العطف (أو) بدل الواو. (2) أخرج هذا عبد الرزاق في مصنفه في باب بيع أمهات الأولاد (7/292، 293) بسندين، أحدهما عن الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن نفر من أهل العراق ذكروا ذلك عن ابن الزبير. وثانيهما عن عمر عن أيوب عن نافع أن رجلاً جاء لابن عمر وذكر له ذلك عن ابن الزبير. كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب البيوع والأقضية، باب بيع أمهات الأولاد (6/437، 439) بسندين أيضاً. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الرجل يطأ أمته بالملك فتلد له، وباب الخلاف في أمهات الأولاد (10/343، 348) . (3) في الأصل: (عليه) . والذي يبدو لي أنه ليس هناك إجماع لأمور: أولاً: - أن علياً قال: (كان رأي مع رأي أمير المؤمنين عمر..) ومعلوم أن رأيهما لا يعد إجماعاً. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1100 ويدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال قولاً: أعتبر انقراضه عليه؛ لأنه قد يرجع عنه، ويتركه، فإذا جاز هذا في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبأن يجوز في حق المجمعين أولى. فإن قيل: الرسول لا يرجع عما كان عليه؛ لأنه لا يتبين له الخطأ، وإنما يرجع بأن يقول: كنت على صواب، ولكن قد نسخ عني ذلك، وأمرت بغيره، فلهذا جاز أن يرجع عما كان عليه، وليس كذلك المجمعون؛ لأنهم لا يرجعون عما كانوا عليه؛ لأنه قد يبين لهم الخطأ فيما كانوا عليه. قيل: هذا تعليل بجواز الرجوع عما كان عليه بعد صحة الجمع بينهما فلا يضر الفرق (1) .   = ثانياً: - وأن جابر بن عبد الله وابن عباس وابن الزبير قد خالفوا وقالوا بجواز بيع أمهات الأولاد. ثالثاً: - وقول عبيدة السلماني: (فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) فالمراد بالجماعة: وقت اجتماع المسلمين في خلافة الثلاثة، لما في ذلك من الألفة والالتئام، ورأيه في ذلك الوقت خير من رأيه وقت الفتنة والفرقة، يؤيد هذا ما جاء في رواية عبد الرزاق (7/291-292) عن عبيدة السلماني قال: ( ... أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة -أو قال في الفتنة- فضحك عليّ) . أو أن عبيدة السلماني أطلق الجماعة على الأكثر، مريداً جماعة، وليس قول كل جماعة إجماعاً. انظر: التمهيد لأبي الخطاب (3/353) والمحصول للرازي (4/212) والإِحكام للآمدي (1/235) . (1) الحقيقة أن الفرق هنا ضار، يقول أبو الخطاب: في كتابه التمهيد (3/354) (إن هذا غلط؛ لأنّ قوله عليه السلام حجة في حياته، لا تجوز مخالفتها، وإنما يجوز ورود النسخ عليه ما دام حياً، فأما إن مات، أين ورد النسخ؟! فأما أن يكون قوله ليس بحجة حتى يموت -كما تقولون في الإجماع- فلا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1101 وأيضاً: فإن كل واحد من المجمعين إنما قال ما قاله عن دليل صحيح عنده من قياس أو اجتهاد واستدلال، وهو يُجوِّز على نفسه الخطأ فيما أفتى به، فإذا صح له الفساد لدليله، لزمه الرجوع عن قوله واعتقاد غيره، فإذا لزمه الرجوع عما كان عليه لفساد دليله عنده بطل الإِجماع. فإن قيل: لا يسوغ رجوعه؛ لأنه كان مصيباً في القول، مخطئاً في الدليل. قيل: إنّما كان على الصواب في قوله؛ لأجل دليله. ألا ترى أنه لو لم [164/أ] ، يكن من أهل الأدلة والاجتهاد لم يعتدّ بقوله، فإذا فسد عنده الدليل بطل قوله عن ذلك الدليل. وأيضاً: فإن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على تسويغ الخلاف وجواز القول بكل واحد من القولين، وانعقد الإجماع على ذلك، ثم إذا رجعت إحدى الطائفتين إلى قول الأخرى صارت المسألة إجماعاً، وزال ما أجمعوا عليه من تسويغ الخلاف، فلو كان الإِجماع قد انعقد بنفسه من غير اعتبار انقراض العصر، لما جاز رجوعهم عما أجمعوا عليه من تسويغ الخلاف. وهذه طريقة مفيدة. فإن قيل: إنما جاز الإجماع بعد الخلاف؛ لأن التابعين لو أجمعوا على أحد القولين صارت المسألة إجماعاً. قيل: لا يصير إجماعاً عندنا. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيل الْمُؤْمِنِينَ) (1) ولم يشترط انقراض العصر. وقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (لا تَجْتمعُ أمَّتِي عَلَى ضَلاَلَة) و (لا تجتمعُ عَلَى خطأ) . والجواب عن قوله: (وَيَتَّبِعْ غيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ) فهو: أنه إذا رجع واحد   (1) آية (115) من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1102 منهم صار سبيل بعض المؤمنين. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجتمعُ أمَّتِي عَلَى خَطَأ) فلا نسلم أن الإجماع يستقر حكمه ويلزم إلا بعد انقراض العصر، فلا يتناوله الاسم. وليس الاعتبار بالإجماع اللّغوي، الذي طريقه الاجتماع، وإنما الاعتبار بالإجماع الشرعي، الذي هو: القطع والعزيمة. وهذا لا يكون إلا بعد انقراض العصر. وإذا لم يتناول الاسم، لم نسلم أنه متبع غير سبيل المؤمنين ولا مخالف الإجماع. واحتج: بأن التابعين احتجوا بإجماع الصحابة في عصر الصحابة: فروي [عن] الحسن البصري أنه احتج بإجماع الصحابة، وأنس بن مالك [حي] (1) ، فلو كان انقراض العصر شرطاً ما احتج بذلك قبل انقراضه. والجواب: أنا لا نعرف هذا عن التابعين، وما ذكروه عن الحسن، فيجب أن ينقل لفظه، حتى ينظر كيف وقع ذلك منه. وعلى أنه لو كان منقولاً لم يكن فيه حجة؛ لأن من الناس من قال: قول الصحابي وحده حجة. وهو الصحيح من الروايتين لنا، فإذا كان كذلك احتمل أن يكون الحسن احتج بقول الواحد منهم، لا بإجماعهم (2) . واحتج: بأن قول النبي حجة بوجوده، ولا يقف على انقراضه، كذلك قول المجمعين.   (1) الزيادة في الموضع من المسوَّدة ص (321) ، ولم أقف على مصدر ينقل هذا عن الحسن البصري. (2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (322) : (هذا جواب ضعيف، فإنَّا إذا اشترطنا انقراض العصر في المجمعين، فلأن نشترطه في الواحد أولى، فإن قوله بعد رجوعه عنه لا يكون حجة وفاقاً، وإذا كان الاحتجاج بهذا الواحد في حياته مع أن رجوعه يبطل اتباعه، فلأن يحتج بقول الجماعة في حياتهم أولى ... ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1103 والجواب: أنا قد جعلناه حجة لنا، وقد بينا أنه يعتبر في ذلك انقراضه، لأنه قد يرجع عنه، ويتركه. على أن قوله لا يقف العمل به على انقراضه؛ لأنه بالنسخ لا يبين الخطأ فيما كان عليه، بل يرجع عما كان عليه مع كونه صواباً في ذلك الوقت، وليس كذلك رجوع المجمعين [164/ب] ؛ لأنه عن خطأ يبين لهم. واحتج: بأنه يؤدي إلى أنه لا يوجد إجماع؛ لأن اتفاقهم لو لم يكن إجماعاً حتى ينقرضوا، لوجب إذا حدث قوم معهم من أهل الاجتهاد: أن يعتبر اتفاقهم معهم وانقراضهم، ولو وجب هذا لم يحصل الإجماع أبداً؛ لأن كل عصر مندرج في عصر بعده، ويحدث فيه أهل الاجتهاد من أهل العصر الثاني قبل انقراض العصر الذي قبله، ويدخلون معهم في الاجتهاد، ويجب اعتبار رضاهم بقول من قلتم وموافقتهم لهم فيه، وهذا يمنع وجود الإجماع أبداً. والجواب: أن هذا مبني على أصل: أن (1) التابعى إذا أدرك عصر الصحابة هل يعتد بخلافه ووفاقه؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يعتّد، وإذا لم يعتدّ به لم يفض إلى ما قالوه من أنه: لا يحصل الإجماع. والرواية الثانية: يعتد به، فعلى هذا لا يفضي إلى ما قالوه أيضاً؛ لأن الصحابة إذا كانت على قول، فحدث تابعي، وصار من أهل الاجتهاد، فهو وهم من أهل الاجتهاد في ذلك العصر، فإذا انقرضت الصحابة، وبقي ذلك التابعي، فحدث تابعي، وصار من أهل الاجتهاد، لم يسغ له الخلاف؛ لأنه ما عاصر الصحابة، وإنما عاصر من عاصرهم، وإنما يسوغ الخلاف لمن عاصرهم، فأما من عاصر من عاصرهم فلا، وإذا كان كذلك لم يفض إلى ما قالوه.   (1) في الأصل: (وأن) والواو هنا لا معنى لها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1104 واحتج: بأنه لو جاز أن يجمعوا على حكم لم يرجعوا عنه كان إجماعاً على خطأ، والأمة لا تجتمع على خطأ. والجواب: أن الأمة لا تجتمع على خطأ، إذا انقرض عصرهم عليه، فأما قبل انقراضه، فإنهم يجمعون على الخطأ، ويتبين لهم الصواب فيصيرون إليه. فإن قيل: الذي يعتبر: انقراض العصر في انعقاد الإِجماع، وليس ذلك قولاً ولا فعلاً. قيل: هو وإن لم يكن قولاً ولا فعلاً، فإنه يستقر به حكم القول والفعل فجاز اعتباره. مسألة إذا اختلف الصحابة على قولين، ثم أجمع التابعون على أحد القولين لم يرتفع الخلاف، وجاز الرجوع إلى القول الآخر والأخذ به (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية يوسف بن موسى: "ما اختلف فيه علي وزيد ينظر أشبهه بالكتاب والسنة، يختار". وكذلك نقل المروذي عنه: "إذا اختلف [الصحابة] (2) ينظر إلى أقرب القولين (3) إلى الكتاب والسنة". وكذلك نقل أبو الحارث: " [ينظر] (4) إلى أقرب الأقوال (5) وأشبهها بالكتاب والسنة".   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/297) والمسوَّدة ص (326) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/376) وشرح الكوكب المنير (2/272) . (2) الزيادة من المسوَّدة ص (325) . (3) في الأصل: (القول) والتصويب من المسوَّدة ص (325) . (4) الزيادة من المسودة ص (325) . (5) في المسودة (الأمور) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1105 وظاهر هذا: أنه رجع في ذلك إلى موافقة الدليل، ولم يرجع إلى إجماع التابعين على أحد القولين (1) . [165/أ] . وبهذا قال أبو الحسن الأشعري. وقال أصحاب أبي حنيفة (2) -فيما حكاه أبو سفيان- والمعتزلة (3) : يرتفع الخلاف و [لا] ، يجوز الرجوع إلى القول [الآخر] . وإنما قال هذا إذا كان إجماع التابعين على أحد القولين بعد انقراض أهل أحد القولين. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال مثل قولنا (4) . ومنهم من قال مثل قولهم (5) . دليلنا: قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء فُرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (6) . وظاهر هذا: يقتضي أنه إذا تنازع [أهل] العصر الذي بعد التابعين المجمعين   (1) الذي يظهر لي -والله أعلم-: أن كلام الإمام أحمد لا يدل على ما ظهر للمؤلف؛ لأن الإمام أحمد لم يذكر في هذه النصوص إجماع التابعين، بل نص على أن الصحابة إذا اختلفوا أخذ بقول من يعضد قوله الكتاب والسنة. (2) صرح بهذا أبو بكر الجصاص في كتابه أصول الفقه الورقة (132/أ) . (3) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/517) . (4) قال الشيرازي في التبصرة ص (378) : (وهو قول عامة أصحابنا) يعنى: الشافعية. (5) وإليه مال الإمام الشافعى، كما ذكر ذلك إمام الحرمين في كتابه البرهان (1/710) . وبه قال ابن خيرون وأبو بكر القفال من الشافعية، حكى ذلك الشيرازي في المرجع السابق. (6) آية (59) من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1106 على أحد القولين في شىء أن يردوه إلى الله ورسوله، وعلى قولهم يلزمهم رده إلى ما أجمع عليه التابعون. وإلى هذا المعنى أشار أحمد بقوله: "إذا اختلف الصحابة، رجع إلى الكتاب والسنة". يدل عليه أيضاً: ما روى أبو بكر محمد بن الحسين الآجري (1) في كتاب الشريعة (2) بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابى مثل النجوم، فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم) (3) . وظاهر هذا يقتضي: الرد إلى كل واحد من الصحابة بكل حال، مع الإجماع على قول بعضهم، ومع الاختلاف. فإن قيل: كيف يحتجون بهذا الحديث، وقد قال إسماعيل بن سعيد: "سألت أحمد - رضي الله عنه - عمن احتج بقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي بمنزلة النجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم) قال: لا يصح هذا الحديث". قيل: قد احتج به أحمد -رحمه الله- واعتمد عليه في فضائل الصحابة. فقال أبو بكر الخلاَّل في كتاب السنة: "أخبرني عبد الله بن حنبل بن   (1) هو: محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر، الآجري، الفقيه، المحدث. روى عنه أبي مسلم الكجي وأبي شعيب الحراني وغيرهما. وعنه أبو نعيم الأصبهاني وأبو الحسن الحمامي وغيرهما. توفي بمكة المكرمة في شهر محرم سنة (360هـ) . له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/936) ، وشذرات الذهب (3/35) ، وطبقات الحفاظ ص (378) ، وطبقات الشافعية للسبكى (3/149) . (2) طبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقى في مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة (1369هـ-1950م) عن نسخة خطية واحدة، بها خروم ونواقص. (3) لم أجد هذا الحديث في كتاب الشريعة المطبوع، ولعله ضمن ما فقد من الكتاب وقد سبق تخرج الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1107 إسحاق بن حنبل قال: حدثني أبي، قال: سمعت أبا عبد الله يقول في الغلو في ذكر أصحاب محمد لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً) (1) وقال: (إنما هم بمنزلة النجوم بمن اقتديتم منهم اهتديتم) ". فقد احتج بهذا اللفظ، فدلّ على صحته عنده. وأيضاً: فإن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على تسويغ الخلاف في المسألة، والأخذ بكل واحد من القولين، فإذا أجمع التابعون على أحد القولين لم يجز رفع إجماع الصحابة بإجماعهم؛ لأن إجماع الصحابة أقوى من إجماعهم، كما لو أجمعت على قول واحد، ثم أجمع التابعون على خلافه، وهذه طريقة معتمدة. فإن قيل: إجماعهم على تسويغ الخلاف مشروط بعدم دليل قاطع، فإذا طرأ دليل قاطع على أحد القولين وجب اتباعه، وحرم الاجتهاد فيه. ولا يمتنع أن يقع الإجماع بشرط، ألا تَرَى أنه لا يمتنع أن يجمعوا على جواز الصلاة بالتيمم ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء بطلت صلاته [165/ب] ولا يكون ذلك مخالفاً لما أجمعوا عليه.   (1) هذا الحديث رواه عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب المناقب (5/696) ولفظه: (الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبى أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه) ثم قال الترمذي بعد ذلك: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/87) و (5/54-55، 57) . وقد حكم الشيخ الألباني على هذا الحديث بالضعف. انظر: ضعيف الجامع الصغير (1/352) رقم الحديث (1259) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1108 قيل: إن جاز أن يقال: إن إجماعهم على تسويغ الخلاف مشروط بعدم دليل قاطع، جاز أن يقال: إن إجماعهم على قول واحد إذا انعقد عن قياس أنه مشروط بعدم دليل قاطع، فإذا طرأ دليل قاطع وجب اتباعه. وجواب آخر، وهو: أن الإجماع لا يجوز أن يقع مشروطاً؛ لأن وجود الشرط فيه يفضي إلى أن تعرى الحادثة عن حكم الله تعالى. ولا يجوز أن يعرى العصر عن ذلك؛ لأن الله تعالى لم يُخْلِ وقتاً من حق، وكونه مشروطاً يفضي إلى هذا؛ لأن كل قائل من القولين يقول: الحق في قول، ما لم يجمع على خلافه، فلا يقطع على حق فيه. ويفارق هذا التيمم؛ لأن الشرط في الحكم المجمع عليه، لا في أصل الإجماع، فلا يفضي إلى ما ذكرنا. فإن قيل: هم وإن أجمعوا على تسويغ الخلاف والقول بكل واحد من القولين، فالتابعون أيضاً قد أجمعوا على القول بأحدهما دون الآخر. قيل: لا نسلم أن هذا إجماع؛ لأن من شرط صحة الإجماع: أن لا يرفع إجماعاً قبله. فإن قيل: فإذا كانت الصحابة على قولين، فكل واحد من أهل القولين يجوّز على نفسه الخطأ فيما ذهب إليه. قيل: هذا هو العلة التى بها جوزوا القول بكل واحد من القولين، وهو تحقيق إِجماعهم على تجويز القول بكل واحد من القولين. وطريقة أخرى، وهو: أن من قال قولاً ومات، فحكم قوله باقٍ، بدليل أن الصحابة إذا أجمعت على شىء، ثم انقرضوا، لم يصح أن يجمع التابعون على خلافه. وكذلك إذا كانت الصحابة على قولين، فإذا انقرض أهل أحد القولين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1109 كلهم، وبقي أهل القول الآخر، لم يزل قول المنقرضين بانقراضهم. ويكون الخلاف باقياً، وإذا ثبت أن حكم قول الميت باقٍ ما زاد، فمن أسقط حكمه، كان كمن أسقط قولهم مع بقائهم، وهذا لا يجوز. ولأن أعلى مراتب التابعين أن يلحقوا بعصر الصحابة، ويكونوا من أهل الاجتهاد قبل انقراضهم. وأدنى مراتبهم أن ينقرض الصحابة قبل أَن يلحقوا بهم، فكان قولهم إذا خالفوهم دون قولهم إذا عاصروهم وخالفوهم، ثم ثبت أن التابعين لو لحقوا بالصحابة والصحابة على قولين، وأجمعوا على أحد القولين لم يسقط القول الآخر بما أجمعوا عليه، وقد أجمع معهم أهل القول الثاني، فبأن لا يسقط القول الآخر بعد انقراض الصحابة أولى. فإن قيل: إنما لم يسقط القول الثاني إذا أجمعوا مع أهل [القول] الآخر؛ لأنهم حينئد بعض أهل العصر، وليس كذلك إذا أجمعوا [166/أ] عليه بعد انقراض الصحابة؛ لأنهم حينئذ كل أهل الاجتهاد في العصر. قيل: في زمان الصحابة بعض أهل العصر، وبعد انقراض العصر بعض الأمة؛ لأن حكم القول الذي خالفوه ثابت، لا يزول ولا يرتفع بما بينَّا. ولأن من قال: إجماع التابعين يزيل الخلاف السابق ويصير قولهم إجماعاً، يفضى قوله إلى أن الإجماع ينعقد بموت واحد. وبيانه: إذا كانت الصحابة على قولين، فانقرضوا، وبقي واحد من الصحابة، وهو من أهل أحد القولين، ثم أجمع التابعون على قول من لم يبق منهم أحد، لم يكن إجماعاً؛ لبقاء واحد من أهل القول الذي خالفوه، وإذا هلك هذا الواحد صار ما أجمع عليه التابعون إجماعاً بانقراض هذا الواحد وهلاكه، وموت الإنسان ليس بقول ولا حجة، فكيف يكون الإجماع منعقداً بموت واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1110 واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ) (1) والتابعون هم المؤمنون. وقول النبي: (أمتي لا تجتمعُ على الخطأ) . والجواب: أن الآية مشتركة الدلالة؛ لأنها إن كانت حجةً على ما أجمع عليه التابعون، فهى حجة على ما أجمعت عليه الصحابة من تجويز القول بكل واحد منهما. وكذلك الجواب عن الخبر. واحتج: بأن هذا إجماع تعقب خلافاً، فوجب أن يزيل حكم الخلاف، كما لو اختلفوا الصحابة، ثم أجمعت على أحد القولين، وقد وجد مثل هذا؛ لأنهم اختلفوا في قتال ما نعي الزكاة، ثم اتفقوا عليه. وقول الأنصار: منا أمير ومنكم أمير (2) . وإجماعهم على ترك قسمة السواد بعد اختلافهم فيها (3) . والجواب: أنه إذا رجعت إحدى الطائفتين إلى قول الأخرى، فلم يبق هناك خلاف باق [و] صارت المسألة إجماعاً، وليس كذلك إجماع التابعين على أحد القولين؛ لأن الخلاف لم يرتفع، فلم تصر المسألة إجماعاً. واحتج: بأن إجماعهم يقطع الخلاف فيما بعد، فوجب أن يرتفع الخلاف   (1) آية (115) من سورة النساء. (2) قول الأنصار هذا روته عائشة -رضي الله عنها- في قصة وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - أخرجه عنها البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة (5/8) . ورواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عنه الإمام أحمد فى مسنده (1/396) . (3) انظر: نصب الراية (3/400-401) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1111 المتقدم. ألا ترى أن سنة النبي -عليه السلام- لما منعت الخلاف، قطعت الخلاف، بدليل أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لو غاب عن الصحابة، واختلفوا -وهو غائب- في الحكم على قولين، ثم قدم النبى - صلى الله عليه وسلم -فأخبروه (1) بما كانوا عليه، فأخبرهم بالحق في واحد منهما (2) ، زال الخلاف، كذلك إجماع التابعين. والجواب: أنه يبطل بالإجماع من إحدى الطائفتين بعد موت الطائفة الأخرى، فإنه يقطع الخلاف في المستقبل، ولا يرفع الخلاف [166/ب] المتقدم. وأما الفصل بين إجماع التابعين وسنة النبى فظاهر، وذلك أن الاجتهاد في زمن النبى - صلى الله عليه وسلم - مختلف فيه: فمنهم من أجازه، وقال: لا يستقر. ومنهم من قال: لا يسوغ، لأن النص مقدور عليه. وإذا كان كذلك لم يثبت ما اختلفوا فيه في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا جاءت سنة لم يرفع ما كان باقياً، وإنما ثبت الحق، وإجماع التابعين ها هنا يتضمن إسقاط إجماع الصحابة. واحتج: بأن إجماع التابعين حجة، وقول واحد من الطائفتين ليس بحجة. والجواب: إنما يكون حجة مقطوعاً عليها، إذا لم يتقدمه اختلاف الصحابة فأما مع تقدم ذلك، فإنه يخرج عن كونه حجة.   (1) في الأصل: (فأخبره) . (2) في الأصل: (منها) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1112 مسألة إذا اختلفت الصحابة على قولين، لم يجز إحداث قول ثالث (1) . نصَّ عليه في رواية عبد الله وأبي الحارث: "يلزم من قال: يخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا، أن يخرج من أقاويلهم إذا أجمعوا". وقال أيضاً في رواية الأثرم: "إذا اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختر (3) من أقاويلهم، ولا يخرج عن قولهم إلى من بعدهم" وهو قول الجماعة. خلافاً لبعض الناس في قوله: "يجوز إحداث قول ثالث" (3) . دليلنا: أن إجماعهم على قولين إجماع على بطلان ما عداهما، كما أن الإجماع على واحد إجماع على بطلان ما عداه، ولا فرق بينهما. واحتج المخالف: بأن النظر، الاجتهاد سائغ فيها، فهى بمنزلة ما لم يتكلم فيها.   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد في أصول الفقه: (3/310) ، والمسوّدة ص (326) وشرح الكوكب المنير (2/264) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/377) . (2) هكذا في الأصل وقد مرت كثيراً في هذا الباب بلفظ: (يختار) . (3) وهو منسوب لبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر. وقال أبو الخطاب: (إنه قياس قول أحمد في الجنب: يقرأ بعض آية، ولا يقراً آية، لأن الصحابة قال بعضهم: لا ولا حرفاً وقال بعضهم: يقرأ ما شاء فقال هو: يقرأ بعض آية) . انظر: مسلم الثبوت مع شرحه (2/235) وتيسير التحرير (2/250) والإحكام للآمدي ص (516) ، والتمهيد (3/311) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1113 والجواب: أن الاجتهاد يجوز في طلب الحق من القولين دون ما عداهما، لأن بطلان ما عداهما ثابت بالإجماع، ولا يسوغ الاجتهاد في المجمع عليه، وهذا بمنزلة ما لو ثبت بطلان ما عداهما بالنص، فيسوغ الاجتهاد في القولين دون غيرهما. واحتج: بأن الصحابة إذا أثبتوا حكماً من طريقين، جاز إثباته من طريق ثالث، كذلك ها هنا. والجواب: أن الطريق مخالف للحكم، ألا ترى أنهم إذا أجمعوا على شىء من نص القرآن، جاز إثباته من طريق السنة والإجماع، وإذا أجمعوا على حكم واحد، من يجز إحداث قول ثانٍ؛ لأن في الخروج عن القولين مخالفة للإِجماع وليس في إثبات ما أجمعوا عليه من غير طريقهم مخالفة الإجماع؛ لأن إثبات الحكم من طريق لا يتضمن نفي غيره، والإجماع على حكم يتضمن نفي غيره ولهذا إذا أجمعوا على قول واحد، لم يجز إحداث قول ثانٍ. واحتج: [167/أ] بأن التابعين قد خالفوا في هذا، وأحدثوا قولاً ثالثاً فيما كانت الصحابة فيه على قولين، فأقروا التابعين على ذلك، ولم ينكروه (1) . من ذلك: أن الصحابة اختلفوا في امرأة وأبوين، وزوج وأبوين، على قولين: ابن عباس -وحده- يقول: للأم الثلث [من] ، أصل المال. والباقون قالوا: للأم ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج والزوجة (2) . ففرق ابن سيرين بينهما، وقال بقول ابن عباس في امرأة وأبوين، وبقول الباقين في زوج وأبوين، فلم ينكر عليه منكر.   (1) في الأصل: (ولم ينكره) . (2) هذا الأثر أخرجه البيهقى في سننه في كتاب الفرائض، باب ميراث الأم (6/227-228) بعدة طرق فارجع إليه إن شئت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1114 وكذلك اختلفت الصحابة في قوله: "أنتِ على حَرَام"، على ستة مذاهب فأحدث مسروق (1) قولاً سابعاً (2) ، فقال: "لا يتعلق به حكم"، وقال: "ما أبالي أحَرِّمُها (3) ، أو قصعة (4) من ثريد" (5) ، فأقروه على هذا، ولم ينكروا عليه.   (1) هو: مسروق بن الأجدع، أبو عائشة، الهمداني، الكوفي. الإمام، الفقيه، العابد. روى عن عمر وعلي ومعاذ وغيرهم. وعنه الشعبى وأبو إسحاق وإبراهيم وغيرهم. توفي سنة (63هـ) وله من العمر (63) سنة. له ترجمة في: تاريخ بغداد (11/119) وتذكرة الحفاظ (1/49) ، وتهذيب التهذيب (7/84) وشذرات الذهب (1/78) وطبقات الحفاظ للسيوطى ص (14) وغاية النهاية في طبقات القراء (1/498) . (2) المذاهب في هذه المسألة باختصار: أولاً: قوله هذا: بمثابة يمين يكفرها بإحدى كفارات اليمين، أو بأغلظ الكفارات، قولان. ثانياً: طلاق إن نوى به الطلاق، وإلا فيمين. ثالثاً: طلقة واحدة، وهى أملك لنفسها. رابعاً: طلقة واحدة، ويملك الزوج الرجعة. خامساً: ثلاث طلقات. سادساً: ظهار. سابعاً: لا شيء فيه. انظر: المصنف لعبد الرزاق كتاب الطلاق، باب الحرام (6/399) -405) ، وسنن البيهقي في كتاب الخلع والطلاق، باب: من قال لامرأته أنت عليَّ حرام (7/350-352) ، والتلخيص الحبير (3/215) ، والمغني لابن قدامة (7/154-156) طبعة المنار الثالثة. (3) في مرجعي التخرج الآتيين: (أحرَّمْتُها) . (4) في الأصل: (نصفه) وهو خطأ، وفي مصنف عبد الرزاق (جَفْنة) والمعنى واحد. (5) قول مسروق هذا أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه (6/402) ، والبيهقي في سننه (7/352) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1115 والجواب: أنه ليس معنا أن التابعين عرفوا هذا، فأقروه. عليه، ورضوا به، فلا يثبت إجماعاً بالشك، وإذا لم يكن إجماعاً منهم، لم يؤثر إقرار بعضهم. على أن مسروقاً عاصر الصحابة، وكان من أهل الاجتهاد قبل انقراضهم، فكان كأحدهم، فالذي يخالف فيه يحتمل أن يكون قبل استقرار ما اختلفوا فيه، فلا يكون هذا إحداثَ قول آخر. مسألة (1) وإن قالت طائفة من الصحابة في مسألتين قولين متفقين مخالفين لقول الطائفة الأخرى، فهل يجوز لأحد أن يقول في إحدى المسألتين بقول طائفة وفي الأخرى بقول الطائفة الأخرى؟ ينظر فيه: فإن لم يصرحوا بالتسوية بين (2) المسألتين جاز (3) . وإن صرحوا بالتسوية بينهما لم يجز على قول أكثرهم. وعلى قول بعضهم يجوز (4) ؛ لأن التسوية بينهما في حكمين مختلفين، فلم يحصل في واحد منهما إجماع.   (1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (234/أ) والتمهيد (3/314) والمسوَّدة ص (327) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/379) وشرح الكوكب المنير (2/267) . (2) ((بين) مكررة في الأصل. (3) ذكر في المسودة ص (327) أن المؤلف ذكر في كتابه الكفاية في أصول الفقه: أن في هذه الحالة وجهين. (4) لأبي الخطاب تفصيل في هذه المسألة ذكره في كتابه التمهيد (3/315) خلاصته: أن الصحابة إذا قالت في مسألتين بقولين، ولم يفرقوا بين المسألتين نظرت: فإن صرحوا بالتسوية لم يجز لأحد أن يفصل بينهما. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1116 مسألة إذا خالف الواحد أو الاثنان الجماعة لم يكن إجماعاً (1) . ويمنع (2) خلافُ الواحد المعتد به انعقادَ الاجماع في أصح الروايتين. أومأ إليه -رحمه الله- في رواية المروذي: "إذا اختلفت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة".   = وإن لم يصرحوا بالتسوية، لكنهم لم يفرقوا بينهما، نظرت: فإن كان طريق الحكم فيهما مختلفاً، مثل أن تقول طائفة: إن النية شرط في الوضوء والصوم ليس بشرط في الاعتكاف. ويقول الباقون: العكس، فإنه يجوز التفرقة. وهو مذهب أحمد. وإن كان طريق الحكم فيهما متففاً، مثل قولهم في زوج وأبوين، وإمرأة وأبوين، ومثل إيجاب النية في الوضوء والتيمم وإسقاطها منهما، فهل تجوز التفرتة؟ خلاف بين العلماء: فقيل: لا يجوز، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الأثرم وأبي الحارث. وقيل: يجوز. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (327) : (أن القول بعدم جواز التفرقة بين المسألتين فيما إذا كان هناك نوع شبه بين المسألتين، أما إذا لم يكن بينهما نوع من الشبه فتجوز التفرقة بينهما) . (1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (224/ب) وكتاب التمهيد (3/260) والمسوَّدة ص (329) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/358) ، وشرح الكوكب المنير (2/229) . (2) في الأصل: (ويمتنع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1117 وهو قول الجماعة. وفيه رواية أخرى: لا يعتد بخلاف الواحد، ولا يمنع انعقاد الإجماع. أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم: في المريض يُطَلِّق، وذكر قول زيد (1) ، فقال: "زيد وحده، هذا عن أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، وابن عباس، وزيد، وابن عمر" (2) . وقال في رواية الميموني: "في فسخ الحج أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي يروون ما يروون، أين يقع بلال بن الحارث منهم" (3) . وظاهر هذا: أنه لم يعتد [167/ب] بخلاف زيد في مقابلة الجماعة ولا مخالفة بلال في مقابلة الجماعة (4) .   (1) الذي يظهر لي أن كلمة (زيد) هذه والتي بعدها في قوله: (فقال زيد) محرفة عن كلمة الزبير، فإنه من المروي عنهم عدم توريث من طلقها زوجها في مرضه، أما زيد فالمروي عنه هو القول بتوريثها، حيث ذكره الإمام أحمد مع الأربعة الذين استدل بقولهم، والإمام أحمد يقول بالتوريث. (2) راجع في هذه المسألة: المحلي لابن حزم (11/553-574) فإنه ذكر في المسألة أقوالاً كثيرة، وساث الآثار المروية عن الصحابة في ذلك. وانظر: المغنى (6/329) . (3) سبق الكلام عن هذه الرواية (3/1020-1021) . (4) ساق المؤلف هنا روايتين: الأولى: رواية ابن القاسم ... ، وهذه الرواية لا دلالة فيها على ما استظهره المؤلف من أن الإمام أحمد يقول بانعقاد الإجماع وإن خالف واحد، بل غاية ما فيه أنه أخد بقول الأكثر من الصحابة، كيف لا والمسألة لا إجماع فيها. الثانية: رواية الميموني وهي -أيضاً- لا دلالة فيها على ما قصده المؤلف، بل تدل على أن الخبر يرجح بكثرة رواته، وهذا ما صرح به المؤلف في بحث ترجيحات الألفاظ (3/1019) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1118 وحكي ذلك عن ابن جرير الطبري (1) صاحب التاريخ (2) . وحكاه أبو سفيان عن أبى بكر الرازي (3) . قال أبو عبد الله الجرجاني: إن سوغت الجماعة الاجتهاد في ذلك للواحد، خلافه معتداً به، مثل خلاف ابن عباس في العول (4) ، وإن أنكرت   (1) هو: محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبربي، المفسر، الفقيه، المؤرخ -أحد الأعلام- ولد سنة (224هـ) ، ومات سنة (310هـ) . له كتاب "التفسير" وكتاب "تاريخ الرسل والملوك". له ترجمة في: تاريخ بغداد (2/162) وتذكرة الحفاظ (2/710) وشذرات الذهب (2/106) وطبقات الحفاظ للسيوطي ص (370) وطبقات المفسرين للداودى (2/260) ، وقد ألف الدكتور أحمد الحوفي كتاباً عنه، طَبَعَه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر سنة (1390هـ-1970م) . (2) هذا الكتاب يعرف اليوم: بتاريخ الطبري، وقد طبع ثلاث مرات، طبعتان بعناية بعض المستشرقين، وطبعة في دار المعارف بمصر بتحقيق الأستاد محمد أبو الفضل إبراهيم،. انظر مقدمة تاريخ الطبري للمحقق المذكور (1/28) . وقوله هذا حكاه عنه كثير من الأصوليين. انظر في ذلك: التبصرة ص (361) والتمهيد (3/261) وشرح اللمع (2/704) والمعتمد (2/486) . (3) انظر: كتاب "أصول الفقه" لأبي بكر الرازي المشهور بالجصاص الورقة (225/ب) . (4) خلاف ابن عباس في العول أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب العول في الفرائص (6/253) بسنده إلى عتبة بن مسعود قال: (دخلت أنا وزفر بن أوس ابن الحدثان على ابن عباس بعد ما ذهب بصره، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ترون الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص ما في مال نصفاً ونصفا وثلثاً، إذا ذهب نصف ونصف، فأين موضع الثلث؟! فقال له زفر: يا ابن عباس من أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: وبم؟ قال: = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1119 الجماعة على الواحد لم يعتد بخلافه، مثل قول ابن عباس في المُتْعة (1)   = لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضاً، قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم، والله ما أدري أيكم قدم الله، ولا أيكم أخر، قال: وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص. ثم قال ابن عباس: وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقال له زفر: وأيهم قدم وأيهم أخر؟ فقال: كل فريضة لا تزول إلا إلى فريضة، فتلك التى قدم الله، وتلك فريضة الزوج، له النصف، فإن زال فإلى الربع، لا ينقص منه، والمرأة لها الربع، فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا تنقص منه، والأخوات لهن الثلثان، والواحدة لها النصف، فإن دخل عليهن البنات كان لهن ما بقى، فهؤلاء الذين أخر الله، فلو عطى من قدم الله فريضته كاملة، ثم قسم ما يبقى بين من أخر الله بالحصص ما عالت فريضة. فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هبته والله. قال ابن إسحاق: فقال لي الزهري: وايم الله لولا أنه تقدمه إمام هدى كان أمره على الورع ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم) . وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الفرائض، باب أول من أعال الفرائض عمر (4/360) بأخصر مما أورده البيهقي، ثم قال: (صحيح على شرط مسلم) وأقره الذهبي. وتعقبهما الألباني في كتابه إرواء الغليل (6/145-146) بأن الحديث ليس من قسم الصحيح، بل هو من قسم الحسن، من أجل الخلاف في ابن إسحاق أحد رواة الأثر. (1) أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الحيل باب الحيلة في النكاح (9/31) عن محمد بن على: "أن علياً - رضي الله عنه - قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمُتعة النساء بأساً، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية) . وعنه أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/142) ولفظه: (أنه -يعني محمد ابن على- سمع أباه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال لابن عباس وبلغه أنه رخص في متعة النساء، فقال له علي بن أيى طالب - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1120 والصَّرْف (1) .   = الحمر الأهلية) . وهذا القول عن ابن عباس - رضي الله عنه - رواه الطبراني في الأوسط عن سالم بن عبد الله قال الحافظ في التلخيص (3/154) : (إسناده قوي) . كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب النكاح، باب في نكاح المتعة وحرمتها (4/292-293) بسنده إلى محمد بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب. وبسنده أيضاً إلى ابن عمر. قال فيه الألباني في إرواء الغليل (6/138) : (إسناده صحيح على شرط الشيخين) . قال الألباني في كتابه المذكور: (وجملة القول: أن ابن عباس - رضي الله عنه - روي عنه في المتعة ثلاثة أقوال: الأول: الإباحة مطلقاً الثاني: الإباحة عند الضرورة. والآخر: التحريم مطلقاً، وهذا مما لم يثبت عنه صراحة، بخلاف القولين الأولين، فهما ثابتان عنه) . (1) القول بجواز ربا الصرف المروي عن ابن عباس - رضي الله عنه -، رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نسأ، ولفظه: (أن أبا صالح الزيات سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله، فقال أبو سعيد: سألته، فقلت: سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو وجدته في كتاب الله؟ قال: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، ولكننى أخبرني أسامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا رِبَا إلا في النسيئة". وأخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع، باب بيع الطعام مثلاً بمثل (3/1217) . وأخرجه عن النسائي في سننه في كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالذهب والذهب بالفضة (7/247-248) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1121 والدلالة على أَنه يمنع انعقاد الإجماع: قوله تعالى: (فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ والرَّسُولِ) (1) والتنازع موجود، فوجب الرجوع إلى الكتاب والسنة. وقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (2) وقد وجد الاختلاف، فوجب الرجوع إلى كتاب الله تعالى. وأيضاً: فإن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - خالف الصحابة -رحمهم الله- في قتال مانعي الزكاة (3) . وخالف ابن مسعود وابن عباس في مسائل في الفرائض سائر الصحابة، فلم ينكروا عليهما، ولم يقولوا: إن الواحد محجوج بالإجماع، وإنه يلزمه اتباعهم. ولأن العقل يجوّز الخطأ على هذه الأمة، كما يجوّز الخطأ على سائر الأم، وإنما نفينا عنهم الخطأ بالشرع، وقد وجد الشرع بذلك في حال الاجتماع دون الاختلاف فإذا وجد الاختلاف بقي الحكم على مقتضى العقل.   = وأخرجه عنه ابن ماجة في سننه في كتاب التجارات، باب من قال: لا ربا إلا في النسيئة (2/758) . وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب الصرف، باب الربا (4/64) . وأخرجه عنه البيهقى في سننه في كتاب البيوع، باب من قال: الربا لى النسيئة (5/280) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/200، 9، 20) . (1) آية (59) من سورة النساء. (2) آية (10) من سورة الشورى. (3) سبق تخرج هذا (1/108) ضمن حديث: (أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله .... ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1122 واحتج المخالف: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه] قال: (عليكم بالسواد الأعظم) . وقوله عليه السلام: (عليكم بالجماعة) . والجواب: أن المراد به أهل الاجتهاد من أهل العصر، فهو السواد الأعظم وهو الجماعة. واحتج: بأن ابن عباس لما خالف الجماعة في بيع الدرهم بالدرهمين نقداً وإباحة المُتعة، أنكر عليه ابن الزبير المُتعة (1) ، وأنكر غيره عليه بيع الدرهم بالدرهمين (2) ، فلو كان خلافه للجماعة سائغاً، لما أنكروا عليه ما ذهب إليه. والجواب: أنهم ما أنكروا عليه ما ذهب إليه، من حيث إنهم على خلاف قوله باجتهادهم، وإنما أنكروا عليه، لأنه خالف الخبر المنقول عن النبى - صلى الله عليه وسلم - في بيع الدرهم بالدرهمين، وهو قوله عليه السلام: (الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما) (2) . وكذلك قوله في المتعة: (إن النبي حرمها إلى يوم القيامة) (3) . واحتج: بأن خبر الجماعة أولى من خبر الواحد والاثنين، كذلك قول الجماعة أولى من قول الواحد والاثنين. والجواب: أن خبر الجماعة لو كان موجباً [168/أ] للعلم كان ما خالفه   (1) انظر: المراجع السابقة التى ذكرناها في تخرج ما أثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة متعة النساء. (2) انظر أيضاً: المراجع السابقة التي ذكرناها في تخرج ما أثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة الصرف متفاضلاً. (3) انظر: المراجع السابقة التي ذكرناها في تخرج ما أثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة متعة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1123 كذباً أو خطأ أو منسوخاً (1) ، فلا يجوز العمل به، وإن كان خبر الجماعة لا يوجب العلم، وإنما يغلب على الظن، فإنه أولى، لأن خبر الجماعة أقوى في الظن من خبر الواحد. يدل على ذلك: أن الشىء من الجماعة أحوط منه من الواحد (2) والاثنين، ولهذا قال الله تعالى: (أن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا اْلأخْرَى) (3) . فأما اجتهاد الأكثر فلا يوجب العلم وقوة الظن، فلا تأثير له في الاجتهاد؛ لأنه لا يجوز للعالم أن يقلد عالماً، وإن كان أقوى اجتهاداً منه في نفسه، وإنما يجب قبول اجتهاد غيره، والعمل به مع القطع بصحته، فبان الفرق بينهما. واحتج: بأنه لما جاز أن يكون في أهل العصر من لم يبلغه ما أجمعت عليه الجماعة، أو بلغه فلم يظهر الخلاف وأسرَّه، صح انعقاده مع ذلك، كذلك انعقاده مع خلاف الواحد. والجواب: أن الإجماع إنما يصح إذا انتشر ما أجمعت عليه الجماعة انتشاراً ظاهراً يقف عليه الكافة، فإذا ظهر انتشاره ولم يظهر خلاف من أحد، علمنا أن الكافة قد أطبقت عليه بنفي ما يمنع انعقاد الإجماع، وإذا خالف واحد واثنان فقد تيقنّا حصول ما يمنع أنعقاد الإجماع.   (1) في الأصل: (منسوخ) ، وحقه النصب كما أُثبت. (2) في الأصل: (للواحد) . (3) آية (282) من سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1124 مسألة يجوز انعقاد الإجماع من طريق الاجهاد (1) خلافاً لابن جرير (2) ونفاة القياس (3) . دليلنا: طريقان: أحدهما وجوده. والثاني: جواز وجوده. فأما وجوده فهو أن الناس أجمعوا على إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من طريق الاجتهاد. فمنهم من قال: (رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، وهي عماد الدين، ومن رضيه رسول الله لديننا وجب أن نرضاه لدنيانا) (4) .   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد: (3/288) والمسوّدة ص (330) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/385) ، وشرح الكوكب المنير (2/261) . (2) ذكر هذا في كثير من كتب الأصول منها: التبصرة للشيرازى ص (372) ، والبرهان (1/721) والإحكام للآمدي (1/239) . (3) المراد بهم الظاهرية، والسبب واضح؛ لأنهم لا يقولون بالقياس، فكذلك ما استند إليه، وقد نسبه الشيرازي في التبصرة ص (372) إلى داود. ونسبه الآمدي في الإحكام (1/239) أيضاً: إلى الشيعة. (4) هذا الأثر منسوب إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن بطة بسنده إلى الحسن وفيه: ( ... ولكن إن نبيكم نبى الرحمة - صلى الله عليه وسلم - لم يمت فجأة، ولم يقتل قتلاً، مرض أياماً وليالي يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة، فيقول: مروا أبا بكر فَلْيُصَلِّ بالناس، وهو يرى مكاني، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرنا في أمرنا أن الصلاة عضد الإسلام وقوام = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1125 ومنهم من احتج بقوله: (إن تولوا أبا بكر تجدوه قوياً في دين الله ضعيفاً في بدنه) (1) . ومنهم من رضيه، فعقد له.   = الدين، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، فولينا الأمر أبا بكر ... ) . انظر: المعتمد في أصول الدين للقاضى أبي يعلى ص (224) . وأخرجه ابن سعد في طبقاته (3/183) . (1) هذا الحديث رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أخرجه عنه البزار، ولفظه (قال: قالوا: يا رسول الله ألا تستخلف علينا؟ قال: "إني إن استخلف عليكم فتعصون خليفتى ينزل عليكم العذاب" قالوا: ألا نستخلف أبا بكر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه ضعيفاً في بدنه، قوياً في أمر الله" قالوا: ألا نستخلف عمر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه قوياً في بدنه قوياً في أمر الله" قالوا: ألا نستخلف علياً؟ قال: "إن تستخلفوه -ولن تفعلوا- يسلك بكم الطريق المستقيم، وتجدوه هادياً مهدياً" قال الهيثمى في مجمع الزوائد (5/176) : (وفيه أبو اليقظان عثمان بن عمير وهو ضعيف) . لكن الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/859) رقم الحديث (859) بتحقيق أحمد شاكر بسنده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مع اختلاف قليل في اللفظ: ومحل الشاهد منه (قال: -أي علي- يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: "إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة ... ) . الحديث. قال الهيثمى في مجمع الزوائد (5/176) : (رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقاة) . وقال أحمد شاكر: فى حديث الإِمام أحمد: (إسناده صحيح) ، ثم تعقب الهيثمي في عدم تصحيحه لحديث أحمد بقوله: (فيظهر لي: أن الهيثمي لم يعرف عبد الحميد ابن أبي جعفر، ورأى إسنادَ البزار معروفاً له فوثق رجاله) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1126 كما أن المسلمين أمروا خالد بن الوليد (1) في مُؤْتة (2) باجتهادهم. فصوب ذلك منهم، وأقرهم عليه (3) . وهذا كله اجتهاد منهم. وكذلك اتفقوا على قتال مانعي الزكاة من طريق الاجتهاد والتراجع (4) فيه والتحاجج عليه، والقصة منه ظاهرة، ومناظرتهم مشهورة. ويدل عليه: أن الأمة اتفقت على أن الأمَة في التقويم بمنزلة العبد، إذا أعتق شخصاً. وأن السّنّور إذا ماتت في السمن بمنزلة الفأرة. وأن الشحم الذائب   (1) هو: خالد بن الوليد بن المغيرة، أبو سليمان، المخزومي، القرشي، صحابي جليل، وقائد عسكري محنك، شارك في الفتوح الإسلامية. مات سنة (21هـ) . رضي الله عنه وأرضاه. انظر ترجمته في: الاستيعاب (2/427) . (2) مؤتة: بضم أوله، واسكان ثانيه، بعده تاء فوقها نقطتان، قرية من قرى البلقاء في حدود الشام. انظر: معجم ما استعجم (4/1172) ، ومراصد الاطلاع (3/1330) . (3) غزوة مؤتة وقعت في شهر جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة. فقد جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشاً مكوناً من ثلاثة آلاف مجاهد، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة فاستشهد الثلاثة، واحد بعد الآخر فأخذ الراية ثابت بن أقرم، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية خلّص الجيش، ثم رجع به إلى المدينة. ولم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تولية خالد لقيادة الجيشى، بل أثنى عليه، وسماه سيف الله. انظر: السيرة النبوية لابن هشام القسم الثاني ص (373-389) وتاريخ الطبري (3/36-42) . (4) في الأصل: (والراجع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1127 بمنزلة السمن. وأن الغائط في الماء بمنزلة البول. وأن غير فاطمة بنت أبي حبيش من المستحاضات [168/ب] بمنزلة فاطمة. وأن غير الأعرابي في كفارة الفط بمنزلته. وليس طريقه إلا القياس، فدل على ما قلناه. والطريق الثاني في جواز وجوده، والدليل عليه: أن القياس وما يجري مجراه أمارة ظاهرة، فجاز اجتماع العدد الكثير على الحكم من جهتها، أصله: القرآن والسنة. فإن قيل: لفظ القرآن والسنة مسموع، والجماعة تشترك في سماعه، فيجوز أن يقفوا على حكمه، وليس كذلك الاجتهاد، فإنه رأي، ولا يجوز أن ينظر العدد الكثير فيتفق رأيهم. قيل: الاجتهاد يستند إلى أمارة ثابتة صحيحة، وهى تأثيرات الأصول وشهادتها الدالة على المعاني، وظهورها كظهور لفظ القرآن والسنة، [فإذا] جاز (1) أن يجمع العدد الكثير عن الشبهة، مثل اتفاق اليهود والنصارى والمجوس على تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنكار نبوته، وعلى قتل عيسى - صلى الله عليه وسلم - وصلبه، كان اتفاقهم على الحجة أولى. واحتج المخالف: (2) بأن القياس باطل، فلا يجوز انعقاد الإجماع عليه. والجواب: أن القياس عندنا صحيح ودليل من دلائل الشرع. ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. واحتج: بأن نفس القياس لما كان مختلفاً فيه، وكان في المجمعين من لا   (1) في الأصل: (فجاز) . (2) لو عبر المؤلف: بـ (بعض الخالفين) لكان أدق؛ لأن بعض المخالفين يقول بحجية القياس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1128 يقول به، بطل أن يكون إجماعهم صادراً عن القياس؛ لأن ذلك يوجب كون الشىء مجمعاً عليه ومختلفاً فيه. والجواب: أن الإجماع عند داود إجماع الصحابة، ولا نسلم أنه كان منهم من لا يقول بالاجتهاد، ولا في التابعين. وما روي من ذم القياس عن بعضهم (1) ، فإنما أراد به مع وجود النص المخالف للقياس. وقد أجيب عنه بأن النافي للاجتهاد قد تناقض، فيثبت الحكم من طريق الاجتهاد، ويخفى عليه وجهه، كما ادعينا على داود أنه أثبت أحكاماً من طريق الاجتهاد مع مخالفته فيه. وجواب آخر، وهو: أنه باطل بخبر الواحد والعموم، فإنه لا يخلو عصر إلا وفيه من ينفى خبر (2) الواحد، ويمنع صحة العموم، ومع هذا فلا خلاف أن الإجماع ينعقد بكل واحد منهما. واحتج: بأن العدد الكثير لا يتفق اختيارهم لأمر واحد، واستحسانهم له؛ لأن الله تعالى باين بين الطباع، وخالف بين الدواعي والهمم، ولهذا لا يصح اتفاقهم على وضع كذب، وانتحال (3) شعر، واختيار كلام. والجواب: أن هذا خطأ؛ لما بيّنا من اتفاق رأيهم على ما ذكرنا.   (1) ذكر منها البيضاوي في المنهاج ثمانية آثار خرجها الحافظ العراقي ضمن ما خرج من أحاديث المنهاج ص (309-310) العدد الثاني من مجلة البحث العلمي التي يصدرها مركز البحث العلمي وإحياء التراث الاسلامي في كلية الشريعة بمكة المكرمة عام 1399هـ تحقيق الأستاذ صبحي السامرائي وسيأتي لهذه الآثار ذكر -إن شاء الله تعالى- في باب القياس. (2) في الأصل: (حتى) وهو خطأ. (3) في الأصل: (انتخال) بالخاء المعجمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1129 وعلى أن اتفاقهم على وضع كذب [169/أ] وانتحال (1) شعر، واختيار لفظ، إنما لم يجز؛ لأنه لا أمارة عليه تدعو إليه، وليس كذلك الحكم الشرعي فإن عليه أمارة تدعو إليه، وتدل عليه، فجاز أن تجمع خواطر العدد الكثير على اعتقاد صحته، والحكم به. ويدل عليه أنه يجوز اتفاقهم على الصدق، وإن كان لا يجوز اتفاقهم على وضع الكذب؛ لأن الكذب لا داعي له يعمهم، وللصدق داع يعمهم، ويجمعهم، كذلك للحكم دليل يعمهم، ويجمعهم، فافترقا. واحتج: بأن من نفى القياس وخالفه لا يفسق، ومن خالف الإجماع فسق، فكيف ينعقد الإجماع الذي يفسق من خالفه عن قياس لا يفسق من خالفه. والجواب: أنه إنما يفسق إذا لم يتأيد (2) بالإجماع عليه، فأما إذا تأيد (3) بالإجماع عليه، قوي بالمصير إليه، ففسق جاحده، وهذا كما قلنا في خبر الواحد: من جحده لا يفسق، ومع هذا إذا انعقد الإجماع فسق مانعه. وهكذا من منع صيغة العموم لا يفسق، فإذا انعقد الإجماع به فسق مانعه ومخالفه، وكذلك القياس مثله. واحتج: بأن القياس فرع والإجماع أصل، فكيف ينعقد الأصل عن فرعه. والجواب: أنه ليس بفرع للإِجماع، وإنما هو فرع لأصله الذي استنبط منه وذلك الأصل آية أو حديث (4) فإذا صح انعقاده عن أصل القياس صح انعقاده عن فرع ذلك الأصل.   (1) في الأصل "انتخال" بالخاء المعجمة. (2) في الأصل (يتأبد) بالباء الموحدة. (3) في الأصل: (تأبد) بالباء الموحدة. (4) في الأصل: (أوجب) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1130 واحتج: بأن القياس أمر خفي، يفتقر إلى استخراج واستنباط، وليس كل من كان من أهل الاجتهاد يقدر عليه. والجواب: أنه كذاك، ولكن إذا كان خفياً كان الاهتمام به أشدَّ والعناية به أؤكد، فكان الإجماع عنه (1) أولى. ألا ترى أن معرفة صيغة العموم أمر خفي، وكذلك الجمع بين الخبرين، واستخراج الحكم من بينهما، من حيث بناء أحدهما محلى الآخر، وهو أخفى من القياس وأدق، ومع هذا ينعقد الإجماع عنه ويصح، فانعقاده بالقياس أولى. واحتج: بأن كل واحد منهم إذا قال في الحادثة قولاً عن قياس فهو يقول: يجوز لغيري أن يخالفني فيه. فإذا أجمعوا عليه، فقد أجمعوا على تجويز مخالفتهم، وإذا أجمعوا على تجويز مخالفهم بَعُدَ قول من قال: لا يسوغ خلافهم. والجواب: أن كل واحد منهم يعتقد جواز مخالفته، ما لم يستقر إجماعهم على ذلك، فإذا استقر إجماعهم عليه، لم تسغ المخالفة، ولن يمتنع أن يخالف كل واحد منهم إذا انفرد، وإذا اجتمعوا لم يجز. ألا ترى أن خبر الواحد تسوغ مخالفته، كذلك ها هنا، وإذا ثبت هذا وأنه [169/ب] ينعقد من طريق الاجتهاد، فإنه ينعقد عن القياس الجلي (2) ، وعن القياس الخفي (3) . أما الجلي (4) [فـ] نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لّهُمَا أف) (5) نصّ على التأفيف   (1) في الأصل: (منه) . (2) عرف المؤلف: القياس الجلي ص (1325) من هذا الكتاب بأنه: (ما وجد معنى الأصل في الفرع بكماله) . وسيأتي إن شاء الله تعالى. (3) عرف المؤلف بما سيأتي قريباً. (4) في الأصل: (الخفي) وهو خطأ ظاهر. (5) آية (23) من سورة الإسراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1131 ونبّه على الضرب. وكذلك قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (1) ، (وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (2) ، ونحو ذلك. وأما الخفي: فهو قياس غَلَبة (3) الشبه، وبيانه: أن تحدث حادثة، وليس هناك إلا أصلان، أصل حظر، وأصل إباحة، وأصل الحظر له خمسة أوصاف، وأصل الإباحة له خمسة أوصاف، والحادثة لا تجمع أوصاف أحدهما، بل فيها من الإباحة أربعة أوصاف، ومن أوصاف، الحظر ثلاثة، فإذا كان كذلك ألحقناه بالذي كثرت أوصافه فيه. وهذا يقع في الصفات والأحكام. أما الصفات فمعروفة، و [أما] الأحكام فكالعبد (4) ، أخذ شبهاً من الحر: بأنه مكلف مخاطب، وأخذ شبهاً من البهائم: بأنه (5) مملوك، يورث، ويباع، ويوهب، فلم يجتمع معنى أحد الأصلين، فألحقناه بكل واحد بما هو أشبهه، فأطرافه أشبه بأطراف الحر، فأوجبنا فيها مقدراً، والجناية على غير أطرافه بالبهائم أشبه، فألحقناه بها، فالقياس ينعقد عليه؛ لأنه كغيره من أنواع القياس في باب العمل به، فوجب أن يكون كغيره في انعقاد الإجماع عليه.   (1) آية (40) من سورة النساء. (2) آية (124) من سورة النساء، والنقير: النقرة أو النكتة التى في ظهر النواة. انظر: مختار الصحاح والمصباح المنير مادة (نقر) . (3) في الأصل بدون إعجام، وقد أعجمت هذه الكلمة ص (1325) من هذا الكتاب. (4) في الأصل: (كالعبد) بدون الفاء. (5) في الأصل: (وأنه) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1132 مسألة الاعتبار في الإجماع بقول أهل العلم، ولا يعتبر بخلاف العامة لهم (1) . وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم، وقد ذكر له عن شريح (2) وابن سيرين - فقال: "هؤلاء لا يكونون حجة على من كان مثلهم من التابعين، فكيف على من قبلهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -". وحُكي عن قوم من المتكلمين: إذا خالفهم رجل من العامة، لم يكن إجماعاً (3) . دليلنا: أن العامي ليس من أهل الاجتهاد في أحكام الشريعة؛ لأنه لا يجوز أن يعمل باجتهادة، ولا يجوز لغيره أن يعمل به، فهو بمنزلة الصبيان والمجانين. فإن قيل: لا حكم لقول الصبيان والمجانين.   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/250) ، والمسوّدة ص (331) ، وروضة الناظر وشرحها نزهة الخاطر العاطر (1/348) وشرح الكوكب المنير (2/225) . وهو قول الأكثرين كما عبّر الآمدي في الإحكام (1/204) ، أو قول الجمهور كما جاء في المسوّدة ص (331) ، وبه قال إمام الحرمين كما في البرهان (1/684) والشيرازي كما في التبصرة ص (371) والفخر الرازي كما في المحصول (4/279) . (2) شريح بن الحارث بن قيس، أبو أمية، الكندي، الكوفي. القاضي المشهور. تولى القضاء ستين سنة. عَمَّر طويلاً. مات سنة (78هـ) وقيل غير ذلك. له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (1/59) وتهذيب التهذيب (4/326) والخلاصة ص (140) وشذرات الذهب (1/85) ، وطبقات الحفاظ ص (20) وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (80) . (3) واختاره القاضي أبو بكر والآمدي كما في الإحكام (1/204) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1133 قيل: لا حكم لقولهم في أحكام الشريعة، كما لا حكم لقول الصبيان والمجانين ووجوده وعدمه سواء. فإن قيل: العامة مكلفون، والصبيان والمجانين غير مكلفين. قيل: العامة لم يكلفوا الاجتهاد في الأحكام، بل منعوا منه، فلا فرق بينهم في ذلك. ولأن العامة محجوجة بقول أهل العلم، فوجب أن لا يُعتبر رضاهم به، كما أن الأمة لما كانت محجوجة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتبر رضاهم به، وكذلك أهل [170/أ] العصر الثاني مع أهل العصر الأول. ولأنهم يلزمهم الرضا بما اتفق أهل العلم عليه، وما وجب الرضا به، لم يكن لعدم الرضا حكم، وكان وجوده وعدمه سواء. واحتج المخالف: بقول النبي -عليه السلام- (لا تَجْتمعُ أُمَّتي على ضلالة) : و (لا تَجْتمعُ على الخطأ) ، والعامة من الأمة، فوجب أن يعتبر إجماعهم مع أهل العلم. والجواب: أن المراد به أهل العلم والاجتهاد، ولا مدخل للعامة فيه، وإن كانوا من الأمة، كما لا يدخل الصبيان، وإن كانوا من الأمة. وقد قيل: إن هذا لا يوجد؛ لأن عامة المسلمين يتبعون الأئمة من أهل العلم، ولكل فريق منهم إمام، يتبعونه، ويعتقدون (1) قوله، فلا يجوز أن يخالف أحد منهم فيما اتفقوا الجميع (2) .   (1) في الأصل: (يعتقد) . (2) لأن العامي في هذا الباب جاهل، ومن كان كذلك فلا يعتبر بوفاقه أو خلافه، فالواجب عليه أن يترك ذلك لأهله، ورحم الله امرأً عرف قدره. انظر المستصفى (1/182) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1134 فإن قيل: أليس قد اعتبرتم إجماع العامة فيما يشاركون العلماء فيه؟! مثل الطهارة، والصلاة، وعدد ركعاتها، والزكاة، والصيام، والحج، وتحريم الربا، والسرقة، ونحو ذلك، هلا اعتبرتم إجماعهم فيما يختص به العلماء، مثل فروع الطهارة وفروع الصلاة، ونحو ذلك. قيل: لأن السبب الذي عرف به هذه الأشياء، هو (1) النقل المستفيض، وذلك يشترك (2) في معرفته (3) العامة والخاصة، فأما غير ذلك فطريقه الاجتهاد، فلا معرفة لهم به.   (1) في الأصل: (وهو) والواو هنا لا معنى لها. (2) في الأصل: (مشترك) . (3) في الأصل: (معرفة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1135 فصل فيمن كان منتسباً إلى العلم، كأصحاب الحديث والكلام في الأصول (1) ، إلا أنه لا علم له بأحكام الفقه وفروعه وطرق المقاييس والرياضة بوجوه اجتهاد الرأى، فإنه لا يعتد بخلافه أيضاً (2) . وقد قال أحمد -رحمه الله، في رواية أبي الحارث-: "لا يجوز الاختيار إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة، ممن إذا ورد عليه أمر، نظر الأمور وشبهها بالكتاب والسنة" (3) . وذهب قوم من المتكلمين إلى أنه لا يصح الإجماع إلا بأن يجتمع عليه جميع أهل العلم والمنتسبين إلى العلم (4) .   (1) راجع هذا الفصل في: التمهيد (3/250) والمسوَّدة ص (331) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/351-353) وشرح الكوكب المنير (2/225/226) . وكذلك الكلام في الفروع، فإن الخلاف يتناول الفقيه الذي لا علم له بالأصول، وكما يتناول الأصولي الذي لا علم له بالفقه. (2) وبه قال معظم الأصوليين، كما في البرهان (1/685) وكما في المسوَّدة ص (331) . (3) هذه الرواية منقولة بنصها في المسوَّدة الموضع السابق. (4) نقل إمام الحرمين في كتابه البرهان (1/685) عن أبي بكر الباقلاني قوله: (إن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه يعتبر خلافه ووفاته) . قلت: وهذا لا خلاف في اعتبار قوله؛ لأنه أصولي فقيه. وإنما الخلاف فيمن اتصف بأحدهما. وقال ابن بدران في شرحه على روضة الناظر (1/351) : (وأما الأصولي إذا كان ماهراً فى فنه، فإني أرى إخراجه ممن يعتد بإجماعهم ليس من الإنصاف، وكيف لا وهو الممهد للمجتهد ومؤسس القواعد له، وله تدقيق في غوامض الأصول، لا يصل إليها المدقق في الفروع، ولا إلى قريب منها، فحقق ذلك واعتبره ترشد) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1136 دليلنا: أن من لا مدخل له في طرق الاجتهاد ورد الفروع إلى الأصول، فإنه يجري في أحكام الشرع مجرى العامي، فلما لم يعتد بالعامة فيما لا علم لهم به، لأنهم تبع للعلماء، منقادون لهم، وجب أن لا يعتبر أيضاً في الإجماع من ليس من أهل النظر والاجتهاد. ويبين صحة هذا: أن من لا مدخل له في تقويم الثوب وما يجري مجراه، فإنه لا يرجع إلى قوله فيه، ولا يعتد بقوله إذا احتيج إلى تقويم الثوب ونحوه، وكذلك من لا مدخل له في النظر بطرق الاجتهاد في أحكام الحوادث. ولأن القول يتبع العلم [170/ب] بالقول، والعمل يتبع العلم بالمعمول به، فلم يجز أن يعتد في الإجماع على الشيء بمن لا علم له به. ولأن المجتهد في الإجماع هو من كان معه آلة الإجماع التى يتوصل بها إلى معرفة الحكم، بأن يعرف القياس وأحكام المسائل وعلَلَها، حتى يقيس نظائرها عليها، ويرد الفروع إلى الأصول التى تشبهها، ومن لا يعرف أحكام الفروع لا يتمكن من هذا الذي ذكرنا، فلم يكن من أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بأشياء أخر، كمن عرف الحساب واللغة وغير ذلك من أنواع العلوم. فإن قيل: إذا عرف أصول الفقه أمكنه رد فروعه إليه. قيل: ليس الأمر على هذا، لأنه إنما يمكن رد الفروع إلى الأصول، إذا عرف معانيَها ونظائرها، حتى يقيسَ عليها. ويبين هذا: أنه لو كان هذا من أهل الاجتهاد لا يُحْتَمل قوله في الحادثة وتوقيفُه على الحكم، وما اقتصر على مجرد سكوته.   = قلت: ولاشك أن معرفة أصول الفقه شرط في المجتهد، ولكنها ليست كل الشروط، فمعرفتها وحدها لا تكفي في تسنم رتبة الاجتهاد. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1137 ومن يخالف في هذه المسألة يقول: إذا أجمع أهل الاجتهاد على شيء، ورضي المتكلمون بذلك في الجملة، ولم يعرفوا غير الحكم، ولا اجتهدوا، انعقد الإجماع. وهذا يدل على أنهم بمنزلة العامة، وأنهما خارجون من جملة أهل الاجتهاد. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (1) وهؤلاء من جملة المؤمنين. وقول النبى - صلى الله عليه وسلم -َ (لا تَجتمعُ أمتي على الخَطأ) ولم يخص. والجواب: أن المراد بذلك من هو من أهل الاجتهاد، ألا ترى أنه لم يرد به العامة. واحتج: بأن من عرف أصول الفرائض، ولم يعرف الغامض فيه [يعتبر قوله في ذلك] (2) . والجواب: بأن من عرف أصول الفرائض، يمكنه بناء فروعها عليها بالحساب والقياس، ومن عرف أصول الفقه لا يمكنه بناء أحكام فروعه عليه؛ لأن الفروع تختص بأدلة لا يشاركها الأصول فيها (3) .   (1) (115) سورة النساء. (2) الزيادة من التمهيد (3/252) . (3) ينبغي أن يقال هنا: إن الواحد من الأمة لا يخلو من ثلات حالات: الأولى: أن لا يعرف الفقه والأصول فهذا لا يعتبر قوله إلا على رأي من اعتبر قول العامة، وهو رأي مرجوح. الثانية: أن يعرف الفقه والأصول فهذا يعتبر وفاقه وخلافه بدون خلاف. الثالثة: أن يعرف أحدهما دون الآخر، وهذا فيه الخلاف الذي ذكره المؤلف. انظر: نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر (1/352) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1138 فصل ولا يعتبر في صحة انعقاد الإجماع بأهل الضلال والفسق، وإنما الإجماع إجماع أهل الحق، الذين لم يثبت فسقهم وضلالهم (1) . وقد قال أحمد -رحمه الله-، في رواية بكر بن محمد عن أبيه: "لا يشهد عندي رجلٌ، ليس هو عندي بعدل، وكيف أجوز حكمه؟! يعنى: الجَهْمي" (2) . وبهذا قال الرازي (3) والجرجاني (4) .   (1) راجع في هذا الفصل: أصول الجصاص الورقة (223/أ) التمهيد (3/252) والمسوَّدة ص (331) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/353) وشرح الكوكب المنير (2/227) . وكان ينبغي أن يحرر القول في هذه المسألة فقال: إن الكافر على قسمين: معاند ومتأول، فالمعاند كاليهودي لا يعتبر وفاقه أو خلافه؛ لأن العصمة في الإجماع للمؤمنين، وهو ليس بمؤمن. أما المتأول كالقدرية ففيهم رأيان، أحدهما لا يعتبر قولهم، والثاني يعتبر عند من لم يكفرهم. انظر: نزهة الخاطر العاطر (1/353) ، والإحكام للآمدي (1/207) . (2) هذا ليس بعدل عند الإمام أحمد؛ لأنه جهمي، والجهمي كافر عنده. انظر: مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود ص (263) وما بعدها، والمعتمد في أصول الدين للمؤلف ص (267) . (3) صرح بذلك في أصوله الورقة (223/ب) . (4) واختاره الأستاذ أبو منصور، حيث قال: (قال: أهل السنة: لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة) . وهو مروي عن مالك والأوزاعي ومحمد بن الحسن وغيرهم. انظر: شرح الكوكب المنير (2/227) ونزهة الخاطر العاطر (1/354) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1139 وذهب قوم من المتكلمين إلى أنه يعتد في الإجماع بمن يخالف الحق، كما يعتد بأهل الحق، سواء عظمت معصية المخالف للحق أو لم تعظم. وهو اختيار أبي سفيان الحنفي. وذكر الإسفراييني (1) : إن ارتكب بدعة كفر بها لم يعتد بقوله، وإن فسق بها، أو أتى كبيرة يعتد به (2) [171/أ] . دليلنا: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطَاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (3) فجعلهم شهداء على الناس وحجة عليهم فيما يشهدون به، لكونهم وسطاً. والوسط في اللغة: هو العدل (4) ، فلما لم يكن أهل الفسق والضلال بهذه الصفة، لم يجز أن يكونوا من الشهداء على الناس، فلا يعتد بهم في الإجماع. ويدل عليه أيضاً: قوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المْؤْمِنِينَ) (5) فلما لم يكن سبيل أهل الفسق والضلال سبيل المؤمنين، لم يجز أن يكون سبيلهم مأموراً باتباعه. ولأنه قد يجوز أن يعصي فيما يعتد به فيه من الإجماع، كما يعصي في غيره،   (1) نقل ذلك عنه في التمهيد (3/253) والمسوَّدة ص (331) . (2) واختاره أبو الخطاب من الحنابلة كما في التمهيد الموضع السابق وإمام الحرمين كما في البرهان (1/688) والغزالي كما في المستصفى (1/183) والآمدي كما في الإحكام (1/207) . وهناك رأي آخر يقول: (إن ذكر مستنداً صالحاً اعتد بقوله، وإلا فلا) انظر: المسوَّدة الموضع السابق، وشرح الكوكب المنير (2/228) . (3) آية (143) من سورة البقرة. (4) قد مضى الكلام على معنى هذه الكلمة في الهامش عند استدلال المؤلف بهذه الآية على حجية الإجماع. (5) آية (115) من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1140 فلا يجوز الاعتداد به. فإن قيل: قد لا يختار المعصية فيما يدخل به في جملة المجمعين، وإن كان قد يختار ذلك في غير باب الإجماع، ألا ترى أن الدلالة قد دلت على امتناع وقوع الخطأ من الأنبياء عليهم السلام فيما هم حجة فيه، وإن كان يجوز وقوع الخطأ الصغير منهم في غير ما يؤدونه إلينا. قيل: فيجب أن يقبل خبر الكذاب؛ لأنه يجوز أن لا يختار الكذب فيما يرويه، وإن كان يختار ذلك في غير باب الأخبار، ولا يشبه هذا الأنبياء؛ لأنهم معصومون في الرسالة. وأيضاً: فإن كونهم في جملة المجمعين يقتضي مدحهم وتعظيمهم، وكونهم من أهل الفسق والضلال يقتضي ذمهم والاستخفاف [بهم] ، فلما لم يجز أن يكونوا استحقوا الذم والمديح في حالة واحدة، لم يجز أن يكونوا داخلين في جملة من يعتد بهم في الإجماع مع كونهم من أهل الفسق. ويدل عليه قوله تعالى: (وَاتَّبع سَبِيلَ مَنْ أنَابَ إِلَىَّ) (1) . وقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) (2) والفاسق يأمر بالمنكر، ويمنع المعروف. ولأن من لا تقبل شهادته في حق خاص لم يعتد به فيما يلزم الجماعة. ولأنه إخبار بأمر من أمور الدين، فلا يدخل فيه الفاسق، مثل (3) أخبار الآحاد. واحتج المخالف: بقوله عليه السلام: (أمتي لا تجتمعُ على الخطأ) فلما كان أهل الفسق والضلال من جملة الأمة وجب أن يعتد بهم في جملة الإجماع. والجواب: أن المراد بذلك العدول منهم، كما كان المراد به العلماء منهم.   (1) آية (15) من سورة لقمان. (2) آية (110) من سورة آل عمران. (3) في الأصل: (مثلا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1141 واحتج: بأنهم قادرون على الصواب كقدرتهم على الخطأ، فلم يمتنع أن يدل الدليل على أنهم لا يختارون إلا الصواب فيما يعتد به بهم في جملة المجمعين، وإن جاز أن يختاروا مثل ذلك في غير باب الإجماع، وقد دلّ الدليل على ذلك، وهو قوله عليه السلام: (أمتي لا تَجتمعُ على الخطأ) . والجواب: أن الفاسق قادر على الصدق في خبره، ومع هذا فلا يقبل خبره. واحتج: [171/ب] بأن أخبار التواتر تسمع من العدل والفاسق، كذلك الإجماع. والجواب: أن ذلك يقع من كل فرقة، والإجماع يختص بفرقة. مسألة أهل المدينة وغيرهم في الإجماع سواء، فإذا قالوا قولاً، ووافقهم غيرهم عليه صار إجماعاً، وإن خالفهم غيرهم من أهل الأمصار لم يكن إجماعاً. ولا يكون قولهم أولى من قول غيرهم (1) . وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية أيى داود: "لا يُعجبُنى رأي مالك ولا رأي أحد" (2) . وقال -في رواية مهنا-: "لا ينبغي لرجل أن يضع كتاباً على أهل المدينة في بعض أقاويلهم التي (3) يذهبون إليها، ويأخذون بها عن عمر والصحابة والتابعين".   (1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (228/ب) والتمهيد (3/274) والمسوَّدة ص (331) وروضة الناظر مع شرحها (1/363) وشرح الكوكب المنير (2/237) . (2) الرواية بنصها موجودة في مسائل الإمام أحمد رواية أبى داود ص (275) . (3) في الأصل: (الذي) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1142 وظاهر هذا [عدم] جواز الوضع فيما انفردوا به. وحُكِي عن مالك أنه قال: "إذا أجمع أهل المدينة على شىء، صار إجماعاً مقطوعاً عليه، وإن خالفهم فيه (1) غيرهم" (2) . وقال قوم من أصحابه: إنه أراد إجماعهم (3) فيما طريقه النقل. وهذا فرار من ال مسألة . وقال آخرون: أراد بذلك اجتماعهم في زمن الصحابة والتابعين ومن يليهم (4) . دليلنا: قوله تعالى: (ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (5) وأهل المدينة ليس هم جميع المؤمنين. وكذلك قوله تعالى: (أمَّةً وَسَطَاً) (6) وذلك لا يختص بأهل المدينة؛ لأنهم بعضنا.   (1) في الأصل: (فيهم) . (2) وهو ما صححه ابن الحاجب في مختصره ص (41) إلا أنه قصره على الصحابة والتابعين. (3) في الأصل: (اجتماعهم) . (4) وقال آخرون: (أراد ترجيح اجتهادهم على اجتهاد غيرهم) . وقال آخرون: (أراد إجماع أهل المدينة على المنقولات المستمرة كالأذان والمد والصاع) . انظر: المسوّدة ص (332) ومختصر ابن الحاجب ص (41) ، وسيذكر المؤلف هذه الاحتمالات في آخر البحث، ويجيب عنها. (5) آية (115) من سورة النساء. (6) آية (143) من سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1143 وقوله تعالى: (فَإن تَنَازَغتُمْ في شَىْءٍ فرُدوهُ إِلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (1) فمن قال: يرد إلى أهل المدينة، فقد ترك الظاهر. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنُّجُوم، بأيهم اقْتَدَيتُم اهْتَدَيتُم) ، ولم يفصل بين أن يكونوا بالمدينة أو بغيرها. وقوله: (أمتي لا تجتمعُ على خَطَأ) وظاهر الخبر يفيد كل الأمة إلى يوم القيامة، لكن علمنا أنه لم يرد ذلك، فثبت (2) أنه أراد الأمة من كل عصر، وليس أهل المدينة أمته في العصر. ولأنهم بعض الأمة، والخطأ جائز عليهم كما هو جائز على غير أهل المدينة. ولأن حكم الإجماع لا يخلو أن يعود إلى فضيلة البقاع أو فضيلة الرجال في العلم، فإن اعتبرتم فيه فضيلة البقاع، فأهل مكة أحق به، وإن عاد إلى العلم، فعلي بن أبي طالب وابن مسعود وثلاثمائة ونيف من الصحابة انتقلوا إلى العراق من أهل العلم والدين، وليس من أقام بالمدينة بأعلم منهم. ولأن ما قالوه يفضي إلى أن يكون قولهم حجة ما داموا في المدينة، فإذا خرجوا منها وغابوا إلى الشام والكوفة وغير ذلك من البلاد لا يكون حجة، وما أفضى إلى هذا سقط في نفسه؛ لأن الاعتبار بأقوال المجتهدين، لا بمكانهم. ولأن ما كان حجة لله تعالى لا يختلف باختلاف الأزمان بدليل الكتاب والسنة، وقد ثبت [172/أ] أن إجماع أهل المدينة في هذا الوقت ليس بحجة (3) ، فلم (4) يجز أن يكون حجة فيما مضى.   (1) آية (59) من سورة النساء. (2) في الأصل: (ثبت) . (3) أي عصر المؤلف، فكيف بعصرنا الحالي. (4) في الأصل: (لم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1144 واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الإيمان لَيَأرِزُ (1) إلى المدينة كما تَأرِزُ الحية (2) [إلى جُحْرِها] ) (3) . والجواب: أن كلامه خرج على زمان الهجرة في رجوع الناس إلى المدينة هرباً من الكفار، ومعونة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا ينفي كون المؤمنين بغيرها، وجواز الخطأ على أهلها. وجواب آخر، وهو: أنه يفضي إلى أن جميع الإسلام إذا عاد إليها، وحصل فيها، لم يجز خلافه. واحتج: بقوله -عليه السلام-: (اللَّهم حبِّبْ إلينا المدينة، وباركْ لنا في صاعِها ومُدِّها) (4) .   (1) معمى (ليأرز) : (ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها) . النهاية مادة (أرز) (1/24) . (2) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرِزُ إلى المدينة (3/26) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً (1/131) . وأخرجه عنه ابن ماجة في كتاب المناسك، باب فضل المدينة (2/1038) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/286، 422، 496) وفي أحدها "الإسلام" بدل "الإيمان". (3) الزيادة من مراجع التخريج السابقة. (4) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً. أخرجه عنها البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب ... (3/28-29) وفيه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1145 والجواب: أن هذا لا ينفي وقوع الخطأ من أهلها كما لو دعا (1) مثل هذا الدعاء لغيرهم (2) لم ينف وقوع الخطأ منهم (3) ، وقد دعا لعلي ولغيره من الصحابة، ولم يدل على أن قول كل واحد منهم بانفراده حجة. واحتج: بما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الدجَّال لا يدخلها، وأن على كل باب منها ملكاً شاهراً سيفه) (4) . والجواب: أن هذا يفيد صيانتها من دخول الدجّال، ترغيباً في المقام بها، وهذا لا ينفى الخطأ من المقيمين بها.   = أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجُحْفة .... ) . وأخرجه عنها مسلم في كتاب الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها (2/1003) وفيه: (وبارك لنا في صاعها ومدها) مثل الرواية التي ساقها المؤلف. وأخرجه عنها الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجامع، باب ما جاء في وباء المدينة ص (555) . وأخرجه عنها الإمام أحمد في مسنده (6/56، 65، 222، 240، 260) . (1) في الأصل: (أدعى) . (2) في الأصل: (لغيره) . (3) في الأصل: (منه) . (4) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/373- 374، 417-418) عن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- وفيه: ( ... إن الله حرم حرمي على الدجال أن يدخلها، ثم حلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله الذي لا إله إلا هو ما لها طريق ضيق ولا واسع في سهل ولا جبل إلا عليه ملك شاهر بالسيف إلى يوم القيامة، ما يستطيع الدجال أن يدخلها على أهلها) . وأخرجه عنها ابن ماجة في كتاب الفتن، باب فتنة الدجال وخروح عيسى ابن مريم .... (2/1354-1355) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1146 واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفها بحفوف الملائكة بها. والجواب: أنه يحتمل أن يكون أراد صيانة المهاجرين والأنصار، وتسكيناً لروعهم من الكفار. واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن المدينة تنفى خَبَثَها كما تنفي النارُ خَبَثَ الحديد) (1) .   = والحديث الذي أورده المؤلف -رحمه الله- يدل على أمرين: 1- الدجال لا يدخل المدينة. 2- أنها محروسة بالملائكة. وذلك ثابت يشهد له ما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب فضائل المدينة، باب: لا يدخل الدجال المدينة (3/26-27) ولفظه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) . كما أخرج عن أنس وأبي بكرة -رضي الله عنهما- في الموضع السابق ما يدل على ذلك. ويؤيده ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب الحج، باب: صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال إليها (2/1005) . ويؤيده أيضاً: ما أخرجه الإمام مالك في موطئه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب الجامع، باب: ما جاء في وباء المدينة ص (556) . (1) هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث (3/27) وفيه: (المدينة كالكير تَنْفي خبَثَها، ويَنْصَع طيبها) كما أخرجه في الموضع السابق ص (28) عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - وفيه: (إنها تَنْفي الدجال كما تنفي النار خَبَثَ الحديد) . وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها (2/1005) عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- بألفاظ متقاربة. وأخرجه الإمام مالك في موطئه في كتاب الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1147 والجواب: أنه أراد بذلك في زمانه، بدلالة كثرة الخبث بها بعده، ومخبره لا يقع بخلاف ما أخبر به. ويحتمل: أن يكون أراد بالخبث الكفر والشرك عنها ظاهراً، فأما أهل الاجتهاد إذا خرجوا منها فلا. واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يصبرُ على لأَوَاءِ (1) المدينة وشدتها أحد إلا كنتُ له شهيداً يوم القيامة) (2) . والجواب: أنه ترغيب للمقام بها من غير أن يعتبر نفي الخطأ عنهم فيما طريقه الشريعة. واحتج: بما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يكيدُ أحدٌ أهلَ المدينة إلا انْمَاعَ كما يَنْماعُ الملحُ في المَاءِ) (3) .   = والخروج منها ص (553) عن جابر بن عبد الله وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/237، 247) عن أبي هريرة - رضي الله عنه. (1) اللأواء: الشدة وضيق المعيشة. النهاية مادة (لأي) (4/43) . هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها (2/1002-1005) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بمثل لفظ المؤلف إلا أنه قال: (شفيعاً أو شهيداً) . وأخرجه في الموضع السابق عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه. كما أخرجه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بلفظ (لا يصبر أحد على لأوائها فيموت، إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة، إذا كان مسلماً) . وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجامع، باب: ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها ص (552-553) عن ابن عمر - رضي الله عنه -. (3) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب: إثم من كاد أهل المدينة (3/26) عن سعد - رضي الله عنه - ولفظه كلفظ المؤلف. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1148 والجواب: أنه مقيد بما يفعله الله تعالى بمن أراد سوءً بالمدينة، والخطأ فيما يتفقون عليه في أمر الدين ليس من هذا في شىء، ومن ذمهم أو ردَّ عليهم، فإنه لا يريد سوءً بالمدينة. ولا يجوز حملُه على الأهل من غير دلالة. ولأن الفسق عبارة [172/ب] عن الفعل المذموم، ومن أنكر عليهم في خطئهم فقد دعاهم إلى خير، وأراده منهم. وعلى أن المكايَدَة هى المباينة بغير حق، وخلافُنا في الخلاف فيما هو حق، ويسوغ فلا يتناول الخبر موضعَ الخلاف. وجواب آخر، وهو: أن الخبرَ حجةٌ لنا، فإنه يتناول أهل المدينة حيث كانوا فيها أو في غيرها، فيجب إذا كانوا بالكوفة وغيرها من البلاد لا يُخالفون. واحتج: بأن أهل المدينة شاهدوا الرسول وحضروا التنزيل وعرفوا التأويل. والجواب: أن الصحابة الذين هذه صفتهم قولهم حجة، وإنما الخلاف فيه: إذا كان بعضهم بالمدينة وبعضهم خارجاً عنها، هل يكون قول البعض الذين بالمدينة حجةً على غيرهم؟ وليس فيما ذكروه ما يدل على ذلك. فأمَّا من قال: إن إجماع أهل المدينة حجة فيما طريقه التواتر فقد أبعد، لأن خبر التواتر، لا يختص بطائفة، وقد يقع ذلك ببعض أهل المدينة. ولا يجوز أن يُحمل قول مالك على تجويز الخطأ في تواتر غير أهل المدينة، وترجيح تواتر أهل المدينة، لأنهم عرفوا أواخر فعل النبي -عليه السلام- لأن من نقل الأخبار إلى غير أهل المدينة هم الصحابة الذين عرفوا أواخر فعله   = وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب: من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله (2/1007-1008) عن سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وسعد بن مالك -رضي الله عنهم- بألفاظ متقاربة، والمعنى واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1149 وأوائله (1) ، فلا يختص معرفة ذلك بالمقيمين بالمدينة. ولأن آحاد غير أهل المدينة قد يكونون (2) أحفظ بالخبر من آحادهم. وقد روى رافع بن خديج (3) : النهيَ عن المُزارعة لأهل المدينة، فرجعوا إلى خبره (4) .   (1) في الأصل: (أوائلها) . (2) في الأصل: (يكونوا) . (3) هو رافع بن خديج بن رافع بن عدي، الأنصاري، الأوسي، الحارثي، أبو عبد الله صحابي جليل. شهد أحداً وما بعدها. مات سنة (74هـ) بالمدينة، وله من العمر (86) سنة. له ترجمة في: الاستيعاب (2/479) والإصابة (2/86) . (4) حديث رافع هذا أخرجه البخاري في كتاب المزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمرة. وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب كراء الأرض (3/1181) . وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب التشديد في ذلك (1/232) . وأخرجه ابن ماجة في كتاب الرهون، باب المزارعة بالثلث والربع (2/819) . وأخرجه النسائي في أول كتاب المزارعة، (7/43) . وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب التفليس والصلح وأحكام الجوار والمزارعة والإجارة، باب المزارعة (1/275) . وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الشركة والقراض، باب ما جاء في كراء الأرض (2/119) . وأخرجه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب المزارعة والمساقاة (4/105) . وراجع في هذا الحديث أيضاً: نصب الراية (4/180) وذخائر المواريث (1/205) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1150 ولا يجوز أن يحمل ذلك على عمل أهل المدينة إذا ظهر، مثل نقلهم للصاع، لأن هذا إن كان عن خبر مستفيض فلا يخفى، وإن كان عن اجتهاد فاجتهادهم لا يلزم غيرهم. ولا يجوز أن يحمل ذلك على تقديم اجتهاد أهل المدينة على اجتهاد غيرهم؛ لأن ذلك إن كان يجب لمشاهدتهم لأقاويل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزول آي القرآن فإن ذلك حصل من الصحابة الذين انتقلوا إلى البصرة والكوفة، فلا معنى للتفريق. ولو وجب ما ذكروه لصار قول أهل مكة أولى في المناسك، لمشاهدتهم (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلها عندهم، ولَوَجَبَ (2) على ما قالوه أن يكونوا (3) أكثر الأمة إجماعاً (4) ، لأنهم أعلم. وأن يرجح قول المهاجرين لكثرة مشاهدتهم بطول صحبتهم. وأن يرجح [قول] ، المهاجرين لهذا المعنى، وقول شيوخ الصحابة على الأحداث (5) .   (1) في الأصل: (فمشاهدتهم) . (2) في الأصل: (والواجب) ودلالة السياق تدل على ما أثبتناه. (3) في الأصل: (يكون) . (4) في الأصل: (اجتماعاً) . (5) الكلام في مسألة إجماع أهل المدينة، أو عمل أهل المدينة قد كثر، فمن العلماء من نقله عن مالك صريحاً، ومنهم من أوَّله، وخرجه على وجه سائغ، ومنهم من فصَّل. وقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية عمل أهل المدينة أربع مراتب: المرتبة الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1151 مسألة في التابعي إذا أدرك عصر الصحابة، وهو من أهل الاجتهاد لم يعتدَّ بخلافه   = نقلهم لمقدار الصاع والمد، وكترك صدقة الخضروات والأحباس، فهذا حجة باتفاق. المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فهذا حجة في مذهب مالك، والمنصوص عن الشافعى، وظاهر مذهب أحمد، والمحكي عن أبي حنيفة. المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين، جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة، فاختلف فيه: فذهب مالك والشافعى: إلى أنه حجة، وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد، وقيل: هذا المنصوص عن أحمد، ومن كلامه: "إذا روى أهل المدينة حديثاً، وعملوا به، فهو الغاية". وكان يفتي على مذهب أهل المدينة، ويقدمه على مذهب أهل العراق تقديماً كثيراً. وذهب أبو حنيفة، وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد: أنه ليس بحجة. المرتبة الرابعة: العمل المتأخر بالمدينة، فالذي عليه أئمة الناس: أنه ليس بحجة، وهو مذهب الشافعى وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك عبد الوهاب في كتابه: أصول الفقه، وغيره. وربما جعله أهل المغرب من أصحاب مالك حجة، وليس معهم عن الأئمة نص ولا دليل بل هم أهل تقليد. قال ابن تيمية بعد هذا: (ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة) . انظر: الفتاوي (20/303-310) والعرف وأثره في الشريعة والقانون للمحقق ص (74) . ولابن القيم تقسيم آخر، ارجع إليه في اعلام الموقعين (2/394) . وللدكتور أحمد بن محمد نور سيف كتاب في هذا الموضوع بعنوان: عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين، فارجع إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1152 في أصح الروايتين (1) . أومأ إليها في [173/أ] مواضع. فقال في رواية أبي الحارث، وقد سأله: "إلى أي شىء ذهبت في ترك الصلاة بين التراويح (2) ؟ فقال: ضَربَ عليها عقبةُ بن عامر (3) ونهى عنها (4) عبادة بن الصامت، فقيل له: يروى عن سعيد والحسن: أنهما كانا يريان الصلاة بين التراويح (5) فقال: أقول لك: أصحاب رسول [الله] ، وتقول: التابعين! ".   (1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (231/أ) والتمهيد (3/267) والمسوَّدة ص (333) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/335) وشرح الكوكب المنير (2/233) . (2) العادة أن الإمام يريح المصلين في صلاة التراويح، فإذا صلى أربعاً مثلاً أراحهم مقدار ما يقضي الإنسان حاجته ويتوضأ، ففي هذه الفترة يقوم بعض الناس فيصلى، أو يقرأ في الصلاة حتى ينهض الإمام فيدخل معه. (3) هو عقبة بن عامر بن عبس الجهني، أبو حماد، صحابي. كان والياً على مصر. وتوفي آخر خلافة معاوية. له ترجمة في: الاستيعاب (3/1073) . (4) نهي عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات، باب في الصلاة بين التراويح (2/399) . (5) ما هنا موافق لما في المغني لابن قدامة (2/170) حيث قال: (وكره أبو عبد الله التطوع بين التراويح، وقال: فيه عن ثلاثة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبادة وأبو الدرداء وعقبة بن عامر. فذُكر لأبي عبد الله فيه رخصة عن بعض الصحابة؟ فقال: هذا باطل، وإنما فيه عن الحسن وسعيد بن جبير) . ونقل ابن هانئ في مسائله (1/97) عن الإمام أحمد قوله -وقد سأله عن = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1153 وسأله أيضاً عن عدد قتلوا رجلاً؟ "قال: يقادون (1) به، يروى عن عمر (2)   = الصلاة بين التراويح -: (مكروه، لا يصلي بين التراويح شىء، لا تشبه بالمكتوبة، كانوا يضربون عليها، يعنى: من تطوع بين التراويح) . (1) في الأصل: (يقود) . (2) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - رواه البخاري معلقاً في كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم (9/10) ولفظه: (وقال لي ابن بشار حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن غلاماً قُتل غِيلَة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم) . وأخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الجنايات، باب النفر يقتلون الرجل (8/40-41) ولفظه: (أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غِيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتُهم جميعاً) . ثم ذكر المؤلف روايات أخرى كلها تفيد أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقتل الجماعة بالواحد. وأخرجه مالك في الموطأ، في كتاب العقول، باب: ما جاء في الغيلة والسحر ص (543) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب: النفر يقتلون الرجل (9/475-480) وساق عدة روايات في ذلك. وأخرجه الدارقطنى في سننه في كتاب الحدود والديات (3/202) . وأخرجه الإمام الشافعى في كتاب القتل والجنايات، باب: ما جاء في قتل الجماعة بالواحد ... (2/249) . وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الديات، باب الرجل يقتله النفر (9/347-348) وساق ثلاث روايات في ذلك. وانظر: تغليق التعليق على صحيح البخاري لابن حجر (5/250) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1154 وعلي (1) ، فقيل له: يروى عن بعض التابعين (2) : أنه لا يقتل اثنان بواحد (3) ،   (1) الأثر هذا عن علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه البيهقي في الموضع السابق ذكره، ولفظه: (عن سعيد بن وهب: قال: خرج قوم، وصحبهم رجل، فقدِموا وليس معهم، فاتهمهم أهلُه، فقال شريح: شهودكم أنهم قتلوا صاحبكم، وإلا حلفوا بالله ما قتلوه، فأتوا بهم علياً - رضي الله عنه - قال سعيد: وأنا عنده، ففرق بينهم فاعترفوا، قال: فسمعت علياً - رضي الله عنه - يقول: أنا أبو حسن القرم، فأمر بهم علي - رضي الله عنه - فقتلوا.) . وأخرج عبد الرزاق في مصنفه في الموضع السابق (9/477) (أن عمر كان يشك فيها حتى قال علي: يا أمير المؤمنين: أرأيت لو أن نفراً اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضواً، وهذا عضواً أكنت قاطعهم؟ قال: نعم، قال: فذلك، حين استمدح له الرأي) . وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في الموضع السابق (9/348) بمثل لفظ البيهقي. والقول بقتل الجماعة بالواحد مروي عن ابن عباس وسفيان وقتادة والحسن وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعطاء. انظر: المصنف لعبد الرزاق (9/475-480) . وراجع في هذا الموضوع: نصب الراية (4/353-354) والتلخيص الحبير (4/20) . (2) نقل ابن أبي شيبة في مصنفه -كما سيأتي- القول بقتل واحد من الجماعة عن معاذ: ابن الزبير -رضي الله عنهما-. كما نقله عبد الرزاق في مصنفه -كما سيأتي- عن ابن الزبير - رضي الله عنه - وفي المذهب الحنبلي: رواية ثانية: أنهم لا يقتلون بالواحد، وتجب عليهم الدية. انظر: المغنى لابن قدامة (7/671) طبعة المنار الثالثة. (3) نقل ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب: الديات، باب: من كان لا يقتل منهم إلا واحداً (9/349) هذا القول عن حبيب ابن أبي ثابت وعبد الملك وابن الزبير وهشام ابن محمد ومعاد بن جبل. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1155 فقال: ما يُصنع بالتابعين؟ ". وكذلك نقل أبو عبد الله القَواريري (1) - كاتب أبي هاشم - قال: "سمعت أحمد يذاكر رجلاً، فقال له الرجل: قال عطاء، فقال: أقول لك: قال ابن عمر، تقول: قال عطاء، من عطاء، ومن أبوه؟ ". وظاهر هذا (2) : أنه لم يعتبر بقوله (3) . وبهذا قال طائفة من أصحاب الشافعى (4) .   = ونقله عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب النفر يقتلون الرجل (9/479) عن ابن الزبير والزهري وعبد الملك. ونقل عن معمر قوله: (وما علمت أحداً قتلهم جميعاً إلا ما قالوا في عمر) . كما نقل عن الزهري قوله: (ثم مضت السُّنة بعد ذلك -أي بعد حكم عمر - رضي الله عنه - في النفر الذين تمالؤا على قتل واحد في صنعاء- ألا يقتل إلا واحد) . قلت: وهذا غير مسلم، لما ثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه قتل جماعة بواحد، كما سبق تخريجه قريباً. (1) أقف على ترجمته. (2) الظاهر: أن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- قدم قول الصحابة على قول التابعين -كما في الرواية الأولى- أو قول الصحابي على قول التابعي -كما في الرواية الثانية- وليس فيما ذكر تقدم إجماع من الصحابة، خالفهم فيه التابعون بعد ذلك حتى يتم الاستدلال. والله أعلم. (3) واختار هذه الرواية الحلال والحلواني المؤلف -كما سترى- وإسماعيل بن عُلَيَّة. انظر: المسوّدة ص (333) وشرح الكوكب المنير (2/233) . (4) انظر: التبصرة في أصول الفقه: ص (384) وإرشاد الفحول ص (81) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1156 وفيه رواية أخرى: يُعتدُّ بخلافه (1) . أومأ إليه (2) -رحمه الله- في رواية أبي الحسن بن هارون (3) ، قال: "لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، واحتج بقول سعيد" (4) . وكذلك نقل عبد الله عن أبيه: "لا ينظر إلى شعر مولاته، وقال: قد روي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن ينظر العبد إلى شعر مولاته، وتأول الآية (5) . وقال سعيد: لا تغرنكم هذه الآية التي في سورة النور: (أو مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُنَّ) (6) إنما عنى بها الإماء، لا ينبغي أن ينظر إلى شعرها" (7) . وكذلك نقل أبو طالب عنه: "لا ينظر إلى شعر مولاته، وذكر قول سعيد: لا تغرنكم هذه الآية، ولم نَسمع إلا حديث السدّي عن ابن مالك (8) عن   (1) وبه قال جمهور الأصوليين. واختاره ابن عقيل وأبو الخطاب وابن قدامة من الحنابلة وكما اختاره المؤلف في بعض كتبه. انظر: التمهيد ونزهة الخاطر العاطر (1/355) ، والمسودة ص (333) وشرح الكوكب المنير (2/232-233) . (2) كان الأولى أن يعيد الضمير مؤنثاً، فيقول: (إليها) كما صنع في الرواية الأولى، وربما يُخرَّج على قصد (القول) . (3) لم أقف على ترجمته. (4) يعني: ابن المسيب، كما سيأتي في تخريج الأثر. (5) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب: النكاح، باب: ما قالوا في الرجل المملوك، له أن يرى شعر مولاته؟ (4/334) . (6) (31) سورة النور، والآية في الأصل: (أو ما ملكت أيمانكم) وهو خطأ. (7) أثر سعيد هذا أخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في الموضع السابق (4/335) ونقل أن مجاهداً وعطاء والضحاك كرهوا ذلك، كما نقل عن إبراهيم قوله: (تستتر المرأة عن غلامها) . (8) هكذا في الأصل: (ابن مالك) وهو موافق لما جاء في تهذيب الكمال للمزي في ترجمته السدّي (1/104) مخطوطة دار الكتب المصرية. وفي مصنف ابن أبي شيبة (4/334) : (أبو مالك) وهو موافق لما جاء في تهذيب = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1157 ابن عباس (1) ، فأما التابعون فقد نهى عنه غير واحد". فظاهر هذا: أنه اعتدَّ بقول سعيد خلافاً على ابن عباس. قال أبو بكر الخلال في كتاب "غض البصر" من "الجامع" (2) : "إنما صار أحمد -رحمه الله- إلى هذا، وترك قول ابن عباس؛ لأنه ضعيف. ومذهب أبي عبد الله: إذا صح عنده عن أحد من أصحاب رسول الله شىء (3) لم يجاوزه إلى من بعده من التابعين".   = الكمال في ترجمة غزوان (2/1089) ، وموافق لما جاء في تهذيب التهذيب (8/245) وتقريب التهذيب (2/105) ، وتاريخ البخاري (7/108) ، والجرح والتعديل (5/55) والإكمال (7/15) . والذي يظهر لي أنه: ابن مالك، وأبو مالك، إذ لا منافاة بين الأمرين، وإن كان اشتهر بكنيته. كما قال الحافظ في التقريب. وهو: غزوان بن مالك، أو أبو مالك الغفاري، الكوفي. روى عن عمار بن ياسر وابن عباس والبراء بن عازب وغيرهم. وعنه السدّي وسلمة بن كهيل وحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. وثقه ابن معين. وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حجر في التقريب: (ثقة من الثالثة) . انظر ترجمته في: المراجع السابقة. (1) هذا سند الأثر الذي روي فيه عن ابن عباس القول بجواز أن ينظر المملوك إلى شعر جاريته. وسيأتي كلام للإمام أحمد عن هذا السند. (2) هذا الكتاب يقول عنه الدكتور فؤاد سزكين في كتابه: تاريخ التراث العربي (م1 ج3 ص233-234) : (يضم مجموعة من كتب ورسائل ومسائل أحمد بن حنبل التي تتكون من عشرين جزءً ... المتحف البريطاني الملحق 168، مخطوطات شرقية 2675 (1، 212 ورقة، وسماع 560 هـ، 577 هـ) ... ويوجد في حوزة محمد بن عبد الرزاق بن حمزة بمكة (جزء آخر، 212 ورقة، 583 هـ ومنه نسخة مصورة بالقاهرة، ملحق 1/53 رقم 21888ب) قسم آخر بعنوان: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مسائل أحمد بن حنبل" الظاهرية حديث 245/1 (من ورقة 1-31، 576 هـ. انظر: فهرس معهد المخطوطات العربية 1/62، 146) . (3) في الأصل: (شيئاً) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1158 وليس الأمر على ما ذكر أبو بكر الخلال، لأن أحمد -رحمه الله- لم يترك حديث ابن عباس؛ لأنه لم يثبت عنده. يبين صحة هذا: ما رواه الأثرم قال: "قلت: السُّدِّي عن ابن مالك عن ابن عباس؟ فقال لي: نعم، قلت: أليس هو إسناداً؟! (1) ، فقال: ليس به بأس". وهذا يمنع ضعف الحديث عنده. وكذلك قوله في رواية أبي طالب: "لم أسمع إلا حديث السُّدِّى، والتابعون غير واحد، فيرجح قول التابعين لكثرتهم لا لضعفه". وبهذا قال المتكلمون (2) وأكثر الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعى. إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن كان من أهل الاجتهاد [173/ب] عند الحادثة كان خلافه خلافاً، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد عند الحادثة لكنه صار من أهله قبل انقراض العصر، فأظهر الخلاف، لم يكن خلافاً (3) ، على ما حكاه أبو سفيان.   (1) في الأصل: (إسناد) . (2) لو عبر المؤلف: (بأكثر المتكلمين) لكان أدق؛ لأن بعض المتكلمين قال بالرأي الأول، كما سبق بيانه. وهو ما فعله ابن عبد الشكور في مسلم الثبوت (2/221) ، والآمدي في الإحكام (1/218) . (3) الذي نصّ عليه الجصاص في أصوله الورقة (231/أ) : (أن التابعي الذي قد صار في عصر الصحابة من أهل الفتيا يعتد بخلافه على الصحابة، كأنه واحد منهم) . وكذلك نصّ عليه السرخسى في أصوله (2/114) . ولكون انقراض - العصر ليس بشرط عند الحنفية، فإن التابعي إذا بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد الإجماع، فلا أثر لمخالفته وإذا بلغ رتبة الإجتهاد قبل انعقاد الإجماع، فإنه يؤثر. انظر: مسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/221) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1159 وأصحاب الشافعى (1) يجعلونه خلافاً إذا صار من أهل الاجتهاد قبل انقراض عصر الصحابة. فالدلالة على أنه لا يعتد بقوله مع الصحابة: قوله -عليه السلام-: (اقتدوا باللَّذِينَ من بعدي: أبي بكر عمر) (2) .   (1) لو عبر ببعض أصحاب الشافعي، لكان أدق؛ لأن بعضهم لم يعتد به مطلقاً، كما سبق بيانه. (2) هذا الحديث رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب المناقب، باب: في مناقب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كليهما (5/609) . قال الترمذي فيه: (حديث حسن) . قال الترمذي فيه: (حديث حسن) . كما أخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً في باب مناقب عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - (5/672) وفيه زيادة: (واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود) . ثم قال: (هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود، لا نعرفه، إلا من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، ويحيى بن سلمة: يضعف في الحديث ... ) . وأخرجه ابن ماجه عن حذيفة - رضي الله عنه - في مقدمة سننه، باب: فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1/37) ولفظه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي" وأشار إلى أبي بكر وعمر) . وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة - رضي الله عنه - (5/382) بمثل لفظ المؤلف، وفي (5/385) أخرجه عنه بمثل لفظ ابن ماجة وزاد: (وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه) ، وفي (5/399) (وأهدوا هدي عمار، وعهد ابن أم عبد) ، وفي (5/402) زاد: (وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه) ولم يذكر عماراً. وقد حكم الشيخ الألباني لحديث حذيفة وحديث ابن مسعود بالصحة. انظر: صحيح الجامع الصغير (1/372-373) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1160 وقوله: (عليكم بسنَّتى وسنة الخلفاء الراشدِين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) (1) فلما أمر بالاقتداء بهم، والاتباع لهم دلّ على وجوب اتباع التابعي لهم، لم يجز خلافه. فإن قيل: هذا لا يمنع خلافهم، كما لم يمنع خلاف غير الأئمة من الصحابة للأئمة. قيل: ظاهر الخبر يقتضى وجوب اتباعهم، وترك مخالفتهم من الصحابة وغيرهم، لكن قام الدليل هناك، وبقي ما عداه على ظاهره. وأيضاً: قد ثبت أن قول الصحابي إذا انفرد حجة مقدم على القياس في الصحيح من قول أصحابنا وقول أصحاب أبي حنيفة وبعض الشافعية. ومن كان قوله حجة على غير أهل عصره لم يجز لمن كان من أهل العصر مخالفته.   (1) هذا الحديث رواه العرباض بن سارية - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (5/44) وقال: (حديث حسن صحيح) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة (2/506) . وأخرجه عنه ابن ماجة في مقدمة سننه، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (1/15) . وأخرجه عنه الدارمي في مقدمة سننه، باب اتباع السنة (1/43-44) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/126) . وأخرجه عنه أبو بكر عمر بن أبي عاصم الشيباني في كتاب السنة (1/29) رقم (54) قال الألباني: (إسناده صحيح، رجاله ثقات) . وأخرجه عنه الحاكم في مستدركه، في كتاب: العلم، باب: عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين (1/95-96) وقال: (حديث صحيح، ليس له علة) ووافقه الذهبي على ذلك. وقد صحح الشيخ الألباني هذا الحديث في كتابه صحيح الجامع الصغير (2/346) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1161 يدل عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان قوله حجة، لم يجز لأهل عصره مخالفته. فإن قيل: فالنبي حجة مقطوع عليه، والصحابي غير مقطوع عليه. قيل: خبر الواحد والقياس غير مقطوع عليهما، ويجب اتباعهما. فإن قيل: الذي قدمنا به قول الصحابي معرفته بأحوال التنزيل وطريق الأخبار ومشاهدتها، وهذا المعنى يتساويان فيه، فلا يلزم أحدهما متابعة الآخر. قيل: فكان يجب أن لا يكون قول الصحابي حجة على غيره من بعده من العلماء، وأن يكون قوله أيضاً (1) كقول الصحابة لمساواته في الطريق، ولما لم يقل هذا، لم يصح، لما ذكرته. فإن قيل: إنما يكون حجة، إذا لم يظهر من أحد من نظرائه خلافه، فإذا ظهر خرج عن أن يكون حجة، كما أن الإجماع ينعقد إذا لم يظهر ممن يعتدّ بقوله خلاف، فإذا ظهر لم ينعقد. قيل: لا نسلم أن التابعي نظير للصحابى في الاجتهاد، لوجوه: أحدها: أن قول الصحابي حجة على من بعده، والتابعي بخلاف ذلك. والثاني: أن الصحابي معه مزية ليست مع التابعي من مشاهدة التنزيل وحضور التأويل. والثالث: أنه منصوص عليه، لقوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي) وقوله: (أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) . وهذا المعنى معدوم في [174/أ] التابعين. ونجعل هذه طريقة في المسألة فنقول: للصحابي مزية على غيره من التابعين ومن بعدهم.   (1) في الأصل: (صار) ولعل ما أثبتناه هو الصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1162 لأنه لا يخلو ما قاله أن يكون عن توقيف أو اجتهاد، فإن كان عن توقيف فهو أولى، وإن كان عن اجتهاد فاجتهاده أولى بمشاهدة التنزيل وحضور التأويل. ولأنه منصوص عليه بقوله: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) وإذا كانت له هذه المزية على غيره كان الاعتبار بقوله دون غيره، كما قلنا في القياس مع خبر الواحد، لما كان للخبر مزية كان مقدماً على القياس، وإن كان مساوياً له في أنه حجة، طريقها: غلبة الظن. وللمخالف على هذا الدليل اعتراضات، نذكرها في قول الصحابي إذا انفرد به: أنه حجة، إن شاء الله تعالى. واحتج المخالف: بأنه قد ثبت أن الصحابة سوَّغت للتابعين الاجتهاد معها، وكانوا يفتون مع الصحابة، مثل سعيد بن المسيب وشُرَيح القاضي، الحسن البصري ومسروق وأبي وائل (1) والشعبي وغيرهم. ألا ترى: أن عمر وعلياً -رضي الله عنهما- ولّيَا شريحاً القضاء، ولم ينقضا أحكامه بالفسخ مع إظهاره الخلاف عليهما في كثير من المسائل. وكتب عمر إليه: (إن لم تجد في السنة فاجتهد رأيك) (2) . ولم يأمره بالرجوع، ولا الحكم بقوله.   (1) هو: شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، وقد سبقت ترجمته. (2) كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى شريح مشهور، فقد أخرحه وكيع في كتابه "أخبار القضاة" (2/189) بسنده إلى الشعبي، ولفظه: (عن الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح: ما في كتاب الله وقضاء النبي -عليه السلام- فاقض به، فإذا أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يقض به النبي -عليه السلام- فما قضى به أئمة العدل فأنت بالخيار إن شئت أن تجتهد رأيك، وإن شئت تؤامرني، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1163 وخاصم علي - رضي الله عنه - إلى شريح، ورضي بحكمه حين حكم عليه بخلاف رأيه (1) .   = ولا أرى في مؤامرتك إياي إلا أسلم لك) . كما أخرجه عن الشعبي بلفظ آخر هو: (عن الشعبي عن شريح كان عمر كتب إليه: إذا جاءك أمر، فاقض فيه بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، فاقض بما سن رسول الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله، فاقض بما أجمع عليه الناس، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله ولم يتكلم به أحد فاختر أي الأمرين شئت، فإن شئت فتقدم واجتهد رأيك، وإن شئت فأخِّرْه، ولا أرى التأخير إلا خيراً لك) . (1) لعل المقصود بهذا قصة مخاصمة علي - رضي الله عنه - لليهودي عند القاضي شريح، خلاصتها: أن علياً - رضي الله عنه - سقط منه درع، فوجده في السوق مع يهودي يريد بيعه، فقال له علي - رضي الله عنه -: لليهودي درعي سقطت مني، فأنكره اليهودي، فتحاكما إلى شريح، فقال شريح: ما أرى أن تخرج الدرع من يده، فهل من بينة، فقال علي - رضي الله عنه -: صدق شريح، ثم أسلم اليهودي. وهذه القصة أخرجها البيهقي في سننه في كتاب آداب القاضي، باب: إنصاف الخصمين في المدخل عليه والاستماع منهما ... (10/136) . وذكر الحافظ ابن حجر هذه القصة، وفيها: أن علياً جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي، فقال: لو كان خصمي مسلماً جلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تساووهم في المجالس". قال الحافظ بعد ذلك: "أبو أحمد والحاكم في الكنى في ترجمة أبي سمير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي: قال: عرف علي درعاً له مع يهودي، فقال: يا يهودي درعي سقطت مني، فذكره مطولا، وقال: منكر. وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه، وقال: لا يصح، تفرد به أبو سمير. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1164 وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: تذاكر أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدة المتوفى عنها زوجها: فقال ابن عباس: أبعد الأجلين. وقلت أنا: عدتها: أن تضع حملها. وقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي.   = ورواه البيهقي من وجه آخر من طريق جابر عن الشعبي، قال: خرج علي إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعاً، فعرف علي الدرع، فذكره بغير سياقه. وفي رواية له: لولا أن خصمي نصراني، لجثيت بين يديك، وفيه عمرو بن شمَّر عن جابر الجعفي، وهما ضعيفان. وقال ابن الصلاح في الكلام على أحاديث الوسيط: "لم أجد له إسناداً يثبت". وقال ابن عسكر في الكلام على أحاديث المهذب: "إسناده مجهول" انظر التلخيص الحبير (4/193) . وفي أخبار القضاة (2/194) زيادة: أن شريحاً طلب من على بينة على أن الدرع التي مع اليهودي له، فأحضر قنبر والحسن ابنه، فرد عليه شريح قائلاً: شهادة الابن لا تجوز للأب. فقال علي: "سبحان الله رجل من أهل الجنة". وفي رواية ساقها أيضاً وكيع في المرجع السابق: (أن شريحاً قال لعلي: بينتك، فجاء بعبد الله بن جعفر ومولى له، فشهدا، فكأن شريحاً لم يجز شهادة المولى ... فقال لعلي: اتبع بيعك بالثمن الذي دفعت إليه. وقال [يعني علياً] في أي كتاب الله وجدت أن شهادة المولى لا تجوز) . ففي الرواية الأولى نجد شريحاً خالف علياً في شهادة الابن. وعلى الرواية الثانية خالفه في شهادة المولى. وانظر: كشف الأسرار (3/945) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1165 فسوغ ابن عباس لأبي سلمة أن يخالفه، وتبعه أبو هريرة (1) . وذكر إبراهيم (2) عن مسروق أنه قال: (كان ابن عباس إذا قدم عليه أصحاب عبد الله (3) صنع لهم طعاماً ودعاهم، قال: فصنع لنا مرَّة طعاماً، فجعل يسأل ويفتي، فكان يخالفنا، فما يمنعنا أن نردّ عليه إلا أنا على طعامه) (4) . وسئل ابن عمر عن فريضة، فقال: (سلوا سعيد بن جبير، فإنه أعلم بها منِّي) (5) .   (1) أخرج هذا البخاري في كتاب التفسير (سورة الطلاق) (6/193-194) وتكملته: (فأرسل ابن عباس غلامه كريباً إلى أم سلمة يسألها، فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية، وهى حبلى، فوضعت بعد موته لأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو السنابل فيمن خطبها) . وأخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل (2/1122-1123) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في الحامل المتوفي عنها زوجها تضع (3/490) وقال: (هذا حديث حسن صحيح) . وأخرجه الدارمي في كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها والمطلقة (2/88) . وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها (6/157) . وأخرجه الإمام الشافعي كما في بدائع المنن في كتاب العدد، باب عدة الحامل بوضع الحمل (2/401) . (2) هو: إبراهيم النخعي، وقد سبقت ترجمته. (3) يعنى: ابن مسعود - رضي الله عنه. (4) لم أقف عليه. (5) أخرج هذا الأثر ابن سعد في الطبقات في ترجمة سعيد بن جبير (6/258) . وفيه (فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يُفْرِض منها ما أفرض) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1166 وسئل أنس عن مسألة فقال: (سلوا مولانا الحسن) (1) . وإذا ثبت أنها قد سوغت لهم ذلك، لم يكن بينهم في هذا المعنى فرق. والجواب: أنه يحتمل أن يكونوا سوغوا الاجتهاد للتابعين فيما كانوا مختلفين فيه، ليجتهدوا في أخذ أقوالهم، فسوغوا ذلك، ولم يثبت عنهم أنهم سوغوا خلاف الواحد فيما قال. ولهذا قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، يعنى: أبا سلمة. يبين صحة هذا: أنه روي أن علياً - رضي الله عنه - نقض على شريح حكمه في ابني عم، أحدهما أخ لأم، لما جعل المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم (2) ، [174/ب] .   (1) هذا الأثر أخرجه ابن سعد في طبقاته (7/176) في ترجمة الحسن البصري، وفيه: (فقالوا: يا أبا حمزة نسألك وتقول: سلوا مولانا الحسن فقال: إنا سمعنا وسمع فحفظ ونسينا) . وذكر ذلك الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة الحسن (2/264) بأخصر مما ذكره ابن سعد. (2) هذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب ميراث ابني عم أحدهما زوج والآخر أخ لأم (6/239-240) ولفظه: ( ... قال: أتي شريح في امرأة تركت ابني عمها، أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها، فأعطى الزوج النصف وأعطى الأخ من الأم ما بقي، فبلغ ذلك علياً - رضي الله عنه - فأرسل إليه، فقال: ادعوا لي العبد الأبطر (هكذا) فدعي شريح، فقال: ما قضيت؟ قال: أعطيت الزوج النصف، والأخ لأم ما بقي، فقال علي - رضي الله عنه -: أبكتاب الله أم بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟! فقال: بل بكتاب الله، فقال أين؟ قال شريح: "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله". قال علي - رضي الله عنه -: هل قال للزوج النصف، ولهذا ما بقي؟، ثم أعطى علي - رضي الله عنه - الزوج النصف والأخ لأم السدس، ثم ما بقي قسمه بينهما) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1167 وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لأبي سلمة ابن عبد الرحمن: (مثلك مثل الفَرُّوج، يسمع الديك يصيح، فصاح بصياحه) . وذلك إنكار منها عليه في مناظرة عبد الله بن عباس والدخول معه في الاجتهاد (1) .   = فيظهر من هذا: أن الحكم الذي نقضه علي - رضي الله عنه - على شريح هو في مسألة: امرأة تركت ابني عم، أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها. بينا الذي ذكره المؤلف هو في مسألة: امرأة تركت ابني عمها، أحدهما أخ لأم، وهي مسألة أخرى لا ذكر لشريح فيها، أخرجها البيهقي في الموضع السابق (6/240) ولفظه: (أتى علي بابي عم، أحدهما أخ لأم، فقيل له: إن عبد الله كان يعطي الأخ لأم المال كله، قال: يرحمه الله إن كان لفقيهاً، ولو كنت أنا لأعطيت الأخ لأم السدس، ثم لقسمت ما بقي بينهما) . والذي يظهر لي: أن المؤلف -رحمه الله- خلط بين المسألتين، ولا تأثير له على وجه الاستدلال من القصة، فإن في المسألة الأولى نقضاً لحكم شريح من علي - رضي الله عنه - وهو ما يريد المؤلف إثباته. والله أعلم. (1) قول عائشة -رضي الله عنها- لأبي سلمة أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الطهارة، باب واجب الغسل إذا التقى الختانان ص (57) وفيه: أن أبا سلمة قال: سألت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يوجب الغسل؟ فقالت: هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة مثل الفروج يسمع الدِّيَكة تصرخ، فيصرخ معها، إذا جاوز الختان فقد وجب الغسل. ومن هذا يتبين أنه لم يكن هناك مناظرة بين أبي سلمة وابن عباس - رضي الله عنه - ولم أجد مرجع يعتمد عليه -حسب اطلاعى- أن عائشة -رضي الله عنها- قالت ذلك في مسألة عدة المتوفى عنها زوجها. نعم وجدت بعض كتب الأصول يذكر أن عائشة -رضي الله عنها- قالت ذلك لأبي سلمة لما خالف ابن عباس - رضي الله عنه - في عدة المتوفى عنها زوجها، منها المحصول (4/254) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/356) وشرح الكوكب المنير (2/234) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1168 واحتج: بأن معه آلة الاجتهاد، فكان متعبداً به، ولم يجز له تقليد غيره. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون معه آلة الاجتهاد، ويكون متعبداً بغيره، كما كان متعبداً نحو الواحد إذا عارضه القياس. واحتج: بأنهم من أهل الاجتهاد في وقت حدوث النازلة، فوجب أن لا ينعقد الإجماع إلا بموافقتهم، أصله: الصحابة. والجواب: أن الصحابة قد تساووا في المزية والاجتهاد، وليس ذلك في التابعين، فإنهما وإن ساووا الصحابة في الاجتهاد، فللصحابة مزية عليهما من الوجه الذي بينا، فلهذا لم يعتد بخلافهم عليهم. واحتج بأن الاعتبار بالعلم دون الصحبة، يدل عليه: أن الصحابي إذا لم يكن عالماً وجب عليه تقليد أهل العلم من التابعين، فإذا كان كذلك، وقد شاركهم التابعي في العلم، وجب أن يكون بمنزلتهم. والجواب: أن الاعتبار بالعلم والصحبة لما فيهما من المزية، فإذا لم يكن الصحابي عالماً فقد عدم أحد الوصفين، فلهذا لم يعتد بقوله. وإذا كان من أهل الاجتهاد فقد وجد معنيان، والتابعي يوجد فيه أحدهما.   = وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/290) في ترجمة أبي سلمة قول عائشة -رضي الله عنها- بدون أن يربطه بحادثة وإنما ذكر أنها قالت له ذلك، وهو حَدَث. وفي هامش الكتاب المذكور قال المحقق تعليقاً على ذلك: (أورده ابن عساكر مطولاً في نسخه "ع" 9/151ب) . وقال الآمدي في كتابه الإحكام (1/219-220) : (إن عائشة -رضي الله عنها- أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مجاراته للصحابة وكلامه فيما بينهم، وزجرته عن ذلك وقالت: (فروج يصيح مع الدِّيَكة) . فلم يربط هذا القول بحادثة معينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1169 مسألة [الإجماع السكوتي] إذا قال بعض الصحابة قولاً، وظهر للباقين، وسكتوا عن مخالفته والإنكار عليه حتى انقرض العصر، كان إجماعاً (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية الحسن بن ثواب، قال: "أذهبُ في التكبير غداةَ يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شىء تذهب؟ قال: بالإجماع: عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس" (2) . وظاهر هذا: أنه جعله (3) إجماعاً، لانتشاره عنهم، ولم يظهر خلافه (4) . وقد صرح به أبو حفص البرمكي، فيما رأيته بخطه على ظهر الجزء الرابع من شرح مسائل الكوسج، فقال: "قال أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - في رواية محمد بن عبيد الله بن المنادي (5) : "أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-   (1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (226/ب) والتمهيد (3/323) والمسودة ص (335) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/381) وشرح الكوكب المنير (2/253) . (2) سبق الكلام عن هذه الرواية ص (1060) كما سبق تخريج ما تضمنته من آثار. (3) في الاصل: (أجعله) . (4) سبق مناقشة الإجماع في هذه المسألة هامش ص (1061) . (5) هو: محمد بن عبيد الله بن يزيد بن المنادي، أبو جعفر البغدادي. سمع شجاع بن الوليد وحفص بن غياث وأبا أسامة وغيرهم. وعنه البخاري وأبو داود وعبد الله البغوي وغيرهم. روى عن الإمام أحمد بعض المسائل. قال ابن حجر: "صدوق". مات سنة (272هـ) وله من العمر مائة سنة وسنة واحدة. له ترجمة في: تقريب التهذيب (2/188) وطبقات الحنابلة (1/302) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1170 على هذا المصحف (1) ". قال أبو حفص: فبان بهذا أن الصحابة إذا ظهر الشىء من بعضهما، ولم يظهر من الباقين خلافهم: أنه عنده إجماع. وبهذا قال الأثرم (2) من أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه أبو سفيان السرخسى والجرجاني (3) . وهو أيضاً قول الأكثر من أصحاب [175/أ] الشافعي (4) . ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: يكون حجة، إلا أنه لا يكون إجماعاً. حكاه الجرجاني (5) . ومن أصحاب الشافعي من قال: يكون حجة مقطوعاً بها، ولا يكون إجماعاً (6) ؛ لأن الشافعي قال: "لا ينسب إلى ساكت قول" (7) .   (1) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة ابن المنادي (1/304) . (2) لم أقف على ترجمته. (3) وهو قول الأكثر من الحنفية. انظر: التقرير والتحبير (3/101) وتيسير التحرير (3/246) ، ومسلم الثبوت (2/232) . (4) وبه قال الشيرازى في التبصرة ص (391) . وفي جمع الجوامع مع شرحه للمحلي (2/189) : (والصحيح: أنه حجة مطلقاً) ثم نقل عن الرافعي: أنه المشهور عند الأصحاب، قال: وهل هو إجماع؟ فيه وجهان. (5) في الأصل: (وحكاه الجرجاني) وهي مكررة في الأصل. (6) نقل ذلك الشيرازي الشافعي في كتابه التبصرة ص (392) عن بعض أصحابه، ولم يُسمِّ أحداً. وعزاه الآمدي في الإحكام (1/228) إلى أبي هاشم، وهو ما فعله الرازي في المحصول (4/215) . (7) ذكر الجلال المحلي في شرحه لجمع الجوامع (2/189) أن كونه ليس بحجة ولا = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1171 وقال قوم من المتكلمين: لا يكون حجة (1) . وحكي عن قوم من المعتزلة (2) والأشعرية (3) . وحكي ذلك عن داود (4) . دليلنا: أن الصحابي إذا قال قولاً، وانتشر في الصحابة، فسكتوا عنه، فلا يخلو من خمسة أحوال: إما أن [لا] يكونوا قد اجتهدوا. أو اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شىء يجب عليهم اعتقاده. أو أدى إلى خلاف القول الذي ظهر، أو إلى وفاقه. أو كانوا في تَقِيَّة. ولا يجوز أن لا يكونوا قد اجتهدوا؛ لأن العادة إذا نزلت بهم نازلة أن   = إجماع منسوب إلى الإمام الشافعي، آخذا من قوله: "لا ينسب إلى ساكت قول". والمؤلف هنا يعلل بكلام الشافعي هذا للقول بكونه حجة وليس بإجماع، فتدبر. وقد نقل الرازي في المحصول في الموضع السابق عن الشافعي: أنه ليس بإجماع ولا حجة. وهو ما فعله الآمدي في الإحكام. (1) وبه قال الرازي في المحصول، والغزالي في المستصفى (1/191) . (2) بعدم الحجية قال أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/539) . (3) لعل المؤلف يقصد القاضي أبا بكر الباقلاني، فإن الشيرازي في التبصرة ص (392) نسب إليه عدم القول بالحجية، حيث قال: (وقال القاضي أبو بكر الأشعري ليس بحجة أصلاً) . (4) هكذا نقل المؤلف عن داود بصيغة التضعيف. ولكن الشيرازي في التبصرة ص (392) جزم بنسبة ذلك إليه. وقد ارتآه ابن حزم في كتابه الإحكام (4/531، 543) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1172 يرجعوا إلى الظن والاجتهاد. ولأن هذا يؤدي إلى خروج الحق عن أهل العصر، وهذا لا يجوز؛ لأنهم لا يجتمعون على خطأ، ولأنه يؤدي إلى خلو العصر من قائم لله بحجة. وهذا لا يجوز؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يخلو عصر من الأعصار من قائم لله بحُجَّة) (1) . وقوله -عليه السلام-: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يَضَرُّهم من نَاوأهُم) (2) .   (1) بهذا اللفظ يقول الغماري في تخريج أحاديث اللمع ص (255) : "لا أصل له" أ. هـ. وقال أبو الخطاب في التمهيد (3/352) : (هذا الحديث غير معروف في أصل) . وقال الشيرازي في التبصرة ص (376) (لا نعرف هذا الحديث) ولكن رأيت أبا نعيم في كتابه الحلية (1/79) أخرجه من كلام علي - رضي الله عنه - في وصيته لكميل بن زياد، والوصية طويلة، جاء فيها (كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لئلا تبطل حجج الله وبيناته ... ) . وفي معناه جاء حديث: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) . أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة (2/424) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. كما أخرجه الحاكم عنه في كتاب الفتن باب ذكر بعص المجددين في هذه الأمة (4/522) . وأخرجه البيهقي في المعرفة حكى ذلك السيوطى والمناوي والألباني. وقد رمز السيوطي له بالصحة في كتابه الجامع الصغير. ونقل المناوي في كتابه فيض القدير (2/282) عن الزين العراقي: أن سنده صحيح. وصححه كذلك الشيخ الألباني في كتابه صحيح الجامع الصغير (1/143) رقم الحديث (1870) . (2) هذا الحديث أخرجه البخاري عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - مرفوعاً، في كتاب الاعتصام، باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (لا تزال طائفة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1173 ولا يجوز أن يكونوا قد اجتهدوا، فلم يؤد [اجتهادهم] إلى شىء يجب اعتقاده في مدة العصر؛ لأن العادة بخلافه، ولأن طرق الحق ظاهرة، ولأن ذلك يؤدي إلى خطأ الجميع في الاجتهاد، وعدولهم عن طريق الصواب وهذا لا يجوز. ولأنهم إذا كانوا بهذه الصفة، فليس لهم قول في الحادثة، بل هم بمنزلة العامة فيها، فلا يعتد بقولهم وبخلافهم. ولا يجوز أن يكونوا في تقية وفزع (1) : لأنه إذا كان الأمر على هذا، فانه لا يحكم بانعقاد الإجماع، وإنما يحكم بذلك إذا سكتوا عمن لا يخالفونه ولا يتقونه. ولا يجوز أن يكونوا قد اجتهدوا، فأدى [اجتهادهم] إلى خلافه، فلم يظهروه؛ لأن إظهار الحق واجب، والحق في واحد، فيكون ذلك إجماعاً على خطأ؛ لأن القائل عندهم مخطىء، والمقر على الخطأ مخطىء ولا يجوز أن يجتمعوا على خطأ.   = من أمتي ظاهرين على الحق) (9/125) ولفظه: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون) . ورقم الحديث في الفتح (7311) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإمارة، باب: لا تزال طائفة من أمتي ... (3/1523) . وأخرجه الترمذي عن ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب الفتن، باب ما جاء في الأئمة المضلين (4/504) وقال: (حديث حسن صحيح) . وأخرجه عنه أبو داود في أول كتاب الفتن (2/413-414) جزء من حديث طويل. وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/278) جزء من حديث طويل أيضأ. كما أخرجه عن أبي أمامة - رضي الله عنه - (5/269) . (1) في الأصل: (وفرع) بالراء المهملة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1174 ولا يجوز أن يقال: سكتوا مع اعتقادهم أن كل مجتهد مصيب؛ لأن المسألة مبنية على أن الحق في واحد، وعلى أن العادة جارية بأن من له مذهب، وسمع خلافه، أظهر مذهبه، ودعا إلى قوله، وناظر عليه، وإن كان يعتقد أن كل مجتهد مصيب، كما فعل أبو حنيفة ومالك وغيرهما من الأئمة، وإذا جاز ذلك ثبت أن سكوتهم كان لرضا منهم بقوله [175/ب] . واحتج المخالف: بأن سكوتهم يحتمل أن يكون لأنهم كانوا في مهلة النظر، ولم ينكشف لهم الصواب. ويحتمل أن يكونوا معتقدين أن كل مجتهد مصيب. وأن الإنكار والمخالفة لا يجب. ويحتمل أن يكون ذلك لهيبة قائله، كما قال عبد الله بن عباس: (أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب، وأيم الله لو قدَّم من قدمه الله، وأخر من أخره الله ما عالت الفرائض. فقال زفر بن أوس (1) : فما منعك (2) أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هبته) . وإذا احتمل السكوت ما ذكرناه، لم يجز حمله على الرضا والاتفاق. والجواب: أن مهلة [النظر] لا تمتد إلى آخر العصر؛ لأن طرق الحق واضحة، ومن نظر فيها من أهل الاجتهاد، فلا بدَّ من أن يصل إلى الحق.   (1) هو زفر بن أوس بن الحدثان، النصري، المدني. روى عن أبي السنابل بن بعكك، وعنه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ما روى عنه سواه، كما يقول الذهبي. يقال: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرف له رواية ولا صحبة. له ترجمة في: تهذيب التهذيب (3/327) وميزان الاعتدال (2/71) . (2) في الأصل: (فما يمنعك) والتصويب من سنن البيهقي (6/253) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1175 وقولهم: يحتمل أن يسكتوا لاعتقادهم أن كل مجتهد مصيب: لا يصح؛ لأنه لم يكن في الصحابة -رضوان الله عنهم- من يعتقد ذلك، ونحن نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى؛ لأنهم لو اعتقدوا ذلك لوجب أن يظهر منهم خلافه، كما نشاهد ذلك في زماننا، وسمعناه من حال من تقدمنا من الاختلاف والمناظرة. وقولهم: يحتمل أن يكون للهيبة: لا يصح؛ لأن الهيبة لا تمنع من إظهاره لغيره، كما أظهره عبد الله بن عباس. فصل (1) ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون القول فتياً أو حكماً. وقال بعض الشافعية، وهو ابن أبي هريرة (2) : إن كان حكماً، لم يكن إجماعاً، ولم يحتج به؛ لأنا نحضر مجالس الحكام، وهم يحكمون بخلاف ما نعتقده، فلا ننكر عليهم، فإذا كان فتيا، أفتى كل واحد منا بما يعتقده (3) . دليلنا: أن الحاكم يستحب له أن يستشير ويعرف ما عند أهل العلم فيما يريد أن يحكم به، فيكون الحكم المسكوت عنه أولى بالإجماع.   (1) هذا الفصل تابع لل مسألة التي قبله، فلو جمع المؤلف بينهما لكان أفضل، وهو ما فعله كثير من الأصوليين؛ لأنه قول بالتفصيل في المسألة. (2) هو: الحسن بن الحسين، أبو علي، ابن أبي هريرة الشافعي. الفقيه القاضي. تفقه علي ابن سريج وأبي إسحاق المروزي. مات سنة (345هـ) . له ترجمة في: تاريخ بغداد (7/298) ، وشذرات الذهب (2/370) وطبقات الشافعية (3/256) ووفيات الأعيان (1/358) . (3) نَسَبَ هذا إلى ابن أبى هريرة: الشيرازيُّ في التبصرة ص (392) ، والآمدي في الإحكام (1/228) وجمع الجوامع مع شرح الجلال (2/189) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1176 ولأن الصحابة لم يكن عادتهم كما ذكر ابن أبي هريرة، وكان من عنده حق أظهره ورد عليه. وقالت امرأة لعمر بن الخطاب - لما نهى عن المغالاة في المهور-: (أو يعطينا الله، وتمنعنا يا عمر؟) . وروي: (يا ابن الخطاب، قال الله تعالى: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهنَّ قِنْطَاراً، فَلاَ تَأخذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (1) فقال عمر: امرأة خاصمت (2) عمر فخصمته) (3) .   (1) (20) من سورة النساء. (2) في الأصل: (خصمت) . انظر: القاموس مادة (خصم) . (3) هذا الأثر أخرجه البيهقي في كتاب الصداق، باب لا وقت (لا تقدير) في الصداق قل أو أكثر (7/233) بلفظين: أحدهما: (قال عمر - رضي الله عنه - خرجت وأنا أريد أن أنهي عن كثرة مهور النساء، حتى قرأت هذه الآية: (وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً)) ثم قال البيهقي بعد ذلك: هذا مرسل جيد. الثاني: (قال: خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وقال: ألا لاتغالوا في صداق النساء، فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شىء ساقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال. ثم نزل، فعرضت له امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين أكتاب الله أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله تعالى، فما ذاك؟ قالت: نهيت الناس آنفاً أن يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه (وَآتَيْتُم إحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) فقال عمر - رضي الله عنه -: كل أحد أفقه من عمر مرتين أو ثلاثاً، ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له) . ثم قال البيهقي بعده: هذا منقطع. وذكره الحافظ ابن حجر في كتابه المطالب العالية في كتاب النكاح (2/4-5) ، ونسبه إلى أبى يعلى = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1177 مسألة إذا قال بعض الصحابة قولاً ولم يظهر في الباقين، ولم يعرف له مخالف، فإن كان القياس يدل عليه: وجب المصير إليه والعمل به (1) . وإن كان القياس يخالفه، فإن كان مع قول الصحابي قياس أضعف منه كان قول الصحابي مع أضعف القياسين أولى؛ لأنه لا يمتنع أن يكون كل واحد منهما حجة حال الانفراد، ثم يصير حجة [176/أ] بالاجتماع، كاليمين مع الشاهد؛ لأن اليمين حجة ضعيفة في جَنَبَة المدعي؛ لأن مقتضاها أن يكون في جَنَبَة المدعي عليه، ومع هذا: فقد قويت بانضمام الشاهد إليها. وكذلك كل واحد من الشاهدين ليس بحجة في نفسه، ويصير حجة مع غيره. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم: "ربما كان الحديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم- في إسناده شىء، فيؤخذ به إذا لم يجيء خلافه أثبت منه، مثل: حديث عمرو بن شعيب (2) ، وإبراهيم الهجري، وربما أخذ بالمرسل إذا لم يجيء خلافه".   = وذكره الهيثمى في كتابه مجمع الزوائد في كتاب النكاح، باب الصداق (4/283-284) . ثم قال: (رواه أبو يعلى في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، وقد وثق) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب النكاح، باب: غلاء الصداق (6/180) . وأخرجه سعيد بن منصور في سننه في كتاب الوصايا، باب: ما جاء في الصداق (3/195) حديث رقم (598) . (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد: (3/331) المسوَّدة ص: (335) . (2) في الأصل: (عمرو بن سعيد) ، وهو خطأ؛ لأن المؤلف قد أورد هذه الرواية ص: (1032) ، وذكر اسمه (عمرو بن شعيب) ، وهناك ترجمنا له في الهامش. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1178 وقال -في رواية أبي طالب-: "ليس في النَّبِق (1) حديث صحيح (2) ،   (1) في الأصل: بدون إعجام، والنبق: -بفتح النون وكسر الباء وقد تسكن-: ثمر السدر، أو حمل السدر. انظر: القاموس (3/284) ، النهاية (4/123) مادة: (نبق) . (2) هكذا يقول الإمام أحمد، فهو ذهاب منه إلى عدم صحة الأحاديث الواردة في ذلك. ولكن النهي عن قطع السدر: قد ورد من حديث عبد الله بن حبشي الخثعمي، - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قطع سدرةً صوَّب الله رأسَه في النار) . أخرجه أبو داود في كتاب، الأدب، باب: في قطع السدر (2/650) . كما أخرجه النسائي في السير، والضياء في المختارة، كما في الجامع الصغير وشرحه فيض القدير (6/206) ، حديث (8962) . وأخرجه الطبراني في الأوسط بزيادة (من قطع سدرة من سدر الحرم..) ، قال الهيثمى في مجمع الزوئد (8/115) : (رجاله ثقات) . وقد رمز له السيوطى بالصحة، ووافقه الألباني في كتابه: صحيح الجامع الصغير (5/341) . ومدار الحديث: على "سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم". وقد روى عن أبيه وجده وعبد الله بن حبيش وأبي هريرة، وروى عنه جماعة منهم: ابن عمه عثمان بن أبي سليمان بن جبير وابن أبي ذئب وهشام بن عمارة النوفلي. قال الحافظ ابن حجر -في التهذيب (6/76) - (روى له أبو داود والنسائي حديثاً واحداً في قطع السدر) . وسعيد هذا: ذكره ابن حبان في الثقات. قال الذهبي في الميزان (2/157) : (وسعيد فيه جهالة، فتحرر حاله، فإنه روى أيضاً عن أبي هريرة وجماعة) . وقال ابن القطان: فيما نقله المناوي في فيض القدير-: (لا يعرف حاله، وإن عرف نسبه وبيته، روى عنه جمع، فالحديث لأجله حسن لا صحيح) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1179 .................................   = وقد أخرج أبو داود هذا الحديث في سننه في الموضع السابق عن عثمان بن أبي سليمان عن رجل من ثقيف عن عروة بن الزبير مرسلاً. وقد قال بعض العلماء: إن الحديث مضطرب، من أجل ذلك. انظر: عون المعبود (4/530) . فالخلاصة: أن هذا الحديث صحيح، فسعيد بن محمد بن جبير معروف، وقد وثّقه ابن حبان. والحديث محمول على سدر الحرم، لما أخرجه الطبراني في الأوسط بزيادة: (من سدر الحرم) ، ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي، والله أعلم. والنهي عن قطع السدر: قد جاء في عدة أحاديث: منها: ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الذين يقطعون السدر يصبون في النار على وجوههم صباً) . قال الهيثمي: (رجاله كلهم ثقات) . ومنها: ما أخرجه الطبراني -أيضاً- في الأوسط عن علي بن أبى طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أخرج فناد في الناس: لعن الله قاطع السدر) . قال الهيثمي: (فيه إبراهيم بن يزيد الخوري، وهو متروك) . ومنها: ما أخرجه الطبراني في الكبير عن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (من الله لا من رسوله: لعن الله قاطع السدر) . قال الهيثمى (4/69) : (وفيه يحيى بن الحارث، قال العقيلى: لا يصح حديثه، يعنى هذا الحديث) . ومنها: ما أخرجه الطبراني في الكبير -أيضاً-: من عمر بن أوس - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من قطع السدر إلا من الزرع بنى الله له بيتاً في النار) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1180 ما يعجبنى قطعه؛ لأنه على حال قد جاء فيه كراهة" (1) . وإن لم يكن مع قول الصحابي قياس: ففيه روايتان: -إحداهما: أنه حجة، مقدم على، القياس؛ ويجب تقليده. وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في مواضع من مسائله: فقال في رواية أبي طالب "في أموال المسلمين إذا أخذها الكفار، ثم ظهر عليه المسلمون، فأدركه صاحبه فهو أحق به، وإن أدركه وقد قُسِم فلا حق له (2) ، كذا قال عمر (3) ، ولو كان القياس كان له. ولكن كذا قال عمر".   = قال الهيثمي: (وفيه الحسن بن عنبسة، ضعفه ابن قانع) . وقد روى ابن هانىء في المسائل التي رواها عن الإمام أحمد (2/181) قوله: (سألته عن السدرهَ تكون في الدار فتؤذي، أتقطع؟ قال: لا تقطع من أصلها، ولا بأس أن تقطع شاخاتها) . والشاخات: جمع شاخة، وهي المعتدل من أغصانها. (1) في الأصل: (كرأيه) . (2) ونقل أبو داود في مسائله ص (243) عن الإمام أحمد مثل الرواية، ولفظه: ( ... سمعت أحمد يقول: ما أحرزه العدو، ثم أدركه صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به، وإن قسم فلا شىء له. قال أحمد: وزعم قوم أن شىء الرجل له حتى يبيع أو يهدي أو يتصدق، وهو قول متعد، ليس سُنَّة المغازي مثل هذا، كل من قال، قال بغير هذا، عمر وغيره، وأما من قال: أحق هو بالقيمة، وهو قول ضعيف عن مجاهد) . فقول الإمام أحمد: ليس سنة المغازي مثل هذا يدل على أن ذلك خلاف القياس؛ لأن القياس أن يأخذ متاعه؛ لأنه لم يبعه، ولم يهده، ولم يتصدق به. (3) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجهاد باب المتاع يصيبه العدو ثم يجده صاحبه (5/195) وفي آخره: ( .... وإن جرت عليه سهام المسلمين، فلا سبيل إليه إلا بالقيمة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1181 وكذلك قال في رواية المروذي: "أكره شراء أرض الخراج. فقيل له: كيف أشتري في السواد ولا أبيع؟! فقال: الشراء خلاف البيع. فقيل له: كيف أشتري ممن لا يملك؟! فقال: القياس كما تقول، وليس هو قياساً، وإنما هو استحسان. واحتج: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رخَّصُوا في شراء المصاحف، وكَرِهُوا بيعَها" (1) . وكذلك نقل أبو الحارث عنه: "ترك الصلاة بين التراويح، واحتج: بما روي عن عبادة وأبي الدرداء. فقيل له: فعن سعيد والحسن: أنهما كانا يريان الصلاة بين التراويح (2) . فقال: أقول لك: أصحاب النبي، وتقول: التابعون". وكذلك نقل أبو طالب عنه في رجل يصوم شهرين من كفارة، فتسحر بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم، ثم علم: "يقضي يوماً مكانه، وإن أكل ناسياً بالنهار، فليس عليه شىء. فقيل: فإذا لم يعلم، فهو كالناسي؟.   (1) أخرج عبد الرزاق في مصنفه في كتاب البيوع، باب بيع المصاحف (8/112) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في بيع المصاحف: اشترها ولا تبعها. كما أخرج عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مثل ذلك. وأخرج البيهقي في سننه في كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف (6/16) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (قال: اشتر المصحف ولا تبعه) . كما أخرج عن سعيد بن جبير مثله. وقد أخرج عبد الرزاق بسنده في الموضع السابق ص (111-112) عن شريح ومسروق وعبد الله بن يزيد الخطمي وعلقمة وسعيد بن جبير وسالم بن عبد الله، كلهم ذهب إلى عدم جواز بيع المصاحف. كما أخرج عن الحسن والشعبى أنهما رخَّصا في بيع المصاحف. وكذلك أخرج البيهقي عنهما في المرجع السابق (6/17) . (2) سبق تخرج هذا الأثر. ص (1153) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1182 فقال: كذا في القياس، ولكن عمر (1) أكل في آخر النهار يظن أنه ليل، قال: اقض يوماً مكانه" (2) . وكذلك نقل أبو طالب عنه: "لا يجوز هبة المرأة، حتى يأتي عليها في بيت زوجها سنة أو تلد، مثل قول عمر" (3) . وهذا كتب (4) في مسائله. وفي رواية أخرى: القياس مقدم عليه. أومأ إليه -رحمه الله- في مواضع من مسائله فقال -في رواية أبي داود-: "ليس أحد إلا آخذ برأيه وأترك ما خلا النبى" (5) . وكذلك نقل المروذي عنه: "ابن عمر يقول: على قاذف أم الولد الحد (6) .   (1) في الأصل: (عمن) وهو خطأ، والتصويب من التمهيد (3/333) ومن مرجع تخريج الأثر الآتي. (2) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصيام، باب ما قالوا في الرجل يرى أن الشمس قد غربت (3/23-24) ، ولفظه: ( ... عن علي بن حنظلة عن أبيه قال: شهدت عمر بن الخطاب في رمضان وقرب إليه شراب، فشرب بعض القوم، وهم يرون أن الشمس قد غربت، ثم ارتقى المؤذن فقال: يا أمير المؤمنين والله للشمس طالعة لم تغرب، فقال عمر: منعنا الله من شَرك مرتين أو ثلاثاً، يا هؤلاء من كان أفطر فليصم يوماً مكان يوم، ومن لم يكن أفطر فليتم حتى تغرب الشمس) . (3) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن حزم بعدة طرق في كتابه المحلى كتاب الحجر (9/224) مسألة رقم (1396) . (4) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: (وهذا كثير ... ) . (5) هذه الرواية ذكرها أبو داود في مسائله ص (276) . (6) هذا الأثر عن ابن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في باب الفرية على أم الولد (7/439) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1183 وأنا لا أجترئ على ذلك، إنما هى أمة، أحكامها أحكام الإماء". وكذلك نقل الميموني: و [قد] قيل: إن قوماً يحتجون في النخل بفعل أبي بكر وقوله جربته. فقال: "هذا فعل ورأي من أبي بكر [176/ب] ، ليس هذا عن النبي". وهذا صريح من كلامه في أن أقواله ليست بحجة. وكذلك نقل مهنَّا عنه فيمن ركب دابة، فأصابت إنساناً: "فعلى الراكب الضمان. فقيل له: عليٌّ يقول: إذا قال: الطريقَ، فأسْمَعَ، فلا ضمان (1) . فقال: أرأيت إذا قال: الطريقَ، فكان الذي يقال له أصم؟ ". وكذلك نقل الميموني عنه و [قد] سأله: يمسح على القلنسوة؟ فقال ليس فيه عن النبي شىء، وهو قول أبي موسى (2) ، وأنا أتوقاه" (3) . وكذلك نقل ابن القاسم عنه: "يروى عن ابن عمر من غير وجه -يعني في حد البلوغ- وهو صحيح، ولكن لا أرى هذا يستوي في الغلمان، قد يكون منهم الطويل، وبعضهم أكثر من بعض، ولا ينضبط، والحد عندي في البلوغ الثلاثة".   (1) لم أجد هذا الأثر بهذا النص، وإنما وجدت ما أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه (9/259) في كتاب الديات، باب السائق والقائد ما عليه؟ بسنده إلى علي - رضي الله عنه - أنه كان يُضَمِّن القائد والسائق والراكب. كما نقل عنه بسند آخر أنه قال: إذا كان الطريق واسعاً فلا ضمان عليه. (2) يعني: أبا موسى الأشعري وهذا القول المنسوب إليه هنا، ذكره ابن حزم في المحلى في كتاب الطهارة. (8/84) بقوله: (وعن أبي موسى الأشعري: أنه خرج من حدث فمسح على خفيه وقلنسوته) . والقول بالمسح على القلنسوة مروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - كما في المصنف لعبد الرزاق كتاب الطهارة، باب المسح على القلنسوة (1/190) . (3) ونقل ابن هانىء هذا في مسائله (1/19) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1184 واختلف أصحاب أبي حنيفة، فذهب البَرْدَعى (1) والرازي (2) والجرجاني: إلى أنه حجة، يترك له القياس. وحكى الرازي (3) عن الكرخى أنه قال: "أما أنا فلا يعجبني هذا المذهب"، وكان لا يرى قول الصحابي فيما يسوغ فيه الاجتهاد حجة. واختلف أصحاب (4) الشافعي، فقال في القديم: هو حجة. وقال في الجديد: ليس بحجة (5) . وبه قال عامة المتكلمين من المعتزلة والأشعرية (6) . فالدلالة على أنه حجة، يُترك له القياس: قوله عليه السلام: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم) ، فأخبر أن   (1) هو: أحمد بن الحسين، أبو سعيد، البردعي، نسبة إلى بردعة وهى بلدة من أقصى بلاد أذربيجان، الحنفي. أخذ العلم عن أبي علي الدقَّاق وموسى بن نصر، أخذ عنه أبو الحسن الكرخي وأبو طاهر الدباس وغيرهما، درَّس ببغداد مدة طويلة. خرج إلى الحج فقتل في موقعه القرامطة مع الحجاج سنة (317هـ) . له ترجمة في: تاريخ بغداد (4/99) والجواهر المضيَّة (1/66) ، والفوائد البهية ص (19) والطبقات السنية (1/394) واللباب (1/135) والنجوم الزاهرة (3/226) . وما ذكره المؤلف هنا عن البَرْدَعي نسبه إليه الرازي في كتابه الفصول في أصول الفقه الورقة (236/أ) . (2) ما نقله المؤلف عنه هنا هو ما صرح به الرازي في كتابه الفصول في أصول الفقه الورقة (236أ) . (3) في كتابه في أصول الفقه الورقة (235/ب-236/أ) . (4) كلمة (أصحاب) هنا لا معنى لها؛ لأن الآتي بعد ذلك هو قول الشافعي، لا أصحاب الشافعي، فلو عبر بقوله: (واختلف قول الشافعي) لكان أولى. (5) حكى القولين الشيرازي في كتابه التبصرة ص (395) . (6) حكى ذلك أيضاً الآمدي في كتابه الإحكام (4/130) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1185 الاقتداء بهم. وقوله عليه السلام: (اقتدوا باللَّذَين من بعدي، أبي بكر وعمر) . وقوله عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدِين من بعدي) (1) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. فإن قيل: هذا محمول على الاقتداء بهم فيما يروونه عن النبى - صلى الله عليه وسلم -. قيل: هذا عام في الرواية والفُتيا. وعلى أن هذا يُسقط فائدة التخصيص بالصحابة؛ لأن رواية التابعين ومن بعدهم يجب الاقتداء بها. فإن قيل: المراد به العامة دون أهل العلم. بدليل: أنه خَيَّر في الاقتداء بأيهم شاؤا. وهذا حكم العامة إذا اختلفت أقاويلهم، فأما العالم فإنه لا يخير في هذا الموضع. قيل: قوله: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) المراد حال الانفراد من كل واحد منهم بالقول، وليس المراد: (بأيهم اقتديتم) إذا اختلفوا في الحادثة، ويكون فائدة ذلك: أن الاقتداء لا يتخصص بقول بعضهم دون بعض، فزال (2) الإشكال، فإنه ربما ظن ظان أن الاقتداء يجب بقول الأئمة دون غيرهم، فلما قال: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) دل على أن كل واحد منهم إذا انفرد كان قوله حجة. وأيضاً: من جاز أن يقدم قوله على القياس الصحيح إذا كان معه قياس ضعيف جاز أن يقدم عليه وإن لم يكن معه [177/أ] ، قياس. أصله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .   (1) سبق تخريجه. (2) في الأصل: (يزيل) . (3) يعنى: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - مقدم على القياس، فكذلك قول الصحابي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1186 وأيضاً: فإن قول الصحابي لا يخلو إما أن يكون توقيفاً أو اجتهاداً، فإن كان توقيفاً وجب اتباعه. وإن كان اجتهاداً فاجتهاده أولى من اجتهاد غيره؛ لأنه شاهد الرسول وسمع كلامه، والسامع أعرف بالمقاصد ومعاني الكلام. ولأنه منصوص عليه بقوله: (عليكم بسنتي) . وإذا كان كذلك كان أولى من غيره كخبر الواحد مع القياس. فإن قيل: لا يجوز أن يكون توقيفاً؛ إذ لو كان توقيفاً لكان يظهر على ممر الأيام واختلاف الأحوال، ولكان لا يدعه من أن ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ويرويه عنه، ولكان يجب علينا اتباعه على أنه توقيف؛ لأنه إذا لم يخبر به عنه، ولم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب علينا فرضُه. وأما الاجتهاد فلا يوجب اتباعه؛ لأجل أن مشاهدةَ الرسول وسماعَه لا يوجب عصمته من الخطأ في الاجتهاد، وإنما يحصل حسنُ الظن وكونُه أقربَ إلى الصواب، وذلك لا يوجب اتباعه، كالعالم لا يجوز له اتباع من هو أعلم منه، وإن كان اجتهاد الأعلم أقربَ إلى الصواب. ولأن هذا يقتضي أن يكون قول الصحابي إذا طالت صحبته أولى من غيره، وكبارُ الصحابة أولى من صغارهم. ولأن هذا يصح إذا علم أنه قاس على ما سمعه واضطر إلى قصده، فإنه ليس كل سامع للكلام يجب أن يضطر إلى قصد المتكلم، وإنما هو على حسب قيام دلالة الحال. قيل: أما قولكم: إنه لو كان توقيفاً لظهر ونقل، فلا يصح لوجهين: أحدهما: أنه لا يلزم الصحابي الروايةُ، بل هو مخير في ذكرها وتركها، وإنما يتعين عليه الفتيا، فهو كالمفتي مخير بين أن يذكر الدليل أو يذكر الحكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1187 والثاني: أنه يحتمل أن لا يرويه تورعاً؛ لأنه لم يقم على حفظ اللفظ فأفتى بمعناه. وقولهم: إنه لا يجب علينا اتباعه إذا لم يخبر به، لا يصح أيضاً؛ لأن الصحابي إذا قال قولاً مخالفاً للقياس، فالظاهر أنه لا يقوله إلا عن توقيف، فتكون فتياه أمارة على الخبر عن النبي فوجب العمل به، كما وجب العمل بخبر الواحد، وإن لم يقطع على صدقه؛ لأن الظاهر صدق الراوي. وقولهم: إن مشاهدة الرسول لا توجب عصمته لعمري (1) ، إلا أنه يوجب له مَزِيَّة من الوجه الذي ذكرنا، فوجب تقديمه، كما وجب تقديم خبر الواحد على القياس وإن لم يكن مقطوعاً به. وقولهم: إن العالم لا يجب عليه اتباع من هو أعلم منه، وكذلك صغار الصحابة لا يلزمهم اتباع أكابرهم، فلا يصح، لأن العالِمَيْن تساويا في طريق الاجتهاد. وكذلك الصحابة تساووا في مشاهدة التنزيل وحضور التأويل والنص عليهم، فمزيَّة أحدهما (2) [177/ب] على الآخر في الحكم المشترك لا توجب التقديم، كالبينتين إذا تعارضتا وأحدهما أعدل وأدين وأزهد، فإنه لا يرجح بها لمساواة الأخرى لها في العدالة، كذلك ها هنا. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (3) وقد وجد التنازع فوجب الرد إلى الكتاب والسنة.   (1) هكذا في الأصل، والعبارة وردت في الاعتراض: ( .... من الخطأ في الاجتهاد) . (2) هنا وقع تقديم وتأخير لبعض الصفحات من فِعْل من جَلَّد المخطوطة، وقد رتبناها على الوضع الصحيح، ورقمناها كذلك. (3) آية (59) من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1188 والجواب: أن معناه إلى كتاب الله وسنة رسوله، وفي سنة رسول الله ما يقتضي الاقتداء بالصحابي من الوجه الذي بينَّا. واحتج بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أوْلِى الأبْصَارِ) (1) . والجواب: أن الرجوع إلى قول الصحابي -وفي المعلوم أن اجتهاده أولى من اجتهادنا- ضرب من الاعتبار والنظر. واحتج: بما جاء في القرآن من ذم التقليد واتباع الأهواء في الكفر والأمر المذموم. و [الجواب: أن] هذا محمول على غير مسألتنا. واحتج: بأنه لو كان حجة لم يكن لأهل عصره خلافُه. وقد روي أن أبا سلمة بن عبد الرحمن خالف ابن عباس في عدة المتوفى عنها، وأقره ابن عباس على ذلك (2) . وكذلك أصحاب عبد الله (3) قالوا: (ما كان يمنعنا أن نردَّ على ابن عباس إلا أنَّا على طعامه) ، فدل هذا على جواز مخالفته. والجواب عنه: ما تقدم في التابعي إذا أدرك عصر الصحابة هل يعتد بخلافه؟ (4) . وبينَّا أن عائشة أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن (5) . وأن علياً نقض حكم شريح في ابني عم (6) .   (1) آية (2) من سورة الحشر. (2) سبق تخريج هذا (1165) . (3) يعنى: ابن مسعود رضي الله عنه. (4) تقدم ص (1152) . (5) تقدم ص (1168) . (6) في الأصل: (ابن عم) . وقد سبق تخريج هذا الأثر عن علي - رضي الله عنه - ص- (1167) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1189 على أن هذا مذهب لأبي سلمة ولأصحاب عبد الله، والخلاف معهم كالخلاف معكم. واحتج: بأنه عَلَم (1) على الحكم، فوجب أن يكون مقدماً على قول الصحابي قياساً على عموم القرآن ونص خبر الواحد. والجواب: أنا نخص به عموم القرآن، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم (2) . وأما نص الخبر فإنما قدم عليه؛ لأن مَزِيَّة الصحابة حصلت بمشاهدة النبي، فلا يجوز أن تقدم عليه، وليس كذلك القياس؛ لأن طريقه الاجتهاد وغلبة الظن. وكذلك قول الصحابة ومعه مَزِيَّة من الوجه الذي بينَّا، فكان أولى. وعلى أنه ليس إذا لم يقدم على الخبر لم يكن حجة في نفسه، كالقياس لا يقدم على الخبر، وهو حجة. واحتج: بأن الصحابي يجوز عليه الخطأ في الاجتهاد، والإقرار عليه، فوجب أن لا يكون قوله حجة. أصله: قول كل واحد من أهل العلم. والجواب: أن تجويز الخطأ لا يمنع الاحتجاج به، كخبر الواحد والقياس. ولأنه لا مزية لقول بعضهم على بعض، وهذا بخلافه. واحتج: بأن الصحابي وكل عالم من العلماء يشتركان في آلة الاجتهاد، فلا يجوز لأحدهما تقليد الآخر. أصله: العالمان من [178/أ] ، غير الصحابة. والجواب: أنهما متساويان في الاجتهاد، وكذلك الصحابي مع غيره؛ لأن له مزية من الوجه الذي ذكرنا. واحتج: بأن الصحابي لم يدعُ الناس إلى تقليده فيما يقول: ألا ترى إلى ما روي عن عمر: أنه سئل عن مسألة، فأجاب فيها، فقال له رجل: أصبت   (1) أي أن القياس (العلة) أمارة على الحكم. (2) (2/559) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1190 الحق، أو كلاما نحو هذا، فقال عمر: (والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ، ولكن لم آل (1) عن الحق) (2) . وقال زيد بن ثابت في قضية قضى بها في الجد: (ليس رأيي حقاً على المسلمين) (3) أو كلاماً نحو هذا. والجواب: أن هذا لا يمنع تقليده -كالعامى-، وإن لم يدعه الصحابي إلى قوله. وعلى أن عبد الرحمن بن عوف دعا عثمان إلى متابعة سنة الإمامين، فقال له -لما عرض البيعة عليه-: (على أن يحكم بكتاب الله وسنة رسول الله وسنة الخليفتين بعده) (4) ، فقبل ذلك بمحضر الصحابة من غير خلاف. والذي روي عن الصحابة من النهي عن التقليد: فهو محمول على النهي عن التقليد فيما كانوا يختلفون فيه، ولم يثبت عنهم أنهم منعوا تقليد الواحد منهم فيما قاله. واحتج: بأنه لا يجوز للانسان أن يتبع قول غيره إلا بصفة يختص بها لا يشاركه فيها أحد. مثل: النبي الذي اختص بالعصمة. وكذلك الأمة اختصت بالعصمة. والعالم مع العامي: اختص بآلة الاجتهاد ومعرفة الطريق.   (1) أي: لم أقصر. (2) لم أجده بهذا اللفظ، وإنما وجدت: أن عمر قال: (إني قضيت في الجد قضيّات مختلفات، لم آل فيها عن الحق) أخرجه عبد الرَّزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب: فرض الجد (10/262) . وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب: التشديد في الكلام في مسألة الجد مع الأخوة.. (6/245) . (3) لم أجده. (4) ذكر هذا في قصة مبايعة عثمان - رضي الله عنه - الطبري في تأريخه (4/248) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1191 فأما إذا لم يكن لأحدهما على الآخر مزية، لم يجز للآخر اتباعه. والجواب: أنا قد بينَّا مَزِيَّة الصحابي على غيره. فإن قيل: فيجب إذا استدل الصحابي بدلالة على حكم أن لا يستدل عليه بدلالة أخرى. قيل: إن اتفقوا على أن لا دليل لله تعالى غيره، لم يجز أن يستدل عليه بدلالة أخرى، وإن لم يتفقوا على ذلك جاز؛ لأنه يجوز أن يخفى عليه دليل؛ لأن عبادتهم القول بحكم الله تعالى، فأما أن يعلموا كلَّ دليل لله تعالى في ذلك أو يظهروه، فإن ذلك غير واجب، وكان تعلق علمهم بالحق ببعض الأدلة يسقط عنهم فرض الاستدلال بكل دليل. ومن الناس من قال: لا يجوز أن يستدل عليه بدلالة أخرى؛ لأنه (1) دليل الصحابة، فمن طلب دليلاً آخر عليه، فهو كمن طلب المقايسة في مسائل الإجماع وأخبار الآحاد مما هو مقطوع به من العقول، وهذا غير ممتنع على وجه من الترجيح من غير أن يقصد إلى بيان الحكم به بعد ثبوته، لما بينَّا. فإن قيل: فما تقولون إذا ثبت الحكم لعلة، فهل يجوز للصحابة تعليله بعلة أخرى؟ قيل: يجوز ذلك؛ لأنه يجوز تعليل الأصل بعلتين، كما يستدل على شىء بدليلين، وهذا في علتين إذا كان [178/ب] موجبهما واحداً، فأما إذا تنافت فلا يجوز ذلك. ومن الناس من منع ذلك؛ لأن تعليله بأخرى يبطل فائدة تعليق الحكم بالأولى (2) ، فلا يجوز، كما لا يجوز ذلك في العقليات، وأنه لا يكون حكم (3) العقل معللاً بعلتين.   (1) في الأصل: (لأن) . (2) في الأصل: (الأول) . (3) في الأصل: (الحكم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1192 إذ قال الصحابي قولاً مخالفاً للقياس (1) . كما روي عن عمر: (أنه قضى في عين الدابة بربع قيمتها) (2) . وروي عنه فيمن فقأ عين نفسه: (تحمله عاقلته له) (3) . وروي عن عثمان: (أنه قضى فيمن ضرب رجلاً فأحدث: بثلث الدية) (4) . وعن ابن عباس (فيمن نذر ذبح ولده: شاة) (5) .   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/331) والمسوَّدة ص (338) . (2) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب عين الدابة (10/76-78) عن عمر - رضي الله عنه - بعدة طرق. كما أخرج مثله عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الديات، باب في عين الدابة (4/275-276) عن عمر - رضي الله عنه - بعدة طرق. وأخرجه ابن حزم في كتابه الإيصال ملحق لكتاب المحلى، باب ديات الجراحة والأعضاء (12/153) مسألة رقم (2035) . (3) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب الرجل يصيب نفسه (9/412) عن عمر - رضي الله عنه -. (4) هذا الأثر عن عثمان - رضي الله عنه - أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب هل يضمن الرجل من عنت في منزله (10/24-25) . وأخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الديات، باب الرجل يضرب الرجل حتى يحدث (9/338) . وأخرجه ابن حزم في كتاب الإيصال، ملحق بكتاب المحلى في باب ديات الجراحة والأعضاء (12/208) مسألة رقم (2071) . (5) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الأيمان والنذور، باب من نذر لينحرنَّ نفسه (8/460) . وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الأيمان، باب ما جاء فيمن نذر أن يذبح ابنه أو نفسه (10/73) . وانظر: المحلى لابن حزم، كتاب النذور (8/354) مسألة رقم (1114) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1193 وقول عائشة: (أبلغى زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله) (1) .   (1) هذا الأثر أخرجه الإمام أحمد في مسنده، كما ذكر ذلك صاحب التعليق المغني على سنن الدارقطنى (3/53) . وأخرجه الدارقطنى في سننه في كتاب البيوع (3/53) رقم (212) بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته بستمائة درهم نقداً، فقالت لها عائشة: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، إن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل إلا أن يتوب. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب البيوع، باب الرجل يبيع السلعة ثم يريد شراءها بنقد (8/184-185) بطريقين: الأولى: معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها امرأة فقالت: (يا أم المؤمنين كانت لي جارية فبعتها على زيد ... وفي آخره قالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذتُ رأسَ مالي ورددتُ عليه الفضلَ؟ قالت: "مَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِن ربهِ فَانْتَهَى" أو قالت: (إِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أمْوَالِكُمْ") . الثانية: عن الثوري عن أبي إسحاق عن امرأته قالت: (سمعت امرأة أبي السفر تقول: سألت عائشة، فقلتُ: بعتُ زيدَ بن أرقم جارية ... ) . وأخرجه البيهقي في كتاب البيوع، باب الرجل يبيع الشىء إلى أجل، ثم يشتريه (5/330-331) بعدة طرق: الأولى: بسنده إلى شعبة عن أبي إسحاق قال: دخلت امرأتي على عائشة وأم ولد لزيد بن أرقم، ثم عقَّب عليه بقوله: (كذا جاء به شعبة عن طريق الإرسال) الثانية: بسنده إلى أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن العالية، قالت: (كنت قاعدة عند عائشة -رضي الله عنها- فأتتها أم حبيبة، فقالت لها: يا أم المؤمنين..) الثالثة: بسنده إلى سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن امرأته العالية: (أن امرأة أبي السفر باعت جارية ... ) . الرابعة: بسنده إلى يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت أنفع، قالت: (خرجت أنا وأم حبيبة إلى مكة، فدخلنا على عائشة) ، ثم ذكرت الخبر. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1194 .................................   = وأخرجه ابن حزم في كتابه المُحلَّى في كتاب البيوع، (9/688-693) مسألة رقم (1559) . وقد ذهب ابن حزم إلى أن هذا الأثر كذب وموضوع، ودلل على ذلك بأربعة أمور: الأول: أن امرأة أبي إسحاق مجهولة الحال، فلم يرو عنها إلا زوجها وابنها يونس، ويونس ضعيف جداً. الثاني: أنه مدلس، وأن امرأة أبي إسحاق لم تسمعه من أم المؤمنين، وإنما سمعته من امرأة أبي السفر. الثالث: أن عائشة -رضي الله عنها- لا يمكن أن تقول بإبطال جهاد زيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب، فقد شهد الغزوات كلها ما عدا بدراً وأحداً، وأنفق قبل الفتح وقاتل، وشهد بيعة الرضوان تحت الشجرة، وشهد الله له بالصدق والجنة. الرابع: أن زيداً لو ارتكب الربا الصريح، وهو لا يعلم بحرمته، فإن له أجراً على اجتهاده، غير آثم. شأنه في ذلك شأن ابن عباس القائل بجواز ربا الصرف. ثم قال: وعلى فرض صحته، فهو مردود أيضاً، وذكر ستة أمور. وكلام ابن حزم غير مسلَّم: فامرأة أبي إسحاق واسمها: العالية بنت أنفع بن شراحيل ليست مجهولة الحال. قال ابن الجوزي: هي امرأة معروفة جليلة القدر. ذكرها ابن سعد في الطبقات فقالت العالية بنت أنفع بن شراحيل، امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة. انظر: التعليق المغني على سننٍ الدارقطني (3/53) . وابنها يونس ليس ضعيفاً جداً، كما يقول ابن حزم. فقد وثقه ابن معين. وقال النسائي: (لا بأس به) وقال الذهبي: (قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مسعر ولا شعبة) . وقال ابن حجر: (صدوق، يهم قليلاً) . انظر: تقريب التهذيب (2/384) رقم (471) وميزان الاعتدال (4/482-483) رقم (9914) . ودعوى التدليس ليست بصحيحة، فقد ثبت سماع امرأة أبي إسحاق من عائشة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1195 فإنما يحمل ذلك على أنه قاله على جهة التوقيف (1) . وهو قول أصحاب أبي حنيفة (2) . وقال أصحاب الشافعي: لا يحمل على التوقيف، وإنما هو اجتهاده (3) . دليلنا: أن هذه الأشياء لما لم يكن لها وجه في القياس، وقد أثبتها الصحابي، وكان طريقها الاتفاق أو التوقيف علمنا أنه لم يثبت ذلك الأمر إلا من جهة التوقيف. فإن قيل: يحتمل أن يكون ذهب في إثباتها إلى قياس فاسد. قيل: يجب أن يحسن الظن فيه، ويحمل قوله على الصواب، لما قد ثبت له من المزية وهو مشاهدته للتنزيل، وحضور التأويل، ونص النبي عليه. فإن قيل: لو وجب أن يحمل ذلك على التوقيف، لوجب إذا خالفه صحابي آخر، وقال قولاً يطابق القياس أن لا يعتدَّ بخلافه. قيل: هكذا نقول؛ لأنه إذا طابق قوله القياس احتمل أن يكون توقيفاً، واحتمل أن يكون قياساً، وقول من خالف القياس ليس له وجه إلا التوقيف   = كما تقدم ذكره. وعليه فإسناده جيد، كما قال صاحب التنقيح. انظر: التعليق المغني على سنن الدارقطنى، الموضع السابق. أما الرد الثالث والرابع، فهو مما تختلف فيه أنظار العلماء، وال مسألة خلافية، كما بينها المؤلف. والله أعلم. (1) قال في المسوَّدة ص (338) : (ويجعل في حكم التوقيف المرفوع، بحيث يعمل به، وإن خالفه قوله صحابي آخر، نصَّ عليه في مواضع) . (2) انظر في ذلك: أصول السرخسى (2/105) ، وكشف الأسرار (2/217) ، وفواتح الرحموت (2/187) . (3) انظر: التبصرة للشيرازي ص (369) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1196 فلا يعارض التوقيف بقول صحابي. فإن قيل: لو وجب أن يحمل قوله على التوقيف، لوجب إذا عارضه خبر متصل عن النبي مخالف له في الحكم أن يتعارضا، كما يتعارض الخبران المتصلان، فلا يقدم المتصل عليه. قيل: إنما قلنا: إن قول الصحابي توقيف من طريق غلبة الظن والظاهر، والمتصل أقوى في الظن في الاتصال، فجاز تقديمه عليه، كما قلنا في الخبرين إذا تعارضا وأحدهما أكثر رواة: إنه يقدم؛ لأنه يغلب على الظن صحته. وقد يخرج على هذا إذا قال بعض الصحابة بظاهر آية، وقال الآخر بخلاف ظاهرها، فقول التارك للظاهر أولى إذا لم يعين لنا أصلاً قاس عليه؛ لعلمنا أنه إنما تركه لتوقيف. ويحتمل أن يقدم قول من معه الظاهر؛ لأن جَنْبتَه أقوى [179/أ] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1197 مسألة [إجماع الأئمة الأربعة] لا يعتدُّ بإجماع الأئمة الأربعة إذا خالفهم غيرهم من الصحابة (1) في إحدى الروايتين. وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي عنه قال: "إذا اختلفت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم إلا على اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة" (2) . وظاهر هذا أنه لم يقدم قول الأئمة على غيرهم من الصحابة (3) . وهو اختيار الجرجاني. وفيه رواية أخرى يعتد به (4) . وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأل أحمد - رضي الله عنه - عمن زعم أنه لا يجوز أن يخرج من قول الخلفاء إلى من بعدهم من الصحابة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين) .   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/280) ، والمسوَّدة ص (340) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/365) ، وشرح الكوكب المنير (2/239) . (2) هذه الرواية موجودة في التمهيد الموضع السابق. (3) وهو قول الجمهور، كما قال ابن بدران في شرح الروضة (1/365) . وقال في المسودة ص (340) : (وبه قال أكثر الفقهاء) وقال في التمهيد: (وبه قال أكثرهم) . (4) وبها قال ابن البنا الحنبلى، كما في شرح الكوكب المنير (2/239) ونزهة الخاطر العاطر (1/366) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1198 قال: فناظرني في بعض ما قال الصحابة، ثم رأيته قد قَنِع بهذا القول، وقال: "ما أبعد هذا القول أن يكون كذلك" (1) . وهو اختيار أبي حازم (2) من أصحاب أبي حنيفة، و [لأجل هذا المذهب] (3) لم يعتد (4) بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي الأرحام (5) ، وحكم برد الأموال التي حصلت في بيت مال المعتضد، وجعل ذوي الأرحام أولى من بيت المال، فقبل ذلك منه المعتضد (6) ، وأمر بردها على ذوي الأرحام، وكتب   (1) هناك رواية ثالثة: أنه حجة لا إجماع. انظر: المسودة ص (340) . وقال ابن بدران: (إن هذا [يعنى أنه حجة لا إجماع] القول الحق) . انظر: نزهة الخاطر العاطر (1/366) . (2) هو: القاضي عبد الحميد بن عبد العزيز، أبو حازم بالحاء المهملة، أو بالخاء المعجمة، كان ورعاً عالماً بمذهب أبي حنيفة. وَلي قضاء الشام والكوفة والكرخ من بغداد. له كتاب المحاضر والسجلات، وكتاب أدب القاضي، وكتاب الفرائض. توفي سنة (292) هـ. له ترجمة في: تاج التراجم ص (33) ، والجواهر المضيَّة (1/296) ، وشذرات الذهب (1/210) ، وطبقات الفقهاء ص (141) ، والفوائد البهية ص (86) . (3) الزيادة من كتاب أصول الجصاص الورقة (126/ب) . (4) أي: أبو حازم. (5) زياد بن ثابت - رضي الله عنه - لا يرى توريث ذوي الأرحام، أخرج ذلك عنها سعيد بن منصور في سننه في باب العمة والخالة (1/92) ولفظه: ( ... قال [أي زيد بن ثابت] : لا يرث ابن أخت، ولا ابنة أخ، ولا بنت عم، ولا خال، ولا عمة، ولا خالة) . (6) هو: أحمد بن طلحة بن المتوكل، أبو العباس، المعتضد بالله. أحد ابني العباس. كان وافر العقل شجاعاً. سكنت الفتنة في أيامه، وانتصر العدل، وعمَّ الرخاء. مات سنة (289هـ) . له ترجمة في: شذرات الذهب (2/199) وفوات الوفيات (1/83) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1199 بذلك إلى الآفاق (1) . وجه الرواية الأوَّلة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم) ، فجعل الاقتداء بكل واحد منهم هدى، كما أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين من بعده. فإن قيل: يحمل هذا على ما إذا قال كل واحد منهم قولاً، ولم يخالفه غيره فيه. قيل: إذا لم يخالفه (2) غيره صار إجماعاً منهم، والخبر يقتضي الأخذ بقول الواحد منهم. فإن قيل: نحمله إذا اختلفوا، فإنه يجوز الاقتداء بكل واحد منهم. قيل: إذا كان هناك اختلاف، فالاقتداء يحصل بالدليل؛ لأنه يجتهد في أحد القولين من طريق الدليل. ولأن الإمامة لا تأثير لها في تقديم القول، كما لا تأثير لكون الواحد من الأمراء أو رسله. ولأن الأربعة يجوز الخطأ في قولهم، كما يجوز في حق كل أربعة.   (1) ذكر هذه القصة الجصاص في أصوله الورقة (26/أ-ب) عن بعض شيوخه ممن كان يجالس القاضى أبا حازم؛ ويأخذ عنه. ثم قال بعد ذلك (وبلغني أن أبا سعيد البَرْدَعي كان أنكر ذلك عليه، وقال هذا فيه خلاف بين الصحابة، فقال أبو حازم: لا أعدُّ زيداً خلافاً على الخلفاء الأربعة، وإذا لم أعده خلافاً فقد حكمت برد هذا المال إلى ذوي الأرحام، فقد نفذ قضائي به، ولا يجوز لأحد أن يتعقبه بالفسخ) . كما ذكر هذه القصة صاحب تيسير التحرير (3/242) . (2) في الأصل: (يخالف) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1200 واحتج بعضهم: بأن القياس العقلي ينفي الإجماع بدلالة أنه لا فرق بين هذه الأمة ومن تقدَّم من الأمم، وإنما ترك ذلك للسمع، وهو قوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (1) والآية ليست لجميع المؤمنين. وقال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (2) وهذا الاسم لا يختص الأئمة. واحتج المخالف: بما روي [179/ب] (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء من بعدي) فأمر بذلك، والأمر على الوجوب. والجواب: أنه يعارضه قوله: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) . ولأنَّا نحمل (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي) إذا لم يظهر خلافهم في الصحابة. ونحمل قوله (وسنة الخلفاء) أن يريد به الفتيا، وخصَّهم بالذكر؛ لأنهم أعلم من غيرهم في وقتهم وزمانهم.   (1) آية (115) من سورة النساء. (2) آية (110) آل عمر ان. (3) وقع هنا تقديم وتأخير في بعض الصفحات فرتبناها على الوجه الصحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1201 فصل فأما قول أحد الأئمة فليس بحجة إذا خالفه غيره (1) رواية واحدة (2) . نص عليه -رحمه الله- في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأل أحمد -رحمه الله- عمن قال: "ليس لنا أن نخرج من قول أبي بكر إلى قول عمر، ولا من قول عمر إلى قول عثمان، ولا من قول عثمان إلى قول علي، فتعجبَ من ذلك، وقلتُ له: إننى أنكرتُ عليه، وقلتُ له: إن كان قولهم سنة فبأي قول أخذتَ أو اخترتَ من أقاويلهم فلك (3) ذلك، فأعجبه ذلك". وبهذا قالت الجماعة (4) . وحكي عن بعض الشافعية: أنه حجة، لا يجوز لنا مخالفته، وإن خالفه غيره من الصحابة (5) . وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم فقال: "يروى عن ابن عباس أنه كان يقول: (إذا انقطع الدم في الحيضة الثالثة فقد بانت منه) (6) .   (1) راجع هذا الفصل في: التمهيد: (3/282) والمسوَّدة ص (340) . (2) تُعُقب المؤلف في هذا، فإن الرواية الواحدة أنه لا يقدم قول الخليفة الأول على الثاني، كما يتضح من رواية إسماعيل بن سعيد، التي ساقها المؤلف، واستدل بها على ما ذهب إليه. قال في المسودة ص (341) : ( ... وكأن القاضي قد جعلها رواية واحدة أخذاً من هذا [من رواية إسماعيل] ثم رجع عن ذلك، فإن الرواية الثانية أصرح) . وتبع أبو الخطاب شيخه في ذلك، فقال في التمهيد (3/282) : (فأما قول أحدهم فلبس بحجة رواية واحدة) . (3) في الأصل (فله) . (4) واختاره أبو الخطاب الحنبلي. (5) واختاره أبو حفص البرمكي الحنبلي، كما في المسوَّدة. (6) أخرج هذا سعيد بن منصور في سننه، باب الرجل يطلِّق امرأته فتحيض ثلاث = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1202 وهو أصح في النظر. فقيل له: فلم لا تقول به؟! قال: قد قال عمر وعلي وابن مسعود، فأنا أتهيَّب أن أخالفهم، يعنى: باعتبار الغسل" (1) . ونقل ابن منصور ما هو أصرح من هذا، فقال ابن منصور: قلت: "قول ابن عباس فى أموال (2) أهل الذمة العفو؟ (3) . قال أحمد -رحمه الله-: عمر جعل عليهم ما قد بلغك (4) . كأنه لم ير ما قاله ابن عباس". قا أبو حفص البرمكي في شرح مسائل ابن منصور: "إنما لم ير ما قال   = حِيَض فيدخل عليها قبل أن تطهر (1/333) ولفظه: ( ... عن ابن عباس قال: إذا حاضت المطلقة الثالثة فقد برئت منه، إلا أنها لا تزوج حتى تطهر) . كما أخرجه عن زيد بن ثابت وعائشة -رضي الله عنهما- في الموضع المذكور. (1) القول بأن الرجل أحق برجعة امرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة مروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وعبادة ابن الصامت -رضي الله عنهم- أخرج ذلك عنهم سعيد بن منصور في سننه في الموضع السابق ذكره (1/332-334) . (2) في الأصل: (أمول) . (3) هذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب أهل الكتاب، باب صدقة أهل الكتاب (6/98) ولفظه ( ... أن إبراهيم ابن سعد [وكان عاملاً بعدن] سأل ابن عباس، فقال له: ما في أموال أهل الذمة؟ قال العفو، فقال: إنهم يأمرونا بكذا وكذا، قال فلا تعمل لهم، قلت: فما في العنبر؟ قال: إن كان فيه شىء فالخمس) . كما أخرجه في كتاب أهل الكتابين، باب ما يؤخذ من أراضيهم وتجاراتهم (10/333-334) . (4) أخرج عبد الرزاق في مصنفه في الموضعين السابقين كثيراً من الآثار عن عمر بن الخطاب أنه كان يأخذ على أموال أهل الذمة. فروي أنه كان يأخذ من كل عشرين درهماً درهماً. وهو نصف العشر. وروي أنه أمر المسلمين أن يأخذوا منهم العشر. وروي أنه أمر زياد بن حدير أن يأخد من نصارى بني تَغْلِب العشر، ومن نصارى العرب نصف العشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1203 ابن عباس؛ لأن أحد الخلفاء إذا رُوي عنه شىء، وروي عن غير الخلفاء ضده، فالذي يلزم اتباعه ما جاء عن أحد الخلفاء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجِذ) . قيل: إنها آخر الأضراس. وقيل: إنها الضرس الذي بعد النَّاب. دليلنا: أنه لو كان حجة لم يجز لمن بعده أن (1) يخالفه فيه، كما إذا أجمعوا على حكم لم يجز لمن بعدهم أن يخالفهم فيه. وقد روي من خلاف عمر لأبي بكر في التسوية في العطاء (2) .   (1) في الأصل: (من أن) الخ. و (من) هنا قَلِقة، فلعلها من صنع الناسخ. (2) كان أبو بكر - رضي الله عنه - يسوي في العطاء. أخرج ذلك عنه البيهقي في سننه في كتاب قسم الفيء والغنيمة باب التسوية بين الناس في القسمة (6/348) عن زيد بن أسلم عن أبيه قال (ولي أبو بكر - رضي الله عنه - فقسم بين الناس بالسوية، فقيل لأبي بكر يا خليفة رسول الله لو فضلت المهاجرين والأنصار، فقال: اشتري منهم شرى؟. فأما هذا المعاش فالأسوة فيه خير من الأثرة) . ولفظه بسند آخر: (قسم أبو بكر - رضي الله عنه - أول ما قسم، فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فضل المهاجرين الأولين وأهل السابقة، فقال: اشتري منهم سابقتهم؟ فقسم فسوى) أما عمر - رضي الله عنه - فكان يفضل في العطاء. أخرج البخاري في صحيحه في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة (6/80) ولفظه: (كان [أي عمر] فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه) . وأخرج الإمام أحمد في مسنده (1/42) عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: (كان عمر يحلف على أيمان ثلاث، يقول: والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا بأحق به من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1204 وخلاف علي في بيع أمهات الأولاد. وغير ذاك مما اختلفوا فيه علمنا: أن قول واحد منهم بانفراده لا يكون حجة. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [180/أ] : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ، فأمر باتباع سنة كل واحد منهم. والجواب عنه: ما تقدم (1) .   = إلا عبداً مملوكاً، ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى وقسمنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت لهم ليأتينَّ الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال، وهو يرعى مكانه) . كما أخرج في مسنده (3/475-476) عن باشرة بن سمي اليزني قال: (سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في يوم الجابية، وهو يخطب الناس-: إن الله عز وجل جعلنى خازناً لهذا المال وقاسماً له. ثم قال: بل الله يقسمه، وأنا بادىء بأهل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أشرفهم، ففرض لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف إلا جويرية وصفية وميمونة، فقالت عائشة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعدل بيننا، فعدل بينهنّ عمر، ثم قال: إنى باديء بأصحابي المهاجرين الأولين، فإنا أخرجنا من ديارنا ظلماً وعدواناً، ثم أشرفهم، ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة آلاف، ولمن كان شهد بدراً من الأنصار أربعة آلاف، ولمن شهد أحداً ثلاثة آلاف، قال ومن أسرع في الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطأ به العطاء، فلا يلومنَّ رجل إلا مناخ راحلته .... ) . وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي في سننه في كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب التفضيل على السابقة والنسب (6/349) . وأخرجه سعيد بن منصور في سننه في باب ما جاء في فضل المجاهدين على القاعدين (2/156) . (1) في المسألة التي قبل هذه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1205 مسألة إذا عقد أحد الأئمة الأربعة عقداً، لم يجز لمن بعده من الأئمة فسخه (1) ، نحو ما عقده عمر من صلح بني تَغْلِب (2) ومن خراج السَّواد (3) . والجزية، وما يجري هذا المجرى؛ لأنه صادف اجتهاداً سالفاً. وذلك أنه لما وضَع الخراج على الأرضين، والجزية على الرقاب، وضاعف الحقوق على بني تَغْلِب، لم يكن في ذلك إسقاط حق القبض لمن بعده من الأئمة، وإنما نقل حق القبض من موضع إلى موضع؛ لأنه ترك قسمة أرض السواد، فنقل ذلك الحق إلى الخراج، وحق الأئمة بعده، قائم في قبضه. وكذلك الجزية وما يؤخذ من بني تَغْلِب، فإن حق القبض فيه إلى الإمام،   (1) راجع هذه المسألة في المسودة ص (341) والقواعد والفوائد الأصولية ص (294) . (2) أخرج ذلك بسنده أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص (36) ولفظه: (عن داود بن كرودس قال: صالحت عمر بن الخطاب عن بني تغلب -بعد ما قطعوا الفرات وأرادوا اللحوق بالروم- على أن لا يصبغوا صبيانهم [أى لا ينصرونهم] ولا يكرهون على دين غير دينهم، وعلى أن عليهم العشر مضاعفاً: من كل عشرين درهماً درهم قال: فكان داود يقول: ليس لبني تغلب ذمة، قد صبغوا في دينهم) . ثم ذكر الصلح بسند آخر، وفيه: (فصالحهم عمر بن الخطاب على أن أضعف عليهم الصدقة واشترط عليهم أن لا ينصَّروا أولادهم) . (3) إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وضع الخراج على أرض السواد، ولم يقسمها كالغنائم. انظر في ذلك: الأموال لأبي عبيد ص (74) والمصنف لعبد الرزاق (6/100) و (10/333) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1206 فلهذا لم يكن لمن بعده فسخه. فإن قيل: أليس قد جاز للإِمام إبطال حق الغانمين من القسمة؟. قيل: الإمام إنما كان له إبطال حق الغانمين من القسمة؛ لأنه كان يجوز له إبطال حقوقهم من الغنائم بأن تُقتل الرقاب، فبطل حق الغانمين فيها (1) . فإن قيل: أليس قد جاز أن يزيد على جزية عمر وينقص منها، وهذا تغيير لفعله. قيل: اختلفت الرواية في ذلك. فروي عنه: أنه لا يجوز (2) . وروى عنه: الجواز (3) .   (1) في الأصل: (عنها) . (2) وهو ما نقله العباس بن محمد بن موسى الخلاَّل عن الإمام أحمد أنه قال: ليس للإمام أن يغيرها على ما أقرها عليه عمر. انظر: الأحكام السلطانية للمؤلف ص (165) . (3) وهو ما نقله محمد بن داود عن الإمام أحمد، وقد سئل عن حديث عمر: "وضع على جريب الكرم كذا، وعلى جريب كذا كذا" هو شىء موصوف على الناس لا يزاد عليهم، أو إن رأى الإمام غير هذا زاد ونقص؟ قال أحمد: بل هو على رأي الإمام إن شاء زاد عليهم، وإن شاء نقص، وقال: هو بين في حديث عمر (إن زدت عليهم كذا لا يجهدهم؟) إنما نظر عمر إلى ما تطيق الأرض". وهناك رواية نقلها يعقوب بن بختان (لا يجوز للإمام أن ينقص، وله أن يزيد) . ورجح أبو بكر الخلاَّل الرواية الثانية حيث قال: (أبو عبد الله يقول: "إن للإمام النظر في ذلك، فيزيد عليهم وينقص على قدر ما يطيقون" وقد ذكر ذلك عنه غير واحد) . قال القاضى أبو يعلى: (وما قاله عباس الخلال [ناقل الرواية الأولى] عن أبي عبد الله: فهو قول أوَّل لأبي عبد الله) . قلت: والقول بمقتضى الرواية الثانية هو العدل. انظر: الأحكام السلطانية للمؤلف ص (165-166) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1207 وذلك أنه ليس فيه فسخ للعقد، وإنما هو موقع بعده على حسب الطاقة. لأن عمر - رضي الله عنه - عقده على هذا الوجه؛ لأنه قال لعثمان بن حنيف (1) لعلك حملت الأرض ما لا تطيق (2) . فاعتبر الطاقة، وهذا يختلف باختلاف الأوقات. مسألة إذا اختلفت الصحابة في المسألة على قولين، ولم ينكر بعضهم على بعض، لم يجز لمن هو من أهل الاجتهاد أن يأخذ بقول بعضهم من غير دلالة على صحة قول الصحابي (3) . نصَّ عليه -رحمه الله- في رواية المروذي فقال: "إذا اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر   (1) عثمان بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة، أبو عمرو، الأنصاري. صحابي. كان عاقلاً بصيراً. عمل لعمر ثم لعلي -رضي الله عنهما- سكن أخيراً الكوفة. وبقي إلى زمان معاوية، رضي الله عنه. له ترجمة في: الاستيعاب (3/1033) . (2) قال عمر - رضي الله عنه - هذا الكلام لعثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان بصيغة التثنية أخرج ذلك عبد الرزاق في مصنفه في كتاب أهل الكتاب، باب ما أخذ من الأرض عَنْوة (6/103) وأخرجه ابن سعد في طبقاته في ذكر استخلاف عمر، رضي الله عنه (3/337) . (3) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (341) وروضة الناظر، مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/406) والمدخل ص (42) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1208 أقرب القول إلى الكتاب والسنة" (1) . وحكى أبو سفيان السرخسي عن بعض شيوخه: "أنه إذا أظهر هذا القول ولم ينكره منكر جاز الأخذ به" واختار ذلك. وحكى عن قوم من المتكلمين أن ذلك القول (2) إن كان حادثاً في الصحابة قبل وقوع الفرقة بينهم واختلاف الديار بهم جاز أن يؤخذ به من غير اجتهاد في صحته. وإن كان حادثاً بعد وقوع الفرقة بينهم لم يجز الأخذ إلا أن يدل دليل على صحته غير قول الصحابي (3) . [180/ب] . دليلنا: أن الصحابة مختلفون فلم يجز لمن هو من أهل الاجتهاد أن يأخذ بقول بعضهم من غير دلالة. أصل ذلك: إذا أنكر بعضُهم على بعض. فإن قيل: إذا أنكر بعضُهم على بعض فلم يحصل منهم الإجماع على كونه صواباً، وليس كذلك إذا تركوا الانكار؛ لأنه يدل على كونه صواباً؛ لأنه لو كان خطأ لم يجز لهم أن يتركوا إنكاره، وإذا ثبت أنه صواب كان المتمسك به مصيباً. قيل: ترك الإنكار لا يدل على كونه صواباً عند المخالف له؛ لأن ما يسوغ فيه الاجتهاد لا يجب إنكاره.   (1) يعني لابد من مرجَّح، وهو ما ارتضاه السرخسى في أصوله (2/113) . ونسبه في المسودة إلى المالكية والشافعية وطوائف من المتكلمين. (2) في الأصل: (وان) . (3) وحكاه ابن عقيل: عن بعض أصحاب السرخسي، كما حكاه عن الجُبَّائي وابنه. انظر: المسودة ص (342) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1209 وقد نصَّ أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية بكر بن محمد فقال: "على الرجل أن يجتهد، ولا يقول لمخالفه: إنه مخطىء". وأيضاً: لما لم يجز لأحد المجتهدين أن يأخذ بقول الآخر حتى تدل دلالة على صحة قوله، كذلك مثله في الصحابة. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه ليس في قول المجتهد الآخر حجة، ولا نعلم أنه صواب، وأما قول الصحابي فإنه حجة. قيل: إنما يكون حجة إذا انفرد ولم يعارضه غيره، فأما إذا خالفه غيره فليس بحجة. وأيضاً: فإن قول كل واحد منهما ضد الآخر، وليس أحدهما بأولى بالتقديم من صاحبه، وإذا كان كذلك وجب أن يتعارضا فيسقطا، وإذا سقطا وجب الرجوع إلى الاجتهاد في ذلك. واحتج المخالف: بما تقدم، وهو: أنه إذا لم يحصل منهم الإنكار دل على كونه صواباً؛ لأنه لو كان خطأ لم يترك الإنكار. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج: بأن الصحابة قد رجع بعضهم إلى قول بعض مع كون الجميع من أهل الاجتهاد. كما روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قبل قول معاذ في ترك رجم المرأة الحامل (1) .   (1) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الحدود، باب من قال: إذا فَجَرَت وهى حامل انتظر بها حتى تضع، ثم ترجم (10/88) رقم (8861) بسنده ولفظه (أن امرأة غاب عنها زوجها، ثم جاء وهي حامل، فرفعها إلى عمر، فأمر برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1210 وكما روي عن عثمان أنه استنَّ فيهم سنة أبي بكر وعمر، وقبِل البيعة على ذلك، ولم ينكر على من قبل قول غيره منهم، وإن كان من أهل الاجتهاد. والجواب: أنه يحتمل أن يكون من رجع منهم إلى قول غيره؛ لأنه ذكر الوجه الذي لأجله قال بما قال به، فاستدل بما ذكره على صحة قوله إذا علم صحة قوله من غير أن يذكر له الوجه الذي لأجله قال بما قال عند سؤاله. مسألة الشيء المجمع عليه إذا تغيرت حاله جاز تركه بدلالة غير الإجماع (1) . وهو قول أصحاب أبي حنيفة (2) . خلافاً لما حُكي عن بعض الشافعية: أن ما ثبت بالإجماع ألا يجوز تركه إلا بإجماع مثله.   = فقال عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاماً له ثَنيَّتان، فلما رآه أبوه قال: ابنى، فبلغ ذلك عمر فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر) . وذكره الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ بن جبل (1/452) . كما ذكره صاحب كنز العمال في فضائل معاذ بن جبل (17/583) رقم (37499) ونسبه إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقى في الدلائل. ويلاحظ أن القصة وقعت لمعاذ - رضي الله عنه - مع عمر - رضي الله عنه - لا مع عثمان - رضي الله عنه - كما ذكر المؤلف. (1) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (343) فإن فيها كلاماً جيداً، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/392) . (2) انظر: أصول السرخسى (2/116) فقد فصَّل القول في ذلك: مثَّل، ودلَّل، وناقشَ، فارجع إليه إذا شئت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1211 وهذا مثل المتيمم إذا دخل في الصلاة، ثم رأى الماء. وما يجري هذا المجرى من المسائل [181/أ] . دليلنا: أن غير الإجماع قد يكون حجة مثل الإجماع، ألا ترى أن الإجماع إنما (1) صار حجة بالخبر الوارد فيه، والخبر إنما صار حجة لقيام دلالة العقل على أن الخير به لا يكذِب، وإذا كان كذلك وجاز ترك المجمع عليه إذا تغيرت حاله وجب أن يجوز أيضاً تركه بغير إجماع. واحتج المخالف: بأنه لو جاز ترك المجمع عليه بغير الإجماع لأدى ذلك إلى قيام الدلالة على خلاف الإجماع، وهذا لا يجوز. والجواب: أنه إذا تغيرت صفته، فليس هو المجمع عليه، بل هو غيره، فلا يكون في تركه بغير الإجماع إزالة ما ثبت بالإجماع بدلالة أخرى. وجواب آخر، وهو: أنه لو لم يجز ترك ما ثبت بالإجماع إذا تغيرت صفته بدلالة غير الإجماع، لم يجز أيضاً تركه بالإجماع؛ لأن الإجماع على خلاف الإجماع لا يجوز، كما لا يجوز خلاف الإجماع، فلمَّا لم يمتنع تركه بالإجماع لم يمتنع أيضاً تركه بغير إجماع. واحتج: بأنه لمَّا لم يكن غير الإجماع من جنس ما ثبت به الحكم، لم يجز إزالة الحكم، كما لا يجوز إزالة ما ثبت بنص الكتاب بدلالة القياس. والجواب: أنه قد يجوز أن يثبت الشيء بدلالة، ثم ينتقل عنها بدلالة أخرى من غير جنسها، ألا ترى أنه يجوز ترك ما ثبت بالعقل بدلالة من جهة السمع وإن كانت من غير جنس دلالة العقل.   (1) في الأصل: (لما) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1212 مسألة يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد (1) . قال أبو سفيان: وهو مذهب شيوخنا (2) . وقال: قال بعض شيوخنا: لا يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد (3) . دليلنا: أن العمل بخبر الواحد ثابت، فوجب عموم العمل به ما لم يمنع منه دليل. ولأن الإجماع حجة، كما أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. حجة، وقول النبي يثبت بقول الواحد. وذهب المخالف: إلى أن الإجماع حجة توجب العلمَ، فلا يجوز إثباتُها لا يوجب العلم. والجواب: أناَّ نجيز وقوع الإجماع من طريق الاجتهاد والقياس، وإن كان القياس والاجتهاد لا يوجبان العلم. وكذلك يجور إثبات التأريخ الموجب للنسخ بخبر الواحد، وإن كان النسخ بخبر الواحد لا يجوز. وكذلك يجوز إثبات الإحصان بشهادة رجلين، وإن لم يجز إثبات الزنا الموجب للرجم به، كذلك ها هنا لا يمتنع أن يثبت الإجماع بخبر الواحد، وإن كان الإجماع موجباً للعلم.   (1) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (344) ، وشرح الكوكب المنير (2/224) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/386) . (2) يعنى الحنفية. (3) فالحنفية في هذه المسألة فريقان، فريق يثبت، وفريق يمنع. وبكل قول قال فريق من العلماء. انظر: تيسير التحرير (3/261) ، وفواتح الرحموت (2/242) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1213 مسألة في الحادثة إذا حدثت [181/ب] بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحكم فيها بشىء، جاز لنا أن نحكم في نظيرها (1) . وذهب بعض المتكلمين: إلى أن ترك النبي للحكم في الحادثة يدل على وجوب ترك الحكم في نظيرها، وقال هذا كرجل شجَّ رجلاً شجة، فلا يحكم رسول الله فيها بحكم، فنعلم بتركه ذلك: أن لا حكم لهذه الشجة في الشريعة. دليلنا: أن بيان الحكم يقع من قبل الله تارة ومن قبل تبيين النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة أخرى، فلمَّا اتفقوا على أن عدم نص الله تعالى في الحادثة على حكم لا يوجب تركَ الحكم في نظيرها، كذلك تركُ رسول الله الحكم في الحادثة لا يوجب تركَ الحكم في نظيرها. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكلنا إلى النظر والاستدلال والبحث عن أدلة الأصول (2) .   (1) راجع هذه المسألة: المسودة ص (345) . وقد نقل في المرجع المذكور عن ابن عقيل قوله: (إن كان له - صلى الله عليه وسلم - حكم في نظيرها يصح استخراجه من معنى نطقه جاز، فأمَّا إذا لم يكن ذلك في قوة ألفاظ النصوص فلا وجه لرجوعنا إلى طلب الحكم مع إمساكه عنه، إذ لا وجه لإمساكه عن الحكم في وقت الحاجة؛ لأنا أجمعنا على وجوب البيان في وقت الحاجة) . وهذا التفصيل يصعب معرفته وتحقيقه في الواقع، وإن كان من الناحية النظرية سليماً. (2) تعقبه ابن عقيل -كما في المسوَّدة ص (345) - بقوله: (فقولوا: يجوز اجتهاد في عين الحادثة التي أمسك عنها، فلما لم يوجب ذلك جواز الاجتهاد في عين الحادثة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1214 ألا ترى إلى ما روي أن عمر - رضي الله عنه - لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكَلاَلة، فلم يجبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (يكفيك آية الصَّيف) (1) فوكله إلى البحث والنظر. وذهب المخالف: إلى أنه لو كان لهذه الحادثة حكم في الشريعة لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليترك بيانه مع عدم نص الله تعالى. والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أنه قد يترك البيان، ويكلنا إلى النظر والبحث، فلا يكون ذلك موجباً لترك الحكم في نظير الحادثة.   = التي أمسك عنها، فكذلك في نظيرتها. علم أنه مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير جائز. ثم قال: إما أن يكون عالماً بحكمها أو غير عالم، فإن كان عالماً امتنع ترك البيان والتبليغ، وإن لم يكن عالماً به فلا نشك أن الأصلح ترك بيانه؛ إذ لو أراد الله بيانه لما طواه عن نبيه، وأوقع الأمة عليه من غير طريقه وبيانه) . (1) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب الكلالة (10/305) ولفظه: (عن طاوس أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة، فأمهلته حتى إذا لبس ثيابه فسألته، فأملَّها عليها في كتف، فقال، عمر أمرك بهذا؟! ما أظنه أن يفهمها، أو لم تكفه آية الصَّيف؟. فأتت بها عمر فقرأها، فلما قرأ: "يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أن تَضِلُّوا" (سورة النساء 176) قال: اللهم من بينت له فلم تبين لي) . ففي هذا أن السائل المباشر هو حفصة -رضي الله عنها-. وذكره الهيثمى في مجمع الزوائد (4/227) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - بلفظ (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة، فقال: (يكفيك آية الصَّيف) . قال الهيثمى بعد ذلك: (رواه أبو يعلى، وفيه حجاج بن أرطاة، وهو مدلس) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1215 باب التقليد التقليد (1) : قبول القول بغير دليل (2) . واشتقاقه من القِلادة (3) ؛ لأنها تكون في رقبة الإنسان، فاشتُقَّ التقليد منها؛ لأنه إذا قَبِل قولَه فيما سأله، فقد قلَّد رقبتَه ذلك (4) . وليس المصير إلى الإجماع تقليد المجمعين، ولكن نفس الإجماع حجة لله تعالى كالآية والخبر، فإذا صار إلى الحكم بدليل الإجماع، كان دليله على الحكم الإجماع. وكذلك يُقبل قولُ الرسول، ولا يقال: تقليد؛ لأن قوله وفتواه حجةٌّ ودليلٌّ على الحكم، والنبى لا يُقلَّد؛ لأن قوله حجة؛ لأنه إذا أفتى بفتيا لم يحتج أن يدل على الحكم بآية من كتاب الله ولا غيره، بل مجرد نطقه عنه. ويفارق فتيا الفقيه؛ لأن قوله ليس بحجة ولا دليل على الحكم؛ لأنه يفتقر إلى دليل تعلق الحكم به.   (1) راجع هذا الباب في: أصول الجصاص الورقة (304/ب) والتمهيد (4/395) ، والمسوَّدة ص (462) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (2/449) ، وشرح مختصر الروضة للطوفي الجزء الثاني الورقة (198/ب) ، والمدخل لابن بدران ص (193) . (2) هناك تعريفات كثيرة، ذُكر بعضها في المراجع السابقة. (3) أي: المحيطة بعنق الدابة أو غيرها؛ لأنه إذا لم تكن محيطة بالعنق لا تسمى قلادة. أفاده الطوفى في المرجع السابق. (4) استعير المعنى الشرعي من المعنى اللغوي، كأن المقلد يُطوِّق المجتهد تبعات ما قلده فيه، من إثم في حالة غشه في دينه وكتمه عنه العلم الصحيح. أفاده: الطوفي في المرجع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1216 فدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُقلَّد أبداً. وقد قال أحمد - رضي الله عنه - في رواية أبي الحارث: "من قَلَّد الخبرَ رجوتُ أن يَسْلَم إن شاء الله" (1) . فقد أطلق أحمد - رضي الله عنه - اسم التقليد على من صار إلى الخبر، وإن كان حجة في نفسه. يمكن أن يحمل قوله: "قَلَّد" بمعنى صار إلى [182/أ] الخبر. [ما يسوغُ فيه التقليد وما لا يسوغ] وإذا ثبت حدُّ التقليد. فالكلام فيما يسوغ فيه التقليد وما لا يسوغ فيه (2) . جملته: أن العلوم ضربان: ما يسوغ فيه التقليد. وما لا يسوغ فيه التقليد. فما لا يسوغ فيه التقليد: معرفة الله تعالى، وأنه واحد، ومعرفة صحة الرسالة (3) .   (1) هذه الرواية موجودة بنصها في: المسودة ص (462) والمدخل ص (193) . (2) راجع في هذه المسألة: مختصر المعتمد للمؤلف ص (20) والتمهيد (4/396) والمسوَّدة ص (457) وشرح الكوكب (4/533) وروضة الناظر (2/450) . (3) قال أبو الخطاب في التمهيد الموضع السابق: (وبه قال عامة العلماء) ونسبه الفتوحي في شرح الكوكب إلى الإمام أحمد والأكثر. ويلحق بذلك -كما يقول أبو الخطاب- أصول العبادات كالصلوات الخمس والزكاة والصوم وحج البيت، فإن الإجماع انعقد على أنه لا يجوز فيها التقليد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1217 وإنما قلنا: لا يقلد في هذا، بل على الكل معرفةُ ذلك بغير تقليد: لقوله (1) تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطاياهُم مِن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (2) . وهذا أعلى منازل التقليد: أن يضمنَ (3) المقلَّدُ للمقلِّد دركَ ما قلَّده فيه، وأن يتحمل عنه إثمه، فقد ذمة الله تعالى عليه وكذَّبه فيه: ثبت أن التقليد فيه لا يجوز. ولأن كل واحد يمكنه معرفة الله تعالى؛ لأنه يشترك فيها العامي والعالم، لا نبينه فيما بعد. ولأن التقليد لا يفضي إلى المعرفة، ولا يقع به العلم. فصل [معرفة الله لا تجب قبل السمع] ولا يجب عليه معرفةُ الله تعالى قبل السمع مع القدرة على معرفة الله تعالى بالدلائل (4) . وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية عبدوس (5) بن مالك العطار:   (1) في الأصل: (قوله) بدون اللام. (2) آية (12) من سورة العنكبوت. (3) في الأصل: (يضمر) وهو تصحيف. (4) ونقل الفتوحي في شرح الكوكب المنير (1/310) عن الشيرازي: أن الأشعرية يقولون إن وجوب معرفة الله تعالى بالعقل وبالشرع. (5) في الأصل: (عبد الله) وهو خطأ، وسيأتي اسمه كما أثبتناه، وهو كذلك في المسوَّدة ص (481) وقد سبقت ترجمته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1218 "ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك (1) بالعقول، إنما هو الاتباع". خلافاً للمعتزلة في قولهم: عليه أن يعرف ذلك قبل أن يرد السمع، فإن لم يفعل، فهو كافر معاند (2) . وقالوا: المراهق إذا بلغ حداً يميز ويعقل وجب عليه أن يعرف الله تعالى، فإن لم يفعل، فهو كافر معاند. دليلنا: قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَى نَبْعَثَ رَسُولاً) (3) . وقال تعالى: (رُسُلاً مُّبَشِرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اْلرُّسُلِ) (4) فدل ذلك على أن الله تعالى لا يعرف قبلِ أن يبعث الرسل. وقال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَى يَبْعَث فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلهَا ظَالِمُون) (5) . وقال تعالى: (وَلَوْلاَ أن تُصِيْبَهُم مُّصيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيدِيهمْ فَيَقُولوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ رَسُولاً فَنَتَّبعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (6) وقال الله تعالى: (وَلَوْلاَ أَنَّا أهلَكْنَاهُم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلتَ إِليْنَا رَسُولاً فَنَتَبعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أن نَّذِلَّ وَنَخْزَى) (7) .   (1) في الأصل: (يدرك) بالمثناه التحتية. (2) انظر في هذا: زيادات المعتمد (2/994) ، والإحكام للآمدي (1/86) وإرشاد الفحول ص (7) . (3) آية (15) من سورة الاسراء. (4) آية (165) من سورة النساء. (5) آية (59) من سورة القصص. (6) آية (47) من سورة القصص. (7) آية (134) من سورة طه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1219 وهذا كله يدل على ما ذكرناه. وأيضاً: ما روى سليمان بن بريدة (1) عن أبيه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على سرية أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين، وقال: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم [إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتها أجابوك إليها، فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم] (2) إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا، [فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا] (3) فاستعن بالله عليهم وقاتلهم) (4) . فأمر بقتالهم بعد الدعاء والامتناع. وإذا ثبت وجوبها بالسمع فالطريق إليها أدلة يشترك فيها العالم والعامي، وهى أمور عقلية.   (1) هو: سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمى المروزي. ثقة. روى عن أبيه وعمران ابن حصين وعائشة -رضي الله عنهم- وغيرهم. وعنه علقمة بن مرثد ومحارب ابن دثار وعبد الله بن عطاء وغيرهم. ولد لثلاث خلون من خلافة عمر - رضي الله عنه - ومات سنة (105هـ) ، وله (90) سنة. له ترجمة في: تهذيب التهذيب (4/174) وتقريب التهذيب (1/321) . (2) ما ببن القوسين زيادة من مراجع التخريج الآتية. (3) ما بين القوسين زيادة من مراجع التخريج الآتية. (4) هذا الحديث رواه بريدة - رضي الله عنه - أخرجه عنه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (3/1357) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الجهاد، باب: في دعاء المشركين (2/35) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب السير، باب: ما جاء في وصيته - صلى الله عليه وسلم - في القتال (4/162) حديث (1617) . وأخرجه ابن ماجة في كتاب الجهاد، باب: وصية الإمام (2/953) حديث (2858) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1220 [بم تحصل المعرفة] وهي كسبية مختارة للعبد، وموهِبة من الله تعالى، ولا تقع ضرورة. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي: "معرفة الله تعالى في القلب تتفاضل فيه وتزيد" (1) . وهذا يدل على أنها كسبية؛ لأنها تزيد بزيادة الأدلة، ولو كانت ضرورة لم تزد، كما لم يزد (2) علم الضرورات. خلافاً لمن قال: المعرفة موهِبَة، تقع ضرورة، ولا يتوصل إليها بأدلة العقول (3) . وربما يذهب إلى هذا قوم من أصحابنا (4) . والمذهب على ما ذكرنا (5) .   (1) ذكر المؤلف هذه الرواية في كتابه مختصر المعتمد في أصول الدين ص (32) ووجهها بقوله: (والوجه فيه: أن من الناس من يعرف مخبرات الله تعالى مفصَّلة، ومنهم من يعرفها مجملة، فمن عرفها مجملة، فإذا عرف تفصيلها ازداد علمه وتصديقه، وذلك أن الوحى كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية وسورة فمن قد سبقت له المعرفة ازداد علمه، ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا مَا أنزِلَت سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً..) (124) التوبة. (2) في الأصل: (تزد) بالمثناة الفوقية. (3) ونقل ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم ص (124) عن أبي الحسن قوله: (معرفة الصانع ضرورة) . (4) قال الفتوحى في شرح الكوكب المنير (1/310) : (وقال جمع من أصحابنا وغيرهم: (إنهما [أي المعرفة والنظر] يقعان ضرورة) . (5) ذكر ابن مفلح في كتابه الفروع (6/186) رأيين في المسألة: كسبية، أو ضرورية، وعبر عن الرأي القائل: بأنها ضرورة بقوله: (قيل) . وهذا يشعر بأن الرأي الآخر هو الراجح في المسألة، وهو المذهب كما قال المؤلف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1221 وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية حمدان بن علي: "المرجئة تقول: إذا عرف ربّه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه. وهذا كفر إبليس، قد عرف ربه، فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي") (1) . فقد نص على حصول (2) المعرفة لإبليس، ولو كانت موهِبة لم تحصل له (3) ، لأنه كافر معاند. والدلالة عليه: أن الله تعالى أجرى العادة بحصول المعرفة عند النظر والاستدلال، كما أجرى العادة بذلك بحصول الطَّعم عقيب الذوق، والسمع عقيب الاستماع، ولم يجز أن يقال: إن الطَّعم يحصل بغير ذوق، والسمع بغير استماع.   (1) آيه (39) من سورة الحجر. ورواية حمدان بن علي هذه ذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة حمدان (1/309) . (2) في الأصل: (حضور) . (3) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (457) هذه الرواية وتوجيه القاضي لها ثم قال: (هذا الذي ذكره القاضي لا ينافي ما حكاه عن بعض أصحابنا؛ لأنه مبني على أنها ضرورة عندهم، والضرورة لا تزيد، وكلا المقدمتين ممنوعة، فإنهم إنما يقولون: أصل المعرفة بالله ورسوله ضرورة، وأما الزيادة الحاصلة بتدبر القرآن ونحوه فما أظنهم يقولون: هى ضرورة، وأما الثانية، فإن القاضي يقول: إن العقل علوم ضرورية، وهو عنده يزيد وينقص، فالزيادة في الضروريات) . ثم عقَّب على استدلال القاضي برواية حمدان بن على الورَّاق بقوله: (وأما طعن الإمام أحمد على المرجئة بمعرفة إبليس، فهي المعرفة الفطرية، وما المانع من أن تكون هذه موهِبة من الله؟! ذلك أقوم في الحجة عليه من أن تكون حاصلة بكسبه، ولو حصلت بكسبه لا يثبت عليها، فأما المعرفة الإيمانية فلم تحصل له، ومن قال: المعرفة ضرورية. فقد أراد الفطرية، وفي إرادته لهذه نظر) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1222 ولأن الله تعالى حث على النظر والاستدلال، فلولا أن العلم يقع به لم يكن فيه فائدة، فقال تعالى: (أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ، كَيْفَ خُلِقَتْ) (1) . وقال: (أولَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السمَوَاتِ وَاْلأَرْضِ) (2) . وقال: (فَلْيَنْظُرِ اْلإِنْسَان مِمَّ خُلِقَ) (3) . وقال: (يَا أيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنَ تُرَابٍ) (4) الآية. واحتج من قال بأنها موهبة: بما أخبر الله سبحانه عن عيسى وقوله في التمهيد: (إِنِّى عَبدُ اللهِ ءاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا) (5) ، ولم يك من أهل النظر: الاستدلال. وكذلك لما استخرج الذرية من ظهر آدم، (وأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (6) .. ولم يكونوا من أهل النظر والاستدلال. والجواب: أن كلام عيسى في التمهيد كان معجزة (7) له وبراءة لأمه. ويحتمل أن يكون كلفه في تلك الحال، كما أنطقه في المهد صبياً بلسان الحكمة. وأما الذرية فإن الله تعالى كلفهم حين أوجدهم؛ لأنه أخذ إقرارهم، وإنما يكون هذا حجةً على من كلف.   (1) آية (17) من سورة الغاشية. (2) آية (185) من سورة الأعراف. (3) آية (5) من سورة الطارق. (4) آية (5) من سورة الحج. (5) آية (30) من سورة مريم. (6) آية (172) من سورة الأعراف. (7) في الأصل (معجزا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1223 فأما الدلالة التي يتوصل بها فهو: أنه رَفع السماء بغير عمد، وأجرى فيها الكواكب والشمس والقمر دائبين، قائمة على الهواء بغير عمد، ولا يظهر فيها شَق ولا فُطور، قال تعالى: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور) (1) . وسَطَح الأرض، وهي تراب على وجه الماء، والبناء على الماء حال (2) [183/1] لا يقدر عليه أحد، فلما فعل هذا اضطربت على الماء فثبتها بالجبال الرواسي حجراً واحداً، ومعلوم أن أحداً من البشر لا يقدر عليه، ثبت أن لها خالقاً غير البشر. وكذلك جعل فيك دلالة عليه، فإنه خلق الإنسان من ماء مهين، وجعله نطفة في الرحم، ثم يُغَيَّر من حال إلى حال، حتى يظهر من بطن أمه وليداً لا يعقل، فلم يزل حتى كبر، وعقل، وفهم، وعلم، وأنتَ تعلم أنه لو انقطع منه شعرة لم يمكن أحد أن يضعها كما كانت أبداً، ثبت بهذا أن له صانعاً يخالف البشر. وإذا ثبت أن لها صانعاً، علمناه قطعاً أنه واحد لا شريك له بانتظام الأمر على محكم الصنعة من غير تغير ولا اختلاف، ولو كان إله غيره لجاز عليهما الاختلاف على ما نعهده في الملوك، فلما اتسعت الصنعة على وجه واحد من غير اختلاف، علم قطعاً أن الصانع واحد لا شريك له. [معرفة النبوة] وأما معرفة النبوة فظهور المعجزات عند التحدي والحاجة إليها على يديه، كانشقاق القمر، وكلام الضب، وحنين الجذع، والقرآن القاطع المعجز، وكاليد البيضاء، والعصا، وإحياء الموتى، وتنزيل المائدة من السماء، فإذا ظهر على [يد] نذير هذا عند التحدي علمنا أنه رسول الله قطعاً؛ لأن المعجزات لا تظهر على يد الكذابين.   (1) آية (3) من سورة الملك. (2) في الأصل (خال) بالخاء المعجمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1224 [الفرق بين العجزة والكرامة] ويفارق هذا كرامات الأولياء، لأنها تقع اتفافاً، ولا يمكنه إظهارها والتحدي بها، فإذا وجد على يدي رجل، ثبت أنه نبي قطعاً، وكان قبول قوله فرضاً (1) . وفي معنى هذا مما لا يسوغ التقليد فيه: ما ثبت بخبر التواتر، كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان والزكاة والحج، كل هذا يعرف بأخبار التواتر، فيقع العلم بها بالسمع، والعالِم والعامي في طريق ثبوتها على وجه واحد، فلهذا لم يسغ التقليد فيه. [ما يسوغ فيه التقليد] وأما الذي يسوغ فيه التقليد، فهذه المسائل التي هي فروع الدين، كالنكاح، والبيوع، والطلاق، والعتق، والتدبير، والكتابة، وسجود السهو، فالناس فيه على ضربين: عالِم، وعامي. فالعامي له أن يقلد أهلِ العلم، ويعمل بفتواهم، لقوله تعالى: (فَاسْألوا أَهْل الْذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون) (2) . وقال تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (3) . وقال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُوْلِ وَإلِى أولِى الأَمرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ   (1) انظر بحث المعجزة والكرامة، والفرق بينهما، كتاب شرح الطحاوية ص (448) وما بعدها. (2) آية (43) من سورة النحل. (3) آية (122) من سورة التوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1225 يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (1) . ولأنه لا خلاف أن طلب الفقه من فرائض الكفايات، فلو كلف الكل لكان من فرائض الأعيان. ولأن كل أحد لا يتمكن أن يعرف ذلك؛ لأنه يتشاغل [183/ب] عن عمارة الدنيا بالزرع والمعاش والكسب به، فلما كان فيه قطع لعمارة الدنيا لم يكن واجباً على الكل. [للعاميِّ أن يقلد من شاء من المجتهدين] وإذا ثبت أن له التقليد، فليس عليه أن يجتهد في أعيان المقلَّدين، بل يقلد من شاء، لأنه لما لم يكن عليه الاجتهاد في طلب الحكم كذلك في المقلَّد. وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- فيما رواه الحسين (2) بن بشار المخرمي (3) قال: "سألت أحمد -رحمه الله- عن مسألة في الطلاق، فقال: إن فعل كذا حنث. فقلت له: فإن أفتاني إنسان: لا أحنث، فقال: تعرف حلقة المدنيين؟ قلت: فإن أفتوني أدخل (4) ؟ قال: نعم". فلم يكله الإمام أحمد - رضي الله عنه - إلى اجتهاده في المستفتى، وإنما   (1) آية (83) من سورة النساء. والآية في الأصل (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُّولِ) ولفظ الجلالة غير موجود في الآية. (2) في الأصل (أبو الحسين) وهو خطأ. (3) من أصحاب الإمام الذين نقلوا عنه بعض المسائل. انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة (1/142) . وهذه الرواية موجودة بنصها مع اختلاف يسير في طبقات الحنابلة في ترجمة الحسين ابن بشار المخرمي المذكور. (4) هكذا في الأصل، وفي طبقات الحنابلة: (فإن افتوني يدخل؟ قال نعم) : = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1226 أفتاه بقوله، وأرشده إلى غيره. [إذا استفتى المقلد عالمين] وإن استفتى عالمين: فإن اتفقا على الجواب عمل بما قالاه، وإن اختلفا، فقال أحدهما: مباح، والآخر محظور. مثل إن استفتاه في صريح الطلاق إذا نواه ثلاثاً، فقال له حنبلي: طلقت واحدة. وقال (1) له شافعي: طلقت ثلاثاً، فإنه يقلد من شاء منهما، ولا يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ عليه. وهذا ظاهر ما رواه الحسين (2) بن بشار عن أحمد؛ لأنه استفتاه في مسألة الطلاق، فقال له أحمد - رضي الله عنه -: "إن فعل حنث، وقال: إن إفتاك مدني: لا تحنث، فافعل". فقد سوَّغ له الأخذ بقول المدني بالإباحة، ولم يلزمه الأخذ بالحظر. فإن قيل: هلاَّ قلتم: يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ، كما قلتم: إذا تقابل في الحادثة دليلان: أحدهما حاظر والآخر مبيح: إنه يقدم الحظر على الإباحة.   = وفي المسودة ص (463: (فإن افتوفي به حلَّ؟ قال: نعم) وسيعيد المؤلف ذكر هذه الرواية بلفظ آخر في المسألة الآتية. (1) في الأصل: (فقال) . (2) في الأصل (الحسن) مكبراً، وهو خطأ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1227 قيل: الفرق بينهما: أن ذلك من الأصول مبناه على التأكيد، ولهذا طريق ثبوته دليل مقطوع عليه. وهذا من الفروع مبناه على التخفيف، ولهذا يثبت بغلبة الظن. [يكفي في الفتوى مترجم واحد] فإن كان المقلد يعرف لسان المفتي سمع منه، وعمل بقوله عليه. وإن كان لا يعرف لسانه أجزأه مترجم واحد؛ لأنه نقل خبر إليه، وخبر الواحد يوجب العمل. ويفارق هذا الترجمة عن الشاهد؛ لأنها (1) إثبات شهادة، فلهذا افتقرت الترجمة إلى عدد. [على العامي أن يستفتي في كل حادثة تقع] وإن استفتى عامي عالماً في حكم وأفتاه، ثم حدث حكم آخر مثل ذلك، فعليه أن يكرر الاستفتاء، ولا يقتصر على الأول. وكذلك الحاكم إذا اجتهد في حادثة فقضى بها، ثم حدثت ثانياً، فإنه يحدث لها اجتهاداً. وكذلك إذا اجتهد فصلى إلى جهة، ثم حضرت صلاة أخرى أحدث لها اجتهاداً؛ لأن الاجتهاد الأول غير مقطوع [184/أ] عليه، وإنما هو غلبة ظن فهذا حكم العامي.   (1) في الأصل: (لأنه) والضمير يعود إلى الترجمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1228 فصل [تقليد العالم لعالم مثله] وأما العالِم فلا يجوز أن يقلد عالماً مثله، سواء كان الزمان واسعاً أو ضيقاً (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد: "لا تقلد أمرك واحداً منهم، وعليك بالأثر" (2) . وذكر ابن بطة (3) في مسألة أفردها: أن الخلوة تكمل الصداق، بإسناده عن الفضل بن زياد قال: قال أحمد -رحمه الله-: "يا أبا العباس لا تقلد   (1) راجع في هذا الفصل: أصول الجصاص الورقة (305/ب) والتمهيد (4/408) والمسوَّدة ص (468) . (2) روى أبو داود في مسائله ص (277) عن الإمام أحمد قوله -وقد سأله-: "الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك واحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به، ثم التابعبن بعد الرجل فبه مخير". والرواية التي نقلها المؤلف ذكرها أبو الخطاب في كتابه التمهيد كما ذكرت في المسوَّدة في الموضعين السابقين. (3) هو: عبد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أبو عبد الله، العكبري، المعروف بابن بطة. سمع عبد الله بن محمد البغوي وإسماعيل بن العباس الوراق وأبا بكر النيسابوري وغيرهم، وسمعه جماعة، منهم: أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص العكبري، وأبو حفص البرمكي. كان عالماً زاهداً ورعاً. له مؤلفات كثيرة، منها: الإبانة الكبرى، والإبانة الصغرى، والسنن، والمناسك. مات سنة (387هـ) . له ترجمة في: شذرات الذهب (3/122) وطبقات الحنابلة (2/144) : المنهج الأحمد (2/96) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1229 دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا" (1) . فقد مَنَعَ من التقليد، وندب إلى الأخذ بالأثر. وإنما يكون هذا فيمن له معرفة بالأثر والاجتهاد. وبهذا قال الشافعي (2) وأبو يوسف (3) .   (1) هذه الرواية ذكرها أبو الخطاب في التمهيد الموضح السابق، وذكرت في المسوَّدة الموضع السابق أيضاً. (2) المنقول عن الإمام الشافعي في القديم كما في الاحكام للآمدي (4/177) والمحصول (6/110) أنه يقول: (يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابة، ولا يجور تقليد غيرهم) . ونقل ابن القيم في كتابه اعلام الموقعين (2/239) مذهب من قال بجوار التقليد، ومن ضمن ما استدلوا به قول الشافعي في غير موضع: (قلته تقليداً لعمر، وقلته تقليداً لعثمان، وقلته تقليداً لعطاء) . كما نقل عنه في (2/241) : (رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا..) . فخلاصة مذهب الشافعي: أنه لا يجيز تقليد العالم للعالم إلا الصحابة فيجوز لمن بعدهم تقليدهم. إلا أن النص الأول الذي نقله ابن القيم يشعر بأن التابعين في ذلك كالصحابة، فيجوز تقليدهم. وأشار إلى ذلك ابن الحاجب في المنتهى ص (161) حيث قال: (وقال الشافعي والجبَّائي: يجوز أن يقلد صحابياً خاصة أرجح من غيره، فإن استووا تخير. وقيل: وتابعياً) . والمشهور من مذهب الشافعية: عدم الجواز مطلقاً. انظر التبصرة ص (403) . وذكر الرازي في المحصول (6/115) : أنه مذهب أكثر الشافعية. (3) نقل ذلك عنه الجصاص في أصوله الورقة (305/ب) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1230 وقال أبو حنيفة (1) ومحمد (2) : يجوز للعالم تقليد العالم، حكاه أبو سفيان عنه في مسائله، ولم يفرق بين أن يكون الزمان واسعاً أو ضيقاً. وذهب ابن سريج إلى جواز ذلك مع ضيق الوقت (3) . والدلالة على أبي حنيفة: قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ) (4) ولم يقل إلى عالم مثلك. وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِنْ شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (5) وهذا يدل على أن لا يقلد غيره. وأيضاً: فإن معه آلة يتوصل بها إلى المطلوب، فوجب أن لا يجوز له التقليد فيه.   (1) حكى ذلك الجصاص في المرجع السابق حيث قال: (قال أبو بكر: ولا فرق عندنا في قول أبي حنيفة في جوازه تقليده لغيره، بين أن يقلده ليأخذ به في شىء ابتلي به في أمر نفسه، وبين أن يفتي به غيره، يجوز له أن يفعل ذلك في الأمرين جميعاً) . ولكن صاحب مسلم الثبوت مع الشارح (2/293) ذكرا أن هناك روايتين عن الإمام أبي حنيفة، إحداهما: يجوز، والأخرى: لا. (2) في المرجع السابق: (وعن محمد: يقلد من هو أعلم منه، وهو ضرب من الاجتهاد) . ولكن الجصاص في المرجع السابق نقل بواسطة أبي الحسن: (أن محمداً لا يجِّوز ذلك) . (3) نقل ذلك عنه الشيرازي في التبصرة ص (412) والرازي في المحصول (6/16) ولكن قيد الرازي في المحصول بأن ابن سريج يجوز للمجتهد التقليد فيما يخصه، بحيث لو اشتغل بالاجتهاد في المسألة لفات الوقت. وهناك أقوال أخرى في المسألة: ارجع إليها في المحصول والإحكام للآمدي في المواضع السابقة. (4) آية (59) من سورة النساء. (5) آية (10) من سورة الشورى والآية في الأصل (فحكمه إلى الله والرسول) وهو خطأ، فإن الآية ليس فيها ذكر الرسول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1231 أصله: التقليد في التوحيد. وهذا نكتة المسألة. ولا يلزم عليه قول الصحابي؛ لأن الرجوع إليه ليس بتقليد؛ لأنه حجة كقول النبي. فإن قيل: الأمور العقلية طريقها العلم، وتقليد الغير أكثر أحواله أن يوجب غلبة الظن، فلم يجز له تقليده، وأمور الشرع طريقها الاجتهاد، وتقليده لمن هو أعلم منه وأقوى اجتهاداً ضرب من الاجتهاد، فوجب أن يكون ذلك دلالة. قيل: ليس هذا ضرباً من الاجتهاد ولا دلالة، وإنما هو اجتهاد من التقليد، وكلامنا في اجتهاده ليعلم ذلك بعلمه، ويقف على دليله. ولأنه لا يجوز للإِنسان أن يتبع قول غيره إلا بصفة تختص به، لا يشاركه فيها أحد، مثل الرسول اختص بالعصمة (1) وكذلك الأمة. وكذلك قول الصحابي اختص بمشاهدة التنزيل وحضور التأويل. والعالم مع العامي اختص بالاجتهاد. فأما إذا لم يكن لأحدهما مزية لم يكن له اختصاص بصفة فلم يجز للآخر اتباعه في قول. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِى اْلأمْرِ مِنْهُمْ) (2) . والجواب [184/ب] : أن المراد به العامة، يدل عليه قوله تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) عُلِم أنه أراد المقلد؛ لأنه إذا كان عالماً فهو من أهل الاستنباط.   (1) في الأصل (الصمة) . (2) آية (83) من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1232 واحتج: بما روي أن عبد الرحمن بن عوف لما تردد بين عثمان وعلي، قال لعثمان: (هل أنت متابعي (1) على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين؟. فقال: الَّلهم نعم، فبايعه) (2) . وإنما دعاه عبد الرحمن إلى اتباع أبي بكر وعمر لاعتقادهما (3) أن أبا بكر وعمر كانا أعلم من عثمان. وروي عن عمر أنه قال: (إني رأيت في الجد رأياً، فاتبعوني، فقال له عثمان: إن نتبع رأيك فرأيك رشيد، وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي كان) (4) . وروي (أن امرأة ذُكِرت عند عمر بالفاحشة، فوجه إليها، فأجهضت ذا بطنها من الفزع، فاستشار الصحابة، فقال عثمان وعبد الرحمن: إنك مؤدب، ولا شىء عليك، وعلىُّ ساكت، فقال له عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطئا، وإن لم يجتهدا فقد غشَّاك، عليك الدية، فقال عمر: عزمت عليك لتقسمنها على قومك) (5) .   (1) هكذا في الأصل في هذا الموضع، والمواضيع الأخرى الآتية، والذي يظهر لي -وهو ما أثبته الشيرازي في التبصرة ص (407) - أنه (مبايعي) . (2) سبق تخريج الأثر. (3) أي: عبد الرحمن وعثمان. (4) هذا الأثر أخرجه الدارمي في سننه في كتاب الفرائض، باب: قول عمر في الجد (2/256) حديث (2919) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب فرض الجد (8/263) حديث (19051) . (5) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب من أفزعه السلطان (9/458) ، ونصه: ( ... عن الحسن قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى امرأة مَغيبة كان يُدخل عليها، فأنكر ذلك، فأرسل إليها، فقيل لها: أجيبي عمر، فقَالت: يا ويلها ما لها ولعمر قال: فبينا هى في الطريق فزعت، فضربها الطّلْق، فدخلت داراً = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1233 فقلد علياً. والجواب عن قول عبد الرحمن لعثمان: هل أنت متابعي على سيرة الشيخين من وجوه: أحدهما: أنا نحمل ذلك على السيرة في حماية البيضة. والقيام بالمصالح، والتزيد في بلاد الإسلام والفتوح والنكاية في العدو، ولم يُرِد في أحكام الفقه. يدل على صحة هذا: أن أحكامهما (1) مختلفة في كثير من المسائل، فكيف يجوز اتباعهما؟. فإن قيل: لو كان المراد به السيرة لم يمتنع عليُّ من ذلك. قيل (2) . وجواب ثان، وهو: أنه يجوز أن يكون عثمان أجابه إلى ذلك؛ لأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي أبي بكر وعمر) فحمله على عمومه. وجواب ثالث، وهو: أن علي بن أبى طالب خالفهما في ذلك، فقال لعبد الرحمن لما قال له: (هل أنت متابعي على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة   = فألقت ولدها، فصاح الصبي صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شىء إنما أنت وال ومؤدب، قال: وصمت عليُّ، فأقبل عليه، فقال: ما تقول؟ قال إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كان قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أن ديته عليك، فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها في سببك، قال: فأمر علياً أن يقسم عقله على قريش، يعني يأخذ عقله من قريش؛ لأنه خطأ) . وقد آثرت نقل الأثر بنصه، لما فيه من الفقه والعظة والنصح، والعظمة القيادية. (1) في الأصل: (احكامه) . (2) هكذا في الأصل، ذكر الاعتراض، ولم يجب عنه، واكتفى بقوله: قيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1234 الشيخين؟ فقال له علي: لا، إلاَّ على جهدي وطاقتي) . فخالفهما في ذلك. فإن قيل: ليس هذا بخلاف؛ لأنه يجوز أن يكون عنده أنه أعلم منهما، فلهذا لم يتبعهما؛ وكان عند عثمان أنهما أعلم منه، فأجاب إلى اتباعهما. قيل: الخلاف قد ظهر منهما، وما ذكره المخالف من هذا الاحتمال يحتاج إلى دليل. وأما قول عمر: (إني رأيت في الجد رأياً فاتبعوني) ، فلا حجة فيه؛ لأنه إنما يصح التعلق به إذا ثبت أن عمر دعاهم إلى اتباعه؛ لاعتقاده أنه أعلم منهم. وهذا المعنى ليس في الخبر [185/أ] وعلى أن معناه: اتبعوني بالدليل الذي قام عندي. وقول عثمان: (إن نتبع رأيك فرأيك رشيد) ، أي: [له] وجه في الأصول وتَعَلُّق بها (وإن نتبع رأي من قبلك، فنعم ذو (1) الرأي) ، لما دلَّ عليه من الدليل، فإذا احتمل هذا لم يجز حمله على التقليد. وأما قول عمر لعلي: (عزمت عليك لتقسمنها على قومك. إنما قاله؛ لأن اجتهاده أدى إلى صحة ما قاله، فكان ذلك قولاً بالدليل. واحتج: بأن العالم إذا رأى اجتهاد غيره أقوى من اجتهاد نفسه كان تقليده إياه ضرباً من الاجتهاد، فلما كان له أن يحكم في الحادثة بما يؤديه إليه اجتهاده، كذلك يجوز له أن يقلد غيره فيها (2) إذا كان اجتهاده أوثق عنده من اجتهاد نفسه. والجواب: أنه لو كان جواز تقليده مما ذكرته من أن اجتهاد غيره أقوى لوجب أن لا يجوز له أن يترك تقليده، ولا يعمل على اجتهاد نفسه، كما أنه   (1) في الأصل: (ذي) . (2) في الأصل: (فيهما) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1235 إذا رأى الحادثة بأحد الأصلين أشبه منها بالأصل الآخر لم يجز له أن يردها إلى الأصل الذي هو أشبه به، فلما أجزتم له أن يمضي اجتهاد نفسه علمنا أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين. وجواب آخر وهو: أن قولهم: إن رجوعه إلى قول غيره ضرب من الاجتهاد لا يصح؛ لأنه اجتهاد في التقليد، وكلامنا في اجتهاده ليعلم ذلك بعلمه ووقوفه على دليله. واحتج: بأن الأعلم لما كان يعرف مالا يعرفه الآخر كان له أن يصير إلى من هو فوقه، مثل العامي يسمع خبراً أو آية عامة، فإن عليه الرجوع إليه (1) ، يقلده (2) لجواز أن يكون عند العالم ما يقضي على الخبر الذي يسمعه. كذلك اجتهاد من هو أدون منه في الفقه لما جاز أن يكون عند العالم ما يقضي على اجتهاده لزمه المصير إلى قوله. والجواب: أنه لو كان كالعامي لوجب الرجوع إلى قوله، ولم يجز لى أن يعمل على ما عنده، ولما جاز له العمل على ما عنده لم يصح اعتباره به. ولأن العامي ليس معه آلة الاجتهاد، وهذا بخلافه.   (1) أى فإن على العامي أن يرجع إلى العالم فيقلده لجواز.. (2) في الأصل (تقليد) بدون إعجام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1236 [لا يجوز التقليد للعالم وإن ضاق الوقت] والدلالة على منع التقليد مع ضيق الوقت أيضاً ما تقدم. ولأنه من أهل الاجتهاد، فلم يجز له تقليد غيره. دليله: إذا لم يضق وقته. ولأن اجتهاده شرط في صحة فرضه، فلا يسقط بخوف الفوت قياساً على سائر الشروط، مثل: الطهارة وستر العورة وغير ذلك. ولأن العامي فرضه السؤال والتقليد، والعالم فرضه في الاجتهاد، فلما لم يسقط عن العامي فرض السؤال لخوف الوقت لم يسقط عن العالِم فرض الاجتهاد [185/ب] . واحتج المخالف (1) : بأنه لا يمكنه أداء فرضه باجتهاده، فكان فرضه التقليد قياساً على العامي. والجواب: أن العامى عاجز عن الاجتهاد، والعالم متمكن منه، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر، ألا ترى أنه لا يجوز اعتبار من لا يجد الماء والسترة بمن يقدر عليهما (2) ، ولكنه يخاف فوات الوقت إن استعملهما (3) . واحتج: بأنه لما جاز للعالم تقليد الصحابي جاز له تقليد غير الصحابي. والجواب: أنه لما جاز له تقليد الصحابة لزمه ذلك، ولم يجز له مخالفتهم (4) ،فجرى ذلك مجرى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس كذلك ها هنا، فإن العالم لا   (1) هو ابن سريج، كما سبق بيانه. (2) في الأصل: (عليها) . (3) في الأصل: (استعملها) . (4) في الأصل: (مخالفته) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1237 يلزمه تقليد العالم، بل هو مخير عندهم في تقليده وفي تركه والعمل على ما عنده، فبَانَ الفرق. مسألة [حكم الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع] الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع اختلف الناس فيها (1) . فذكر شيخنا (2) -رحمه الله- أنها على الحظر إلا أن يرد الشرع بإباحتها. وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى معنى هذا في رواية صالح ويوسف موسى (3) : "لا يخمَّس السَّلَب، ما سمعنا أن النبي خمَّس السَّلَب" (4) .   (1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/269) المسودة ص (474) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/117) وشرح مختصر الروضة للطوفي الجزء الأول الورقة (82/أ) وشرح الكوكب المنير (1/322) والقواعد والفوائد الأصولية ص (110) . (2) يعنى الشيخ الحسن بن حامد - رحمه الله تعالى. (3) انظر هده الرواية في المسوَّدة ص (478) . (4) أخرج أبو داود في كتاب الجهاد، باب في السَّلَب لا يخمس (2/66) عن عوف ابن مالك وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم:- (قضي بالسَّلَب للقاتل ولم يخمس السَّلَب) . وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/26) : ولفظه: (لم يخمس السَّلَب) . وأخرجه ابن الجاررد في المنتقى باب نفل القاتل سَلَب المقتول ص (361) حديث (1077) ولفظه كلفظ الإمام أحمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1238 وهذا يدل على أنه لم يبح تخميس السَّلَب؛ لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع فيه، فبقي على أصل الحظر (1) . وكذلك نقل الأثرم وابن بَدينا (2) في الحُلِيّ يوجد لقطة (3) ، قال: "إنما جاء الحديث في الدراهم والدنانير" (4) . فاستدام أحمد -رحمه الله- التحريم، ومنع [الملك] (5) على الأصل؛ لأنه   (1) وقد تعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية في المسودة ص (478) بقوله: (قلت: لأن السلب قد استحقه القاتل بالشرع، فلا يخرج بعضه عن ملكه إلا بدليل، وهذا ليس من موارد النزاع) . (2) هو: محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا، أبو جعفر الموصلى. من أصحاب الإمام أحمد. حدث عن الإمام أحمد وأحمد بن عبده الضَّبِّي، وروى عنه أبو بكر الخلال وغلامه عبد العزيز. قال فيه الدارقطنى: لا بأس به، ما علمت إلاّ خيراً. توفي في شهر شوال سنة (303هـ) . له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/288) . (3) هذه الرواية موجودة بنصها في المسوَّدة ص (478) . (4) هذه إشارة إلى حديث زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة الذهب أو الورق، قال: (اعرف وِكَاءَها وعِفاصَها، ثم عَرِّفها سنة، فإن لم تَعْرِفْ فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه) الحديث هذا لفظ مسلم في صحيحه أخرجه في كتاب اللقطة (3/1349) . وأخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه (3/156) ولم يذكر فيه الذهب والفضة، بل قال: إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة قال: (اعرف ... ) الحديث. وأخرجه أبو داود في سننه كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة (1/395) . (5) الزيادة من المسوَّدة ص (478) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1239 لم يرد شرع في غير الدراهم (1) . وبهذا قالت المعتزلة البغداديون (2) والإمامية (3) وابن أبى هريرة (4) من أصحاب الشافعي. وقال البصريون من المعتزلة الجبَّائي وابنه (5) : إنها على الإباحة. وبه قال أصحاب أو حنيفة (6) فيما حكاه السرخسي. وحكي عن جماعة من أصحاب الشافعي ابن سريج [وأبي حامد] (7) المروذي (8) . وهو قول أهل الظاهر (9) .   (1) تعقبه شيخ الإسلام في المسوَّدة الموضع السابق بقوله: (قلتُ: لأن اللقطة لها مالك فنقلها إلى الملتقط يحتاج إلى دليل، وليس هذا من جنس الأعيان في شىء) . (2) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/868) إلا أنه عبر بقوله: (وذهب بعض شيوخنا) . (3) انظر المسودة ص (474) . (4) نقل ذلك عنه الشيرازي في التبصرة ص (532) . (5) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري الموضع السابق. (6) به قال أكثر الحنفية، كما في تيسير التحرير (2/168) . (7) الزيادة من المسودة ص (474) وشرح الكوكب المنير (1/325) ، ونقله الشيرازي عنه في التبصرة ص (533) ، يؤيد ذلك: أن ابن سريج بغدادي، وليس مروذياً. (8) هو: أحمد بن بشر بن عامر العامري المروذي القاضي، الشافعي. الفقيه، الأصولي، كان عمدة الشافعية في عصره. له كتاب (الجامع) وشرح مختصر المزني توفي سنة (362هـ) . له ترجمة في: شذرات الذهب (3/40) وطبقات الشافعية لابن السبكى (3/12) وطبقات الشيرازي ص (94) ووفيات الأعيان (1/52) . (9) هكذا حكى المؤلف عن الظاهرية القول بالإباحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1240 وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية أبي طالب وقد سأله عن قطع النخل، قال: "لا بأس به، لم نسمع في قطع النخل شيئاً، قيل له: فالنَّبْق قال: ليس فيه حديث صحيح، وما يعجبنى قطعُه، قلت له: إذا لم يكن فيه حديث صحيح فلم لا يعجبك؟ قال: لأنه على [كل] (1) حال قد جاء فيه كراهة (2) ، والنخل لم يجيء فيه شىء". فقد استدام أحمد -رحمه الله- الإباحة في قطع النخل؛ لأنه لم يرد شرع يحظره (3) . وهو ظاهر كلام أبي الحسن التيمي (4) ؛ لأنه نصر جواز الانتفاع قبل وجود الإذن من الله تعالى.   = وبالرجوع إلى كتاب الإحكام لابن حزم وجد غير هذا، قال (1/47) : ( .... وقال آخرون: وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس: ليس لها حكم في العقل أصلاً لا بحظر ولا بإباحة، وأن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة) . (1) الزيادة من المسودة ص (478) . (2) قد مضى الكلام على هذه الرواية، وعلى حديث النهي عن قطع السدر. (3) تعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية في المسودة ص (479) بقوله: (قلت: لاشك أنه أفتى [يعني الإمام أحمد] بعدم البأس، لكن يجوز أن يكون للعموميات الشرعية، ويجوز أن يكون سكوت الشارع عفواً، ويجوز أن يكون استصحاباً لعدم التحريم، ويجوز أن يكون لأن الأصل إباحة عقلية، مع أن هذا من الأفعال لا من الأعيان) . (4) نقل ذلك عنه في التمهيد (4/269) والمسوَّدة ص (474) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/117) وشرح الطوفي على مختصر الروضة الجزء الأول الورقة (82/أ) وشرح الكوكب المنير (1/325) وقد اختاره المؤلف في مقدمة "المجرد" كما في المسودة واختاره أبو الخطاب كما في التمهيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1241 وقال أصحاب الأشعري (1) : هي على الوقف لا يقال: إنها مباحة ولا محظورة، إلا أن [186/أ] يرد الشرع بذلك. وهو قول أبي الحسن الجزري (2) من أصحابنا، ذكره في جزء فيه مسائل، فقال: "الأشياء قبل مجيء الشرع موقوفة على دلائلها، فما ورد النص به عمل به، وما لم يرد به النص رد إلى ما فيه النص، ومن قال: إنها على الإباحة، فقد أخطأ" (3) . وبهذا قال جماعة من أصحاب الشافعي: الصيرفي وأبو علي الطبري (4) . والقائل بالوقف موافق لمن قال بالإباحة في التحقيق (5) ؛ لأن من قال بالوقف يقول: لا يثاب على الامتناع منه، ولا يأثم بفعله. وإنما هو خلاف في عبارة.   (1) عزاه الشيرازي في التبصرة (532) إلى الأشعري. (2) هو: عبد العزيز بن أحمد الجزري أو الخرزي، وقد سبقت ترجمته. (3) نقل ذلك عنه، في: المسوَّدة ص (474) وروضة الناظر (1/118) ، وشرح الطوفي الجزء الأول الورقة (82/ب) . (4) هكذا نقله عنهما أبو إسحاق الشيرازي في التبصرة ص (532) وقال: (هو قول كثير من أصحابنا) ، يعني: الشافعية. (5) وخالفه ابن عقيل حيث نقل عنه في المسوَّدة ص (474) : (بل القول بالوقف أقرب إلى الحظر منه إلى الإباحة) ثم علَّق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (قلتُ: كلام أبي الحسن الخرزي يوافق قول ابن عقيل، لأنه يحتج على الفتوى بالاقدام عليها، كما يحتج الحاظر والمبيح، يعنى بالتناول) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1242 واعلم أنه لا يجوز إطلاق هذه العبارة؛ لأن من الأشياء مالا يجوز أن يقال: إنها على الحظر، كمعرفة الله تعالى، ومعرفة وحدانيته. ومنها مالا يجوز أن يقال: إنها على الإباحة، كالكفر بالله، والجحد له، والقول بنفي التوحيد. وإنما يتكلم في الأشياء التي يجوز في العقول حظرها وإباحتها، كتحريم الخنزير، وإباحة لحم الأنعام (1) . وتتصور هذه المسألة في شخص خلقه الله تعالى في بريَّة، لا يعرف شيئاً من الشرعيات، وهناك فواكه وأطعمة، فهل تكون تلك الأشياء في حقه على الحظر أم على الإباحة، حتى يرد الشرع بالدلالة؟ فالدلالة على الحظر (2) : أن جميع المخلوقات ملك لله تعالى، لأنه خلقَها وأنشأها وبَرأَهَا، ولا يجوز الانتفاع بملك العبد إلا بإذنه، يدل على ذلك أن أملاك الآدميين لا يجوز لأحد منهم أن ينتفع بملك غيره بغير إذنه. فإن قيل: قولكم: لا يجوز الانتفاع بملك الغير بغير إذنه، لا يخلو: إما أن يريدوا به أنه لا يجوز من طريق العقل [أ] والشرع. فإن أردتم من طريق العقل لم يسلم لكم هذا؛ لأن العقل عندنا مما لا يحل ولا يحرم. وإن أردتم به من طريق الشرع فصحيح، إلا أنه لم يرد شرع، ولهذا توقفنا حتى يرد الشرع بحظره أو إباحته.   (1) هذا الكلام تحرير لمحل النزاع، ولو جعله المؤلف في أول المسألة لكان أحسن. (2) اختار المؤلف هذا القول بالحظر، بينا نقل عنه الفتوحي في شرح الكوكب المنير (1/325) : أنه قال في مقدمة كتابه المجرد: بالإباحة. قلت: والمشهور عنه هو: القول بالحظر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1243 ْوهذا دليل من قال بالوقف، والكلام يأتي عليه في أدلتهم. فإن قيل: فالآدمي إنما حُرم ملكُه بغير إذنه لما يلحق فيه من الضرر، ألا ترى أن مالا ضرر عليه فيه، مثل المشي في ضوئه والوقوف في ظله، وما أشبه ذلك أغير محرماً، والله تعالى لا يستضر بالانتفاع بملكه. فلم يحرم تناوله. وهذا دليل من قال بالإباحة والكلام يأتي عليه في أدلتهم، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: من الأملاك ما يتصرف فيها الغير بغير إذن مالكها، وهو مال الصبي والمجنون وأهل الحرب. وكذلك [186/ب] المضطر إلى مال الغير فإنه يأكل منه بغير إذن مالكه. قيل: هناك إذن من جهة العقل والشرع. ودليل آخر وهو: أن تناول ذلك واستباحته ترك للاحتياط وركوب الغرر؛ لأنه يمكن أن يكون على الإباحة فلا يأثم، ولا يحرج، ويمكن أن يكون على الحظر فيكون ملوماً في فعله مأثوماً في تناوله، فإذا أمكن هذا وهذا وجب بدليل العقل الامتناع منه لئلا يركب الحظر والغرر، كمن قيل له: هذا طريق مأمون، وهذا طريق مخوف، وجب بدليل العقل ترك المخوف، وإذا ركبه كان قبحاً في العقل، فكان الاحتياط الترك. فإن قيل: لا نسلم أن تناولها ترك الاحتياط، بل الاحتياط في الانتفاع بها؛ لأن في ذلك تلف النفس، ونحن ممنوعون من ذلك. وهذا دليل من قال بالإباحة. والكلام يأتي عليه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: اعتقاد الحظر فيما هو مباح لا يجوز، كما لا يجوز اعتقاد الإباحة فيما هو محظور، فلا يكون لأحدهما في هذا الوجه على الآخر مزية، وحصل للانتفاع بها مزية من جهة أن فيه إحياء النفس. قيل: قد أجبنا عن هذا السؤال في ترجيح الأخبار بما فيه كفاية (1) .   (1) ص (1041) من هذا الكتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1244 وبيَّنا أن هذا يبطل بالمتولد من بين ما يباح أكله وما لا يباح أكلُه، وما يباح نكاحُه وما لا يباح، فإنه يُغلَّب الحظر فيه، ولا يقال: إن تحريم ما يباح بمثابة إباحة ما هو حرام. فإن قيل: لا يصح حظر ما يتوهم وجوبه وحظره، وإنما يصح ذلك فيما عرف حكمه، وإن جاز الحظر لزم أن يقال: يجب على كل أحد أن يصلي طول دهره ويصوم طول أيامه قبل الشرع، لجوار أن يرد الشرع بوجوب ذلك. قيل: ولا يجوز إباحة ما يتوهم إباحته، وإنما يصح ذلك فيما عرف حكمه [فكان] استعمال الحظر أولى، لما بيَّنا. ويفارق هذا ما ذكروه من الصيام، والصلاة؛ لأنه لا يعقل معناها قبل ورود الشرع، واجتناب هذه الأشياء يعقل (1) معناه، وهو تركه. وقد اعتمد من نصر هذا القول على طريقة أخرى، فقال: العقل لا ينفك من شرع؛ لأنه لو انفرد عن شرع لم يجز الإقدام على المنافع ولا الإحجام عنها، لجواز كون كل واحد منهما مفسدة. وإذا كان انفكاك العقل من سمع يؤدي إلى هذا الفساد لم يجز أن ينفك من سمع، وإذا لم ينفك من سمع فالسمع قد حظر الانتفاع والتصرف في ملك الغير بغير إذنه، ومن قال بالإباحة أباح التصرف في ملك الغير بغير إذن. وهذه الطريقة إذا صحت [187/أ] حصل الاحتجاج بالشرع دون العقل. واحتج من قال بالإباحة: بأن الله لما خلق هذه الأشياء لم تَخْلُ من ثلاثة أحوال: إما أن يكون خلقَها لينتفع هو بها، أو لينتفع بها غيره، أو ليضر بها غيره.   (1) في الأصل: (ويعقل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1245 ولا يجوز أن يكون خلقها لينتفع هو؛ لأنه تعالى غني أن تلحقه المنافع والمضار. ولا جائز أن يكون خلقها ليضر بها؛ لأن ذلك قبيح، إذ لم يكن في حال خلقه إياها من يستحق العقوبة، فلم يبق إلا أنه خلقها لينتفع عباده. والجواب: أن هذا ينقلب عليهم فيما خلقه الله تعالى وحرمه على عباده، مثل الخمر والخنزير. ونُقسِّم ذلك عليهم مثل تقسيمهم حرفاً بحرف. وعلى أنا نقول: يجوز أن يكون خلقها ليمتحن عباده بالكف عنها، ويثيبهم على ذلك، وليستدلوا بها على خالقها. وهذا وجه يخرجه من حد العبث والضرر بهم، فسقط ما قالوه. واحتج: بأنه لا يقبح في العقل (1) أن ينتفع بملك الغير على وجه لا يستضر الغير به، بدليل التنفس في الهواء والانتقال في الجهات، بدليل أن له أن يمشيَ في ظل (2) حائطه ويتكىء على حائطه، ويمشى معه في طريقه يأنس بكونه في صحبته، وينظر في مرآة المزين (3) إذا علقها على وجه لا يتنفس فيها، أو كان على حائطه قرآن مكتوب، كمن كتب على حائطه آية الكرسي كان لكل أحد أن يتلقَّن ذلك منه، كذلك في بقية الأشياء؛ لأن الله تعالى [منزه] عن أن يستضَّر بشىء. والجواب: أنه إن لم يكن على المالك ضرر فعلى المتصرف ضرر؛ لأنه يجوز أن يُحظَر عليه، فيجب أن يؤثر ذلك في المنع، كارتكاب المعاصى، لا ضرر على الله تعالى بفعلها، ومع هذا فإنه يمنع العبد منها لما عليه فيها من الضرر في الآخرة.   (1) في الأصل: (الفعل) . (2) في الأصل: (كل) . (3) هو الحجام، كما في لسان العرب (17/63) مادة (زين) ويطلقه العامة على الحلاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1246 وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن لا يكون عليه ضرر من ذلك ويمنع منه، لعدم الإذن، بدليل: أن من يملك القناطر من المال لا ضرر عليه بأخذ درهم منها، ومع هذا لا يجوز إلا بإذنه. وأما التنفس في الهواء والانتقال في الجهات فينظر وقته، فإن كان لحاجة جاز؛ لأن الأول قد حصل فيه من جهة العقل، فنظيره أن يضطر إلى طعام الغير، فيباح له؛ لأن العقل لا يمتنع من هذا، كما لا يمنع الشرع من ذلك عند الحاجة، وإن لم يكن به حاجة منعناه. وأما الاستيضاء بنار غيره، والظل بحائطه، والنظر في المرآة، فهذه الأشياء ليست بملك لأحد، فلهذا جاز التصرف فيها. يبين صحة هذا: أنه يصح المنع منها بغير حاجة، وإنما يملك المنع فيها لحاجة وهو [187/ب] أن يكون محتاجاً إلى فناء حائطه. وقد قيل بأن التنفس في الهواء لا يؤدي إلى استهلاك الهواء، فلا يؤثر فيه وكذلك النظر في مرآته والاستيضاء بناره. وليس كذلك أكل الطعام وشرب الشراب، فإنهما يؤثران في الطعام والشراب، ويؤديان إلى استهلاكهما، وهما ملك للغير، فلا يجوز بغير إذنه. واحتج: بأن الأشياء كلها ملك لله تعالى، الحيوان وغيره، والأحسن إحياء الملك بالملك. ويقبح إهلاك الملك مع القدرة لما فيه من الفساد. والجواب: إنما يُبيح أن تتناول هذه الأشياء عند الحاجة وجود (1) التلف؛ لأن الإذن قد حصل فيه من جهة العقل، فنظيره أن يضطر إلى أكل طعام الغير، فإنه يباح لهذه العلة. وعلى أن هذا يوجب أن تقول إذا أكره على القتل: أن يجوز، لينجيَ نفسه،   (1) في الأصل: (وجوب) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1247 ولا يُقتل به؛ لأن في ذلك إحياء الملك بالملك، وقد قلتَ: إنه لا يَقْتل، وإن قَتل قُتِل، كذلك هاهنا. واحتج من قال بالوقف: بأنه قد ثبت من الأصلين أن العقل لا يبيح ولا يحظر، وأن المباح: ما أعلمَ صاحبُ الشرع أنه لا ثواب في فعله، ولا عقاب في تركه. والمحظور: ما أعلم أن في فعله عقاباً، فإذا لم يرد الشرع بواحدٍ منهما، وجب أن لا يكون محظوراً ولا مباحاً، ويكون حكمه موقوفاً على ورود الشرع. والجواب: أنا إنما علمنا أن العقل لا يبيح ولا يحظر بالشرع، وكلامنا في هذه المسألة قبل ورود الشرع، ولا يمتنع أن نقول قبل ورود الشرع: إن العقل يبيحُ ويحظُرُ إلى أن ورد الشرع بمنع ذلك، إذ ليس قبل ورود الشرع ما يمنع من ذلك. وقد قيل: إنا علمنا ذلك من طريق شرعي، وهو: إلهام من الله تعالى لعباده بحظر ذلك أو إباحته (1) . كما ألهَمَ أبا بكر أن قال: الذي في بطن أم عبد جارية (2) . وكما ألْهَمَ عمر أشياء ورد الشرع بموافقتها. واحتج: بأن كونه على الحظر أو على الإباحة إنما يعرف على قولكم قبل ورود الشرع بالعقل، وما علم حكمه بدليل العقل لا يجوز أن يرد الشرع   (1) في الأصل: (وإباحته) بدون الهمزة قبل الواو. (2) في الأصل: (حارثه) وهو خطأ. وقصة إلهام أبي بكر - رضي الله عنه - أخرجها ابن سعد في طبقاته (3/195) بسنده إلى عائشة -رضي الله عنها- (أن أبا بكر -لما حضرته الوفاة- دعاها وطلب منها أن ترد نخلة نحلها إياها ثم قال لها بعد ذلك: (وإنما هو مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك، فقالت عائشة: إنما هي أسماء فقال: وذات بطن ابنة خارجة قد ألقى في روعي أنها جارية، فاستوصي بها خيراً فولدت أم كلثوم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1248 بخلافه، مثل شكر المنعم، واستقباح الظلم، يجب في العقل شكر المنعم واستقباح الظلم، فلما ثبت أنه يجوز أن يرد الشرع بخلاف ما اقتضاه العقل بطل أن يكون ذلك بالعقل حاظراً أو مبيحاً. والجواب: أنه كذلك فيما يعرف ببدائه العقول وضرورات المعقول، كالتوحيد، وشكر المنعم، وقبح الظلم، فأما ما يعرف بثواني العقول استنباطاً واستدلالاً فلا يمنع أن [188/أ] يرد الشرع بخلافه؛ لأنا قلنا [هي] على الحظر، وجوزنا أن يكون على الإباحة أو على الوقف، ولكن كان هذا عندنا أظهر، فصرنا إليه، فإذا ورد الشرع كان أولى مما (1) عرفناه استدلالاً مع تجويز غيره. يبين صحة هذا: أن ذبح الحيوان يحظره العقل، وقد ورد الشرع بإباحته. والزنا يبيحه العقل كالنكاح، والشرع قد حظره. وعلى أن ورود الشرع بالإباحة إذن في التصرف، وحصول الإذن في الثاني لا يمنع حظراً متقدماً، بدليل طعام الغير هو محرم عليه، وإذا أذن فيه أبيح، ولم يمنع ذلك من حظر قبله، كذلك ها هنا. واحتج بأن كونه حراماً لا يخلو إما أن يكون لعينه، أو لمعنى. فبطل أن يكون لعينه؛ لأنه لو كان ذلك لعينه لما انقلب عنه إلى غيره. وبطل أن يكون لمعنى؛ لأن الشرع يرد بإباحته، فلا يجوز أن يحظره. مع بقاء معنى الإباحة. فإذا بطل الأمران ثبت أنه لا يصح أن يقال: مباح. والجواب: أنه محظور لمعنى لا لعينه، ولا يمتنع ورود الشرع بخلافه، فيزول ذلك المعنى، كما قلنا في فروع الدين واجتهاد الأنبياء، يجتهدون في الحكم، ثم (2)   (1) في الأصل: (ما) . (2) في الأصل: (لم) ، وهو تحريف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1249 يرد النص عن الله تعالى بخلافه. ويقولون في الحادثة قولاً، ثم ينسخ ذلك من بعد. فإذا صح مثل هذا في العبادات صح مثله في مسألتنا. وقد قال بعض من تكلم في هذه المسألة: إن الكلام فيها تكلف؛ لأن الأشياء قد عرف حكمها واستقرارها بالشرع. وقال آخرون: الوقت ما خلا من شرع قط؛ لأن الله تعالى لا يخلي الوقت من شرع يعمل عليه؛ لأنه أول ما خلق آدم قال له: (اسْكُنْ أنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا (1) رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) (2) فأمرهما ونهاهما عَقِيب ما خلقهما. وكذلك كل زمان، وإذا كان كذلك بطل أن يقال: ما حكمها قبل ورود الشرع؟ والشرع ما أخل بحكمها قط. فعلى هذا لا يتصور الخلاف إلا في تقدير أن الأشياء لو لم يرد بها شرع ما حكمها؟ فالحكم عندنا على الحظر. وعند قوم على الإباحة. وعند آخرين على الوقف. وهذه الطريقة ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- لأنه قال في رواية عبد الله فيما أخرجه في محبسه: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم" (3) .   (1) في الأصل: (من) وكلمة (رغداً) ساقطة، وهو خطأ. (2) (35) سورة البقرة. (3) انظر هذه الرواية في: التمهيد (4/272) والمسوَّدة ص (486) وشرح الكوكب (1/324) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1250 فأخبر أن كل زمان فيه قوم من أهل العلم. وهذه طريقة أبي الحسن الجزري ذكرها أمام قوله: إن الأشياء على الوقف، فقال: "لم تخل الأم قط من حجة تلزمهم أمر أو نهي". واستدل عليه بقوله تعالى: (أَيَحَسَبُ الإِنسَانُ أن يُتْرَكَ سُدىً) (1) والسُّدى: الذي لا يُؤمَرُ ولا يُنْهى (2) . وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أمةٍ رَّسُولاً) (3) . وقال تعالى: (وَإن مِّنْ أُمَّةٍ [188/ب] إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ) (4) . وأن الله تعالى لما خلق آدم أمره ونهاه في الجنة، فقال: لا تقرب هذه الشجرة. وقال قوم: هذه المسألة لا تفيد في الفقه شيئاً، وإنما ذلك كلام يقتضيه العقل. وليس كذلك؛ لأن لها فائدة في الفقه، وهو أن من حرَّم شيئاً أو أباحَه فقول: طلبتُ دليل الشرع فلم أجد، فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة هل يصح ذلك أم لا؟ وهل يلزم خصمه احتجاجه بذلك أم لا؟ وهذا مما يحتاج إليه الفقيه وإلى معرفته والوقوف على حقيقته. وحُكي أن بعض أصحاب داود احتج على إباحة استعمال أواني الذهب   (1) آية (36) من سورة القيامة. (2) وبهذا الذي ذكره المؤلف فسره مجاهد والشافعي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقال: السُّدِّي: (يعنى: لا يبعث) . واختار ابن كثير: (أن الآية تعم الحالين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث) . انظر: تفسير ابن كثير (4/452) . (3) آية (36) من سورة النحل. وفي الأصل (نذيراً) بدل (رسولاً) ، وهو خطأ. (4) آية (24) من سورة فاطر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1251 والفضة في غير الشراب (1) : بأن الأصل فيها الإباحة، وقد ورد الشرع بتحريم الشرب، فوجب أن يبقى ما عداه على التحليل. فقيل له: مذهب داود: أن هذه الأشياء في العقل موقوفة على ما يَرِد به الشرع (2) . فإذا كان كذلك لم يجز إثبات إباحتها بهذا الطريق. ولا تكون إباحتها لعدم دليل شرعي أولى من حظرها. ونظرتُ في هذه المسألة لبعض شيوخ الكرَّامية، وذكر فيها كلاماً لخصته على ما أذكره، واختار أن الأشياء على الإباحة قبل ورود الشرع وبعد وروده. واستدل (3) على أنها على الإباحة قبل الشرع بأشياء: منها: أن العبد محتاج إلى هذه المنافع، وله فيها نفع من غير ضرر يلحقه عاجلاً ولا آجلاً، فوجب أن يكون ذلك مباحاً له.   (1) غير الشراب، يعني: بقية الاستعمالات بما فيها الأكل، وهو رأي داود، كما، نقل ذلك الشوكاني في كتابه نيل الأوطار (1/83) . والذي صرَّح به ابن حزم في كتابه المحلى في باب الآنية (2/303) أن الوضوء والغسل، والشرب، والأكل في آنية الذهب والفضة حرام. (2) هذا رأي الظاهرية، كما نقلناه عن ابن حزم في الإحكام في أول المسألة. ولكنه يتناقض مع ما عزاه المؤلف للظاهرية، فإنه حكى عنهم في أول المسألة: أنهم يقولون بالإباحة. وفي اعتقادي: أن الظاهرية يقولون: إن الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع لا حكم لها أصلاً، لا إباحة ولا حظراً. ولكن بعد ورود الشرع يكون حكم العين المنتفع بها التي لم يتعرض لها دليل خاص الإباحة. والله أعلم. (3) يحتمل أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً، ويحتمل أن يكون مرتبطاً بما قبله، ويكون فاعل (استدل) هو: (بعض شيوخ الكرَّامية) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1252 دليله: ما بعد الشرع. فإن قيل: من أين لك أنه لا ضرر عليه، ولعله يَرِد الشرع بحظر ما كان قد استباحه. قيل: ما لم يرد الشرع بالحظر فلا ضرر عليه فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذَّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1) . دليل ثان: أَن الله تعالى قد أحْوَجَ العاقل إلى الانتفاع بما قد أظهره من المنافع وأحضرها إياه، ولم يمنع عنها مانع، فكانت مباحةً مأذوناً فيها. ألا ترى: أن من أحضر قوماً، مائدة عليها ألوان الطعام محتاجين إليها، ولم يضع هناك مانعاً من ذلك، فإن ذلك يجري مجرى الإذن في الإباحة، كذلك هاهنا. فإن قيل: فهذا المعنى موجود في الخمر والخنزير. قيل: قد كان قبل ورود الشرع على الإباحة، وبعد الشرع حرام؛ لورود الشرع بمنعه. دليل ثالث: أن الله تعالى خلق هذه الأشياء على وجه يمكننا الانتفاع بها، وهو سبحانه يتعالى عن الانتفاع بها، فوجب أن يكون الغرض أن ينتفع بها (2) العبد. فإن قيل: ما أنكرت على من قال: إنه أحضر هذه الأشياء للاعتبار [189/أ] بها، لا للانتفاع بها. قيل: بل أحضرها للانتفاع بها، كما قلنا فيمن أحضر طعامه لجماعة بهم حاجة إليه، فإنه إذن وإباحة. كذلك ها هنا. وجواب آخر وهو: أنَّا نقول: خلقها للأمرين جميعاً، للانتفاع، والاعتبار بها.   (1) آية (15) من سورة الإسراء. (2) في الأصل (به) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1253 وجواب ثالث وهو: أنه لو كان الغرض هذا لوجب أن يقتصر على خلق الجواهر والأعراض التي تتضمنها الأكوان والاجتماع والافتراق، دون الطعام؛ لأن الاستدلال يتم بهذه الأشياء. جواب آخر وهو: أنه إن كان الغرض منها الاستدلال، فإنه لا يمكن الاستدلال بما في هذه الجواهر من الطعوم والمجسَّمات (1) الخشنة واللينة إلا بإدراكها، وإذا أدركها فقد انتفع بها (2) . جواب آخر وهو: أنه إذا كان الغرض منها الاستدلال فلا يتم ذلك إلا بقوام أبنيتهم، ولا تقوم أبنيتُهم إلا بهذه المنافع كانت مقصودة بخلق المنافع، ولو امتنعوا عن ذلك [لأدى] إلى هلاكهم، فيكون ذلك خارجاً عما أجرى الله عليه (3) العالَم (4) من الغرض، وهذا لا يجوز كما لا يجوز أن يحظر عليهم التنفس في الهواء والتقلب من جانب إلى جانب. والدلالة على أنها على الإباحة بعد الشرع: قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي اْلأرْضِ جَمِيعاً) (5) . وقوله: (قُل مَنْ حَرمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (6) . وقوله: (قُلْ لاَّ أجدُ فِي مَاَ أوحِىَ إلَيَّ مُحَرماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أنَ يَكُونَ مَيْتَةً أَو دَماً مَسْفُوحاً) (7) فثبت أن ما يحرُم بالوحى يحرُم.   (1) في الأصل: (المجسات) . (2) في الأصل: (به) . (3) في الأصل: (به) . (4) في الأصل (إلى العالم) (وإلى) هذه لا معنى لها. (5) آية (29) من سورة البقرة. (6) آية (32) سورة الأعراف. (7) آية (145) من سورة الأنعام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1254 احتج من قال: إنها على الحظر قبل الشرع: بأنها ملك للغير، ولا يجوز التصرف في ملكه بغير إذنه. والجواب: أنَّا نقول له: من أين تعلم أن التصرف في ملك الغير قبيح. وعلى أن نفس هذا القائل ملك لمالك هذه الأشياء، فله أن ينتفع بالمائع لبقاء النفس. كما أن من كان عنده طعام من جهة مالك، وعنده غلمان المالك، وفي منع الطعام عنهم هلاكهم، لم يكن له أن يمنع. واحتج: بأنه لا يأمن هذا القائل أن يكون فيما يقدم عليه سُمُّ يهلكه. والجواب: أنه قد استقر أيضاً أنه إن لم يقدم عليه يهلك. وعلى أَنَّا قد نجد البهائم تقدم على ذلك ولا تهلك. واحتج: بأنه يجوز أن تكون مخلوقة لمن يأتي بعدهم، كما أن الحور العين والملائكة لا ينتفعون بها في الجنة؛ لأن الله خلقها لبني آدم. والجواب: أنه لو كان كذلك لدل عليه، فلما لم يدل عليه لم يصح هذا. واحتج: بأنه لو كان العقل يبيحه لكان الشرع وارداً بخلاف العقل. والجواب: [189/ب] أن هذا عائد عليكم في التوقف. وهذا الخلاف مع من يجوز أن يخليَ الله عباده عن دلالات السمع. واحتج من قال: بأنها على الحظر بعد الشرع: بقوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأذَن بِهِ اللهُ) (1) فأنكر على من أثبت حكماً، أو استحل شيئاً بغير إذن الله تعالى. والجواب: أن هذا عائد عليكم، إذ (2) قلتم بالتحريم. على أنا حملناه على الإباحة بدليل ما ذكرنا.   (1) آية (21) من سورة الشورى. (2) في الأصل (إذا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1255 فصل والدلالة على فساد قول من قال بالوقف من وجوه: أحدها: أنَّا لا نقول له: هل تعلم التوقف مباح أم لا؟ فإن قال: بلى، فقد استباح شيئاً بعقله دون الشرع. وإن قال: لا أعلم استباحته، ثم قَدِم عليه. قيل له: فهلاَّ كان هذا حالك مع سائر المنافع؟ ونقول له: هل تعلم وجوب التوقف عليك أم لا؟ فإن قال: لا أعلم، وجب أن لا يلزمك الإقدام عليه، أعنى: الاقدام على التوقف. وإن قال: بلى. قيل له: إذا جاز أن تعلم الوجوب بعقلك، فلم لا يجوز أن تعلم الحظر والإباحة؟ ونقول له: إذا جاز أن تعلم جواز ترك الإباحة والحظر بالعقل، فهلاَّ يجوز أن تعلم جواز الإقدام على المنافع أو جواز حظرها؟ وما الفرق بينهما؟ فإن قيل: الفرق بينهما: أنه لعله في الإقدام عليه مفسدة. قيل: فيجب أن تقول بحظره؛ لأنه لا مفسدة فيه. وعلى أنه يجوز أن يكون في التوقف (1) مفسدة أيضاً. ويقال له: ليس تخلو الأشياء من إباحة أو حظر، فلا معنى للتوقف (1) ، إذ ليس تخلو من أحد هذين القسمين. فإن قيل: هو وإن كان هذا حالها، فلا أدري أيهما حكم الله تعالى.   (1) في الأصل: (التوقيف) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1256 قيل: ولا ندرى أن حكم الله تعالى الوقف. واحتج بقوله تعالى: (فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (1) ، فأنكر على من أحل شيئاً أو حرمه بغير إذنه. والجواب: أنه إنما أنكر على من استبدَّ من ذات نفسه تحليل شىءٍ أو تحريمه وأما من أسنده إلى دليل، فلم يلحقه هذا الذم. ثم هذا يلزمكم في القول بالوقف؛ لأنه لم يَرِد أمره به. واحتج: بأن القول بالإباحة والحظر طريقُه العقل، والعقل لا مجال له في إباحة ولا حظر. والجواب: أن هذا يلزم عليه القول بالوقف؛ لأن العقل لا يوجب ذلك وقد أثبتَّه. وعلى أنا علمنا أن العقل لا مجال له في إباحة ولا حظر بالشرع. فصل وذكر أبو الحسن [190/أ] التيمي في جزء وقع إلىَّ بخطه فيما خرَّجه من أصول الفقه. فقال: الأفعال قبل مجيء السمع تنقسم قسمين: فمنها حسَن. ومنها قبيح. فما كان في العقل منها قبيحاً، فهو محظور، ولا يجوز الإقدام [عليه] كالكذب والظلم، وكفر نعمة المنعم، وما جرى مجرى ذلك؛ لأنه يكتسب بفعله الذم واللَّوم.   (1) آية (59) من سورة يونس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1257 وأما الحسَن في العقل فينقسم إلى قسمين: منه ما يجب فعله. ومنه ما لا يجب فعله. أما الذي يجب فعله، فهو مثل: شكر نعمة المنعم، والعدل، والإنصاف، وما جرى مجرى ذلك مما في معناه من الحسن، فإنه واجب لا يجوز الانصراف عنه. ومن الحسَن ما لا يجب فعله، وإن كان حسَناً، مثل: التفضُّل، وبرِّ الوالدين، وقِرَى الضيف، وإطعام الطعام (1) . فصل [لا يحظر السمع ما أوجبه العقل ولا يبيح ما حظره] قال (2) : ولا يجوز أن يرد السمع بحظْر ما كان في العقل واجباً، نحو شكر المنعم، والعدل، والإنصاف، ونحوه. وكذلك لا يجوز أن يَرِد بإباحة ما كان في العقل محظوراً نحو الكذب، والظلم، وكفر نعمة المنعم، ونحوه، وإنما يَرِد بإباحة ما كان في العقل محظوراً على شرط المنفعة، نحو: إيلام بعض الحيوان -يعني بالذبح- لما فيه من المنفعة كما جاز لنا إدخال الآلام علينا بالفَصْد والحِجَامة، وشرب الأدوية الكريهة للمنفعة، وإن لم يجز ذلك لغير منفعة، وما أعطيناه من أموالنا بغير استحقاق للفقراء وغيرهم ممن يُطلبُ بدفعه إليهم الثوابُ من الله تعالى، أو الحمدُ من الناس والثناءُ الجميل؛ فإن هذا وما أشبهه من مجرى الآلام التي يطلب بها المنافع من الفَصْد، والحجامة، وشرب الأدوية.   (1) كلام أبي الحسن التيمي هذا منقول بنصه في المسوَّدة ص (480) نقلاً عن المؤلف. (2) يعنى: أبا الحسن التيمي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1258 وقد يَرِد الشرع بحظر ما لم يكن له في العقل منزلة في القبح، نحو الأكل والشرب، والتصرف الذي لا ضرر على فاعله في فعله في ظاهر أمره، فالواجب أن تجريَ أحكامُ الأفعال على منازلها في العقل. فإما أن يكون قبيحاً في العقل، فيمتنع منه. أو يكون واجباً في العقل، فيلزم أمرُهُ، ويجب فعلُه. أو أن يكون حسناً ليس بواجب، فيكون الإنسان مخيراً بين أن يفعله وبين أن لا يفعله، من [نحو] (1) اكتساب المنافع بالتجارات وما في معناها. فإذا ورد السمع فيما الإنسان فيه مخير كشَفَ السمعُ عن حالِه، وبيَّن أمرَه، فإما أن يدخله في جملة الحسَن الذي يجب فعلُه، أو في جملة القبيح الذي لا يجوز فعلُه (2) . وهذا من كلام أبي الحسن يقتضي أن العقل يُوجب ويُقَبِّح. وقد ذكرنا في الجزء الأول من المعتمد (3) خلاف هذَا، وحكينا [في] هذه المسألة خلاف المعتزلة. وبينَّا قول أحمد -رحمه الله- في رواية عبدوس بن مالك: "ليس [في] السُّنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، إنما هو [190/ب] الاتباع".   (1) الزيادة من المسودة ص (481) . (2) كلام أبي الحسن منقول بنصه في المسودة ص (480-481) . (3) كتاب "المعتمد" مفقود، وإنما يوجد مختصر له، كتب عليه المعتمد، ولكن كلام المولف في داخل الكتاب ينص على أنه مختصر من كتاب "المعتمد"، والمختصر مطبوع في بيروت بنشر دار المشرق بتصحيح الدكتور وديع حداد. والكلام الذي يشير إليه موجود باختصار ص (21) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1259 وقد استوفينا الكلام هناك ولكن نشير إليه فنقول: قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1) . ولأنه لو كان في العقل حسَن وقبيح وواجب ومحظور لم يخلُ ذلك من أن يكون معلوماً ببدائِه العقول وأوَّل فيها؛ لأنه لو كان كذلك لوجب اشتراك العقلاء أجمع في ذلك، ولمَا جاز أن يخالف في ذلك قوم من العقلاء الذين (2) بهم يثبت التواتر علم أنه ليس بمعلوم ضرورة. يبين صحة هذا: أن استحالة وجود الجسم الواحد في مكانين متباعدين في حالة واحدة كما كان معلوماً بضرورة العقل وأوَّل فيه، لم يجز مخالفة قوم يثبت بهم التواتر. وكذلك جميع ما يعلم بضرورة العقل وأوَّل فيه وفي العلم بخلاف أكثر العلماء في ذلك الذين ببعضهم يثبت التواتر دليل على أنه ليس بمعلوم ضرورة. فصل [الحظر للأفعال دون الأعيان] وقال أبو الحسن: والحظر والإباحة، والحلال والحرام، والحسَن والقبيح، والطاعة والمعصية، وما يجب وما لا يجب، كل ذلك راجع إلى أفعال الفاعلين دون المفعول به، فالأعيان والأجسام لا تكون محظورة ولا مباحة، ولا تكون   (1) آية (15) من سورة الإسراء. ووجه الاستدلال من هذه الآية -كما ذكره المؤلف في كتابه مختصر المعتمد ص (22) -: (فأخبر أنهم آمنون من العذاب قبل بعثة الرسل .... فإنه لم يوجب عليهم شيئاً من جهة العقل، بل أوجب عند مجيء الرسل) . (2) في الأصل: (الذي) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1260 طاعة ولا معصية. وهذا كما قال أبو الحسن؛ لأن الأعيان فعْل الله تعالى وخلْق له، فلا يجوز أن ينصرف الوعيد إلى أفعاله، وإنما ينصرف ذلك إلى أفعالنا. قال أبو الحسن: وقد يطلق ذلك في المفعول توسعاً واستعارة، فيقال العصير حلال مباح ما لم يفسد، فإذا فسد وصار خمراً كان حراماً ومحظوراً. والمذكَّى (1) حلال ومباح، والميتة محظورة وهى حرام، والحرير حرام، وما في معنى ذلك. يريدون أن شرب العصير حلال ومباح ما لم يشتد، فإذا اشتدَّ وصار خمراً كان شربُه حراماً محظوراً، وأكل المذكَّى حلال ومباح، وأكل الميتة محظور وحرام، فيطلقون ذلك والمراد به: أفعالهم (3) .   (1) في الأصل: (والمذكاة) والتصويب من المسوَّدة الموضع السابق. (2) كلام أبو الحسن هذا موجود في المسوَّدة ص (481) بتصرف يسير. ثم إن الشيخ ابن تيمية في المرجع السابق ص (482) عقَّب على كلام أبي الحسن هذا بقوله: (والصحيح أنه حقيقة في الأعيان أيضاً) . كما تعقَّبه ص (93) من المرجع السابق بعد أن ذكر قوله: إن وصف الأعيان بالحِل والحظر توسع واستعارة. فقال: (والصحيح في هذا الباب خلاف القولين، إن الأعيان توصف بالحِل والحظر حقيقة لغوية، كما توصف بالطهارة والنجاسة والطيب والخبث، ولا حاجة إلى تكلف لا يقبله عقل ولا لغة ولا شرع، وحينئذٍ فيكون العموم في لفظ التحريم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1261 مسألة في استصحاب الحال (1) وهو على ضربين (2) : أحدهما: استصحاب براءة الذمة من الوجوب حتى يدل دليل شرعي عليه. وهذا صحيح بالإجماع من أهل العلم، والاحتجاج به سائغ. وقد ذكره أصحاب أبى حنيفة.   (1) الاستصحاب في اللغة كما في كشف الأسرار - (3/1097) : (طلب الصحبة) . وأصل مادة (صَحِب) تدل -كما يقول ابن فارس في معجمه (3/335) -: (على مقارنة شىء ومقاربته، من ذلك الصاحب) . وفي المصباح المنير (1/509) : (وكل شىء لازم شيئاً فقد استصحبه ... ومن هنا قيل: استصحبت الحال إذا تمسكت بما كان ثابتاً، كأنك جعلت تلك الحال مصاحبة غير مفارقة) . أما في اصطلاح الأصوليين فله عدة تعاريف متقاربة المعنى، منها: تعريف البخاري كما في كتابه كشف الأسرار الموضع السابق: (هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على أنه كان ثابتاً في الزمان الأول) . راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/251) والمسوَّدة ص (488) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/389) وشرح الطوفي على مختصر الروضة الجزء الثاني الورقة (72/أ) ، وشرح الكوكب المنير (4/403) . (2) ذكر المؤلف هنا وفي الجزء الأول ص (72) أن الاستصحاب على ضربين. ولكن هناك أقساماً أخرى ذكرها بعض علماء الأصول في هذا المقام، ومنهم الزركشي، فقد نقل عنه الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ص (38) أن الاستصحاب له صور خمس، اثنتان ذكرهما المؤلف. أما الثالثة فهى: ما دلّ العقل والشرع على ثبوته ودوامه، كدوام حل الزوجة بعد ثبوت عقد الزوجية. وأما الرابعة فهى: استصحاب الحكم العقلى عند المعتزلة، فالعقل عندهم يحكم في = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1262 وسماه أبو يوسف: عدم الدليل دليل (1) . وذكره القاضي أبو الطيب الطبري (2) . ومثال ذلك أن يُسأل حنبلي عن الوتر (3) فيقول: ليس بواجب، فيطالب بدليله، فيقول: لأن طريق وجوبه الشرع، وقد طلبت الدليل الموجب من جهة الشرع [191/أ] فلم أجد، فوجب أن لا يكون واجباً، وأن تكون ذمتُه بريئةً منه كما كانت. وكذلك إذا احتج بذلك على نفي وجوب الأضحية، ونفي وجوب زكاة الخيل والحلي والخضروات، وما أشبه ذلك. وإلى هذا المعنى أومأ أحمد -رحمه الله- في رواية صالح ويوسف إن موسى: "لا يُخمّس السَّلَب، ما سمعنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس السَّلَب". فجعل عدم الدليل الشرعي مبقياً (4) على الأصل في منع التخميس ونفي   = بعض الأشياء إلى أن يَرِد السمع. وأما الخامسة فهي: استصحاب الدليل مع احتمال المعارض، إما تخصيصاً إن كان الدليل عاماً، أو نسخاً إن كان، الدليل نصاً. (1) انظر تفصيل رأي الحنفية في: أصول السرخسي (2/223) وتيسير التحرير (4/176) ومسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/359) . (2) هو: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، أبو الطيب الطبري. الشافعي، القاضي كان أصولياً فقيهاً. له مؤلفات كثيرة، منها شرح المزني. ولد بآمل طبرستان سنة (348هـ) ، ومات سنة (450هـ) . له ترجمة في: تاريخ بغداد (9/358) وشذرات الذهب (3/284) وطبقات الشافعية للسبكي (5/12) وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (106) ووفيات الأعيان (2/195) . (3) مضى التعليق على هذه المسألة (1/73) . (4) قي الأصل: (منفياً) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1263 الاستحقاق. وكذلك نقل الأثرم وابن بَدِينا في الحُلي يوجد لُقَطَة: "إنما جاء الحديث في الدراهم والدنانير". فمنع من تملّك الحُلي، واستدام الأصل، وهو عدم الملك في اللقطة؛ لأنه لم يرد دليل، وإنما ورد في الدراهم والدنانير. وحكى أبو سفيان عن بعض الفقهاء أنه يأبى هذه الطريقة في الاستدلال. والدلالة على صحتها: أن الحكم الشرعي إنما يلزم المكلف إذا تعبده الله تعالى به، ولا يجوز أن يتعبده الله تعالى به من غير أن يدلَّه عليه، وإذا كان كذلك وجب أن يكون عدم الدلالة على أنه لم يتعبد به. يُبيِّن صحة هذا: أنه لما لم يجز أن يبعث الله تعالى رسولاً دون أن يظهر عليه الأعلام المعجزة، كان عدم ظهور ذلك على مدعي النبوة دلالة على انتفاء ثبوته. فإن قيل: ما ينكر أن يكون الدليل موجوداً وأنت مخطىء في الطلب، وتارك للدليل الموجب. قيل: لا يجب علينا أكثر من الطلب، وإذا لم نجد لزمنا تبقية الذمم على البراءة كما كانت. وهذا كما يستدل بعموم، فيقول الخصم (1) ما يُنْكَر أن يكون ذلك خاصاً، وقد خفي عليك دليل التخصيص. فيقول: طلبنا الدليل المخصص فلم نجد، فلزمنا حمله على عمومه، ومن ادعى دليل التخصيص يجب عليه إبرازه، كذلك ها هنا، ما لم نجد دليل الايجاب يجب أن تبقى الذمم على البراءة على حكم دليل العقل المقتضي لبراءة الذمم حتى يرد الشرع.   (1) في الأصل: (الحطم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1264 الضرب الثاني: في استصحاب حكم الإجماع. وهو: أن تجمع الأمة على حكيم، ثم تتغير صفة المجمَع عليه، ويختلف المجمِعون فيه، فهل يجب استصحاب حكم الإجماع بعد الاختلاف حتى ينقل عنه الدليل أم لا؟. فذهب الجماعة من أصحاب أبي حنيفة (1) وأصحاب الشافعي (2) إلى أن ذلك لا يجوز، ويجب طلب الدليل في موضع الخلاف. وهو الصحيح عندي. وذهب داود (3) وأصحابه والصيرفي (4) من أصحاب الشافعي إلى أنه يجب استصحابه كما يجب استصحاب براءة الذمم. وهو اختيار أبي إسحاق (5) [191/ب] من أصحابنا (6) ، ذكره في الجزء الأول من شرح الخِرَقي فقال "أجمعوا على طهارة الماء إذا لم يشرب منه مالا يؤكل لحمه، واختلفوا إذا شرب، فالإجماع حجة، والاختلاف رأي، والحجة أولى". فقد استصحب أبو إسحاق حكم الإجماع. ومثاله أن نقول: المتيمم إذا رأى الماء في صلاته لا تبطل؛ لأنا أجمعنا على   (1) انظر: تيسير التحرير (4/76) ومسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/359) . (2) انظر التبصرة للشيرازي ص (526) . (3) نسبه إليه الشيرازي في المرجع السابق. وانظر تفصيل القول فيه: الإحكام لابن حزم (5/590) . (4) نسبه إليه الشيرازي في المرجع السابق. (5) هو إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا، وقد سبقت ترجمته. (6) نسبه إليه أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/256) وابن قدامة المقدسي في الروضة (1/392) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1265 صحتها، فمن ادعى بطلانها فعليه الدليل. وأن ملْك المسلم ثابت بالإِجماع، وإذا ارتد اختلفوا في زواله، فمن ادعى زواله فعليه الدليل. وإذا اصطاد الحلال، ثم أحرم لم يَزُل ملكُه؛ لأنا قد أجمعنا على ثبوت ملكه قبل إحرامه، فمن ادعى زوالَه فعليه الدليل. وإذا وقعت النجاسة في الماء ولم تغيره أجمعنا على طهارته قبل وقوعها، فمدعي النجاسة يحتاج إلى دليل. وفي بيع أمهات الأولاد أجمعنا على جواز بيعها قبل الاستيلاد، فمدعي المنع بعد ذلك عليه الدليل. وما يجري هذا المجرى من المسائل. ودليلنا على ذلك: أن الإِجماع دلالة على الحكم كسائر الأدلة، فوجب اعتباره في الموضع الذي تناوله، والإجماع لم يتناول صحتها بعد (1) وجود الماء، وقد زال في الموضع المختلف فيه، فلم يجز التمسك به في مواضع الخلاف، وصار كالنص متى تناول موضعاً لم يجز حمله على غيره. وقد قال بعضهم (2) : إن داود أنكر القياس ثم صار إليه من غير علته، فكأنه أنكر القياس الصحيح، وقال بالقياس الفاسد؛ لأنه قياس بغير علة. فإن قيل: نحن لا نستدل بالقياس، وإنما نستدل بالإِجماع في موضع الخلاف. قيل: الاستدلال بالإِجماع لا يصح بعد زواله، وإنما يصح الاحتجاج به مع بقائه؛ لأن الدليل إذا زال، زال الحكم المتعلق به. وقد قرر هذا الدليل من وجه آخر، وهو: أنه إذا شرك بين الحالين في   (1) في الأصل: (قبل) والعبارة لا تستقيم إلا بما أثبتناه، مستأنسين بما جاء في شرح اللمع (2/989) حِيث عبر بقوله: (وكذلك إذا أجمعنا على انعقاد إحرامه وصحة صلاته قبل رؤية الماء، فأما بعد وجود الماء فهو موضع الخلاف) . (2) هو قول أبي الطيب الطبري، كما في شرح اللُّمع (2/988) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1266 وجوب الوضوء، لاشتراكهما فيما دل على وجوب الوضوء، فليس باستصحاب الحال، وإنما هو احتجاج بدليل دل على وجوب الوضوء وإن اشترك بينهما في الحكم لاشتراكهما في علته، فهو قياس، وليس باستصحاب الحال. واحتج المخالف: بأن قول المجمِعين حجة، كما أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة، فلما وجب استصحاب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن ينقل عنه الدليل، وجب استصحاب قول المجمعين إلا أن يَنْقُل عنه الدليل. والجواب: أن هذا دليل لنا؛ لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان خاصاً لم يجز أن يحتج به في غيره إلا بالقياس عليه، كذلك قول المجمِعين خاص؛ لأنهم إنما أجمعوا على صحة صلاة في [192/أ] حال عدم الماء، ولم يجمعوا على صحتها في حال وجوده، فكان قول النبي دليلاً على المخالف. واحتج: بأن استصحاب حكم العقل في براءة الذمم واجب حتى يقوم الدليل على الوجوب، كذلك ها هنا. والجواب: أن دلالة العقل في براءة الذمم قائمة في حال الخلاف، وليس كذلك الإِجماع فإنه زائد، فلم يجز الاحتجاج به. واحتج: بأنه قد ثبت أن من تيقن الطهارة وشكَّ في الحدث، أو تيقن الحدث وشكَّ في الطهارة، أو تيقن النكاح وشكَّ في الطلاق، أو تيقن الملك وشكُّ في العتاق، أو شكَّ في فعل الصلاة: "أن اليقين لا يزول بالشك" ويكون حكُم اليقين السابق مستداماً في حال الشك، كذلك ها هنا. والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن الإِجماع الذي هو دليل الحكم قد تيقن زواله، فوجب أن يزول حكمُه، والطهارة لا يتيقن زوالها، وإنما هو مشكوك فيه، فلم يجز أن يزول اليقين بالشك، وكذلك النكاح والملك، والصلاة، فَوِزَان مسألتنا أن يُتَيقَّن الطهارة ثم يُتَيقَّن الحدث، فلا يجوز استدامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1267 حكم الطهارة. وعلى أنه يعارضه: أن المدعى عليه يحتاج إلى اليمين، ولا يكفى في إسقاط دعوى المدعى بغير [بينة] براءةُ ذمة المدعى عليه، فبطل الاحتجاج به. واعلم أن هذه الطريقة لا تسلم من أن يقدر على قائلها. فإذا قال: قد صح دخوله في الصلاة بالتيمم بالاتفاق، فلا يزولُ عنه بغير دليل، فيقال له: قد تيقنا ثبوتَ الفرض (1) عليه، فلا يسقط عنه إلا بدليل. وكذلك إذا قال: قد اتفقنا على طهارة الماء اليسير قبل وقوع النجاسة فيه، فمن ادعى نجاسته فعليه الدليل، فيقال له: قد اتفقنا على وجوب فرض الصلاة، فمن اسقط عنه فعلها بهذه الطهارة، فعليه الدليل. وكذلك إذا قال في بيع أمهات الأولاد: أجمعنا على بيعها قبل الإيلاد، فمن منع فعليه الدليل. فيقال: أجمعنا على تحريم بيعها ما دامت حاملاً، فمن أجاز بيعها بعد وضع الحمل فعليه الدليل. فصل [القول بأقل ما قيل] فأما القول بأقل ما قيل فيه (2) . فيجوز الاحتجاج به، ويرجع معناه إلى استصحاب حكم العقل في براءة الذمة.   (1) في الأصل: (القرض) بالقاف. (2) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/267) والمسوَّدة ص (490) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/388) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1268 ومثاله: دية اليهودي والنصراني، فإنها ثلث الدية عند الشافعي (1) . وإحدى الروايتين لأحمد - رحمه الله. والأخرى نصف الدية (2) ، وهو قول مالك (3) . وقال أبو حنيفة: مثل دية المسلم (4) . فكان الثلث أقل ما قيل فيه، فيجب ذلك بالإِجماع، وما زاد على ذلك فلا يجب؛ لأن الأصل براءة الذمة منه، ووجوبه يحتاج [192/ ب] ، إلى دليل شرعي ولم نجد دليلاً يدل عليه، فوجب تبقية الدية على البراءة. ومثله: أن مسح الرأس يجب مقدار ما يقع عليه اسم المسح عند الشافعي (5) .   (1) هذا مذهب الشافعية، كما في المهذَّب لأبى إسحاق الشيرازى الشافعي مع شرحه المجموع (17/414) . (2) ظاهر المذهب أنها نصف دية المسلم. أما الرواية الثانية: أنها ثلث دية المسلم، فإن الإمام أحمد قد رجع عنها، كما نقله صالح عنه. انظر: المغني (7/793) طبعة المنار الثالثة. (3) انظر: الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإِمام مالك لأحمد الدردير المالكى (4/376) ، فإن ما ذكره المؤلف هو مذهب المالكية. (4) انظر: بدائع الصنائع للكاساني الحنفي (10/4664) ، فإن ما ذكره المؤلف هو مذهب الحنفية. (5) قال أبو إسحاق الشيرازي في المهذًب مع شرحه المجموع (1/399) : (والواجب منه أن يمسح ما يقع عليه اسم المسح وإن قلَّ. وقال أبو العباس بن القاص: أقله ثلاث شعرات، كما نقول في الحلق والإِحرام. والمذهب: أنه لا يتقدر؛ لأن الله تعالى أمر بالمسح، وذلك يقع على القليل والكثير) . قال النووي -بعد ذلك-: (والمشهور في مذهبنا الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي وقطع به جمهور الأصحاب في الطرق: أن مسح الرأس لا يتقدر وجوبه بشىء، بل يكفي فيه ما يمكن) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1269 وعند أبي حنيفة: الربع (1) . وعندنا -في إحدى الروايتين (2) - وعند مالك: الجميع (3) . فيقال: ما زاد على الاسم يحتاج إلى دليل. ومثل ذلك في قدر الصاع وغيره. والطريق في الجميع ما بينته (4) . فصل [النافى للحكم هل عليه دليل؟] النافي للحكم عليه الدليل (5) . ذكره أبو الحسن التميمي في مسألة أفردها.   (1) هذا قول أبي حنيفة وزُفَر. وهناك أقوال أخرى لبعض الحنفية.. انظر: بدائع الصنائع (1/88) . (2) القول بوجوب مسح جميع الرأس رواية عن الإِمام أحمد، كما ذكر المؤلف. قال ابن قدامة في المغني (1/125) : (وهو ظاهر كلام الخِرَقي) . وهناك رواية أخرى: أنه يجزىء مسح بعض الرأس. نقلها ابن قدامة في المرجع السابق. (3) هذا مذهب المالكية. انظر: الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/108) . (4) هذه الكلمة مترددة بين ما أثبتناه، وبين: (سنبينه) والأقرب ما أثبتناه؛ لأنه قد بين بأنه لا يؤخذ بأقل ما قيل في هذه المسائل وغيرها. (5) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (242/ب) والتمهيد (4/632) والمسوَّدة ص (494) وروضة الناظر مع شرحها (1/395) وشرح الكوكب المنير (4/525) . وكون النافي للحكم يلزمه الدليل قال به الحنفية وأكثر الشافعية وأكثر الحنابلة. ونسبه = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1270 ومن الناس من قال: لا دليل عليه في العقليات والشرعيات (1) . ومنهم من قال: إن كان الحكم عقلياً فعلى النافي دليل، وإن كان شرعياً فليس عليه دليل (2) . دليلنا: أن النافي للحكم معتقد لكون ما نفاه متيقناً، كما أن المثبت للحكم معتقد لكون ما أثبته ثابتاً. واتفقوا على أن من أثبت حكماً كان عليه الدليل. كذلك من نفاه. ولأن من نفى قِدَم الأجسام كان عليه الدليل، كما يكون عليه ذلك لو أثبت قدمها، وهذا متفق عليه، كذلك في غيره. ولأن من نفاه لا يخلو إما أن يكون نفاه بعلم مكتسب، أو علم ضروري، إذ نفيه بغير علم جهل، وإذا كان كذلك، وكانت العلوم الضرورية والمكتسبة لا تخلو من دليل عليها؛ لأنها إذا خلت من ذلك لم تكن علوماً، وجب أن لا يسقط الدليل عن نفى الحكم العقلي أو الشرعي.   = الباجي إلى الفقهاء والمتكلمين. واختاره. انظر: أصول السرخسي (2/117) والتبصرة ص (530) وشرح اللُّمع (2/995) والمراجع السابقة، وإحكام الفصول ص (700) والمنهاج في ترتيب الحجَاج ص (32) . (1) نسبه الباجي في كتابيه السابقين إلى داود الظاهري.. كما نسبه الشيرازي في كتابيه السابقين إلى بعض الشافعية. (2) لم يعين المؤلف النسبة هنا إلى أحد، ومثلُه أبو الخطاب في التمهيد، والمجْد في المسودة، والفتوحي في شرح الكوكب، وابن قدامة في الروضة إلا أنه عكس القول فقال: (وقال قوم في الشرعيات كقولنا، وفي العقليات لا دليل عليه ... ) . وقد ذكره الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ص (245) موافقاً لما ذكره المؤلف ثم قال: (حكاه القاضي في التقريب وابن فورك) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1271 واحتج المخالف: بأن من ادعى النبوة وجب عليه إقامة الدليل، ومن أنكرها ونفاها من الناس لم يجب عليه الدليل؛ لأن المدعي للنبوة مثبت (1) والمنكِر ناف. وهكذا ورد الشرع، فإنه جعل على المدعي البينة دون المدعي عليه؛ لأن المدعي مثبت، والمدعي عليه ناف. والجواب: أن النافي للنبوة ينظر فيه: فإن كان نافياً لعلمه بأن يقول: أنا لا أعلمُ صدقَه ولا كذِبَه، ويجوز أن يكون صادقاً، ويجوز أن يكون كاذباً، فهذا لا دليل عليه، لأنه شاك غير مدعٍ نفياً ولا إثباتاً. وإن كان يقطع بنفيه وتكذيبه في دعواه، وجب عليه إقامة الدليل. وطريق الدليل فيه: أن يقول: لا يبعث الله رسولاً إلا بمعجزة تدل على نبوته وحجة تكشف عن صدقه، فإذا لم تكن معجزة تدل على ما يدعيه دل على كذبه وبطلان دعواه. وأما المدعى عليه فإنه يقطع بالنفي وعليه الدليل، ولهذا يلزمه اليمين بالله تعالى، إلا أن المدعى عليه معه ظاهر يدل على صدقه من براءة الذمة إن كان المدعى عليه دَيْناً، ومن ثبوت يده وتصرفه إن كان المدعى عليه عيْناً، فجعل [193/أ] ، في جنبة المدعي أقوى السببين؛ لأنه لا ظاهر معه يدل على صدقه. ن (2) .   (1) في الأصل: (يثبت) . (2) هكذا ذكر المؤلف في المسألة ثلاثة آراء، واستدلَّ للراجح عنده بدليلين، ولم يورد عليهما اعتراضات المخالف، ثم احتج للرأي الثانى بدليل واحد واعترض عليه. أما الرأي الثالث فلم يستدلّ له. وكان من المناسب أن يستدل ولو بدليل واحد ليعلم منه منطلق أصحاب هذا القول. إذا علمت هذا ففى المسألة أقوال كثيرة، أوصلها الشوكاني في كتابه: إرشاد الفحول ص (245) إلى تسعة آراء، إلا أنه لم يستدل لأكثرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1272 باب الكلام في القياس مسألة [حجية القياس العقلي] القياس العقلي (1) حجة، يجب القول به، والعمل عليه (2) . ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع. ولا يجوز التقليد (3) . وقد احتج أحمد -رحمه الله- بدلائل العقول في مواضع، فيما خرَّجه   (1) سبق للمؤلف في هذا الكتاب: (1/174) أن عرَّف القياس الشرعي. أما القياس العقلي فهو -كما يقول ابن عقيل في كتابه الواضح (2/641) -: (هو الذي يجب بشهادة المشتبهين فيه بالحكم من جهة العقل) . وذكر في كشف الأسرار (3/990) أن بعضهم حدَّه بقوله: (رد غائب إلى شاهد ليستدل به عليه) . وقد بيَّن المؤلف في كتابه المعتمد ص (41) أنه: (قد يستدل بالشاهد على الغائب من وجوه أربعة، أحدها: من جهة العلة، والثاني: الحد، والثالث المصحح، والرابع: الدليل) . (2) راجع في هذه المسألة: التمهيد (3/360) والواضح (2/641) والمسوَّدة ص (365) . (3) هذا ما يراه المؤلف، وقد فصل ذلك في كتابه المعتمد (21) ومن ضمن ما قاله: (وأول ما أوجب الله على خلقه العقلاء: النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله سبحانه..) . وهذه المسألة فيها بحث طويل ومتشعب. استوفاه شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه: درء تعارض العقل والنقل الجزء السابع والثامن. وقد نقل كلام المؤلف وتعقَّبه (7/442) و (8/349، 355) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1273 في الرد على الزنادقة والجهمية (1) ، رواية عبد الله عنه، فقال: "إذا قلنا لم يزل الله تعالى بصفاته كلها، إنما نَصِف إلهاً واحداً بجميع صفاته. وضربنا لهم في ذلك مثلاً فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جِذْع وكَرَب (2) ولِيف وسَعَف (3) وخُوص (4) وجُمَّار (5) ؟! سُميت نخلة بجميع (6) صفاتها، كذلك الله تعالى، وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد (7) . وقلنا للجهمية (8) : زعمتم أن الله تعالى في كل مكان، وهو نور، فلم لايضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه؟! إذ زعمتم أن الله تعالى في كل مكان، وما بال السراج إذا دخل البيت يضيء؟! ". وقال (9) "لو أن رجلاً كان في يده قَدَح من قوارير صافٍ، وفيه شىء   = ثم قال (8/8) : (والقران العزيز ليس فيه آن النظر أول الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس، وهذا موافق لقول من يقول: إنه واجب على من لم يحصل له الإِيمان إلا به. بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجباً إلا به، وهذا أصح الأقوال) . وقد قال هذا بعد أن بين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يَدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه. (1) هذا كتاب للإمام أحمد، مطبوع، والكلام يقع في ص (37) . (2) الكَرَب: أصول السعف التي تقطع منها: انظر: المصباح المنير مادة (كَرَبَ) . (3) السَّعف: أغصان النخل مادامت في الخوص، انظر: المرجع السابق مادة (سَعَف) . (4) الخُوص: ورق النخيل. المرجع السابق، مادة (خَوَصَ) . (5) الجُمَّار: قلب النخلة. المرجع السابق، مادة (جَمَرَ) . (6) في الأصل: (الجميع) والتصويب من المصدر الذي نقل منه المؤلف ص (37) . (7) في الأصل: (إلهاً واحداً) . (8) ص (44) من المصدر السابق. (9) ص (39) من المصدر السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1274 صافٍ، أن يصير (1) ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله له المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شىء من خلقه". وهذا صريح من أحمد -رحمه الله- في الاحتجاج بدلائل العقول. وإلى هذا ذهب جماعة الفقهاء والمتكلمين من أهل الإثبات (2) . وذهب المعتزلة إلى وجوب النظر والاستدلال بالعقل قبل ورود الشرع، وإذا ورد الشرع كذلك كان مؤكداً له (3) . وذهب قوم إلى أن حجج العقول باطلة، والنظر حرام، والواجب هو التقليد (4) .   (1) هكذا في الأصل، والعبارة في المصدر الذي نقله منه المؤلف ص (39) : (كان بَصَرُ ابن آدم .... ) . (2) وهو مذهب الجماهير، كما يقول الغزالي في المنخول ص (324) وهو مذهب الحنابلة، كما هو واضح من كلام الإِمام أحمد، الذي نقله المؤلف هنا. وبهذا يتبين خطأ ما قاله الغزالي في المرجع السابق، وعبد العزيز البخاري في كشف الأسرار (3/990) من أن الحنابلهَ ردوا قياس العقل، دون الشرع. (3) لأنهم يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين، فهم أولى الناس بهذا القول. انظر: المعتمد (2/886-887) ، وقد قسم الأشياء المعلومة بالدليل إلى ثلاثة أقسام: ما يعلم بالعقل فقط، وما يعلم بالشرع فقط، وما يعلم بهما. انظر: زيادات المعتمد (2/994) . وقد أورد شيخ الإِسلام كلامه في درء تعاوض العقل والنقل (8/17) وردَّ عليه. (4) ونسبه في المسوًّدة ص (365) إلى بعض أهل الحديث وأهل الظاهر، ونسبه عبد العزيز البخاري في كتابه كشف الأسرار (3/990) إلى الامامية وأيضاً الخوارج إلا النجدات منهم. وشدد ابن حزم في كتابه الفِصَل (3/42-4) النكير على القائلين بوجوب النظر. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1275 فالدلالة على وجوب ذلك بعد السمع: هو أن إبطال ذلك إبطال للنبوات والشرائع، وذلك أنه لا طريق لنا إلى معرفة صدق النبي من كذب المتنبىء إلا النظر والاستدلال؛ لأن صورة الكذب كصورة الصدق، فمتى ظهرت علامات المعجزة على النبي علمنا بالنظر فيها أنها من قِبَل الله تعالى، لأن غيره لا يقدر على إظهاره، ومتى علمنا أنها من قبل الله تعالى علمنا بالنظر أيضاً أن من ظهرت عليه هذه الأعلام صادق غير كاذب؛ لأن الله تعالى لا يظهر الأعلام على الكذابين، ولولا النظر والاستدلال لم يكن لنا طريق إلى معرفة شىء من ذلك، فكان يؤدي إلى إبطال الشرائع، وإفساد النبوات وترك التخيير بين الصادق [193/ب] والكاذب، والنبي والمتنبىء. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون العلم بما ذكرتموه من قِبَل الله تعالى وقِبَل رسوله قد وقع ضرورة لا استدلالاً ونظراً. قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتَ لكان يشترك في ذلك العلم جميعُ العقلاء، لأن العلم الضروري لا يختص به بعض العقلاء دون بعض إذا أشتركوا في طرقه، وفي علمنا بوجود جماعات كثيرة لم يقع لهم العلم بالله تعالى وبنبوة رسوله، مثل الملاحدة وأضرابهم من الكفار، لأنه لو وقع لهم العلم به ضرورة لم يصح اجتماعهم على نفيه، كما لا يصح اجتماع الجماعات العظيمة على نفي وقوع العلم بالبلدان وبوجود المحسوسات من الأجسام، وفي بطلان ذلك دليل على فساد ذلك. ولأنه لو جاز وقوع العلم بالله تعالى في حال التكليف ضرورة لكان العلم   = وقد أورد شيخ الإِسلام ابن تيمية قوله في كتابه: درء تعارض العقل والنقل (7/432-440) وعلق عليه، فارجع إليه، فإنه مفيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1276 بنبوة الرسول -عليه السلام- أولى أن يقع ضرورة، ولو جاز ذلك لم يكن لإظهار الأعلام معنى، بل كان (1) يكون ذلك عبثاً. ويدل عليه أيضاً: أننا نجد كل عاقل إذا نابته نائبة من أمور دينه ودنياه، فإنه يفزع إلى عقله ليتحرز به من ضرر، أو ليتوصل به إلى نفع، ألا ترى أنه إذا رأي في الطريق أثر سبع امتنع من سلوكه. وإذا رأى أثراً لماء وبه عطش أسرع في طلبه، فلولا أن النظر والاستدلال طريق إلى العلوم العقلية لم يفزع العاقل إليها في جر المنافع ودفع المضار، كما لا يفزع في إدراك السماع إلى آلة الشم، وفي إدراك الشم إلى آلة البصر، وإذا كان كذلك ثبت أن النظر من طريق العقل واجب بعد السمع. ويدل على بطلان التقليد: أن الذى قلده المقلد لا يخلو من أن يكون ما قلده فيه قد علمه بالاستدلال والنظر، أو أخذه تقليداً من غيره، ولا جائز أن يكون قد علمه ضرورة كما دللنا عليه، فإن علمه استدلالاً ونظراً فقد بطل التقليد، وإن أخبره تقليداً كان الكلام ممن قلده إياه كالكلام فيه، فيؤدي إلى إثبات مالا نهاية له من المقلدين، وفي بطلان ذلك دليل على بطلان القول بالتقليد. ويدل عليه أيضاً: أن الذي قلده المقلد لا يخلو من أن يكون ممن يجوز عليه الضلال، أو لا يجوز ذك عليه، وبطل أن يكون ممن لا يجوز عليه ذلك؛ لأن هذا لا يجوز أن يحكم به إلا لمن يشهد له به النبي، فإذا كان ممن يجوز عليه الضلال لم يأمن المقلد له أن يكون مبطلاً في تقليده إياه، وإذا لم يأمن ذلك لم يجز تقليده.   (1) هكذا في الأصل: و (كان) هنا زائدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1277 فإن قيل: أليس قد جاز له تقليد النبي فيما يأمره به؟ ويجوز للعامي أن يقلد المفتي فيما يفتيه به. ولأن أول من قاس إبليس (1) ، فكان (194/أ) قياسه كفراً. قيل: ما يأخذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون على وجه التقليد؛ لأن الله تعالى قد دلنا على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أنه لا يأمرنا إلا بالحق، والتقليد المحظور هو ما يأخذه المقلد من غيره من غير أن يدل عليه عنده دلالة على صحته، أو يعلم في الجملة أن فرضه تقليد المفتي فيما يفتيه به، فلهذا افترق الأمران. وقوله: [أول] من قاس إبليس، وكان كافراً، فإنه يقابل بمن قال: أول من قاس الملائكة، وكان قياسُهم صواباً.   (1) هذا أثر أخرجه ابن جرير في تفسيره عند الكلام على قوله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ ألاَّ تسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قَالَ أنَا خَيْرٌ منهُ خَلَقْتَنِى مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين) آية (12) من سورة الأعراف (12/328) أخرجه بسنده عن ابن سيرين قال (أول من قاس إبليس، وما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس) . وعن ابن سيرين أخرجه ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/93) بمثل لفظ ابن جرير. كما أخرجه عنه ابن حزم في كتابه الِإحكام (10/1073) ولفظه: ( ... عن أبي هند قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: القياس شؤم، وأول من قاس إبليس فهلك، وإنما عُبدت الشمس والقمر بالمقاييس) . وروي هذا الأثر عن الحسن، أخرجه عنه ابن جرير بسنده في الموضع السابق، ولفظه: (قاس إبليس، وهو أول من قاس) . وأخرجه عنه ابن عبد البر بسنده في كتابه: جامع بيان العلم في الموضع السابق، ولفظه: (أول من قاس إبليس، قال: "خَلَقْتَنِى مِن نًارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين") . ونسبه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/205) إلى جعفر بن محمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1278 على أنك قد صرت إلى القياس حيث حملت قياس غير إبليس على قياس إبليسِ في باب الفساد. وعلى أن خطأ القائسين إذا كان مبطلاً للقياس في الأصل عندك، فهلاَّ كان خطأ بعض المقلدين دليلاً على بطلان التقليد؟!؛ لأن الله تعالى قد حكى تقليد الكفار إياهم بقوله تعالى: (قَالوا إنَّا وَجَدْنَا ءابَاءَنَا عَلَى أمَّةٍ وَإنَّا عَلَى ءاثارِهِم مُّهْتَدُونَ) (1) . فإن قيل: أليس قد منع أحمد - رضي الله عنه - من النظر والكلام. فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار: "لا يكون صاحب الكلام -وإن أصاب بكلامه السنة- من أهل السنة حتى يدع الجدال" (2) . قيل: إنما نهى عن الجدال الذي هو المراء، ألا ترى أن أبا بكر المروذي سأله عن الرجل يشتغل بالصوم والصلاة ويعتزل، ويسكت عن الكلام في أهل البدع، فقال: "إذا صام وصلى واعتزل إنما هو لنفسه، وإذا تكلم كان له ولغيره، يتكلم أفضل". وروى حنبل أنه قال لأحمد -رحمه الله-: "إن يعقوب بن شًيْبهَ (3)   (1) آية (22) من سورة الزخرف. (2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة عبدوس (1/242) ، وفي آخرها: (حتى يدع الجدال، ويُسَلِّم، ويؤمن بالآثار) . (3) هو: يعقوب بن شَيْبة بن الصلت بن عصفور، أبو يوسف السدوسي البصري. سمع علي بن عاصم ويزيد بن هارون وغيرِهما، ومنه حفيده محمد بن أحمد بن يعقوب ويوسف بن يعقوب وغيرهما. وثقه الخطيب. كان من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل. توفي سنة (262) هـ. له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (2/577) وطبقات الحفاظ ص (254) وطبقات الحنابلة (1/416) والعبر (2/25) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1279 وزكريا ابن عمار (1) أخبرا عنك الوقف، فقال: قد كنَّا نأمر بالسكوت، فلمَّا دعينا إلى أمر ما كان بدّ لنا من أن ندفع ونبيِّن". وهذا صريح منه بالقول بالنظر. مسألة [جواز التعبد بالقياس عقلاً وشرعاً] القياس الشرعي يجوز التعبد به، وإثبات الأحكام الشرعية من جهة العقل والشرع (2) . نص على (3) هذا -رحمه الله- في رواية بكر بن محمد عن أبيه فقال: "لا يستغني أحد عن القياس، وعلى الحاكم والإِمام يَرِد عليه الأمر أن يجمع له (4) الناس، ويقيس، ويشبِّه، كما كتب عمر إلى شُرَيْح: أن قس الأمور" (5) .   (1) لم أقف على ترجمته. (2) راجع هذه المسألة في التمهيد (3/365) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (2/234) والمسوَّدة ص (367) وشرح الطوفي على مختصر الروضة الجزء الثانى الورقة (95/أ) وشرح الكوكب المنير (4/211) . (3) في المسوَّدة ص (367) : (نصّ عليه صريحاً في مواضيع عدة) . وهذا إشارة من المجْد إلى أن هذه هي الرواية المعوَّل عليها في هذا الباب، والله أعلم. وقد تابع أبو الخطاب شيخه في أن ذلك منصوص الإِمام -رحمه الله-. انظر: التمهيد الموضع السابق. (4) في الأصل: (لها) . (5) هذه الرواية ذكرها أيضاً أبو الخطاب في التمهيد (3/365) . وكتاب عمر - رضي الله عنه - إلى شُرَيْح سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1280 وقد استعمل هذا في كثير من مسائله (1) . فقال في رواية ابن القاسم: "لا يجوز الحديد والرصاص متفاضلاً (2) ، قياساً على الذهب والفضة". وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الميموني: "يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجْمَل، والقياس" (3) . وهذا محمول على استعمال القياس في معارضة السنة، فإنه لا يجوز (4) .   (1) هذا يدل على أن المؤلف -رحمه الله- يؤيد الرواية التي تقول: بأن الإمام أحمد يرى حجية القياس. (2) نقل ابن قدامه في كتابه المغني (4/7) عن المؤلف أنه ذكر في هذا ومثله روايتين: الأولى: أنه لا يجوز التفاضل بينهما، كما ذكر المؤلف هنا. واختارها ابن عقيل؛ لأن أصلهما الوزن، والصناعة لا تخرجهما عنه. والثانية: يجوز، وعليه أكثر أهل العلم؛ لأنهما ليسا بموزونين ولا مكيلين. قال ابن قدامة: (وهذا هو الصحيح، إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتقاء العلة وعدم النص والإجماع فيه) . (3) هذا إيماء من الإمام أحمد إلى عدم اعتبار القياس، حيث نهى المتكلم في الفقه عن استعمال القياس والمجْمل في فقهه. قال أبو الخطاب في كتابه التمهيد: (3/368) (وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية الميموني ... ) ثم ذكر الرواية. وبمثل هذا قال الطوفي في شرح مختصر الروضة الجزء الثاني الورقة (95/أ) . (4) هذا تأويل القاضي لرواية الميموني، وقد أيده الطوفي في المرجع السابق حيث قال: (وهو تأويل صحيح) . ولكنَّ تلميذ المؤلف أبا الخطاب في كتابه التمهيد: (3/368) رد على شيخه هذا التأويل بقوله: (والظاهر خلافه) ، ولم يزد على ذلك. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1281 وقد كشف عن هذا في رواية أبي الحارث [194/ب] فقال: "ما تصنع بالرأي والقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه". وبهذا قال أكثر الفقهاء والمتكلمين (1) . وذهب قوم من المعتزلة البغداديين (2) : إلى أنه لا يجوز التعبد به من جهة   = وفي رأيي: أن اعتراض أبي الخطاب غير وجيه؛ لأن هناك روايات عن الإِمام أحمد كثيرة أشار بإعمال القياس، أو أعمله بنفسه فتتعارض مع الرواية هنا. ومع هذا التعارض نحمل نهيه عن استعمال القياس على القياس المخالف للنصوص الشرعية، ونحمل إرشاده إلى القياس أو استعماله بنفسه على عدم وجود نص في الحادثة. يدل على ذلك رواية أبي الحارث التي ذكرها المؤلف دليلاً على ما ذهب إليه. وجمع ابن رجب بين الروايتين، فحمل الرواية التي تمنع من القياس على من لم يبحث عن الدليل، أو لم يُحصِّل شروطه. انظر: شرح الكوكب ص (4/216) . وينبغي أن يشار هنا إلى أن الإِمام أحمد لا يستعمل القياس إلا عند الضرورة. يؤيد ذلك رواية الميموني التي نقلها المجد في المسوَّدة ص (367) ونصها: (سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند الضرورة، فأعجبه. [يعني: الإِمام أحمد] ذلك) . والضرورة المقصودة هنا -والله أعلم-: أن الحادثة إذا وقعت، ولم يوجد نص بحكمها، فإنه من الضروري أن يعطى لها حكم بالقياس على أشباهها؛ لامتناع خلو الحادثة عن حكم الله تعالى. أما إذا لم تقع الحادثة، وإنما هي من باب التخيل والتقدير، فلا يرى الإمام أحمد استعمال القياس؛ لأنه لاضرورة. (1) انظر: أصول الجصاص ص (63) والتبصرة ص (419) والبرهان (2/750) والوصول إلى الأصول لابن برهان (2/243) وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص (531) . (2) انظر: المعتمد (2/724) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1282 العقل، ويجوز من جهة الشرع، مثل ابن يحيى الإسكافي (1) . وجعفر بن مبشر (2) ، وجعفر بن حرْب (3) ، وإبراهيم النظَّام (4) . وذهب قوم إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلاً ولا شرعاً، ذهب إليه داود (5) ،   (1) هكذا في الأصل: وهو كذلك في كتاب التمهيد لأبى الخطاب (3/366) ولم أعثر له على ترجمة. وفي كتاب الإِحكام للآمدي (4/6) يحيى الاسكافي، ولم أعثر له على ترجمة أيضاً. ولعل المقصود محمد بن عبد الله الاسكافي أبو جعفر المعتزلي المتوفى سنة (240 هـ) فهو المشهور لذلك. انظر ترجمته في: طبقات المعتزلة ص (64، 285) . (2) هو جعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد أبو محمد الثقفي، المعتزلي، البغدادي. صنف كتباً في الكلام، مات سنة (234 هـ) . له ترجمة في: تاريخ بغداد (71/162) وطبقات المعتزلة ص (283) ولسان الميزان (2/121) . (3) هو: جعفر بن حرب الهمداني المعتزلي البغدادي. درس الكلام بالبصرة على أبي الهذيل العلاف. له مؤلفات؛ منها: كتاب المصابيح، وكتاب الايضاح، وكتاب الأصول الخمسة. مات سنة (236 هـ) وله من العمر (59) سنة. له ترجمة في: تاريخ بغداد (7/162) وطبقات المعتزلة ص (281) ولسان الميزان (2/113) . (4) هكذا نقل المؤلف عن النظام أنه لا يجوز التعبد بالقياس عقلاً، ويجوز شرعاً، لكن الذي نقله أبو الخطاب في التمهيد (3/367) وابن قدامة في الروضة (2/234) عن النظام: أنه يقول بعدم الجواز لا عقلاً ولا شرعاً. وقد أشار في المسودة ص (368) إلى اختلاف النقل عن النظام. وانظر في اضطراب النقل عنه: نبراس العقول ص (60) . (5) انظر: الإحكام لابن حزم (7/931 و8/1110) والمراجع التي ذكرناها في أول المسألة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1283 والنهرياني (1) ، والمغربي (2) ، والقاشاني (3) . فالدلالة على جوازه عقلاً: أن العقل لا يمنع أن يقول صاحب الشرع: إذا علمتم أو غلب على ظنكم أن الحكم تابع لمعنى ومتعلق به، فقيسوا عليه كلما وجدتم فيه ذلك المعنى، كما قال: إذا زالت الشمس وعلمتم ذلك، أو غلب على ظنكم فصلُّوا، وإذا علمتم طلوع الفجر، أو غلب على ظنكم ذلك فصوموا، وإذا شهد شاهدان، وعلمتم عدالتهما، أو غلب على [ظنكم] ذلك، فاحكموا بما شهدا به، وإذا رأيتم البيت الحرام، وعلمتم ذلك، أو غلب على ظنكم فصلوا إليه، وما أشبه ذلك كثير، كذلك القياس؛ لأنه جعل دخول الوقت شرطاً لفعل العبادة،   (1) هكذا في الأصل: (النهرياني) بالمثناة التحتية بعدها ألف، وفي تقديري أنه خطأ، والصواب: النهرواني، وهو الموجود في مراجع الأنساب. والنهرواني: نسبة إلى (نهروان) بُلَيْدة قديمة، تقع بالقرب من بغداد. وهو: المعافى بن زكريا يحيى بن حميد بن حماد، أبو الفرج النهرواني الجَرِيري نسبة إلى ابن جرير الطبري؛ حيث كان على مذهبه. كان من أعلم الناس في زمانه. مات سنة (390 هـ) وله من العمر (85) سنة. له ترجمة في: البداية والنهاية (11/328) وتاريخ بغداد (13/230) وتذكرة الحفاظ (3/1010) وشذرات الذهب (3/134) وطبقات الحفاظ ص (400) واللباب (3/373) . (2) هو: الحسين بن على بن الحسين أبو القاسم الوزير المغربي الشيعي. كان أديباً بليغاً، ذكياً، ذا دهاء وفطنة، له كتب كثيرة، منها: مختصر إصلاح المنطق. ولد سنة (370 هـ) ومات سنة (418 هـ) . له ترجمة في: المنتظم (8/32) وشذرات الذهب (3/10) وسير أعلام النبلاء (17/394) . (3) انظر في نسبة هذا إليهم: التمهيد (3/367) والتبصرة ص (419) والمنخول ص (90) والمسودة ص (368) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1284 كذلك جعل غلبة الظن شرطاً في تعلق الأحكام بها عند وجودها، ولا فرق بينهما. فإن قيل: لا يحصل العلم ولا الظن بالنظر في هذه الأصول، وليس فيها طريق لذلك. قيل: هذا غلط؛ لأن الفقهاء على كثرة عددهم واختلاف مذاهبهم من أصحاب أحمد -رحمه الله- وأبى حنيفة ومالك والشافعي وسائر [الفقهاء] يذكرون أنهم يظنون فيها، والعلم الضروري يحصل بخبر بعضهم، فإذا كان كذلك كان معلوماً من طريق الضرورة، وكان الجاحد لذلك مبطلاً، كما إذا أنكر الظن، وكما ينكر النفور، والسكون، والغم، والذوق. فإن قيل: قد يظنون، ولكن ظنهم فاسد؛ لأنه واقع عن طريق يقتضي الظن، وهو بمنزلة من ظن أن البناء الصحيح الجديد يقع عليه، أو رأى ثوراً فظنه سبعاً، وفزع منه. قيل: للظن طريق فيها، ولا نسلِّم ما قاله المخالف، فإن دل على دعواه بأن الظن لا يقع إلا عن عادة، فإن رأى الغيم كثيفاً منيعاً خشى مجيء المطر، وغلب على ظنه ذلك، لما سبق من العادة، فليس بيننا وبين الله تعالى في هذه الأحكام عادة، فلا يجوز أن يكون فيها طريق للظن. قيل: طريق الظن هو وجود الشىء في الاكثر من نظائره، ولهذا يغلب على الظن وقوع الحائط إذا انشق [195/أ] ، عرْضاً، ويغلب على الظن إذا عرَض غيم أسود مُسِف (1) أنه يكون منه مطر؛ لأن الغالب من مثله مجيء المطر، وإنما   (1) توصف السحابة بذلك إذا دنت من الأرض. قال الشاعر يصف سحاباً قرب من الأرض: دانٍ مُسِف فُوَيْقَ الأرْضِ هَيْدَبُه ... يكادُ يدفعُه من قامَ بالرَّاح انظر: اللسان (11/54) مادة (سفف) ومعجم مقاييس اللغة (3/57) مادة (سفّ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1285 يتخلف في النادر، فيتبع ظنّ العاقل الغالب دون النادر، وإذا كان كذلك، كان هذا الظن في الأحكام الشرعية كثيراً؛ لأن النظائر والشواهد فيها تتكرر وتكثر، فيغلب على ظن المجتهد فيها أن موضع الخلاف بمنزلتها، وطريق العلم بالنظر في هذه الأصول، هو الثابت الذى يدل على تعلق الحكم بمعنى واتباعه له، مثل العصير الحلو يكون حلالاً، وإذا حدثت فيه الشدة المطربة حرُم، ويعلم أنه لم يحدث غيرها، فإذا زالت الشدة المطربة حل، ونعلم أنه لم يزل غيرها، فلو قدرنا عود الشدة المطربة وحدها لقدرنا عود التحريم، فيدل هذا على أن التحريم تابع للشدة، وأن النبيذ يجب أن يكون حراماً لوجود الشدة المطربة فيه. ومثل هذا كثير. فإن قيل: يجوز أن يكون هذا تابعاً للاسم يزول بزوالها، ويعود بعودها. قيل: لا يتبع الاسم؛ لأنه لو طبخ العصير وحدثت الشدة المطربة فيه كان حراماً وإن كان لا يسمى خمراً؛ لأن الخمر عندهم هو العصير الذى قد اشتد وقذف زبده، وكذلك نقيع التمر والزبيب حرام؛ لوجود الشدة المطربة، ولا يسمى خمراً، فثبت بهذا أنه يتبع الشدة المطربة دون اسم الخمر. وطريقة أخرى وهو: أن الحكيم لا يجوز في صفته أن يكلف حكْماً ويوجب عبادة إلاّ ويجعل إلى معرفة ذلك سبيلاً بوجه، بدليل أنه كلف استقبال الكعبة، وجعل إلى التوجه إليها سبيلاً؛ من كان قريباً بالمعاينة، ومن كان بعيداً بالاستدلال حسب الاجتهاد بالأدلة المنصوبة على القبلة من النجوم والجبال والرياح والشمس والقمر، فكان فرض التوجه إليها بالاجتهاد. وهكذا نص على دية الحر بالمقدر، وعلى بعض الجراحات كالموضِحَة (1)   (1) الموضحة: الشجة بالرأس تبدي وضح العظم. انظر: المصباح مادة: (وضح) والمطْلِع على أبواب المقْنِع ص (367) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1286 والمأمومة (1) والجائفة (2) ، وأطلق ما بقى، فكان المرجع فيها إلى الظن والاجتهاد. وكذلك قِيَم المتلفات، والمهور في الأنكحة، والنفقات، والمتعة كل ذلك غير منصوص عليه، وإنما يعتبر بغيره. فإذا صح أن ترد باقي هذه الأحكام إلى النظر والاجتهاد، كان غيرها (3) من الأحكام بمنزلتها (4) . واحتج المخالف: بأن الشرعيات إنما يحسن تكليفها لما فيها من المصالح، ولم يكن لنا طريق إلى معرفة المصالح، وكان القياس من فعلنا لم يجز أن يكون القياس طريقاً إلى معرفة الأحكام الشرعية. والجواب: أن ليس من شرط التكليف أن يكون [195/ب] مصلحة للمكلف. وهذا أصل لنا خلاف المعتزلة. ولو سلَّمنا هذا لم يصح؛ لأن ما يتوصل به إلى معرفة الأحكام الشرعية هو من قِبَل من يعلم المصالح والعواقب وهو الله تعالى؛ لأنه قد نصب لنا أدلة على صحة رد الفروع إلى الأصول، فلا يكون إثبات الحكم الشرعى إثباتاً له بفعله، ألا ترى أن الحكم المنصوص عليه يكون ثابتاً من فعل الله تعالى وإن   (1) المأمومة: الشجة التي تصل إلى أم الدماغ. انظر: المصباح مادة (أمَ) . (2) الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف. انظر: المصباح مادة (جوف) والمُطْلع ص (367) . (3) في الأصل: (غيرهما) . (4) في الأصل: (بمنزلتهما) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1287 كان لا بدَّ لنا من تفكر فيه، وذلك فعلنا. واحتج: بأنه يلزمكم أن تخبروا على هذه الأخبار عما يحدث في مستقبل الأيام، وعن الأجنة التي في الأرحام بغير نص، ولما لم يجز ذلك، كذلك ها هنا. والجواب: أنَّا إنما جوزنا إثبات الحكم الشرعي؛ لأن الله تعالى قد نصب لنا أدلة على جواز القياس، ولم ينصب لنا أدلة على ما يحدث في المستقبل، فلهذا لم يجز الإخبارُ به. ونظيره: أن ينصب لنا أدلة على الخبر بما يحدث في المستقبل، فيجوز حينئذ لنا الإخبارُ به. واحتج: بأن النظر والاستدلال يختصان العقل، ودلالة العقل توجب الحكم للأشياء المختلفة بالأحكام المختلفة دون المتفقة، وتوجب الحكم للأشياء المتفقة بالأحكام المتفقة دون المختلفة، فإذا كان كذلك، وكان الشرع قد ورد بالحكم في الأشياء المتفقة بالأحكام المختلفة وفي الأشياء المختلفة بالأحكام المتفقة، بدلالة أنه أوجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة، وإن كان الحيض منافياً لهما، وفرق بين المني والمذي في الحكم وإن كانا شقيقين، علمنا أن النظر والاستدلال لا مدخل لهما في إثبات الأحكام الشرعية. والجواب: أن العقل يمنع من الجمع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفات النفسية كالسواد والببياض، وأن يفرِّق بين المِثْلَيْن فيما تقابلا فيه من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجرى مجرى ذلك، فأما ما عدا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجمع بين المختلفين في الحكم الواحد، ألا ترى أن السواد والبياض قد اجتمعا في منافاة الحمرة وما يجرى مجراها من الألوان، وأن القعود في الموضع الواحد قد يكون حسَناً إذا كان فيه نفع لا ضرر فيه، وقد يكون قبيحاً إذا كان فيه ضرر من غير نفع يوفر عليه، وإن كان القعود في ذلك الموضع متفقاً، وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحسْن بأن يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1288 في كل واحد منهما نفع لا ضرر فيه، وإن كانا مختلفين. على أن هذا يؤكد [196/أ] صحة القياس، وذلك لأن المِثلَين في العقليات إنما وجب تساوي حكمهما؛ لأن كل واحد منهما قد ساوى الآخر فيما لأجله وجب له الحكم، إما لذاته كالسوادين، أو لعلة أوجبت ذلك كالأسودين، وهكذا القول في المختلفين. وعلى هذه الطريقة بعينها يجرى القياس؛ لأنا إنما نحكم للفرع (1) بحكم الأصل إذا شاركه علة الحكم؛ لأن الله تعالى إنما نص على حكم واحد في الشيئين إذا اشتركا فيما له وجب الحكم فيهما، فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه. واحتج: بأن الفرع الشرعي قد يكون مشبهاً لأصل يقتضي التحريم، ولأصل يقتضي التحليل، فلا يكون أحدهما بالرد إليه أولى من الآخر، ولا يصح الحكم فيه بحكم الأصلين لتضادهما، فيمتنع القياس، فلا يصح الرد إلى شىء من هذه الأصول؛ لأن أحداً لم يفصل بين الفرع المشبه لأصلين هذه حالهما وبين الفرع المشبه للأصل الواحد. والجواب: أن الفرع لا يرد إلى أحد الأصلين لكونهما شبهاً له، وإنما يرد لكونه أشبه منه بالآخر. وعلى مذهب من يجيز أن يعتدل الأمر عند المستدل في شبه الفرع بالأصلين لا يلزمه ذلك؛ لأنه إذا اعتدل شبهه بهما كان المستدل مخيراً في رده إلى أيهما شاء كالمكفر هو مخير في أن يختار أى الكفارات شاء. واحتج: بأنه لو جاز حمل الفرع على المنصوص عليه لوجود الشبه بينهما لوجب أن يجوز ذلك في سائر الأوقات، كما أن الفعل لما كان دلالة على كون الفاعل قادراً كان دلالة على ذلك في جميع الأوقات، وإذا كان كذلك وكان هذا الشبه بين المنصوص وبين ما لم ينص عليه موجوداً قبل النص ولم يجز القياس عليه علمنا أنه لا يصح رده إليه بحال.   (1) في الأصل: (الفروع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1289 والجواب: أن القياس إنما يصح إذا حصل هناك أصل منصوص عليه، كما أن الاستدلال على القدرة إنما يصح إذا وجد الفعل، فلما لم يصح أن يستدل على القدرة قبل وجود الفعل، كذا لا يصح القياس قبل وجود الأصل المنصوص عليه. واحتج: بأنه لو كان القياس صحيحاً لم يخل المنصوص عليه إذا نسخ وقد قيس عليه فروع أن يبقى الحكم في فروعه، أو ينسخ الحكم فيها بنسخ حكم الأصل. فإن قلتم: إن الحكم في فروعه يصير منسوخاً كان ذلك مبطلاً لمذهبكم في أن نسخ ما تناوله النص لا يوجب نسخ جميعه. وإن قلتم: إن الحكم في فروعه يكون باقياً كان فيه كبقية الحكم في الفروع مع نسخ حكم الأصل [196/ب] ، وهذا باطل. والجواب: أنه لا يمتنع عندنا أن يبقى الحكم في الفروع مع نسخ حكم الأصل، كما أن نسخ الحكم في الأصل لا يوجب ارتفاع ما حكم في الحوادث بموجب النص قبل ورود النسخ. واحتج: بأنه لو جاز إثبات حكم بالقياس لجاز إثبات الأصول به، وهذا باطل. والجواب: أنه إن أريد به إثبات الأصول بعد ثبوت أصل واحد، فهذا غير ممتنع عندنا، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نص على بعض الأشياء المنصوص على تحريم التفاضل فيها، وأمرنا بقياس غيره عليه كنا نقيس أغياره من الأشياء الستة ومن غيرها، فإن أراد به إثبات الأصول ابتداء من غير أن يكون هناك أصل ثابت فإن ذلك لا يتأتى؛ لأن القياس لا بدَّ له من أصل يُردُّ إليه، [و] إذا لم يكن هناك أصل لم يصح معنى القياس. واحتج: بأنه لو كان القياس صحيحاً لوجب أن تكون علته موجبة للحكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1290 قبل ورود الشرع كالعلة العقلية. والجواب: أن علة القياس هي أمارة للحكم، وإنما تصير أمارة إذا ورد الشرع بذلك، وتجرى العلة الشرعية في هذا الباب مجرى الأسماء على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فلهذا لم تكن أمارة للحكم قبل ورود الشرع. فصل والدلالة على جواز التعبد به من جهة الشرع: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبصَارِ) (1) . وحقيقة الاعتبار في اللغة (2) : حمل الشىء على غيره واعتبار حكمه به، إما في حكمه، أو قدره، أو صفته. ومنه يقال: اعتبر هذه الدراهم بهذه الصًّنْجَة. ويقال: أخذ السلطانُ الخراجَ العام على العام الماضي (3) . وإذا كان حقيقة الاعتبار ما ذكرنا، وهو محض القياس اقتضت الآية وجوب ذلك، والأمر به، والمصير إليه. فإن قيل: المراد بذلك النظر إلى ما فعلنا بهم. قيل: لو كان كذلك لم يخص أهل الأبصار بذلك، والاعتبار والنظر الذى ذكروه لا يختص أهل البصيرة، فإنه يُدرك بالحس والمشاهدة، فيشترك   (1) آية (2) من سورة الحشر. (2) قال ابن منظور في كتابه لسان العرب (6/205) مادة (عَبَر) : (وفي التنزيل "فَاعْتَبِرُوا يَأولِى الأْبصَارِ" أي: تدبروا، وانظروا فيما نزل بقريظة والنضير، فقايسوا فعالهم، واتعظوا بالعذاب الذي نزل بهم) . وانظر: معجم مقاييس اللغة (4/210) مادة (عَبَر) . (3) يعني: اعتبر السلطانُ الخراجَ في هذا العام بالعام الماضي، بمعنى قاسه عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1291 فيه من له بصيرة ومن لا بصيرة له؛ ولأنه حذَّر المخالفة وتوعد عليها بقوله: (ذَلِكَ بَانهُمْ شَاقُّوا اللهَ) (1) ، فثبت أن المراد ما ذكرنا من الامتناع من الاقدام على مثل أفعالهم (2) . وأيضاً: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ بن جبل: (كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله، أو قال: فإن لم تجد في [197/أ] ، كتاب الله؟ قال: فسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله، أو قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: الحمد لله الذى وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله) (3) . فإن قيل: هذا الخبر لا يصح إسناده؛ لأنه يرويه الحارث بن عمرو (4) ، ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حِمْص من أصحاب معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، وأناس من أهل حِمْص مجاهيل، فلا يصح التعلق به. قيل: هو خبر صحيح رواه أبو داود في سننه (5) ، وأبو عُبيد (6) في أدب   (1) آية (4) من سورة الحشر. (2) حتى لا يلحقنا ما لحق بهم، وهذا هو القياس. (3) هذا الحديث قد مضى تخريجه. (4) روى عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ في الاجتهاد، وروى عنه أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي، ذكره العقيلي وابن الجارودي وأبو العرب في الضعفاء. وذكره ابن حبان في الثقات. قال الذهبي وابن حجر: مجهول. مات بعد المائة. له ترجمة في: تقريب التهذيب (1/143) وتهذيب التهذيب (2/151) وميزان الاعتدال (1/439) . (5) في كتاب الأقضية باب اجتهاد الرأي في القضاء (2/272) . (6) هو القاسم بن سلاّم، وقد سبقت ترجمته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1292 القضاء وابن المنذر (1) . وقوله (2) : "أناس من أصحاب معاذ" يدل على شهرته وكثرة رواته، وقد عُرِف دينُه (3) ، والظاهر من أصحابه (4) الدين، والثقة، والزهد، والصلاح. وعلى أنه روى (5) وسُميَ رجل (6) منهم، وهو ثقة معروف، فروى عبادة ابن نُسَى (7) عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن   (1) هو: محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابورى. شيخ الحرم. ولد بنيسابور سنة (242هـ) . نزل مكة وسكنها. له كتب كثيرة، منها: الإجماع، والمبسوط، والإشراف. مات بمكة سنة (318 هـ) . له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/782) ، وشذرات الذهب (2/280) وطبقات الحفاظ ص (328) وطبقات الشافعية للسبكى (3/102) ولسان الميزان (5/27) وميزان الاعتدال (3/450) . (2) القائل: الحارث بن عمرو راوي الحديث. (3) أي دين معاذ - رضي الله عنه - قال الخطيب في كتاب: الفقيه والمتفقه (1/189) : (وقد عرف فضل معاذ وزهده) . (4) الضمير عائد على معاذ، رضي الله عنه. (5) قال الخطيب في المصدر السابق: (وقد قيل: إن عبادة بن نُسَي رواه عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة) . قال ابن حجر في كتابه التلخيص الحبير (4/183) تعليقاً على كلام الخطيب: (فلو كان الإِسناد إلى عبد الرحمن ثابتاً لكان كافياً في صحة الحديث) . قلت: قول الخطيب (وقد قيل ... ) يشعر بأن الرواية غير ثابتة عنده. ولو عبر المؤلف بمثل تعبير الخطيب لكان أولى. (6) في الأصل (رجلا) . (7) في الأصل: (بشر) وهو خطأ، والتصويب من كتاب الفقيه والمتفقه (1/189) ، والتمهيد في أصول الفقه (3/381) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1293 غَنْم ثقة مشهور (1) . فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد، فلا يصح أن يحتج به في هذه المسألة التي هي أصل. قيل: هذا أشهر وأثبت من قوله: (لا تجتمعُ أمَّتي على ضَلاَلة) وقد احتج به المخالف في الإجماع، فكان [هذا] (2) أولى (3) . وجواب آخر وهو: أنه إذا جاز أن تثبت الأحكام الشرعية بخبر الواحد،   = وهو: عبادة بن نُسَي -بضم النون وفتح المهملة الخفيفة- أبو عمرو الشامي، قاضي طبرية. روى عن عبادة بن الصامت وأبى الدرداء وغيرهما. وروى عنه برد ابن سنان والمغيرة ابن زياد الموصلى. ثقة. مات سنة (118هـ) . انظر ترجمته في: تقريب التهذيب (1/395) وتهذيب التهذيب (5/113) . (1) هو عبد الرحمن بن غَنْم -بفتح المعجمة وسكون النون- الأشعري، مختلف في صحبته. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر وعثمان وعلى وغيرهم. وعنه ابنه محمد ومكحول الشامي ورجاء بن حيوة وعبادة بن نُسَي وغيرهم. وثقه ابن سعد والعِجلي ويعقوب بن شيبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. مات سنة (78 هـ) . له ترجمة في تقريب التهذيب (1/494) وتهذيب التهذيب (6/250) . (2) الزيادة يقتضيها المقام، وهى من كتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/190) . (3) وقال هذا الجواب أيضاً الخطيب البغدادي في المرجع السابق بالنص. والخطيب يرى أن حديث معاذ - رضي الله عنه - قد احتج به الجميع، فيغني ذلك عن طلب الإسناد له. وتابعه على هذا ابن القيَّم في كتابه اعلام الموقعين (1/202) . وللشيخ الألباني رسالة تسمى: منزلة السنة من القرآن، ردَ فيه الحديث سنداً ومتناً، فارجع إليها إن شئت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1294 مثل تحليل وتحريم، وإيجاب وإسقاط، وتصحيح وإبطال، وإقامة حق وحدَّ، بضرب وقطع وقتل، واستباحة الفروج، وما أشبه ذلك، كان يثبت القياس به أولى؛ لأن القياس طريق لهذه الأحكام، وهى المقصودة دون الطريق (1) . فإن قيل: الذى يثبت به المخالف الأحكام ظاهر القرآن وخبر الواحد والاجماع المروى من طريق الآحاد المحتمل للتأويل واستصحاب حكم العقل. قيل: الشرع الذى يغيره ورود الشرع، وهذا كله من أدلة مسائل الفروع، فلم يصح ما ادَّعوه. فإن قيل: معناه: اجتهد رأيي حتى آخذ حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة إذ كان في أحكام الله تعالى من الأمور مالا يتوصل إليه إلا بالاجتهاد. قيل: الرجوع إلى الكتاب والسنة لا يسمى اجتهاداً، وإنما القياس يسمى اجتهاداً. وعلى أن معاذاً رتَّب ما يقع به الحكم وما يقتضي الحكم، فيجب أن يكون كل واحد منهما غير صاحبه. ويدل عليه أيضاً: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [197/ب] قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر) (2) . وهذا يدل على جواز الحكم باجتهاده ورأيه.   (1) هذا الجواب منقول بنصه في كتاب: الفقيه والمتفقه، الموضع السابق. (2) هذا الحديث رواه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (9/132) . وأخرجه عنه مسلم في صحيحه كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد وأخطأ (3/1342) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1295 فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد. قيل: قد أجبنا عن هذا (1) . فإن قيل: الاجتهاد في تأويل لفظ، وبناء لفظ على لفظ. قيل: هو عام في الجميع إلاّ ما خصه الدليل. وأيضاً ما روى أبو عُبيد في أدب القضاء بإسناده عن أم سلَمَة قالت: (كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد دَرَسَت، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليَّ، ولعل بعضكم يكون ألحنَ بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بحجته فاقتطع بها قطعة ظلماً فإنما يقطع بها قطعة من نار) (2) . وهذا نص، فإنه أخبر أنه يقضي برأيه واجتهاده.   = وأخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطىء (2/268) . ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذى في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي يصيب ويخطىء (3/606) . وأخرجه عنه النسائى في كتاب آداب القضاة، باب الإصابة في الحكم (8/197) . وأخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه في باب القول في الاحتجاج بصحيح القياس ولزوم العمل به (1/188) . (1) وذلك عند اعتراضهم الثاني على حديث معاذ رضي الله عنه. (2) هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه عن أم سلمة -رضي الله عنها- في كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم (9/86) ولفظه: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي نحوَ ما أسمع، فمن قضيتُ له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعة من النار) . وأخرجه عنها مسلم في صحيحه في كتاب الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1296 ويدل عليه إجماع الصحابة من وجهين. أحدهما: من جهة النقل. والثاني: من جهة الاستدلال. أما النقل: فقد روى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: (أقول في الكَلالة برأيي) (1) . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري في كتابه   = بالحجة (3/1337) . وأخرجه عنها أبو داود في سننه في كتاب الأقضية، باب: في قضاء القاضي إذا أخطأ (2/270-271) بمثل لفظ البخاري، وبمثل لفظ المؤلف. وأخرجه عنها الترمذي في سننه في كتاب الأحكام، باب: ما جاء في التشديد على من يقضي له بشىء ليس له أن يأخذه (3/615) . وأخرجه عنها النسائي في كتاب آداب القضاة، باب: الحكم بالظاهر (8/205) . وأخرجه عنها ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب: قضية الحاكم لاتحل حراماً ولا تحرم حلالاً (2/777) . (1) هذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب: حجب الإخوة والأخوات من قبل الأم (6/223) ولفظه: ( ... عن الشعبي قال: سئل أبو بكر - رضي الله عنه - عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ماخلا الولد والوالد، فلما استخلف عمر - رضي الله عنه - قال: إني لأستحي الله أن أرد شيئاً قاله أبو بكر) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب: الكلالة (10/304) ولم يذكر فيه موضع الشاهد. وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب الفرائض، باب: الكلالة (2/264) بمثل لفظ البيهقي. وأخرجه ابن جرير في تفسيره بسنده إلى الشعبي (8/53-54) برقم (8745، 8746، 8747) وفي السند الأول والثاني موضع الشاهد بمثل لفظ البيهقي مع = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1297 المشهور: (الفهم فيما أدْلِي (1) إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال والأشباه، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهِها بالحقِّ) (2) .   = اختلاف يسير. وأخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه في باب ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد (1/199) . وقد ذكر الأثر في كنز العمال (11/79) والدر المنثور (2/250) ونسب الأثر فيهما أيضاً إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر. كما ذكر ابن القيم في كتابه: اعلام الموقعين (1/82) أن الإِمام أحمد أخرجه بسند ذكره. ونقل الزركشي في كتابه المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر ص (223) عن ابن حزم أنه أعل الأثر بالانقطاع، لأن الشعبي لم يدرك عمر، فقد ولد بعده بعشرة أعوام. قلت: وفي كتاب المراسيل لابن أبي حاتم ص (102) أنه سمع أباه وأبا زرعة يقولان: الشعبي عن عمر مرسل. (1) في الأصل: (أدى) والتصويب من التمهيد (3/385) . (2) هذا الكتاب أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الأقضية والأحكام (4/206) . وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي، وما يفتي به المفتي (10/115) . وأخرجه الخطيب في كتابه: الفقيه والمتفقه، باب ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/200) . وهذا الكتاب مشهور ومعروف عند العلماء. قال ابن القيِّم في كتابه اعلام الموقعين (1/86) : (هذا كتاب جليل، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1298 وهذا كتاب تلقته الأمة بالقبول، وفيه أمر صريح بالقياس. وقال عمر لعثمان -رضي الله عنهما-: (إذا رأيتُ في الجد رأياَ فاتبعوني، فقال عثمان: إن نتبع رأيك فرأيُك رشيد، وإن نتبع رأى من كان قبلك فنعم ذو الرأى كان) (1) .   = وقد ذهب ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام (8/1003) إلى أن هذا الأثر لا تصح نسبته إلى عمر، رضي الله عنه. وقد ذكَر له سندين، ثم عقب عليهما بقوله: (قال أبو محمد: وهذا لا يصح؛ لأن السند الأول فيه: عبد الملك بن الوليد بن مَعْدان، وهو كوفي، متروك الحديث، ساقط، بلا خلاف، وأبوه مجهول. وأما السند الثاني: فمن بين الكرجي إلى سفيان مجهولون، وهو أيضاً منقطع، فبطل القول به جملة) . وقصده بالمجهولين: محمد بن عبد الله العلاف، وأحمد بن على بن محمد الوراق، وعبد الله بن سعد، وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني. وقد تعقبه الشيخ أحمد بن محمد شاكر في الهامش في السند الأول فقال: (أما عبد الملك فهو متوسط، ولم يضعفه أحد جداً إلا المؤلف، وأما أبوه فهو ثقة معروف، ذكره ابن حبَّان في الثقات) . وقد تعقَب الحافظ ابن حجر في كتابه التلخيص (4/196) ابن حزم فقال: (لكن اختلاف المخرج فيهما [يعني: الطريقين اللتين ذكرهما ابن حزم وأعلهما بالانقطاع، مما يقوي أصل الرسالة، لاسيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة) . قلت: وعلى هذا فالكتاب ثابت النسبة إلى عمر - رضي الله عنه - وبخاصة أن العلماء تلقوه بالقبول، كما يقول العلامة ابن القيم. والله أعلم. وراجع للاستزادة: نصب الراية (4/82) وإرواء الغليل (8/241) . (1) سبق تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1299 وقال زاذان (1) : تذاكروا الخيار (2) عند علي - رضي الله عنه - فقال: (إن أمير المؤمنين عمر قد سألني عنه، فقلتُ: إن اختارت زوجَها فهي واحدة، وزوجها أحق بها، وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة، فقال: ليس كذلك، ولكن إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها، فتابعتُ (3) أمير المؤمنين، فلما خلص الأمر إليّ عرفت أني أسأل عن التزويج (4) عدت إلى ما كنتُ أرى، فقلنا: والله لأمر جامعتَ عليه أمير المؤمنين، وتركتَ رأيك أحب إلينا من أمر تفردتَ به، فضحك، وقال: أما إنه قد أرسل (5) [إلى] ، زيد بن ثابت، فخالفني وإياه، فقال: وما قال زيد؟، قال: إن اختارت زوجها فهي واحدة، وزوجها أحق بها، وإن اختارت نفسها فهي ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره) (6) .   (1) هو: زاذان، أبو عبد الله، ويقال: أبو عمر، الكِندي بالولاء، الكوفي، الضرير، البزار. روى عن عمر وعلي وابن مسعود وسلمان وحذيفة وغيرهم. وعنه المنهال بن عمرو وعطاء بن السائب وغيرهم. وثَّقه ابن معين وابن سعد والخطيب والعِجلي. قال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. قال الحافظ ابن حجر: (صدوق، يرسل، وفيه شيعية) مات سنة (82 هـ) . له ترجمة في: تقريب التهذيب (1/256) وتهذيب التهذيب (3/302) . (2) المراد بالخيار هنا: أن الرجل يخيِّر زوجته، فتختاره أو تختار نفسها. (3) في الأصل: (فبايعت) والتصحيح من مراجع التخريج الآتية. (4) هكذا في الأصل، وفي مراجع التخريج الآتية (الفُرُوج) . (5) فاعل أرسل: عمر، رضي الله عنه. (6) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطلاق، باب: ما قالوا في الرجل يخيِّر امرأته فتختاره أو تختار نفسها (5/59) . وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الخُلع والطلاق، باب: ما جاء في التخيير (7/345) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1300 وروى عن علي أنه قال: (استشارني عمرُ في أمهات الأولاد فأجمعت أنا وهو على عتقهم [198/أ] ثم رأيت بعد أن أرقهم. فقال له عبيدة (1) : رأى ذوى عدل أحب إلينا من رأي عدل وحده) (2) . وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قصة بَرْوَع بنت واشق (3) : (أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأَ فمني ومن الشيطان) (4) .   = ويلاحظ: أن فتوى زيد - رضي الله عنه - مختلفة في المصدرين السابقين، ففي المصنف قال زيد: (إن اختارت نفسها فثلاث، وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة. وفي السنن قال زيد: (إن اختارت نفسها فثلاث، وان اختارت زوجها فواحدة، وهو أحق بها) وهذا موافق للفظ المؤلف. وقد نبه على ذلك محقق كتاب المصنف لابن أبي شيبة. (1) هو عبيدة السلماني، وقد سبقت ترجمته. (2) سبق تخريج هذا الأثر. (3) الأشجعية. صحابية. لها ترجمة في: الاستيعاب (4/1795) . (4) هذا الأثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتاب النكاح باب: فيمن تزوج ولم يسمِّ صداقاً حتى مات (1/488) ولفظه: (أن عبد الله بن مسعود أتي في رجل، بهذا الخبر. يعنى: في رجل تزوج امرأة، فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق. فاختلفوا إليه شهراً، أو قال: مرات، قال: فإني أقول فيها: إن لها صداقاً كصداق نسائها، لاوَكس ولا شطط، وإن لها الميراث، وعليها العِدَّة فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، فقام ناس من أشجع، فيهم الجرَّاح وأبو سنان، فقالوا: يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضاها فينا في بَروْعَ بنت واشق، وأن زوجها هلال = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1301 وقال عبد الله بن عباس -رضي الله [عنهما]- في ديات الأسنان لما قسَّمها عمر على اختلاف منافعها (1) : (اعتبروها بالأصابع؛ عقلها سواء وإن اختلفت منافعها) (2) . وقال عبد الله بن عباس: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً؟!) (3) .   = بن مُرة الأشجعي، كما قضيت، قال: ففرح عبد الله بن مسعود فرحاً شديداً حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم-) . وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/279) . وأخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه، باب ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/202) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب النكاح، باب: الذي يتزوج فلا يدخل ولا يفرض حتى يموت (6/294) . ويظهر من هذا: أن المسألة التي حكم فيها ابن مسعود مشابهة لمسألة يَروَع بنت واشق، التي حكم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليست هي، كما يفهم من ظاهر كلام المؤلف. (1) تقسيم عمر - رضي الله عنه - لديات الأسنان على اختلاف منافعها، أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه كتاب الحقول، باب: الأسنان (9/347) . كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الديات، باب: من قال: تفضل بعض الأسنان على بعض (9/190) . (2) هذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الديات، باب: الأسنان كلها سواء (8/90) ، وفيه: (لو لم يعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء) . وأخرجه ابن حزم في كتابه: الإحكام ص (1006) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب: الأسنان (9/345) . (3) هذا الأثر ذكره ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/131) ، بدون إسناد، ولفظه: (وقال ابن عباس: ليتق الله زيد، أيجعل ولد الولد بمنزلة الولد، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1302 وروى عن ابن عباس: (أنه كان إذا سئل عن شىء فكان في كتاب الله تعالى قال به، وإن لم يكن في كتاب الله، وحُدِّث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا حُدث به عن رسول الله وأخبر به عن أبي بكر وعمر قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا حُدِّث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أخبر به عن أبي بكر وعمر اجتهد وقال برأيه) (1) . وهذا يدل على صحة القول بالرأي والاجتهاد. فإن قيل: من حكيتم عنه القول بالقياس قد روي عنه بُطلانه. من ذلك ما روي عن أبي بكر أنه قال: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلُّني، إذا قلت في كتاب الله (2) برأيي؟!) . وعن عمر أنه قال: (إياكم وأصحابَ الرأي، فإنهم أعداء الدين، أعْيَتْهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا) (3) .   = ولا يجعل أب الأب بمنزلة الأب؟! إن شاء باهَلْتُه عند الحجر الأسود) . (1) هذا الأثر أخرجه الخطيب في كتابه: الفقيه والمتفقه، باب: ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/203) . وأخرجه ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم، باب: اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص (2/72) . (2) هذا الأثر أخرجه ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/64) ، عن أبي بكر، رضي الله عنه. كما أخرجه في الموضع نفسه عن علي، رضي الله عنه. وأخرجه الدارقطنى في سننه: في كتاب النوادر (4/146) قال أبو الطيب العظيم أبادي في تعليقه على سنن الدارقطنى في الهامش: (في إسناده مُجالد، وهو ضعيف، ضعَّفه ابن معين، ووثَّقه النسائي) . وأخرجه ابن حزم في كتابه: الإِحكام ص (779) . (3) هذا الأثر أخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/180-181) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1303 وروي عنه أنه قال: (إياكم والمكايَلَةَ، قيل: وما المكايَلَة؟، قال: المقايسة) (1) . وروي عن شريح قال: كتب إليَّ عمر بن الخطاب وهو يومئذ من قبله: (اقض بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله، فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع عليه أهل العلم، فإن لم تجد فلا عليك ألاّ تقضي) (2) . وعن على أنه قال: (لو كان الدين قياساً لكان باطن الخُف أحقَ بالمسح من ظاهره، ولكن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرها) (3) . وعن ابن مسعود أنه قال: (إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيراً مما حرم   = وأخرجه ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم، باب ماجاء في ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس ... (2/164-165) . وأخرجه ابن حزم في كتاب الإحكام ص (779) . ولم أجد في المصادر السابقة لفظ: (أعداء الدين) كما ذكر المؤلف، وإنما وجدت: (أعداء السنن) ، وهو الأنسب، والله أعلم. (1) هذا الأثر أخرجه الخطيب في المصدر (1/182) عن عمر رضي الله عنه، كما أخرجه في المصدر المذكور (1/183) عن الشعبي بلفظ: (إياكم والمقايسة) . وذكره ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم (1/167) عن الشعبي أيضاً. (2) هذا الأثر قد سبق تخريجه ص (1163) عند ذكر المؤلف له بلفظ: (إن لم تجد في السنة اجتهد رأيك) . (3) روى هذا أبو داود في سننه في كتاب الطهارة، باب: كيف المسح؟ (1/36) ، وفيه: (لو كان الدين بالرأي) بدل قول المؤلف: (لو كان الدين قياساً) . وأخرجه الخطيب من قول عمر - رضي الله عنه - في كتابه الفقيه والمتفقه (1/181) . وأخرجه ابن حزم في كتابه الاحكام ص (380) . وانظر هذا في: اعلام الموقعين (1/58) والتلخيص الحبير (1/160) وفيه يقول الحافظ ابن حجر: (إسناده صحيح) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1304 الله تعالى، وحرمتم كثيراً مما حلله الله) (1) . وعن ابن عباس: (أن الله تعالى قال لنبيه: (احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أنزَلَ اللهُ) (2) ، ولم يقل بما رأيت) (3) . وعنه أنه قال: (لو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى: (وَأن احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أنزلَ اللهُ) (4) . وروي عنه أنه قال: (إياكم والمقاييس، فإنما عُبِدت الشمسُ والقمرُ بالمقاييس) (5) . وعن عبد الله بن عمر أنه قال: (السنة ما سَنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[198/ب] لا يجعل الرأيُ سنةً للمسلمين) (6) .   (1) هذا الأثر أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/182) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - كما ذكر المؤلف. ذكره ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم عن الشعبي (2/94) . وأخرجه ابن حزم في كتابه: الإحكام ص (1073) عن الشعبي أيضاً. (2) آية (49) من سورة المائدة. (3) لم أقف على هذا الأثر في مصدر معتمد. (4) لم أقف على هذا الأثر في مصدر معتمد. (5) هذا الأثر سبق تخريجه ص (1278) عند ذكر المؤلف له بلفظ: (أول من قاس إبليس) . (6) هذا الأثر أخرجه ابن عبد البَر في كتابه، جامع بيان العلم (2/166) عن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - بلفظ: (السنة ما سنه الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تجعلوا خطأ الرأي سنةً للأمة) . وأخرجه عنه ابن حزم في كتابه الإِحكام (6/786) بمثل لفظ ابن عبد البَر. وذكره ابن القيِّم في كتابه: اعلام الموقعين (1/54) منسوباً إلى عمر - رضي الله عنه - بمثل لفظ ابن عبد البَر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1305 وقال الزبرقان (1) : (نهاني أبو وائل (2) أن أجالس أصحابَ الرأي) (3) . وقال مسروق: (لا أقيس شيئاً بشىء، أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها) (4) . قيل: أما قول أبي بكر: (أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله برأيي) ، فلا حجة فيه؛ لأنا نمنع القول في كتاب الله تعالى [بالرأي] . وقول عمر: (إياكم والرأي) فالمراد به: الرأي المخالف للحديث؛ لأنه قال: (أعيتهم الأحاديث أن يعوها) . وقال: (إياك وأصحاب الرأي. فإنهم أعداء السنن) والرأي المخالف لذلك فهو ضلال وإضلال. وكذلك قول علي: (لو كان الدين بالرأي) فالمراد به مع مخالفة السنة. والدليل على ذلك: ما روي عنهم من القول بالرأي والعمل به.   (1) هو الزبرقان بن عبد الله الأسدي الكوفي، أبو بكر السراج ثقة. روى عن أبي وائل وعبد الله بن معقل. وعنه يحيى بن سعيد وعباد بن عوام وعمر بن على بن مقدم وغيرهم. وثقه يحيى القطان ويحيى بن معين. له ترجمة في: كتاب الجرح والتعديل (ج أق 2 ص 610) . (2) هو: شقِيق بن سلمة الأسدي الكوفي أبو وائل. روى عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم، وعنه الأعمش ومنصور وحصين وغيرهم. وثقه ابن معين ووكيع وابن سعد وغيرهم. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة. مات سنة (82 هـ) . له ترجمة في: تاريخ بغداد (9/268) وتذكرة الحفاظ (1/60) ، وتقريب التهذيب (1/354) وتهذيب التهذيب (4/361) وطبقات الحفاظ ص (20) . (3) أخرج هذا ابن عبد البَر في كتابه جامع بيان العلم (2/179) ولفظه: (لا تُقاعِد أصحاب أرأيت) . (4) أخرج هذا الأثر ابن عبد البَر في المصدر السابق (2/167) ولفظه: (لا أقيس شيئاً بشىء، قلت لمه؟ قال: أخاف أن تَزِل رجلي) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1306 وعلى هذا كل ما روي عن الصحابة وعن أبي وائل ومسروق من ذم الرأي والقياس. والدليل على ذلك ما رويناه من إجماع الصحابة. والطريقة الثانية في الإجماع من جهة الاستدلال: فهو أن الصحابة اختلفت في الحوادث اختلافاً متبايناً. فاختلفوا في قوله: أنتِ عليَّ حرام. فقال بعضهم: يمين، تُكَفَّر. ومنهم من قال: فيها كفارة يمين، وليست بيمين. ومنهم من قال: طلاق رجعي. ومنهم من قال: طلاق ثلاث. ومنهم من قال: ظهار (1) . وهكذا اختلفوا في الجَدِّ: فمنهم من لم يقاسم بينه وبين الاخوة، وقالوا: الجد أب، [وهم] عشرة من الصحابة، منهم أبو بكر وابن عباس. ومنهم من قال: يقاسمهم إلى الثلث. ومنهم من قال: إلى السدس. ومنهم من قال: إلى نصف السدس (2) . فأقرَّ بعضهم بعضاً على ما ذهب، فإما أن يقولوا باجتهاد، أو بنص. فإن كان هناك نص لم يخل من ثلاثة أحوال:   (1) سبق ذكر الخلاف في هذه المسألة ص (1115) . (2) راجع في هذه الأقوال: السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الفرائض، جماع أبواب الجد، (6/244-251) ، والمصنف لعبد الرزاق كتاب الفرائض، باب فرض الجد (10/261-273) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1307 إما أن يكون خَفِي عليهم. أو علموه، وتركوه. أو علم به بعضهم دون بعض. فبطل أن يكون هناك نص خَفِي عليهم؛ لأنه يفضي أن يجمعوا على خطأ، وأن يخرج الأمر عن أيديهم. وبطل أن يقال: علموا به وتركوه؛ لأن هذا عناد. وبطل أن يقال: علم به بعضهم دون بعض؛ لأنه لو كان كذلك لأظهره الذى علمه، ورواه، وذكره. فلما لم يكن شىء من هذا ثبت أن القوم قالوا فيها باجتهادهم. ويؤيد هذا: أن القوم قاسوا الجَد على غيره، واعتبره عليُّ بالبحر، والأب بالنهر، والإخوة بالأنهار (1) . واعتبره زيد بالشجرة، والأب بالغصن، والإخوة بالأفنان (2) .   (1) هذا الأثر عن علي - رضي الله عنه - لم أجده بهذا اللفظ، إنما وجدت ما أخرجه البيهقي في كتاب الفرائض، باب: من ورث الإخوة مع الجد (6/248) بلفظ: (قال زيد: إلا أن علياً جعله سيلاً سال، فانشعبت منه شعبة، ثم انشعبت منه شعبتان، فقال: أرأيت لو أن ماء هذه الشعبة الوسطى يَبِس، أكان يرجع إلى الشعبتين جميعاً) . وبمثل هذا اللفظ: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب: فرض الجد (10/265) . (2) هذا الأثر -عن زيد بن ثابت- رضي الله عنه - أخرجه عنه البيهقي في المصدر السابق بلفظ: ( ... فقال زيد: يا أمير المؤمنين لا تجعل شجرة نبتت فانشعب منها غصن، فانشعب في الغصن غصنان، فما جعل الأول أولى من الثاني، وقد خرج الغصنان من الغصن الأول؟!) . وبمثل هذا اللفظ: أخرجه عبد الرزاق في المصدر السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1308 ثبت أن القوم أجمعوا على القياس، وعملوا به، وأقرَّ بعضهم بعضاً على ذلك. وحُكي عن داود أنه قيل له: إذا لم يكن الدليل عندك إلا نفس كتاب أو سنة، أو قياس لا يحتمل إلا معنى واحداً (1) . فلم اختلفت الصحابة؟! قال: خذل (2) القوم (3) . وهذا أعظم (4) ، فإنه لم يكفهم منع [199/أ] القياس حتى خطئوا الصحابة. وأيضاً: فإن الله تعالى كلف المجتهد معرفة أحكام الحوادث ليعمل بها لنفسه، أو ليفتي بها، أو يحكم بها بين الناس، فلابد أن ينصب هنا أدلة تعرف أحكام الحوادث بها. وذلك الدليل: إما أن يكون نصاً أو غيره؛ فبطل أن يكون نصاً؛ لأن الله تعالى ما نص على حكم كل حادثة، ولابد من معرفة حكمها، ثبت أن معرفة حكمها بالاجتهاد والاعتبار. فإن قيل: قد نص على حكم كل حادثة؛ إما نصاً أو دليل الخطاب. قيل: إذا اختلف المتبايعان، فقال كل واحد منهما: لا أدفع ما عليّ حتى أقبض مالي، فليس في تقديم واحد منهما دليل من جهة النص. وكذلك: إذا اختلفا والسلعة قائمة، تحالفا، وليس في تقديم أحدهما نص ولا دليل خطاب. وكذلك قوله لزوجته: أنتِ عليَّ حرام؛ منهم من قال: طلاق.   (1) في الأصل: (واحد) . (2) ضبطها في الأصل بتشديد الذال مع الكسر. (3) لم أقف على قول داود هذا. (4) في الأصل (عظم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1309 ومنهم من قال: ظهار. ومنهم من قال: يمين. وليس في هذا دليل. فإن قيل: إن لم يكن هناك نص صرنا إلى حكمها بدليل العقل. والناس في هذا على مذاهب؛ منهم من قال: الأشياء على الحظر. ومنهم من قال: على الإباحة. ومنهم من قال: على الوقف. فيبنى حكم الحادثة على هذا. قيل: في الحوادث ما يقف قياس العقل فيها، وهو ما ذكرنا من اختلاف المتبايعين في الإقباض، وغير ذلك. وكذلك قوله: أنتِ علي حرام، ليس للعقل في هذا مجال، في تقديم بعضهم على بعض. فإن قيل: يصير في ذلك إلى استصحاب الحال. قيل: ولا يمكن أيضاً استصحاب الحال فيما حكينا من المسائل؛ لأن الحال قد زالت. فإن قيل: فبالإجماع يقضي فيها. قيل: منها ما لم يجمعوا عليه، بل اختلفوا فيه. وعلى أنكم وإن صرتم إلى الإجماع، فالإجماع لا ينعقد على الحكم فيها إلا بدليل، وذلك الدليل ينقسم على ما قلناه في أول المسألة، فلابد لهم من نص أو اعتبار. وهذه الطريقة معتمدة في المسألة. وأيضاً: فإن الله تعالى ذكر أحكاماً ونص على معانيها، فقال: (مِنْ أجْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1310 ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بني إسْرَائِيلَ) (1) . وقال في الفيء: (كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَة بَيْنَ اْلأغْنِيَاءِ مِنْكُم) (2) يعني نصصت على حكمه لهذا. وكذلك قال: (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنهَا وَطَراً زَوجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى اْلمُؤْمِنِينَ حَرَج في أزْواجِ أدْعِيَاءِهِمْ إذَا قَضَواْ مِنْهُن وَطَراً) (3) . وكذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما فعلتُ ذلك من أجل الدَّافَّة) (4) . وقال: (إنّما جُعِل الاستئذانُ من أجلِ البَصَر) (5) . فإذا نص الله ورسوله على الأحكام وذكر معانيَها، ثبت أنه إنما نصَّ على   (1) آية (32) من سورة المائدة. (2) آية (7) من سورة الحشر. (3) آية (37) من سورة الأحزاب. (4) هذا جزء من حديث، قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن ادّخار لحوم الأضاحى فوق ثلاثة أيام من أجل الدافة. وقد سبق تخريجه عند ذكر المؤلف له بلفظ: (كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي ... ) . والدافة: قوم من الأعراب يردون المِصْر، والمعنى: أن هناك قوماً قدموا المدينة في عيد الأضحى، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تدخر لحوم الأضاحي، من أجل أن تفرق عليهم، فينتفعوا بها. انظر: النهاية في غريب الحديث (2/26) ، مادة (دفف) . (5) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الامتشاط (7/211) . وأخرجه في كتاب الاستئذان باب الاستئذان من أجل البصر (8/66) رقم الحديث كما في الفتح (5924، 6241، 6901) . وأخرجه مسلم في كتاب الأدب، باب تحريم النظر في بيت غيره (3/1698) رقم (2156) . وأخرجه الترمذي في كتاب الاستئذان باب من اطّلع في دار قوم بغير إذنهم (5/64) رقم الحديث (2709) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1311 المعنى حتى إذا عرف الحِقَ به [199/ب] ، ما وجد فيه ذلك المعنى. فإن قيل: إنما نص على معنى الحكم ليعرف معناه. قيل: لا فائدة في معرفة معناه، وقد عرف معناه بالنظر. وطريقة أخرى وهو: أن القياس مفهوم كلام العرب ومعقولها، بدليل من له ابنان، ضرب كل واحد منهما زوجة نفسه، ثم إن أباهما ضرب أحدهما، فقيل له: لم ضربته؟. فقال: لأنه ضرب زوجته. وإذا قيل له: فالآخر أيضاً قد ضرب زوجته، فلم لم تضربه؟! فمتى لم يأت باعتذار في هذا سقط كلامه، وبان نقصه (1) . فثبت أن القياس مأخوذ من مفهوم كلامهم. وأيضاً: فإن الاجتهاد في طلب القبلة عند الخفاء واجب، وإنما يستدل عليها بالعلامات، كالشمس والقمر والنجوم والجبال والرياح، وهذا محض القياس؛ لأنه يقيس القبلة على هذا النجم وعلى طلوع الشمس وغروبها، ويهدى إليها بها. فإن قيل: إنما لزمه الاجتهاد في طلب القبلة؛ لأن الشرع ورد بالطلب. قيل: قد سلمتم أنه ورد بالعمل على القياس. فإن قيل: القبلة واحدة، وشخص واحد كلف طلبه، فليس كذلك حكم الأرز؛ لأنه كلف حكمه، وحكمه يختلف. قيل: لا فرق بينهما وذلك أن له في الأرز حكماً طلبناه من البُر، كما أن له في الكعبة حكماً طلبناه من هذه الأدلة، فالبُر في حكم الأرز، كهذه الأدلة   = وأخرجه أحمد في مسنده: (5/330، 334، 335) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه كتاب الجامع، باب الرجل يطَّلع في بيت الرجل (10/383) رقم الحديث (19431) . في التمهيد (3/410) : (بَانَ نَقْضُه) بالضاد المعجمة، وهي أولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1312 في طلب القبلة. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَالَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) (1) . وقوله تعالى: "وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ" (2) . والجواب: أن هذه حجة عليهم في نفيهم القياس بأمور محتملة غير مقطوع بها، ولا معلومة، فقد قالوا على الله ما لا يعلمون. على أن ذلك محمول على منع القول بما ليس بعلم، فلا يجرى مجراه من القياس والاجتهاد، بدلالة قوله: (فَاعْتَبِرُواْ يَا أولِى اْلأبصَارِ) (3) ، وحديث معاذ. وجواب آخر، وهو: أن الحكم بالقياس معلوم، ويكون ذلك بمنزلة الحكم بشهادة الشاهدين، إذا غلب على ظن الحاكم صدقُهما وعدالتُهما، والتوجه إلى القبلة إذا غلب على ظنه أنها في جهة، فإن وجوب الحكم بها وفعل الصلاة إليها معلوم، وإذا كان كذلك، فلم نَقْفُ ما ليس لنا به علم. واحتج بقوله تعالى: (إِنَّ الظنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَق شَيْئاً) (4) .   (1) آية (36) من سورة الإسراء. ووجه الاستدلال: أن القياس قَفْو لما لا علم لهم به. انظر: الاحكام لابن حزم ص (1055) . (2) آية (169) من سورة البقرة. ووجه الاستدلال من الآية: أن القول بالقياس حرام؛ لأنه قول على الله مالا نعلم، وذلك مما يأمر به إبليس: (إنَّمَا يَأمرُكُم بِالسوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأن تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ) . انظر: الإحكام لابن حزم ص (1055) . (3) آية (2) من سورة الحشر. (4) آية (28) من سورة النجم. ووجه الاستدلال من الآية: أن القياس ظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1313 والجواب: أن المراد به الظن الذي هو تخمين وحَدْس، لم يقع عن طريق صحيح. فأما الظن (1) الواقع عن أمارة وطريق صحيح، فهو جار مجرى العلم في وجوب العمل به، كما يقول المخالف في الحكم بقول الشاهدين، وبقول المقومين، وقبول قول زوجته في حيضها وطهرها [200/أ] ، وقبول قول القَصاب في ذبيحته، والتوجه إلى القبلة باجتهاده. واحتج بقوله تعالي: (وَمَا اخْتَلَفتُمْ فِيهِ من شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ) (2) . وقال تعالى: (فَإن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء فردُّوهُ إلَى اللهِ وَالرسُولِ) (3) . والجواب: أنه لم يرد به إلى ذات الله وذات رسوله، وإنما المراد إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله، والرد إلى القياس رد إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإنه عليهما يحمل، ومنهما (4) تستنبط المعاني ويقاس عليها. واحتج بما روىٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ستفترقُ أمتي على بِضْع وسبعين فِرْقة، أعظمُها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيُحرِّمون الحلالَ ويُحللون الحرامَ) (5) .   (1) في الأصل: (وأما الطريق) . (2) آية (10) من سورة الشورى. ووجه الاستدلال من الآية: أن المختلف فيه حكمه إلى الله، وليس إلى القياس. (3) آية (59) من سورة النساء. ووجه الاستدلال: أن المتنازع فيه يجب رده إلى الله والرسول، والقول بالقياس رد إلى غير الله والرسول. (4) في الأصل: (منها) . (5) هذا الحديث رواه عوف بن مالك -رضي الله- مرفوعاً. أخرجه عنه الطبراني في الكبير والبزار (10/79) . قال الهيثمى في مجمع الزوائد: (ورجاله رجال الصحيح) (1/179) . وأخرجه ابن عبد البَر بسنده في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/163) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1314 والجواب: أن المراد بذلك الرأي المخالف للكتاب والسنة، ومن فعل ذلك فقد ضلَّ، ودخل تحت الوعيد (1) . واحتج بأنه لو كان العمل بالقياس واجبا لم يخلُ العمل بذلك من أن يكون ضرورةً أو استدلالاً، وليس يسوغ ادعاء العلم الضروري في وجوب ذلك؛ لأنا لا نجد نفوسنا مضطرة إلى العلم بذلك ولا تتعرى من الشكوك. وإن كان العلم بوجوده استدلالاً لم يخلُ إمَّا أن يكون الاستدلال عقلاً أو شرعاً. والعقل لا مدخل له في إيجاب ذلك؛ لأن العلم بأصول الأشياء التي يقاس عليها لا يقع من ناحية العقول، ولا يجوز أن يفرِّق الله تعالى بين الخمر وسائر الأشربة في الحكم، فيحرم الخمر ويبيح غيرها مع تساويها (2) في الإسكار، والعقل يسوى بينهما. ولو كان ثبوته شرعاً لظهر، وليس في وجوب ذلك خبر.   = وأخرجه الخطيب في كتابه: الفقيه والمتفقه (1/180) . وأخرجه ابن حزم في كتاب الاحكام (8/1068) . والحديث قد ارتضاه ابن حزم كما في المرجع السابق. وكذلك الهيثمي. ولكنَّ أبا الخطاب في كتابه التمهيد (3/402) قال: (إنه خبر غير معروف) . وقال الشيخ أحمد شاكر في هامش كتاب الإحكام لابن حزم: (حديث ضعيف) . وقد تجنب المؤلف الطعن فيه، فلعله ذهب إلى صحته. (1) هذا أحد الأجوبة، وهناك جواب ثان: بأنه حديث غير معروف، وقد سبقت الإشارة إليه. وجواب ثالث، ذكره أبو الخطاب في كتابه السابق: (أنه خبر واحد غير مشهور، فلا يحتج به في الأصول) . (2) في الأصل: (تساويهم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1315 وتحرير هذه الدلالة: أن العلم بوجوبه، إذا لم يكن من ناحية المعقول، ولا شرع ورد بذلك لم يجز القضاء به. والجواب: أنا نَقْلِبُ هذا الدليل فنقول: لو كان القول بالقياس باطلاً، لم يخلُ العلم ببطلانه من أن يكون ضرورةً أو استدلالاً. ولا يمكن ادعاء الضرورة لما يعترينا في بطلانه من الشك، والعقول لا مجال لها في بطلانه. ولأن نفاة القياس يجوزون أن يتعبد الله تعالى بإلحاق سائر الأضربة المسكرة بالخمر من طريق القياس، فلو بطل الحكم بالقياس لم يبطل إلا شرعاً، والشرع هو الخبر عن الله تعالى وعن رسوله، ولا خبر بذلك، فلم يجز الحكم ببطلانه. وجواب آخر: وهو أنا أثبتنا ذلك بالشرع، وقد ظهر ذلك بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أوْلِى اْلأبصَارِ) (1) وبحديث معاذ، وإجماع الصحابة. فإن قيل: ما ذكرتموه من الشرع غير معلوم؛ لأنه خبر واحد، فلا يجوز إثبات مسائل الأصول بخبر الواحد. قيل [200/ب] : لم نذكر ما يوجب العلم ويقطع العذر، وإذا لم يكن فيه دليل حال ثبوته بخبر الواحد على أنا قد ذكرنا الآية، وهي مقطوع بها، والخبر الذى ذكرنا متلقى بالقبول، وإجماع الصحابة مقطوع به. واحتج: بأن، القياس حمل الفرع على الأصل بعلة وشَبَه (2) ، وأجمعوا أن ذلك لا يقف على شهوة المعلل واقتراحه، بل يكون تابعاً للدليل، وليس يخلو الدليل من أن يكون عقلاً أو شرعاً. والعقل لا يدل على ذلك؛ إذ ليس بعض صفات المعلل أولى بذلك من بعض.   (1) آية (2) من سورة الحشر. (2) في الأصل: (شبهة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1316 وحكم الأصل أيضاً لم يعلم عقلاً. ولأنه لا وجه يدعي الخصم أنه علة إلا وهو يجوز أن يرد الخبر بأن العلة سواه، فبطل أن يكون للعقل مجال في ذلك. ولا يجوز أن يكون العلم بالعلة قياساً على النص لوجهين: أحدهما: أن ذلك القياس لابدَّ له من علة، ولا بدَّ في تعريف تلك العلة من قياس يأتي، والكلام في ذلك كالكلام في الذي قبله، وهذا يفضى إلى ما لا نهاية له، فلم يبق إلا النص. وإذا كانت العلل منصوصاً عليها، جاز حمل غير المنصوص عليه على ما تناوله النص عند كثير من أهل الظاهر. ولا يجوز أن يكون ما تذكرونه من وجود الحكم في الأصل المعلَّل عند وجود الصفة وعدمها عند عدمه، دلالة على كونها علة يجب القياس عليها لوجود الحكم في كثير من المواضع، موجود عند وجود شيء ومعدوم عند عدمه، مع اعترافنا بأنه ليس بعلة. ألا ترى أنا نجد العصير حلالاً قبل حدوث الشدة فيه لا يَكْفُر مستحله، فإذا حدثت الشدة صار حراماً يَكْفُر مستحله، ثم إذا ارتفعت الشدة عنه صار حلالاً، ولم يَكْفُر مستحله، ولم يجب من أجل ذلك أن تكون الشدة علة للتكفير؛ لأنَّا لا نكفر مستحل كل شديد. والجواب: أن القياس هو: حمل الفرع على الأصل بعلة وشَبَه، قد دل الدليل على صحتها، وذلك يحصل من خمسة أوجه: أحدها: لفظ صاحب الشريعة بنصه، أو تنبيهه (1) ، أو إجماع الأمة، أو تأثيرها، وهو يوجد الحكم بوجود المعنى، ويعدم بعدمه أو شهادة   (1) في الأصل: (أو تنبيه) ودلالة السياق تدل على ما أثبتناه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1317 الأصول، أو قيام الدليل على بطلان ما سواها، وقد شرحنا ذلك في الخبر الذى بعده. وإذا كان كذلك، لم يلزم ما قالوه؛ لأن قولهم: ليس بعض الصفات أولى من بعض غلط؛ وذلك أنه إذا تعارض فيه أمارتان، عرضناهما على الأصول، فأيهما كان أشد اطراداً وانعكاساً وتأثيراً، كان أولى. وقولهم: إنه يجوز أن يَرِد الخبر بأن الحكم سواه، فهذا لا يتصور بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما في حياته فإنه ما من [201/أ] حكم ثبت بالنص إلا ويجوز أن يَرِد نص بخلافه، ثم لم يمنع ذلك كونه دليلاً. وقولهم: إن مستَحِلَّ النبيذ والنقيع لا يَكْفُر، وإن كانت علة الكفر موجودة فيه وهي الشدة غلط؛ لأن العلة في كفر مستَحِلِ الخمر الإجماع على تحريمه، فليس العلة في كفره الشدة. وذلك الإجماع لا يوجد في غيره مما تحله الشدة، فلهذا لم نُكَفرْه. وقولهم: يحتاج في تعريف العلة إلى علة أخرى إلى ما لا نهاية له غلط، لأنَّا (1) . واحتج: بأن القياس لا يصح إلا بثبوت علة الأصل، وأنهم يدعون علة الأصل، ولا يمكنهم إقامة الدليل عليها، فلم يصح القياس بعلة مدعاة لا دليل عليها. والجواب: أنا لا نقيس إلا بعد ثبوت علة الأصل، وإنما نبين فيما بعد ثبوتها، والأمارة الدالة عليها، إن شاء الله تعالى. واحتج: بأن علة الأصل إذا ثبتت لا يجب أن يتعدى الحكم إلى كل موضع توجد فيه علة الأصل، ولهذا إذا قال رجل: اعتقت عبدي؛ لأنه أسود، لا   (1) بياض في الأصل يقدر بكلمتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1318 يوجب ذلك أن يعتق كل عبد له أسود. والجواب: أن العلة إذا ثبتت وجب الحكم بها في كل موضع وجدت؛ لأنها أمارة على الحكم، وإذا وجدت الأمارة والدلالة وجب الحكم بها. وأما قول الرجل: أعتقت عبدي؛ لأنه أسود، فإنه لا يعتق سائر عبيده السودان؛ لأن المناقضة جائزة عليه، وليس كذلك صاحب الشريعة، فإنه لا يجوز التناقض في قوله، فوجب طرد تعليله. واحتج: بأن القصد بالقياس طلب الحكم فيما لا نص فيه ولا توقيف، فليس عندنا حكم إلا وقد تناوله نص وتوقيف، فلم يكن للقياس معنى. والجواب: أنا نعلم أحكاماً كثيرة لا نص فيها، من ذلك: جواز قتل الزنبور في الحِّل والحرم، وليس فيه نص، وإنما قيس على العقرب. وإذا تعمد ترك الصلاة يجب قضاؤها، وليس في ذلك نص، وإنما قيس على من نسيَها أو نام عنها (1) .   (1) وجوب القضاء هنا إما بالأمر الأول وإما بأمر جديد. وقد اختار المؤلف (1/293) أن القضاء يكون بالأمر الأول، ومعنى هذا: أنه ليس في حاجة إلى القياس. والذي تميل إليه النفس: أن القضاء لا يجب إلا بأمر جديد، وليس هناك أمر جديد بوجوب القضاء على من ترك الصلاة عمداً، فاضطر القائلون بالقضاء للقياس على من نام أو نسيَ الصلاة، فقد ورد النص في ذلك: (من نام عن صلاة أو نسيَها فليصلِها إذا ذكرها) ، وقد سبق تخريجه (1/297) . إلا أن القياس -في رأيي- غير صحيح؛ لأن النص وارد فيمن تركها لعذر، وهذا قد ترك الصلاة عمداً. ولذلك يرى بعض العلماء أن القضاء إنما وجب عليه بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فدينُ الله أحق بالقضاء) . وذهب جمع من المحققين إلى أن من ترك الصلاة عمداً لا يقضي، وإنما عليه التوبة، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1319 وإذا ماتت فأرة في غير السَّمن (1) . وإذا ماتت سنور في السَّمن (2) وما أشبه ذلك كثير. ومن المسائل الغامضة فأكثر من أن تحصى. وجواب آخر: وهو: أنه ليس من شرط القياس أن يكون النص معدوماً، وإنما شرطه أن لا يكون مخالفاً للنص، فإذا لم يكن مخالفاً للنص صح القياس، مع وجود النص، ومع عدمه. واحتج: بأن حكم الفرع لا يخلو أن يوجد من الاسم والمعنى، أو من الاسم دون المعنى، أو من المعنى [201/ب] دون الاسم. فإن أخذ من الاسم والمعنى، فقد أخذ بالنص بلا قياس. وكذلك إن أخذ من الاسم، ثبت نصاً، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بالمعنى؛ لأن هذا كان موجوداً فيه ولا حكم، وهو قبل معرفة أحكام الشريعة، فلم يبق إلا أن يكون باطلاً. والجواب: أن الاعتبار بالاشتراك في المعنى، إلا أنه يجوز القياس عند الأمر به، وقبل ورود الشرع لم يكن هناك أمر بالقياس، فلذلك امتنع القول به. واحتج: بأن القياس: حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه، وما من شىء يشبه شيئاً من وجه إلا ويفارقه من وجه آخر، كموضع الافتراق. والجواب: أن القياس إنما يجب عند اجتماعهم في معنى الحكم واشتراكهما فيه. والافتراق الذي يذكرونه هو افتراق في غير معنى الحكم، لا يؤثر في جواز   = وبخاصة عند من حكم بكفره. والله أعلم. انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص (197) . (1) والنص وارد في الفأرة في السَّمن. (2) والنص وارد في الفأرة في السمن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1320 الجمع، ولو أنهما افترقا في معنى الحكم لامتنع القياس. واحتج: بأن القياس حمل الشيء على غيره في بعض أحكامه بضرب من الشبه، وليس يخلو: إما أن يعلموا ذلك بالنص أو بالقياس. فإن قلتموه نصاً، صار حكم الفرع منصوصاً عليه. وإن قلتموه قياساً، فقد أثبتم قياساً بقياس. والجواب: أن هذا يلزمهم في نفي القول بالقياس؛ فإنه لا نص لهم دال عليه، ولا يجوز أن يقولوا ذلك قياساً. على أننا علمنا وجوب ذلك بالأصول التي دلت عليه من الكتاب والإِجماع، حسب ما بَينَّا. واحتج: بأنه لا يخلو: إما أن يكون المعنى المستنبط مماثلاً له، أو أنقص منه، أو أزيد. ولا يجوز أن يكون مثله؛ لأن ذلك يوجب تساويهما، ولا يكون في القياس فائدة. وباطل أن يكون أنقص؛ لأنه يفضي إلى تخصيص الأصل وإسقاط بعض حكمه. وباطل أن يكون أعم؛ لأن المدلول لا يكون أعم من الدليل. فإذا بطلت هذه الأقسام، بطل القياس. والجواب: أن الأقسام الثلاثة كلها جائزة في القياس، ولا يفضي إلى ما ذكروه، فإنه قد يكون المعنى مماثلاً للفظ، كقوله في الرضاع: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، وتكون فائدة القياس معرفة معنى النص، والفرق بينه وبين المنصوص الذي لا يعرف معناه. وقد يكون المعنى أخص من اللفظ، مثل قوله: (وَالسَّارِق وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1321 أيدِيَهُمَا) (1) والمعنى فيه: أن يسرق نصاباً من حِرْز مثله، لا شبهة له فيه. ولا يكون هذا تخصيص اللفظ؛ لأنا لا نخصه بهذا القياس، فإنه مماثل في حكمه، وإنما نخصه بلفظ آخر. وقد يكون [202/أ] المعنى أعم من اللفظ، مثل المعنى المستنبط في مثل خبر عبادة بن الصامت في علة الربا (2) ، فإن الأصل البُر، وحكمه مقصور عليه لفظاً، وفزعه أعم من لفظه، فإن معناه مكيل، فاكتفى به كل مكيل لأنا عقلنا الحكم بمعناه، ومعناه أعم من لفظه. وقد يكون المدلول أعم من الدليل، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبِس؟ قالوا: نعم، فنهى عنه) . وهذه العلة موجودة في سائر ما ينقص من الرطب وغيره. واحتج: بأن تجويز القياس يفضي إلى أن يكون الشيء فرعاً لأصل، ويكون أصلاً لغيره، فإنه قد يقاس غيره عليه. والجواب: أن هذا غير ممتنع، وهو موجود في المشاهدة، فإن النخلة (3) قد تكون فرعاً لنخلة أخرى وأصلاً لغيرها، والمكيال قد يكون فرعاً لمكيال وأصلاً لمكيال. وهذا في العقليات، وفي الشرعيات يجوز أن يكون الشيء أصلاً لغيره في حكمه، وفرعا لغيره في حكم آخر، فأما في حكم واحد فلا يتصور.   (1) آية (38) من سورة المائدة. (2) أخرج هذا الخبر مسلم في صحيحه (3/1210) بلفظ: ( .... إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عيناً بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ... ) . (3) في الأصل: (النخل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1322 واحتج: بأن العلل الشرعية لو كانت دالة (1) على الحكم وموجبة له لكانت تطرد وتنعكس، فلا توجد إلا والحكم موجود معها، ولا يوجد حكمها إلا عند وجودها، كالعلل العقلية. والجواب: أن هذه العلل ليست عللاً في الحقيقة، ولا موجبة الأحكام، وإنما هي أمارات وعلامات نصبها الله تعالى لهذه الأحكام أدلة عليها، فهي تجري مجرى الأساس، فتدل على الحكم في الموضع الذي نُصب دون غيره. وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن تكون بهذه الصفة، وإن لم تطَّرد وتنعكس، لأن العلل العقلية على ضربين: تطرد وتنعكس، كالحركة في التحرك، وعلة لا تنعكس، وإنما يوجد الحكم عند وجودها فحسب، كقول الرجل: اضرب [من] ، في الحبس، واضرب من هو خارج من الحبس، وإذا كان الرجل في الحبس ضرب لكونه في الحبس، وإذا كان خارجاً ضرب لكونه خارجاً. وكذلك الجواب عن قولهم: لو كانت علة في الحقيقة لما اختصت بزمان دون زمان، كالعلة العقلية، يتعلق الحكم بها قبل الشرع وبعده، وذلك أنا نقول: ليست بعلة في الحقيقة موجبة للأحكام، وإنما هي أمارة عليها (2) كالأسماء. ثم نقول: لا فرق بينهما، وذلك أن سبب تلك العلل العقل، والعقل لا يختص بزمان دون زمان، بل هو عام في جميع الزمان، فكان علته أيضاً عامة فيها. والعلة الشرعية سببها الشرع، والشرع يختص ببعض الأزمنة دون بعض. واحتج: [202/ب] بأنه لو كان دليلاً على بعض الأحكام لكان دليلاً في جميعها.   (1) في الأصل: (دلالة) . (2) في الأصل: (عليه) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1323 والجواب: أن القياس يحتاج إلى شرائط، وليس توجد تلك الشرائط في سائر الأحكام حتى يصح استعمال القياس فيها، على أن الأحكام قد تختلف في أدلتها، فيكون الشيء دليلاً في بعضها دون بعض، كخبر الواحد، يدل على ثبوت الأحكام في الفروع ولا يدل على إثبات الأصول (1) . واحتج: بأن أهل اللغة لايستعملون القياس في كلامهم، فإن القائل لو قال لوكيله: اشتر لي سَلَنْجَبِيناً فإنه يصلح للصفراء، لم يصلح أن يشتري له رمَّاناً، وإن كان يصلح للصفراء. والجواب: أن السلَنْجَبِين يختص بمعانٍ لا توجد في الرمان، فلذلك لم يجز أن يشتريه. وقد ورد عن أهل اللغة ما يوجب القول بالقياس، فإن رجلاً لو كان له ابنان، فضرب أحدهما، فقيل له: لم ضربته؟ قال: لأنه ضرب أمه. وكان الآخر قد ضرب أمه، فإن يصلح أن يَرِد عليه، فنقول: والآخر ضرب أمه أيضاً، فلم لم تضربه؟!. وكذا لو قال: لا تعط فلاناً إبرة لكي لا يعتدي بها، فلا يصلح أن يعطَه سكيناً؛ لأن معناهما واحد، فثبت أنهم يقولون بالقياس، ويعملون عليه. على أنا نقول بالقياس في المواضع التي دل الدليل الشرعي عليه وكلفنا إياه وفي تلك المواضع لم يدل الدليل الشرعي عليه، فلم يجب القول به.   (1) وذلك لأنه ظني، والأصول لا تثبت بالظن. هذا رأي فريق من الأصوليين. والذى يبدو لي أن خبر الواحد إذا ثبتت صحته سنداً، واستقام أمره متناً أنه تثبت به الأحكام في الفروع والأصول، وبخاصة ما تلقته الأمة بالقبول كأحاديث الصحيحين. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1324 فصل [أقسام القياس] وإذا ثبت الأصل في القياس، فالكلام في أقسامه (1) . وجملته: أن القياس على ضربين: واضح، وخفي. فالواضح: ما وُجد معنى الأصل في الفرع بكماله (2) ، كعلة الربا، نصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الربا في البُر، فحملنا الأرز عليه؛ لأن فيه معنى البُر (3) من الكيل والجنس. وقد استعمل أحمد -رحمه الله- هذا القياس في رواية ابن القاسم فقال: "لايجوز الحديد والرصاص متفاضلاً، قياساً على الذهب والفضة" (4) . والثاني: القياس الخفي: وهو قياس غلبة الشبه (5) ، وصورته: أن يتجاذب الحادثةَ أصلان، حاظر ومبيح، ولكل واحد من الأصلين أوصاف خمسة،   (1) راجع هذا الفصل في: روضة الناظر مع شرحها (2/254) والمسودة ص (374) والمعتمد (2/842) فقد أفاد المؤلف منه. (2) وقد سماه أبو الحسين في كتابه المعتمد (2/843) : قياس المعنى، وعرَّفه بقوله: (أن يكون شبهُ فرعه بأصله لا يعارضه شَبه آخر) . وهو معنى ما قاله المؤلف. (3) هذا إشارة إلى حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وقد سبق تخريجه بلفظ: (الذهب بالذهب..) الحديث. وقد ورد ذلك من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وقد مضى تخريجه بلفظ: (ينهى عن بيع الذهب بالذهب..) الحديث. (4) قد مضى الكلام على مقتضى هذه الرواية ص (1281) (5) وقد عرفه أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/843) بقوله: (أن يكون الشبه أقوى من شَبه آخر، فهو أولى بأن يتعلق الحكم به لقوة أمارته) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1325 والحادثة لا تجمع أوصاف واحد منهما، غير أنها بأحد الأصلين أكثر شبهاً، مثل أن كانت بالإباحة أشبه بأربعة أوصاف، وبالحظر بثلاثة أوصاف، ففي هذا روايتان: إحداهما: ليس هذا بقياس أصلاً، والقياس ما وُجد في الفرع أوصاف الأصل بكمالها، فإذا وجد بعضها في الفرع، لم يكن قياساً. نص عليه أحمد - رضي الله عنه - في رواية أحمد بن الحسين بن حسان فقال: "القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، [203/أ] فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال، فأردتَ أن تقيس عليه، فهذا خطأ، قد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعض، فإذا كان مثله في كل أحواله فأقبلتَ به وأدبرتَ به، فليس في نفسي منه شيء" (1) . والرواية الثانية: أنه قياس صحيح، وتلحق الحادثة بأكثرهما، ولا يؤخَر (2) حكمها. وقد نبه أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية حرب في يهودي قذَف يهودية يتلاعنا؟ قال: "ليس لهذا وجه؛ لأنه ليس عدلاً، واللِّعان إنما هو شهادة، وليس بعدل فتجوز شهادته". كأنه لم ير بينهما اللِّعان (3) .   (1) هذه الرواية موجودة بنصها في: التمهيد (4/5) . (2) في الأصل: (لوحد) بدون إعجام لكلا الحرفين. (3) هذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد -رحمه الله- واختارها الخِرَقي. والرواية الثانية: أن اللِّعان يمين، وهو المذهب. وقدمه في الرعايتين. واختاره ابن قدامة في المغني وانتصر له. وهو الراجح إن شاء الله. انظر: المغني (7/392) ، والكافي (3/277) والمقنع (3/256) ، والروض المربع (3/200) والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف.. (9/239) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1326 فقد قاس اللِّعان على الشهادة في امتناعه من الكافر، مع قلة شَبَهِه بالشهادة وكثرة (1) شَبَهِه بالأيمان. فدلَّ هذا من قوله على جوازه مع كثرة الشَّبه. وقد نقل ابن منصور عنه الفرق بينهما فقال: "لو كان معناه معنى الشهادة، فقذفها وهو فاسق، لم يلاعن. ولو كان معناه معنى اليمين (2) لكان يشهد هو، وتشهد هي". فإن قلنا: إنه ليس بقياس صحيح. وقد حُكي ذلك عن أصحاب أبي حنيفة (3) . فوجهه: أنه إذا كانت علة الأصل ذات أوصاف ثلاثة، وعلة (4) الفرع ذات وصفين، لم يوجد في الفرع معنى الأصل بكماله، فلا يكون علة. ولو كان الوصفان علة لكان الحكم يتعلق بها، فلما لم يكن علة ثبت أنه لا يجوز تعليق الحكم بها. وإذا قلنا: إنه قياس صحيح، وهو قول أصحاب الشافعي (5) ، فوجهه: ان الحادثة لا بدَّ لها من حكم، فإذا لم يدل على حكمها كتاب ولا سنة ولا   (1) في الأصل: (ذكر) . (2) في الأصل: (الشهادة) . (3) انظر: تيسير التحرير (4/53) ومسلم الثبوت (2/301) . (4) في الأصل: (وعدد) . (5) وهو ما صرح به الإِمام الشافعي في الرسالة ص (479) حيث قال: (والقياس من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه. وأن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فيلحق بأولاها به وأكثرها شبهاً فيه، وقد يختلف القائسون في هذا) . وانظر: البرهان (2/868) والمعتمد (2/842) والمحصول (5/277) والمستصفى (2/310) والإحكام للآمدي (3/271) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1327 إجماع وجب الاجتهاد في طلب حكمها بالقياس على الأصول، فإذا لم يكن لها شبه إلا بهذين الأصلين، انقطع حكمها عن سواها، ولم يجز أن يعلق حكم الأصلين معاً بها؛ لأنها متناقضة. فلم يكن بُد من إلحاقها بأحدهما، فكان إلحاقها (1) بالأشبه أولى؛ لأنها به أشبه، فغلبنا حكم الأكثر؛ لأن الأصول على هذا، قال الله تعالى: (فَأما مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ في عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأما مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأمهُ هَاوِيَةٌ) (2) فغلَّب الأكثر. وكذلك قلنا في الماء المطلق، إذا خالطه مائع طاهر، كالورد، ونحوه: إن كان الغالب الماء، فالحكم له، وإن كان الغالب الورد، فالحكم له. وكذلك قلنا في الشهادات: إن كان الغالب الطاعات، فهو عدل مقبول الشهادة، وإن كان الأغلب المعاصي، فهو فاسق مردود الشهادة. وقد قال أحمد - رضي الله عنه - في رواية أحمد بن أبي عبدة في الرجل يكذب: "إن كثُر كذبُه لم يُصل خلفه" (3) . فأما قولهم: إذا لم يوجد في الفرع أوصاف الأصل بكماله، فليس هناك [علة] . والجواب: أنه كذلك، ولكن ألحقنا حكم الحادثة بهذا الأصل، من حيث إنه به أشبه. فأما أن نقول [203/ب] : الوصفان في (4) الفرع علة، فلا نقول هذا. فإن قيل: فيحكم في الحادثة بغير دليل؟ قيل: يحكم بغير قياس، ولكن بأنه أشبه بهذا الأصل من سائر الأصول. إذا تقرر هذا، وأن قياس غلبة الشَّبَه حجة، فهو على ضربين:   (1) في الأصل (الحاقه) . (2) الآيات (6-9) من سورة القارعة. (3) قد سبق ذكر هذه الرواية وترجمة ناقلها (3/927) . (4) في الأصل: (من) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1328 أحدهما: أن يكون الشبه بالأوصاف. والثاني: بالأحكام (1) . فالأوصاف: أن يتجاذبها أصلان، حاظر ومبيح، فالحاظر أسود، والمبيح أبيض، والحادث سواد وبياض فنعتبره بهما، فبأيهما أشبه ألحقناه. وأما الشبه بالأحكام: كالعبد أخذ شبهاً من الأحرار، لأنه مخاطب مكلف، وأخذ شبهاً من الأموال؛ لأنه يُباع ويُورث، فننظر بأيهما أكثر شبهاً نلحقه به. فصل [قياس الأصول] فأما قياس الأصول: فأن تكون الحادثة لها أصل في الحظر، وأصول في الإباحة، فكان ردها إلى أصول كثيرة، أولى من ردها إلى أصل واحد (2) . مثال ذلك: إذا أبان زوجته بطلقة، فتزوجت من أصابها وطلقها، ثم تزوجها الأول، عادت معه على ما بقي معه من الطلاق (3) .   (1) هذا ذهاب من المؤلف إلى أن قياس غلبة الشبه حجة بضريبه، الشبه بالأوصاف والشبه بالأحكام. والقول بالشبه في الأحكام قال به الإِمام الشافعي. انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/843) . (2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/231) وشرح الكوكب المنير ص (7/724) والمسوَّدة ص (376) والمعتمد (2/851) . (3) في مسائل ابن هاني النيسابوري التي نقلها عن الإمام أحمد (1/236) : (قلت: تذهب إلى حديث عمر: هي على ما بقيت عنده، في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين فتتزوج. قلت لأبى عبد الله: ألها أن تتزوج؟ قال: نعم، إذا انقضت عدتها، قال عمر بن الخطاب: هي على ما بقى) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1329 خلافاً (1) لأبى حنيفة في قوله: دخول الثاني يعدم ما بقي من الطلاق (2) ، وذهبوا إلى أنها رجعت إليه بعد زوج وإصابة، أشبه المطلقة ثلاثاً، فقاسه على أصل واحد، وقسناه على ثلاثة أصول، فقلنا: إصابة ليست بشرط في الاباحة، أشبه وطء السيد أمته، والوطء في النكاح الفاسد، ووطء زوج ثالث. [قياس الجنس] وأما قياس الجنس فهو أولى (3) ، مثل أن تكون الحادثة من الطهارة، فكان   = وذكر ابن قدامة في المغني (7/261) روايتين: الأولى: ترجع إليه على ما بقي من طلاقها، كما ذكر المؤلف. ونسبه ابن قدامة إلى أكابر الصحابة. الثانية: أنها ترجع إليه على طلاق ثلاث، كما ذكر الحنفية. ونسبه ابن قدامة إلى بعض الصحابة. وذهب ابن قدامة إلى الرواية الأولى، وانتصر لها. وذكر ابن قدامة الروايتين في كتابه: الكافي (3/237) ولم يرجح إحداهما، غير أنه بدأ بذكر الرواية الأولى. وقد جزم المرداوى في كتابه: الإنصاف (9/159) : أن الرواية الأولى هي المذهب وعليها الأصحاب، وجزم بها في الوجيز ... ثم ذكر الرواية الثانية، وذكر أنها من نقل حنبل. قلت: وعلى هذا ففي المسألة الفقهية روايتان، فيكون في المسألة الأصولية روايتان، إلا أن الرواية الأولى هي المذهب في المسألتين، وهو ما اختاره المؤلف. (1) في الأصل (خلا) . وانظر تفصيل هذا في كتاب أصول السرخسي (2/264) ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت (2/329) . (2) هذا حقيقة مذهب الحنفية أصولاً وفروعاً، وراجع في هذه المسألة كتاب البناية في شرح الهداية للعيني (4/ 616) . (3) انظر: المسودة ص (376) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1330 ردها إلى الطهارة، أولى من ردها إلى الصلاة. أو تكون من الصلاة، ويمكن ردها إلى الزكاة وإلى الصلاة، فكان ردها إلى الصلاة أولى؛ لأنها من جنسها. فصل [تقديم العلة لقلة أوصافها] فإن تقابلت علتان (1) ، إحداهما ذات وصفين والأخرى ذات ثلاثة أوصاف، لم يخلُ إما أن تكونا (2) من أصل واحد، أو من أصلين. فإن كان أصلهما واحداً، كعلة الربا، الفرع الأرز، والأصل البُر، فعلتنا: مثل، مكيل، جنس (3) . وعلة مالك: مطعوم، مقتات، جنس (4) .   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/235) والواضح (2/853) و (3/1239) والمسودة ص (379) . (2) في الأصل: (يكون) . (3) ذكر المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين (1/316-317) ثلاث روايات: إحداها: مطعوم جنس. والثانية: العلة ذات وصفين: مكيل جنس، أو موزون جنس. والثالثة: العلة: ما يكال أو يوزن مما يؤكل. وقد ذكر ابن قدامة في كتابه المغني (414) هذه الروايات الثلاث، منقولة من كتاب الروايتين والوجهين، مع تفصيل للأقوال الأخرى. فارجع إليه إن شئت. وعلى هذا فما ذكره المؤلف هنا رواية في المذهب، ولعلها الرواية التي اختارها المؤلف وهي الرواية المقدمة في المذهب الحنبلي. انظر: الروض المربع بحاشية الشيخ العنقري (2/107) . (4) هذا رأي المالكية بإضافة وصف آخر، وهو: الادخار. انظر: كتاب الكافي لابن عبد البَر (2/646) ، والشرح الصغير على أقرب المسالك (3/73) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1331 وعلة الشافعي في القديم: مطعوم، مكيل، جنس (1) . فالتي قلَّت أوصافها أولى من وجهين: أحدهما: أن التي قلت أوصافها أكثر فروعاً، والتي كثرت أوصافها أقل فروعاً، فكان ما كثُرت فروعها (2) أولى. ولأن التي قلَّت أوصافها يسهل الاجتهاد فيها ويقرُب، والتي كثرت أوصافها يصعب الاجتهاد فيها ويبعد. فكانت الأقل أوصافاً أولى. هذا إذا كانت العلتان من أصل واحد. فأما إن كانتا (3) من [204/أ] أصلين، أحدهما يدل على الحظر، والآخر يدل على الإِباحة. وكانت علة أحد الأصلين ذات أوصاف خمسة، وعلة الأصل الآخر ذات أوصاف أربعة، وكانت [في] كل واحد من الأصلين بكمالها موجودة في الفرع، كان رده إلى ما كثرت الأوصاف فيه أولى؛ لأنه به أشبه. فها هنا هما علتان، إلا أن التي هي بأحد الأصلين أكثر أوصافاً أولى. ويفارق هذا قياس غلبة الشَبّهَ؛ لأنه (4) ليس بقياس صحيح على إحدى الروايتين (5) ؛ لأن معنى الأصل غير موجود بكماله في الفرع، فلهذا لم يكن علة.   (1) العلة عند الإِمام الشافعي في القديم: الطعم مع الكيل أو الطعم مع الوزن. أما في الجديد -وهو القول الأصح عند الشافعية- فهي الطعم. انظر: المهذب مع شرحه المجموع (9/395-396) . (2) في الأصل (فروعه) . (3) في الأصل: (كانا) . (4) في الأصل: (أنه) . (5) سبق الكلام على قياس الشبه ص (1325) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1332 وها هنا أوصاف الأصل بكماله موجودة في الفرع، فلهذا كان علة. فإذاً هذا القياس استوفى أوصاف أصله. وقياس غلبة الشَّبَه ما استوفى أوصاف أصله. مسألة [دلالة مفهوم الموافقة] فأما الحكم الثابت من طريق التنبيه فلا يسمى قياساً (1) ، وإنما هو مفهوم   = هذه مسألة عقدها المؤلف للكلام عن دلالة مفهوم الموافقة هل هي لغوية أو قياسية؟ والخلاف فيها مشهور ومعروف. وقد اختار المؤلف أن دلالته لغوية، وهو الحق إن شاء الله، وذلك لقوة أدلته التي أورد المؤلف بعضاً منها. ولمفهوم الموافقة تعريفات كثيرة، منها ما ذكره إمام الحرمين في كتابه البرهان (1/449) ، حيث قال: (هو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأوْلى) ، وهو تعريف مرض، إلا أن قوله (من جهة الأوْلى) يفيد اشتراط الأولوية في المفهوم الموافق، بمعنى: أن يكون المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق به، كما مثل المؤلف بقوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أف) فإن المنطوق به: تحريم التأفيف، والمسكوت عنه: تحريم الضرب ونحوه، ولاشك أن الضرب أوْلى بالتحريم من التأفيف. وقد اختلف الأصوليون فيما لو كان المسكوت عنه مساوياًَ للمنطوق به في الحكم، هل يعد مفهوم موافقة أو لا؟ مثل قوله تعالى: (إنَ الَّذِينَ يَأكلُونَ أموَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا يَأكُلُونَ في بُطونِهِمْ ناراً وَسيَصْلَوْنَ سَعِيراً) . فلو احرق مالُ اليتيم فإن ذلك مساوٍ للأكل في ضياع ماله. وهو ما يشعر به كلام المؤلف عندما مثل بتنصيف حد العبد الزاني؛ لأن الله تعالى = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1333 الخطاب وفحواه، نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أفّ) (1) إن الضرب ونحوه من الإضرار بالوالدين ممنوع [منه] بمعنى اللفظ. وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أربع لا تجوز في الضحايا، العوراءُ البَين عَوَرُها، والعرجاءُ البَيِّنُ عَرَجُها ... ) (2) فلما نصَّ على العوراء، كانت العمياء مثلها في المعنى لمعنى اللفظ.   = نص على ذلك في حد الأمة، والعبد مثلها، وليس بأولى منها. انظر: تيسير التحرير (1/94) والمستصفى (1/190) . (1) سورة الإسراء آية (23) والآية في الأصل: (ولا ... ) والمثبت من المصحف. هذا الحديث رواه البَرَاء بن عازب - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الضحايا، باب: ما يكره من الضحايا (2/87) ولفظه: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بيِّن عورُها، والمريضة بين مرضُها، والعرجاء بيِّن عرجُها، والكَسِير التي لا تنقي) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي (4/85) . وقال: (حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث فَيْروز عن البَراء. والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم) . وأخرجه عنه النسائى في كتاب الضحايا، باب ما نهي عنه من الأضاحى: العوراء (7/188) . وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحَّى به (2/1050) . وأخرجه الدارمى في كتاب الأضاحي، باب ما لا يجوز في الأضاحي (2/4) . وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/284، 289، 300، 301) . وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الضحايا باب ما ينهى عنه من الضحايا ص (298) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1334 وكذلك لما نصَّ على العرجاء، كانت المقطوعة الأربع في معناها وزيادة من طريق اللفظ. وكذلك قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (1) ونص في الإِماء على النصف (2) ، كان العبد مثلها على النصف من طريق اللفظ لوجود المعنى (3) . وكذلك قوله عليه السلام، (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ، كان الجوع والعطش ونحوهما في معناه بمعنى اللفظ لوجود معناه، وهو [ما] يغير خُلُقَه وفهمَه. وكذلك قوله -في الفأرة تقع في السَّمن-: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فأريقوه) . فكانت العصفورة في معنى الفأرة، والشحم الجامد في معنى السمن الجامد،   = وأخرجه الطحاوي في كتاب شرح معاني الآثار في كتاب الصيد والذبائح والأضاحي، باب العيوب التي لا يجوز الهدايا والضحايا إذا كانت بها (4/68) . وأخرجه أبو داود الطيالسي في كتاب الهدايا والضحايا، أبواب الأضحية (1/229) بترتيب الساعاتي. وابن الجارود في المنتقى باب ما جاء في الضحايا ص (304) حديث (907) والحديث صحيح. وانظر: إرواء الغليل (4/360) وتخرج أحاديث اللُمع في أصول الفقه للغُماري ص (284) . (1) سورة النور آية (2) في الأصل: (والزانِيةُ) بزيادة الواو، وهو خطأ. (2) إشارة إلى قوله تعالى (فَإِذَا أحْصِن فَإِنْ أتيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْف مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) (25) النساء. (3) في الأصل (البعض) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1335 والشحم الذائب كالسَّمن الذائب، وكذلك الزيت والشَّيْرَج (1) . وكذلك قوله تعالى: (مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ) (2) . وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كنتُ نهيتُكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدَّافة، ألا فادَّخروا ما بدا لكم) . كل هذا من معنى اللفظ. وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسان فقال: "إنَّما القياس أن يقيس الرجل على أصل، فأما أن يجيء إلى أصل فيهدمه فلا". فحدَّ (3) القياس بما كان على أصل مستنبط. وكذلك قال في رواية الميموني: "سألت الشافعي عن القياس فقال: عند الضرورة، وأعجبه ذلك" [204/ب] . ومعنى قوله: "عند الضرورة". إذا لم يجد دليلاً غيره من كتاب أو سنة، والاحتجاج بالتنبيه يجوز مع وجود دليل غيره. وقال في رواية الميموني: "بر الوالدين واجب، ما لم يكن معصية، قال تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أف) . فاحتج على وجوب برهما بقوله: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أف) (4) فدل على أنه مستفاد من جهة اللفظ.   (1) الشيرج على وزن زينب، معرب، وهو: دهن السِّمْسِمْ. انظر: المصباح المنير. مادة (شَرَج) . (2) آية (32) من سورة المائدة. (3) في الأصل (حد) بدون إعجام. انظر: التمهيد (4/5) . اية (23) من سورة الإسراء، والآية في الموضحين: (ولا) وهو خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1336 وهو قول أصحاب أبي حنيفة (1) . وقال أصحاب الشافعي: ذلك مستفاد من جهة القياس، لكنه قياس جلي لا يحتاج إلى فكر وتأمل (2) . وهو اختيار أبي الحسن الجزري من أصحابنا. ذكره في جزء فيه مسائل   (1) هذا العزو ليس محرراً، فإن أصحاب الإِمام أبي حنيفة مختلفون في هذه المسألة، فبعضهم قال: بأنه مفهوم من دلالة النص، وبعضهم قال: إنه مستفاد من جهة القياس، وسموه قياساً جلياً. انظر: ميزان الأصول للسمرقندي ص (398) وكشف الأسرار (1/73) وأصول السرخسي (241) وأصول الشاشي ص (104) . (2) هذا رأي الإِمام الشافعي كما في الرسالة ص (513) ، وهو ما نقل عنه في جمع الجوامع (1/242) . وقد اختاره إمام الحرمين في البرهان (م/786) ، حيث قال: ( ... وهذه مسألة لفظيه، ليس وراءها فائدة معنوية، ولكن الأمر إذا رد إلى حكم اللفظ فعدُّ ذلك من القياس أمثل، من جهة أن النص غير مشعر به من طريق وضع اللغة وموجب اللسان) . ولكن هناك رأياً ثانياً لبعض الشافعية، وهو: أن دلالته لفظية، ولهم في تفسير ذلك اتجاهان: الأول: أنها فهمت من ناحية اللغة، وهذا ما نسبه الشيرازي في التبصرة ص (227) إلى بعض الشافعية، ولم يفصل. الثاني: أنها فهمت من السياق والقرائن، وهو قول الغزالي في المستصفى (2/190) والآمدي في الإحكام (3/63) . وبناءً على ما تقدم يكون عزو المؤلف عن أصحاب الشافعي أنهم يقولون بأنه مستفاد من جهة القياس ليس محرراً، فإن ذلك قول إمامهم وبعض أصحابه، إلا أن يكون القول الثاني لم يقل به أحد من الشافعية حتى انقضى زمن المؤلف، فيتجِه. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1337 الأصول، في موضعين منه، فقال: مفهوم النص هو القياس (1) . دليلنا: أن القياس ما يختص بفهمه أهل النظر والاستدلال، فيفتقرون في إثبات الحكم به إلى ضرب من النظر والاستدلال والتأمل بحال الفرع والأصل. فأما ما دل عليه فحوى الخطاب الذي ذكرناه، فإنه يستوي فيه العالم والعامي العاقل (2) الذي لم يَدْرِ ما القياس، فكيف يجوز إجراءُ اسم القياس عليه؟!. وأيضاً: فإن أهل اللغة لا يختلفون أن من نهي عن التأفيف لوالديه، عقل منه تحريم الشتم والضرب، كما أن من أمر بتعظيم زيد، عقل منه ترك الاستخفاف به. وكما أن من وُصِف (3) بالعجز عن حمل شىء يسير، عقل منه عجزه عن حمله ما هو فوقه. ومن، حمل نفسه على دفع ذلك لم يكن في حد من يُناظَر. وإذا كان هذا من اللفظ لم يجز إطلاق اسم القياس عليه. ولأن ذلك يضاف إلى الخطاب، فيقولون: مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه يدل على ثبوته نطقاً. ولأن ما ثبت باللفظ ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، ألا ترى أنه لو قال: اقتلوا أهل الذمة لأنهم كوافر، جاز قتل عبدة الأوثان بهذا اللفظ، وإن لم يتناولهم اللفظ من طريق الصيغة، لكن من طريق العلة والشَّبه، فكذلك هاهنا.   (1) النسبة عنه موجودة في الروضة (2/201) والقواعد والفوائد الأصولية ص (287) . (2) في الأصل: (العقل) . (3) في الأصل (صف) بإسقاط الواو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1338 واحتج المخالف: أن الحكم المستفاد بالنص ما كان ثابتاً بالاسم واللفظ، وقوله: (فَلاَ تَقل لَّهُمَا أف) إنما تناول لفظه المنع من التأفيف، فأما المنع من الضرب، فلم يتناوله اللفظ، ولا استفيد منه، وإنما استفيد من (1) الاسم بمعنى، وهو أنه لما منع من التأفيف لأجل الأذى، وكان الأذى موجوداً في الضرب وزيادة، منع منه، فثبت أنه مستفاد بالقياس لا باللفظ. ويوضحه قول (2) النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ، لا يفهم أنه لا يقضي بينهما في حال الجوع والعطش، فإذا لم يكن هذا مستفاداً من اللفظ ولا [205/أ] معقولاً منه ثبت أنه مستفاد من معناه ومقيس (3) عليه. والجواب: أنه وإن لم يكن الضرب منصوصاً عليه، فقد بينّا أن اللفظ قد دل عليه، وأنه يقع في فهم السامع، كذلك تحريم الضرب والشتم، فثبت أن اللفظ دل عليه من مفهومه وفحواه. وإذا كان كذلك، لم يصح تسميته قياساً؛ لأن القياس يقتضي معنى آخر، وهو أنه يختص بعلمه أهلُ النظر، ويحتاج إلى تأمل الأصل والفرع، وهذا لا يحتاج إليه هاهنا. ولأنَّا قد بينَّا أن ما ثبت باللفظ، ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، كقوله: اقتلوا أهل الذمة لكونهم كوافر، جاز قتل عبدة الأوثان وإن لم تتناولهم صيغة اللفظ.   (1) في الأصل: (عن) . (2) كلمة (قول) : مكررة في الأصل. (3) في الأصل: (مقيساً) بالنصب، وحقه الرفع عطفاً على خبر (أن) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1339 مسألة [التعليل بالاسم] يجوز أن تجعل الأسماء عللاً للأحكام (1) ، سواء في ذلك الأسماء المشتقة، كقولك: قائم، وقاعد، وشاتم، وضارب. وأسماء الألقاب كقولك: زيد، وعمرو، وحمار، وحائط، وماء، وتراب. وقد نصَّ عليها أحمد -رحمه الله- فقال في رواية الميموني: "يجوز التوضؤ بماء الباقلاء والحمص؛ لأنه ماء، إنما أضفته إلى شىء لم يفسده" (2) . فقاس الماء المضاف على المطلق، وهو اسم علم ولقب. وقال أيضاً في رواية الميموني في نصراني محصَن أسلم ثم زنا بعد إسلامه: "يرجم بذلك الإحصان، لأنه زانٍ، ارجمُه بإحصانه" (3) . فعلَّق الحكم بالزنا والإحصان، وهو اسم مشتق. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني (4) .   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/41) والمسوَّدة ص (393) وشرح الكوكب المنير ص (4/42) . (2) هذه الرواية موجودة في: التمهيد (4/41) ، وأشار إليها ابن قدامة في المغني (1/12) حيث ذكر الميموني من جملة من نقل عن الإمام أحمد جواز الوضوء بمثل ماء الباقلاء والحمص. (3) نحو هذه الرواية روى إسحاق بن إبراهيم بن هاني النيسابوري في مسائله (2/91) عن الإِمام أحمد، ولفظه: (سألت أبا عبد الله عن رجل كانت له امرأة في دار الحرب، فخرج إلى دار الاسلام، فأسلم، فزنا، قال أبو عبد الله: دخل بها؟ قلت: نعم، قال: قد أحصَنتْه، عليه الرجم) . (4) كذا ذكره السمرقندى في كتابه الميزان ص (585) إلا أنه عقَّب عليه بقوله: (كذا قال بعضهم) . ثم علق على المسألة بقوله: (ولكنا نقول: إن عني به أنه تعلق بعين = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1340 وأصحاب الشافعي فيما حكاه الإسفراييني (1) . وحُكي عن قوم أنه لا يصح أن يكون الاسم علة، لقباً كان أو مشتقاً (2) ، وإنما تصح العلة إذا كانت صفة، مثل قولنا: شدة مطربة، ومطعوم جنس، وولادة، وتعصيب، وقرابة، وما أشبه ذلك. أو تكون حكماً، مثل قولنا: [طهارة] (3) وكفارة، ونحو ذلك. ومنهم من قال: يصح أن يكون الاسم المشتق علة، ولا يصح أن يكون اللَّقب علة (4) . دليلنا: أن ما جاز أن يرد به الشرع نطقاً؛ جاز أن يكون مستنبطاً، كالصفة   = الاسم [فـ] لا يصح؛ لأن الاسم يثبت بوضع أرباب اللغة، ولهم أن يسموا الخمر باسم آخر. وإن عني به المعاني القائمة بالذات التي بها استحق هذا الاسم، وهو كون المائع النيء من ماء العنب، بعدما غلى واشتد وقذف بالزبد، فهذا مسلَم، ولكن حينئذ يكون هذا تعليق الحكم بالمعنى لا بالاسم) . وانظر: المعنى في أصول الفقه للخبَّازي ص (342) . (1) ذكر الشيرازى في التبصرة ص (454) أن للشافعية ثلاثة أقوال، ثالثها يجوز أن يجعل الاسم المشتق علة، ولا يجوز أن يجعل الاسم اللقب علة. ومنه يتبين أن قول الإسفراييني فيما نقله عنه المؤلف من أن أصحاب الشافعي يقولون بالجواز ليس على إطلاقه. وانظر: المحصول (5/422) وجمع الجوامع (2/234) ونهاية السول (4/254) والإبهاج (3/89) . (2) وبه قال بعض الشافعية كما في التبصرة للشيرازي الموضع السابق. (3) زدنا هذه الكلمة بدليل حرف العطف في قوله: (وكفارة) وبدلِيل ما يأتي في نفس ال مسألة . (4) وبه قال بعض الشافعية، كما في التبصرة الموضع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1341 والحكم، ولا خلاف أنه لا يمتنع أن يجعل صاحبُ الشريعة الاسم علةً على الحكم وأمارةً عليه، كما يجعل الصفة والحكم علة، فيقول: حرمتُ الخمر؛ لأنها مسماة خمراً. وإن شئت قلت: ما جاز أن يكون منصوصاً عليه، جاز أن يكون مجتهداً فيه، إذ ما جاز إظهاره جاز إضماره، أو ما جاز إبداؤه جاز إخفاؤه، أو ما جاز إطلاعه جاز إبداعه. وأيضاً: فإن ما دل على صحة العلة، فإنه يدل على أنه يصح أن يكون الاسم علة، وهو التأثير، وشهادة الأصول. وإذا دل على صحة ذلك، جاز أن يكون علة، كالصفة والحكم [205/ب] . ولأن علل الشرع علامات على الحكم، والأسامي علامات لتمييز الأعيان، بل الاسم قد يكون أدل على تعريفه من صفة من صفاته. فإذا جاز تعلق الحكم بالصفة، جاز ذلك بالاسم أولى. واحتج المخالف: بأن الأسامى لا تكون عللاً في العقليات، كذلك في الشرعيات. والجواب: أن علل العقل موجبة، والأسامي ... (1) أن لا يطلق (2) عليه أهل اللغة فخرج الاسم عن أن يكون علة (3) . واحتج بأن الاسم سبق الحكم؛ لأن هذه الأسماء كانت موجودة قبل الحكم. فلو قلنا: تكون علة للحكم، لسبقت العلةُ الحكمَ. والجواب: أنه باطل بالصفة، فإنها سابقة للحكم؛ لأن الأشياء كانت مأكولة مكيلة قبل ثبوت الربا، ومع هذا فهي علل، وإنما لا يصح أن تتأخر   (1) بياض في الأصل يقدر بكلمة. (2) في الأصل: (ينطلق) . (3) الكلام فيه خلل واضطراب، ولم استطع تقويمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1342 العلة عن الحكم. فإذا قال: لأنه مختلف في (1) ، سبق الحكم العلة، فلا يصح. فأما أن تسبق العلةُ الحكمَ، فلا يمتنع، وإنما لم يوجد الحكم بوجودها قبل الحكم، لأنها علل مجعولة، فلما جاز الحكم، وجعلت علة، ثبتت علة له. واحتج: بأن العلة إنما تصح من أحد وجهين؛ إما بالسبر والاستنباط، كالمطعوم والمأكول، أو بأن ينبه صاحب الشرع عليها، كقوله: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبس) ؟ (وإنما فعلتُ ذلك لأجل الدَّافَة) . فأَما بالاسم فلا يصح؛ لأن حكم الاسم ثابت بالنص، ومعروف به. فقوله: إنما حرمت البُر متفاضلاً، ثابت بالنص. والجواب: أن الاسم الذي نقول إنه علة: ما ثبت بالسَّبْر والاستنباط والخبر، وأَثَّر، وشهدت له الأصول. فإن قولنا: "بول الآدمي نجس" اختبرناه، فوجدناه يؤثر، فألحقنا به بول كل حيوان لا يؤكل لحمه. ولو قلنا: "بول مالا يؤكل لحمه نجس"، لم يكن هذا علة؛ لأنه عرف حكمها بالنص. وإنما الخلاف في الاسم المختبَر، الذي عرض على الأصول، فلم ترده. ألا ترى أنه لو قال: "الخارج من السبيلين نجس"، كان باطلاً بالمني. فإذا قال: بول، لم يبطل بشىء، وهو خارج من مخرج الحدث. واحتج: بأن الاسم إذا كان مشتقاً، كان تحته معنى، فإن قوله: قاتل، معناه: أنه قَتَل، فإذا صح أن يعلق الحكم على معناه كذلك صح أن يعلق به. ويفارق هذا إذا كان الاسم علماً ولقباً؛ لأنه لا يشتمل على معنى، فلهذا   (1) في الأصل: (فيه) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1343 لم يكن علة. والجواب: أنه كذلك، لكن الحكم ما علق بالمعنى الذي تضمنه، وإنما علق بنفس الاسم. فإذا صح تعليقه بالاسم الذي يتضمن معنى، فتكون العلة الاسم دون معناه، كذلك جاز [206/أ] أن يكون اللقب علة للحكم، وإن لم يكن متضمناً للمعنى. فإذا تقرر هذا، فكل معنى من معاني الأصل، أو صفة، مثل قولنا: شدة مطربة، وطعم في جنس (1) ، وولادة، وتعصيب، وقرابة، وما أشبه ذلك. أو حكماً شرعياً، مثل قولنا: طهارة، وكفارة، ومن وجب في ماله زكاة الفطر، وجبت زكاة المال، أو من وجب العشر في ماله، وجب نصف العشر، ومن صح طلاقه، صح ظهاره، وما أشبه ذلك. ولا فرق بين أن يكون بلفظ الإثبات، مثل قولنا: طهارة من حدث، فوجب أن يكون في شرطها النية، وما افتقر بدلُه إلى النية، افتقر مبدلُه إلى النية، كالعتق في الكفارات، وفيه شدة مطربة، فكان حراماً كالخمر، ومن صح طلاقه صح ظهاره، وما أشبه ذلك. أو كان بلفظ النفي، مثل قولنا: ليس بماء، ولا يقع عليه اسم الماء المطلق، فلا يجوز أن يتوضأ به، كسائر الأنبذة، وليس بتراب، ولا يقع عليه اسم التراب، فلا يجوز التيمم به، قياساً على الدريرة (2) والخَزَف المدقوق، والسِّدْر،   (1) في الأصل: (حبس) . (2) هذه الكلمة بدون إعجام، ولعل ما أثبتناه هو الأقرب للصواب، ولعلها أيضاً: تراب المعدن. انظر: المصباح مادة (درى) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1344 والخَطْمِيّ (1) والأشنان المطحون (2) . وقد نصَّ أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية الميموني: "لا يتوضأ بماء الورد (3) ، هذا ليس بماء، وإنما يخرج من الورد". وقال في رواية الميموني: "السِّهْلاة والرماد ليس بصعيد، ويتيمم، ويصلي، ويعيد" (4) . فقد جعل النفي علة، وعلَّق الحكم عليه. وكذلك قال في رواية أبي الحارث: "ليس في العنبر واللؤلؤ والمسك شىء، فإنه ليس بركاز ولا معدن" (5) . وكذلك ما لا تجب الزكاة في ذكوره، لا تجب في إناثه، كالبغال والحمير.   (1) الخطميُّ مدد الياء غسل معروف انظر: المصباح المنير مادة (خطم) . (2) الأشنان بضم الهمزة وكسرها مُعرَّب، وهو الحُرُض بالعربية. انظر: المصباح المنير مادة (أشنان) ومادة (حرض) والمُطلع على أبواب المقنِع ص (35) . (3) في الأصل: (بالماورد) ، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لنص الرواية عندما ساقها المؤلف (2/466) . (4) هذه الرواية سبق أن نقلها المؤلف (2/466) ، وسبق بيان معنى السَّهْلاة. (5) نحو هذه الرواية روى عبد الله في مسائله ص (164) عن أبيه أنه سمعه يقول: (ليس في الجوهر ولا اللؤلؤ زكاة إلا أن يكون للتجارة ... ) . وفي مسائل الإِمام أحمد رواية أبي داود ص (79) أنه سمع الإمام أحمد وقد سئل عن العنبر واللؤلؤ يستخرجه الرجل ما فيه؟ فذكر قول ابن عباس فيه. وقول ابن عباس كما في المغني (3/37) هو: (ليس في العنبر شىءٌ: إنما هو شىء ألقاه البحر) . وهناك رواية أخرى: (أن فيها الزكاة؛ لأنها خارج من معدن، فأشبه الخارج من معدن البَر ... ) المغني الموضع السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1345 ويجوز أن يجعل نفي الحكم علة لثبوت حكم آخر، وثبوت حكم علة لنفي حكم آخر، فيوجد الإِثبات من النفي، والنفي من الإِثبات. ويجوز أن يكون الإِثبات في حالة علةَ النفي في حالة أخرى، كقولنا: معنى: يفطر الصائم إذا تعمده، فلا يفطره إذا كان مغلوباً عليه، ولم يتعلق به كفارة، كالقيء (1) . والأصل في ذلك، ما ذكرناه من أن ما جاز أن يرد الشرع به نطقاً، جاز أن يكون مستنبطاً. ولأن ما دل الدليل على أنه أمارة من طريق الباري وشهادة الأصول، وجب أن يحكم بصحته. ولأن ما كان عقلياً فجائز أن يجعله علة بلفظ النفي، كذلك الشرعي. مسألة [إثبات الأسماء بالقياس] يجوز إثبات الأسماء بالقياس (2) ، فنسمي النبيذ خمراً، قياساً على الخمر، ونسمي النبّاش سارقاً، قياساً على السارق، ونسمي اللوطي زانياً، قياساً على الزاني. أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم، وقد ذكر له حديث: (الخمر ما خامر العقل) (3) "أي شىء يعني به؟ قال: ما غيَّر العقل.   (1) في الأصل: (كالقن) وهو خطأ. (2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/454) والمسوَّدة ص (394) ، وروضة الناظر (2/4) والقواعد والفوائد الأصولية ص (120) . (3) هذا الأثر أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب: ما جاء أن الخمر ما خامر العقل من الشراب (7/137) بسنده إلى ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: خطب عمر على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنه قد نزل = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1346 قيل له [206/ب] : كل نبيذ غيَّر العقل فهو خمر؟ قال: نعم" (1) . وبهذا قال أصحاب الشافعي (2) . وقال أصحاب أبي حنيفة (3) ، وأكثر المتكلمين: (4) لا يثبت. دليلنا: قوله تعالى: (فَاعْتَبرُوا يَا أوْلِى اْلأَبْصَارِ) (5) والاعتبار رد الشىء إلى نظيره،   = تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمر ما خامر العقل ... ) الحديث. كما أخرجه في كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة، باب: إنما الخمر، الميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان (6/67) . وأخرجه مسلم في كتاب التفسير، باب: نزول تحريم الخمر (4/2322) حديث رقم (3032) . وأخرجه أبو داود في كتاب الأشربة، باب: تحريم الخمر (4/78) طبعة دار الحديث بتعليق الدعاس وزميله. وأخرجه النسائي في كتاب الأشربة، باب: ذكر أنواع الأشياء التي كانت منها الخمر حين نزول تحريمها (8/295) حديث رقم (5578) . (1) هذه الرواية ذكرها أبو الخطاب في كتابه التمهيد (3/454) بأخصر مما هنا. (2) ذهب إلى هذا الرأي كثير من الشافعية، وليس كلهم كما يشعر به كلام المؤلف، فقد ذهب بعضهم إلى عدم الجواز. انظر: التبصرة ص (444) . وانظر أيضاً: المنخول ص (71) والمستصفي (1/331) والإِحكام للآمدي (1/53) والإبهاج (3/24) . (3) هو كذلك. انظر: أصول السرخسي (2/156) ومسلم الثبوت (1/185) . (4) ومنهم إمام الحرمين وأبو الخطاب والغزالي والآمدي. انظر: البرهان (1/172) والتمهيد (3/445) والمنخول ص (71) والإِحكام للآمدي (1/53) . (5) آية (2) من سورة الحشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1347 بضرب من الشبه. ومنه قيل: اعتبر الدراهم. معناه: اجعل الصَّنْجَة في كفة، والدراهم في كفة أخرى. وقولهم: اعتبر (1) السلطان الخراج على غيره، عام أول. وإذا كان هذا هو الاعتبار في إثبات الأحكام، كذلك في إثبات الأسماء. وأيضاً: فإن أهل اللغة قد استعملوا القياس في الأسماء عند وجود معنى المسمى في غيره، وأجروا على الشىء اسم الشىء، إذا وجد بعض معناه فيه، فسموا الرجل البليد حماراً، لوجود البَلَه فيه. ويقولون للرجل الشجاع: سَبُعاً: لوجود الشدة فيه. ونظائر ذلك. وعلى هذا ما روي عن عمر أنه قال: (الخمر ما خامر العقل) (2) . وعن ابن عباس أنه قال: ( [كل] (3) مُخَمَّر خمر، وكل خمر حرام) (4) . فإن قيل: هذه التسمية منهم مجاز. قيل: قد ثبت عنهم أنهم فعلوا ذلك، فلا يضر أن يكون أحد الاسمين مجازاً، والآخر حقيقة.   (1) غير واضحة في الأصل، والتصويب من التمهيد (3/379) حيث قال: (ومنه قولهم: اعتبر السلطانْ الخرَاج في عامنا بالخرَاج العام الماضي) . (2) هذا الأثر سبق تخريجه قريباً. (3) الزيادة من سنن أبي داود كما سيأتي في التخريج. (4) هذا جزء من حديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً، أخرجه عنه أبو داود في كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر (4/86) ، ولفظ الشاهد فيه: (كل مُخَمَّر خمر، وكل خمر حرام) الحديث. وقد سكت عنه أبو داود. ويظهر من صنيع المؤلف: أن هذا الحديث من كلام ابن عباس، وليس من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1348 على أنهم إنما سموا الأبْلَه حماراً مجازاً، لوجود بعض معانيه، فلما لم توجد فيه كل معانيه كان مجازاً. وأما النبيذ، فتوجد فيه معاني الخمر كلها. وكذلك اللواط، توجد فيه معاني الزنا كلها. وكذلك النَّبَّاش (1) . فلهذا كان حقيقة. فإن قيل: فالعرب قد منعت أن يسمى النبيذ خمراً. ومنه قول [أبي] الأسود (2) : فإن لا يَكُنْهَا أو تَكُنْهُ فإنَه ... أخوها غَذتْه أمُّه بلِبَانِها (3) يعنى إن لم يكن النبيذ هو الخمر أو الخمر هو النبيذ، فإن النبيذ أخوها، فنفى أن يكون النبيذ خمراً، وأثبت أنه أخوها. قيل: هذا حجة لنا، لأن الشاعر توقف فيما ذكره، فلم يعلم هل النبيذ خمر أم لا؟ فلما أشكل عليه الأمر قال: فإن لم يكن النبيذ خمراً، فإنه أخوها.   (1) يعنى: توجد فيه معاني السرقة كلها. (2) هو: أبو الأسود الدِّيلي، ويقال: الدؤلي البصري القاضي، الشاعر. اختلف في اسمه واسم أبيه؛ فقيل: ظالم. وقيل: ابن عمرو بن سفيان. وقيل عمرو بن عثمان وقيل: عثمان بن عمرو. روى عن عمر وعلي ومعاذ وغيرهم. وعنه ابنه أبو حرب وعبد الله بن بريدة ويحيى بن يعمر. وثَّقه ابن معين وابن سعد وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة (69) . انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (12/10) . (3) البيت منسوب للشاعر المذكور في كتاب سيبويه (1/46) وفي اللسان: مادة (لَبَن) وفي خزانة الأدب (2/426) . واللِّبان بالكسر: اللبن للآدميين خاصة. وانظر: تعليق الأستاذ عبد السلام هارون في هامش كتاب سيبويه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1349 فبطل أن يكون مانعاً من الاسم. ولأنهم سموا أعياناً شاهدوها إنساناً، وفرساً، وأسداً، وغير ذلك من الأعيان المسماة بأسمائها، وقالوا: قائم، وقاعد، وآكل، وشارب، وواهب، وضارب، وحاضر، وغائب، ثم انقرضت تلك الأعيان وانقرض الذين (1) . وضعوا الأسماء، وحدثت أمثالها من الأعيان، فاتفق الناس على تسميتها بأسمائها. ولا يجوز أن يكون ذلك إلا بالقياس عليها، لوجود معانيها فيها. فإن قيل: إنما وضعوا هذه [207/أ] الأسماء لها، ولما يولد منها من أمثالها. ونعلم ذلك ضرورة. قيل: هذا لم يسمع منهم، ولم ينقل عنهم أنهم نطقوا به، فلم يكن طريق تسمية الأعيان الحادثة (2) ، إلا من طريق القياس. ولا تصح دعوى العلم به ضرورة؛ لأنه لو كان كذلك، لشاركناهم في العلم به. ولما لم نعلم ذلك ضرورة، بطل ما قالوه. وأيضاً: فإن كل فاعل مرفوع، وكل مفعول منصوب. ولم يسمع ذلك من أهل اللغة. وإنما استدلوا باستقراء كلامهم ومخارجه على قصدهم، أنهم قصدوا بالنصب كونه مفعولاً، وبالرفع كونه فاعلاً، وقاسوا ذلك على كل فاعل مفعول، لم يسمع من العرب النطق به..0 وكذلك صغَّروا الاسم الذي بُني على ثلاثة أحرف، فقالوا (3) : فُعَيْل، مثل: جُمَيْل، وعُدَيْل، وما أشبه ذلك. وأجمعوا على أن كل اسم بُني على ثلاثة أحرف لم ينطقوا به، يكون تصغيره   (1) في الأصل: (القرض الذي) . (2) مكررة في الأصل. (3) في الأصل: (فقال) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1350 هكذا، قياساً على المسموع منه. فدل على جواز القياس. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ اْلأسْمَاءَ كُلَّهَا) (1) . فلم يبق اسم يثبت بالقياس. والجواب: أنه ليس فيه أنه علمه جميع ذلك نصاً. بل يجوز أن يكون علم البعض نصاً، والبعض استنباطاً وقياساً. وعلى أن الآية اقتضت أنه علم آدم الأسماء كلها، وليس فيها أنه علمنا ذلك. ونحن إنما نثبت الأسماء قياساً فيما بيننا. ويجوز أن يكون آدم عرف ذلك نصاً، وعرفناه قياساً. واحتج: بأن ما من شىء إلا وله في اللغة اسم، فلا يجوز أن يثبت له اسم آخر من ناحية القياس، فيكون الاسمان مختلفين. كما لا يجوز أن يثبت للشىء حكم بتوقيف، وحكم آخر بالقياس. والجواب: أنه ليس يمتنع أن يكون للشىء الواحد اسمان مختلفان، أحدهما ثابت بالنص، والآخر ثابت بالقياس، فإنه لا منافاة في ذلك، ولا تضاد. ولا يشبه هذا الأحكام؛ لأن الشىء الواحد لا يجوز أن يكون له حكمان متضادان. فلم يجز أن يجعل له حكم آخر بالقياس، وله حكم آخر يخالفه، ثابت بالنص؛ لأن في ذلك نصاً. ْألا ترى أنه يجوز للشىء الواحد أسماء مختلفة، كلها ثابتة بالتوقيف، كالسيف، والخمر، وغير ذلك، ولا يجوز أن يكون للشىء الواحد أحكام مختلفة ثابتة من جهة التوقيف والنص. واحتج: بأنه لمَّا لم يجز إثبات الاسم الَّلقب قياساً، كذلك الاسم المشتق.   (1) آية (31) من سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1351 والجواب: أن الاسم اللقب ليس له معنى يوجد في غيره حتى يلحق به ويجري عليه اسمه، والاسم المشتق له معنى، ويوجد في غيره، فجاز إجراء اسمه عليه. واحتج: بأن القياس [207/ب] لا يثبت في اللغة إلا بأن يثبت أن أهل اللغة وضعوها على المعاني، وأذنوا في القياس فيها. ولم يثبت واحد منها عنهم، فلم يصح القياس. والجواب: إن لم يثبت ذلك فيه، لم يصح القياس. وإنما يصح فيما ثبت أنهم وضعوه على الشىء. وهذا كما نقول في الشرع: إن ما ثبت له موضوع على المعنى يوجب القياس عليه. فإن قيل: بأي طريق تثبت أنهم وضعوه على المعنى؟ قيل: يعلم ذلك باستقراء كلامهم والاستدلال على مقاصدهم بمخارج كلامهم، فإذا قيل رأينا الاسم أو الإعراب تابعاً لمعنى على استقرار واطراد، استدللنا على أنهم جعلوه تابعاً له ومتعلقاً به، كما يستدل على قصد صاحب الشريعة بمثل ذلك. وقد حُكي عن سيبويه أنه قال: استقرأنا كلامهم، فوجدناهم يرفعون كل فاعل، وينصبون كل مفعول. فدل ذلك على أنهم اعتبروا هذين المعنيين. وإذا وجدناهم يقولون: فاعِل من فَعَل، ومنفَعِل من أفعَل. ويُصيِّرون الاسم الثلاثي "تفعيل"، على استقرار، من غير مخالفة، دلنا ذلك على قصدهم. وكذلك إذا سموا عصير العنب إذا وجدت فيه الشدة خمراً. وإذا زالت لم يسموها خمراً، وإن عادت الشدة المطربة في سموها بتلك، دلنا على أنهم جعلوا الاسم تابعاً لهذا المعنى، وسمينا النبيذ خمراً لوجوده. وقولهم: "إنهم لم يأذنوا في القياس، على ما وضعوه على المعنى" فهو أن وضعهم على المعنى إذن في القياس، لأنه لا فرق عندنا بين أن يقولوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1352 سميناه خمراً للشدة المطربة، وبين أن يقولوا: كل شديد مطرب خمر، وأحد اللفظين قائم مقام الآخر. ولأنه لو قال: سميناه خمراً لما فيه من الشدة الطربة، صارت الشدة المطربة علامة ودلالة على كونه خمراً. فكل موضع وجدت هذه الدلالة، يجب أن يتبعها الاسم. ولأن تسميتهم لجميع ما حدث من الأعيان بأسامي أمثالها، دلالة على أن القياس مأذون فيها. واحتج: بأنهم لم يضعوها على القياس؛ لأنهم سموا الفرس الأبيض: أشهب، ولا يسمون الحمار الأبيض: أشهب. وسموا الفرس الأسود: أدهم، ولا يسمون الحمار الأسود: أدهم، فقد شاركه في معناه. وكذلك الحموضة، إذا كانت في عصير العنب سموه خلاً، وإذا وجدت في اللبن وغيره لم يسموه خلاً. وقالوا للفرس: أبلَق، لاجتماع اللَّونين، والآدمي أبيض، وللغراب أبْقَع، وللجِلد مُلَمَّعاً. والجواب: أنهم اعتبروا الجنس مع الصفة في ذلك. فكانت العلة ذات وصفين، ولم يمكن القياس عليه؛ لعدم أحد الوصفين، وهو الجنس [208/أ] فتكون العلة واحدة. واحتج أبو سفيان (1) : بأن الأسماء اللغوية طريقها اصطلاح أهل اللغة عليها. ألا ترى أن إنساناً لو سمى الماء خبزاً، والخبز ماءً، والفرس حائطاً، والحائط فرساً، لم يصر ذلك اسماً لما سماه في اللغة، بل كان منسوباً إلى الهذيان،   (1) هو: أبو سفيان السرخسي الحنفي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1353 ومتجاهلاً عند أهل اللسان. فلم يكن للقياس حظ في إثبات الأسماء اللغوية. والجواب: أنه إنما لم يجز القياس هاهنا؛ لأنه يخالف نص اللغة، فلهذا لم يجز. كما لم يجز القياس إذا خالف نص الكتاب والسنة. وليس كذلك فيما اختلفنا فيه؛ لأن قياس اللغة يقتضيه فجاز، كما جاز في الشرع. واحتج الجرجاني: بأن الأخفش قال: الأسماء توجد توقيفاً، وهم ينقلون هذا عن أهل اللغة. والجواب: أن هذا يعارضه ما حكينا عن أهل اللغة من حمل الاسم على غيره إذا وجد فيه معناه اعتبر ذلك. مسألة [ضوابط رد الفرع إلى الأصل] لا يجوز رد الفرع إلى الأصل حتى تجمعهما علة معينة تقتضي إلحاقه به (1) . وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] (2) الحسين بن حسان: "إنما يقاس الشىء على الشىء، إذا كان مثله في كل أحواله. فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فلا" (3) .   (1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/5) والمسودَّة ص (389) . (2) هكذا ذكره أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/5) ، عندما نقل هذه الرواية، وهو الصواب. (3) نقل هذه الرواية -كما أسلفت- أبو الخطاب في كتابه التمهيد بأوفى مما ذكره المؤلف حيث قال نقلاً عن أحمد بن الحسين بن حسان: (القياس أن يقاس الشىء على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1354 وحُكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه لا تعتبر في ذلك علة معينة. ويجوز الاقتصار على ضرْب من الشبه (1) .   = وأردت أن تقيسَ عليه فهذا خطأ وقد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعض أحواله، فإذا كان مثله في كل أحواله، فأقبلتَ به، وأدبرتَ به فليس في نفسي منه شىء) . (1) وقريب من هذا ما نقله الشيرازي في كتابه التبصرة ص (458) عن بعض أصحاب أبي حنيفة. ونقله عن بعض الفقهاء من أهل العراق في كتابه اللمع ص (59) وفي شرحه للُّمع الذى سماه الأستاذ عبد المجيد تركى -خطأ-: الوصول إلى مسائل الأصول ص (275) وعبارته في هذين الكتابين أوضح حيث قال: (وقال بعض الفقهاء من أهل العراق: يكفي في القياس شَبهُ الفرع بالأصل بما يغلب على الظن أنه مثله) . ثم عقَّب على ذلك بقوله في اللمع: (فإن كان المراد بهذا: أنه لا يحتاج إلى علة موجبة للحكم يقطع بصحتها كالعلل العقلية فلا خلاف في هذا، وإن أرادوا: أنه يجوز بضرب من الشبه على ما يقول القائلون بقياس الشَّبَه، فقد بيناه في أقسام القياس. وإن أرادوا: أنه ليس ها هنا معنى مطلوب يوجب إلحاق الفرع بالأصل فهذا خطأ؛ لأنه لو كان الأمر على هذا لما احتيج إلى الاجتهاد، بل كان يجوز رد الفرع إلى كل أصل من غير فكر، وهذا مما لا يقول به أحد، فبطل القول به) . والذي يبدو لي أن المؤلف قصد أبا بكر الجصاص، فإنه قال في كتابه الفصول في الأصول ص (138) من الجزء الذي طبع في الباكستان: ( ... وقال جُلُّ من يعتمد عليه من الفقهاء الناظرين: إنما الاعتبار في لحاق الحادثة بأصولها تشابهها في المعنى الذي هو علَم الحكم وأمارته، يجب على الناظر طلبُه، وتتبعُه بالاستدلال عليه، فإذا ثبت المعنى بالدلالة عليه وجب إجراؤه في فروعه والحكم لها بحكمه، سواء كان ذلك المعنى شبهاً من جهة الصورة أو من جهة الحكم أو من جهة الاسم، إذا جاز عندهم أن يُرد الفرع إلى الأصل بالاسم إذا تعلق الحكم بالاسم، فيكون الاسم حينئذ علَم الحكم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1355 دليلنا: قوله تعالى: (مِنْ أجلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسْرَائِيْلَ) (1) . وقال: (كَي لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اْلأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (2) . وقال في تحريم الخمر (وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ) (3) . فنصَّ على علة الحكم في ذلك. وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما منعتُكم من أجْلِ الدَّافَّة) . وقال: (إنَّما جُعِل الاستئذانُ مِن أجْلِ البصَر) . فنصَّ على العلة. وقال في بيع الرطب بالتمر: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذا) . وقال لابن مسعود حين أتاه بحجرين ورَوْثة، فأخذهما وألقى الرَّوْثة وقال: (إنَها رِجْس) (4) .   (1) آية (32) من سورة المائدة. (2) آية (7) من سورة الحشر. (3) آية (91) من سورة المائدة. (4) هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود في كتاب الوضوء باب: الاستنجاء بالحجارة (1/49) وانظر فتح الباري (1/256) ورواية البخاري: (فإنها رِكْس) بدل: (فإنها رِجْس) وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في الاستنجاء بالحجرين (1/25) رقم الحديث (17) . وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة باب: الرخصة في الاستطابة بحجرين (1/36) وقال بعد ذلك: (الرِّكسُ طعامُ الجن) . وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة (1/114) وفيه: (هى رجس) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1356 فإن قيل: فلسنا نمنع المنصوص عليها. قيل: إذا ثبت أن الله تعالى ورسوله نصَّا على العلة، وعلقا الحكم بها، ثبت أن استنباطها، وتعليق الحكم بها شرط.   = وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/388) . وأخرجه الطحاوى في كتابه: شرح معاني الآثار في كتاب الطهارة، باب الاستجمار (1/122) بلفظ: (رِكْس) إلا أن محقق الكتاب قال في الهامش: وفي نسخة: (رجس) . والرِّكْس -كما يقول الحافظ في الفتح- (1/258) بكسر الراء وإسكان الكافِ. وقد اختلف في معناها: 1- فقيل: لغة في رجس بالجيم، يدل عليه رواية ابن ماجه وابن خزيمة والنسخة الثانية من شرح معاني الآثار للطحاوي. وبه صرَّح الفيُّومي في المصباح حيث قال: (الركس بالكسر هو: الرجس) . 2- وقيل: الركس: الرجيع، رُدّ من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة، كما يقول الخطابي. أورد من حالة الطعام إلى حالة الروث، كما يرى الحافظ. وقريب منه كلام ابن فارس في معجمه. 3- وقيل الركس: طعام الجن، كما يقول النسائي، وهو قول كريب كما يقول الحافظ. قلت: ولعل الذي حمل النسائي على هذا التفسير ما جاء في الحديث: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن) الترمذي (1/29) . فإن كانت علة النهي واحدةً، وهي كونها زاد الجن فتكون رواية: (فإنها ركس) مفسَّرة بالرواية الأخرى (فإنها زاد إخوانكم من الجن) ، ويكون تفسير النَّسائي وجيهاً، ولكن يعكر عليه عدم ورود ذلك لغة. وإن كانت علة النهي مركبة من أمرين: كونها ركس، وكونها زاد الجن أو كون كل واحد من هذين الأمرين يصلح علة لو انفرد فلا يكون لكلام = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1357 وأيضاً: فإنه لو لم يفتقر الجمع بينهما إلى معنى معين يجمع بينهما، لما افتقر إلى تفكر، وتأمل، واجتهاد؛ لأن العامي والعالِم يشتركان في رد الفرع إلى الأصل. ولأنه لا خلاف أنه لايجمع بينهما بغير شَبَه. وإذا لم يكن بد من الشَّبه بينهما، فهو الذي نقوله، فزال الخلاف. واحتج المخالف: بأن الصحابة ما اعتبرت في إيجاب الفرع بالأصل علة معينة، وإنما اعتبرنا مجرد [208/ب] الشبه. فقال أبو بكر: (أقولُ في الكَلالَةِ برأيي) . ولم يذكر معنى. وقال عمر: (هذا ما أرَى الله عمر) (1) . وكتَب إلى أبي موسى الأشعري: (قِس الأمورَ بعضَها ببعض) . ولم ينص له على معنى.   = النَّسائي وجه. والذى يبدو لي: أن الركس: شبيه المعنى بالرجيع، كما يقول أبو عبيد، وسميت الروثة بذلك؛ لأنها ارتكست عن أن تكون طعاماً إلى غيره) كما يقول ابن فارس في معجمه. انظر: فتح الباري (1/258) ، والنهاية في غريب الحديث (2/100) ومجمل اللغة لابن فارس (2/397) ومعجم مقاييس اللغة له أيضاً (2/434) واللسان (7/404) والمصباح المنير (1/363) مادة (ركس) . (1) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - لم أجده. وإنما وجدت في سنن البيهقي (10/116) : (أن عمر رأى رأياً، فكتب الكاتب هذا ما أرَى الله أمير المؤمنين، فانتهره عمر، وقال: أكتب هذا ما رأى عمر، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر) . وهذا يدل على أن عمر - رضي الله عنه - لا يرى نسبة الرأي الصادر منه إلى الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1358 والجواب: أنهم قد نصُّوا على علة معينة، وصرحوا بذلك. منه: قول عمر لأبي بكر: (رضيك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا) (1) . ولما استشار عمر الصحابة في حد الشارب، قال علي: (إنه إذا شرب سكِر، وإذا سكِر هذى، وإذا هذى افترى، وحده حد المفتري) (2) .   (1) سبق تخريج هذا الأثر، وأنه من قول علي، رضي الله عنه. (2) هذا الأثر أخرجه مالك في موطئه في كتاب الأشربة، باب الحد من الخمر (2/526) عن ثور بن زيد الديلِي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: (نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكِر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، أو كما قال، فجلد عمر في الخمر ثمانين) . وأخرجه الشافعي عن مالك كما في بدائع المنن، أبواب حد شارب الخمر، باب: كم يضرب من ثبت عليه شرب مسكر؟ (2/304) حديث رقم (1521) . وعقَّب الحافظ في التلخيص (4/75) عليه بقوله: (وهو منقطع؛ لأن ثوراً لم يلحق عمر، بلا خلاف) . وأخرجه الدارقطنى في سننه موصولاً من طريق يحيى بن فُلَيْح بن سليمان عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في كتاب الحدود (3/166) حديث رقم (245) . وأخرجه بالسند المذكور البيهقي في سننه في كتاب الأشربة والحد فيها، باب: ما جاء في عدد حد الخمر (8/320) . وأخرجه بالسند المذكور أيضاً أبو الشيخ وابن مردويه كما في الكنز (5/483) . وأخرجه بالسند المذكور الحاكم في مستدركه في كتاب، الحدود، وقال: (صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وفيه "يحيى بن فُلَيْح" نقل الحافظ في اللسان عن ابن حزم: أنه قال: "هو مجهول"، وقال مرة: "ليس بالقوي". وأخرجه البيهقي في الموضع السابق من طريق أسامة بن زيد عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وَبَرَة الكلبي، قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر - رضي الله عنه - وذكر كلاماً طويلاً، وفيه قول على رضي الله عنه. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1359 وقال عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب في التي أرسل إليها عمر، وقد ذكرت عنده بسوء، فأجهضت ذا بطِنها، (إنما أنت مؤدبٌ، ولا شىء عليْك) . وقال علي: (إن اجتهدوا (1) فقد أخطأوا، وإن عمدوا فقد غشوك، عليك الدية) .   = وأخرجه الحاكم في الموضع السابق بالسند هذا، وفيه "وَبَرَة الكلبي" بدلاً من "ابن وَبَرَة" وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن وهب وابن جرير، كما في الكنز (5/478) . وفيه: "وَبَرَة الكلبي"، أو"ابن وَبَرَة الكلبي". قال الألباني في الإرواء (8/47) : (لم أجد من وثقه) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في باب: حد الخمر (7/378) عن عمر عن أيوب عن عكرمة أن عمر بن الخطاب استشار الناس في جلد الخمر ... ولم يذكر عبد الرزاق في سنده ابنَ عباس. وأخرجه ابن جرير عن يعقوب بن عتبة، كما في الكنز (5/479) . وبعد أن ذكر الحافظ طرفاً من تخريجه في التلخيص (4/75) قال: (وفي صحته نظر؛ لما ثبت في الصحيحين عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر استشار الناس، فقال: عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر. ولا يقال: يحتمل أن يكون عبد الرحمن وعلي أشارا بذلك جميعاً؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن علي في جلد الوليد بن عقبة: أنه جلد أربعين، وقال جلد رسول الله أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إليّ، فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر، ولم يعمل بها [لعل صحتها: ولعمِل بها] لكن يمكن أن يقال: إنه قال لعمر باجتهاد، ثم تغير اجتهاده) . وبالنظر إلى هذه الطرق المتعددة، فالأثر يبلغ درجة الحسَن والله أعلم. (1) في الأصل: (اجتهد) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1360 فعبد الرحمن قال: (إنَّما أنت مؤدِّبٌ) ، فرفع الضمان عنه لهذه العلة. والقصص في هذا كثيرة. فثبت أنهم أجمعوا على اعتبار العلة. مسألة [القياس على ما ثبت بالقياس] ما ثبت بالقياس، يجوز القياس عليه (1) ، مثل حمل الذُّرة على الأرز.   (1) راجع هذه المسألة في التمهيد (3/443) والروضة (2/304) والمسوَّدة ص (394) . في تصوري أن هذه المسألة لها جانبان. الجانب الأول: أن الحكم إذا ثبت في الأصل بدليل مقطوع به من كتاب أو سنة أو إجماع، وكانت علته ظاهرة، ففي هذه الحالة تقاس عليه كل مسألة توفرت فيها هذه العلة. أما إذا كانت العلة مستنبطة، مثل العلة في الربا، فهل يقاس على ذلك ما توفرت فيه هذه العلة المستنبطة؟ قولان لأهل العلم: المنع، وهو رأي ابن حامد الحنبلي. الجواز، وهو رأي أبي يعلى الحنبلي. انظر: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين ص (68) . الجانب الثاني: أن الحكم إذا ثبت في الأصل بعلة منصوصة أو مستنبطة، ثم قسنا على ذلك مسألة أخرى توفرت فيها العلة، فهذه المسألة الأخيرة الثابتة بالقياس هل يجور القياس عليها؟ هناك أمران يجب توضيحهما: الأول: هل العلة في القياس الأخير هي العلة في المقيس عليه في الأول والمستدل ترك القياس على الأصل الأول واستغنى بالقياس على الأصل في القياس الأوسط؟ هنا رأيان للأصولين. الجواز وعدمه، والخطْب في هذا يسير. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1361 وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث: "لا بأس بدفع الثوب إلى من يعمله بالثلث والربع، كالمزارعة" (1) . وقال في رواية المروذي: "لا يجوز بيع أرض السواد، ويجوز شراؤها كالمصاحف" (2) .   = الثاني: أن الثابت بالقياس يقاس عليه غيره لعلة غير العلة التي ثبت بها إن كانت واحدة، أو بواحدة إن كانت مركبة. فهنا ثلاثة آراء، ثالثها لشيخ الإسلام ابن تيمية: إن كان قياس دلالة جاز، وإن كان قياس علة لم يجز. والقول بعدم الجواز هو الراجح -إن شاء الله- لأن التسلسل في القياسات هذه يضعف المعنى الأول الذي ثبت به القياس. يؤيد ذلك قول الغزالي في كتابه المستصفى (2/325) : (لأن ذلك يؤدي في قياس الشَّبه إلى أن يشبَّه بالفرع الثالث رابع، وبالرابع خامس، فينتهي الأخير إلى حد لا يشبه الأول، كما لو التقط حصاة، وطلب ما يشبهها، ثم طلب ما يشبه الثانية، ثم ينتهي بالآخرة إلى أن لا يشبه العاشر الأول؛ لأن الفروق الدقيقة تجتمع فتظهر المفارقة) . وقد ذكر في المسوَّدة ص (395) أن للحنابلة في القياس على ما لا نص فيه ولا إجماع، بل ثبت بالقياس ثلاثة أقوال: أحدها: الجوار مطلقاً. الثاني: يجوز إن اتفق عليه الخصمان. الثالث: يجوز مطلقاً، وإن كانت العلة في الأصل المحض غير العلة في الفرع المحض بل في الفرع المتوسط علتان. انظر: المراجع السابقة. (1) هذه الرواية عن الإمام أحمد نقلها عنه ابنه في مسائله ص (304) ولفظه (سمعت أبي سئل عن الرجل: يدفع الثوب إلى الحائك بالثلث والربع؟ قال لا بأس) . (2) هذه الرواية ذكرت في المسوَّدة ص (400) ونصها: (يجوز شراءُ أرض السواد، ولا يجوز بيعها، فقيل له: كيف تشتري ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما تقول، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1362 فقد قاس الفرع على أصل مختلف فيه. وهو قول الرازي (1) والجرجاني من أصحاب أبي حنيفة. وقول أصحاب الشافعي. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز القياس إلا أن يثبت حكم الأصل بدليل مقطوع عليه من كتاب أو سنة أو إجماع. وقال الكرخي: لا يجوز حمل الذُّرة على الأرز، ويكون حملهما جميعاً على البُر أولى، وليس أن يحمل أحدهما على الآخر بأولى من حمل الآخر عليه لتساويهما في أن حكمهما يعرف من جهة واحدة (2) . دليلنا: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي اْلأَبصَارِ) (3) . وهذا عام في جميع الأصول. ولأن عمر قال لأَبي بكر: (رضيك رسولُ الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا) ، فاعتبر المعنى.   = ولكن استحساناً، واحتج بأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها، وهذا يشبه ذاك) . وهناك روايات نقلها عبد الله عن أبيه، فانظرها في مسائله التي نقلها عن أبيه ص (284) . (1) صرح بذلك في أصوله ص (126) الطبعة الباكستانية حيث قال: (ويجوز القياس أيضاً على حكم قد ثبت من طريق القياس، وإن كان مختلفاً فيه) . (2) نقل هذا عن أبي الحسن الكرخى في كشف الأسرار (3/1023) وفي التقرير والتجبير (2/131) . وهو رأي جمهور الحنفية. انظر: المرجعين السابقين، والتلويح على التوضيح (2/55) ، وفواتح الرحموت (2/253) . (3) آية (2) من سورة الحشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1363 ولأن الحكم ثبت ابتداء في الشرع بدليل مقطوع عليه، ودليل غير مقطوع [عليه] ، وطريقه غلبة الظن، وهو خبر الواحد، في أن استعمال القياس في الموضع المقطوع عليه، وفيما طريقه غلبة الظن. ولأن العلة تصير علة؛ لقيام الدلالة على صحتها، لا لوجودها في أصل متفق عليه، بدلالة أن ما دل على صحتها لا يفرق بين عين دون عين، وإذا اعتبرت العلة، فلا فرق بين حمل فرع على نظيره، وبين اعتبارهما جميعاً [209/أ] ؛ لأن ما ثبت بدليل، يجوز أن يجعل أصلاً، يرُد إليه غيرُه، وإن لم يكن ثابتاً بالاتفاق. وقول الكرخي: إنهما تساويا في أن حكمهما يعرف من جهة واحدة، فهو صحيح. وله أن يقيس كل واحد على صاحبه، كالأمرين إذا تساويا، فتساويهما لا يوجب سقوطهما، وإنما يخير المجتهد فيهما. فصل [عدم اشتراط الاتفاق على تعليل الأصل] ويجوز القياس على أصل بعلة، وإن لم يتفق على تعليله (1) ، مثل قياس النبيذ على الخمر لعلة وجود الشدة المطربة (2) . فإن أبا حنيفة يمنع من أن تكون الخمر معللة (3) ، ويقيس غير المأكول عليه   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/437) والمسوَّدة ص (397) . (2) هذا مذهب الجمهور، أو مذهب الأكثر كما هو تعبير أبي الخطاب في التمهيد. (3) وذلك لعدم قيام الدليل على كونها معللة عند الحنفية، بل صرح السرخسي في أصوله (2/149) أن الدليل دل على أنها غير معللة حيث قال: ( ... بل الدليل من النص دال على أنه غير معلول، وهو قوله عليه السلام: "حُرِّمت الخمر لعينها" و"السكر من كل شراب ... ") . وانظر: أصول الجصاص ص (132) من الطبعة الباكستانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1364 فِي الربا (1) . وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في المسألة التي قبلها. خلافاً لما حُكي عن بِشْر بن غِياث في قوله: "إذا لم يكن الأصل منصوصاً عليه، أو مجمعاً على تعليله، لم يجز قياس الفرع عليه" (2) .   (1) لأن العلة عنده الجنس مع الكيل أو الجنس مع الوزن، فلو باع مكيلاً أو موزوناً غير مطعوم بجسمه متفاضلاً كالجص والحديد كان حراماً. والحكم -كما يقول صاحب الهداية- (معلول بإجماع القائسين) ، لكن وقع الاختلاف في العلة. انظر: شرح فتح القدير مع الهداية (7/3-5) وأصول الجصاص ص (133) وأصول السرخسي (2/161) . (2) في المعتمد (2/761) أن بِشْراً منع من القياس على الأصل إلا بعد أن تجمع الأمة على تعليله، ولم يذكر كونه منصوصاً عليه كما ذكر المؤلف. وقريباً نَقْل أبي الحسين نَقْل أبي الخطاب في التمهيد (2/437) . وقد نُقِل كلامُ المؤلف عن بِشْر في المسوَّدة ص (397) بدون تعقيب. ونقل الفخر الرازي في المحصول (5/494) عن بشر أنه يشترط في الأصل (انعقاد الإجماع على كونه معللاً، أو ثبوت النص على عين تلك العلة) . وفي شرح الجلال على جمع الجوامع (2/213) ، ( ... وعند الثاني [يعني بشراً] لا يقاس فيما اختلف في وجود العلة فيه، بل لابد بعد الاتفاق على أن حكم الأصل معلل، من الاتفاق على أن علته كذا ... ) والذي ظهر لي من كلام المؤلف أن بِشْراً يشترط واحداً من أمرين إما أن يكون الأصل منصوصاً عليه، وإما أن يكون مجمعاً على تعليله، ولم يتعرض للنص على عين تلك العلة. وفي المعتمد والتمهيد: أنه يَشْتَرِط أن تجمع الأمة على تعليل الأصل، وهو أحد الأمرين اللذين ذكرهما المؤلف. وفي المحصول أنه يَشْتَرِط أحد أمرين: انعقاد الإجماع على كون الأصل معللاً، أو ثبوت النص على عين تلك العلة. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1365 دليلنا : ما تقدم في التي قبلها من قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُو يَا أولِي اْلأبصَارِ) (1) ، وهذا عام في جميع الأصول. ولأن طريق إثبات العلل، دلالة الأصول عليها، وقد توجد دلالتها في تعليل أصل مجمع عليه، كما تدل على تعليله، مع الخلاف، فوجب اعتبار دلالة الأصول عليها. ولأنه لما أمكن استخراج المعنى فيه، ورد الفرع إليه، لم يعتبر بالاتفاق فيه، كخبر   = فقد وافق أبا يعلى في نقله اشتراط الإجماع على تعليل الأصل، كما وافق في هذا أبا الحسين البصرى وأبا الخطاب، إلا أنه زاد التخيير بين هذا الشرط وبين ثبوت النص على عين تلك العلة. ويظهر من كلام شرح الجلال أن بِشْراً يشترط أمرين هما: الاتفاق على أن حكم الأصل معلل، والاتفاق على أن علته كذا. وهو ما وضحه الشيخ الشربيني في تقريراته على الشرح المذكور (2/122) . وبهذا يتبين أن كلام ابن النجار الفتوحى في شرح الكوكَب المنير (4/100) غير دقيق؛ لأنه قال ( ... الصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه لا يشترط أن يرد نص دال على عين تلك العلة، ولا الاتفاق على أن حكم الأصل معلل، وخالف في ذلك بِشْر المَريسي، فاشترط أحدهما، على ظاهر كلامه في جمع الجوامع، والذي ذكره الرازي في المحصول عن بشر اشتراط الأمرين معاً) . الا أن تكون نسخة المحصول التي أفاد منها صاحب شرح الكوكب قد جاء فيها التعبير بالواو دون أو، فَيَتَّجِه. وقد وَصفَ ابنُ السبكي قولَ بِشْر بالضعف، ووَصَف من قال به بالشذوذ. ونقل عن أبي إسحاق إبطاله لهذا القول (بأن قائله إن أراد بالاتفاق الذى اشترط إجماع الأمة كلها أدى إلى إبطال القياس؛ لأن نفاة القياس من جملة الأمة، وأكثرهم يقولون: إن الأصول غير معللة، وإن أراد إجماع القائسين فهم بعض الأمة، وليس قولهم بدليل) . انظر: الابهاج (3/163-164) . (1) آية (2) من سورة الحشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1366 الواحد، متى أمكن أن يستفاد منه حكم، حمل عليه، وإن لم يتفق على قبوله. واحتج المخالف: بأن الأصول، لما كان فيها ما هو معلل، وفيها ما ليس بمعلل، وجب أن يكون طريق (1) التفريق بينهما الإجماع الدال عليه، إذا لم يكن طريق إليه (2) غير ذلك. والجواب: أن الأصل هو تعليل الأصول. وإنما تَرْكُ تعليلها نادر، فصار الأصل هو العام الظاهر، دون غيره (3) . واحتج: بأنه لما لم يجز القياس على الصلوات الخمس؛ لكونها غير متفق على تعليلها وعدم ورود النص بذلك فيها، كذلك كل ما هذه حاله. والجواب: أن الصلوات إنما لم يجز القياس عليها، لحصول الإجماع على أن ذلك لا يجوز. وقد عدم هذا المعنى في غيرها، فلم يجز أن يكون بمثابتها. فصل [جواز القياس فيما لم ينص على حكمه] ويجوز القياس فيما لم ينص على حكمه، مثل قياسنا على تشبيهه بظهر الأم في أنه ظهار (4) .   (1) في الأصل: (الطريق) . والتصويب من التمهيد (3/349) . (2) في الأصل: (إلى) . (3) ولا يؤثر ذلك النادر لشذوذه. وهو معنى ما قاله أبو الخطاب في التمهيد (3/440) . (4) انظر: المسوَّدة ص (411) . وقد ذكرها أبو الخطاب ضمن المسألة السابقة، حيث نقل خلاف أبي هاشم في هذه المسألة. انظر: التمهيد (3/438) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1367 خلافاً لبعض المتكلمين (1) أن القياس لا يجوز إلا فيما نص على حكمه في الجملة، وقال: لو لم ينص الله تعالى على ميراث الأخ في الجملة، لم أجوز إثبات مشاركته مع الجد بالمقايسة، ويكون حظ القياس في الإبانة عن تفصيله، والكشف عن موضعه (2) . دليلنا [209/ب] : أن القياس لما كان طريقاً إلى معرفة الأحكام بخبر الواحد، لم يعتبر أن يكون الحكم الذي ثبت في أحدهما منصوصاً عليه في الجملة، كما لا يعتبر في الآخر. ولأن الصحابة قد تكلمت في مسائل من جهة القياس، وإن لم يكن منصوصاً عليها في الجملة. واستدل عمر على إمامة أبي بكر بضرب من الاستدلال (3) ، وإن لم يكن   = وقد عَنْون لها أبو الحسين البصرى في كتابه المعتمد (2/809) بقوله: (باب في أن العلة هل يتوصل بها إلى إثبات الحكم في الفرع، وإن لم ينص عليه في الجملة أم لا؟) وفي رأيي أنها داخلة في ال مسألة السابقة؛ لأن قول أبي هاشم هذا قول بالتفصيل في المسألة. (1) المراد به أبو هاشم المعتزلي. المرجعان السابقان. (2) هذا معنى كلام أبي هاشم الذي نقله عنه أبو الحسين في المعتمد وأبو الخطاب في التمهيد. (3) ذكر المؤلف هذا الأثر غير منسوب لأحد في مسألة: جواز انعقاد الإجماع من طريق الاجتهاد ص (1125) وقد خرجته منسوباً إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ونصه: (رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، وهي عماد الدين، ومن رضيه رسول الله لديننا وجب أن نرضاه لدنيانا) . ونسبه المؤلف إلى عمر - رضي الله عنه - في مسألة: ضوابط رد الفرع إلى الأصل ص (1359) . وفي المسوَّدة ص (405) أن عمر وعلياً قالا ذلك لأبي بكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1368 ذلك منصوصاً عليه، كذلك هاهنا. وكذلك تكلموا في مسألة الحرام (1) ، والبَتَّة، والخَلِيَّة، والبَرِيّة (2) ، والتسوية والتفاضل في العطاء (3) . مسألة [كل مقيس كل الأصل النصوص على علته مراد بالنص] جميع ما يحكم به من جهة القياس على أصل منصوص عليه، فهو مراد بالنص الذي أوجب الحكم في الأصل (4) .   (1) سبق توثيق ذلك ص (1115) . (2) هذه الكلمات الأربع من ألفاظ الطلاق، ذكر الخلاف فيها عن الصحابة رضوان الله عليهم بالسند الإمام عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطلاق باب: الحرام (6/399-405) وباب البَتَّة والخَلِيّة (6/350) . والبيهقي في سننه في كتاب الطلاق، باب: ما جاء في كنايات الطلاق (7/342-344) وباب من قال لامرأته: أنت على حرام (7/350-352) . (3) كان أبو بكر - رضي الله عنه - يرى التسوية في العطاء قائلاً: (فضائلهم عند الله، فأما هذا المعالق فالتسوية فيه خير) . بيما كان عمر - رضي الله عنه - يرى التفاضل قائلاً: (أفأجعل من تكلَّف السفر وابتاع الظهر بمنزلة قوم إنما قاتلوا في ديارهم..) قال أبو عبيد: (وقد كان رأي عمر الأول التفضيل على السوابق والغناء عن الإسلام، وهذا هو المشهور من رأيه، وكان رأي أبي بكر التسوية، ثم قد جاء عن عمر شىء شبيه بالرجوع إلى رأي أبي بكر) . انظر: الأموال لأبي عبيد ص (335-336) . (4) راجع هذه المسألة في التمهيد: (3/435) وروضة الناظر (2/251) والمسوَّدة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1369 خلافاً لبعض المتكلمين في قولهم: لا يصح أن يحكم في جميع ذلك أنه مراد بالنص (1) . دليلنا: أن ما يحكم به المجتهد من طريق الاجتهاد مراد منه، إذ لو لم يكن كذلك، لم يكن مطيعاً لله تعالى فيه. ولا خلاف أنه مطيع لله تعالى فيما يحكم به مما يؤديه اجتهاده إليه. فإذا كان كذلك، وكان الحكم في الأصل المنصوص عليه مراداً (2) بالنص، وجب أن يكون الحكم في الفرع مثله. فإن قيل: فهذه العلة بعينها موجودة فيما يحكم به من طريق القياس على أصل غير منصوص عليه؛ لأن المجتهد مطيع لله تعالى فيه، ومع ذلك فلا يحكم   = ص (390-392) وشرح الكوكب المنير (4/223) . وعليه فإن النص هنا يتناول الأفراد لغة. وبهذا قال أبو الخطاب وابن عقيل وابن حمدان، وهو باب سلكه كثير ممن لا يقول بحجية القياس. المراجع السابقة، والمعتمد (1/208) ، وتيسير التحرير (1/259) وإرشاد الفحول ص (135) . (1) بل بالقياس، وبه قال كثير من الأصوليين وعلى رأسهم الغزالي وابن قدامة. انظر: المراجع السابقة، والمستصفى (2/272) . وفي المسودة ص (392) تعقيب جيد، حيث قال: (وهذا في العلة المفسرة مستقيم، وأما في العلة المجملة مثل قول الأعرابي: وقعت على أهلي في رمضان، فقال: اعتق رقبة، وأن بريرة أعتقتها عائشة، فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك من المواضع التي علم أن ذلك السبب علة في الحكم، ولم يتبين في العلة أهي عموم الإفطار أم خصوص الوقاع، وأنه عموم العتق أم خصوص العتق تحت عبد ... ) . (2) في الأصل: (مراد) وحقه النصب خبر كان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1370 بأن ما حكم به مراد بالنص، كذلك هاهنا. قيل: إنما وجب ذلك فيما ذكرت؛ لأنه لا نص (1) هنا يوجب الحكم في الأصل، وإنما أوجب الحكم فيه بالإجماع، أو ما يجري مجراه من الأدلة، مثل فحوى الخطاب كقوله عليه السلام في السَّمن الذي ماتت فيه الفأرة: (إن كان جامداً، فألقوها وما حولها، وإن كان معائعاً، فأهريقوه) ، وليست هذه سبيل الأصل المنصوص عليه، لأن الحكم إنما وجب فيه بالنص الوارد به. يبين صحة ذلك، أن الحكم المجمع عليه، إذا كان له ذكر في الكتاب أو في السنة، صار الإِجماع صادراً عن ذلك النص، وإن كان لو لم يكن له ذكر فيهما لم يكن الإجماع صادراً عن نص، كذلك القياس، إذا كان على أصل منصوص عليه، صار الحكم الذي حكم به من طريق القياس، مراداً بذلك النص. وإن لم يجب أن يكون مراداً بالنص، لو لم يكن الأصل منصوصاً عليه. واحتج المخالف: بأنه لما لم يجز أن يراد بالعبادة الواحدة، معنيين مختلفين في حالة واحدة، وكان الحكم المحكوم به من طريق القياس مخالفاً في المعنى لحكم الأصل [210/أ] المنصوص عليه، كقياس الجص على البُر، والزعفران والقطن على الذهب والفضة، لم يجز أن يحكم بأنه مراد بالنص الموجب لحكم الأصل. والجواب: أن المعنيين إذا كانا مختلفين، جعل النص كأن الله تعالى أمر به في وقتين، فأراد به أحد المعنيين في وقت، والمعنى الآخر في الوقت الآخر. كما قلنا في آية الصلاة: أنه أريد بها الفرض والنافلة، فقدرناها على هذا الوجه.   (1) في الأصل: (نصر) وهو تصحيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1371 مسألة [طريق الإلحاق بالعلة المنصوص عليها] إذا ورد النص بحكم شرعي معللاً، وجب الحكم في غير المنصوص عليه، إذا وجدت فيه العلة المذكورة في النص سواء ورد النص بذلك قبل ثبوت حكيم القياس أو بعد ثبوته، مثل قوله: حرم الخمر لحموضته، وأبحتُ السكَر لحلاوته (1) . وإلى هذا أومأ أحمد -رحمه الله- في رواية الميموني فقال: "إذا كانت الثمرة واحدة فلا يجوز رطب بيابس" واحتج بالرطب بالتمر لحديث النبي (2) . فجعل أحمد -رحمه الله- العلة عامة في جميع ما توجد فيه تلك العلة. وبهذا قال إبراهيم بن سيَّار (3)   (1) راجع في هذا المسألة: التمهيد (3/428) ، وروضة الناظر (2/251) ، والمسوَّدة ص (390) . (2) إشارة إلى حديث سعد بن أبي وقاص: قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال لمن حوله: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك) رواه الخمسة وصححه الترمذي كما في نيل الأوطار (5/224) . وقد سبق تخريجه مفصلاً (1/178) . (3) هو النظام، وقد سبقت ترجمته. ونقلُ المؤلف عن النظام هو معنى ما نقلَه أبو بكر الجصاص في أصوله ص (141) من الطبعة الباكستانية حيث قال: (الناس في هذا الضرب من التعليل على قولين: منهم من يجعله نصاً على كل ما فيه العلة، ويجريه مجرى لفظ العموم، والنظام ممن يقول بذلك، وهو من نفاة القياس، وقال: لو أن الله تعالى قال: حرمت عليكم الماعز؛ لأنه ذو أربع، عقلنا من اللفظ تحريم كل ذات أربع ... ) . وهو ما ذكره المؤلف في المسألة التي قبل هذا، غاية ما هنا أنه زاد أن ذلك مطلق، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1372 [و] القاشاني (1) ، والنَّهْرِيُّون (2) .   = سواء أورد النص بذلك قبل ثبوت حكم القياس أم بعد ثبوته. ويشكل على ما ذكره الجصاص ما نقله أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/753) عن النظَّام من أنه يقول: إن النص على العلة يكفي في التعبد بالقياس بها. وتابعه على ذلك أبو الخطاب في التمهيد (3/428) حيث قال: (النص على علة الحكم يكفي في التعبد بالقياس بها، وبه قال النظام ... ) . ولتفسير الجصاص لمذهب النظَّام فسره الغزالي في المستصفى (2/272) وتابعه ابن قدامة في الروضة (2/251) . ولذلك قال صاحب مسلَّم الثبوت (2/316) : (مسألة: النص على العلة يكفى في إيجاب تعدية الحكم ولو عدم التعبد بالقياس مطلقاً عند الحنفية وأحمد وأبي إسحاق الشيرازي، وهو المختار، وعليه النظام، لكنه قال: إنه منصوص) . ولم يرتض ذلك تاج الدين السبكى في كتابه الإِبهاج (3/24) ووجَّهه بقوله: (فإنه هنا يقول [يعني النظام] إذا وقع التنصيص على العلة كان مدلول اللفظ الأمر بالقياس، ولم يتعرض لوقوعه من الشارع أو غيره، بل لمدلوله لغة، وهناك أحال وروده من الشارع، فعنده حينئذ أن الشارع لا يقع منه التنصيص على العلة من حيث هو مدلوله ما ذكرناه) . ثم عقب على ذلك بقوله: (فافهم هذا، فإن بعض الشراح ظن مناقضته في مقالته، وذلك سوء فهم، فإن الكلام في مدلول اللفظ إن ورد، غير الكلام في أنه هل يرِد) . (1) هو محمد بن إسحاق أبو بكر، قيل كان ظاهرياً، ثم صار شافعياً، وقد سبقت ترجمته. ونسبة القول هذا إليه ذكرها أبو الخطاب متابعة للمؤلف (3/428) . ونسبها إليه ابن حزم في الإحكام (8/1110) قائلاً: قال أبو محمد: (وهذا ليس يقول به أبو سليمان -رحمه الله- ولا أحد من أصحابنا، وإنما هو قول لقوم لا يعتد بهم في جملتنا كالقاساني [بالمهملة] وضربائه) . (2) في الأصل (النَّهريين) ، وفي التبصرة ص (436) وفي الإِحكام للآمدي (4/47) : (النَّهرواني) ، وهو نسبة إلى النَّهروان، بُلَيْدة قديمة، قرب بغداد. انظر: الباب (3/337) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1373 قال أبو سفيان: وإلى هذا كان يشير شيخنا أبو بكر، يعني الرازي في احتجاجه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما هو دمُ عِرْق، وليست الحيضة، فتوضَّئي لكل صلاة) في إيجاب الوضوء من الرُّعاف ونحوه. ويجعله بمنزلة أمر النبي عليه السلام بالوضوء من كل دم عِرْق (1) . وكان يحكيه عن الكرخي (2) . ولم يفرق بين ورود النص بذلك قبل ثبوت حكم القياس، أو بعد ثبوته. وقال أبو سفيان: وذهب بعض شيوخنا (3) إلى أنه لا يجب أن يحكم فيما وُجِدت فيه تلك العلة بحكم المنصوص عليه، قبل ثبوت حكم القياس. واختار أبو سفيان ذلك (4) .   (1) الذي رجَّحه أبو بكر الرازى في كتابه الفصول ص (142) هو القول أن ذلك من باب القياس لا من باب العموم، حيث يقول: (قال أبو بكر: والأظهر أن إلحاق ما يوجب فيه هذه العلة بحكم الأصل، إنما هو من طريق القياس لا من طريق النص والعموم؛ لأن المنصوص عليه هو ما تناوله الاسم، وقوله: "في دم الاستحاضة الوضوء؛ لأنها دم عرق" لم يتناول الاسم منه إلا دم الاستحاضة، وقوله: "إنها دم عرق" ليس بعموم في غير دم الاستحاضة، وإنما هو صفة من صفات المذكور بعينه دون غيره ما لم يذكر ... ) . وبهذا يعلم أن في نقل أبي سفيان الحنفي وهماً، تابعه عليه المؤلف، مع أن المؤلف رجع إلى كتاب الفصول واستفاد منه كثيراً، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم. (2) لم أجد في كتاب الفصول لأبي بكر الرازي المشهور بالجصاص نقلاً عن شيخه الكرخي في هذه المسألة. ولكن ما ذكره المؤلف وجدته منسوباً إليه في التبصرة ص (436) ، والإحكام للآمدى (4/47) . (3) يعنى: الحنفية. (4) الذي نص عليه الكمال بن الهمَام الحنفي في كتابه التحرير (4/111) مطبوع مع شرحه تيسير التحرير: (أن النص على العلة يكفي في إيجاب تعدية الحكم بها، ولو = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1374 هو قول جعفر بن حرب، وجعفر بن مُبَشِّر (1) . واختلف أصحاب الشافعي. فمنهم من قال مثل قولنا. ومنهم من قال: لا يجب الحكم بذلك فيما وجدت فيه تلك العلة. وهو اختيار الاسفراييني (2) . دليلنا: ان النص معلل، فوجب الحكم في غير المنصوص عليه إذا وجدت علته. أصله: إذا ورد النص بعد ثبوت حكم القياس. ولا يلزم عليه قوله تعالى: (إِنَ الصلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ... ) (3) . ولم يكن النص موجباً لحمل غيرها عليها مما ينهى (4) ؛ لأننا لو تُرِكْنا وظاهر هذه الآية لقلنا: أي موضع وُجِدت هذه العلة، تعلق الحكم بها، لكن منع منه [210/ب] الدليل في الموضع الذي لا يجب. فإن قيل: إنما وجب الحمل هناك لأجل أنه أمر بالقياس، فإذا نص على العلة، وجب القياس عليها، وهذا معدوم قبل ورود التعبد بالقياس.   = لم تثبت شرعية القياس وفاقاً للحنفية ... ) . وهو ما ذكره صاحب مسلَّم الثبوت عن الحنفية (2/316) . ولم يذكرا خلافاً عن الحنفية في ذلك. (1) انظر رأيهما في المعتمد (2/753) والتمهيد لأبي الخطاب (3/428) . ولأبي عبد الله البصري المعتزلي تفصيل نقله عنه أبو الحسين البصري في المعتمد الموضع السابق بقوله: (إن كانت العلة المنصوصة علة في التحريم كان النص عليها تعبداً بالقياس بها، وإن كانت علة في إيجاب الفعل أو كونها ندباً لم يكن النص عليها تعبداً بالقياس بها) . (2) انظر في نسبة هذين القولين إلى الشافعية: التبصرة ص (436) ، والإِحكام للآمدي (4/48) وصرَّح الآمدي بنسبة القول الثاني إلى أبي إسحاق الإِسفراييني وأكثر الشافعية. (3) الآية (45) من سورة العنكبوت. (4) في الأصل: (ما ينهى) بدون إعجام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1375 قيل: لو كان الحمل هناك، كما ذكرت، لوجب أن يختص التعدي هناك بهذه العلة، ولجاز أن يتعدى الحكم إلى غير السُّكَّر بعلة هو غير الحلاوة؛ لأن الأمر بالقياس يعم هذه العلة وغيرها. ولما قالوا بأن التعدي يحصل بهذه العلة، دل على أن التعدي كان لأجلها، لا لأجل الأمر بالقياس. وأيضاً: فإن قوله: "حرَّمتُ السُّكر" قد أفاد الحكم [و] قوله بعد هذا: "لأنه حلو" إنما ذكره (1) لفائدة، وليس فائدته إلا القياس عليها. فلو قلنا: لا يقاس عليها بطلت فائدتها، وهذا لايجوز. فإن قيل: فائدتها بيان العلة التي ثبت الحكم لأجلها، ولو لم يذكر العلة لكان يكون الحكم ثابتاً بغير علة. قيل: لو كان التعليل لا يفيد إلا إفادة النص أو الإِجماع، كان وجوده كعدمه، لا يفيد فائدة، فوجب تعديته لتحصل الفائدة. فإن قيل: فائدته (2) عِلْمُنا بالوجه الذي لأجله صار الفعل مصلحة للمكلف، وإن لم يجب حمل غيره عليه إذا شاركه في العلة. قيل: فلا فائدة في معرفة ذلك إذا لم يتعد إلى غيره؛ لأنا قد استفدنا الحكم بالنص، وإنما يستفيد المكلف معرفة الوجه بالمصلحة ليعمل عليه، فإذا كان مقصوراً لم يفد؛ لأن ذلك مستفاد بالنص، وهذه طريقة أجود شىء في المسألة. وأيضاً: فإن العلة وضعت للحكم تنبيهاً على غيره من الأحكام، كالنهي عن الأدنى، تنبيهاً على المنع من الأعلى، نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أف) (3) ، كان فيه تنبيه على المنع من الضرب، ونحو ما يجب أن يكون ذكر العلة ها هنا تنبيهاً على نظيره قبل ورود التعبد بالقياس وبعده، كما قلنا ذلك   (1) في الأصل: (ذكروه) . (2) في الأصل: (فائدة) . (3) الآية (23) من سورة الإسراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1376 في لفظ التنبيه. فإن قيل: لا نسلم أن العلة وضعت للتنبيه على غيرها من الأحكام. قيل: لا خلاف أنها بعد ورود التعبد بالقياس [تكون] تنبيهاً على غيرها، فيجب أن تكون قبله تنبيهاً كالتنبيه باللفظ. فإن قيل: إنما كان النهي عن التأفيف موجباً لما ذكرت؛ لأن هذه اللفظة موضوعة في اللغة لذلك، فليست هذه حال التعليل؛ لأن تعليل الحكم غير موضوع في اللغة يحمل غيره عليه. قيل: بل هو موضوع يحمل غيره عليه بدليل بعد ورود التعبد بالقياس. واحتج [211/أ] المخالف: بأن هذه الشرعيات، إنما حَسُن التعبد بها، لما فيه من المصلحة الداعية، وقد بيَّن الله تعالى ونبَّه على ذلك بقوله: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) . فإذا كان كذلك، وكان ما يدعو إلى فعل الشىء قد لا يدعو إلى فعل أمثاله، بدلالة أن العاقل إذا أكل شيئاً لأنه حلو، لم يأكل جميع ما يشاركه في الحلاوة في تلك الساعة. فلا يمنع أيضاً أن يكون الحكم المنصوص عليه مصلحة للمكلف، ولا يكون ما شاركه في تلك العلة مصلحة له. والجواب: أن حُسْن التعبد لا يقف عندنا على ما فيه وقد بيَّنا ذلك فيما تقدم. وعلى أن العلة هاهنا موجودة ممن هو عالم بالمصالح، فوجب تقديمها لوجود المصلحة فيها. واحتج: بأن مجرد الوصف لا يدل على شىء. ألا ترى أن الحلاوة كانت موجودة في السكَّر قبل (1) أن ينص على تحريمه، ولم تكن دلالة على التحريم.   (1) في الأصل (مثل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1377 فلما نص على تحريمه، وذكر العلة، فقد ذكر علة خاصة تقتضي ثبوت الحكم في الأصل المذكور وتعلقه به. وقد تكون العلة خاصة فيه، وقد تكون علة فيه وفي غيره، فلم يكفِ مجرد ذكرها في وجوب رد غيرها إليها، بل احتيج في ذلك إلى دليل. والجواب: أن هذا باطل بجميع العلل الشرعية، فإن أوصافها كانت موجودة قبل التعبد بالقياس، ولا يتعلق بها حكم، وبعد التعبد بالقياس تعلق بها الحكم، كذلك هاهنا لما ورد النص بها وجب أن يتعلق الحكم بها وإن لم يتعلق بها قبل ذلك. وقولهم: إن العلة قد تكون خاصة، فوجب التوقف حتى يدل الدليل على التعدي، فلا نسلمه؛ لأنه ليس عندنا علة مقصورة غير متعدية. وهذا أصل، يأتي الكلام عليه إن شاء الله. واحتج: بأنه لا يجوز أن يقول: حرمتُ السكَّر لحلاوته، وأحللتُ غيره مما (1) توجد فيه الحلاوة، فلا يكون ذلك تناقضاً. فلو كان النص على العلة يوجب أن يكون كل ما يوجد فيه مشاركاً، لما جاز أن ينص على ثبوت الحكم في بعض ما يوجد فيه العلة، وعلى ضده في بعضها، بل يكون ذلك ضرباً من المناقضة. فلما جاز هذا، ثبت؛ لأن مجرد النص على العلة والحكم لا يوجب إلحاق الغير به إلا بدليل. والجواب، أنا لا نسلِّم هذا، وهذا على أصلنا ظاهر. و (2) أن تخصيص العلة لا يجوز، وفي هذا تخصيص لها.   (1) في الأصل (ما) . (2) الواو هذه زائدة، وكان الأولى حذفها، وقد تركناها؛ لأن المؤلف يعبر بها كثيراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1378 وفي الجملة يجوز أن تكون أحكام صاحب الشرع متناقضة (1) . فأما تعليله فلا يجوز أن يتناقض. واحتج: بأن الاعتبار باللفظ دون [211/ب] المعنى. بدليل أنه لو حلف فقال: "والله لا أكلتُ السُّكر لأنه حلو"، لم يحنث بأكل ما عداه. كذلك ألفاظ صاحب الشريعة. والجواب: أن الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن صاحب الشريعة لا تجوز عليه المناقضة، وغيره تجوز عليه المناقضة. والثاني: أن صاحب الشريعة قد أمر بالقياس، فإذا نص على العلة وجب القياس عليها، وغيره لم يأمر بذلك. فلو قال لنا قائل: "قيسوا كلامي بعضه على بعض"، ثم قال: "لا أكلتُ السُّكَر لأنه حلو"، شَرَكَه فيه كل حلو. مسألة [العلة القاصرة] العلة الشرعية إذا كانت مقصورة على موضع الوفاق لم تكن صحيحة وكان وجودها كعدمها (2) .   (1) الحق أن صاحب الشريعة لا تجوز عليه المناقضة بحال من الأحوال، وهو ما صرح به المؤلف في الجواب عن الدليل الآتي للمخالف، حيث قال: (إن صاحب الشريعة لا تجوز عليه المناقضة، وغيرُه تجوز عليه) فلعله سبقُ قلم. والله أعلم. (2) راجع هذه السألة في: التمهيد (4/61) والواضح لابن عقيل (2/862) ، وروضة الناظر (2/315) والبلبل (152) والمسوَّدة ص (411) وهذا قول أكثر الحنابلة، ومنهم المؤلف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1379 وهو قول أصحاب أبي حنيفة (1) . وقال أصحاب الشافعي: هي علة صحيحة كعلة الذهب والفضة (2) . العلة في تحريم التفاضل فهما عندهم كونها قيَم المتلفات فلا تتعدى (3) . دليلنا: أن المتفق على حكمه إنما يجب لأعيانه التي تقاس عليه؛ لأن   = وذهب أبو الخطاب وابن قدامة والمجد إلى أنها صحيحة. انظر: المراجع السابقة. وكان الأولى أن يذكر المؤلف محل النزاع، فإن العلة القاصرة قسمان: منصوص عليها ومستنبطة، والخلاف إنما هو في المستنبطة، ولذلك قال أبو الخطاب في التمهيد: ( ... فقال أصحابنا -رضي الله عنهم- وأصحاب أبي حنيفة: هي باطلة إلا أن ينص عليها صاحب الشرع) . وقال في المسوَّدة: ( ... فأما القاصرة المنصوصة فيجوز التعليل بها وفاقاً، ذكره أبو الخطاب) . وذكر الآمدي في الاحكام (3/200) أن العلة القاصرة إذا كانت منصوصة أو مجمعاً عليها أنها صحيحة. وذكر ابن السبكى في الإبهاج (3/154) أن الاتفاق في الحلة المنصوصة نقله جماعة، منهم القاضي أبو بكر. ثم قال: (وأغربَ القاضي عبد الوهاب في الملخص، فحكى مذهباً ثالثاً: أنها لا تصح على الإطلاق فيه، سواء كانت منصوصة أو مستنبطة ... ولم أر هذا القول في شىء مما وقفت عليه من كتب الأصول سوى هذا) . (1) انظر أصول السرخسي (2/158) وتيسير التحرير (4/5) وفواتح الرحموت (2/276) وهو قول جمهورهم كما عبر به صاحب فواتح الرحموت. (2) انظر: التبصرة ص (452) والبرهان (2/1080) ، وشفاء الغليل ص (537) ، والمستصفى (2/345) ، والمحصول (5/423) ، والإحكام للآمدي (3/200) والإبهاج (3/254) . (3) في الأصل (يتعدا) بالمثناة التحتية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1380 الأصل قد استغنى بدخوله تحت الإِجماع عن التعليل. ألا ترى أن جميع الأحكام لو كانت مجْمعاً عليها، أو منصوصاً عليها لم يحتج مع ذلك إلى القياس. فإذا كان التعليل بما لا يتعدى الأصل لا يفيد إلا ما أفاده النص أو الإِجماع وجب أن يكون وجوده وعدمه سواء. وقد يُعبر عن هذا بعبارة أخرى، فيقال: الأصل معلوم من طريق القطع، فتعليله بما لا يتعدى لا يستفاد به معرفة الأصل؛ لامتناع أن يعلم بما طريقه غلبة الظن، الأمر الذي علم من جهة القطع، وصار كمن قاس القياس الشرعي في الأمور العقلية التي طريقها العلم، أو طلب أخبار آحاد، ليعلم بها ما علم من طريق القطع. وإذا بطل أن يعلم بها حكم الأصل، ولم يجز أن نعرف بها حكم فرع آخر، سقط اعتبارها. فإن قيل: هذا يبطل بالعلة العقلية والعلة النصوص (1) عليها، فإنها صحيحة وإن كانت مقصورة واستغنى الأصل عنها، فإن العلة العقلية يجوز أن تكون مقصورة، وهو قوله: "لا تسلك طريقاً تهلك فيه إلا أن يكون لك فيه نفع في الآخرة، كالأمر بالمعروف"، والعامة نحو قوله في الظلم: "لا يجوز لكونه قبيحاً" فهذه عامة في كل قبيح. وكذلك العلة المنصوص عليها، يجوز أن تكون مقصورة، وهو أن يقول الله تعالى أو رسوله: حرمت التفاضل في الدراهم والدنانير لأنها قِيَم [212/أ] الأشياء. قيل: لا يبطل ما ذكرنا. وذلك أن العلة العقلية يستفاد الموجب بها منها. وهذا المعنى يحصل بالمتعدية (2) وغيرها، فكان لطلب كل واحد من الأمرين   (1) في الأصل: (المنصوصة) . (2) في الأصل: (بالمتعدي) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1381 فائدة. فأما الشرعيات فهي علامات، ومعلوم أنها ليست بعلامة لمعرفة حكم الأصل، وإنما علامتها السمع الوارد. فإذا لم يعلم منها فائدة كانت كعدمها. أما العلة المنصوص عليها، فإنه يحمل الأمر فيها على أنها بيان لعلة المصلحة التي لأجلها أبيح أو حُظِر. وعِلَلُ المصالح لا تُعلم بالاستخراج، وإنما تُعلم بالتوقيف، وكلامنا في العلة التي تستخرج من عِلَل الأحكام، وليست بمتعدية. وجواب آخر، وهو: أن قول أصحاب الشريعة يوجب هذا المعنى، فيحصل (1) بالمتعدية (2) وغيرها، تجرى مجرى العلة العقلية، وهذا المعنى معدوم في تعليلنا. فإن قيل: فيها فائدة، وإن كانت مقصورة، و [هي] أن يُعلم معنى الحكم (3) ، وأنه ليس مما استأثر الله بعلمه. قيل: لا فائدة في معرفة معنى الحكم إذا لم يتعد إلى غيره، لأنه لا يفيد إلا ما أفاده النص. وقد بينَّا هذا في التي قبلها. فإن قيل: فيه فائدة أخرى، وهو أن نعلم علة المصلحة به. قيل: علة المصالح لا طريق إلى معرفتها، إلا من جهة التوقيف. ألا ترى أن موسى عليه السلام، أنكر ما حصل من صاحبه من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الحائط الذي أراد أن ينقضَّ، ولم يعرف وجه المصلحة في ذلك حتى وقف عليه، فلم يكن للتعليل حظ في معرفة علة المصلحة. وعلى أن الأصل إنما يعلل لطلب علة الحكم دون علة المصلحة؛ لأن علة   (1) في الأصل: (يحصل) بدون الفاء. (2) في الأصل: (بالمتعدى) . (3) في الأصل: (وإن لم يعلم معنى الحكم) وإثبات (لم) يغير المعنى فحذفناها ليستقيم الكلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1382 الحكم فيما يكون عليه الأصل من الأوصاف، وعلة المصلحة إنما هي في المعبَّدين دون الحكم، من حيث إن الله تعالى قد علم أنه لو لم يتعبد المكلف بما يتعبده به فَسَد، فكانت مصلحته في التعبد. فإن قيل: فيه فائدة أخرى، وهو أن يمنع رد غير المنصوص عليه إلى المنصوص عليه، ويعلم أن الحكم مقصور عليه لا يتعداه. ويفيد أن الحكم ثبت في المنصوص عليه لهذه العلة. فربما حدث ما يوجد فيه تلك العلة فيقاس عليه. قيل: الشرع ورد في تعليل الأصول ليقاس عليها، لا للمنع من القياس، فلم يصح أن يقال: إن الفائدة منع رد غير المنصوص علمِه إلى المنصوص عليه. فإن قيل: إنما يعلم أن العلة متعدية أو مقصورة بعد استنباطها، وثبوتها، وصحتها. وقبل [212/ب] ذلك لا يعلم. والخلاف في صحتها في الأصل. وهل يجوز استنباطها وجعلها (1) علة، فكيف يجوز أن يستدل على جواز استنباطها وجعلها علة، ما لم تثبت بعد استنباطها وثبوتها؟! قيل: يجوز أن يطلق على العلة الفساد قبل استنباطها، للعلم بفسادها من جهة الشرع، كما يطلق الصحة [عليها] قبل استنباطها، وكما يطلق عليها الفساد قبل استنباطها لعدم الوصف أو الأصل، كذلك هاهنا. فإن قيل: لا يمتنع أن تكون علة صحيحة، وإن كانت [دالة] على ما دل عليه النص. كما أن خبر الواحد يكون دالاً على ما دل عليه نص القرآن، ويكون صحيحاً. قيل: نص القرآن وخبر الواحد، كل واحد منهما يدل على نفس الحكم، وما اختلفنا فيه يدل على علته، وعلة الحكم من شأنها أن تكون متعدية مفيدة. بدليل علة الربا، النص ورد على ستة أشياء، فلما طلبنا علةَ الحكم وجب تعدِّيها،   (1) في الأصل (وجعله) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1383 فالمخالف يُعدِّيها إلى كل مطعوم. ونحن نُعديها إلى كل مكيل. كذلك هاهنا. ولهذا رجحوا علتهم بأنها أعَمُّ فروعاً. وجواب آخر، وهو: أن الآية مع الآية، والخبر مع الخبر، كل واحد منهما دليل مقطوع عليه، بدليل أنه لا يسقط أحد الأجناس. فجاز أن يكون كل واحد منهما دليلاً مع الآخر. والقياس مع الخبر بخلاف ذلك؛ لأنه غير مقطوع عليه؛ لأنه يسقط مع الخبر، فلم يكن حجة معه. يبين صحة هذا: أنه لو أقر، ثم أقر، ثبت الحق بهما جميعاً، إلا أنهما سواء في المدعي (1) ، والبينة لم تسمع؛ لأن الاقرار مقطوع به، والبينة غلبة الظن، كذلك هاهنا. واحتج المخالف: بأن هذه أمارة شرعية، فجاز أن تكون عامة وخاصة، كالنص، يكون عاماً كقوله: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، ويكون خاصاً كقوله: "اقتلوا المرتد". والجواب: أنه إنما كان حجة في العموم والخصوص؛ لأنه يفيد في الموضعين جميعاً إثبات الحكم في الموضوع المنصوص عليه. وليس كذلك في مسألتنا، فإنها تفيد في العموم، ولا تفيد في الخصوص من الوجه الذى بينَّا. واحتج: بأن كل معنى يجوز أن يكون منطوقاً به، جاز أن يكون مستنبطاً كالعلة المتعدية. وبيانه: أن صاحب الشرع لو نص على العلة المقصورة جاز، كذلك المستنبطة. والجواب عن العلة المنصوص عليها ما ذكرنا، وهو أنها أفادت علة المصلحة، وذلك لا يعلم بالاستخراج، وإنما يعلم بالتوقيف. وكلامنا في العلل التي تستخرج من الأحكام. [213/أ] .   (1) يعني: أن الإقرارين سواء في إثبات المدعي به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1384 واحتج: بأن العلة الشرعية أوسع من العقلية؛ لأن الشرعية يوجد الحكم بوجودها وليس من شرطها أن يعدم بعدمها. والعقلية تحتاج أن يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها. فلما ثبت أن العلة العقلية يجوز أن تكون متعدية، وتكون مقصورة، فالشرعية أولى. والجواب عنه تقدم، وهو أن العلة العقلية يستفاد الحكم الموجب بها منها. وهذا يحصل بالمتعدي منها وغيره. والشرعيات علامات، والمقصورة ليست بعلامة لمعرفة حكم الأصل. وإنما علامتها السمع، فإذا لم تُعلم بها فائدة كانت كعدمها. واحتج: بأن القُيَّاس (1) اختلفوا في الدليل على صحة العلة: فقال بعضهم: سلامتها على الأصول. وقال بعضهم: التأثير والمُلاءَمة. وكل دليل ذكرته طائفة، فهو موجود في العلة المقصورة. والجواب: أن أحد الأدلة على صحتها، كونها مفيدة، وذلك معدوم هاهنا (2) .   (1) يعنى القائلين بحجية القياس. (2) ليس ذلك معدوماً، بل هناك فوائد منها: أ) معرفة هذه العلة القاصرة في حد ذاتها فائدة؛ لأن العلم بالشىء خير من الجهل به. ب) أن النفس البشرية تتوق إلى معرفة علل الاشياء. ج) أن يمتنع من القياس عليها إذا عرف أنها قاصرة. د) أن نَظَرَنا الآن إليها جعلها قاصرة، وربما حدث جنس آخر تتوفر فيه هذه العلة، فتكون متعدية والحالة هذه. انظر: التمهيد لأبى الخطاب (4/64) والاحكام للآمدي (3/201) . وقد تبنَّى أبو الخطاب القول بصحتها، مخالفاً شيخه أبا يعلى، ولذلك تعقبه في أكثر الأدلة وأجاب عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1385 مسألة [تخصيص العلة الشرعية] لا يجوز تخصيص العلة الشرعية (1) . وتخصيصُها نقضُها (2) . وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسان "القياس: أن يقاس على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله. فأما إذا أشبهه في حال، وخالفه في حال، فهذا خطأ" (3) .   (1) راجع هذه المسألة في: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف ص (71) ، والتمهيد لأبي الخطاب (4/69) وروضة الناظر (2/321) ، والمسوَّدة ص (412،410) . (2) هذا الذى جزم به المؤلف هنا، ولكن في المسائل الأصولية من كتاب الروايتين ص (71) ذكر رأيين للحنابلة، الجواز وعدمه، ثم قال: (إن القول بالجواز هو المذهب الصحيح، ومسائل أصحابنا تدل عليه) . وفي المسوَّدة ص (413) : (قلتُ: وقد ذكر القاضي في مقدمة المجرد أن القول بجواز تخصيصها هو ظاهر كلام أحمد في كثير من المواضيع. قلت: فصارت على روايتين منصوصتين، ولفظه: هي صحيحة حجة فيما عدا المخصوص) . وكان الأولى أن يحرر المؤلف محل النزاع؛ لأن العلة قسمان: منصوصة، ومستنبطة. وقد حرر محل النزاع أبو الخطاب في التمهيد، فذكر أن العلة المستنبطة فيها قولان، وبكل واحد قال فريق من الحنابلة، وأن كلام الإمام أحمد يحتمل القولين. ثم ذكر المنصوصة، وقال: من يقول بتخصيص العلة يقول بتخصيصها، ومن منع من تخصيص المستنبطة اختلفوا في ذلك فقال بعضهم بالجواز، وقال بعضهم بعدمه. وسيأتي في استدلال المؤلف ومناقشته ما يشير إلى ذلك. (3) هذه الرواية ترددت كثيراً، وقد سبق توثيقها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1386 وهذا الكلام يمنع تخصيصها عنده. وذكر أبو إسحاق (1) في جزء وقع إلي من شرح الخِرَقي فقال: أصحابنا على وجهين: منهم من يرى تخصيص العلة. ومنهم من لا يرى ذلك (2) . وقد ذكر أبو الحسن الجزري (3) في جزء فيه مسائل من الأصول قال: لا يجوز تخصيصها. وهو قول الشافعي (4) ، وجماعة من المتكلمين (5) .   (1) هو: ابن شاقلا، وقد سبقت ترجمته. (2) وهو ما صرح به أبو الخطاب في التمهيد (4/69-70) وقال: (وكلام أحمد - رضي الله عنه - يحتمل القولين معاً) . وذكر ذلك في المسودة ص (412) ، والروضة (2/321) . والقول بعدم الجواز اختاره القاضي هنا، ونسبه إلى شيخه أبي عبد الله الحسن بن حامد في المسائل الأصولية ص (71) . ونسبه هنا وفي المسوَّدة إلى أبي الحسن الخزري. والقول بالجواز اختاره أبي الخطاب في التمهيد، وانتصر له. (3) هو: عبد العزيز بن أحمد بن الحسن أبو الحسن الخرزي، أو الجزري وقد سبقت ترجمته ص (1000) . (4) هكذا جاءت النسبة في جمع الجوامع (2/295) . والآمدي في الاحكام (3/202) ذكرها منسوبة إلى الإِمام الشافعي بصيغة "قيل". ولكن الغزالي في شفاء الغليل ص (460) صرح بأنه لم يُنْقل عن أبي حنيفة أو الشافعي تصريح بجواز التخصيص أو منعه. (5) انظر: التبصرة ص (466) والمعتمد (2/822) ، والمحصول (5/323) ، والإحكام للآمدي الموضع السابق، والإبهاج (3/93) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1387 وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز تخصيصها (1) . وحكي ذلك عن مالك (2) . وقال أحمد -رحمه الله- في القياس: يقتضي أن لا يجوز شَرْي أرض السواد؛ لأنه لا يجوز بيعها (3) ليس بموجب لتخصيص العلة، لأن تخصيص العلة ما مَنَع من جريانها في حكم خاص. وما ذكره أحمد -رحمه الله- إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول للخبر. دليلنا: أن هذه علة يجب وجود الحكم بوجودها. فوجب أن يكون تخصيصها   (1) الظاهر من كلام المؤلف أن أصحاب أبي حنيفة يقولون كلهم بالجواز، ولكن صاحب كشف الأسرار ذكر أن الحنفية قسمان في هذه ال مسألة ، حيث قال (4/1152) : (واختلفوا في تخصيص العلة، فقال القاضي الإمام أبو زيد والشيخ أبو الحسن الكرخي، وأبو بكر الرازي وأكثر أصحابنا العراقيين: إن تخصيص العلة المستنبطة جائز ... وذهب مشايخ ديارنا قديماً وحديثاً إلى أنه لا يجوز ... هذا في العلة المستنبطة. فأما في العلة المنصوصة فاتفق القائلون بالجوار في المستنبطة على الجواز فيها. ومن لم يجوز التخصيص في المستنبطة فأكثرهم جوزه في المنصوصة، وبعضهم منعه في المنصوصة أيضاً) . وذكر في مسلم الثبوت (2/277) الرأيين عن الحنفية وأن القول بالجواز هو المختار، وقال به الأكثر منهم. وانظر الفصول في الأصول (144) . (2) انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي المالكى ص (400) ، فقد صرح بأن القول بالجواز هو المذهب المشهور. (3) في الأصل (بيعه) والضمير عائد على مؤنث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1388 نقضاً لها، قياساً على العلة العقلية. مثل الحركة والسكون، والقدرة والعجز والسواد والبياض، وغير ذلك مما هو علة في العقل للحكم الذي موجبه المحل الذي توجد فيه، فإن تخصيصها [213/ب] يكون نقضاً لها. كذلك العلة الشرعية. فإن قيل: العلة العقلية موجبة لما توجبه بنفسها. ألا ترى أنه لا يجوز وجودها في وقت من الأوقات غير موجبة لما توجبه. والشرعية أمارة للحكم بدلالة وجودها قبل الشرع، من غير أن يتعلق بها حكم. قالوا: يبين صحة هذا: أنه يجوز أن ينص الله تعالى على أن العلة الشرعية هي علة للحكم في موضع دون موضع، ولا يجوز أن ينص على أن العلة العقلية [هي علة] لما توجبه في بعض المواضع دون بعض. قيل: الشرعية بعد جعلها علة، قد صارت بمنزلة العقلية في اقتضائها للحكم وإيجابها له، ووجوب وجوده بوجودها، وكونها موجبة في زمان دون زمان لا يدل على كونها علة في مكان دون مكان؛ لأنه يجوز أن لا تكون علة ثم تصير (1) علة، فلا يجوز أن تكون علة في مكان ولا تكون علة في مثله؛ لأن وجودها مع زوال الحكم يدل على أنه نقض للعلة، وأنها مقيدة بصفة زائدة تخص ذلك الموضع الذي هي علة فيه، فبان الفرق بين الزمانين والمكانين. وقد قيل في جواب هذا: إن العلة العقلية سبب كونها علة العقلُ، وذلك السبب يوجد على الاتصال في جميع الأوقات، فلا يخرج عن كونها علة مع وجود سببها. والعلة الشرعية سببها الشرع. وذلك السبب يختص ببعض الأوقات دون بعض فكانت علة في بعض الأزمنة دون بعض.   (1) في الأصل: (يصير) بالمثناة التحتية فيهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1389 ونحن إنما اعتبرنا إحداهما بالأخرى، مع وجود سببها، وهما متساويان في هذه الحالة، وإن اختلفا في غيرها. واعترض المخالف على هذا وقال: العلل العقلية لم تصر عللاً بالعقل، وإنما هي علل بأنفسها. ألا ترى أنها قد كانت عللاً، وإن لم يكن هناك ذو عقل. وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يصح وجود العلة العقلية قبل وجود العقل، لأنها به صارت عامة. وإنما يصح وجودها مع عدم ذي عقل؛ لأن ذلك ليس بعلة لها، وإنما علتها (1) العقل، وهو موجود. فإن قيل: العلل الشرعية، لما لم تكن موجبة لهذه الأحكام قبل ورود الشرع لم يجز أن يرد الشرع بكونها موجبة. والعلل العقلية لما كانت موجبة لم يجز أن يرد الشرع بكونها غير موجبة. قيل: لما كانت هذه العلل قبل ورود الشرع غير أمارات للأحكام، ثم لم يمتنع أن يرد الشرع بكونها أمارات [214/أ] لم يمتنع أيضاً أن تكون غير موجبة قبل الشرع ثم يرد الشرع بكونها موجبة لما تعلق بها من الأحكام. وقد قيل: إن القول بتخصيص العلة يقتضي سد باب الاستدلال على صحة العلة. فإنه لا تثبت العلة إلا بأمارة تدل على صحتها فإن وجد الحكم لوجودها، دلت الأمارة على صحتها. وإن لم يوجد الحكم لوجودها لم تكن تلك الأمارة دلالة على صحتها، فتكون علة تارة، ولا تكون علة أخرى، وتكون بعض العلة، فيجب ضم وصف آخر إليها حتى لا تنتقض. فثبت أنها لم تكن علة مع عدم الوصف الزائد. وقد قيل في المسألة: إن تخصيص العلة يؤدي إلى تكافئ الأدلة؛ لأن من   (1) في الأصل: (علبها) بالموحدة التحتية، وهو خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1390 قال: يحل شرب النبيذ، لأنه مائع يشتهى (1) شربه، فوجب أن يكون حلالاً، كالماء وسائر الأشربة، وقال: قام الدليل في الخمر فخصصها، لم ينفصل ممن قال: إنه مائع يشتهى (2) شربه فوجب أن يكون حراماً كالخمر. وقد قام الدليل على الماء وسائر الأشربة فخصصها. وهذه الطريقة أصح، إذا لم يكن المعلِّل دل على صحة علته. فأما إذا دل على صحة علته بالتأثير لم يصبح القلب؛ لأن التأثير لا يوجب العلة في الحكمين جميعاً، ولا يجوز أن يؤثر إلا في أحدهما. وقيل أيضاً: بأنه لو جاز تخصيص العلة لم يوجد في شىء من العلل مناقضة؛ لأن كل واحد من أوصاف علته مع ارتفاع حكمها يمكنه أن يخصصها. ولا يلزم النقض أبداً، إذ في اتفاقنا على أن من العلل الشرعية ما يتوجه عليها النقض دليلٌ على امتناع جواز تخصيص العلة. وهذا لا يلزم المخالف؛ لأنه يقول: جواز تخصيص العلة بشرائط وهى: أن يكون مدلولاً على صحتها في الأصل. ولا تكون مدعاة. وأن يكون الموضع الذي خص العلة فيه من المواضع التي دلت الدلالة على تخصيص هذه العلة منها. ومتى أخل المستدل بشىء من هذه الشرائط، ثم أوجد العلة بجميع أوصافها مع عدم الحكم، كان دليلاً على نقضها (3) . ولأنه لا يخلو إما أن يجب إجراء العلة في الفروع لنفسها أو بدليله. فإن   (1) في الأصل: (شبيهاً) وما أثبتناه موافق لما في التمهيد (4/86) . (2) في الأصل: (ـ ـ ـ ها) بدون إعجام، ووما أثبتناه موافق لما في التمهيد الموضع السابق. (3) في الأصل: (انقضائها) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1391 وجب إجراء الحكم بها لنفسها، لم يجز تخصيصها، لأن نفسها موجودة فيما امتنعت من الحكم بها فيه. وإن احتاج إلى دليل في تعليق الحكم بها في كل فرع استغنى عن العلة، وصار الدليل على الحكم في كل فرع دليلاً على الحكم في العلة. واحتج [214/ب] المخالف: بقوله تعالى: (إنَّ لَهُ أباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أحَدَنَا مَكَانَهُ) (1) . قالوا: وكيف يأخذ أحدهم مكانه، وأبوه أيضاً شيخ كبير، لولا جواز القول بتخصيص العلة. والجواب: أن مضمونه أن أباه يخاف عليه؛ لأنه مأخوذ في جناية، وهو إذا أخذ أخوه لم يكن خائفاً (2) . واحتج: بأن العلل الشرعية أمارة على الأحكام، وليست بموجبة لها. ألا ترى أنها كانت موجودة قبل الشرع غير موجبة. وإذا جاز أن تكون أمارة في حال دون حال، جاز أن تكون أمارة في موضع دون موضع. والجواب عنه تقدم، وهو أنه يجوز أن لا تكون علة، وتصير علة. ولا يجوز أن تكون علة في مكان ولا تكون في مثله؛ لأن وجودها مع زوال الحكم يدل على أنه نقض للعلة، وأنها مقيدة بصفة زائدة تختص ذلك الموضع الذي هي علة (3) فيه. فبان الفرق بين الزمانين والمكانين. واحتج: بأن هذه العلل، لما كانت أمارات الأحكام، وجب أن يجوز   (1) آية (78) من سورة يوسف. (2) في الأصل: (خائنا) . (3) في الأصل: (علته) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1392 تخصيصها، كما يجوز في أسماء العموم. لما كانت الأسماء أمارات لما علق بها من الأحكام جاز تخصيصها. يبين صحة هذا: أن العموم في الأسماء آكد حالاً وأعلا مرتبة من العلة؛ لأن رد العموم يوجب التكفير، ورد العلة المقتضية لا يوجب ذلك. فإذا جاز تخصيص العموم، فلأنْ يجوز تخصيص العلة التي هي دونه في الرتبة أولى. والجواب: أن تخصيصه لا يُسقط دلالتَه، ولا يُسقط شرطه؛ لأنه إنما كان دليلاً على الحكم لكونه قولاً لمن تجب طاعته، فإذا خص منه شىء كان ما يتناوله اللفظ مما عداه داخلاً في اللفظ. فوجب إثبات حكم اللفظ فيه، وليس كذلك في مسألتنا. فإنه إذا وجدناها مع عدم الحكم تبينا أنها ليست كمال العلة، وأن الحكم ليس بتابع لها وإنما هو تابع لها تبع زيادة صفة يجب إضافتها إليها. واحتج: بأن العلة المنصوص عليها، وهي علة صاحب الشرع يجوز تخصيصها كذلك المستنبطة. والجواب: أن العلة المنصوص عليها لا يجوز تخصيصها. وإذا وجدناها مع عدم الحكم، تبينا أنها بعض العلة، وأن الله تعالى نص على بعض العلة، ووكل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم. وإذا كان كذلك، لم يكن بين المنصوص عليها وبين المستنبطة فرق. وقد قيل: يجب أن تكون منتقضة، ولا يقدح ذلك فيها؛ لأن الدليل على صحتها كونها منصوصاً [215/أ] عليها، وذلك موجود. واحتج: بأنه يجوز أن يوجد الحكم بوجود العلة، ثم تزول هذه العلة والحكم باق بدليل آخر وعلة أخرى. فإذا صح أن يبقى الحكم ولا هذه العلة، صح أن توجد هذه العلة ولا حكم. والجواب: أنه إذا وجد الحكم ولا علة لم يمنع أن يجري، دليل صحة العلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1393 على معلولها. فلهذا صح أن يوجد الحكم، وليس كذلك هاهنا؛ لأنا إذا وجدنا العلة ولا حكم، منع أن يجري هاهنا؛ لأنا إذا وجدنا العلة ولا حكم، منع أن يجري دليل صحة العلة في معلولاتها. ولأنه إذا وجد الحكم ولا علة لم يفضِ إلى تكافؤ الأدلة، وإيجاب الحكم وضده بعلة واحدة في مسألتنا يفضي إلى ذلك، فبان الفرق بينهما. فإن قيل: أليس قد قال أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي، وقد قيل: "كيف تشتري ممن لا يملك (1) ؟ فقال: القياس كما تقول، ولكن هو استحسان". واحتج: بأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شَرْي المصاحف، وكَرِهوا بيعها (2) . وهذا يدل على تخصيص العلة. قيل: تخصيص العلة ما يمنع من جريانها في حكم خاص. وما ذكره أحمد -رحمه الله- إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول للخبر (3) . ولأنهم قد يعدلون في الاستحسان عن قياس، فامتنع أن يكون معناه تخصيصاً (4) بدليل.   (1) يعني كيف تقول بجواز شراء أرض السواد والبائع لا يملكها. (2) وقد سبق الكلام على توثيق هذه الرواية عن أحمد، وتخريج الأثر في ترخيص الصحابة في شراء المصاحف ... ص (1182) . (3) وقد تكلم الغزالي على تخصيص العلة كلاماً جيداً في كتابه شفاء الغليل ص (458) وابن السبكي في الإبهاج (3 /92) . (4) في الأصل (تخصيص) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1394 فصل [الطرد شرط في صحة العلة] وهذا الكلام في الطرد وأنه شرط في صحة العلة (1) . فأما العكس فليس بشرط في صحة العلة. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم (2) ، وسندي: "رطل حديد برطلين، لا يجوز، قياساً على الذهب والفضة" (3) . فقد اعتبر الطرد وإن لم ينعكس؛ لأن علتها ما لا يوزن، ومع هذا قد يجري فيه الربا في المكيلات. وإنما كان كذلك؛ لأن العلة إذا صحت بما تقدم ذكره من لفظ صاحب   (1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/30) وروضة الناظر (2/321) ، والمسوَّدة ص (427) . والطرد هو: (وجود الحكم لوجود العلة) . أما العكس هنا فهو: (عدم الحكم لعدم العلة) . انظر: الحدود للباجي (ص 74-75) والتعريفات للجرجاني باب الطاء ص (74) وباب العين ص (82) . والقول باشتراط الاطراد هنا متفق مع ما اختاره المؤلف من أن تخصيص العلة نقض لها كما تقدم. وفي اشراط الاطراد في العلة خلاف اقتصر المؤلف على قول واحد، واستدل له. وينبغي أن يعلم أن هناك فرقاً بين اشتراط الاطراد في العلة، وبين القول بصحتها لأنها مطردة، فلا تلازم بين الأمرين. انظر: التمهيد (4/36) وروضة الناظر (2/291) وسيأتي كلام المؤلف على هذا ص (1436) . (2) هو: أحمد بن القاسم، وقد سبقت ترجمته. (3) انظر في هذا: الروايتين والوجهين للمؤلف (1/318) والإنصاف (5/14) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1395 الشريعة، نصاً وظاهراً وتنبيهاً، ومن التأثير وشهادة الأصول، جاز أن تجتمع علتان في حكم، فتزول إحداهما، ويبقى الحكم ببقاء العلة الأخرى، كالمُحْرِمة إذا حاضت حرُم وطؤها لحيضها ولإحرامها، فإذا طهرت من حيضها واغتسلت (1) لم يحل وطؤها لبقاء إحرامها. وقد تَخْلُفُ العلةُ العلة فيبقى الحكم بالعلة التي خلفتها، كالنكاح يزول وتخلفه العدة، فتمنعها العدة من عقد النكاح كما منعها النكاح. وكذلك الرِّدة علة لإباحة الدم، والزنا مع [215/ب] الإحصان، فإذا اجتمعا تعلقت الإِباحة بهما، وإذا أسلم من الرِّدة لم تزُل الإِباحة للزنا. فإذا كان كذلك، دل على أن ليس من شرط العلة العكس، هذا إذا كان التعليل لغير الجنس. فأما إذا كان التعليل للجنس وجب أن تنعكس؛ لأن تعليل جنس الحكم يقتضي حصر الجنس، ويجري مجرى الحدود، فإذا لم ينعكس لم يكن حاصراً للجنس، ولم يكن علة له. ألا ترى أنه إذا قال: الرِّدة علة لجنس إباحة الدم لم يصح؛ لأن الزنا مع الإِحصان يبيحُه، وقتل النفس بغير النفس يبيحُه. فلا تكون الردة علة لجنس إباحة الدم، لأنها لا توجب نوعين من الإِباحة اللذين يوجبهما الزنا والقتل. ومتى كانت العلة للجنس أوجب جميع أنواع ذلك الجنس، فانعكست، ألا ترى إذا قلت: البلوغ والعقل علة لجنس التكليف انعكست.   (1) في الأصل: (أو اغتسلت) ، والهمزة زائدة، ذلك أن الحائض إذا طهرت ولم تغتسل لا يباح في حقها غير صوم وطلاق. انظر: شرح منتهى الإرادات (1/45) والروض المربع مع حاشية العنقري (1/108) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1396 مسألة [القياس على المخصوص من جملة القياس] المخصوص من جملة القياس يقاس عليه، ويقاس على غيره (1) . أما القياس عليه، فإن أحمد -رحمه الله- قال في رواية ابن منصور: "إذا نذر أن يذبح نفسه، يُفدي نفسه بذبح كبش" (2) . فقاس من نَذَر ذبح نفسه على من نَذر ذبح ولده. وإن كان ذلك مخصوصاً من جملة القياس، وإنما ثبت بقول ابن عباس (3) .   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/444) وروضة الناظر (2/331) والمسوَّدة ص (399) . وقد ألف شيخ الإِسلام ابن تيمية رسالة بين فيها أنه لا يوجد حكم شرعي مخالف للقياس. قام بطبعها الشيخ محب الدين الخطيب. وكذلك تكلم ابن القيم عن هذه المسألة في كتابه اعلام الموقعين (1/383) مترسماً خطى شيخه ابن تيمية. (2) هذه رواية في المذهب، ومروية عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهناك رواية ثانية: أن عليه كفارة يمين، وهذه قاعدة في كل نذر محرم. وهذه الرواية هي المذهب كما في حاشية المقنع (3/597) وهي منسوبة لابن عباس رضي الله عنهما. وقد ذكر ابن قدامة في الكافي (4/419) : أن هناك روايتين، الأولى كما ذكرها المؤلف. والثانية: لا يجب عليه الكفارة؛ لأنه نذر معصية. وفي الاختيارات لابن تيمية ص (331) إن قصد بذلك اليمين، فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشاً. (3) سبق تخريج هذا الأثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما. ويلاحظ: أن المخصوص من جملة القياس ثبتت خصوصيته بقول صحابي، هو ابن عباس، رضي الله عنهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1397 وأما قياسه على غيره، فإن أحمد -رحمه الله- قال في رواية المروذى: "يجوز شَرْي أرض السواد، ولا يجوز بيعها. فقيل له: كيف اشتري ممن لا يملك؟! فقال: القياس: كما تقول، ولكن استحسان" (1) . واحتج بأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شَرْي المصاحف، وكَرِهوا بيعَها. وهذا يشبه ذلك (2) . فقد قاس مخصوصاً من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس. وبهذا قال أصحاب الشافعي (3) . وقال أصحاب أبي حنيفة: المخصوص من جملة القياس لا يقاس على غيره. ولا يقاس غيره عليه، إلا أن يكون معللاً أو مجْمعاً على جواز القياس عليه (4) .   (1) قوله هنا: (ولكن استحسان) يدل على أن الإمام أحمد يقول بالاستحسان، وهو هنا العدول عن قياس لقياس آخر. (2) سبق ذكر هذه الرواية في أكثر من موضع. (3) وما ذكر المؤلف هنا وجه عند الحنابلة. وهناك وجه آخر ذكره أبو الخطاب في التمهيد (3/446) والمسوَّدة ص (400) وهو ما حكاه المؤلف عن أصحاب أبي حنيفة، كما سيأتي. (4) هذا الرأي منسوب لأبي الحسن الكرخي، فإنه قال بجواز ذلك في ثلاث حالات: أن يرِد الخبر بكونه معللاً، أو كانت الأمة مجْمعة على تعليله، أو كان ذلك الحكم موافقاً لبعض الأصول، وإن كان مخالفاً لبعضها. أما رأي عامة الحنفية -كما عبر صاحب كشف الأسرار- منهم القاضي أبو زيد والشيخان ومن تابعهم من المتأخرين فهو: أن الشرع إذا ورد بما يخالف في نفسه الأصول يجوز القياس عليه إذا كان له معنى يتعداه. وهنالك رأي ثالث لبعض الحنفية. أنه لا يجوز القياس عليه. وهناك رأي رابع لمحمد بن شجاع الثلجي الحنفي: (أن الحكم المخالف للقياس إن ثبت بدليل مقطوع به جاز القياس عليه وإلا فلا) . = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1398 أما المعلَّل كقوله عليه السلام في الهر (1) : (إنَّها من الطَوَّافين عليكم والطوَّافات) (2) . فقاسوا عليه كل ما وجدت فيه هذه العلة من ساكني البيوت، مثل الفأرة، والحية، ونحو ذلك.   = انظر: أصول الجصاص ص (113) كشف الأسرار (3/1031-1032) وأصرل السرخسي (2/153) . وبهذا يتبين أن نسبة هذا القول إلى أصحاب أبي حنيفة ليس على إطلاقه، وإنما هو قول أبي الحسن الكرخي منهم. (1) هكذا في الأصل، والحديث وارد بلفظ (الهرة) . والهر يطلق على الذكر والأنثى، وقد يدخلون الهاء على المؤنث، كما قاله ابن الأنباري. انظر المصباح (2/985) مادة (هرر) . (2) هذا جزء من حديث رواه أبو قتادة - رضي الله عنه - مرفوعاً بلفظ (إنها ليست بنجَس، إنها من الطَّوافين عليكم والطوافات) . أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة (1/18) ، والترمذي في باب: ما جاء في سؤر الهرة (1/153) وقال: (حديث حسن صحيح) . والنسائى في باب سؤر الهرة (1/48) وابن ماجه، في باب الوضوء من سؤر الهرة (1/131) والدارمي في باب الهرة إذا ولغت في الإناء (1/153) . والدارقطني في باب: سؤر الهرة (1/70) والطحاوي في شرح معاني الآثار باب: سؤر الهرة (1/18) ، والإِمام مالك في الموطأ باب: الطهور للوضوء ص (40) وابن خزيمة في صحيحه (1/55) ، والحاكم في مستدركه، باب: أحكام سؤر الهرة (1/160) وقال: (هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، على أنهما على ما أصَّلاه في تركه، غير أنهما قد شهدا جميعاً لمالك بن أنس أنه الحكم في حديث المدنيين، وهذا الحديث مما صححه مالك، واحتج به في الموطأ) ووافق الذَّهبي الحاكم على تصحيحه. وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (5/296، 303، 309) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1399 وأما المجْمع على جواز القياس عليه، فمثل التحالف (1) في الإجارة عند الاختلاف على إثباته في التبايعات (2) ؛ لاتفاق الناس الذين أوجبوا التحالف (3) في البيع أن حكم الإجارة حكم البيع (4) . وما عدا ذلك لا يجوز القياس عليه، ولا قياسه على غيره. مثل إيجاب الوضوء من [216/أ] القهقهة في الصلاة، فلا تقاس عليه القهقهة في صلاة الجنازة، وفي سجود التلاوة؛ لأن الأثر ورد بإيجاب الوضوء من القهقهة في صلاة لها ركوع وسجود (5) .   (1) في الأصل: (التخالف) بالخاء المعجمة، وهو خطأ بدليل ما بعده. (2) في الأصل: (التباعات) وهو خطأ. (3) في الأصل: (التخالف) بالخاء المعجمة، وهو خطأ بدليل السياق. (4) الاختلاف في الإِجارة يكون في الأجرة أو المدة، فقياس الأصول: أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولكن ترك هذا إلى قياس الإِجارة على البيع إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة. هذا ما أفاده أبو الخطاب في التمهيد (3/555) . ولأبي بكر الجصاص تفصيل ذكره في أصوله ص (122) . وهذا المثال الذي ذكره المؤلف على المجْمع على جواز القياس عليه، ذكره صاحب كشف الأسرار (3/1031) مثالاً على الحالة الثالثة التي استثناها أبو الحسن الكرخي وهي: ما إذا كان ذلك الحكم موافقاً لبعض الأصول وإن كان مخالفاً لبعضها. ولم يذكر على الحالة الثانية -وهي: ما إذا كانت الأمة مجمعة على التعليل- مثالاً. وانظر في هذه المسألة: حاشية ابن عابدين (6/75) . محل الشاهد من هذا الأثر هو: (بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس، إذ دخل رجل، فتردى في حفرة كانت في المسجد -وكان في بصره ضرر- فضحك كثير من القوم، وهم في الصلاة، فأمر رسول الله -صلى الله = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1400 ومثل إسقاط الكفارة في استدعاء القيء، فلا يقاس عليه الأكل (1) . ومثل جواز الوضوء بنبيذ التمر، فلا يقاس عليه غيره من الأنبذة للأثر الوارد (2) . ومثل جواز البناء على الصلاة، إذا سبقه الحدث فيها (3) ، لا يقاس عليه من احتلم في صلاته، وفكَّر فأمنى (4) ونحو ذلك.   = عليه وسلم- من ضحك أن يعيد الصلاة، ويعيد الوضوء) . وقد سبق تخريجه (3/895) . وانظر: أصول السرخسي (2/153) فقد ذكر قريباً من نص المؤلف في هذه المسألة. (1) من استدعى القيء عامداً فعليه القضاء ولا كفارة، وأما من أكل عامداً فعليه القضاء والكفارة عند الحنفية. انظر: شرح فتح القدير (1/335، 338) وحاشية ابن عابدين (2/414) . (2) الأثر الوارد في ذلك هو: ما رواه ابن مسعود -رضي عنه- قال: (سألني النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما في إداوتك؟ فقلت: نبيذ، فقال: تمرة طيبة وماء طهور. قال: فتوضأ منه) . وقد سبق تخريجه (1/341) . (3) القياس أنه لا يبني على الصلاة السابقة؛ لأن الحدث ينافي الصلاة، والمشي والانحراف يفسدان الصلاة، إلا أنه ترك هذا القياس، وقيل بالبناء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليَبْنِ على صلاته ما لم يتكلم) . انظر: أصول الجصاص ص (120) فإن المؤلف نقل هذا عنه، وانظر أيضاً شرح فتح القدير (1/377) . (4) فإن عليه أن يغتسل، ولا يبني على صلاته، بل يستأنف صلاة جديدة حملاً على قياس الأصل. انظر: أصول الجصاص ص (120) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1401 دليلنا: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبصَارِ) (1) . وهذا عام في كل موضع إلا ما خصه الدليل. وأيضًا: فإنا إذا قسنا على الخصوص قسنا الخصوص على غيره. وحملنا النبيذ على غيره من المائعات، والقهقهة على الكلام. فإن مخالفنا يعترف بصحة القياس، وأنه يجب حمل النبيذ على غيره من المائعات، والقهقهة على الكلام، ويَدَّعي أنه استحسن تركه لما هو أولى منه (2) . وهذا غير صحيح من وجهين: أحدهما: أنه يلزمه أن يبين الأوْلى، وإلا حكمُ القياس متوجه عليه، وهذا كما لو قال: إن القرآن يدل على كذا، ولكن تركته للسنَّة، فتكون حجة القرآن لازمة له ما لم يبين السنة التي هي أقوى من القرآن. ولا يكفى في ذلك مجرد دعواه. والثاني: أنه يدعي أن الاستحسان أقوى من القياس، فلهذا تركَه. والقياس إذا عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلاً، ولم يكن له حكم كما لو عارضه نص كتاب أو سنة أو إجماع. ولما حكم بصحة القياس هاهنا امتنع أن يكون عارضه أقوى منه ومانع من استعماله. وأيضاً: فإن المخصوص من جملة العموم يقاس عليه، فالمخصوص من جملة قياس الأصول أوْلى أن يقاس عليه؛ لأن حكم العموم أقوى من قياس الأصول   (1) آية (2) من سورة الحشر. وذلك لوجود نصوص صحت عندهم، أو لمخالفته قياس الأصول. انظر: أصول الجصاص الموضع السابق، وأصول السرخسي (2/153) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1402 له (1) ، ولهذا ترك القياس له (2) وأيضاً: فإن ما ورد به الأثر قد صار أصلاً بنفسه، فوجب القياس عليه، كسائر الأصول (3) . وليس رد هذا الأصل لمخالفة تلك الأصول بأوْلى من رد الأصول لمخالفة هذا الأصل، فوجب إعمال كل واحد منهما في مقتضاه وإجراؤه على حكمه. وأيضآ: فإن القياس يجري مجرى خبر الواحد، بدليل أن كل واحد منهما يثبت بغالب الظن، ثم ثبت أنه يصح أن يرد مخالفاً لقياس الأصول، كذلك القياس قبله. وأيضاً: لما جاز القياس على الخصوص من جملة القياس إذا [216/ب] كان معللاً بتعليل صاحب الشرع جاز وإن لم يكن معللاً. دليلُه: سائرُ الأصول. فإن قيل: إذا ورد معللاً، فإن كل ما وجدت فيه تلك العلة يصير كالمنصوص عليه، كأن النبيَّ امر بالقياس عليه، ويصير [القياس] عليه أوْلى من   (1) قوله: (له) لم أفهم لها معنى، فلعلها خطأ. (2) قال أبو الخطاب في التمهيد (3/446) : (بل عموم الكتاب أقوى؛ لأنه مقطوع بطريقه، وقياس الأصول غير مقطوع عليه؛ لأنه مقيس على العموم بأمارة مظنونة، ثم العموم لا يمنع، فأوْلى أن لا يمنع المقيس عليه) . وانظر: التبصرة ص (448) . (3) هذا هو الفيصل في الموضوع، فإن أي حكم ورد به نص شرعي صحيح أصبح أصلاً بنفسه، فيقاس عليه، ولا يقال: إنه مخالف لقياس الأصول. وهذا هو ما بينه ابن القيم في كتابه الجليل: اعلام الموقعين، ومن قبله شيخ الإِسلام ابن تيمية. وانظر: اعلام الموقعين (2/311) . على أن أبا بكر الجصاص قد أورد هذا الدليل على شكل اعتراض، وأجاب عنه، وذلك في أصوله ص (123) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1403 قياس الأصول، وليست هذه حال المخصوص العاري عن علة؛ لأنه لا يوجد فيه ما يبطل قياس الأصول. قيل: لو كان الحكم عندك في المعلل لما ذكرت، لوجب أن تقيس النبيذ على الخمر في التحريم لوجود علة الخمر (1) بقوله تعالى (إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُوقِعَ بِيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ) (2) . وهذه العلة موجودة في النبيذ، ومع هذا فلم تقيسوا النبيذ على الخمر. وكذلك كان يجب قياس الخل على النبيذ في جواز الوضوء -كما حُكي عن الأصم (3) جواز الوضوء بسائر المائعات- لوجود العلة في النبيذ بقوله عليه السلام: (ثمرةٌ طيبة، وماء طهور) (4) ، وهذه العلة موجودة في الخل. وكذلك كان يجب أن تقيسوا الآكل والشارب في رمضان لمرض، على الناسي في إسقاط القضاء لوجود العلة فيه، وهو قوله: (اللهُ آطْعمكَ وسقَاكَ) (5) . وهذا التعليل موجود في المريض. وليس لهم أن يقولوا: هذا التعليل لاسقاط   (1) في الأصل: (العلة الخمر) و (ال) زائدة. (2) آية (91) من سورة المائدة. (3) هو: عبد الرحمن بن كيسان المعتزلي، وقد سبقت ترجمته. (4) إشارة إلى حديث النبيذ، وقد سبق تخريجه (1/341) . (5) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه البخاري في كتاب الصيام، باب: الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً (3/38) بلفظ: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال إذا نسي فأكل وشرب، فليتمَّ صومَه، فإنما أطْعَمه الله وسقَاه) . وأخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (2/89) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1404 المأثم، بل هو تعليل لإسقاط القضاء؛ لأنه روي في بعض الألفاظ (إنَّمَا هو رِزقٌ ساقَه اللهُ تَعَالى إليهِ، فلا قضاءَ عليه) رواه الدارقطنى (1) . فجعل هذه علة في إسقاط القضاء، ومع هذا فلمِ يقيسوا عليه غيره (2) . وكذلك أيضاً قاسوا المجامع ناسياً على الآكل ناسياً، وإن لم يكن الأصل معللاً، ولا مجْمعاً على قياسه عليه (3) ؛ لأن أصحابنا منعوا من ذلك، وقالوا في الآكل ناسياً: لا يفطر (4) ، وفي المجامع يفطر (5) ، فامتنع أن تكون العلة في   (1) الحديث رواه الدارقطنى في كتاب الصيام (2/180) عن أبي هريرة بلفظ قريب من لفظ البخاري. وأخرجه باللفظ الذي ذكره المؤلف منسوباً إليه (2/179) وقال فيه: مندل وعبد الله بن سعيد، وهما ضعيفان. كما أخرجه بطرق أخرى وبألفاظ متقاربة. وكلها لا تخلو من مقال. (2) القياس عندهم أن من أكل أو شرب ناسياً أنه يفطر، وعليه القضاء، ولكن ترك هذا القياس للحديث الصحيح الذي ذكره المؤلف. انظر: فتح القدير (2/327) مع البداية والهداية. والقول بأن العلة في الناسي موجودة في المريض فيه نظر ظاهر. (3) الحنفية لم يقولوا بأن المجامع ناسياً يقاس على الآكل ناسياً، حتى يلزم عليهم ما ذكره المؤلف، بل قالوا ذلك ثابت بالنص لا بالقياس. وقال البابرتي في شرحه على الهداية (2/327) مطبوع مع فتح القدير: (فإن قيل: سلمنا ذلك، لكن النص ورد في الأكل والشرب على خلاف القياس، فكيف تعدى إلى الجماع؟ أجاب بقوله [يعنى صاحب الهداية] : وإذا ثبت هذا في الأكل والشرب ثبت في الوقاع للاستواء في الركنية يعني: ثبت بالدلالة لا بالقياس؛ لأن كلاً منهما نظير للآخر في كون الكف عن كل منهما ركناً في باب الصوم) . وانظر: أصول الجصاص ص (115) وأصول السرخسي (2/153) . (4) ولا قضاء عليه. انظر: الإقناع (1/310) والمقنع وحاشيته (1/366) . (5) المجامع في نهار رمضان عليه القضاء والكفارة إن كان عامداً. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1405 جواز القياس على المعلل ما ذكروه، وإنما العلة فيه ما ذكرنا. وأيضاً: لما جاز القياس على ما ورد بخلاف القياس العقلي، وهو الطواف والسعي ورمي الجمار والوضوء (1) ، فإن العقل يخالف هذه، ومع هذا يقاس عليها. فلأنْ يجوز القياس على ما ورد بخلاف القياس الشرعي أوْلى. فإن قيل: الشرع لا يرد بما يمنع العقل منه، وإنما يرد بما يُجَوِّزه العقل. فنظيره أن يرد الأثر بما لا تمنع منه الأصول، فيجوز القياس عليه. قيل: قد ثبت أن الشرع قد ورد بما يمنع العقل منه فلا يصح هذا (2) . فإن قيل: القياس الشرعي وخبر الواحد قد ثبت [217/أ] حكمهما في خلاف قياس العقل ولا يجوز ثبوت حكمهما (3) في خلاف قياس النص، فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يختلف حكم القياس العقلي والقياس الشرعي في باب جواز القياس على المخصوص من جملة أحدهما، وامتناع جواز ذلك في المخصوص من جملة الآخر.   = وإن كان ناسياً ففيه روايتان: إحداهما: عليه القضاء والكفارة، وهي ظاهر المذهب. الثانية: عليه القضاء ولا كفارة. انظر: كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (1/259) والإقناع (1/312) والمقنع وحاشيته (1/368) . (1) فإن هذه الأمور مبنية على التعبد، فالعقل لا يدرك السر في التعبد بها، ولكن الواجب علينا التسليم والامتثال؛ لأنها صادرة ممن نقطع بحكمته وعلمه. (2) هذا غير مسلم للمؤلف. وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً عظيماً في ذلك سماه: درء تعارض العقل والنقل، بين فيه كثيراً مما يظن أن فيه تعارضاً بين العقل والنقل بأسلوب واضح مبين. وانظر: اعلام الموقعين (2/311) . (3) في الأصل: (حكمها) والضمير عائد على مثنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1406 قيل: لا نسلِّم هذا؛ لأنه قد ثبت الحكم بخبر الواحد في خلاف قياس النص، ولهذا حكمنا بخبر التَّصْرِية (1) والفَلَس (2) وغير ذلك مما يرده (3) أصحاب أبي حنيفة (4) . وكذلك قياس النص لا يقدم على غيره من قياس، الاصول التي ليست بمنصوص على أصولها.   (1) هذا إشارة إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تُصِرُّوا الإبل والغنم. فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردَّها وصاعاً من تمر) . أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب: النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم (3/87) . وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وتحريم التَصْرِية (3/1155) . وانظر: اعلام الموقعين لابن القيم (2/311) فإنه تكلم على هذه المسألة فأجاد وأفاد. (2) مثل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدركَ ماله عند رجل أفلس، أو إنسان قد أفلس، فهو أحقُ به من غيره) . أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض وأداء الديون، باب: إذا وجد ماله عند مفلس (3/147) . وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب: من أدرك ما باعه عند المشترى وقد أفلس فله الرجوع فيه (3/1193) . (3) في الأصل: (ما يرده) . (4) انظر: أصول الجصاص ص (113) وما بعدها، فقد تكلم عن هذه المسألة باستفاضة. وانظر أيضاً: أصول السرخسي (2/149) وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1407 واحتج المخالف بأن إثبات الشىء لا يصح مع وجود ما ينافيه، فلما كان القياس مانعاً مما ورد به الأثر لم يجز لنا استعمال القياس فيه؛ لأنه لو جاز ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصول التي يمنع قياسها منه، فكان يخرج حينئذ من كونه مخصوصاً من جملة القياس. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلَّم أن هاهنا ما ينافيه؛ لأن المنافاة تكون بدليل خاص، وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكره من التأويل. والثاني: أن المنافاة إنما تحصل بقياسه على غيره في إسقاط حكم النص، فأما قياس غيره فلا ينافيه، لأنه لا يسقط حكم النص، وعندهم لا يصح القياس عليه. واحتج: بأن قياس الأصول أوْلى من قياس ما ورد به الأثر، وذلك لأن قياس ما ورد به الأثر يختلف فيه، وقياس الأصول متفق عليه، والمتفق عليه أوْلى من المختلف فيه (1) . ولهذا كان ما ثبت بخبر التواتر أوْلى مما ثبت بخبر الواحد. وما شهد له أصلان أوْلى مما شهد له أصل واحد، فلما كان قياس الأصول يشهد له جميع الأصول، وكان قياس ما ورد به الأثر لا يشهد له إلا أصل واحد، وهو الأثر، كان قياس الأصول أوْلى بالاعتبار من قياس ما ورد به الأثر. والجواب: أن هذه المزيَّة موجودة في مقابلة خبر الواحد، ومع هذا فإنه مقدم على قياس الأصول. وكذلك القياس الشرعي مقدم على مقتضى القياس العقلي، وإن كان للعقل مزيَّة. ويفارق هذا خبر الواحد مع التواتر؛ لأن أحدهما مقطوع عليه.   (1) انظر: أصول الجصاص (123) فإن هذا الدليل منقول منه بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1408 مسألة يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات والأبدال بالقياس (1) . ويجوز قياسها على المواضع التي أجمع على ثبوت ذلك فيها. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الميْموني، فيمن سرق من الذهب أقل من ربع دينار: "أقطعُه. قيل: ولم؟ قال: لأنه لو سرق عروضاً قوَّمتُها بالدراهم، كذلك إذا سرق ذهباً أقل من ربع دينار قوَّمتُه بالدراهم" (2) . فقد أثبت القطع بالقياس. وكذلك نقل الميْموني عنه في النصراني إذا زنا وهو محصَن: "يرجم. قيل له: لم؟ قال: لأنه زانٍ بعد إحصانه" (3) . وكذلك نقل جعفر بن محمد النَّسائي أبو محمد عن أحمد -رحمه الله- في يهودي مرَّ بمؤذن وهو [يؤذن] (4) فقال: كذبتَ، قال: "يقتل،   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/449) والواضح لابن عقيل (2/343) والروضة مع شرحها (2/343) والمسودة ص (398) . (2) هذه الرواية ذكرها المؤلف في كتابه الروايتين والوجهين (2/331) . وكون الذهب ليس بأصل وأنه يقوم بالدراهم رواية في المذهب، والرواية الثانية: أن الذهب أصل، ومقداره ربع دينار فصاعداً، نص عليه في رواية صالح والمروذي، فإذا سرق من الذهب أقل من ربع دينار فلا يقطع، حتى لو ساوى ثلاثة دراهم فأكثر. قال المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين الموضع السابق: (هي أصح) . وهى المذهب كما ذكرها المرداوي في الانصاف (10/262) . (3) ذكر المؤلف معنى هذه الرواية منقولة عن الميموني في كتابه الروايتين والوجهين (2/224) . وراجع هذه المسألة في كتاب الإِنصاف (1/1720) والمغني (18/63) . (4) الزيادة يقتضيها المقام، وهي كذلك في أحكام الذمة لابن القيم (2/797) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1409 لأنه شتم" (1) . وهو قول أصحاب الشافعي (2) . وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يثبت ذلك بالقياس (3) . دليلنا: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبْصَارِ) (4) وهذا عام. وحديث معاذ، لما قال: (أجتهد رأيي) (5) ، صوَّبه النبي عليه السلام، ولم يفرق بين هذه الأحكام وبين غيرها، فوجب حمله على عمومه. ولأنه إجماع الصحابة، قال عمر: (إن الناس قد تتابعوا في شرب الخمر واستحقروا حدَّها، فما ترون فيه؟ فقال علي: إنه إذا شرب سكِر، وإذا سكِر هذى، وإذا هذى افترى، حَدُّه حد المفترين) . فأجمعت الصحابة على إلحاقه بالقاذف قياساً (6) .   (1) هذه الروايات الثلاث ذكرت في المسوَّدة ص (398) . والرواية الأخيرة ذكرها ابن القيم في كتابه: أحكام أهل الذمة في الموضع السابق، كما ذكر كثيراً من الروايات عن الإمام أحمد فيما يتعلق بمن تكلم في الله من أهل الذمة، وأورد الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب قتل السَّباب وانتقاض عهده فأجاد وأفاد، رحمه الله تعالى. (2) انظر: البرهان (2/895) والتبصرة ص (440) والإحكام للآمدي (4/54) . (3) انظر في هذا: أصول الجصاص ص (113) وأصول السرخسي (2/157، 164) وتيسير التحرير (4/103) وفواتح الرحموت (2/317) . (4) آية (2) من سورة الحشر. (5) هذا جزء من حديث معاذ - رضي الله عنه - المشهور: (بم تحكم إن عرض لك قضاء) ؟ الحديث. وقد سبق تخريجه. (6) حكاية الإجماع هذه إما أن يراد أنهم أجمعوا على استعمال القياس في الحدود، حيث قاس بعضهم حد الخمر على حد القذف، ولم ينكر عليهم استعمال القياس هنا. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1410 وأيضاً: فإنه حكم لم يثبت بما يوجب العلم ويقطع العذر، فجاز إثباته بالقياس. أصله: سائر الأحكام. ولأن ما جاز إثباته بخبر الواحد جاز إثباته بالقياس. أصله: ما ذكرنا. يبين صحة هذا: أن القياس بمنزلة خبر الواحد، بدليل أن كل واحد منهما يثبت بالاستدلال. ثم الحدود تثبت بخبر الواحد، كذلك القياس. ولأن ما جاز أن يثبت به غير هذه الأحكام جاز أن يثبت به هذه الأحكام. أصله: الكتاب والسنة والإِجماع. ولأن القياس [على] ما أثر على الأصول، فإذا وجد هذا المعنى في مسألتنا يجب أن يحكم بصحته. واحتج المخالف: بأن موجب القياس هو حصول الشبهة من الفرع، ومن بعض الأصول (1) . وهذا العنى متى حصل في الوطء (2) سقط الحد. ألا ترى أن الوطء إذا حصل فيه الشبهة بالوطء المباح والشبهة (3) بالوطء الحرام، كوطء أحد الشريكين الجارية التي بينهما، صار ذلك موجباً لسقوط الحد فلما كان مقتضى القياس [218/أ] مؤثراً   = وإما أن يراد أنهم أجمعوا على أن حد الخمر ثمانون قياساً على حد القذف. فالأول يمكن تسليمه. أما الثاني فلا، لأن الخلاف في حده ذائع وشائع. انظر في اختلافهم: مراتب الاجماع ص (154) . (1) عبر أبو الخطاب في التمهيد (3/453) عن هذا الدليل بعبارة أوضح حيث قال: (واحتج المخالف: بأن الحد لا يثبت مع الشبهة، والقياس هو: إلحاق الفرع بأشبه الأصلين، وذاك يثبت فيه الشبهة) . (2) في الأصل: (الوطيه) . (3) في الأصل: (والشبه) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1411 في سقوط الحد، لم يجز أن يكون له مدخل في إثبات الحدود. والجواب: أن الشبهة التي أسقطت الحد هناك معدومة هاهنا؛ لأن هناك الشبهة في الفعل أو الفاعل أو المفعول فأسقطت الحد، وهذه الشبهة معدومة في مسألتنا، وأكثر ما فيه أنه دليل غير مقطوع عليه. وهذا يبطل بإثباته بخبر الواحد؛ لأن ما فيه من تجويز (1) الخطأ والسهو والعمد الكذب، لا يصير شبهة في درء الحد وإسقاط الكفارة. وكذلك يجوز إثباته بشهادة شاهدين، وما فيها من تجويز ذلك على الشاهدين، لا يكون شبهة في الإسقاط. ولأنه إذا وجب إلحاقه بأحد الأصلين، لقوته ورجحانه، سقط حكم الأصل الآخر، وكان وجوده كعدمه. واحتج: بأن الحد حق لله تعالى مقدر كالصلاة والزكاة ونحوها، فلما لم يجز إثبات أعداد الركعات والنصاب في الزكوات بالقياس، كذلك لا يجوز إثبات الحدود به (2) . والجواب: أنا لو وجدنا معنى القياس جارياً في ذلك الموضع أثبتناه. واحتج: بأن مقادير العقوبات على الأجرام لا تعلم إلا من طريق التوقيف، لأن العقوبات إنما تستحق على الأجرام بحسب ما يحصل بها من كفران النعمة. ومعلوم أن مقادير نعم الله تعالى على عباده لا يعلمها (3) إلا الله تعالى، وكان الحد عقوبة مستحقة على الفعل، ولم يكن لنا سبيل إلى معرفة مقدار العقوبة على ذلك الفعل إلا من جهة التوقيف، لمْ يجز له إثبات الحد بالقياس (4) .   (1) في الأصل: (تجوز) . (2) انظر معنى هذا الدليل في أصول الجصاص ص (113) . (3) في الأصل: (لا يعلما) . (4) انظر معنى هذا الدليل في أصول الجصاص ص (114) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1412 والجواب: أن الحدود يثبت قدرها بالشرع لأجرام معلومة، فإذا وجدنا معنى ذلك الجرم موجوداً في غيره ألحقناه به، قياساً عليه؛ لأن المعنى قد ثبت بالدليل، وما دل عليه الدليل فهو بمنزلة التوقيف. وعلى أنهم قد أثبتوا الحد بالقياس، وكذلك الكفارات، فقالوا: تجب الكفارة على المفطر بالأكل والشرب قياساً على المجامع (1) . وقالوا: الحد يجب على الرِّدْء (2) في المحاربة (3) قياساً على المباشِر على قتال المشركين (4) .   (1) سبق في المسألة التي قبل هذه ذكر قول الحنفية بأن ذلك ليس من باب القياس، بل من باب دلالة النص. وانظر: أصول الجصاص ص (115) . (2) في الأصل (الرد) . والرِّدْء: المُعِين. (3) يعني أن المحاربين لو اجتمعوا فباشر أحدهم القتل، والباقي وقوف لم يشتركوا معه، فإن القتل يكون للجميع؛ لأنهم كانوا ردءً له. وذلك قياساً على الغنيمة، فالرَّدْء في المعركة له ما للمباشر من الغنيمة. وعبارة الكمال في شرح فتح القدير (5/427) : (قلنا: إنه حكم تعلَّق بالمحاربة، فيستوي فيه المباشر والردْء كالغنيمة) . (4) عبارة المؤلف فيها غموض، فهو يريد أن يلزم الحنفية بأنهم قالوا بالقياس في الحدود فقالوا: إن الردْء في المحاربة يجب عليه الحد قياساً على الردْء في قتال المشركين فإنه يستحق الغنيمة، مثله مثل المباشر لقتال المشركين. وانظر: التمهيد (3/452) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1413 مسألة [قياس العكس] الاستدلال بالشىء من طريق العكس صحيح، كالاستدلال به على وجه الطرد (1) . وهو مثل استدلالنا على طهارة دم السمك بأنه يؤكل دمه، فدل ذلك على [218/ب] طهارته. ألا ترى أن سائر الحيوانات التي كانت دماؤها نجسة لم تؤكل بدمائها. ومثل استدلالنا على قراءة السورة غير مسنون في الأخريين، أنه لو كان من سنة القراءة فيها قراءة السورة لوجب أن يكون من سنته الجهر بها. ألا ترى أن الأوليين لما كان من سنتها قراءة السورة كان من سنتها الجهر. ومثل استدلالنا على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مسنون في التشهد الأول، أنه لو كان من سنته الصلاة لكان من سنته الدعاء. ألا ترى أن التشهد الأخير، لما كان من سنته الصلاة، كان من سنته الدعاء. وقال أصحاب الشافعي: الاستدلال بالعكس غير صحيح (2) . دليلنا: أن الأصل ليس بدليل على صحة العلة، وإنما (3) الدليل على صحتها الكتاب   (1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (3/358) ، والواضح (2/836) ، والمسوَّدة ص (425) . (2) هذا العزو غير محرر، فالشافعية فريقان، منهم: من قال: لا يصح كما ذكر المؤلف. ومنهم: من قال: يصح، قال الشيرازى في اللمع ص (57) : (وهو الأصح) يعنى: القول به. ودلَّل على ذلك بقوله: (لأنه قياس مدلول على صحته بشهادة الأصول) . وانظر: شرح اللمع (2/819) فإن فيه كلاماً جيداً عن هذه المسألة. (3) في الأصل: (ولا نما) وهو خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1414 والسنة وشهادة الأصول والتأثير، ودليل العكس قد أثر في الأصول فوجب أن يكون صحيحاً. ولأن عكسه يدل على صحته، يدل عليه العلة العقلية، لما اطردت وانعكست كان ذلك دليلاً على صحتها، كذلك هاهنا وجب أن يكون العكس دليلاً على صحته. ولأنه لا خلاف أنه لو عارض في الأصل بعلة ولم يعكسها، وإنما عكس بغيرها، لم يلزم الكلام على علة الأصل؛ لأنهما (1) قد اتفقا على صحتها، وإنما يلزم الكلام على علة الفرع، فدل هذا على أن العكس حجة. فصل [التقسيم] والاستدلال بالتقسيم صحيح، وهو أن يكون في المسألة قسمان أو أكثر فيدل المستدل على إبطال الجميع إلا واحداً منها ليحكم بصحته، ولا يطالب بالدلالة على صحته بأكثر مما ذكره (2) .   (1) في الأصل: (لأنها) وهو خطأ، بدليل ما بعده. (2) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/22) والواضح (3/1085) وروضة الناظر (2/281) والمسودة ص (426) والبلبل ص (161) وشرح الكوكب ص (308) . واشترط أبو الخطاب: أن تجمع الأمة على تعليل الأصل، ثم يختلفون في العلة، فيبطل المستدل جميع ما قاله المخالفون إلا علة واحدة فتكون صحيحة. وزاد ابن قدامة شرطين هما: أن يكون سبرُه حاصراً لجميع ما يعلل به. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1415 مثاله: أن نقول: لا يخلو إما أن يكون تحريم التفاضل في البُر متعلقاً بكونه مكيلاً، أو مأكولاً، أو مقتاتاً. فلا يجوز أن يكون مأكولاً ولا مقتاتاً لوجود التفاضل فيهما والعقد صحيح، وهو إذا باع مَكوكاً بمَكوك (1) ، وأحدهما أخف من الآخر، فإن التفاضل في القوت والطعم موجود والعقد صحيح، ولو تساويا في ذلك وتفاضلا في الكيل لم يصح العقد. فعلم أن التحريم متعلق بالكيل. ومثله ما قلنا في الإِيلاء، لا يخلو إما أن يكون صريحاً في الطلاق أو كناية، فلا يجوز أن يكون صريحاً؛ لأنه لو كان كذلك، لوقع الطلاق به منجزاً حالاً كما يقع بصريحه (2) . ولا يجوز أن يكون كناية؛ لأنه (219/أ) لو كان كذلك لافتقر إلى النية، كسائر الكنايات. فلما بطل القسمان، امتنع أن يكون طلاقاً. ومثله ما نقوله في اللعان: لا يخلو إما أن يكون يميناً أو شهادة، فلا يجوز أن يكون شهادة؛ لأنه يصح من فاسق ومن أعمى، وشهادتهما لا تصح (3) . لم يبق إلا أنه يمين؛ لأن أيمان هؤلاء تُسمع.   = وأن يبطل أحد القسمين، إما ببيان بقاء الحكم بدون ما يحذفه من الأوصاف، وإما ببيان أن ما يحذفه من جنس ما عهد من الشارع عدم الالتفات إليه كالسواد والبياض. قلت: وفي اشتراط الاجماع على تعليل الأصل نظر؛ لأنه يؤدي إلى إبطال هذا المسلك، أو تقليصه، ولو اكتفى باتفاق الخصمين على أن حكم الأصل معلل لكان أولى. والله أعلم. (1) المَكوك: مكيال. انظر المصباح المنير (2/892) مادة (مكك) . (2) في الأصل (ـصره) بدون إعجام. (3) الِإطلاق في عدم قبول شهادة الأعمى فيه نظر، فقد صرح في المغني (9/189) = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1416 ومثله ما نقوله في تحريم الخمر: لا يخلو إما أن يكون الاسم أو الشدة المطربة. ولا يجوز أن يكون للاسم؛ لأن العصير المطبوخ يحرم عندهم إذا حصلت فيه [الشدة] ، وإن لم يقع عليه اسم الخمر. وكذلك نقيع التمر والزبيب محرمان عند مخالفنا، وإن (1) لم يتناولهما الاسم. فعلم أن التحريم يُعلَّق لوجود الشدة المطربة، وهذا موجود في النبيذ. ومثل هذا كثير. والدلالة على صحة هذا: أنه لابد في الحادثة من حكم، فإذا بطل الجميع إلا واحداً، وجب أن يكون ما بقى صحيحاً؛ لأنه لا يجوز أن يبطل الكل. وأما إذا دل الدليل على صحة كل واحد منها بطلت سائر الأقسام؛ لأن الحق واحد، وما عداه باطل، فإذا صح الواحد منها، وجب أن يحكم ببطلان الباقي. فصل [الاستدلال بالأوْلى] والاستدلال بالأوْلى صحيح (2) ، إذا بين أن حكم الأصل في الفرع يجب أن يكون آكد.   = أنه تقبل شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت، وهو المذهب كما في الإنصاف (12/61) . (1) الأصل: (وإذا لم) . (2) هذا ما يسمى بمفهوم الموافقة، وقد عقد له المؤلف فصلاً (2/480) تحدث فيه عن حجيته، كما عقد له فصلاً آخر (3 /827) بين فيه أنه يَنسخ ويُنسخ به. وصرح بأن دلالته من باب النطق لا من باب القياس. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1417 مثاله: ما نقول في أن التيمم إذا لم يجز مع وجود الماء لفوت صلاة الجمعة فلأنْ لا يجوز لفوت صلاة الجنازة مع الإِمام أولى؛ لأن صلاة الجنازة فرض على الكفاية. وكذلك ما نقول في جريان القصاص بين الرجل والمرأة، وبين العبدين في الأطراف، لمَّا جرى بينهم في النفس مع عظم حرمتها وضمانها بالكفارة، فأولى أن يجري في الطرف مع خفة حرمته. وكذلك نقول في قطع الأطراف بطرف، لمَّا قُتل الجماعة بالواحد مع عِظَم حرمة الأنفس، فأولى أن يفعل ذلك في الأطراف مع خفة حرمتها. وقد احتج أحمد -رحمه الله- بهذا في رواية بكر بن محمد عن أبيه "لا يقتل الحر بالعبد" (1) .   = وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا أعاد الكلام هنا في باب القياس؟ يجاب على ذلك بما في المسوَّدة ص (427) بأن الأوْلى في المعاني نظير الفحوى بما في الخطاب. ويقول في المسوَّدة أيضاً: (التحقيق عندي: أن الأولوية الواضحة التي يستوي فيها العالم والعامي هي تنبيه الخطاب كما سبق، ولها حكم المنصوص كما سبق. فأما الأولوية الخفية فكسائر الأقيسة، كما قال الشافعي في مسألة السلَم في الحال وكفارة العمد) . ويدل عليه أيضاً قول المؤلف في آخر المسألة: الأن الأولى فيه ضرب من التنبيه، والتنبيه حجة في الشرع) . (1) هذا هو المذهب. ويرى الشيخ تقي الدين: أنه يقتل به. انظر: الإنصاف (9/469) ومسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص (409) والمقنع مع حاشيته (3/346) والمغني (7/658) . والمذهب جرى على أنه إذا لم يقتص منه في النفس فمن باب أولى لا يقتص منه = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1418 وأصحاب أبي حنيفة يقولون: يقتل (1) ، ولا يجعلون بين الحر والعبد قصاصاً في الجراح، والنفس أعظم من الجراح (2) ، فهذا يدخل عليهم. والدليل على صحة ذلك: أن أحد أقسام الدلالة على صحة العلة التأثير وشهادة الأصول. وهذا المعنى موجود في الأوْلى؛ لأنه قد أثر. ولأن الأوْلى فيه ضرب من التنبيه، والتنبيه حجة في الشرع. وقد دل على ذلك الكتاب في قوله: (فَلاَ تُقُل لَّهُمَا أف) (3) نبه على تحريم الضرب. وكذلك قوله: (وَمِنْهُم مَّنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِدِينَار لا يُؤَدهِ إِلَيْك) (4) تنبيه على الزيادة على ذلك.   = في الطرف. قال في المغني (7/659) : (ولا يُقطع طرفُ الحر بطرف العبد بغير خلاف علمناه) . وقال أيضاً ص (703) : (وأما من لا يقتل بقتله، فلا يقتص منه فيما دون النفس له، كالمسلم مع الكافر، والحر مع العبد، والأب مع ابنه؛ لأنه لا تؤخذ نفسه بنفسه فلا يؤخذ طرفه بطرفه، ولا يجرح بجرحه كالمسلم مع المستأمن) . وانظر: الإنصاف (10/14) . (1) انظر في هذا: شرح فتح القدير (10/215) مستدلين بالعمومات، ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي بالدين وبالدار، وهما يستويان فيهما. (2) الحنفية يمنعون القصاص في الأطراف؛ لأن المساواة لابد من توافرها في الجزء المبان، ولامساواة بين الحر والعبد في الطرف، لأن الرق ثابت في أجزاء الجسم، وعليه فطرف العبد معيب بخلاف طرف الحر، ومعلوم أنه لا يقطع سليم بمعيب. انظر شرح فتح القدير وشرح العناية وحاشية سعدي جلبي (10/215-217) . (3) آية (22) من سورة الإِسراء. (4) آية (75) من سورة آل عمران. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1419 فصل [الاستدلال بالقِرَان] الاستدلال بالقِرَان يجوز (1) وهو: أن يذكر الله تعالى أشياء في لفظ واحد ويعطف بعضها على بعض. نحو قوله تعالى: (أوجَاءَ أحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أو لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ) (2) ، فيكون اللمس هاهنا يوجب الوضوء؛ لأنه عطف على المجيء من الغائط. وقد استدل أحمد -رحمه الله- بالقرينة في باب التخصيص، فلولا أنها حجة له لم يخصص اللفظ بها، فقال في قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ) (3) : "المراد به العلم. قال: لأنه افتتح الخبر بالعلم فقال: (ألمْ تَرَ (4) أنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ، وختمه بالعلم فقال: (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيم) " (5) . وقال في رواية حرب في قوله تعالى: (وَأشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ) (6) فإذا أمِنه فلا بأس أن لا يشهد. انظر إلى آخر الآية (فَإِنْ أمنَ بَعْضُكُم بَعْضًا) (7) .   (1) راجع هذه المسألة في: هذا الكتاب (2/614) ، والتمهيد (4/169) والمسودة ص (140) وشرح الكوكب المنير (3/259) . (2) آية (43) من سورة النساء. (3) آية (7) من سورة المجادلة. (4) في الأصل: (ألم تعلم) وهو خطأ. (5) هذا من رواية المروذي كما ذكر المؤلف في الموضع السابق، وكما ذكر أبو الخطاب في التمهيد الموضع السابق. (6) آية (282) من سورة البقرة. (7) الإشهاد في البيع عند الحنابلة مستحب لهذه الآية، ولأدلة أخرى ذكرها ابن قدامة في كتابه المغني (4/273) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1420 واختلف أصحاب الشافعي: فذهب المُزَنى إلى جواز الاستدلال بذلك (1) . وذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز الاستدلال به (2) . دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يُفَرَّقُ بين مجتَمِع) (3) . وما روي عن أبي بكر في مانعي الزكاة: (لا أفرقُ بين ما جمعَ الله) (4) . وقول ابن عباس لما استدل على وجوب العمرة بكونها قرينة الحج [في] كتاب الله، وتلا قوله: (وأتمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (3) .   (1) نسب ذلك إليه الشيرازي في التبصرة ص (229) . (2) وهو ما صدَّر به الشيرازي المسألة في كتابه التبصرة الموضع السابق. وانظر: اللُّمع ص (24) والتمهيد للإسنوي ص (267) . (3) سبق تخريج الحديث. وأجاب الشيرازي عن وجه الاستدلال من هذا الحديث في كتابه التبصرة الموضع السابق: (أنه وارد في باب الزكاة، وأن النصاب المجتمع في ملك رجلين لا يفرق بينهما) . قلت: وما قاله الشيرازي هو عين الصواب. (4) أقرب الألفاظ إلى لفظ المؤلف -فيما رأيت- لفظ البخاري في كتاب الاعتصام، باب قول الله تعالى: (وَأمرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (9/138) ولفظ الشاهد فيه: (فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وقصة عزمه - رضي الله عنه - على محاربة مانعي الزكاة، وحواره مع عمر - رضي الله عنه - في هذه المسألة معلومة مشهورة. وأجاب الشيرازي في المرجع السابق عن وجه الاستدلال بقول أبي بكر - رضي الله عنه - بقوله: (إن أبا بكر - رضي الله عنه- أراد لا أفرق بين ما جمع الله في الايجاب بالأمر) . (5) هذا الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ذكره البخاري تعليقاً في أول = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1421 ولأن المعطوف في حكم المعطوف عليه، فيجب أن يُعطى الثاني حكم الأول. ولأن صيغة الأمر تناولتهما. واحتج المخالف: بأن جمع لفظ صاحب الشريعة بينهما في حكم من الأحكام لا يدل على اجتماعهما في غيره. ألا ترى أن العلة إذا جمعت الأصل والفرع في حكم، لا يجب أن يجمع بينهما في غيره. والجواب: أن العلة إذا جمعت بين الأصل والفرع قد أفادت حكماً شرعياً وهو إلحاق الفرع بالأصل في ذلك الحكم، يجب أن يقال مثل هذا في جميع لفظ صاحب الشريعة أن يفيد، وعندهم القرينة هاهنا ما أفادت (1) شيئاً بحال. واحتج: بأنه يجوز اقتران المتضادين في الأمر والنهي، كقوله: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُن مِنْ حَيْثُ) (2) وأمر بوطئهن ولم يكن واجباً، كما كان النهي واجباً.   = باب العمرة (3/2) ولفظه: (إنها لقرينتها في كتاب الله، (وَاتِمُّوا الْحَج وَالْعَمْرَةَ) . وأخرجه الإمام الشافعي في الأم في كتاب الحج، باب: هل تجب العمرة وجوب الحج؟ (2/132) . وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الحج، باب: من قال بوجوب العمرة استدلالاً بقوله تعالى: (وأتِمُّوا الْحَج والْعُمْرَةَ) (4/351) . وأخرجه سعيد بن منصور في سننه كما في التلخيص (2/227) وتغليق التعليق (3/118) . وأخرجه ابن حجر في كتابه تغليق التعليق (3/117) بسنده إلى ابن عباس، رضي الله عنه. (1) في الأصل (أفاد) . (2) آية (222) من سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1422 وكذلك قوله: (كُلُوا مِنْ ثَمِرِهِ إِذَا أثمَرَ وءَاتوُا حَقَهُ يَوْمَ حَصَاده) (1) والأكل غير واجب [220/أ] . والجواب: أنا لم نقرن (2) هاهنا لدليل منع من ذلك. (*)   (1) آية (141) من سورة الأنعام. (2) في الأصل: (نفرق) والصواب ما أثبتناه بدليل السياق.   (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هكذا الصفحة في الكتاب الورقي، بنفس رقم الصفحة السابقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1423 باب العلة الدال على صحة العلة (1) والاعتراض عليها   (1) العلة أهم باب من أبواب القياس، ولذلك نجد علماء الأصول قد اهتموا بها قديماً وحديثاً. ومن آخر من كتب فيها الدكتور عبد الحكيم بن عبد الرحمن السعدى العراقي بعنوان "مباحث العلة في القياس عند الأصوليين". ويحسن بنا هنا أن نبين معناها في اللغة والاصطلاح باختصار، فنقول: العلة في اللغة مأخوذة من (عل) تأتي لمعان، أشهرها ثلاثة: الأول: تكرار الشىء أو تكريره، ومنه العَلَل، وهي الشربة الثانية، وسميت العلة بذلك -كما يقول ابن بدران في شرح الروضة (2/229) -: "لأن المجتهد يعاود النظر في استخراجها مرة بعد مرة". الثاني: الضعف في الشىء، ومنه العلة للمرض. وسميت العلة بذلك -كما يقول ابن قدامة في روضته الموضع السابق-: "لأنها غيرت حال المحل أخذاً من علة المريض". الثالث: السبب، تقول: هذا الشىء علة لهذا الشىء، أى سبب له، وسميت العلة بذلك، لأنها السبب في الحكم. انظر: معجم مقاييس اللغة (4/12) واللسان (13/495) . أما في الاصطلاح فهناك أقوال كثيرة، أشهرها أربعة: الأول: أنها المعرف للحكم. الثاني: أنها المؤثرة بذاتها في الحكم. الثالث: أنها المؤثرة في الحكم بجعل الله لها ذلك. الرابع: أنها الباعث على تشريع الحكم. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1423 والدلالة على صحتها (1) من وجوه خمسة: أحدها: لفظ صاحب [الشريعة] بنص (2) أو ظاهر أو تنبيه، فإنه يدل على صحة العلة كما يدل على صحة الحكم، فلا فرق بينهما. وذلك ضربان: أحدهما الكتاب. والآخر السنة. فأما الكتاب: فمثل قوله تعالى في تحريم الخمر: (إنَّمَا يُرِيدُ الشيطَانُ أن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ والْمِّيْسَرِ وَيَصُدكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصلاَةِ فَهَلْ أنْتُم مُّنْتَهُونَ) (3) وهذا عبارة عن الإسكار الذي يُحدث هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى. وقوله: (وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أتأخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإثْماً مبِيناً وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أفضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض وَأخذْنَ مِنْكُما ميثَاقاً غَلِيظاً) (4) . والإفضاء هاهنا الوطء. فدل على أنه يقرر المهر ويمنع من سقوط نصفه بالطلاق.   = انظر: المستصفى (1/59) وشفاء الغليل ص (20) والمعتمد (2/704) الإحكام للآمدي (3/186) ونبراس العقول ص (216) ومباحث العلة في القياس عند الأصوليين ص (70) . (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/9) ، والواضح (3/1082) وروضة الناظر مع شرحها (2/257) والمسودة ص (438) والبُلبل ص (157) وهذا ما يُعبر عنه: بمسالك إثبات العلة. (2) في الأصل: (بنصه) . (3) آية (91) من سورة المائدة. (4) آية (20-21) من سورة النساء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1424 وقوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اْلأغْنِيَاءِ) (1) . وَالدولَة: ما يتداوله الناس. فقد جعل لهؤلاء المذكورين حقاً في الفيء كيلا يتداول المال الأغنياء دون الفقراء. وقوله تعالى: (وَإذَا بَلَغَ الأطفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأذِنُوا) (2) وهذا يدل على تعلق الاستئذان بالبلوغ. وقوله تعالى: (وَإذَا ضَرَبْتُمْ في اْلأَرْضِ فَلَيْس عَلَيْكُمْ جُنَاح أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ) (3) . وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أوْ رُكْبَاناً) (4) يدل على تعلق القصر بالضرب في الأرض، وصلاة الخوف بالخوف. كما إذا قال لعبده: إذا فعلتَ كذا فأنت حر، ولزوجته: إذا كان كذا فأنت طالق، فيدل على تعلق الحرية والطلاق بالمعنى الذي ذكره (5) . وكذلك قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطرُّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ) (6) يدل على تعلق إباحة الميتة بالضرورة. وقوله تعالى: (والْمحْصَنَاتُ مِنَ الذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (7) والمراد   (1) آية (7) من سورة الحشر. (2) آية (59) من سورة النور. (3) آية (101) من سورة النساء. (4) آية (239) من سورة البقرة. (5) في الأصل: (ذكروه) . (6) آية (173) من سورة البقرة. (7) آية (5) من سورة المائدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1425 به: الحرائر. وهذا يدل على اعتبار الحرية في الحلال وأن نكاح الأمة الكتابية لا يجوز؛ لأن ذكر الصفة في الحكم تعليل للحكم بها، ودليل على تعلقه بها. ومن ذلك قوله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النسَاءَ في الْمَحِيضِ) (1) . وقوله: [220/ب] وَالسَّارِقُ وَالسارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا) (2) . و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ منْهُمَآ مِائَةَ جَلْدَةٍ) (3) . لأن تخصيص صفة أو فعل في الحكم يدل على تعلقه بها. ولهذا قال أحمد -رحمه الله-: "إنه يدل على أن ما عداه بخلافه". وأما السنة: فمثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أيَنْقُصُ الرطبُ إذا يَبِس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذاً) . وقوله عليه السلام: (لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كُفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتلُ نفس بغير حق) (4) .   (1) آية (222) من سورة البقرة. (2) آية (38) من سورة المائدة. (3) آية (2) من سورة النور. (4) هذا الحديث رواه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الشافعي كما في بدائع المنن في كتاب القتل والجنايات، باب: التغليظ في قتل المؤمن (2/242) ولفظه مثل لفظ المؤلف، غير أنه قال في آخره: (أو قتل نفس بغير نفس) . وأخرجه الترمذي في كتاب الديات، باب: ما جاء لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث (4/19) . وأخرجه ابن ماجه في الباب الأول من كتاب الحدود (2/847) . وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (1/61) . وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الحدود، باب: لا يحل دم امرىء مسلم = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1426 ونهيه عن بيع ما لم يُقبض، ورِبْح ما لم يُضمن (1) ، وعن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل (2) . وقوله: (إنما هو دم عِرْق) . وقوله: (إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوافات) . وقوله: (لا تُمسوه طيباً؛ فإنه ييعثُ يوم القيامة ملبياً) (3) .   = إلا بإحدى ثلاث (4/350) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) . ومعنى الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: (إن النَفسَ بِالنفْسِ) (9/6) . وانظر: التلخيص الحبير (4/14) والمنتقي ص (616) . (1) نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض وربح مالم يضمن قد سبق تخريجه. وانظر: التلخيص الحبير (3/25) . (2) هذا إشارة إلى حديث معمر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الطعام بالطعامِ، مثلاً بمثل) . أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل (3/1214) . (3) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفرعاً، أخرجه عنه البخاري في كتاب الجنائز، باب: كيف يكفن المحرم؟ (2/92) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات (2/865) . وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب: المحرم يموت كيف يصنع به؟ (3/560) طبعة بتعليق الدعاس. وأخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب: ما جاء في المحرم يموت في إحرامه (3/277) . وأخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب غسل المحرم بالسدر إذا مات (5/195) . وأخرجه ابن ماجة في كتاب المناسك، باب: المحرم يموت (2/1030) وأخرجه الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب: في المحرم إذا مات ما يصنع به؟ (1/378) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1427 و (إنَّما نهيتكم من أجل الدَّافَة) يعني الجماعة الذين وفدوا (1) . وقوله للمُحْرِمين (2) : (هل أشرتم؟ هل أعنتم؟) (3) . وقول الرواي: سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد. وزنا ماعز فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الأعرابي: (هلكتُ وأهلكتُ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اعتق رقبة) . وهذا يدل على تعلق (4) الحكم بالسبب المذكور. وقالت عائشة: عَتَقت بَرِيرة فخيّر [ها] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان زوجها عبداً (5) . وذلك يدل على تعلق التخيير برقِّ الزوج. ومثل ذلك في السنة أكثر.   (1) هذه الجماعة وفدت على المدينة النبوية في أيام العيد يلتمسون ما يأكلون، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ادخار لحوم الأضاحي من أجلهم، فلما وسع الله على المسلمين أجاز لهم الادخار. (2) غير واضحة في الأصل، والتصويب من مراجع تخريج الحديث الآتية. (3) هذا الحديث رواه أبو قتادة - رضي الله عنه - وفيه أن أبا قتادة لم يُحْرِم بعد، فرأى حمار وحش، فعقره، فجاء به إلى رفاقه وكانوا مُحرِمين، فأكلوا منه، ثم قالوا: نأكل من لحم صيد، ونحن محرمون؟ فسَألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (هل أشرَتم أو أعنتم؟ قالوا: لا، قال: كلوا) . أخرجه مسلم عنه في كتاب الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم (2/854) . وأخرجه عنه النَّسائي في كتاب مناسك الحج، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال (5/186) . وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (5/302) . (4) في الأصل: (نطق) . (5) قد مضى تخريج حديث: أن بَرِيرة -رضي الله عنها- عتقت وكان زوجها عبداً أو أنه كان حراً (13/1027- 1028) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1428 وإذا ثبت التعليل بلفظ صاحب الشريعة، أو بلفظ الراوي عنه، فإنه ينظر فيه. فإن كان مطرداً لم يجز أن يزاد فيه، وإن انتقض أضيف إليه وصف آخر يؤثر في ذلك الحكم، وعلم بانتقاضه أنه نصَّ على بعض العلة، وجعل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم. وهنا كما روى بعض المخالفين (1) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبَرِيرة: (ملكْتِ بُضْعَك فاختاري) (2) . وهذا يدلُّ على أنها إذا اعتقت تحت الحر يكون لها الخيار. فأجبنا عنه: بأن هذا اللفظ غير محفوظ (3) . وقد استقصى الدارقطنى في [سننه] طرق هذا الحديث وألفاظه، ولم يذكر هذا اللفظ فيها (4) . ولو ثبت لكان تقديره، ملكتِ بُضْعَك تحت العبد فاختاري. وهذا متزن. وقد أضاف إليه بعضهم مصراعاً آخر فقال: مَلَكتِ بُضْعَكِ تَحْتَ الْعَبْدِ فَاخْتَاري ... وَبَدِّلِي الدَّارَ إنْ احبَبْتِ بِالدَّارِ (5)   (1) إشارة إلى الحنفية. انظر: هذا الكتاب (1/182) . (2) هذا الحديث سبق تخريجه (1/182) . ويرى المؤلف أن كونها عتقت بعض العلة، وتمام العلة: كونها: عتقت تحت عبد؛ لأنها لو عتقت تحت حر فلا خيار لها. (3) وذلك (1/182) من هذا الكتاب. (4) وذلك في سننه (3/288-294) . وراجع في ذلك أيضاً: التعليق المغني على سنن الدارقطنى الموضع السابق، وفتح الباري (9/406) و (1/601) و (12/39) وتغليق التعليق (5/223) . (5) لم أقف على قائله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1429 الثاني: إجماع الأمة فهو حجة مقطوع بها. فما أجمعوا عليه من حكم أو علة وجب المصير إليه والعمل به. ومثاله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقضي القاضي وهو غضبان) أجمعوا على أن النبي عليه السلام نهى عن ذلك؛ لأن الغضب [221/أ] يشغل قلبه، ويغير طبعه، ويمنعه من التوفير على النظر والاجتهاد، فكان كل داخل على قلب الإِنسان من حزن وفرح، وجوع وعطش، ونوم ومرض بمنزلة الغضب. وقد يتفق الخصمان على علة، فيلزمهما حكماً في النظر لاعترافهما بصحة ما اتفقا عليه. وقد يتفق الخصمان على أحد وصفى العلة، ويختلفان في الآخر، فيجب المصير إلى مادل المعلل عليه. منها أن المعللين اتفقوا على اعتبار الجنس في تحريم التفاضل، واختلفوا في ضم الوصف الآخر إليه. وقال بعض أهل العلم: البيع لا ينقل الملك في زمان الخيار؛ لأنه إيجاب غير لازم، إذا لم ينضم إليه القبول (1) .   (1) وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وبه قال مالك. وقول للشافعى. والرواية الأولى عن الإمام أحمد: أن الملك ينتقل إلى المشتري في بيع الخيار مطلقاً. أما الحنفية فيقولون: إن كان الخيار للبائع فالمبيع لا يخرج عن ملكه، والثمن يخرج عن ملك المشتري. وإن كان الخيار للمشتري فالمبيع يخرج عن ملك البائع، والثمن لا يخرج عن ملكه. وإن كان الخيار لهما فلا يخرج المبيع عن ملك البائع، ولا يخرج الثمن عن ملك المشتري. انظر: المغني (3/571) وشرح فتح القدير والشروح التي معه (6/305) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1430 فيقول خصمه: المعنى في الأصل أن الإيجاب لم يصادفه القبول، وفي مسألتنا إيجاب صادفه القبول، فخالفه في الوصف الثاني، وقال: إيجاب غير لازم منتقض بمن اشترى عبداً على أنه صائغ فلم يكن صائغاً، فإن الإيجاب غير لازم، وقد انتقل الملك وكذلك إذا وجد به عيباً. وقد يختلفان في وصف، فيزيده أحدهما وينقصه الآخر. مثاله: إذا اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيباً لم يكن له رد أحدهما. وقال أبو حنيفة: يجوز (1) . وعلة من منع رد أحدهما: أن [فيه] تبعيض الصفقة على العاقد من غير رضاه (2) ، فوجب أن لا يجوز قياساً على ما قبل القبض (3) . فإن قال: المعنى في الأصل أنه تبعيض الصفقة على العاقد من غير رضاه في الإِتمام (4) ، وليس كذلك في الفرع، فإنه تبعيض الصفقة على العاقد من غير   (1) الحنفية تقول بالجواز بعد قبض العبدين خلافاً لزُفَر في المشهور عنه. أما إذا قُبِض أحدهما ووُجِد بالآخر عيب قبل القبض فلا يجوز التفريق عندهم، فإما أن يأخذهما أو يدعهما. انظر: شرح فتح القدير (6/386) . (2) لما يلحقه من الضرر؛ لأن العادة في البيع أن يضم الجيد إلى الرديء لترويج الرديء، وهو المشهور عن زفر، كما في المصدر السابق (6/387) . (3) وقياساً على خيار الشرط والرؤية. انظر: المصدر السابق. (4) يعني قبل قبضها، ففي رد أحد العبدين بعد قبلت أحدهما فقط تفريق للصفقة قبل تمامها؛ لأن تفريقها قبل القبض كتفريقها في العقد. انظر: المصدر السابق. وقد ذكر المؤلف هذه المسألة في كتابه: الروايتين والوجهين (1/337) ، وذكر أن فيها روايتين ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1431 رضاه في الفسخ، والتبعيض في الفسخ يجوز وفي الإِتمام لا يجوز. فإذا كان كذلك وجب على الزائد أن يقيم عليه الدليل؛ لأن العلة إذا استقلت بما اتفقا عليه فلا تجوز الزيادة، إنما بحسب الحاجة إليها يجب أن يبينها. الثالث: التأثير وهو أن يوجد الحكم بوجود معنى ويعدم لعدمه، فيدل ذلك على أن الحكم متعلق به وتابع له، وهذا هو العكس. وقد بينَّا فيما تقدم أنه ليس بشرط في صحة العلة، لكنه دليل على صحتها. وقد صرح أحمد - رحمه الله - بهذا في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسَّان: "إذا أقبل به وأدبر فكان مثله في كل أحواله، فهذا ليس في نفسي منه شىء". فقد صرح بأن وجود الحكم بوجوده وعدمه بعدمه دليل واضح على صحة القياس. وهذا مثل ما نقول: إن عصير العنب حلال، فإذا وجدت فيه الشدة المطرِبة حرُم، وإذا زالت الشدة حلَّ. فلو قدَّرنا عوْد الشدة لقدرنا عوْد التحريم. وهذا يدل [221/ب] على [أن] صحة التحريم تابع للشدة المطربة، ولأن النبيذ حرام لوجود هذه العلة فيه. وكذلك قوله: (فَإِذَا أحْصِنَّ فَإِنْ أتيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) (1) والعلة في نقصان أحدهما هو الرق، بدلالة أنه   = ولكنه رجح عدم جواز تفريق الصفقة حيث قال: (وهو أصح، فوجهه: أن السلعة خرجت من ملك البائع جملة بجهة واحدة، فلو أجزنا رد بعضها تبعَّض الملك على البائع، وأضررنا به، فلم يجز لما عليه من الضرر) . ولعل هذا هو الصواب، لما فيه من نفي الضرر عن الطرفين. (1) آية (25) من سورة النساء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1432 يوجد بوجوده ويعدم بعدمه، فإن الرق ما دام موجوداً كان حدها خمسين. فإذا اعتقت وزال رقها كملت الحد. ولم يعدم بالعتق سوى الرق. فإذا ثبت أن نقصان الحد متعلق بالرق وجب أن يكون حد العبد على النصف قياساً على الأمة لوجود علة النقصان فيه. ومثل ما نقول في سفر المعصية، إذا كان معصية (1) : إنه معنى يتعلق به تخفيف الصلاة، فإذا كان معصية لم يتعلق به كالقتال (2) وتأثيره في الأصول أنه إذا كان طاعةً أو مباحاً جازت صلاة الخوف، وصلاة شدة الخوف مخرجة عن المعصية، فدل على أن الحكم تابع لذلك. ومثل ما قلنا: إن العلة في تحريم الربا التفاضل في الكيل دون الطعم، بدليل أن المكيلين متى تساويا من طريق الكيل جاز البيع فيهما وإن كانا مختلفين في الأكل. وحكى أبو سفيان السرخسي وأبو عبد الله الجرجاني عن أبي الحسن الكرخي أنه كان يمنع أن يكون وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها دلالة على صحتها (3) ، وخالفاه على ذلك.   (1) عبارة (إذا كان معصية) زائدة لا معنى لها. (2) عدم جواز القصر في سفر المعصية هو المذهب. وفي مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (1/387) وفي مسائله رواية أبي داود ص (74) وفي مسائله رواية ابن هانىء (1/129) يجيب الإِمام أحمد فيها كلها بعدم الجواز. وانظر: المغني (2/262) والإنصاف (2/316) والروض المربع بحاشية العنقري (1/271) . (3) هكذا نقله عنه الجصاص في أصوله ص (144) . وقد خالفه الجصاص، ورأى أن ذلك دليل على صحة العلة، وأكد ذلك بقوله ص (145) : ( .... هو عندي وجه قوي في هذا الباب، وما ينفك أحد من القائسين من استعماله) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1433 والدليل على أن ذلك دلالة على صحتها: أنه دلالة على صحة العلل العقلية، وأن المعنى الموجب لكون المحل أسود (1) وجود السواد فيه وارتفاعه بارتفاعه. وإذا كان ذلك دلالة العقليات مع كون العلل فيها موجبة، فاولى أن يجري ذلك في الشرعيات مع كونها غير موجبة (2) . فإن قيل: تكفير المُستحِلِّ للخمر قد وُجد بوجود الشدة وعُدِم بعدمها، ولم يدل على أنها العلة في التكفير (3) . قيل: هذا لا يدل على بطلان هذا الأصل؛ لأن العلل الشرعية وما هو دلالة عليها، ليست بموجبة لما يتعلق بها من الأحكام. فغير ممتنع أن يدل على شىء ولا يدل على نظيره، كخبر الواحد يجوز إثبات الحكم به فيما لم يرد القرآن بخلافه، ولا يجوز قبوله (4) فيما يخالف القرآن، والنقل فيهما على وجه واحد (5) فإن قيل: لو جاز ذلك لوجب أن تصح علل القائسين في تحريم التفاضل في الأشياء المنصوص عليها؛ لأن كلاً منهم يمكنه أن يبين وجود الحكم بوجود علته، وعدمه بعدمها. ولا خلاف أن جميع عللهم غير صحيحة (6) .   (1) في الأصل: (الأسود) . (2) هذا الدليل إلزامي لأبي الحسن الكرخي الذي فرق بين العلة العقلية في هذا المقام، فجعل وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها يدل على صحتها وبين العلة الشرعية فأبى ذلك. (3) انظر: المصدر السابق ص (144) . هذا الاعتراض هو الدليل الأول لأبي الحسن فيما ما ذهب إليه. انظر: المصدر السابق. (4) في الأصل: (قوله) . (5) يعنى أن النقل في خبر الواحد في صورة ما إذا لم يرد القرآن بخلافه، وفي صورة ما خالف القرآن جاء على وجه واحد. (6) وهذا هو الدليل الثاني لأبي الحسن الكرخي. انظر: أصول الصدر السابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1434 قيل: الجواب عنه ما تقدم. وعلى أن [222/أ] ذلك دليل على صحتها ما لم يمنع مانع، كالعموم يدل على الحكم ما لم يمنع مانع، وقد منع هناك مانع. الرابع: شهادة الأصول فمثل قولنا: لا تجب الزكاة في إناث الخيل؛ لأنها لا تجب في ذكورها، كالبغال والحمير والفِيَلة وغير ذلك من الحيوانات، وعكسه الإِبل والبقر والغنم. وإذا كانت الأصول مرتبة على التسوية بين الذكور والإناث في وجوب الزكاة وسقوطها، ووجدنا الخيل لا زكاة في ذكورها إذا انفردت بالاجماع، لم تجب في إناثها. وكان ذلك طريقاً يقتضي غلبة الظن؛ لأن الظن يمنع وجود الحكم في الغالب. ولهذا نقول: إذا ثبت من عادة الواحد أنه إذا أعطى بناته شيئاً من أمواله أعطى بنيه مثله، وتكرر ذلك من فعله، ثم سمع أنه أعطى بناته شيئاً غلب على ظن من سمع ذلك ممن علِم عادته أنه أعطى بنيه. ومن ذلك: من صح طلاقه صح ظهاره. وما جاز بيعه جاز رهنه. ومن لزمه العُشْر لزمه ربع العُشْر. وما حرم فيه [التفاضل] حرم فيه التفرق قبل التقابض. ومثل ذلك كثير. الخامس: قيام الدلالة على بطلان ما سواها مثاله: اختلاف الفقهاء في علة فساد البيع حالة التفاضل، مع اتفاقهم أن الأصل يبطل بتعليله بإحدى العلل المذكورة. فمتى قامت الدلالة على بطلان جميعها إلا واحداً تعين الحق في الحرية في الآخر، كما لما لم يكن هناك من يستحق الحرية غيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1435 فصل [الطرد لا يدل على صحة العلة] وأما الطرد فليس بدليل على صحتها، لكنه شرط في صحتها (1) . وقد تقدم الكلام في ذلك، أن الطرد شرط في صحتها، وأن تخصيصها نقض لها. وهذا ظاهر قول أحمد - رحمه الله - وأن الطرد ليس بدليل على صحتها؛ لأنه قال في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسَّان: "القياس: أن يقاس على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، وأقبل به وأدبر". وقال أيضاً - رضي الله عنه - في رواية الأثرم، مذكور في كتاب الصيام: "إنما يقاس الشىء على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا شبَّهته به فأشبهه في حال وخالفه في حال، فأردت أن تقيس عليه فقد أخطأت، قد يوافقه في بعض أحواله ويخالفه في بعض، فإذا خالفه في بعض أحواله فليس هو مثله". وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة: الجرجاني والسرخسي (2) ، وأكثر أصحاب الشافعي (3) والمتكلمين.   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/30) وروضة الناظر (2/321) والمسوَّدة ص (427) وشرح الكوكب المنير (4/198) . (2) الخلاف واقع في هذه المسألة عند الحنفية، ومن قبله وقع الخلاف في تحديد معنى الطرد. فانظر: كشف الأسرار (3/1085) وأصول السرخسي (2/176) وميزان العقول ص (599) وتيسير التحرير (4/52) . (3) انظر: التبصرة ص (460) وشرح اللمع (2/864) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1436 وقال بعض الشافعية: الطرد دليل على صحتها (1) . دليلنا: أن الطرد لو كان دليلاً على العلة لجاز [222/ب] أن يقتصر على ذكر العلة في الفرع من غير ذكر الأصل وتكون العلة صحيحةً لوجود الطرد على أصله. مثل: أن يسأل عن تحريم النبيذ فيقول: إنه شراب فيه شدة مُطرِبة، فوجب أن يكون حراماً. والدليل على أن الشدة المطربة دليل على تحريمه: أن ذلك مطرد فيه، لا ينتقض على أصل. فلما أجمعوا على أنه ليس بدليل، وأنه دعوى لا دليل عليها، دل على أن الطرد ليس بدليل على صحة العلة. يدل على ذلك أن كل ما هو دليل على صحة العلة فلا فرق بين أن يذكر في الفرع أو في الأصل، مثل قول صاحب الشريعة ونطقه به. ولأنه إذا لم يكن ذلك دليلاً في الفرع وجب أن لا يكون دليلاً إذا رده إلى الأصل؛ لأن دعواه للطرد فيهما جميعاً واحدة، ولا فرق بينهما. ولأن جريانها في معلولاتها ليس فيه أكثر من أنها جامعة لفروعها، وهذه الفروع قوله ودعواه، فيكون جامعاً بين دعوتين، فلا يكون من ذلك دليلاً على صحة علته.   (1) ونسبه الشيرازي في المصدرين السابقين إلى أبي بكر الصيرفي. ثم عقَّب عليه في شرح اللُّمع بقوله: (وهو فاسد) . وللشافعية قول ثالث، ذكره الشيرازي في التبصرة بقوله: (وقال بعض أصحابنا: إذا لم يردها نص ولا أصل دل على صحتها) . ولتحقيق مذهب الشافعية انظر: البرهان (2/789) وشفاء الغليل ص (266/303) والمنخول ص (340) والمحصول (5/305) والإِبهاج (3/85) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1437 وقد قيل: الطرد زيادة في الدعوى؛ لأنه يقال له: ما الدليل على أن العلة ما ذكرته في الأصل؟ قال: لأني أطردها ولا أنقضها في موضع من المواضع. وهو يطالب بالدليل على صحة ما فعله في جميع المواضع، فلا يجوز أن تصح الدعوى بزيادة الدعوى. وأيضاً: فإن الطرد لو كان دليلاً على صحة العلة لم يجز وجوده مع الفساد. والعلة الفاسدة تطرد كما تطرد الصحيحة. مثل ذلك: أن يعلل فيما يخالف الإِجماع بعلة تطَّرد. ومثال ذلك في إزالة النجاسة بالمائعات: مائع لا يعقد على جنسه القناطر، أو لا تبنى عليه القناطر، أو الجسور (1) ، أو لا تكون فيه السباحة، أو لا يصطاد فيه السمك، فوجب أن لا تزال به النجاسة، كاللبن والدهن والمرق، ولا ينتقض بالماء، فإنه يعقد على جنسه الجسور وتبنى عليه القناطر. أو يقول: كلب، فوجب أن يكون نجساً كالميت. ويقول: مسَّ ذكرَه، كما لو مسَّ ذكره وبال. أو يقول في وطء الثيب: شَرَع في نافذ، فلا يمنع الرد بالعيب، كما لو مشى في الشارع وأخرج رأسه من الرَّوْزَنَة (2) . ولا ينتقض بالبكر، فإنه إذا وطأها لم يشرع في نافذ. ويقول فيه: أدخل المُدخل في المَدخل، فلا يمنع من الرد. أصله: إذا أدخل رأسه في القَلَنْسُوَة وأدخل رجله في الخف. وقال بعضهم في القهقهة: اصطكاك الأجرام العلوية، فلا تنقض الطهارة كالرعد.   (1) في الأصل: (الجسورة) . (2) الروْزَنَة: الكوة. انظر: القاموس (4/227) مادة: (رزن) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1438 ولا تنتقض بالضُّراط؛ لأنه احتكاك الأجرام السفلية [223/أ] . وهذا مع فساده متناقض فيه إذا منعته امرأته فصفعها (1) ، فإن ذلك اصطكاك الأجرام العلوية، وهو ناقض لطهارته (2) . وقال بعضهم في مس الذكر: إنه مس آلة الحرث، فلا ينتقض طهرُه، كما لو مس الفَدَّان (3) . وقال: إنه طويل مشقوق، فأشبه البوق والقلم والمنارة. وقال في السعي بين الصفا والمروة: إنه سعى بين جبلين، فوجب أن لا يكون ركناً في الحج كالسعي بين جبلى نيسابور (4) . ولا يشك عاقل أن هذا فاسد. ووجه فساده ظاهر؛ لأن المائعات لا تبنى عليها القناطر؛ لأنها لا تكون في طرق الناس. ولا تمنع الاستطراق والاجتياز، والماء الكثير يجعل (5) في الطريق ويمنع جواز الناس، فاحتاجوا إلى بناء القناطر عليه، فلم [يكن] لذلك تعلق بالتطهير، وكذلك لمس الفَدَّان سواء كان يصلح لآلة الحرث أو لم يصلح، وكان البوق على صفته، أو كان قصيراً، أو كان مصمتاً لا شق فيه، لا يثبت الوضوء بمسه، فلم يكن له تعلق بالحكم الذي علته عليه.   (1) في الأصل: (وضعها) والصواب ما أثبتناه استعانة بشرح اللُّمع (2/866) . (2) انظر: المصدر السابق. (3) الفَدّان بالتشديد آلة الحرث في الزراعة، ويطلق على الثورين يحرث عليهما في قِران واحد. انظر: المصباح (2/713) مادة: (فدن) . (4) نيسابور: مدينة عظيمة من مدن المشرق الإسلامي. فتحها المسلمون في عهد عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - وقيل: في عهد عمر، رضي الله عنه. انظر: مراصد الاطلاع (3/1411) . (5) في الأصل: (ويجعل) بزيادة الواو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1439 وفي ذلك تنبيه على فساد جميع ما يجانسه إذا كان ذلك فاسداً، وكان مع ذلك مطرداً، دلَّ على أن الطرد ليس بدليل على الصحة. واحتج المخالف: بأن عدم الطرد يفسد العلة، فوجب أن يكون وجوده دالاً على صحتها. ألا ترى أن عدم التأثير عند المخالف، لما كان دالاً على فسادها كان التأثير دالاً على صحتها. والجواب: أن الطرد شرط في صحة العلة، وليس بدليل على الصحة. وفَقْد شرط من شروط الحكم يبطله، ووجوده لا يدل على صحته. كالطهارة، فَقْدها يوجب بطلان الصلاة، ووجودها لا يدل على صحتها. واحتج: بأنها إذا اطَّردت فقد عدم ما يفسدها، فوجب أن لا تكون فاسدة. وإذا لم تكن فاسدة وجب أن تكون صحيحة؛ لأنه لا قسم بين الصحيح والفاسد، كما أنه إذا لم يكن قديماً وجب أن يكون محدثاً. والجواب: أنه قد وجد ما يفسده (1) ، وهو عدم الدليل على صحته. وعدم ما يصححه دليل على فساده. يدل على ذلك: أن من ادعى النبوة، وقال: الدليل على صحة قولي عدم ما يفسده. وإذا لم يكن ما يفسده وجب أن يكون صحيحاً. قلنا: قد وجد ما يفسده، وهو عدم ما يصححه. وكذلك من قال في كل حكم سُئل عن صحته: ليس هاهنا ما يفسده. وعدم ما يفسده دليل على أنه ليس بفاسد. وإذا لم يكن فاسداً وجب أن يكون صحيحاً. كان الجواب عنه: أن عدم ما يصححه دليل على فساده. [223/ب] .   (1) في الأصل: (يفسدها) ولمراعاة الضمائر الآتية التي تعود على "الطرد" أثبتنا ما أثبتناه ليستقيم الكلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1440 فصل [ذكر الوصف للاحتراز من النقض] فإذا ثبت أن الطرد ليس بدليل على صحتها، (1) فإن علِّق الحكم بوصف، ولم يكن له تأثير في الأصل، لكن دخل للاحتزاز: فمن قال: الطرد لا يدل على صحتها، قال: لا يجوز تعليق الحكم به. ومن قال: يدل على صحتها، قال: يجوز ذلك (2) . والدليل على أنه لا يجوز: أن العلة إنما تستنبط من الأصل ويُعَلَّق (3) الحكم عليها، وإنما يعلم أن الوصف علة للحكم في الأصل، فلم يجز تعليق الحكم عليه، ورد الفرع إليه. واحتج المخالف: بأن الأوصاف تحتاج أن تكون مؤثرة ومحترزة، فلما جاز تعليق الحكم على المؤثر جاز تعليقه على المحترز [به] . والجواب: أن المؤثر فيه تأثير واحتراز، فلوجود الشرطين جُعل علة، والوصف المتحرز فُقِد فيه أحد الشرطين، فلم يصح لتعليق الحكم عليه.   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/51) والمسوَّدة ص (428) وشرح الكوكب المنير (4/275) . (2) وبه قال بعض الشافعية: انظر: شرح اللمع (2/876) فقد تكلم عن هذه المسألة باستفاضة. (3) في الأصل: (تعليق) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1441 فصل [في الاعتراض الفاسد على العلة] وذلك من وجوه: أحدها: أن يقول المخالف: لو كان الادخار علة في وجوب العُشْر لوجب أن يكون علة في الربا، فلما لم يكن علة في الربا لم يكن علة في وجوب العُشْر (1) . وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يجب إذا لم يكن علة في حكم أن لا يكون علة في حكم آخر مخالف له؛ لأن الأحكام المختلفة تختلف عللُها، فإنه قد يكون في أحدها مانع من ضمها ولا يكون في الآخر. ألا ترى أن نصه في الربا على المِلْح منع من أن يكون القوت علة في الربا، وليس هذا المانع في وجوب العُشْر. فإن قيل: فقد قلتم: إن ما لا يزيل الحدث لا يزيل الخبث. وإن مالا يصح الوضوء به لا يصح إزالة النجاسة [به] ، وهذه مناقضة لما قلتم (2) ، لأنهما حكمان مختلفان. قيل: المقصود بهما الطهارة التي تستباح بها الصلاة، فكان طريقاً واحداً. فالمانع الذي لا يصح به أحدهما لا يصح به الآخر، وليس كذلك العُشْر والربا، فإنهما حكمان مختلفان متباينان يقصد بكل واحد منهما غير ما يقصد به الآخر.   (1) راجع في هذا الاعتراض: التمهيد (4/182) ، والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (166) والمعونة في الجدل ص (96) والكافية في الجدل ص (397) . (2) في الأصل: (قلته) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1442 ولهذا قلنا للمخالف: إن ما ليس من جنس الأثمان لما لم يدل على جواز النَّسَأ فيه لم يدل على جواز التفرق قبل التقابض؛ لأن معناهما واحد، وإذا جاز أحدهما جاز الآخر، وإذا حرُم أحدهما حرُم الآخر. اعتراض ثانٍ: على قياس الوضوء على التيمم في وجوب [224/أ] النية بأن الوضوء شُرع قبل التيمم، فلا يجوز أن يكون المتأخر أصلاً للمتقدم (1) . وهذا فاسد (2) ؛ لأن ذلك إنما لا يجوز إذا لم يكن لوجوب النية في الوضوء طريق غير التيمم، فلا يجوز أن يكون وجوب النية في الوضوء سابقاً للتيمم الذي هو طريق ثبوتها. فأما إذا جاز أن تكون نية الوضوء ثابتة من غير جهة التيمم من آية أو سنة أو قياس على غير التيمم، ثم شرع التيمم وأوجبت النية فيه، وأودع فيه معنى يوجد في الوضوء صار طريقاً لثبوت النية ودليلاً عليها، وتأخره عنه لا يمنع صحته؛ لأن الدليل يجوز أن يَرِد بعد الدليل، وتتجدد الطريق بعد الطريق. ولهذا نقول: إن الحكم إذا ثبت بقرآن ثم ورد بعده قول النبي - صلى الله عليه وسلم - دالاً عليه، كان كل واحد منهما طريقاً لثبوته، وكان المستدل بالخيار، إن شاء استدل بالقرآن، وإن شاء استدل عليه بالسنة.   (1) راجع هذا الاعتراض في: روضة الناظر مع شرحها (2/313) ومختصر الطوفي ص (152) والمسوَّدة ص (387) وشرح الكوكب (4/111) . (2) هكذا عدَّه المؤلف من الأسئلة الفاسدة. ويرى ابن قدامة والمجْد والطوفي أن ذلك شرط في قياس العلة دون قياس الدلالة. انظر: المراجع السابقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1443 وكذلك معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظهرت في أوقات مختلفة من نزول القرآن عليه، وتسبيح الحصى في يديه (1) ، وحنين الجذع   (1) تسبيح الحصى بين يديه - صلى الله عليه وسلم - أخرجه أبو نعيم في كتابه: دلائل النبوة (2/555) بإسنادين: أحدهما: بسنده عن جبير بن نفير الحضرمي عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال: (إني لشاهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلقة، وفي يده حصيات، فسبحن في يده، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، يسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر فسبحن مع أبي بكر، يسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر، فسبحن في يده، يسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن إلى عثمان، فسبحن في يده، ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا) . قال فيه الهيثمى في مجمع الزوائد (5/179) : (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد ابن أبي حميد، وهو ضعيف) . كما ذكره من طريق سويد بن يزيد (8/298) وقال فيه: (رواه البزار بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم ضعف) . ثانيهما: بسنده إلى صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سويد بن يزيد عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (كنا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ حصيات في كفه فسبحن، ثم وضعهن في الأرض فسكتن، ثم أخذهن فسبحن) . وأخرجه البيهقي في كتابه دلائل النبوة (6/64) وقال فيه بعد ذلك: (وكذلك رواه محمد بن بشار عن قريش بن أنس عن صالح بن أبي الأخضر، وصالح لم يكن حافظاً، والمحفوظ رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: ذكر الوليد ابن سويد أن رجلاً من بني سليم كبير السن، كان ممن أدرك أبا ذر بالرَّبَذَة، فذكر هذا الحديث عن أبي ذر) . قال ابن حجر في الفتح (6/592) : (وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1444 إليه (1) ونَبْع الماء من بين أصابعه (2) وكلام الذراع (3) وغير ذلك. وكل واحد منها دليل على صدقه، وطريق ثبوت نبوته.   (1) هو الجذع الذي كان يخطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده قبل أن يُتخذ له منبر. أخرج ذلك البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم (4/237) . وانظر: الفتح (6/610) . وأخرجه بسنده أبو نعيم في كتابه: دلائل النبوة (2/514) . (2) معجزة نبع الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - أخرجها البخاري عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وذلك في كتاب المناقب باب علامات النبوة (4/233) . وانظر الفتح (6/580) . وأخرجه أبو نعيم في كتابه: دلائل النبوة (2/521) . كلام الذراع أو الساق أو العضو للنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء في قصة الشاة المسمومة، التي أهدتها اليهودية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصل القصة ثابت، أخرجها البخاري في كتاب الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين (3/202) . وأخرجها مسلم في كتاب السلام، باب: السم (4/1721) . وأخرجها أبو داود في كتاب الديات، باب: فيمن سقى رجلاً سماً أو أطعمه فمات (4/647) . وأخرجها الإمام أحمد في مسنده (1/305) . أما الروايات التي فيها أن عضواً من أعضائها قد كلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرجها البزار والدارقطني من عدة طرق، أحسنها ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ولفظه: (أن يهودية أهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة سميطاً، فلما بسط القوم أيديهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمسكوا، فإن عضواً من أعضائها يخبرني أنها مسمومة، فأرسل إلى صاحبتها أسممتِ طعامك هذا؟ قالت: نعم، قال: ما حملكِ = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1445 اعتراض ثالث: على القياس في العقد الموقوف (1) بأنه نكاح لا تتعلق به الأحكام المختصة به، أو لا ببعضه استباحة، فكان باطلاً، كما لو تزوجها في العدة، فإن موضوعه فاسد؛ لأن العقد متبوع والأحكام تابعة، ولا يجوز أن يستدل بعدم التابع على عدم المتبوع، وإنما يستدل بعدم المتبوع على عدم التابع. وهذا فاسد؛ لأن الشريعة قد تقررت، والأصول قد ترتبت على أن النكاح إذا كان صحيحاً تتبعه أحكامه، وإذا كان فاسداً لا تتبعه الأحكام. فإذا كان كذلك، ووجدنا عقد النكاح لا تتبعه أحكامه، وجب أن يكون (2) فاسداً. ولأنهم (3) ناقضوا في ذلك، وقالوا: لا يصح ظهار الذمي؛ لأنه لا يصح   = على ذلك؟ قالت: أردت إن كنت كاذباً أن أريح الناس منك، وإن كنت صادقاً علمت أن الله تبارك وتعالى سيطلعك عليه، فبسط يده وقال: كلوا بسم الله، قال فأكلنا، وذكرنا اسم الله، فلم يضر أحدا منا) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب علامات النبوة، باب: ما جاء في الشاة المسمومة (8/295) : (رواه البزار، ورجاله ثقات) . راجع هذا الاعتراض في: التمهيد (4/184) والكافية في الجدل ص (400) . والمراد بالعقد الموقوف: الموقوف على الإجازة، كما صرح به المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين (2/82) . والمعنى: أن المرأة إذا تزوجت بغير إذن وليها، ثم أذن الولي بعد ذلك، فهل يصح النكاح والحالة هذه؟ روايتان في المذهب الحنبلي: الأولى: وهي الصحيحة كما يقول المؤلف: لا يصح ذلك، كنكاح المرتدة والمعتدة. والثانية: يصح، قياساً على الوصية بأكثر من الثلث. (2) في الأصل: (أن لا يكون) . (3) هذا إشارة إلى الحنفية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1446 منه التكفير بالصوم، والتكفير من أحكامه (1) . اعتراض رابع: أن نفرق بين الأصل والفرع مع وجود العلة الموجبة للمنع بينهما (2) . مثل: أن نقيس النبيذ على الخمر في التحريم لوجود الشدة المطربة. فيقول الخصم (3) : لا يجوز اعتبار النبيذ بالخمر؛ لأن الخمر؛ يكفر مستحلُّها ويفسق شاربُ قليلِها، ولا يكفر مستحل النبيذ ولا يفسق شارب قليلِه. وهذا فاسد؛ لأن افتراقهما [224/ب] في حكم لا يوجب افتراقهما في حكم آخر. واجتماعهما في علة الحكم يوجب اشتراكهما في الحكم. فكان الفرق في مقابلة الجمع بالعلة بمنزلة معارضة الدليل بما ليس بدليل. اعتراض خامس: أن يبدِّل لفظ العلة بغيره، ثم يفسده (4) . نحو قولنا في الصائم - إذا أكره على الفطر بالأكل والشرب -: إن ما لا يفسد الصوم سهوه لم يفسده إذا كان مغلوباً عليه. أصله: القيء. فنقول: ليس في كونه مغلوباً عليه أكثر من أنه معذور، والعذر لا يمنع   (1) هذا من ضمن أدلة الحنفية على أن الذمي لا يصح ظهاره. وقد عبر عن ذلك الكاساني في بدائع الصنائع (5/2123) بقوله: (والثاني: أن فيها [يعني آية الظهار] أمراً بتحرير يخلفه الصيام إذا لم يجد الرقبة، والصيام يخلفه الطعام إذا لم يستطع، وكل ذلك لا يتصور في حق غير المسلم ... ) . وانظر: شرح فتح القدير: (4/245) . (2) راجع في هذا الاعتراض: التمهيد (4/183) والمسوَّدة ص (441) وشرح الكوكب (4/320) والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (201) والكافية في الجدل ص (298) . (3) إشارة إلى الحنفية، كما صرح بذلك أبو الخطاب في كتابه التمهيد الموضع السابق. (4) راجع هذا الاعتراض في: التمهيد (4/181) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1447 الإفطار، الدليل عليه: المريض والمسافر إذا أكلا. وهذا فاسد؛ لأن العذر غير (1) الغلبة، ومعناهما يختلف؛ لأن العذر [بالمرض] (2) لا يسلب الاختيار. والغلبة تسلب الاختيار، وإذا نقل لفظ العلة إلى لفظ آخر لا يفيد معنى لفظ العلة، ثم أفسده لم ينفعه إفساده إياه، ولم يكن إفساداً للعلية. ويدل على ذلك: أن الصائم إذا استقاء عامداً لمرض به كان معذوراً وأفطر بذلك. فإذا ذرعه القيء لم يفطر. فدل هذا على الفرق بين المغلوب وبين المعذور والمختار. اعتراض سادس: قول القائل: لا يجوز أن يوجد النفي من الإثبات، والإثبات من النفي (3) . مثاله: قول أصحاب أبي حنيفة (4) : عبد تجب في رقبته زكاة التجارة فلا تجب عليه (5) زكاة الفطر، كالعبد الكافر (6) .   (1) في الأصل: (عن) والتصويب من التمهيد الموضع السابق. (2) زيادة اقتضاها المقام، وقد أثبتها أبو الخطاب في كتابه التمهيد لمَّا نَقَل كلام المؤلف. (3) راجع هذا الاعتراض في: التمهيد (4/182) . (4) الحنفية لا يرون أن في العبد المعدّ للتجارة زكاة فطر، حتى لا يجتمع على السيد زكاتان؛ لأن ذلك يؤدي إلى الثنى، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. أما إذا كان العبد معداً للخدمة فعلى سيده زكاة الفطر فقط. انظر: بدائع الصنائع (2/964) وتحفة الفقهاء (1/336) وشرح فتح القدير (2/286) . (5) ظاهر هذا: أن الضمير راجع إلى العبد، والحنفية لا يقولون بذلك، وإنما هي على مالك العبد؛ لأن العبد ليس أهلاً للملك، فلا تجب عليه زكاة الفطر. (6) العبد الكافر - عند الجمهور - لا تجب من أجله زكاة الفطر؛ لأنه كافر، وتجب = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1448 فقال بعض من لا يُحصل: لا يجوز أن يؤخذ الحكم من ضده ونقيضه. وهذا فاسد. وقد ورد الشرع بمثل ذلك، قال النبي - عليه السلام -: (لا وصية لوارث) فجعل ثبوت الميراث علَماً على نفي الوصية. ونهى عن مهر البغي (1) فجعل كونها بَغِياً علة لنفي المهر. وقول النبي -عليه السلام-: (إنَّها ليست بنجَس، إنها من الطَّوافين عليكم) . ومثل ذلك كثير. ولأن علل الشرع أمارات بقصد صاحب الشرع وجعله إياها أمارات. فإذا كان كذلك جاز أن يجعل النفي علة للإثبات، والإثبات علة للنفي، كما يجوز أن يجعل الإثبات علة للإثبات، والنفي علة للنفي، ولا فرق بينهما.   = فيه زكاة التجارة؛ لأنه من عروض التجارة. أما عند الحنفية: فالعبد الكافر إذا كان معداً للخدمة فتجب على السيد زكاة الفطر من أجله. أما إذا كان معداً للتجارة، فلا تجب فيه زكاة الفطر، وإنما تجب زكاة التجارة فقط، حتى لا يجتمع على السيد زكاتان. انظر: المراجع السابقة، والمغني (3/70،56) . (1) هذا إشارة إلى حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - الذي أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب: ثمن الكلب (3/105) ولفظه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن: ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ... (3/1198) بمثل لفظ البخاري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1449 فصل إذا علَّل المسؤول، فنقض الحكم عليه، ففسر لفظ علته بما يدفع النقض، نُظِر (1) : فإن كان التفسير مطابقاً للفظ العلة قبل منه، وإن كان مخالفاً للفظ علته لم يقبل منه. وأما التفسير المطابق فمثل أن يقول (2) في المتولِّد بين الغنم والظباء: لا زكاة فيها؛ لأنها متولدة من أصلين أحدهما لا زكاة فيه (3) . فوجب أن لا تجب فيه زكاة. أصله: [225/أ] إذا كان الأمهات من الظباء، وهذا على [قول] أبي حنيفة (4) . فأما على قولنا، فإن الزكاة تجب (5) . فيقول الخصم (6) : هذا ينتقض بالأولاد المتولدة من المعلوفة والسائمة. فقال: أردت به لا زكاة فيها بحال. والمعلوفة فيها الزكاة بحال، وهي إذا سمنت (7) .   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/143) والجدل على طريقة الفقهاء ص (58) وروضة الناظر (2/365) والمسودة ص (436) وشرح الكوكب المنير (4/287) وترتيب الحجاج ص (188) . (2) صرح في التمهيد الموضع السابق بأن القائل شافعي، وهو كذلك كما سيأتي. (3) هكذا صرح به الشيرازي في مهذبه والنووي في مجموعه (5/291،290) . (4) الحنفية يرون أن المتولد من الوحشي والأهلي فيه الزكاة إذا كانت الأم أهلية؛ لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية، فكذلك في الزكاة. انظر: بدائع الصنائع (2/872) . (5) عند الحنابلة تجب الزكاة في المتولِّد بين الوحشى والأهلي مطلقاً. انطر: المغني (2/595) . (6) صرح في التمهيد الموضع السابق: أن المراد به الحنفية. (7) يعنى: أصبحت عروض تجارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1450 وهذا التفسير يقبل؛ لأن ظاهر قوله: لا زكاة فيه، أنه لا زكاة فيها بحال. أما التفسير المخالف، فهو أن يقول: مكيل، فوجب أن يحرم فيه التفاضل. أصله: الأربعة المنصوص عليها. فيناقض بالجنسين (1) . فيقول: أردت به إذا كان جنساً واحداً، فلا يقبل منه؛ لأن لفظه عام في جنس واحد وجنسين، فيريد أن يجىء بلفظه زيادة، يضيفها إليه ليخرج موضع النقض من لفظ العلة، وهذا لا سبيل له إليه بعد انتقاض ما تناوله لفظ علته. وقال بعضهم: إذا جاز لصاحب الشريعة أن يطلق لفظاً عاماً ثم يخصه جاز ذلك لمعلل. وهذا فاسد؛ لأن من يقول: لا يجوز تأخير البيان لا يُجَوِّز ذلك إلا أن يكون البيان سابقاً، ليكون دليل التخصيص بمنزلة القرينة. ومن يجوِّز تأخير البيان، فإنّما يجوِّزه إلى وقت الحاجة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. والمعلل قد أخر بيانه عن وقت الحاجة وهذا [غير] جائز (2) . وجواب آخر: وهو أن لصاحب الشريعة النسخ، وله ذكر بعض العلة وترك الباقي. وهذا لا يجوز للمسؤول القاصد إلى تثبيت الحكم بعلته. فأما إذا نازعه الحكيم في وصف علته، وامتنع من تسليمه، ففسره بما يوافقه، ويسلم له، وكان اللفظ محتملاً لما فسره به، وتستقل العلة بذكره قُبِل منه. مثاله أن يقول: الحج لا يسقط بالموت؛ لأنه فعل تدخله النيابة، استقر عليه في حال الحياة، فلا يسقط بالموت، كالدين.   (1) كالبر والتمر، فإن التفاضل بينهما جائز. (2) انظر: التمهيد (4/145) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1451 فيقول الخصم: الحج لا تدخله النيابة، ويكون الحج للحاج دون المحجوج عنه. فيقول المعلل: أردت بالنيابة أن للمحجوج عنه أن يأمره بفعله، ويجوز للفاعل أن يقصد بقلبه أنه يفعله له، أو يجب عليه ذلك. وهذا يسلمه الخصم، وهو ضرب من النيابة. فصل إذا كانت العلة للجواز فلا تنتقض بأعيان المسائل (1) . مثاله أن يقول: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون؛ لأن من وجب في ماله العُشْر، جاز أن يجب في ماله ربع العُشْر. فقال: هذا ينتقض بما دون المائتين، وببنات البُدْن والحمير والبغال وسائر الأموال التي لا تجب الزكاة فيها. أو قال [في الصبي والمجنون] : حر مسلم، فجاز [225/ب] أن تجب الزكاة في ماله قياساً على البالغ العاقل. فقال: ينتقض بالأموال التي ذكرناها. وهذا ليس ينتقض؛ لأن النقض وجود العلة مع عدم الحكم، وليس حكم هذه العلة وجوب ربع العُشْر أو وجوب الزكاة في كل ماله، وإنما حكمها وجوب ربع العُشْر أو وجوب الزكاة في مال غير معيَّن. فإذا وجبت الزكاة في مال من الأموال وأسقطها عن غيره كان حكم العلة موجوداً، ولم يكن النقض داخلاً على العلة.   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/148) والمسوَّدة ص (431) ، والمنهاج في ترتيب الحجاح ص (188) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1452 فصل [التسوية بين الفرع والأصل تدفع النقض] إذا انتقضت علة المعلل، فقال: قصدت التسوية بين الأصل والفرع (1) ، جاز (2) . وهو قول أصحاب أبي حنيفة (3) . وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز ذلك (4) . ومثاله: أن نقول في المسح على العمامة: عضو يسقط في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. فيقول المخالف: هذا ينتقض به في الغسل من الجنابة (5) .   (1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/150) والمسوَّدة ص (431) وشرح الكوكب المنير (4/288) . (2) قيد ذلك أبو الخطاب بمن يقول: إن العلة المخصوصة صحيحة؛ لأنه لا يشترط في العلة: الطرد والجريان. أما من لا يقول بتخصيص العلة فإن التسوية ليست مانعة من النقض. ثم ذكر أن ذلك خلاف ما اختاره شيخه أبو يعلى من أن التسوية تمنع من النقض، مع قوله: إن من شرط العلة الاطراد. (3) وهو كذلك انظر: أصول السرخسي (2/248) وتيسير التحرير (4/144) . (4) هذا هو المشهور عند الشافعية. وفصَِّل بعضهم فقال: إن كان قد صرح بالحكم لم يدفع النقض، وإن كان غير مصرح به، بل قد جعل حكم العلة التشبيه فيدفع النقض. انظر: التبصرة ص (470) وشرح اللُّمع (2/889) . (5) فإن الرأس في الغسل من الجنابة يسقط والتيمم، ولا يمسح على حائله. انظر: التمهيد (4/150) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1453 فنقول: قصدنا التسوية بين الرأس والقدمين، والرأس والقدمان يُنْقَضان في غسل الجنابة. وكذلك السلم، موجود عند المحل، فصح السلم فيه كما لو كان موجوداً حين العقد. ولا يلزم عليه الجواهر؛ لأنها لو كانت موجودة حين العقد لم يجز السَّلَم فيها. ومثاله ما قاله الحنفي: من صح قبوله البيع صح قبوله النكاح. أصله: الحلال. فقيل له: ينتقض بمن له أربع نسوة، فإنه يصح قبوله للبيع، ولا يصح قبوله للنكاح. فقال: قصدت التسوية بين المحرم والمحل، والمحرم والحلال يتفقان في ذلك. أو قال: مائع فجاز إزالة النجاسة به كالماء. فقال خصمه: ينتقض بالمائع النجس. فقال: قصدت التسوية بين المائع والماء، والنجس لا يجوز إزالة النجاسة به فيهما. والدلالة عليه: أن القصد بالعلة التسوية بين الأصل والفرع، فإذا استويا في الحكم وفي ضده، دل ذلك على قوة الشبه بينهما، وجرى ذلك مجرى قوله: بنو (1) بكر زرق كبني تميم، فبان (2) أن في بني بكر أشهل، وفي بني تميم أشهل، لم يمتنع ذلك من صحة الشبه، كذلك هاهنا. وأيضاً: فإن الكسر كالنقض، بدليل أن كل واحد منهما يمنع الاحتجاج بالعلة.   (1) في الأصل (بنى) . (2) في الأصل: (بان) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1454 ثم ثبت أن التسوية في الكسر بين الأصل والفرع يمنع لزومه، كذلك النقض. ومثاله ما قاله المخالف فيمن وطىء ليلا في كفارة الظهار: إن وطأه لم يصادف صوماً فلم يفسد، كالوطء في كفارة القتل. فقيل له: لا يمتنع أن لا يصادف الصوم ويفسد، كما لو نوى صيام تطوع أو قضاء، فإن التتابع يفسد، وإن لم يفسد [266/أ] الصوم. فيقول المخالف في الأصل مثله، وهو كفارة القتل، وأن ذلك يفسد، كذلك في الظهار، فيكون ذلك جواباً سديداً، كذلك هاهنا. وأيضاً: فإنه ليس من شرط العلة جريانها في جميع المعلول. بدليل أنه لو كان الخلاف في فصلين، فنصب العلة على أحدهما كانت صحيحة، فإذا لزم على العلة نقضاً، فقال في الأصل مثله، فأكثر ما فيه أنها لم تجر في جميع المعلومات، وذلك جائز. واحتج المخالف: بأن النقض، وجود العلة مع عدم حكمها. وحكم هذه العلة صحة قبول النكاح دون التسوية. وقد وجدت العلة، وحكمها معدوم. والجواب: أن النقض وجود العلة مع عدم حكمها، مع اختلاف الأصل والفرع في ذلك. فأما مع اتفاقهما، فليس هذا حد النقض وصفته. واحتج: بأن هذا القائل يسقط الأصل؛ لأن حكم العلة إذا كان التسوية بين الأصل والفرع وجب أن يقيس الحلال على ما ليس بحلال لصحة قبوله للبيع، ويكون حكمهما مساوياً لحكم الحلال، وهذا لا تجده بحال. والجواب: أنه لا يسقط الأصل؛ لأن الأصل مجمع على حكمه، ولا حاجة بنا إلى قياسه على غيره. والفرع مختلف فيه، فَبِنا حاجة إلى قياسه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1455 على غيره. فبان أن الأصل لا يسقط، ووجود [علة] النص فيهما يدل على تأكيد شبهه به في الحكم وضده (1) . واحتج: بأن وجود التسوية إقرار بالنقض في الأصل والفرع. والجواب: أن هذا إقرار بالأصل والفرع لم يجريا في جميع المعلول. وقد بينَّا أن جريانهما في جميعه ليس بشرط. ثم هذا يلزم عليه التسوية بين الأصل والفرع في الكسر. واحتج: بأن ما أفسد إذا لم يمكن التسوية أفسد وإن أمكن التسوية، يدل عليه الممانعة وعدم التأثير. والجواب: أنه إذا لم يمكن التسوية، فالعلة لم تجر في شىء من المعلول، فإذا أمكن جرت في شىء مثله. ثم يلزم عليه الكسر، فإنه يفسد إذا لم يمكن التسوية، ولا يفسد إذا أمكن. مسألة لا يجوز للمسؤول أن ينقض السائل بأصل نفسه (2) .   (1) يعني: أن الاستواء بين الأصل والفرع في العلة يدل على تشابههما في ذلك الحكم، كما يدل على تشابههما في ضد الحكم، وعليه فلا نقض. ويلاحظ: أن أبا الخطاب -تلميذ المؤلف- يخالف شيخه في هذه المسألة، ولذلك أجاب عن أدلة شيخه بما يبطلها. فانظر: التمهيد (4/151) . (2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/158) والمسوَّدة ص (432) وشرح الكوكب المنير (4/290) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1456 وحُكي عن الجرجاني أنه كان يستعمله (1) . وسئل أبو بكر الباقلاني (2) عن ذلك فقال: له وجه في الاحتمال (3) . ومثاله، أن يقول: مهر المثل يتنصَّف بالطلاق قبل الدخول؛ لأنه مهر يستقر بالدخول؛ فوجب أن يتنصَّف بالطلاق قبله. أصله: المسمى في العقد. فيقول المسؤول من أصحاب أبي حنيفة: هذا ينتقض على أصلي بالمسمى بعد العقد، فإنه يستقر بالوطء، ولا يتنصَّف بالطلاق قبله، وإنما يسقط جميعه يسقط جميع مهر المثل (4) . [266/ب] . أو يقول: لا يجب للمتوفى عنها زوجها السكنى؛ لأنه لا نفقة لها، قياساً على الموطوءة بشبهة (5) . فيقول المسؤول من أصحاب الشافعي: هذا ينتقض على أصلي بالمطلقة البائن الحائل (6) ، فإنه لا نفقة لها، ويجب لها السكنى (7) .   (1) نسب ذلك إليه في المراجع السابقة، وفي: إحكام الفصول للباجى ص (659) والتبصرة ص (472) . (2) نسب إليه ذلك في المسوَّدة وفي إحكام الفصول الموضعين السابقين. (3) في إحكام الفصول ص (660) : (وله وجه) ولم يزد عليها. (4) وبذلك تجب لها المتعة. والطلاق الذي تجب فيه المتعة عند الحنفية نوعان: أ- أن يكون الطلاق قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه ولا فرض بعده، أو كانت التسمية فيه فاسدة. ب- أن يكون الطلاق قبل الدخول في نكاح لم يسمّ فيه المهر، وإنما فرض بعده. انظر تفصيل ذلك في: بدائع الصنائع (3/1482) . (5) القائل هو الحنفية. انظر: بدائع الصنائع (4/2042) . (6) في الأصل: (الحابل) بالموحدة. (7) وهو كذلك. انظر: المهذب مع شرحه المجموع (17/157) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1457 دليلنا: أن علل المعلل حجة عليه في المواضع التي ينقض عليه بها لوجود علة فيها. ولا يجوز أن يدفع الحجة بدعواه. ولا يجوز أن يقول: أنا أَدلُّ عليه بدليل أقوى من القياس؛ لأنه انتقال من موضع فرض الكلام فيه إلى غيره، وهذا لا يجوز له. ويكون ذلك انتقالاً منه، كما لا يجوز إذا فرض الكلام في الدليل من الخبر أن ينقله إلى القياس، أو من القياس إلى الخبر. وإذا لم يجز للسائل أن ينقل الكلام عن الموضع الذي فرضه المسؤول؛ لأنه تابع للمسؤول، فلأنْ لا يجوز للمسؤول أن ينقله عن الموضع الذي فرض الكلام فيه باختياره أولى. ويخالف هذا في الابتداء، فإن للمسؤول أن يبني على أصله؛ لأنه لم يتعين عليه الكلام في موضع بعينه. ألا ترى أن له الاختيار في الاحتجاج بما اختار من أنواع الأدلة، فإذا فرض الكلام في شىء منه وعيَّنه لم يجز أن ينتقل عنه، وإذا انتقل كان منقطعاً. فدل على الفرق بينهما. وأما نقضها على أصل المعلل فصحيح؛ لأنه يعلمه أنها منتقضة على أصله، لوجود علته مع عدم حكمها على أصله. وإذا بين له ذلك كانت العلة منتقضة باعتراف المعلل، فلزمه النقض. واحتج المخالف: بأن المسؤول له أن يبني على أصله في الابتداء، فيقول: إن سلَّمت موضع النقض فقد انتقضت العلة، وإن لم تسلِّم، دَللتُ على صحته (1) .   (1) ساق الشيرازي هذا الدليل في كتابه التبصرة ص (472) بأوضح مما هنا حيث قال: (واحتج المخالف: بأنه لو جاز للمسؤول في الابتداء أن يبنى على أصله، فيقول: = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1458 ولأنه إذا كان للمسؤول أن ينقض علة السائل على أصل السائل، وإن كان المسؤول لا يقول به، كذلك يجوز على أصل نفسه، وإن كان السائل لا يقول به. والجواب: ما ذكرنا (1) . فصل ولا يجوز لأحد أن يلزمه خصمه ما لا يقول به إلا النقض (2) . فأما غير النقض، من دليل الخطاب أو القياس أو المرسل أو غير ذلك، فلا يجوز له التزامه؛ لأنه يكون محتجاً بما لا يقول به، ومثبتاً للحكم بما ليس بدليل. ويخالف الناقض؛ لأنه غير محتج بالنقض، ولا مثبت للحكم به. وإنما يعلم المعلل أصله وينبهه على وجود علته فيه مع عدم حكمها، وهو معروف أن ذلك نقض لعلته وإبطال [227/أ] لها. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقول دليل خطابه يلزمك على أصلك؛ لأنك   = إن سلَّمت هذا الأصل ثبتت علته، وإلا دللتُ عليه، جاز أن ينقض على أصله فيقول: إن سلَّمت هذا انتقضت له العلة، وإن لم تسلِّم دللتُ عليه) . (1) بالنسبة للجواب عن دليل المخالف الأول فهو يشير إلى قوله فيما سبق: (ويخالف هذا في الابتداء .... ) . وبالنسبهَ للجواب عن دليل المخالف الثاني فهو يشير إلى قوله فيما سبق: (ولا يجوز أن يقول: أنا أَدِلُّ عليه ... ) . والجواب عن دليلى المخالفين مبين في كتاب التبصرة: الموضع السابق. (2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/180) والمسوَّدة ص (432) وشرح الكوكب المنير (4/289) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1459 تعتقد صحته، وأنه طريق لإِثبات الحكم؟ قيل: لايجوز ذلك؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يطالب خصمه بإثبات الحكم من طريق فاسد عند نفسه [فـ] كما لا يجوز أن يثبته من طريق فاسد لا يجوز أن يطالب خصمه بذلك. ولأن له أن يقول: أنت لا تقول بدليل الخطاب، وإنما تركته لما هو أقوى منه، فكان تركه في هذا الموضع مجمعاً عليه (1) . ومثال ذلك، أن يحتج على بطلان النكاح من غير ولي بما روت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أَيُّما امرأةٍ نَكَحَت نفسَها بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطل) . فيقول خصمه: يجب إذا نكحت بإذن وليها أن يجوز من طريق دليل الخطاب. والجواب عنه بما ذكرنا. فصل إذا لم يسلم النقض، فقال الناقض: أنا (2) أَدِلُّ على صحته، لم يجز ذلك (3) ؛ لأنه يريد أن ينقل الكلام عن موضع فيه إلى غيره، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز الانتقال من دليل إلى دليل، وإن لم يدل عليه، ولكنه إن أراد أن يكشف عن أصل المعلل يلغى (4) من ذلك ولم يجز للمعلل منعه منه.   (1) يعني: أن دليل الخطاب مُجْمع على ترك الاستدلال به من الطرفين، فالأول لا يقول بحجيته مطلقاً، والآخر لا يقول به في هذا الموضع لوجود دليل أقوى منه. (2) في الأصل: (إنما) . (3) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/141) والمسوَّدة ص (431) وشرح الكوكب المنير (4/286) . (4) هكذا في الأصل، والمعنى: أن الناقض إذا أراد أن يكشف عن أصل المعلِّل فله ذلك، ولا يجوز منعه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1460 مثاله: إذا قال أصحاب أبي حنيفة فيمن تيمَّم لشدة البرد وصلى: لا يعيد؛ لأنه مأمور بالصلاة، فوجب أن لا يؤمر بقضائها، قياساً على الصلاة بالوضوء (1) . أو المريض إذا تيمَّم، فنقض ذلك عليه بالمحبوس في المِصْر عن الماء، فإنه يتيمَّم، ويصلي، ويعيد. فقال: لا يعيد في إحدى الروايتين. فقال له: هذا مذهب زُفَر (2) وليس هذا بمذهب أبي حنيفة (3) . وذكره الطحاوي (4) في اختلاف الفقهاء (5) . فصل إذا نقض على خصمه، ثم رجع إلى مناكرتها لم يقبل منه (6) .   (1) انظر تفصيل القول في هذه المسألة: بدائع الصنائع (1/188) . (2) هو: زُفَر بن الهذيْل بن قيس بن سلم أبو الهذيْل العنبري، الفقيه المجتهد. أحد تلاميذ الإِمام أبي حنيفة المشهورين. كان من أذكياء الوقت. جمع بين العلم والعمل. مات سنة (158 هـ) . له ترجمة في: تاريخ ابن معين (2/172) وسير أعلام النبلاء (8/35) وشذرات الذهب (1/243) . (3) راجع هذه المسألة في: بدائع الصنائع (1/192) . (4) هو: أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الأزدي الحجري المصري الطحاوي الحنفي، الفقيه المحدث، صاحب التصانيف الكثيرة. أخذ العلم عن أبي جعفر بن عمران وأبي حازم وغيرهما. له مؤلفات منها: شرح معاني الآثار، والشروط، واختلاف العلماء. ولد سنة (238) ومات سنة (321 هـ) . له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/808) وسير أعلام النبلاء (15/27) ، وطبقات الحفاظ ص (337) . (5) ذكره منسوباً إليه: في سير أعلام النبلاء الموضع السابق، والأعلام (1/206) ، وذكر الأخير أنه مخطوط، ويوجد منه الجزء الثاني في دار الكتب المصرية بالقاهرة. (6) راجع في هذه المسألة: المسوَّدة ص (437) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1461 مثاله ما قاله بعضهم في فُرْقة اللعان: إنها فُرْقة تتعلق بسبب من جهة الزوج تختص النكاح، فوجب أن تكون طلاقاً. أصله: فُرْقة الطلاق. فقال له خصمه: إنه منتقض بمن زوج ابن أخيه وهو صغير، فإن له خياراً [عند] بلوغه، وليس بطلاق. فقال: قد قلت لا يختص النكاح؛ لأنه يثبت مثل ذلك في إجازة المولى عليه؛ لأن الصغير إذا أجَّره أبوه أو وليه ثم بلغ كان له فسخ الاجارة، فلا يختص بالنكاح. فقال له خصمه: وكذلك عندي لا يختص اللعان بالنكاح؛ لأنه يجوز أن يلاعن في نكاح فاسد ووطء شبهة، إذا كان لها ولد يريد نفيه. وهذا مناكرة بعد مناقضة. وإنما لا يقبل منه؛ لأن النقض تسليم للعلة واعتراف بوجودها، فإذا أنكرها بعد الاعتراف بها لم يقبل رجوعه عما اعترف به. فصل القول بموجب (1) العلة يبطل احتجاج العلل به (2) .   (1) الموجَب بفتح الجيم: ما أوجبه دليل المستدل. وبكسر الجيم: الدليل لأنه الموجب للحكم. انظر: شرح الكوكب المنير (4/339) . راجع هذه المسألة في التمهيد (4/186) والواضح (3/1131) وروضة الناظر (2/395) وشرح الكوكب المنير الموضع السابق. والقول بالموجب هو -كما يقول صاحب الإبهاج (3/141) -: (تسليم مقتضى ما نصبه المستدل دليلاً لحكم، مع بقاء الخلاف بينهما فيه) . (2) العلة هنا ضربان: أحدهما: أن يستدل بها لإثبات مذهبه. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1462 لأنه إذا قال بموجبها كانت العلة في موضع الإِجماع، ولا تكون متناولة لموضع الخلاف. ومثاله أن يقول في الاعتكاف: لُبْث في مكان مخصوص، فوجب أن لا يكون قُرْبة بمجرده، قياساً على الوقوف بعرفة. فيقول خصمه: عندنا لا يكون اللُّبْث بمجرده قُرْبة حتى تقترن به النية. فيكون الحكم الذي علله مجمعاً عليه. وكذلك إذا قال: لا تجتمع زكاة الفطر وزكاة التجارة؛ لأنهما زكاتان مختلفتان، فلا تجتمعان في مال واحد، كزكاة السَّوْم وزكاة التجارة. فيقول خصمه: أقول بموجبه؛ لأنهما لا تجتمعان في مال واحد؛ لأن زكاة الفطر تجب عن بَدَن العبد، وزكاة التجارة تجب في قيمته، وهما مختلفتان. وأما إذا كان حكم علته عاماً، فقال بموجبها في بعض معلولاتها، لم يصح. مثاله: أن يقول: [القيام] ركن من أركان الصلاة، فلا يكون لركوب السفينة تأثير في سقوطه، كالركوع والسجود. فيقول الخصم: أقول بموجب العلة؛ لأن عندنا لا تأثير له في سقوطه إذا   = والثاني: أن يستدل بها لإبطال مذهب مخالفه. والضرب الأول قسمان: أحدهما: تعليل عام، إثباتاً أو نفياً. فالإثبات كما مثَّل المؤلف بمسألة القيام في الصلاة في السفينة. والنفي كقول الحنبلي: (في إزالة النجاسة بالخل: إنه لا يرفع الحدث، فلم يطهر النجس كالدهن. فيقول المعترض: أقول بموجبه في المائع النجس) . وثانيهما: التعليل للجواز، مثاله: (قول الحنفي في الزكاة في الخيل: إنه حيوان تجوز المسابقة عليه، فجاز أن يتعلق به وجوب الزكاة كالإِبل) . انظر: التمهيد (4/187) والواضح (3/1133) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1463 كانت السفينة واقفة، فإنه لا يجوز أن يترك القيام، وإنما يجوز إذا كانت سائرة. فيقال: إلا أن له تأثيراً في حال السير، والعلة عامة في حال الوقوف والسير جميعاً، فلم يكن قائلاً بموجبها. وكانت العلة حجة عليه في حال السير. وإذا ادعى أنه يقول بموجب العلة، ففسره بغير موجب العلة لم يصح، ووجب على المعلل بيانُه، فإذا بيَّنه سقط السؤال. وبيانه أن يقول في الحُليِّ: مال تتكرر الزكاة فيه، أو تجب الزكاة فيه بشرطي النصاب والحول. فوجب أن يكون له حالان: حال وجوب، وحال سقوط، أصله: الماشية. فيقول خصمه، إني أقول بموجب العلة؛ لأن لها حال سقوط، وهو إذا كان لصبي أو مجنون. فيقول المعلل: ليس ذلك حال المال، وإنما حال المالك. فليس ذلك قولاً بموجب العلة. وإن قال: أقول بموجب العلة فيما دون النصاب لم يصح أيضاً؛ لأن الحال يجب أن يكون في النصاب مع الحول، كما يكون للماشية، فلم يكن قولاً بموجب العلة (1) [228/أ] .   (1) عدَّ كثير علماء الأصول القول بالموجب من مبطلات العلة؛ لأن تسليم الخصم موجب ما ذكره المستدل من الدليل مع بقاء النزاع بينهما يفضي إلى أن ما ذكره المسؤول لا يصلح دليلاً للحكم. ولم يرتض هذا التاج السبكى فقال في كتابه الإِبهاج (3/142) : (ولقائل أن يقول: هذا التقرير [يعني التوجيه السابق لكوله مبطلاً للعلة] يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته، بل الحق أن القول بموجب الدليل تسليم له، وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين، وإليهم المرجع في ذلك، وحينئذ لا يتجه عدُّه من مبطلات العلة) . وانظر: شرح الكوكب المنير (4/347) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1464 باب أقسام السؤال والجواب والمعارضات السؤال (1) على أربعة أضرب (2) ، يقابل كل ضرب من   (1) راجع في هذا الباب: الواضح لابن عقيل (1/439) والمسوَّدة ص (551) وشرح الكوكب (4/375) والكافية في الجدل ص (69) والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (34) والفقيه والمتفقه (2/40) فإن هناك تشابهاً كبيراً بين الكتابين في هذا المبحث، علماً أن الخطيب البغدادي تلميذ للمؤلف. وقد سبق تعريف الجدل عند المؤلف (1/184) ، وقد قال هناك: (والجدل كله سؤال وجواب) . كما سبق تعريف السؤال عنده في الموضع السابق حيث قال: (السؤال هو: الاستخبار) وبمثل تعريفه عرفه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/230) . وعرف ابن عقيل السؤال في كتابه الواضح (1/441) بأنه: (الطلب للإِخبار بأداته في الإفهام) . وعرفه إمام الحرمين في كتابه الكفاية ص (69) بأنه (الاستدعاء) ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة تعريفات بصيغة قيل هي: (الطلب. وقيل: استدعاء الجواب. وقيل الاستخبار) . (2) وهو ما رآه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (2/40) وإمام الحرمين في الكفاية ص (77-78) وابن عقيل في الواضح (2/450) . لكن ابن عقيل في موضع آخر من كتابه (2/457) زاد خامساً وهو سؤال الإلزام. وهو ما فعله ابن النجار الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير (4/375) وحكاه إمام الحرمين في الكافية عن بعضهم. وزاد الباجي في كتابه: المنهاج في ترتيب الحجاج ص (34) خامساً، هو: السؤال عن إثبات مذهب المسؤول. ثم قال بعد ذلك: (وعلى مذهب من أجاز التقليد تكون الأسئلة ستة، فالثالث السؤال: هل له دليل في المسألة أم هل يُقلِّد فيها؟) . واستثنى جمهور أهل النظر: إذا كان السائل عالماً بمذهب المسؤول فله أن يبدأ بالسؤال عن الدليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1465 الجواب (1) من جهة المسؤول. أحدهما: السؤال عن المذهب، فيقول السائل: ما تقول في كذا؟ فيقابله جواب من جهة المسؤول، فيقول: هكذا. والثاني: السؤال عن الدليل بأن يقول: ما دليلك عليه؟ فيقول المسؤول: كذا. والثالث: السؤال عن وجه الدليل، فيبينه المسؤول. الرابع: السؤال (2) على سبيل الاعتراض والقدح فيه، فيجيب المسؤول عنه، ويبين بطلان اعتراضه وصحة ما ذكره من وجه دليله. فإذا ثبت هذا، فإذا سأل سائل عن حكم مطلق، نظر المسؤول فيما سأله   = انظر: الكافية ص (79) . ومنع ابن عقيل إطلاقه حيث قال في كتابه الواضح (2/465) : (قلت: وقد يجري في حكم الاجتهاد أن لا يسقط السؤال لجواز تغير يطرأ على المذهب الذي عُرف به فيزول ما عرفه، وذلك لعدم الثقة بالبقاء على المذهب، فلا غنى إذاً عن السؤال) . وزاد إمام الحرمين والمرجع السابق ص (80) : أن السائل إذا كان عالماً بدليل المسؤول، فله أن يبتدىء بالطعن في دلالته. قلتُ: ومقتضى كلام ابن عقيل أن لا يسقط هذا السؤال؛ لأنه إذا لم يسقط سؤاله عن مذهبه -مع معرفته به لجواز طريان التغير على المذهب- لم يسقط سؤاله عن الدليل؛ لأن تغير المذهب يستلزم تغير الدليل. (1) عَرَّف المؤلف (1/184) الجواب بأنه: (الإِخبار) . وبه عرفه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/230) . وعرفه إمام الحرمين في كتابه الكافية ص (70) بأنه (الخبر المضمَّن بمعنى السؤال فلا جواب إلا خبر، ومن الخبر ما لا يكون إلا جواباً) . قلتُ: وتعريف إمام الحرمين أدق؛ لأنه ليس كل خبر جواباً، وإن كان كل جواب خبراً. (2) مكررة في الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1466 عنه، فإن كان مذهبه موافقاً لما سأل عنه من غير تفصيل فيه أطلق الجواب عنه. وإن كان عنده فيه تفصيل، كان بالخيار بين أن يفصِّله في جوابه وبين أن يقول للسائل: هذا مختلف عندي، فمنه كذا، ومنه كذا، فعن أيهما تسأل؟ فإذا ذكر أحدهما أجاب عنه، وإن أطلق الجواب كان مخطئاً (1) . مثاله: أن يُسأل حنبلي عن مس النساء هل ينقض الوضوء؟ وعنده إن كان لشهوة نقض، وإن كان لغير شهوة لم ينقض (2) . فيقول للسائل هذا التفصيل. وإن شاء قال: منه ما ينقض ومنه ما لا ينقض. [فعن أيهما تساءل] ؟ ومثل: أن يُسأل شافعي عن جلد الميتة هل يطهر بالدباغ؟ وعند المسؤول أن جلد الكلب والخنزير لا يطهر، وكذلك ما تولد منهما أو من أحدهما، ويطهر ما عدا ذلك (3) .   (1) من أول الباب إلى هنا منقول بنصه في كتاب الفقيه والمتفقه (2/40) . (2) هذا هو المشهور من مذهب الإِمام أحمد، رحمه الله. وهناك رواية ثانية: أن اللمس لا ينقض الوضوء مطلقاً. وهناك رواية ثالثة: أن اللمس ينقض الوضوء مطلقاً. انظر: المغني (1/192) . (3) هذا مذهب الشافعية كما في المجموع (1/254) . ويستدلون بحديث: (أيما إهاب دُبغ فقد طهُر) . ولأن الحياة تدفع النجاسة عن الجلد فكذلك الدباغ. وأما الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فلا يطهر بالدباغ؛ لأن الدباغ كالحياة، والحياة لا تدفع النجاسة عنهما فكذلك الدباغ. انظر: المرجع السابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1467 فيقول للسائل هذا التفصيل. وإن شاء قال: منه ما يطهر بالدباغ ومنه ما لا يطهر. فعن أيهما تسأل؟ فأمَّا إذا أطلق الجواب وقال: يطهر بالدباغ كان مخطئاً (1) . وإذا صح الجواب من جهة المسؤول قال السائل: ما الدليل عليه؟ وهو السؤال الثاني. فإذا ذكر المسؤول الدليل، فإذا كان السائل يعتقد أن ما ذكره ليس بدليل. مثل: أن يكون قد احتج بدليل الخطاب، والسائل حنفي لا يقول بدليل الخطاب، أو بالقياس، والسائل ظاهري لا يقول بالقياس فقال للمسؤول: هذا ليس بدليل. فإن المسؤول يقول له: هذا عندي دليل، وأنت بالخيار بين أن تُسَلِّمه وبين أن تنقل الكلام إليه [288/ب] فأَدِلُّ على صحته. فإن قال السائل: لا أسلِّم لك ما احتججت به، ولا أنقل الكلام إلى أصل كان معنتاً ومطالباً بما لا يجب عليه؛ لأن المسؤول لا يلزم أن يثبت مذهبه إلا بما هو دليل عنده، ومن نازعه في دليله، دل على صحته وقال بنصرته. فإذا فعل ذلك فقد قام بما يجب عليه فيه، وإن عدل إلى دليل غيره لم يكن منقطعاً؛ لأن ذلك لعجز السائل عن الاعتراض على ما احتج به وقصوره عن القدح فيه. هذا إذا كان الدليل الذي احتج به أصلاً جلياً مشهوراً. فأما إن كان دليلاً خفياً، فنازعه السائل فيه، وامتنع من تسليمه فهو بمنزلة الجلي المشهور.   (1) ذكر هذا المثال بنصه الخطيب البغدادي الشافعي في كتابه الفقيه والمتفقه (2/40) . ثم أضاف بأنه جرى لأبي يوسف مع الإمام أبي حنيفة نحو هذه المسألة ثم ذكرها بسنده إلى الفضل بن غانم، وهي مسألة طريفة فيها عِظَة لطالب العلم فارجع إليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1468 وقال أبو علي الطبري (1) صاحب "الإِفصاح" (2) : يكون المسؤول منقطعاً، ولا يجوز أن يستدل بأصل خفي إلا بعد أن يستسلمه منه. فإن سلمه احتج به، وإن لم يسلمه دل عليه. فأما إذا احتج به، ثم نازعه السائل ولم يسلمه له لم يكن له تبيينه، ويكون ذلك انتقالاً من جهته وانقطاعاً منه، ويخالف الأصل المشهور؛ لأن شهرته تغنيه عن استسلامه وتبيينه (3) . مثاله: أن يُسأل حنبلي عن الحج هل يسقط بالموت؟ فيقول: لا يسقط؛ لأنه حق تدخله النيابة (4) ، استقر عليه حال الحياة، فلم يسقط بالموت كالدين (5) . فيقول السائل: لا أسلِّم أن النيابة تدخل الحج. فقال له المسؤول: إما أن تسلمه، وإما أن تنقلَ الكلام إلى النيابة فأدل على جوازها، فيكون المسؤول مصيباً إلا على قول صاحب "الإِفصاح" (6) ؛ لأنه لا   (1) هو: الحسين -وقيل: الحسن بالتكبير- ابن القاسم، أبو علي الطبري الشافعي. صنف في الفقه وأصوله والجدل. سكن بغداد، وبها كانت وفاته سنة (350 هـ) . له ترجمة في: تاريخ بغداد (8/87) والمنتظم (7/5) وشذرات الذهب (3/3) وطبقات الشافعية (3/280) . (2) نسب إليه في المراجع السابقة، وفي المسوَّدة ص (439) . (3) انظر رأي أبي علي الطبري في: المنهاج في ترتيب الحجاج ص (39) والمسوَّدة ص (439) . (4) خلافاً للمعتزلة. انظر: الإحكام للآمدي (1/137) ، وجمع الجوامع مع شرحه (1/191) وتخريج الفروع على الأصول ص (60) . (5) هذا مذهب الحنابلة. انظر: المغني (3/242) . (6) في الأصل: (إيضاح) وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1469 يلزمه أن يثبت مذهبه إلا بما هو دليل عنده، ومن نازعه فيما هو دليل عنده لا يلزمه أكثر من إقامة الدليل على صحته. وإذا فعل هذا فقد قام بما وجب عليه، فهو بمنزلة المحتج بدليل جلي مشهور نازعه السائل فيه. ولأن المسؤول لا يلزمه معرفة مذهب السائل؛ لأنه لا تضره مخالفته؛ ولا تنفعه موافقته، وإنما المعوَّل على الدليل يدل على صحة العلة وأوصافها. فإذا كان كذلك فخالفه السائل في أوصافها لا يدل على تفريطه إذا أمكنه إقامة الدليل على صحتها ووجوب اعتبارها، فلم يجز أن يكون سبباً لانقطاعه ومنسوباً إلى التقصير لأجله. وأما السائل إذا عارضه بما هو دليل عنده، وليس بدليل عند المسؤول، مثل: أن يعارض خبره المسند بخبر مرسل، أو خبرَ المعروف بخبر المجهول، وما أشبه ذلك. وقال المسؤول: إما أن تسلِّم ذلك لي فيكون معارضاً لما رويته، وإما أن تنقل [229/أ] الكلام إلى مسألة المرسل والمجهول. فهذا ليس للسائل أن يقوله ويخالف المسؤول فيه؛ لأن السائل تابع للمستدل فيما يورده المسؤول ويحتج به؛ لأنه لما سأله عن دليله الذي دله على صحة مذهبه والطريق الذي أداه إلى اعتقاده لزمه أن ينظر معه فيما يورده، فإن كان فاسداً بين فساده، وإن لم [يكن] فاسداً صار إليه وسلَّمه له. ولهذا المعنى جاز للمسؤول: أن يفرض المسألة حيث أجازه، وكان السائل تابعاً له. ولم يجز للسائل أن ينقله إلى جنبة أخرى ويفرضها فيه (1) .   (1) للمسؤول في الاستدلال ثلاث طرق: 1- أن يستدل على المسألة بعينها. 2- أن يفرض الاستدلال في بعض شعبها. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1470 السؤال الثالث: وهو السؤال عن وجه الدليل وكيفيته: فإنه ينظر فيه فإن كان الدليل -الذي استدل به المسؤول- غامضاً يحتاج إلى بيان وجب السؤال عنه. فإن تجاوزه إلى غيره كان مخطئاً؛ لأنه لا يجوز تسليمه (1) إلا بعد أن ينكشف وجه الدليل منه من جهة المسؤول على ما سأله عنه. وإن كان ظاهراً جلياً (2) لم يجز هذا السؤال، وكان السائل عنه متعنتاً أو جاهلاً. مثاله: أن يَسأل سائل عن جلد الميتة هل يطهر بالدباغ؟ فيقول: لا يطهر، لقوله:- (لا تَنْتَفِعُوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصَب) (3) (وبجلْدٍ ولا عَصَبٍ) (4) .   = 3- أن يبني المسألة على غيرها. وهذه على ضربين؛ لأنه إما أن يبني على مسألة من مسائل الأصول أو مسألة من مسائل الفروع. أفاده الباجي في كتابه المنهاج في ترتيب الحجاج ص (37) . (1) في الأصل: (تقسيمه) وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه بالاستعانة بكتاب الفقيه والمتفقه (2/43) فإن الكلام مذكور فيه بنصه. (2) ذكر الباجى في المنهاج ص (39) أن الظهور هنا، أي: الواضح ثلاثة أوجه: نص وظاهر، وعام. وإن كنت أرى أن العام من باب الظاهر، وبخاصة إذا خصص. (3) الحديث بهذا اللفظ سبق تخريجه. وأزيد هنا: أن الشيخ الألباني خرج الحديث تخريجاً جيداً، وحكم بصحته بعد أن رد العلل التي قيلت فيه. انظر: إرواء الغليل (1/78) . (4) هذا الحديث أخرجه الطبرانى في "الأوسط" بلفظ: (كتب رسول الله -صلى الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1471 فيقول السائل: ما وجه الدليل فيه؟ فيكون مخطئاً لظهور ما سأله، عن بيانه ووضوحه. وإذا قصد بيانه لم يَزِده على لفظه (1) . السؤال الرابع: وهو السؤال على سبيل الاعتراض والقدح في الدليل. فإن ذلك يختلف على حسب اختلاف الدليل. [الاعتراضات على الاستدلال بالقرآن] فإن كان دليله من القرآن كان الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه (2) : أحدها: أن ينازعَه في كونه مُحْكماً، ويدعي أنه منسوخ. مثاله: أن يَحتجَّ الحنبلي (3) بقوله، تعالى: (فَإِمَّا مَنّاّ بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ   = عليه وسلم- ونحن في أرض جُهينة: إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فلا تنتفعوا من الميتة بجلْدٍ ولا عَصَب) . قال الزيلعي (1/121) : (وفي سنده فضالة بن مفصل بن فضالة المصري، قال أبو حاتم: لم يكن بأهل أن نكتب عنه العلم) . قال الألباني في الإرواء (1/79) : (فهو بهذا اللفظ ضعيف) . (1) في الأصل: (لفظ) والتصويب من كتاب الفقيه والمتفقه (2/43) . (2) عدَّها ابن عقيل في كتابه الجدل ص (24) وفي كتابه الواضح (3/927) ثمانية أوجه، هذه الثلاثة التي ذكرها المؤلف، وخمسة أخرى هي: 1- الاعتراض بأن المستدل لا يقول بما استدل به. 2- الاعتراض بالقول بموجب الآية. 3- الاعتراض بدعوى الإجمال. 4- الاعتراض بدعوى المشاركة في الدليل. 5- الاعتراض باختلاف القراءة. وانظر: المعونة في الجدل ص (40) ، والمنهاخ في ترتيب الحجاج ص (42) . (3) يعني: في تخيير الإِمام في الأسرى بين المَنّ والفداء. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1472 الْحَربُ أَوْزَارَهَا) (1) . فيدعى المخالف (2) أنه منسوخ بقوله تعالى: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (3) . فيقول المسؤول: إذا أمكن الجمع بينهما لم يجز حمله على النسخ (4) .   = وهى مسألة وقع الخلاف فيها: فالإِمام أبو حنيفة ذهب إلى أنه لا يجوز المن عليهم, كما ذهب في إحدى الروايتينِ عنه أنه لا يجوز المفاداة. والإِمام مخير في الأسرى بين القتل والاسترقاق وتركهم أحراراً ذمة للمسلمين إلا مشركي العرب والمرتدين، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. وقد أجابوا عن آية: (فَإمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً) بأنها منسوخة بمثل قوله تعالى: (اقْتُلُوا الْمُشرِكِينَ) . وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الإِمام مخير فيهم بين أمور أربعة: القتل والاسترقاق والمَن والفداء. انظر: بدائع الصنائع (9/4349) وشرح فتح القدير (5/473) والأم (4/144) ، والكافي لابن قدامة (4/270) . (1) آية (4) من سورة محمد. (2) هم الحنفية. (3) آية (5) من سورة التوبة. (4) ذكر المؤلف هنا وجهاً واحداً من أوجه الاعتراض بالنسخ، وهى: أن يدعي المخالف نسخ آية بآية أخرى. الوجه الثاني: أن ينقل الناسخ صريحاً. مثاله: أن يستدل الحنبلي في إيجاب الفدية على الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان خوفاً على الجنين أو الولد: بقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين) (البقرة آية 184) . فيقول المخالف: قد نقل عن سلمة بن الأكوع الأسلمي: أنها منسوخة بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة آية 185) . فيجيب الحنبلي: أنها منسوخة في حق من كان له الإِفطار من غير حمل ولا رضاع، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1473 والثاني: أن ينازعه في مقتضى لفظه. مثل أن يَحتجَّ الحنبلي على وجوب الإِِيتاء (1) من مال الكتابة بقوله تعالى: (وَآتُوهُم (2) مِّن مِّالَ اللهِ الَّذي آتَاكُمْ) (3) . فيقول المخالف (4) : إنه إيتاء من الزكاة دون مال الكتابة (5) .   = أما في حق الحامل والمرضع فحكمها باق. الوجه الثالث: أن يدعى نسخها بأنها شرع من قبْلنا، وقد نسخها شرعنا. مثاله: أن يستدل الحنبلي في إيجاب القصاص في الطرف بين الرجل والمرأة بقوله تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) (المائدة آية 45) . فيقول المخالف: هذا حكم التوراة، فقد صدرت الآية بقوله: (وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا) إلى قوله: (والجُرُوحَ قِصَاصٌ) فقد نسخت التوراة بالقرآن. فيجيب الحنبلي: بأن شرع من قبْلنا شرع لنا، ويدلِّل على ذلك. انظر: الجدل لابن عقيل ص (24) والواضح له (3/939) . (1) عند الحنابلة: يجب على السيد إيتاء المكاتب من المال قدر ربع الكتابة، وهو مخير بين وضعه عنه وبين دفعه إليه. وكذلك عند الشافعية إلا أنهم لم يقدروه بالربع -كما هو عند الحنابلة- بل قالوا: يضع عنه شيئاً من عقد الكتابة. انظر: الكافي لابن قدامة (2/608) والأم (8/33) . (2) في الأصل: (فآتوهم) وهو خطأ. (3) آية (33) من سورة النور. (4) هم الحنفية، فقد ذهبوا إلى أن الإِيتاء غير واجب. وأجابوا عن الآية بأن المراد الإيتاء من مال الزكاة. بدليل: أن الله أضافه إليه. انظر: المبسوط (7/206) ، أحكام القرآن للجصاص (5/181) . (5) وممن حمل الآية على الإِيتاء من مال الزكاة: الحسن وعبد الرحمن بن زيد ومقاتل انظر: تفسير ابن كثير (3/288) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1474 فيقول المسؤول: هو خطاب للسادات؛ لأنه قال: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ) فلا يصلح لإِيتاء الزكاة (1) . وقد يحتج على أن لولي المقتول أن يعفو على مالٍ بقوله تعالى: (فَمَنْ عُفيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَىْء فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (2) . فيقول [229/ب] المخالف (3) : العفو هاهنا هو البذل من القاتل، فكأنه أمر بأخذ المال إذا بذله القاتل. فيحتاج (4) أن يبين أن المراد به عفو الولي بأن يقول: حقيقة العفو هو: الترك دون البذل (5) .   (1) هذا أحد أجوبة المخالفين عن الاستدلال بالآية. وقد يجاب بأن الأمر في الآية محمول على الندب. انظر: أحكام القرآن للجصاص (5/181) ، والواضح (3/942) . (2) آية (178) من سورة البقرة. (3) هم الحنفية. انظر: المعونة في الجدل ص (42) ، والواضح (3/431) . (4) المراد بهم الشافعية ومن قال بقولهم. انظر: المرجعين السابقين. (5) هذا أحد الجوابين، وخلاصته: أن العفو قد ورد في اللغة بمعنى الإِسقاط والترك أكثر من وروده بمعنى البذل. ولأن ذلك عُرْف القرآن، وعُرْف التخاطب، قال تعالى: (عَفَا اللَّّهُ عَنْكَ لِمَ أذنْتَ لَهُمْ) (التوبة آية 43) . وقد قرن الله العفو بالغفران في كتابه فقال: (وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً) ، (النساء آية 99) . والجواب الثانى: أن يبين بالدليل من سياق الآية أو غيره على أن المراد به ما ذهب إليه. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1475 الثالث: أن يعارضه بغيره. فيحتاج إلى أن يجيب عنه بأن يبين أنه لا يعارضه، أو يرجح دليلَه على ما عارضه به. مثاله: أن يحتج بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجَّ (1)) وهذا يقتضى أن يكون جميعُها مواقيتَ للناس [والحج] (2) . فيعارضه المخالف (3) بقوله تعالى: (الْحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَات) (4) والمراد به: إحرام الحج في أشهر معلومات. أو يحتج على تحريم الجمع بمِلْك اليمين بقوله تعالى: (وَأن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ) (5) . فيعارضه بقوله تعالى: (أوْ مَامَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) (6) . أو يعارضه بالسنة. ويكون جواب المسؤول ما ذكرته (7) .   = وعلى هذا فإن أثبت السائل قوة الوضع الذي قال به صح قوله بالموجب، وإن قوى المسؤول قوة الوضع الذى قال به اندفع القول بالموجب. انظر: المرجعين السابقين. (1) آية (189) من سورة البقرة. (2) وعليه فيجوز الإِحرام بالحج قبل أشهره. وهو قول الحنفية. انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/374) . (3) وهم الشافعية، فقد ذهبوا إلى أنه لا ينعقد الإِحرام بالحج إلا في أشهره، فإن أحرم في غيرها انعقد عمرة، استدلالاً بقوله تعالى: (الْحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَات) . انظر: المجموع للنووي (7/118) . (4) آية (23) من سورة البقرة. (5) آية (23) من سورة النساء. (6) آية (30) من سورة المعارج. وانظر في تفسير هاتين الآيتين: أحكام القرآن للجصاص (2/74) . (7) يعنى: أن يين أنه لا معارضة بين الدليلين، أو يرجح دليله على ما عارضه به السائل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1476 [الاعتراضات على الاستدلال بالسنّة] وإن كان دليله من السنة فالاعتراض عليه من خمسة أوجه: أحدها: أن يطالبه بإسناده (1) . والثاني: القَدْح في إسناده. والثالث: الاعتراض على متنه. والرابع: أن يدعى نسخه. والخامس: أن يعارضه. فأما المطالبة بإسناده: فهي [صواب] (2) ؛ لأنه لا حجة فيه إذا لم يثبت إسناده. وقد جرت عادة المتأخرين من أهل العلم ترك المطالبة بالإِسناد، وهذا لا بأس به في الألفاظ المشهورة المتداولة بين الفقهاء. فأما الغريب الشاذ فإنه يجب المطالبة بإسناده. وذلك مثل ما احتج به أصحاب أبي حنيفة فقالوا: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا ربا بين المسلمين وبين أهل الحرب في دار الحرب) (3) .   (1) ذكر ابن عقيل في كتابه الجدل ص (26) وفي كتابه الواضح (3/944) والشيرازي في كتابه المعونة ص (48) وجهاً قبل هذا، وهو: الرد. ومثلوا له برِّد الرافضة أخبار الآحاد، وردِّ الحنفية أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى أو خالف قياس الأصول، أو ردِّ المالكية لأخبار الآحاد في القسم الأخير، وذكروا طريق الجواب عما تمسكوا به من شُبَه. (2) بياض في الأصل، وقد صوبه الناسخ في الهامش بما أثبتناه. (3) هذا الحديث رواه مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم. قال فيه الزيلعى: غريب. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1477 وقال: (المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة) (1) .   = وقال فيه الشافعي: ليس بثابت، ولا حجة فيه. وقال ابن قدامة: مرسل لا نعرف صحته. انظر: نصب الراية (4/44) والمغني لابن قدامة (4/39) . وانظر: كلام الحنفية في المسألة في: حاشية ابن عابدين (5/186) . (1) هذا الحديث رأيت إليه إشارة في سنن البيهقي في كتاب الخلع والطلاق، باب المختلعة لا يلحقها الطلاق (7/317) فقد ذكر أثراً عن ابن عباس وابن الزبير -رضي الله عنهما- أنهما قالا في المختلعة يطلقها زوجها قالا: لا يلزمها طلاق؛ لأنه طلق ما لا يملك. ثم ساق بسنده إلى الربيع قال: قال الشافعي: فسألته يعني من يخالفه في هذه المسألة هل يروي في قوله خبراً؟ قال فذكر حديثاً لا تقوم بمثله حجة عندنا، ولا عنده، فقلت: هذا عندنا وعندك غير ثابت. ثم قال بعد ذلك: (أما الخبر الذى ذكر له فلم يقع لنا إسناده بعد لننظر فيه، وقد طلبته من كتب كثيرة صنفت في الحديث فلم أجده، ولعله أراد ما روِىَ عن فرج ابن فَضَالَة بإسناده عن أبي الدرداء من قوله، وفرج بن فَضَالة ضعيف في الحديث، أو ما روي عن رجل مجهول عن الضحاك بن مزاحم عن ابن مسعود من قوله، وهو منقطع ضعيف) . قلت: وما يشير إليه البيهقي من حديث فضالة بسنده إلى أبي الدرداء أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطلاق، باب: من قال: يلحقها الطلاق، يعنى المختلعة (5/117) بلفظ: (للمختلعة طلاق مادامت في العدة) . وما يشير إليه من حديث الضحاك بن مزاحم أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في الكتاب والباب المذكورين، ولفظه: (قال: اختلف ابن مسعود وابن عباس في الرجل يخلع امرأته ثم يطلقها، قال أحدهما: ليس طلاقه بشىء. وقال الآخر: ما دامت في العدة فإن الطلاق يلحقها) . وقد ذكر ابن أبي شيبة في مصنفه في الموضع السابق بسنده إلى يحيى بن أبي كثير قال: (كان عمران بن حصين وابن مسعود يقولان في التي تفتدي من زوجها: = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1478 وقال: (لا قصاص إلا بالسيف) (1) . وما أشبه ذلك.   = لها طلاق ما كانت في عدتها) . قال ابن التركماني في الجوهر النقي (7/317) بعد أن ذكر الأثر السابق: (ورجال هذا السند على شرط الجماعة) . وقال ابن قدامة في المغني (7/59) في رده على من قال بموجب الحديث الذى ذكره المؤلف: (وحديثهم لا نعرف له أصلاً، ولا ذكره أصحاب السنن) . (1) هذا الحديث روى من حديث أبي بكرة والنعمان بن بشير وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وعلي بن أبي طالب والحسن البصري مرسلاً. أما حديث أبي بكرة فأخرجه ابن ماجه في كتاب الديات، باب: لا قود إلا بالسيف (2/889) حديث (2667) . ونقل الشيخ الألباني في كتابه: إرواء الغليل (7/286) عن البزار أنه أخرجه في مسنده من طريق الحر بن مالك العنبري ثنا مبارك بن فضالة به. قال البزار: (لا نعلم أحداً أسنده بأحسن من هذا الإِسناد، ولا نعلم أحداً قال: عن أبي بكرة إلا الحر ابن مالك، وكان لا بأس به، وأحسبه أخطأ في هذا الحديث؛ لأن الناس يروونه عن الحسن مرسلاً) . ثم قال الألباني بعد ذلك: (وقد تابعه في وصله الوليد بن محمد بن صالح الأيلي عن مبارك بن فضالة) . ثم ذكر أن ابن عدي والدارقطني والبيهقي والضياء المقدسي أخرجوه بذلك. وأعلَّه ابن عدي بالوليد هذا؛ حيث قال فيه: (أحاديثه غير محفوظة) . وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/461) : (قال أبي: هذا حديث منكر) . وقال عن الوليد هذا: (سألت أبي عنه فقال: مجهول) على ما في كتاب الجرح والتعديل (4/2/16) وأعلَّه البيهقي بمبارك بن فضالة عندما أخرج الحديث في سننه في كتاب الجنايات، باب: ما روي في أن لا قود إلا بحديدة (8/63) . أما حديث النعمان بن بشير فقد أخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (2667) . وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار في كتاب الجنايات، باب: الرجل يقتل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1479 .................................   = رجلاً كيف يقتل؟ (3/184) . وأخرجه البزار كما في كشف الأستار في كتاب الجنايات، باب: القود بالسيف ولكل شىء خطأ (2/205) . وأخرجه الطيالسي في مسنده، كما في منحة المعبود أبواب القصاص (1/293) بلفظ (لا قود إلا بحديدة) . قال الشيخ الألباني: (وهذا إسناد واهٍ جداً، أبو عازب لا يُعْرف، كما قال الذهبي وغيره. وجابر الجعفي متهم بالكذب) . أما حديث عبد الله بن مسعود فقد أخرجه الدارقطني في كتاب الحدود والديات (3/88) وفي سنده: سليمان بن أرقم، قال فيه الدارقطني: (متروك) . وأخرجه ابن أبي عاصم والطبراني في معجمه الكبير وابن عدي كما ذكر ذلك الشيخ الألباني. أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه الدارقطني في الموضع السابق. وأخرجه البيهقي في الموضع السابق أيضاً. كما أخرجه ابن عدي وابن أبي عاصم وأبو عروبة الحرَّاني، ذكر ذلك الشيخ الألباني. وفي سنده: سليمان بن أرقم، وهو متروك كما سبق في الطريق التي قبل هذا. أما حديث علي فقد أخرجه الدارقطني في الموضع السابق وقال: (معلَّى بن هلال -أحد رواة الحديث- متروك) . أما حديث الحسن البصري المرسل فقد أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الديات باب: من قال: لا قود إلا بالسيف (9/354) . وأخرجه ابن حزم في المحلَّي في كتاب الدماء (12/57) ثم قال: (هذا مرسل، ولا يحل الأخذُ بمرسل) . كما أخرجه الإِمام أحمد في مسنده، حكى ذلك الزيلعي في نصب الراية (4/341) . قال الشيخ الألباني: (وهذا إسناد صحيح إلى الحسن، ولكنه مرسل، فهو علة هذا الإِسناد، والطرق التي قبلها واهية جداً، ليس فيها ما يمكن تقوية المرسل به) . والخلاصة: أن هذا الحديث ضعيف بكل طرقه. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1480 [الاعتراض على الإِسناد] الاعتراض الثاني هو القَدْح في الإِسناد فمن ثلاثة أوجه: أحدها: رجوع الراوي عنه. والثاني: عدم عدالته. والثالث: كونه مجهولاً. فأما رجوع الراوي عنه فمثل حديث الحسن بن عُمَارة (1)   = ولهذا قال عبد الحق وابن الجوزي -كما في التلخيص (4/19) - (طرقه كلها ضعيفة) وقال البيهقي: (لم يثبت له إسناد) . وأحسن ما فيه: المرسل، كما قال الشيخ الألباني. (1) هو: الحسن بن عمارة بن المضرب البَجَلي بالولاء الكوفي أبو محمد. كان قاضياً ببغداد في خلافة المنصور. روى عن الزهري والأعمش وإسحاق السبيعى وغيرهم. وعنه السفيانان وعبد الرزاق وغيرهم. قال فيه أحمد وأبو حاتم ومسلم والنسائي والدارقطني والساجي وشعبة والذهبي وابن حجر: (متروك) . وقال عمرو بن على: (رجل صالح صدوق، كثير الوهم والخطأ، متروك الحديث) . مات سنة (153هـ) . وقد رأيت الرامَهُرْمُزي يدافع عنه، ويقول: (إن كلام شعبة فيه كان بسبب لَبْس وقع عنده، وبَين كيف وقع اللَّبس) . وفي أول الجزء الثالث من نصب الراية ص (22) كتبت إدارة المجلس العلمي المُشرِفة على نشر كتاب نصب الراية كتابةً بين فيها منشأ القول بتضعيف الحسن ابن عمارة، وكان مستندهم في ذلك ما ذكره الرامهرمزي في كتابه المحدث الفاصل. له ترجمة في: تهذيب التهذيب (2/304) وتقريب التهذيب (1/169) والمغنى في = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1481 روى حديث نُبَيْشَة (1) (حُجَّ عن نُبَيْشَة، ثم حُج عن نفسِك) (2) . ثم رجع إلى الصواب، وهو حديث شُبْرُمَة: (حُجَّ عن نفسك، ثم حُج عن شُبْرُمَة) (3) .   = الضعفاء (1/244) وميزان الاعتدال (1/513) والمحدث الفاصل ص (319) وما بعدها. (1) هو: نُبَيشَة بن عمرو بن عوف بن عبد الله. وقيل: نبيشة الخير بن عبد الله بن عتاب بن الحارث الهذلي. صحابي. روى عنه أبو المليح الهذلي وغيره. له في مسلم حديث واحد. له ترجمة في: الاستيعاب (4/1524) و (2652) وتهذيب التهذيب (10/417) . (2) حديث الحسن بن عمارة هذا أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الحج (2/268) . وقال فيه: (تفرد به الحسن بن عُمَارة، وهو متروك الحديث، والمحفوظ عن ابن عباس حديثُ شُبْرُمَة) . ثم روى حديث شُبْرُمَة من طريق الحسن بن عمارة عن عبد الملك عن طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنه - وسيأتي تخريجه ثم قال: (هذا هو الصحيح عن ابن عباس، والذي قبله وَهْم، يقال: إن الحسن بن عُمَارة كان يرويه، ثم رجع عنه إلى الصواب، فحدث به على الصواب موافقاً لرواية غيره عن ابن عباس، وهو متروك الحديث على كل حال) . (3) ما ذكره المؤلف هو معنى ما ذكره الدارقطني فيما سبق. وحديث شُبْرُمَة أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الحج، باب: الرجل يحج مع غيره (2/403) حديث (1811) . وأخرجه ابن ماجه في كتاب الحج، باب: الحج عن الميت (2/969) حديث (2903) . وأخرجه البيهقي في كتاب الحج، باب: من ليس له أن يحج عن غيره (4/336) . وقال: (هذا إسناد صحيح، ليس في هذا الباب أصح منه) . وأخرجه ابن حبان في صحيحه. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1482 والثاني: عدم عدالته مثل: بَركة بن محمد الحَلَبي (1) ، روى عن يوسف ابن أَسباط (2) عن سفيان الثوري عن خالد الحذَّاء عن ابن سيرين (3) عن أبي هريرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثاً فريضة،   = انظر: الإِحسان في ترتيب صحيح ابن حبان كتاب الحج، باب: الحج والاعتمار عن الغير (6/120) . وأخرجه ابن الجارود في المنتقي حديث (499) . وأخرجه ابن خزيمة في كتاب الحج، باب: النهي عن أن يحج عن الميت من لم يحج عن نفسه (4/345) حديث (3039) . والحديث صحيح كما قال البيهقي سابقاً، وابن الملِّقن في كتابه: تحفة المحتاج (2/135) حديث (1056) والألباني في الإِرواء (4/171) حديث (994) . وانظر في تخريج الحديث أيضاً: التلخيص الحبير (2/223) ونصب الراية (3/154) . (1) أبو سعيد. روى عن يوسف بن أسباط -كما هنا- والوليد بن مسلم. قال الدارقطني: (كان كذاباً يضع الحديث) . وقال ابن عدي: (له أحاديث بواطيل عن الثقات) وقال ابن حبان: (حدثونا عنه، كان يسرق الحديث، وربما قلبَه) . وقال الذهبي: (متهم بالكذب) وقال: (معروف بالكذب) . انظر: الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/137) والمغني في الضعفاء (1/161) وميزان الاعتدال (1/330) . (2) أبو محمد الشيباني الزاهد الواعظ. روى عن محلّ بن خليفة وسفيان الثوري. وعنه المسيب بن واضح وعبد الله بن حبيق. وثَّقه ابن معين. وقال أبو حاتم: (لا يحتج به، يغلط كثيراً) . وقال أبو الفتح الأزدى: (ويوسف دفن كتبه، ثم حدث من حفظه، فلا يجيء حديثه كما ينبغي) وقريب من هذا قول البخاري فيه. انظر: الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/219) والمغنى في الضعفاء (2/436) ، والموضوعات لابن الجوزي (2/82) وميزان الاعتدال (4/462) . (3) في الأصل: (ابن شبرمة) وهو خطأ، والتصويب من مراجع التخريج الآتية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1483 مسنونتان في الوضوء) (1) .   (1) هذا الحديث أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب: ما روي في المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة (1/115) وأسقط من سنده ابن سيرين ولم يذكر فيه: (مسنونتان في الوضوء) . ثم قال بعد ذلك: هذا باطل، ولم يحدث به إلا بَرَكة، وبركة هذا يضع الحديث. والصواب: حديث وكيع الذي كتبناه قبل هذا مرسلاً عن ابن سيرين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنَّ الاستنشاق في الجنابة ثلاثاً، وتابع وكيعاً: عبيدُ الله ابن موسى وغيره) . وأخرجه ابن الجوزي في كتابه: الموضوعات (2/81) من طريقين: إحداهما: التي ذكرها المؤلف، بمثل لفظ المؤلف إلا أنه لم يذكر قوله: (مسنونتان في الوضوء) . الثانية: ( .... حدثنا سليمان بن الربيع النَّهدي حدثنا همام بن مسلم عن الثور عن خالد الحذَّاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المضمضة والاستنشاق ثلاثاً فريضة للجنب) . ثم قال: (هذا حديث موضوع لاشك فيه. أما الطريق الأول: ففيه بَركة بن محمد، وكان كذاباً ... أما الطريق الثاني: ففيه همَّام بن مسلم، ولعله سرقه من يوسف. وقال ابن حبان: كان يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم، ويسرق الحديث، فبطل الاحتجاج به. وفيه: سليمان بن الربيع، قال الدارقطني: ضعيف، غيَّر أسماء مشايخ وروى عنهم مناكير) . ثم قال أيضاً: (ثم هذا الحديث على خلاف إجماع الفقهاء، فإن منهم من يوجب المضمضة والاستنشاق. ومنهم من يوجب الاستنشاق وحده. ومنهم من يراهما سنة. ومنهم من أوجب مرة لا ثلاثاً) . والخلاصة أن الحديث غير ثابت. والثابت هو مرسل ابن سيرين، ولفظه عند الدارقطني -كما سبق-: (أن النبي = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1484 قال أصحاب الحديث: بَرَكة الحَلَبي كذاب يضع الحديث (1) . الثالث: كونه مجهولاً: وهو مثل حديث ابن مسعود [230/أ] في الوضوء بالنبيذ، يرويه أبو زيد عن أبي فزارة، و"أبو زيد" مجهول و"أبو فزارة" ضعيف (2) . فإن سألنا المخالف عن هذا السؤال لزمنا أن نجيبَ عنه بما يتبين أنه معروف، وهو أن نبين أنه روى عنه رجلان عدلان، فيخرج بذلك عن حد الجهالة على شرط أصحاب الحديث (3) . ومثال ذلك: ما روى خالد بن أبي الصَّلْت (4) عن عِرَاك   = - صلى الله عليه وسلم - سنَّ الاستنشاق في الجنابة ثلاثاً) . انظر: نصب الراية (1/78) وميزان الاعتدال (1/330) في ترجمة بَرَكة الحلبي. (1) انظر ترجمته التي ذكرناها آنفاً. (2) سبق تخريج هذا الحديث مع بيان ما في "أبي زيد" "وأبى فزارة" من مقال (1/341) . (3) هذا قول بعض الفقهاء. وعند كثير من العلماء: يكفي واحد. واشترط بعضهم في المزكي الواحد: أن يكون بصفة من يجب قبول تزكيته. والذى استحبه الحافظ البغدادي: أن يكون من يزكي المحدث اثنين للاحتياط. انظر: الكفاية في علوم الرواية للخطيب البغدادي ص (160) . (4) البصري. مدني الأصل. كان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على واسط. روى عن عمر بن عبد العزيز وابن سيرين وعبد الملك بن عمير وغيرهم. وعنه خالد الحذَّاء والمبارك بن فضالة وسفيان بن حسين وواصل مولى أبي عيينة. قال عبد الحق: ضعيف. وقال ابن حزم: مجهول. وتُعُقِّب في ذلك: بأنه مشهور بالرواية، معروف بحمل العلم، ولكن حديثه معلول. وذكره ابن حبان في الثقات (6/252) . وقال الذهبي في الميزان (1/632) : (ما علمتُ أحداً تعرض إلى لِينه، لكن الخبر = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1485 ابن مالك (1) عن عائشة أنها قالت: (بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناساً يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم، فقال: أو قد فَعَلُوها؟ حولُوا مقْعَدي إلى القبلة) (2) .   = منكر) . وقال ابن حجر في التقريب (1/214) : (مقبول من السادسة) . وانظر أيضاً: تهذيب التهذيب (3/97) . (1) الغفاري الكناني المدني. روى عن أبي هريرة وابن عمر وعائشة وغيرهم. وعنه سليمان بن يسار ويحيى بن سعيد الأنصاري ومكحول الشامي وغيرهم. ثقة فاضل من الثالثة. مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (7/172) والتقريب (2/17) وميزان الاعتدال (3/63) . (2) أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الطهارة، باب: الرخصة في ذلك في الكَنِيف (1/17) حديث رقم (324) ، ولفظه قريب من لفظ المؤلف. وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب: استقبال القبلة في الخلاء (1/59) . وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/184) . وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطهارة، باب: من رخص في استقبال القبلة بالخلاء (1/151) . وأخرجه ابن المنذر في كتابه الأوسط في كتاب الطهارة، باب: ذكر النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول (1/326) رقم (261) . قال النووي في المجموع (2/82) : (إسناده حسن، لكن أشار البخاري في تاريخه في ترجمة خالد بن أبي الصلت إلى أن فيه علة) . لكن قال الإِمام أحمد: (عِراك لم يسمع من عائشة، وكأنه لم يعتبر الروايات التي صرح فيها عِراك بالسماع) . ومثل قوله قال موسى بن هارون. ونقل ابن رجب في كتابه شرح علل الترمذي (1/312) عن الإمام أحمد قوله: = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1486 فقال المخالف: "خالد بن أبي الصَّلْت" مجهول (1) . وحكى أبو بكر بن المنذر (2) في كتابه (3) هذا عن أبي ثور (4) .   = (وهو أحسن ما روى في الرخصة وإن كان مرسلاً، فإن مخرجه حسن) . ويعني بإرساله: إن عِراكاً لم يسمع من عائشة. وقال: إنما يروي عن عروة عن عائشة. فلعله حسَّنه، لأن عراكاً قد عرف أنه يروي حديث عائشة عن عروة عنها) . وقال الترمذي في العلل الكبير ورقة (3/أ) كما في تعليق محقق شرح علل الترمذي (1/313) : (سألت محمداً -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: (هذا حديث فيه اضطراب، والصحيح عن عائشة قولها) . وقال ابن أبي حاتم في كتابه العلل (1/29) : (قال أبي: فلم أزل أقفو أثر هذا الحديث حتى كتبتُ بمصر عن إسحاق بن بكر بن مضر أو غيره عن بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن عِراك بن مالك عن عروة عن عائشة موقوف، وهذا أشبه) . وقال الذهبي في الميزان (1/632) : (حديث منكر) . وانظر: تهذيب التهذيب (3/98) في ترجمة خالد بن أبي الصلت. (1) سبق الكلام على هذا في ترجمته قريباً، ومنه تبين أن خالداً هذا غير مجهول، خلافاً لابن حزم، رحمه الله. (2) هو: محمد بن إبراهيم بن المنذر، أبو بكر النيسابوري الحافظ، الفقيه. ولد سنة (242 هـ) تقريباً. روى عن الربيع بن سليمان ومحمد بن عبد الله بن الحكم وخلق كثير. وعنه ابن المقرىء ومحمد بن يحيى وغيرهما. له كتاب الإشراف في اختلاف العلماء وكتاب الإجماع، وكتاب المبسوط. توفي سنة (318 هـ) تقريباً. له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/782) وسير أعلام النبلاء (14/490) وميزان الاعتدال (3/450) . (3) هو كتاب: الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، والمسألة مذكورة فيه (1/327) . (4) حيث قال في المرجع السابق: (ودفع أبو ثور حديث عائشة بأن قال: خالد بن = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1487 وأجاب عنه فقال: هذا ليس بصحيح؛ لأن أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - قال: "مخرج هذا الحديث حسن" (1) . وفال غيره (2) : [خالد معروف] (3) روى [عنه (3) ] خالد الحذَّاء ومبارك بن فَضَالة (4) وواصل مولى أبي (5) عيينة (6) ، وهؤلاء ثقات، فوجب أن يكون خالد ابن أبي الصَّلْت معروفاً.   = أبي الصلت ليس بمعروف) . (1) هذه العبارة لم أجدها في المرجع المذكور. وإنما ذكر قول أحمد: (أما من ذهب إلى حديث عائشة، فإن مخرجه حسن) . قلت: مراد الإمام أحمد: ما روي مرسلاً؛ لأنه لا يرى أن عراكاً سمع من عائشة. وقد سبق تفصيل هذا في تخريج الحديث. وانظر: التمهيد لابن عبد البر (1/309) . (2) يعني: غير الإِمام أحمد، كما صرح به في كتابه الأوسط الموضع السابق. (3) الزيادة في الموضعين من المرجع السابق الذي نقل منه المؤلف. (4) هو: مبارك بن فضالة بن أبي أمية أبو فضالة البصرى. روى عن الحسن البصري وحُمَيْد الطويل وغيرهما. وعنه وكيع وعفان وخلق. وثَّقه عفان وجماعة. وضعَّفه النسائي وجماعة. قال الحافظ: (صدوق، يدلس ويسوِّي، من السادسة) . لكنه إذا صرح بالتحديث فهو ثقة، كما يقول أبو داود وأبو زرعة. مات سنة (166 هـ) . له ترجمة في: تقريب التهذيب (2/227) وتهذيب التهذيب (10/28) وسير أعلام النبلاء (7/281) وميزان الاعتدال (3/431) . (5) في الأصل: (ابن عيينة) وهو خطأ، والتصويب من مراجع الترجمة الآتية. (6) هو واصل بن عيينة بن المهلَّب الأزدي البصري. روى عن يحيى بن عقيل وأبي الزبير المكي وغيرهما. وعنه حماد بن زيد وشعبة وغيرهما. وثقه أحمد وابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1488 وكذلك حديث ابن أبي عَّياش (1) عن سعد (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيع الرطب بالتمر: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبِس؟) (3) . فقال المخالف: "زيد أبو عياش (4) " مجهول (5) . فيجيب عنه بأن الثقات رووا عنه (6) .   = وقال الحافظ: (صدوق عابد، من السادسة) . له ترجمة في: تقريب التهذيب (2/329) تهذيب التهذيب (11/105) والثقات لابن حبان (7/558) . (1) غير معجم في الأصل. وهو: زيد بن عياش أبو عياش الزُّرقي. روى عن سعد بن أبي: وقاص. وعنه عمران ابن أبي أنس وعبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان. روى له الأربعة حديثاً واحداً، هو الذي ذكره المؤلف. وثقه الدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات. وصحح الترمذي: وابن خزيمة وابن حبان حديثه المذكور. وقال الحافظ: (صدوق من الثالثة) . وقال الإمام أبو حنيفة وابن حزم: مجهول. قال الخطَّابي -كما نقل ذلك عنه الزركشي في كتابه المعتبر ص (214) -: (تكلم بعضهم في إسناده يعني حديث: "أينقص الرطبُ إذا يبس؟ " من جهة أبي عياش، وليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش مولى بني زهرة: معروف. وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو لا يروى عن متروك) . له ترجمة في: تقريب التهذيب (1/276) وتهذيب التهذيب (3/423) والثقات لابن حبان (3/138) وميزان الاعتدال (2/105) . (2) هو سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: قد سبقت ترجمته. (3) سبق تخريج الحديث. (4) بدون إعجام في الأصل. (5) وبه قال الإِمام أبو حنيفة وابن حزم، كما سبق في ترجمته. (6) فقد روى عنه: عمران بن أبي أنس القرشي العامري المدني. قال الحافظ فيه: (ثقة = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1489 فأما الإِرسال فلا يعترض به على الحديث؛ لأنا قد بينا أن المذهب الصحيح جواز الاحتجاج به، فإذا اعترض به المخالف علينا لم نقبله. وكذلك لا يصح أن يُعترض عليه به. [الاعتراض على المتن] الاعتراض الثالث، وهو الاعتراض على متنه: فمن ثمانية أوجه: أحدها: أن ينازعه في مقتضى لفظه وموجبه، ويدَّعي أنه لا يتناول موضع الخلاف. مثاله: أن يَحتج حنبلي على أن العُشْر لا يجب في الخضروات (1) بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس في الخضروات زكاة) (2) . فقال المخالف: لا يسمى العُشْر زكاة عندنا، فلا يتناوله الخبر. فيجاب عنه: بأن هذا خطأ، لما روى عتََّاب بن أُسَيْد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يُخْرَصُ الكَرْمُ كما يُخرَصُ النَّخْل، ثم يؤدى زكاته زبيباً، كما يؤدى زكاة النخل تمراً) (3) .   = من الخامسة) . انظر تقريب التهذيب (2/82) وميزان الاعتدال (3/234) . كما روى عنه عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان. قال الحافظ: (من شيوخ مالك، ثقة من السادسة) . انظر: تقريب التهذيب (1/462) . (1) انظر: المغني (4/158) طبعة هجر. (2) سبق تخريجه. (3) حديث عتاب بن أسيد -رضى الله عنه- هذا أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب: في خرص العنب (1/371) عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد. ثم قال أبو داود: (وسعيد لم يسمع من عتَّاب شيئاً) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1490 .................................   = وما أخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب: ما جاء في الخرص (3/27) ، وقال: (هذا حديث حسن غريب) . ثم قال: (وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وسألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ, وحديث ابن المسيب عن عتاب بن أسيد أثبت وأصح) . وأخرجه النسائي في كتاب الزكاة، باب: شراء الصدقة (5/82) . وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب: خرص النخل والعنب (1/582) ، ولفظه: (كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم) . وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الزكاة، باب في قدر الصدقة فيما أخرجته الأرض (2/132) وأخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب: كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب (4/122) ؟ قال المنذري: (انقطاعه ظاهر؛ لأن مولد سعيد في خلافة عمر، ومات عتّاب يوم مات أبو بكر) . نقل هذا الحافظ في التلخيص (2/171) ثم قال: (وسبقه إلى ذلك ابن عبد البر. وقال ابن السكن: لم يُرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه غير هذا) . كما نقل الحافظ عن أبي حاتم قوله: (الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عتاباً: مرسل) . قال النووي في المجموع (5/407) : (هو مرسل) . ثم قال بعد ذلك: وقد سبق في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح: أن من أصحابنا من قال: يحتج بمراسيل ابن مسيب مطلقاً، والأصح: أنه إنما يحتج به إذا اعتضد بأحد أربعة أمور: أن يسند، أو يرسل من جهة أخرى، أو يقول به بعض الصحابة، أو أكثر العلماء، وقد وجد ذلك هنا، فقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على وجوب الزكاة في التمر والزبيب) . والخلاصة: أن الحديث مرسل. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1491 وهذا يدل على أن العُشر ليس يسمى زكاة (1) . الثاني: أن يكون المتن جواباً عن سؤال والجواب مستقل بنفسه، فيدَّعي المخالف قَصْرَه على السؤال. ويمكن الجواب عن ذلك: بأن الاعتبار بجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - دون سؤال السائل وقد مضى بيانه في موضعه (2) . مثاله: أن يحتج حنبلي على وجوب الترتيب في الوضوء (3) بقوله -عليه السلام-: (ابدأوا بما بدأ الله به) (4)   = وانظر: إرواء الغليل (3/283) ونيل الأوطار (4/162) والمصنف لعبد الرزاق (4/127) . ويلاحظ أنه قد سمَّى في هذا الحديث العنب كرماً، وقد ورد النهي عن ذلك كما رواه البخاري ومسلم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لاتسموا العنب الكَرْم، فإن الكَرْم المسلم) . وفي رواية: (فإن الكَرْم قلب المؤمن) . وعند مسلم من حديث وائل: (لا تقولوا الكَرْم، ولكن قولوا: العنب والحبلة) . أجيب من ذلك بأن النهي محمول على التنزيه. أو أن تسميتها بالكرم هنا من كلام الرواي فلعله لم يبلغه النهي، أو خاطب به من لا يعرفه بغيره، أو بياناً للجواز. أفاده النووي في كتابه المجموع (5/408) . (1) هكذا في الأصل بإثبات "ليس" ويظهر أن حرف "ليس" هنا زائدة؛ لأن غرض المؤلف إثبات أن العشر يسمى زكاة. (2) وذلك في مباحث العموم (2/596) . (3) انظر: المغني (1/136) . (4) هذا الحديث رواه جابر - رضي الله عنه - في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكره المؤلف بصيغة الأمر: (ابدأوا) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1492 .................................   = وبهذا اللفظ أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الحج، باب: المواقيت (2/254) بعدة طرق. وأخرجه ابن حزم في كتابه المحلَّى في كتاب الطهارة (2/92) مسألة (206) . وقال في (2/67) مسألة (197) : (وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ابدأوا بما بدأ الله به) . وأخرجه النَّسائي في كتاب المناسك، باب: القول بعد ركعتي الطواف (5/236) . طبعة الشيخ أبي غدة. وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الطهارة باب: الترتيب في الوضوء (1/85) . وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (3/394) . وقال النووي في شرح صحيح مسلم (8/177) : (وقد ثبت في رواية النَّسائي هذا الحديث بإسناد صحيح) . وقال ابن الملقن في كتابه تحفة المحتاج (2/174) حديث (1115) . (روى النَّسائي بإسناد على شرط الصحيح، لا جَرَم صححه ابن حزم في محلاه) . وبهذا يتبين سهو الشيخ الألباني في الإِرواء (4/317) حيث نفى أن تكون رواية هذا اللفظ في السنن الصغرى للنَّسائي. وقد نبه إلى ذلك محقق كتاب تحفة المحتاج. وراجع في هذا أيضاً نصب الراية (3/54) والتلخيص (2/250) حديث (1034) . والإرواء (4/316) . وهناك لفظان آخران، هما: (أَبْدَأُ) و (نَبْدأُ) . فقد أخرجه مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/888) الحديث (1218) . وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب المناسك، باب في سنة الحج (1/376) . وأخرجه ابن الجارود في باب المناسك ص (166) حديث (469) . وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب المناسك، باب: الخروج إلى الصفا بعد استلام الركن (4/230) حديث رقم (2757) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1493 فيقول المخالف: إنه خارج عن البداءة بالصفا (1) .   = أما لفظ (نَبْدَأ) : فقد أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب: صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/459) حديث رقم (1905) . وأخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب: ما جاء أنه يبدأ بالصفا قبل المروة (3/207) وقال: (حديث حسن صحيح) حديث رقم (862) . وأخرجه النَّسائي في سننه الموضع السابق (5/235) حديث رقم (2961) . وأخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب المناسك، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/1022) . حديث ((3074) . وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الطهارة باب الترتيب في الوضوء (1/85) . وأخرجه ابن الجارود في المنتقى باب المناسك ص (163) حديث (465) . وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر: الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان في كتاب الحج، باب: ذكر وصف حجة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (6/99) حديث (3932) . وعليه فقد ثبت للحديث ثلاثة ألفاظ (ابْدَؤُأ) و (أبْدَأُ) و (نَبْدَأُ) فأي هذه الألفاظ هو الراجح؟ يرى الحافظ في التلخيص (2/250) أن رواية (نبدأ) بالنون هي الراجحة. لأنه قد اجتمع على روايتها: مالك وسفيان ويحيى بن سعيد القطان، وهم أحفظ من الباقين. وهو ما رجحه الشيخ الألباني في الإِرواء (4/318) وحكم على رواية (ابدَأوا) بصيغة الأمر أنها شاذة لتفرد الثوري وسليمان به، مخالفين فيه سائر الثقات الذين سبق ذكرهم، وقد قالوا: (نَبْدَأُ) فهو الصواب، ولا يمكن القول بتصحيح اللفظ الآخر؛ لأن الحديث واحد، وتكلم به - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة عند صعوده على الصفا، فلا بدّ من الترجيح، وهو ما ذكرنا) . (1) وذلك لأن العبرة بخصوص السبب عند هؤلاء. ولأن العموم يخص بالقرائن، نصّ عليه بعض الأصوليين. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1494 فيقول المسؤول: إنه عام في جميع ما بدأ الله به (1) . الثالث: أن يكون الجواب غير مستقل بنفسه، ويكون مقصوراً على السؤال، ويكون السؤال عن فعل خاص يحتمل موضع الخلاف وغيره، فيلزم السائلُ المسؤولَ التوقفَ فيه حتى يقوم الدليل على المراد به. مثاله: ما احتج به أصحابنا في وجوب الكفارة على الوطء ناسياً في رمضان (2) بحديث الأعرابى لما قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - وقعت على امرأتي. قال: (اعتق رقبة) (3) . فيقول المخالف: يحتمل أن يكون عمداً بدليل أنه قال: (هَلَكْتُ وأهلَكْتُ) . ويكون الجواب عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل وأطلق، فوجب أن يكون وجود الوطء موجباً للكفارة على أي وجه كان. وقوله: (هَلْكْتُ وأهلَكْتُ) لا يمنع النسيان؛ لأنه يحصل هالكاً، فوجب   = وهنا قرينتان: حاليَّة، وهى بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما مست الحاجة إليه من البدء بالصفا والمروة. ومقاليَّة، وهى: تلاوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: (إنْ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِر الله) بعد قوله: (نبدأ بما بدأ الله به) . انظر: الجوهر النَقي لابن التركماني بحاشية السنن الكبرى للبيهقي (1/85) . (1) لأن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب. (2) هذا المشهور من المذهب. وهناك رواية أخرى: أنه توقف، وقال: أَجْبُنُ أن أقول فيه شيئاً. ونقل عنه أحمد بن القاسم ما يقتضي أنه لا كفارة عليه. انظر: المغني (2/121) ، وكتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (1/259) . (3) سبق تخريجه بهذا اللفظ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1495 القضاء والكفارة وإن لم يكن آثماً. الرابع: ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: (أُمِرَ بلال أن يشْفعَ الأذانَ ويوترَ الإِقامة) (1) . قال المخالف: ليس فيه ذكر الآمر من هو، ويحتمل أن يكون أمر به بعض أمراء بني أمية. وهذا غلط؛ لأنه لا يجوز أن يأمره بعض الأمراء بتغيير إقامة فعلها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زماناً طويلاً وبين يدي أبي بكر وعمر، فلو أمره بذلك أحد لم يقبله بلال، ولو قبله لم يرض به سائر الصحابة -رضي الله عنهم-.   (1) حديث أنس - رضي الله عنه - هذا أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: بدء الأذان (1/148) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب: الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة (1/286) حديث رقم (378) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: في الإقامة (1/349) رقم الحديث (508) . وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب: ما جاء في إفراد الإقامة (1/269) حديث رقم (193) . وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأذان، باب: إفراد الإقامة (1/241) حديث رقم (730) . وأخرجه ابن حبان في صحيحه. كما جاء في كتاب الإِحسان بترتيب صحيح ابن حبان، كتاب الصلاة، باب: الأذان- (3/92) رقم الحديث (1673) . وأخرجه البيقى في السنن الكبرى في كتاب الصلاة، باب: بدء الأذان (1/390) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1496 وعلى أنه روى عبد الوهاب (1) الثقفي وإسماعيل بن عُلَيَّة (2) وابن لَهِيعة (3) أن أنس بن مالك قال: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يشفَع الأذان ويوترَ الإقامةَ) (4) ، وهذا نص.   (1) هو: عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمد المصري. روى عن حُميْد الطويل وخالد الحذَّاء وغيرهما. وعنه الشافعي وأحمد وغيرهما. قال فيه الحافظ: (ثقة، تغيَّر قبل موته بثلاث سنين من الثامنة، مات سنة أربع وتسعين، عن نحو ثمانين سنة) . انظر ترجمته في: تقريب التهذيب (1/528) ، وتهذيب التهذيب (6/449) . والحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه من طريقه النَّسائي والدارقطني والحاكم كما سيأتي في تخريج الحديث، إن شاء الله تعالى. (2) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري، المشهور بابن عُلَيَّة. روى عن حُميْد الطويل وأيوب السختياني وغيرهما. وعنه شعبة وابن جريج وغيرهما. قال فيه الحافظ: (ثقة حافظ، من الثامنة. مات سنة ثلاث وتسعين ومائة، وهو ابن ثلاث وثمانين) . انظر ترجمته في: تقريب التهذيب (1/66) وتهذيب التهذيب (1/275) . والحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه من طريقه الدارقطني في سننه، كما سيأتي في تخريج الحديث، إن شاء الله تعالى. (3) هو عبد الله بن لَهِيعة بن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري الفقيه القاضي وقد سبقت ترجمته. والحديث الذي ذكره المؤلف ذكره ابن أبي حاتم في العلل من طريقه إلى ابن لَهِيعة وسيأتي ذكره في تخريج الحديث، إن شاء الله. (4) حديث أنس - رضي الله عنه - بهذا اللفظ، أخرجه عنه مرفوعاً النَّسائي من طريق عبد الوهاب الثقفي في كتاب الأذان، باب: تثنية الأذان (2/3) رقم الحديث (627) طبعة الشيخ أبي غدة. وأخرجه عنه ابن حبان في صحيحه كما في الإِحسان بترتيب صحيح ابن حبان، كتاب الصلاة، باب الأذان (3/92) رقم الحديث (1674) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1497 الخامس: ما روي عن سمرة بن جندب أنه قال: (أما بعد: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمُرنا أن نخرجَ الصدقةَ من الذي نُعِدُّه للبيع (1)   = وأخرجه عنه الحاكم في مستدركه من طريق عبد الوهاب الثقفي في كتاب الصلاة، باب: يشفع الأذان ويوتر الإقامة (1/198) بطريقين إلى عبد الوهاب الثقفي إحداهما من طريق الدوري، حدثنا يحيى بن معين حدثنا عبد الوهاب الثقفي إلى آخر سنده. ثم قال الحاكم بعدها: (هذا حديث أسنده إمام أهل الحديث ومزكي الرواة بلا مدافعة) يعني: يحيى بن معين. والثانية من طريق قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب الثقفي إلى آخر سنده. ثم قال الحاكم بعدها: (والشيخان لم يخرجاه بهذه السياقة، وهو صحيح على شرطهما) . وأخرجه عنه الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة، باب ذكر الإقامة واختلاف الروايات فيها (1/240) من طريق عبد الوهاب الثقفي، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم ابن عُلَيّة. وفي كتاب العلل لابن أبي حاتم في كتاب الصلاة، باب: علل أخبار رويت في الأذان (1/194) حديث رقم (557) قال: (سئل أبو زُرعة عن حديث رواه عثمان بن أبي صالح المصري عن ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإِقامة". قال أبو زُرعة هذا حديث منكر) . والذي يظهر لي: أن الحديث صحيح، ويشهد له روايات أخرى مذكورة في مواطنها. ولعل أبا زرعة نظر إلى أن في الإِسناد ابن لَهِيعة فأنكره. والله أعلم. انظر: التلخيص (1/198) . (1) هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه عن سمرُة بن جندب - رضي الله عنه - بمثل لفظ المؤلف، في كتاب الزكاة، باب: العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة (2/211-212) وسكت عنه. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1498 وقال المخالف: هذا لا يدل على الوجوب؛ لأن الاستحباب يسمى أمراً. وقد اختلف الناس في ذلك، فيجوز أن يكون سماه أمراً على اعتقاده. ويجاب عنه: بأنه يجب حمله على الوجوب عندنا. وقد تقدم بيانه (1) . السادس: أن يدَّعى المخالفُ أن المتن متردد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره، فلا يجوز أن ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير دليل. مثاله: ما روي عن سَهْل بن سعْد الساعِدِي (2) أنه قال: (مضت السُّنَة: أن يُفرَّق بين المتلاعنين) (3) .   = وأخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الزكاة، باب: زكاة التجارة (4/146) بمثل لفظ المؤلف. وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الزكاة، باب: زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق (2/127- 128) ولفظه: (بسم الله الرحمن الرحيم من سمُرة ابن جندب إلى بنيه، سلام عليكم، أما بعد: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا برقيق الرجل أو المرأة الذين هم تِلادٌ لهُ، وهم عَمَلة لا يريد بيعهم فكان يأمرنا أن لا نخرج عنهم من الصدقة شيئاً، وكان يأمرنا أن نخرج من الرقيق الذي يُعدُّ للبيع) . (1) انظر: (1/224) من هذا الكتاب. (2) هو: سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري، أبو العباس. صحابي جليل. توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشرة سنة. قيل: إنه آخر الصحابة موتاً بالمدينة. مات سنة (88 هـ) . وقيل غير ذلك. انظر: ترجمته في: الاستيعاب (2/664) . (3) أخرج هذا أبو داود في سننه في كتاب الطلاق، باب: في اللعان (2/683) حديث رقم (2250) ولفظه: (.. فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً) . ورواه الجَوْزَجاني كما نقل ذلك الشيخ الألباني في الإِرواء (7/187) رقم الحديث (2104) ثم قال: (صحيح) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1499 فقال المخالف: السنة قد تكون لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) . فيجاب عنه: بأن السنة إذا أطلقت اقتضت سنة [231/أ] النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم بيانه (1) . السابع: أن يدَّعي المخالفُ أن بعض لفظ الحديث من قول الراوي، أدرجه (2) في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا حجة فيه. مثاله: ما يحتج به على أن فُرْقة اللعان فسخ بما روى عبد الله بن عباس بقصة هلال بن أميَّة (3) إلى أن قال: (ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وقضى أن لا يُدْعى ولدُها لأب، ولا تُرْمى ولا يُرْمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد. وقضى أن لا بَيْت لها عليه، ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها زوجها (4)) .   (1) انظر: (3/991) من هذا الكتاب. (2) والمدرج هو: أن يذكر الراوي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يعقبه بكلام لنفسه أو لغيره، ثم يأتي من بعده فيرويه متصلاً، فيتوهم أنه من الحديث. انظر: تدريب الراوي للسيوطي (1/268) . (3) هو: هلال بن أميَّة الأنصاري الواقفي البدري. أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. انظر: ترجمته في: الاستيعاب (4/1542) . (4) هذه الكلمة أعنى (زوجها) لم أجدها في مراجع التخريج الآتية. حديث ابن عباس - رضي الله عنه - هذا الذي ذكر المؤلف جزءً منه، أخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب الطلاق، باب: في اللعان (2/688) رقم الحديث (2256) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1500 وقال المخالف: هذا من قول عبد الله بن عباس أدرجه في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا نص في أن فُرْقة اللعان ليست بطلاق. ويجاب عنه: بأن ظاهره أنه من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه عطفه على ما قبله من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثامن: أن يكون المتن فعلاً جرى في حياة النبي. فيقول المخالف: يحتمل أن لا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه، فلا يكون حجة. مثاله: ما روى أبو سعيد قال: (كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر، صاعاً من شعير، صاعاً من دقيق) (1) .   = وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/6) رقم الحديث (2131) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر حيث قال في تعليق على هذا الحديث: (إسناده صحيح) . وأخرجه البيهقي في كتاب اللعان، باب: الزوج يقذف زوجته ... (7/393) . وأخرجه الطيالسى في أول كتاب اللعان، (1/393) . (1) هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الزكاة، باب: كم يؤدى في صدقة الفطر؟ (2/269) رقم الحديث (1618) ولفظه: (.. عن ابن عجلان سمع عياضاً، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: لا أخرج أبداً إلا صاعاً، إنا كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعَ تمرٍ أو شعير أو أقط أو زبيب) هذا حديث يحيى، زاد سفيان: (أو صاعاً من دقيق) قال حامد: فأنكروا عليه، فتركه سفيان. قال أبو داود: (فهذه الزيادة وَهْم من ابن عيينة) . وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الزكاة، باب: من قال يجزىء إخراج الدقيق في زكاة الفطر (4/172) عن أبي داود بمثل لفظه. ثم قال البيهقي بعد ذلك: (رواه جماعة عن ابن عجلان، منهم: حاتم بن إسماعيل، ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم في الصحيح، ويحيى القطان وأبو خالد الأحمر وحماد ابن مسعدة وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم الدقيق، غير سفيان وقد أنكر عليه، = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1501 فقال مخالفنا: يحتمل أن يكون فعلوا ذلك بغير علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهم الدقيق. فنجيب عنه: بأنه لا يجوز أن يخفى ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الصدقات كانت تحمل إليه. ولأن هذا إخبار عن دوام الفعل فيقتضي زماناً طويلاً. ومن جوز أن يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فقد ادعى خلاف ما جرت به العادة. ولأنه لا يجوز أن يسقطوا فرضاً وجب عليهم بآرائهم. الاعتراض الرابع وهو دعوى النسخ مثل ما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: (هل هو إلا بَضْعة منك، أو مُضْغة منك) (1) .   = فتركه، وروي عن محمد بن سيرين عن ابن عباس مرسلاً موقوفاً على طريق التوهم، وليس بثابت. وروى من أوجه ضعيفة لا تَسْوى ذكرها) . وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب زكاة الفطر (2/146) بلفظين، أحدهما: عن أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم في صدقة الفطر: (صاع من زبيب، صاع من تمر، صاع من أقط، صاع من دقيق) . واللفظ الثاني ذكر فيه موضع الشاهد، وهو: (صاع من دقيق) . وفي آخره: أن أبا الفضل قال: (فقال له علي بن المديني، وهو معنا: با أبا محمد [يعنى: سفيان بن عيينة] أحد لا يذكر في هذا الدقيق؟ قال: بلى هو فيه) . وهذا يدل على أن سفيان بن عيينة لم يترك هذه الزيادة كما ذكر في المراجع السابقة. وانظر: نيل الأوطار (4/201) . (1) هذا الحديث سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بلفظ: (لا وضوء من مسِّه) (3/832) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1502 فيقول: إنه منسوخ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أفضى أحدم بيده إلى ذَكَره ليس بينه وبينه شىء فليتوضأ) (1) . لأنه رواه أبو هريرة وهو متأخر. قال أبو هريرة: (صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنوات) (2) . وقوله: (هل هو إلا بَضْعة منك) متقدم. فإن قيس بن طَلْق روى عن أبيه (3) أنه قال: (قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يؤسس مسجدَ المدينة (4) . فوجب أن يُنسخَ المتقدمُ بالمتأخر. وكذلك قوله: (يستأنف الفريضة) (5) . منسوخ بقوله: (فإذا زادت الإِبلُ   (1) سبق تخريجه (3/832) وقد ذكره المؤلف بلفظ: (وجوب الوضوء من مسِّه) . وهناك بينّا أقوال العلماء في المسألة. وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ص (7) . (2) أخرج هذا الأثر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ابن سعد في طبقاته في ترجمة أبي هريرة - رضي الله عنه - (4/327) وفيه زيادة: (ما كنت سنوات قط أعقل مني، ولا أحب إلىَّ من أن أعِي ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني فيهن) . وأخرجه بسند آخر بلفظ ( ..... عن حميد بن عبد الرحمن قال: صحب أبو هريرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين) . (3) هو: طَلْق بن علي، وقد سبقت ترجمته وترجمة ابنه قيس. (4) أخرج هذا ابن سعد في طبقاته (5/552) في ترجمة طَلْق بن علي، - رضي الله عنه -. وانظر: تهذيب التهذيب (5/33) . (5) سبق تخريجه (1/1013) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1503 على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لَبُون، وفي كل خمسين حِقّة) (1) ؛ لأنه عمل به أبو بكر [231/ب] وعمر- رضي الله عنهما-. فدل على أنه غير منسوخ، فوجب نسخ الاستئناف لذلك. ومثل هذا كثير. الاعتراض الخامس وهو معارضته بغيره ويكون الجواب عنه بأن يُسقط معارضتَه، أو يرجح خبرَه على ما تقدم بيانُه.   (1) هذا جزء من حديث رواه أنس - رضي الله عنه - أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين ..... ) . الحديث. أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب: زكاة الغنم (2/139) . وأخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب: في زكاة السائمة (2/214) رقم الحديث (1567) . وأخرجه النَّسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل (5/17) رقم الحديث (2445) . وأخرجه ابن ماجة في كتاب الزكاة، باب: إذا أخذ المصدق سناً دون سن أو فوق سن (1/575) رقم الحديث (1800) . وأخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب: كيف فرض الصدقة (4/86) . وأخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب: زكاة الإبل والغنم (2/113) . وأخرجه الحاكم في كتاب الزكاة، (1/390) . وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ص (10) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1504 [الاعتراض على الاستدلال بالإجماع] فإن كان دليله الإِجماع فالاعتراض عليه بثلاثة أوجه: (1) أحدها: بأن يطالبه ببيان ظهور القول لكل مجتهد من الصحابة. ومثاله: ما روي عن عمر أنه كتب إلى عمّاله في خمور أهل الذمة (ولُّوهم بيعَها، وخذوا منهم عُشْر أثمانِها) (2) . فيحتج به أصحاب أبي حنيفة على أن الخمر مال في حق أهل الذمة، يصح   (1) ذكر بعض الأصوليين كالشيرازي: أن الاعتراضات هنا على أربعة أوجه، ترك المؤلف الوجه الأول منها، وهو: الرد، وهو من ثلاثة أوجه: الأول: رد الرافضة الإِجماع؛ فإنه عندهم ليس بحجة، ويرد عليهم: بأن الإِجماع أصل من أصول الدين. الثاني: رد أهل الظاهر إجماع غير الصحابة، ورد عليهم بأن ذلك أصل. الثالث: رد أهل الظاهر الإجماع السكوتى، ويرد عليهم: أنه حجة. انظر: المعونة في الجدل ص (79) . (2) هذا الأثر أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب الجزية، باب: لا يَأخذ منهم في الجزية خمراً ولا خنزيراً (9/206) ولفظ الشاهد فيه: (لا تأخذوا في جزيتهم الخمر والخنازير، ولكن خلوا بينهم وبين بيعها، فإذا باعوها، فخذوا أثمانها في جزيتهم) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن سويد بن غفلة عن عمر في كتاب أهل الكتاب باب: أخذ الجزية من الخمر (6/23) رقم الأثر (9886) ، وليس فيه: (خذوا منهم عُشْر أثمانها) . وأخرجه أيضاً في الموضع السابق، رقم (9887) بلفظ: (عن إبراهيم قال: إذا مرّ أهل الذمة بالخمر أخذَ منها العاشرُ العشرَ، يقومها، ثم يأخذ من قيمتها) . وقد أعاده عبد الرزاق (10/369) برقم (19396) ورقم (19397) . وأخرجه الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه (2/49) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1505 بيعهم لها، وتملكهم لثمنها (1) . فإن كان الاحتجاج بإجماعهم على ذلك طولبوا بظهور هذا القول من عمر وإنتشاره حتى عرفه كل مجتهد منهم، وسكت عن مخالفته. وإذا لم يتمكنوا من ذلك بطل دعوى الإِجماع. الثاني: أن يبين ظهور خلاف بعضهم للقائل. وإذا اختلفوا وجب الرجوع إلى الدليل. وذلك مثل: دعوى المخالف إجماع الصحابة على منع صيام يوم الشك، فروي تحريمه عن علي وعائشة وابن عباس خلاف ذلك (2) وأن بعضهم قال: (لأن أصومَ يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان) (3) .   (1) وهو كما قال. انظر: حاشية ابن عابدين (5/56) . (2) النص هنا فيه خلل، فعليّ - رضي الله عنه - نُقل عنه القول بالجواز - كما سيأتى في تخريج الأثر. وهو ما ذكره ابن قدامة في المغني (3/90) ، ونقله عنه ابن القيم في زاد المعاد (2/42) ، كما حُكي عنه القول بالمنع (2/46) ، وهو ما رواه البيهقي في سننه (4/209) . أما عائشة فالمنقول عنها الجواز، كما في تخريج الأثر الآتي، وكما في المراجع السابقة. وأما ابن عباس فقد نقل عنه البيهقي أنه كان يمنع ذلك (4/207) . هذا الأثر قالته عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها الإمام أحمد في مسنده (6/125) ضمن حديث سئلت فيه عن مسائل عدة، ومنها مسألة صيام يوم الشك. قال الألباني: في الإرواء (4/11) (سنده صحيح) . وذكر الألباني في المرجع السابق أن سعيد بن منصور روى هذا الأثر، ثم قال: (لا يصح سنده) . وأخرجه عنها البيهقي في سننه في كتاب الصيام، باب: من رخَّص من الصحابة في صوم يوم الشك (4/211) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1506 الثالث: أن يعترض على قول المجمعين أن يكونوا صرحوا بالحكم بمثل ما يعترض على لفظ السنة. [الاعتراض على الاستدلال بالقياس] وإذا كان دليله الذي احتج به هو القياس، فإن الاعتراض عليه من اثني عشر (1) وجهاً: أحدها: إنكار علة الأصل على مذهب نفسه، أو على مذهب المعلِّل. الثاني: إنكار علة الفرع. الثالث: إنكار العلة فيهما (2) . الرابع: إنكار حكم الأصل. الخامس: أن لا يتعدى حكم الأصل إلى الفرع.   = وأخرجه أيضاً بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه. وأخرجه عن علي - رضي الله عنه - الإِمام الشافعي، كما في بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن (1/251) ولفظه: (أن رجلاً شهد عند علي - رضي الله عنه - على رؤية هلال رمضان، فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا وقال: أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان) . قال محققا زادِ المعاد (2/43) هامش (2) : (فيه انقطاع) . ولقد بحث الإمام ابن القيم هذه المسألة بحثاً قيماً في كتابه المذكور آنفاً، فارجع إليه فإنه مفيد. (1) راجع في هذه الاعتراضات: الجدل لابن عقيل ص (38) والمعونة ص (90) والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (148) . وقد ترك المؤلف الاعتراض من جهة الرد، إما برده مطلقاً، كما هو مذهب الظاهرية. وإما برده في بعض المواضع. انظر المراجع السابقة. (2) في الأصل: (فيها) والمراد: إنكار العلة في الأصل والفرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1507 السادس: أن يطالب بتصحيح العلة في الأصل. السابع: أن يقول بموجب العلة. الثامن: أن ينقض علته. التاسع: أن يطالب بتفسير علته. العاشر: أن يقول: إنه مخالف للقرآن أو السنة أو الإِجماع أو قول الصحابي على قول من يقدمه على القياس، وإذا كان يوجب زيادة في النص. الحادي عشر: أن يقلب علته. والثاني عشر: أن يعارضه بعلة أخرى من أصله أو بقياس مبتدأ على أصل غيره. فأما إنكار علة الأصل، فمثل: أن يقول أصحاب أبي حنيفة في وجوب إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر. أصله: زكاة التجارة (1) . والعلة في الأصل غير مسلَّمة؛ لأن زكاة التجارة لا يجب إخراجها عن العبد، وإنما يجب إخراجها عن قيمته [232/أ] . ألا ترى أن قيمته لو كانت في متاع التجارة لوجب عليه إخراج الزكاة عليها.   (1) العلة عند الحنفية هنا هي: المؤنة والولاية، سواء أكان العبد مسلماً أم كافراً، ولا يحملون المطلق في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمر بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والعبد ممن تمونون) على المقيد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر في رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) . وتعليلهم في ذلك: أن الأسباب إذا تعددت لا تزاحم بينها، كالملك يثبت بالبيع والهبة والإرث ونحو ذلك. انظر: شرح فتح القدير (2/284) وحاشية ابن عابدين (2/263) . وراجع: الجدل لابن عقيل ص (45) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1508 وإن قال: يجب إخراجها بسبب العبد. قيل: لا يجب بسبب العبد وإنما يجب بسبب قيمته. وأما عدم العلة في الأصل على مذهب المعلِّل فإنه يقل وجوده. وذلك مثل قول أصحاب أبي حنيفة في تحريم اللعان: فُرْقة يختص بالقول، فوجب أن لا يتأبَّدَ تحريمه. أصله: الطلاق (1) . وعلة الأصل معدومة عنده؛ لأن عند المخالف الطلاق لا يختص بالقول، فإنه يقع بالكتابة مع النية ممن هو ناطق متمكن من القول. وهذا الإِنكار على الأصلين جميعاً؛ لأن عندنا أن الطلاق لا يختص بالقول، ويقع بالكتابة من غير نية. وأما إنكار العلة في الفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة في القارن إذا قتل الصيد: إنه أدخل النقصَ على إحرامين بقتل الصيد، فلزمه جزاءان (2) . أصله: إذا قتل صيداً في إحرام الحج، ثم قتل صيداً في إحرام العمرة. فالعلة معدومة في الفرع؛ لأن القارن مُحرِم بإحرام واحد، ويكون ذلك بمنزلة من باع عبدين بثمن واحد، فيكون البيع واحداً وإن كان المبيع اثنين، وكذلك إذا عقَد إحراماً واحداً (3) ، وإن كان المعقود عليه اثنين.   (1) هذه المسألة فيها خلاف انظر: تحفة الفقهاء (2/222) وشرح فتح القدير (4/286) وحاشية ابن عابدين (3/483) . وراجع: الجدل ص (45) . (2) هو كذلك في شرح فتح القدير (3/104) وحاشية ابن عابدين (2/577) . (3) في الأصل: (إذا عقد الإحرام واحد) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1509 وأما إنكار العلة في الأصل والفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة: إذا لم يصم المتمتع في الحج سقط الصوم (1) ؛ لأنه بدل موجب، فوجب أن يسقط بفوات وقته. أصله: الجمعة. وعلة الأصل غير مسلَّمة؛ لأن الجمعة ليست ببدل عن الظهر، وإنما الظهر بدل عن الجمعة؛ لأن البدل ما وجب الانتقال إليه لتعذر غيره. وكذلك علة الفرع غير مسلمة؛ لأن صوم الثلاثة بدل غير مؤقت؛ لأنه مأمور في الحج دون الزمان، والمؤقت ما حصر فعله بوقت بعينه. ومثل قولهم في إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر: عبدٌ يجب إخراج زكاة التجارة عنه، فوجب إخراج زكاة الفطر عنه. أصله: العبدُ المسلم (2) . ووجوب زكاه التجارة عن العبد المسلم وعن العبد الكافر غير مسلَّم. وأما إنكار الحكم في الأصل، مثل: أن يقول أصحاب أبي حنيفة في جلد الكلب: بأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة، فيطهر جلدُه بالدباغ (3) . أصله: ما يؤكل لحمه.   (1) عبارة صاحب الهداية (2/530) مطبوع مع شرح فتح القدير: (فإن فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم) . (2) انظر: شرح فتح القدير (2/284) وحاشية ابن عابدين (2/263) . (3) الكلب عند الإمام أبي حنيفة ليس بنجس العين، وعلى هذا جرت الفتوى، وعليه فيباع، ويؤجر، ويضمن، ويتخذ جلده مصلى ودلواً، يعني: إذا دبغ. هكذا في الدر المختار وشرحه تنوير الأبصار (1/208) مع حاشية ابن عابدين. وذكر السمرقندى في تحفته (1/53) أن هناك قولين لأصحابه: الأول: أنه نجس العين، فهو والخنزير سواء. والثاني: ليس بنجس العين، فهو وسائر الحيوانات سواء، ثم قال: (وهذا أصح) . ثم قال في ص (71) : (أما الدباغ، فتطهير في الجلود كلها، إلا في جلد الإنسان والخنزير عند عامة العلماء) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1510 الحكم غير مسلَّم في الأصل؛ لأن ما يؤكل لحمُه لا يطهر جلدُه بالدباغ عندنا (1) . وأما حكم الأصل إذا لم يتعدَّ إلى الفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة [232/ب] في ضم الذهب إلى الوَرق: إنهما قِيَم المتلفات، فوجب ضمُّ أحدهما إلى الآخر (2) قياساً على الصحاح والمكسَّرة، والضمُّ في الأصل بالأجزاء، والضمُّ عندهم بالقيمة (3) ، وهما ضمَّان مختلفان، ولا يجوز أن يثبت في الفرع غير حكم (4) الأصل؛ لأن علة الأصل تتعدى إلى الفرع، فيتعدى بها الحكم المتعلِّق بها، وهذا على أصلنا يصح؛ لأن الضم يحصل في الأصل والفرع بالأجزاء (5) .   (1) هكذا نقل الجماعة عن الإمام أحمد، منهم صالح وعبد الله والأثرم وحنبل وابن منصور وأبو الصقر. ونقل الصاغاني عنه: أنه يطهر بالدباغ جلد كل حيوان طاهر حال الحياة. انظر: كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (1/66) . (2) هو كذلك. انظر التحفة (1/266) . (3) هذا هو رأى الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-. أما عند أبي يوسف ومحمد فالضم باعتبار الأجزاء وانظر: المرجع السابق (1/267) . (4) ويمكن الجواب عن هذا بأن يقال: (ألحقت حكم الفرع بالأصل في وجوب الضم، فلا يلزمني استواؤهما في صفة الضم) . أفاده ابن عقيل في كتابه: الجدل ص (44) . (5) هو كذلك. قال في الروض المربع (1/381) : (ويضم جيد كل جنس ومضروبه إلى رديئه وتبره، ويخرج من كل نوع بحصته، والأفضل من الأعلى، ويجزىء إخراج رديء عن أعلى مع الفضل) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1511 وأما المطالبة بتصحيح العلة في الأصل فنقضها والقول بموجبها. وقد سبق الكلام عليه في باب العلم الدال على صحة العلة والاعتراض عليها. وأما المطالبة بتفسير لفظ العلة، فمثل: قول أصحاب الشافعي في صوف الميتة: متصل بذي روح ينمو بنمائه، فوجب أن ينجس بنجاستِه بموته (1) . قلنا لهم: قولك: "بموته" إما أن تريد به موت الأصل أو موت الشَّعَر. فإن أردت به موت الشعر، لم نسلِّمه؛ لأن الشعر لا حياة فيه فيموت. وإن أردت به موت الأصل لم يصح على أصلك؛ لأن عندك إنما ينجس بمفارقة الروح، كما ينجس العضو بمفارقة الروح له، لا بمفارقة الجملة. فكانت المطالبة به صحيحة، والإِجابة واجبة. وأما إذا كان مخالفاً لنص القرآن أو نص السنة أو الإِجماع فإنه غير صحيح؛ لأن ذلك كله أقوى من القياس وأولى به، فوجب تقديمها عليه، وإذا كان كذلك كان نقضاً للعلة. وأما إذا كان موجباً للزيادة في النص، فإنه لا يصح على مذهب أبي حنيفة؛ لأن الزيادة في النص نسخ، فلا يجوز النسخ بالقياس (2) .   = هذا إذا كان من جنس واحد. أما إذا كان من جنسين كالذهب والفضة، فهل يضم بعضها إلى بعض؟ فيه روايتان: الأولى: يضم؛ لأن زكاتهما ربع العشر؛ ولأنهما من جنس الأثمان. الثانية: لا يضم؛ لأنهما جنسان، أشبه التمر والزبيب. وعلى القول بالضم، يكون ذلك بالأجزاء، فلو ملك عشرة مثاقيل ومائة درهم، فكل منهما نصف نصاب، ومجموعهما نصاب. وانظر: كتاب الروايتين والوجهين (1/241) . (1) هكذا عند الشافعية. وقد فصَّل القول في هذه المسألة النووي في المجموع (1/275) . (2) سبق أن تكلم المؤلف عن هذه المسألة (3/814) من هذا الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1512 ومثاله: أن بعضهم سُئِل عن سهم ذوي القربى فقال: سهم من الخمس، فوجب أن يُستحق بالحاجة والفقر قياساً على سائر السهام (1) . فقيل له: فهذا يوجب الزيادة في قوله: (وَلِذِى الْقُرْبَى) (2) . والزيادة في النص نسخ عندك، ولا يجوز نسخ القرآن بالقياس. وكذلك إذا كان قياسه مخالفاً لقول الصحابي. وأما قلب العلة على المعلِّل فيأتي بيانه، وكذلك بيان المعارضة من أصله ومن غير أصله، إن شاء الله تعالى. وهذا الذي ذكرنا جميع الاعتراضات الصحيحة. فأما الاعتراضات الفاسدة فقد تقدم ذكرها في باب الاعتراضات. [المعارضة] وأما المعارضة (3) فعلى أربعة أضرب: معارضة النطق بالنطق.   (1) فالخمس عندهم يقسم أثلاثاً لليتيم والمسكين وابن السبيل، ويجوز صرفه لصنف واحد، وذلك عند توفر سبب الاستحقاق، وهو الفقر. انظر: التحفة (3/302) وحاشية ابن عابدين (4/149) . (2) آية (41) من سورة الأنفال. (3) راجع هذا الموضوع في: الجدل لابن عقيل ص (67) والواضح له (2/574) والمعونة في الجدل للشيرازي ص (66, 76) ويضرح اللُّمع له (2/936) والمسودة ص (441) ولم يتعرض المؤلف لتعريف المعارضة، وتتميماً للفائدة نذكر ذلك باختصار. المعارضة في اللغة: الممانعة، تقول، سرت في الطريق فعرض لي عارض، أي: مانع. ومنه اعترض لي. وسميت المعارضة بهذا، لأنها تمنع من التمسك بالدليل. انظر: المصباح المنير (2/616) مادة (عرض) . أما المعارضة في الاصطلاح فقد عَّرفها ابن عقيل في كتابه الواضح (2/594) = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1513 ومعارضة العلة بالعلة. ومعارضة النطق بالعلة. ومعارضة العلة بالنطق. فأما معارضة [233/أ] النطق بالنطق فقد سبق الكلام عليه في باب الخصوص والعموم ويقيده (1) ، وذلك لا يخلو من أمرين: إما أن يكونا سواء في العموم والخصوص، أو كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً. فإن كانا سواء نُظِر، فإن أمكن استعمالهما وجب ذلك. وإن استعمل المسؤول على وجه، واستعمل السائل على وجه آخر، وتعارضا في الظاهر، وجب على المسؤول أن يرجح استعماله، فإن عجز عنه كان منقطعاً. وذلك (2) مثل أن يحتج على المنع من الجمع بين الأختين بملك اليمين بقوله تعالى: (وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُختَيْنِ) (3) ويعارضه المخالف بقوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإِنَهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ) (4) .   = بقوله: (وهى الجمع بين الشيئين للتسوية بينهما في الحكم) . وعرفها إمام الحرمين في كتابه: الكافية ص (69) بأنها في عرف الفقهاء (ممانعة الخصم بدعوى المساواة. أو مساواة الخصم في دعوى الدلالة) . وعرفها الجرجاني في كتابه التعريفات ص (115) بأنها: (إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم) . وهناك تعريفات كثيرة، انظرها في: إرشاد الفحول ص (232) والحدود للباجى ص (79) والكافية في الجدل ص (418) . (1) في الأصل بدون إعجام، ولعل الصواب: (ومطلق اللفظ ومقيده) . (2) كلمة (وذلك) مكررة في الأصل. (3) آية (23) من سورة النساء. (4) آية (30) من سورة المعارج، وكلمة (ملكت) ساقطة من الأصل، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1514 فيقول المسؤول: معناه: أو ما ملكت أيمانهم في غير الجمع بين الأختين في غير ملك اليمين. فيحتاج المسؤول أن يرجح استعماله، ويقدمه على استعمال خصمه، بأن يقول: روي عن عثمان أنه قال: (حرمتهما آية، وأحلتهما آية) والتحريم أولى. ولأن قوله: (وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ اْلأُخْتَيْنِ) قصد به بيان التحريم، وليس كذلك قول: (أَو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) فإنه قصد به مدح قوم. فكان ما قصد به بيان التحريم وبيان الحكم أولى بالتقديم، فيجب حمله على ظاهره وترتيب الآية الأخرى عليه. وإن تعذر استعمالهما، فإن عرف التاريخ وجب تقديم المتأخر منهما لما روى ابن عباس أنه قال: (كنا نأخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأحدث فالأحدث) (1) .   (1) هذا الأثر أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر ... (2/784) رقم الحديث (1113) ولفظه: ( ... عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح في رمضان. فصام حتى بلغ الكُدَيد، ثم أفطر. وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره) . وأخرجه بسند آخر، ثم قال: (قال يحيى: قال سفيان: لا أدري من قول من هو؟ وكان يؤخذ بالآخر من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . وأخرجه الإِمام مالك في الموطأ في كتاب الصيام باب: الصوم في السفر (1/341) رقم (1715) بمثل لفظ مسلم. وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان، كما في الفتح (8/3) رقم الحديث (4276) وجعل الأثر من قول الزهري حيث قال في آخر الحديث: (قال الزهري: وإنما يؤخذ من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآخر فالآخر) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1515 ولأن المتأخر أقوى من المتقدم؛ لأن المتقدم يجوز أن يكون منسوخاً بالمتأخر، ولا يجوز أن يكون المتأخر منسوخاً بالمتقدم، فوجب تقديم المتأخر. وإن جهل التاريخ وجب تقديم أحدهما على الآخر بضرب من ضروب الترجيحات التي ذكرناها في باب ترجيحات الأخبار. وقد تقدم ذلك (1) . وأما إذا كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً فلا يخلو الخاص من أحد أمرين: إما أن يكون موافقاً للعام أو منافياً له. فإن كان منافياً له وجب تخصيص العام به، سواء تقدم العام على الخاص، أو تأخر عنه، أو جُهل التاريخ. وذلك مثل قوله: (وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَى يُؤْمِنَّ) (2) وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (3) وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا) (4) وقول النبي -عليه السلام-: (لا قطع إلا في ربع دينار) وقد حكينا الخلاف في ذلك فيما تقدم (5) . وإن كان الخاص موافقاً للعام فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكونا في حكمين، أو في حكم واحد.   = وما جزم به البخاري هنا جزم به الحافظ بن حجر في الفتح (4/181) ، وحكم بأنها وقعت مدرجة عند مسلم. وعلى هذا فالأثر ليس لابن عباس، وإنما هو من قول الزهري. والله أعلم. وقد سبق أن ذكر المؤلف هذا الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - (3/1040) ولكن فاتني تخريجه هناك. (1) انظر: (3/1019) من هذا الكتاب. (2) آية (221) من سورة البقرة. (3) آية (5) من سورة المائدة. (4) آية (38) من سورة المائدة. (5) انظر: (2/615) من هذا الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1516 فإن كانا في حكمين: مثل قوله في كفارة الظهار: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (1) مع قوله تعالى في كفارة القتل: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (2) . فإنه يحمل المطلق على المقيد من طرّيق اللغة وقد حكينا أيضاً الخلاف في ذلك (3) . وإن كانا في حكم واحد فلا يخلو الخاص من أحد أمرين: إما أن يكون له دليل خطاب، أو لا دليل له. فإن لم يكن له دليل خطاب كان الخاص داخلاً في العام، وكان ذكراً لبعض ما شمله العموم، فيكون ما تناوله الخاص ثابتاً بالخاص والعام، وما زاد على ذلك ثابتاً بالعام دون الخاص. مثاله: ما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: (من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر) . وقضى في الذي وقع على امرأته بتحرير رقبة (4) فثبتت الكفارة بالخبر. وإن كان له دليل خطاب، فإنه يقضى بدليل خطابه على العام، فيخرج ما تناوله منه دليله. وقد ذكرنا مثال ذلك، والوجه فيه ما تقدم في باب الخصوص والعموم بما فيه كفاية (5) . ومثاله: قوله: (في أربعين شاةً شاةٌ) مع قوله: (في سائمة الزكاة) فتخرج المعلوفة من قوله: (في أربعين شاةً شاةٌ) .   (1) آية (3) من سورة المجادلة. (2) آية (92) من سورة النساء. (3) انظر: (2/637) من هذا الكتاب. (4) هذه إشارة إلى حديث الأعرابي الذي واقع زوجته في نهار رمضان، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: (هلكتُ وأهلكتُ) ، وقد سبق تخريجه. (5) انظر: (2/578) من هذا الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1517 وأما معارضة النطق بالعلة ومعارضة العلة بالنطق: فإنه ينظر في النطق: فإن كان نصاً لا يحتمل إلا معنى واحداً، فإنه يجب ترك القياس له، سواء كان النطق من القرآن أو من السنة المتواترة أو من خبر الواحد. وقد حكينا خلاف أصحاب مالك وأن القياس مقدم على خبر الواحد (1) . وإن كان النطق عاماً أو ظاهراً: فقد حكينا اختلاف الروايتين، واختلاف الفقهاء، وأن منهم من قال: يجب ترك القياس. ومنهم من قال: يخص العام به، ويصرف الظاهر عن ظاهره. وذكرنا الوجه في ذلك (2) . وأما معارضة العلة بالعلة: فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن تكون من أصلين، أو من أصل واحد. فإن كانت من أصلين: مثل أن يقول أصحاب أبي حنيفة: طهارة بالماء، فوجب أن لا تفتقرَ إلى النية قياساً على إزالة النجاسة. ونعارضه، فنقول: طهارة من خبث، فلا يصح بغير نية. أصله: التيمم. ومثل ذلك كثير. والجواب عن ذلك: أن [نبطل] قياس المخالف بوجه من وجوه الإِفساد التي ذكرناها، أو يرجح قياسه بوجه من وجوه الترجيحات التي نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. وإن كانت من أصل واحد فلا يخلو: من أن تكون بعلة غير علته أو بعلته، وإن تعلق عليها غير حكمها.   (1) انظر: (3/889) من هذا الكتاب. (2) انظر: (2/559) من هذا الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1518 فإن كانت بعلة أخرى فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون بعلة [234/أ] واقفة، أو علة متعدية. فإن كانت واقفة، مثل أن يقول: يصح ظهار (1) الذمي؛ لأنه زوج يصح طلاقه، فوجب أن يصح ظهاره كالمسلِم. فيقول الخصم: المعنى في الأصل أنه يصح تكفيره بالصوم فصح ظهاره، وليس كذلك الذمي، فإنه لا يصح تكفيره بالصوم فلا يصح ظهاره. فإن المبتدىء بالعلة ينظر فيه، فإن كان المعارض لا يقول بعلة واقفة لم تصح المعارضة؛ لأنه لا يجوز أن يحتج بما لا يقول به. والمعارض يقول: ليست العلة التي نصبها الله تعالى وعلَّق حكمَه عليها ما ذكره المبتدىء بالعلة، وإنما هي غيرها، فلا يجوز أن يذكر ما يقرُّ هو بفساده. وإن كان المعارض يقول بالعلة الواقفة: قد قيل إن المبتدىء بالعلة يقول: أنا أقول بالعلتين جميعاً؛ لأنهما لا يتعارضان، فإن موجب العكس في الأصل واجب في الفرع، يوجد أحدهما وهي المتعدية، ولا يوجد الأخرى وهي الواقفة، فيجب أن يحكم بالمتعدية إليه، ولا تعارضه الواقفة؛ لأنها غير موجودة فيه. وقيل: لا ينبغي أن يقول: أقول بالعلتين؛ لأنه إقرار بصحة علة الخصم والشهادة لها. ولا حاجة به إلى ذلك. ولكنه يقول: علتك لا تعارض علتي لما قدمته، وهو أن موجبهما أصل واحد، وفي الفرع توجد المتعدية، ولا توجد الواقفة، فلا يجوز أن يتعارضا في الأصل ولا في الفرع، فلا يكون الخصم بهذه العلة معارضاً. فإن قيل: العلة الواقفة تعارض المتعدية في الفرع؛ لأن زوال العلة يوجب   (1) في الأصل: (ظهاره) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1519 زوال الحكم، فيوجب أن يكون الذمي لا يصح ظهاره. قيل: زوال العلة يوجب زوال الحكم المتعلق بها ولا يوجب ضد حكمها. فإذا كان الحكم متعلقاً بعلتين فزالت إحداهما زال الحكم المتعلق بها، وبقي الحكم متعلقاً بالعلة الأخرى لا تعارضها العلة الزائلة، ولا يوجب ضد حكمها. ألا ترى أن الحائض والمُحْرِمة بالحج يحرمُ وطؤها لحيضها ولإحرامها، فإذا انقطع حيضُها بقي تحريم وطئها متعلقاً بالإحرام. وإن عارضه بعلة متعدية فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن تكون داخلة في علته أو غير داخلة فيها. فإن كانت داخلة في علته: مثل تعليل مالك تحريم التفاضل بالقوت (1) ، مع تعليل أحمد -رحمه الله- بالكيل. والجواب عنه كالجواب عن العلة الواقفة؛ لأن القوت داخل في الكيل. وإن كانت خارجة عن علته ومتعدية إلى فروع لا يقول بها، لأنها (2) تتعدى إلى فروع لا يجري فيها (3) الربا عند مالك (4) والشافعي (5) مثل الخُضَر وغيرها (6) . فإذا [234/ب] كان كذلك كان الجواب عنه إفساد علته أو يرجح (7) علته على علة خصمه، كما قلنا في العلة المعارضة من غير أصلها.   (1) انظر في هذا: الكافي لابن عبد البر (1/304) . (2) في الأصل: (لأنه) . (3) في الأصل: (فيه) . (4) انظر: المرجع السابق (1/307) حيث قال: (ولا زكاة في البقول، ولا في الخضر، ولا فيما لا يدخر ولا يقتات من الفواكه وغيرها) . (5) انظر: المجموع للنووى (5/444) . (6) في الأصل: (وغيره) . (7) في الأصل (يرجع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1520 وأما معارضة العلة بتلك العلة بعينها (1) ، فإنها تسمى قلباً (2) وتسمى المشاركة في الدليل. ومثاله: أن يقول: صلاة فرض لا تقضى في السفر، فوجب أن ينفصل وقتُها عن وقت الصلاة التي بعدها قياساً على صلاة الصبي. فيقول له: وجب أن يكون لها وقتان أو وقت ممتد قياساً على صلاة الصبح. أو يقول المخالف: لُبْثٌ في مكان مخصوص، فلا يكون قُرْبة بنفسه قياساً على الوقوف بعرفة. فيقال له: وجب أن لا يكون من شرطه الصوم قياساً على الوقوف بعرفة. ومثل هذا كثير. فهو صحيح (3) . ومن أصحاب الشافعي من قال: لا يصح (4) .   (1) راجع في هذا: التمهيد (4/202) والواضح (3/1138) والمسوَّدة ص (445) وشرح اللُّمع (2/916) والتبصرة ص (475) . (2) عرفه الشيرازي في كتابه شرح اللُّمع الموضع السابق بقوله: (أن يعلق على علة المستدل نقيض حكمه، ويقيس على الأصل الذى قاس عليه، ولا يغير من أوصافه شيئاً) كما قسمه إلى قسمين: مصرح بحكم، وبمبهم، وهو قلب التسوية. انظر: المرجع السابق (2/921) . وقسمه أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/208) وابن عقيل في الواضح (3/1150) إلى ثلاثة أقسام، وكلام المؤلف يدل عليه: أ - القلب بحكم مقصود غير حكم المعلل. ب - قلب التسوية. جـ - جعل المعلول علة والعلة معلولاً. (3) وبه قال أبو الخطاب والشيرازى وأبو علي الطبري. انظر: التمهيد، وشرح اللُّمع، والتبصرة والواضح، المواضع السابقة. (4) انظر: التبصرة وشرح اللُّمع، في الموضعين السابقين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1521 والدلاله على صحته: أن هذه معارضة صحيحة؛ لأن المبتدىء بالعلة لا يمكنه أن يجمع بينهما ويعلقهما على علته. وإذا كان كذلك كانا متعارضين، وكان ذلك بمنزلة المعارضة من أصل آخر. فإنه لما تعذر الجمع بين حكم الأصلين في الفرع كانا متعارضين، كذلك هاهنا. وأيضاً: فإن المخالف استدل على المنع من نقض البناء في مسألة السَّاجَة (1) بقوله -عليه السلام-: (لا ضرر ولا إضرار في الإِسلام) (2) وفي نقض بنائه إضرار به؛ لأنه إفساد لآلته، وإبطال لنفقته، فوجب أن يمنع منه.   (1) السَّاجَة، بالجيم: خشبة عظيمة تنبت بالهند. والمراد بذلك: أن الإنسان لو غصب ساجة وبنى عليها، فهل ينقض البناء وترد الساجة إلى صاحبها مطلقاً، أو ترد إليه إذا كانت قيمتها أكثر من قيمة البناء، فإن كانت قيمتها أقل من قيمة البناء فله ثمنها. بالأول قالت الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، والأصح عند الحنابلة، وبالثاني قالت الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد. انظر: شرح اللُّمع (2/917) ، وكتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (2/418) ، وحاشية ابن عابدين (6/192) . (2) هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب: من بنى في حقه ما يضر بجاره (2/784) رقم الحديث (2340) . بلفظ: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى: أن لا ضرر ولا ضرار) . وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (5/326) . وأخرجه أبو نعيم في كتابه أخبار أصبهان في ترجمة: شعيب بن محمد الدبيلي (1/344) . ورواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً، أخرجة عنه ابن ماجة في الموضع السابق رقم الحديث (2341) . وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/313) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1522 .................................   = وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير على ما في إرواء الغليل (4/409) . وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الأقضية والأحكام وغير ذلك (4/228) ورواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الدارقطني في الموضع السابق. وأخرجه الحاكم في كتاب البيوع (2/57-58) وقال: (صحيح الإسناد على شرط مسلم) ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في كتاب الصلح، باب: لا ضرر ولا ضرار (6/69) . وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد كما في نصب الراية (4/385) . وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الأقضية، باب: الأقضية في المرافق ص (464) . عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرفوعاً. قال الألباني في الإرواء (قلت: وهذا مرسل صحيح الإسناد، وهذا هو الصواب من هذا الوجه) . ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الدارقطني في سننه في الموضع السابق بلفظ: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدُكم جارَه أن يضع خشبته على جداره) . ورواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الطبراني في الأوسط، كما في الإرواء. وروته عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها الدارقطني في سننه ص (227) . ورواه ثعلبة بن أبي مالك القرظي - رضي الله عنه - أخرجه عنه الطبراني في المعجم الكبير، كما في الإرواء. ورواه أبو لبابة - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتابه المراسيل ص (176) رقم (367) . وقد صدر الشيخ الألباني كلامه عن هذا الحديث بقوله: (صحيح) . وفي آخر الكلام عن الحديث قال: (قلت: فهذه طرق كثيرة لهذا الحديث قد جاوزت العشر، وهي وإن كانت ضعيفة مفرداتها، فإن كثيراً منها لم يشتد ضعفها، فإذا ضم بعضها إلى بعض تقوى الحديث بها وارتقى إلى درجة الصحيح إن شاء = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1523 فقال أصحاب الشافعي وجب رد ساجَتِه وما غصبه من آلته؛ لأن في منع ذلك منه إضراراً (1) به. وإذا كان هذا صحيحاً كان القلب صحيحاً؛ لأنه يشاركه في دليله. واحتج المخالف: بأنها معارضة في غير الحكم الذي علله، فلا يلزمه الجواب عنه. ألا ترى أنه إذا استأنف قياساً في حكم آخر لم يصح لهذا المعنى، كذلك لا يصح القلب. والجواب: أنه يبطل بالمشاركة في دلالة الخبر على ما بيناه في مسألة السَّاجَة، فإنه معارضة في غير حكمه وقد صح. وعلى أن مثل هذا جائز للمعارض، وإن كان من أصل آخر؛ لأنه في معنى ضد حكمه؛ لأنه لا يمكنه الجمع بينهما كما (2) لا يمكنه الجمع بين   = الله تعالى) . ثم قال: (قلت: وقد احتج به الإمام مالك، وجزم بنسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال (2/805) من الموطأ: وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ضرر ولا ضرار. وكذلك احتج به محمد بن الحسن الشيباني في مناظرة جرت بينه وبين الإمام الشافعي، وأقره الإمام عليه) . ئم ذكر بعد ذلك شواهد للحديث. ورمز له السيوطي في الجامع الصغير (6/431) رقم الحديث (9899) بالحسن. وقال المناوي في تعليقه على هذا الحديث: (والحديث حسَّنه النووي في الأربعين. قال: ورواه مالك مرسلاً. وله طرق يقوى بعضها بعضاً، وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به) . (1) في الأصل: (اضرار) . (2) في الأصل: (فيما) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1524 الحكم وضده. واحتج بأن أوصاف علة المعلِّل لا تصلح للحكم الذي نقلتها فيه، فلا تكون مؤثرة في وجوده، فلم يصح القلب. والجواب أن هذا في بعضه دون بعض. ألا ترى أنه إذا قال (1) : عضو من أعضاء الوضوء، فلا يجوز في إيصال الماء إليه ما يقع الاسم عليه (2) . فقلبه الخصم على أبي حنيفة [235/أ] وقال: وجب أن لا يقدَّر بالربع (3) ، كانت العلة في الحكمين سواء، ولم يكن فرق بين أن يجعل عضواً من أعضاء الوضوء علة لإِجزاء اليسير وبين أن يجعل علة لنفي التقدير. وفي القلب نوع أحسن، وهو الذي يسمى قلب التسوية (4) . مثاله: أن يقول المخالف (5) : إيقاع طلاق من مكلف مالك للطلاق، موجب أن يقع الطلاق. أصله: المختار. فيقلبه الخصم عليه فيقول: وجب أن يكون حكم الإِيقاع والإِقرار سواء قياساً على المختار.   (1) يعني: إذا قال في مسح الرأس. (2) لأن الشافعي يقول يجزىء في ذلك ما يقع عليه اسم المسح. انظر: شرح اللُّمع (2/917) . (3) عند الحنفية في القدر الذى يمسح من الرأس ثلاث روايات: الأولى: يقدر بثلاث أصابع مطلقاً. وهو ظاهر الرواية. الثانية: يقدر بربع الرأس. الثالثة: مقدار الناصية. انظر: تحفة الفقهاء (1/9) . (4) سبق تعريفه عند الشيرازي بأنه القلب بحكم مبهم. (5) يعني: أن يقول الحنفي في طلاق المكره: إنه طلاق.. الخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1525 وهو صحيح (1) . ومن أصحاب الشافعي من منع صحته (2) . والدلالة على صحته: أن الجمع بين الحكم المبتدىء بالعلة وبين حكم القالب لا يصح، فكان بمنزلة القلب الأول. فعلى هذا حكم الفرع موافق لحكم الأصل؛ لأن الحكم هو الاستواء، وهذا في الأصل والفرع واحد. وإنما يختلفان في كيفية الاستواء، والكيفية حكم غير الاستواء. ألا ترى أن النبي -عليه السلام- لو قال: حكم الإيقاع والإقرار سواء، كانت التسويةُ واجبة بالنص، وكيفية التسوية غير منصوص عليها، فإذا دل الدليلُ على أنهما يستويان في الأصل في الصحة وفي الفرع في البطلان كانت الكيفية مجتهداً فيها، والاستواء منصوصاً عليه. فعلى هذا يجوز قياس أصحاب أبي حنيفة: مالان من جنس الأثمان، فوجب ضم أحدهما إلى الآخر قياساً على ضم المكسرة والصحاح، وإن كان الضم في الأصل في الأجزاء وفي الفرع في القيمة على قولهم (3) . ومن قال: لا يصح هذا القلب لا يُجوِّز هذا القياس؛ لأنهما يختلفان، ويجب أن يكون الفرع موافقاً لحكم الأصل. واحتج في ذلك: بأن حكم الفرع في ذلك مخالف لحكم الأصل؛ لأن   (1) يعني: أن قلب التسوية صحيح. وبه قال أبو الخطاب كما في التمهيد (4/208) ، والشيرازي كما في شرح اللُّمع (2/922) والتبصرة (477) . (2) انظر: شرح اللُّمع والتبصرة في الموضعين السابقين. (3) سبق التعليق على هذه المسألة ص (1115) وانظر المسوَّدة ص (374) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1526 الاستواء [في الأصل] في الصحة وفي الفرع في البطلان عند القالب. ويجب أن يكون حكم الفرع مثل حكم الأصل؛ لأن حكم الأصل يجب أن يتعدى إلى الفرع لتعدي علة الأصل عليه. والجواب عنه ما ذكرنا، وهو أن الجمع بين حكم المبتدىء بالعلة وبين حكم القالب لا يصح، فلم يجب اعتبارهما في القلب. نوع ثالث: وهو أن يجعل المعلول علة والعلة معلولاً (1) . والمراد بالمعلول هو الحكم، فكأنه يجعل حكم المبتدىء بالعلة علة وعلته حكماً. مثاله: أن يقول (2) : زوج يصح طلاقُه، فوجب أن يصح ظهارُه (3) قياساً على المسلِم. فيقول المخالف: ما ينكر على من قال: إنما صح طلاقُ المسلِم؛ لأنه صح ظهارُه. قيل له: هذا القلب بمنزلة المعارضة بعلة واقفة وأصل عليه. ويكون الجواب عنه ما ذكرنا من القول بهما. أو قوله: إنهما لا يتعارضان، فلا يصح القلب. وقد قيل: يصح هذا القلب؛ لأنه لا يجوز [235/ب] أن يثبت الحكم لما   (1) وهذا القلب لا يفسد العلة عند الحنابلة وأكثر الشافعية، خلافاً للحنفية وبعض المتكلمين. انظر: التمهيد (4/311) والتبصرة ص (479) وشرح اللُّمع (2/944) والمسوَّدة ص (446) وتيسير التحرير (4/161) . (2) يعني: في ظهار الذمى. (3) في الأصل: (طهارته) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1527 هومثبت له. فإذا كان ثبوت الظهار لثبوت الطلاق في الأصل لم يجز أن يكون كل واحد منهما أمارة على الآخر من الأمارات الشرعية (1) . فيقول (2) صاحب الشريعة: إذا وجدتم صحة الطلاق فاحكموا بصحة الظهار، وإذا وجدتم صحة الظهار فاحكموا بصحة الطلاق، فيكون كل واحد منهما أمارة على الآخر. وقد وجد مثل ذلك؛ لأن صاحب الشريعة أمرنا إذا أعطينا الابن عطية أن نعطي الابنة، وإذا أعطينا الابنة عطية أن نعطيَ الابن أيضاً (3) ، فصارت (4) عطية كل واحد منهما أمارة على عطية الآخر.   (1) هذا أهم دليل للحنفية ومن قال بقولهم. انظر بقية الأدلة في المراجع السابقة. (2) يظهر أنه يوجد سقط قبل هذا؛ لأن الكلام الآتي هو استدلال الذين لا يقولون بفساد العلة، وليس بقية دليل الحنفية. وبمراجعة: التمهيد (4/211) والتبصرة ص (479) يتضح ذلك جلياً. والله أعلم. (3) هذا إشارة إلى مثل حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أنه أتى بابنه محمد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نَحَلتُ ابني هذا غلاماً، فقال: (أكل ولدك نحلتَ مثله؟ قال: لا، قال: فارجعه) . بهذا اللفظ أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب الهبة للولد (3/195) . وأخرجه مسلم في كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (3/1241) رقم الحديث (1623) . (4) في الاصل: (وصارت) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1528 فصل [في ترجيحات العلل] فأما ترجيحات العلل (1) فمن وجوه: أحدها: أن ترجح إحدى العلتين على الأخرى بأن تكون موافقة لكتاب الله تعالى. والثاني: بأن تكون موافقة للخبر عن رسول - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: بأن تكون موافقة لأثر عن الصحابة. والرابع: أن تكون إحداهما منصوصاً عليها والأخرى مستنبطة. والخامس: بأن تشهد لإحداهما الأصول. والسادس: بأن تكون إحداهما مطردة منعكسة، فيدل ذلك على تعليق الحكم بهذه العلة. والسابع: بأن تكون إحداهما مؤثرة في أصلها، فيوجد الحكم بوجودها ويرتفع بارتفاعها، والأخرى تؤثر في غير أصلها. الثامن: أن يكون الفرع موجوداً بإحدى العلتين في جنسه وشكله فتكون أولى. التاسع: بأن تكون إحداهما مردودة إلى ما يكثر شبهه به، مثل اللعان، يُرَد إلى اليمين، فإن شبهه بها أكثر من شبهه بالشهادة.   (1) راجع في هذا الفصل: التمهيد (4/226) والواضح (3/1180) والمسوَّدة ص (376) وشرح الكوكب المنير (4/712) وشرح اللَّمع (2/950) والتبصرة ص (481) والمعونة في الجدل ص (125) وكتاب المنهاج في ترتيب الحجاج ص (234) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1529 العاشر: بأن تكون إحداهما لا تخص الاسم المنهي عنه منه، والأخرى تخصه كتعليل أبي حنيفة تحريم التفاضل بالكيل، ويبيح تمرةً بتمرتين وبُرةً ببرتين (1) ، ونحن لا نخص الاسم، ويجرى الربا في القليل، والكثير (2) فيكون الذي لا يخصه أوْلى؛ لأن العموم يشهد لها. ويمكن أن لا يكون ذلك من الترجيح، وتكون العلة باطلة؛ لأن المطلوب علة الحكم الذي دلَّ عليه الاسم، فلا يجوز إسقاط شىء منه بالعلة. ويخالف تخصيص اسم آخر؛ لأنه إنما يخصه بخصوص الاسم الذي انتزعت العلة منه بذلك، فيكون القضاء بالعلة عليه نقضاً للاسم الخاص عليه. والحادي عشر: بأن يكون حكم إحداهما (3) سابقاً لها، وحكم الأخرى غير سابق لها، فالتي لا يسبقها حكمها أوْلى؛ لأن ذلك يدل على تأثيرها، كقولنا: بائن [236/أ] فلا نفقة لها كالمطلقة قبل الدخول (4) . وقال المخالف (5) : معتدة من طلاق، فوجب أن تكون لها النفقة كالرجعية؛ لأن النفقة سابقة للعلة في الأصل والفرع، وعلتنا غير سابقة؛ لأن العلة هي البينونة، ولم تسبق سقوط النفقة.   (1) وهو كذلك عند الحنفية. انظر: تحفة الفقهاء (2/26) . (2) هذا مذهب الحنابلة كما ذكر المؤلف. وبه قال الثوري وإسحاق وابن المنذر. انظر: المغني (6/59) طبعة هجر. (3) في الأصل: (أحدهما) . (4) عند الحنابلة البائن لا نفقة لها ولا سكنى إلا إذا كانت حاملاً. انظر: الروض المربع بحاشية العنقري (3/228) . (5) المراد بهم الحنفية، فهم يقولون بأن لها النفقة مطلقاً. انظر: حاشية ابن عابدين (3/609) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1530 الثاني عشر: أن تكون إحداهما صفة ثابتة في الحال والأخرى توجد في الثاني، كقولنا [في رهن المشاع] (1) : عين يصح بيعها فصح رهنها كالمفرد (2) . وقولهم (3) : قارَنَ العقد معنى يوجب استحقاق [رفع] (4) يده في الثاني، فهو تجوّز (5) غير موجود (6) . الثالث عشر: أن تكون إحداهما صفة محسوسة، والأخرى حكماً شرعياً، فتكون الصفة المحسوسة [أوْلى] لقوة وجودها (7) . الرابع عشر: أن تكون إحداهما إثبات صفة، والأخرى نفيها، فيكون إثبات الصفة أوْلى. الخامس عشر: أن تكون إحداهما حكماً متفقاً عليه، والأخرى حكماً مختلفاً فيه، وإن كان الخصمان قد اتفقا عليه. السادس عشر: أن تكون إحداهما مردودة إلى أصل ثابت بكتاب أو سنة متواترة أو إجماع أو نص صريح، والأخرى بخلاف ذلك، فتكون أوْلى؛ لأن الفرع يقوى بقوة الأصل.   (1) الزيادة من التمهيد (4/230) والمسوَّدة ص (382) . (2) هو كذلك عند الحنابلة. انظر: المغني (6/451) طبعة هجر، والروض المربع مع حاشية العنقري (2/162) . (3) يعني: الحنفية، فإنهم يقولون بعدم جواز رهن المشاع. انظر: تحفة الفقهاء (3/40) وحاشية ابن عابدين (6/489) . (4) الزيادة من التمهيد (4/230) والمسوَّدة ص (382) ، وهى زيادة يقتضيها المقام. (5) في الأصل (يجوز) بدون إعجام للحرفين الأولين، وقد أعجمناهما بما ترى. (6) يعني: أن علة الحنابلة متحققة الوجود، وما ذكره المخالفون غير متحققة، فيجوز أن توجد، ويجوز أن لا توجد، فكانت علة الحنابلة أولى. انظر: التمهيد الموضع السابق. (7) في الأصل: (وجوده) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1531 السابع عشر: أن تكون إحداهما مفسَّرة، والأخرى مجملة، فتكون المفسر [ة] أوْلى، كقولنا (1) : أفطر بغير مباشرة. وقول أصحاب أبي حنيفة (2) : أفطر بأعلى ما في جنسه أو بممنوع نوعه (3) . الثامن عشر: أن يكون في إحداهما احتياط للغرض فتكون أولى. التاسع عضر: أن تكون إحداهما ناقلة عن العادة والأخرى مبقية، كانت الناقلة عن العادة أوْلى؛ لأنها تفيد حكماً شرعياً. وقال بعضهم (4) : المبقية على حكم ما قبله [أولى] (5) ؛ لأن النفي أمر (6) [معتبر] عند اعتراض الشك بالبناء على ما قبله. وهذا لا يشبه ما ذكرنا؛ لأن البقاء هناك احتياط للعبادة، وأن لا يحكم   (1) يعني: قول الحنابلة فيمن أكل في رمضان: إنه لا كفارة عليه، لأنه أفطر بغير مباشرة، أشبه ما لو بَلَع حصاة. انظر: التمهيد (4/245) والمسوَّدة ص (382) . (2) يعني: أن أصحاب أبي حنيفة يقولون: إن من أكل في رمضان فعليه الكفارة. وعلل ذلك السمرقندي في تحفته (1/361) بقوله: (إنها تجب بمعقول المعنى، وهو تكفير جناية إفساد الصوم من كل وجه، وهذا المعنى موجود في الأكل والشرب؛ لأن الصوم هو الإمساك عن الأكل والجماع، فكان الإِفساد بأحدهما نظير الإفساد بالآخر، وإذا استويا في الإفساد [واستويا] في الإثم فيجب أن يستويا في وجوب (الرافع للإثم) . وانظر: حاشية ابن عابدين (2/411) . (3) في الأصل: (بمتبوع) والكلمة غير مستقيمة في التمهيد، والعبارة في المسوَّدة ص (383) : (وقول الحنفية: أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه، أو أفطر بممتنع جنسه) . (4) هم بعض الشافعية كما في اللُّمع ص (67) . (5) الزيادة من اللُّمع الموضع السابق. وهي زيادة يقتضيها المقام. (6) هكذا في الأصل: (أمر) ولكن الكلام لا يستقيم، فاجتهدنا، فزدنا كلمة (معتبر) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1532 ببراءة ذمته بالشك. والاحتياط هاهنا في الانتقال؛ لأنه يفيد حكماً شرعياً. العشرون: أن تكون إحداهما تزيد في الحكم، مثل أن توجب إحداهما، وتندب الأخرى، أو تندب إحداهما، وتبيح الأخرى، فتكون: الزائد [ة] أوْلى. وكذلك إذا كانت إحداهما تزيد في القدر. الحادي والعشرون: أن تكون إحداهما حاظرة، فتكون أوْلى. وقد بينا ذلك في ترجيح الأخبار. الثاني والعشرون: أن تكون إحداهما تستوعب معلولها، كقولنا (1) : من جرى بينهما القصاص في النفس جرى بينهما القصاص في الأطراف كالحُرَّين الرجلين، وهذا يستوعب [236/ب] جميع المعلول. وقولهم (2) : التكافؤ معتبر في الأطراف، ولا يوجد ذلك بين الرجل والمرأة لعدم التساوي في البدل. وهذا لا يعم المعلول؛ لأن العبدين لا يجري بينهما عنده، وإن تساويا في البدل (3) . الثالث والعشرون: أن تكون إحداهما من باب الأوْلى فيجب تقديمها. الرابع والعشرون: أن تكون إحداهما متعدية إلى فرع مختلف فيه، والأخرى غير متعدية، فتكون المتعدية أوْلى، ولهذا تركنا علة الأثمان في الربا؛ لأنها لا تنعقد (4) .   (1) يعني: قول الحنابلة في جريان القصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف. انظر: التمهيد (4/245) والروض المربع (3/272) . (2) يشير إلى قول الحنفية في هذه المسألة. انظر: تحفة الفقهاء (3/104) . في الأصل: (البذل) بالذال المعجمة، وقد عبر في المسوَّدة ص (385) بالقيمة. هكذا في الأصل، ولعل الصواب: (لا تتعدى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1533 الخامس والعشرون: أن يكون أصل إحداهما ما يعارضها، وهو القلب. فأما كون إحداهما أعم من الأخرى فلا تكون أوْلى. وحكي عن بعض الشافعية أن الأعم أولى (1) . ولهذا قالوا: العلة الطعم؛ لأنها أعم من الكيل، فإنها تجري فيما لا يكال. دليلنا: أن أحد العمومين إذا اشتمل على مسميات أكثر من المسميات التي اشتمل عليها العموم الآخر، لم يكن أكثرهما عددا في المسميات أوْلى بالاستعمال من أقلهما (2) عدداً، كذلك هاهنا. يبين صحة هذا: أنه ليس في كون إحداهما (3) أكثر من كون فروعها أكثر، وهذا لا يوجب ترجيحها، كما لم يوجب ذلك في العمومين. على أنهم قد ناقضوا في ذلك، فإنهم لم يجعلوا العلة في تحريم التفاضل في الذهب: الوزن، مع كونها أعم من الأثمان. وهذه الترجيحات قد كانت تستعمل في المناظرات، وقد عدل عنها في هذا الزمان إلى معانٍ وتأثيرات، وهو أوْلى؛ لأنه طريق الفقه واستخراج الأمارات الظاهرة المغلبة على الظن المميزة بين الصحيح منها وبين الفاسد. فإذا ثبت ما ذكرنا، فإن من عجز عن ترجيح دليله على ما عارضه خصمه به، أو إفساده بما يفسده فإنه منقطع.   (1) انظر: البرهان لإِمام الحرمين (2/1291) . (2) في الأصل: (أقلها) . (3) في الأصل: (أحدهما) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1534 [معنى الانقطاع] والانقطاع في المناظرة (1) هو: العَجْز عن بلوغ الغرض المطلوب بالمناظرة (2) . وذلك مأخوذ من قولهم: انقطع في السفر: إذا عجِز عن السير وبلوغ الغاية المقصودة به (3) . [انقطاع المسؤول] وانقطاع المسؤول بسبعة أشياء: أحدها: العجز عن بيان المذهب. والثاني: العجز عن بيان الدليل. والثالث: العجز عن الانفصال عن المعارضة. والرابع: بجحده مذهبَه. والخامس: بجحده ما ثبت بإجماع أو نص. والسادس: بالانتقال. والسابع: بتخليط كلامه بما لا يُفهم.   (1) راجع هذا الموضوع في: التمهيد (4/249) والواضح (2/692) والجدل ص (71) وشرح الكوكب المنير (4/378) والفقيه والمتفقه (2/57) والكافية في الجدل ص (551) . (2) وعرفه الباجي في كتابه الحدود ص (79) بقوله: (عجز أحد المتناظرين عن تصحيح قوله) . (3) قال ابن فارس في معجمه (5/101) : (قَطَع، القاف والطاء والعين أصل صحيح واحد، يدل على صرم وإبانة شىء من شىء) . وفي القاموس (3/70) .. ( ... وقطِع بزيد كعني فهو مقطوع به عجز عن سفره بأي سبب كان، أو حيل بينه وبين ما يؤمله) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1535 [انقطاع السائل] وانقطاع السائل بثمانية أشياء. [الأول] : بالعجز عن بيان السؤال. والثاني: بالعجز عن المطالبة [237/أ] بالدليل. والثالث: بالعجز عن المطالبة بتقرير الدليل. والرابع: بالعجز عن المعارضة. والخامس: بالعجز عن المنع من الترجيح. والسادس: بالانتقال عما شرَع فيه قبل إتمامه. والسابع: بجحد ما ثبت بنص أو إجماع. والثامن: بتخليط كلامه على وجه لا يُفهم (1) . مسألة لا يجوز أن يعتدل قياسان على أصل واحد مع كون أحدهما موجباً للحظر وكون الآخر موجباً للإِباحة (2) ، ولابد من وجود المزية في أحدهما. وقد   (1) ويضيف أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/250) أشياء تدل على الانقطاع، يشترك فيها السائل والمسؤول وهي جديرة بالذكر، وهي: 1- أن يسكت سكوت حيرة، من غير عذر. 2- أن يتشاغل بذكر حديث أو شعر أو نحوهما. 3- أن يغضب في غير موضع الغضب. 4- أن يقوم في غير موضع القيام. 5- أن يسفِّه خصمه. على أن أبا الخطاب قسَّم ما يدل على الانقطاع ثلاثة أقسام، قسم يختص بالسائل وقسم يختص بالمسؤول، وقسم مشترك بينهما. (2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/349) وروضة الناظر (2/463) والمسوَّدة ص (446) وشرح الكوكب المنير (4/608) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1536 تظهر تلك المزية وقد تخفى. فإذا خفيت وجب أن يجتهد في طلب ترجيح أحدهما والوقْف إلى أن يتبين ذلك. وكذلك الأخبار، لا يجوز أن يرد خبران متعارضان من جميع الوجوه، ليس مع أحدهما ترجيح يُقدَّم به. وقد قال أبو بكر الخلاَّل في كتاب العلم: "لم أجد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً متضاداً إلا وله وجهان، أحدهما إسناد جيد، والآخر إسناد ضعيف". وإلى هذا ذهب الكرخي من أصحاب أبي حنيفة (1) وأبي سفيان. وحكاه الإسفراييني عن أصحابه أيضاً (2) . وذهب الرازي إلى جواز ذلك وقال: إذا اعتدل قياسان في نفس المجتهد، وأحدهما يوجب الحظر والآخر يوجب الإباحة، فإن المجتهد يكون مخيراً في أن يحكم بأيهما شاء (3) . وبه قال قوم من المتكلمين (4) . وإليه ذهب الجرجاني أيضاً (5) ، وحَكى قول الكرخي وقال: هذا خلاف ما قاله أبو حنيفة في سؤر الحمار: إن دليل الحظر والإِباحة   (1) انظر في هذا: مسلّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/189) . (2) انظر في مذهب الشافعية: التبصرة ص (510) والمحصول (5/506) والإحكام للآمدى (4/197) طبعة مؤسسة النور بالرياض. (3) انظر كتابه الفصول ص (169) من الطبعة الباكستانية. (4) كالقاضي أبي بكر والجبَّائي وابنه والآمدي. انظر: المعتمد (2/853) والاحكام لللآمدي (4/197) طبعة مؤسسة النور بالرياض. (5) انظر رأيه في التمهيد (4/349) والمسوَّدة ص (446) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1537 تساويا، فتوقَفَ فيه (1) . دليلنا: اتفاقهم على أن الحكم في الحادثة يتبع كونها ببعض الأصول أشبه منها بغيره. وإذا كان كذلك لم يجز أن تكون الحادثة بكل واحد من الأصلين أشبه منها بالآخر. فلم (2) يجز أن يعتدل قياسان، ولابدَّ من وجود الرجحان في أحدهما. ولأن كل واحد من القياسين لو انفرد لم يوجب التخيير، كذلك إذا اجتمعا؛ لأن التخيير معنى زائد، فلا يجوز إثباته إلا بدلالة. وإذا سقط اعتبار التخيير لم يجز للمجتهد أن يقيس الفرع عليهما، ويلزمه أن يجتهد في طلب ترجيح أحدهما، والوقف إلى أن يتبين ذلك. كما لو لم يعرف في الابتداء أصلاً يقيس الفرع عليه لزمه التوقف. ولأن هذا يوجب تكافؤ الأدلة وتعارضها، وهذا خلاف موضوع الشريعة. واحتج المخالف: بأنه لا يستحيل في العقل تكافؤ (237/ب) جهات القياس بدلالة أنه قد يصح أن تتساوى جهات القبلة عند الخطأ.   (1) سؤر الحمار مشكوك فيه في ظاهر الروايهَ عند الحنفية. وروى الكرخي: أنه نجس. قال السمرقندي في تحفته (1/54) : (والسؤر المشكوك فيه لا يجوز التوضؤ به إن وجد ماء مطلقاً، وإن توضأ به جاز مع الكراهة، وإن لم يجد يتوضأ به ويتيمم؛ لأن أحدهما مطهر بيقين، وأيهما قدم أو أخر، جاز عندنا. وعند زُفَر: لا يجوز، ما لم يقدم الوضوء على التيمم حتى يصير عادماً للماء) . وانظر تفصيل هذا في حاشية ابن عابدين (1/226) . (2) في الأصل: (لم) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1538 وإذا كان ذلك جائزاً وجب أن يكون المجتهد بالخيار في حمل الفروع على أي الأصلين شاء كالمكفِّر عن يمينه، لما استوت الأشياء الثلاثة في جواز التكفير، فبأيها شاء كان له أن يكفِّر بما شاء منها. والجواب: أن [هناك] فرقاً بين القبلة وبين مسألتنا، وذلك أنه لا يجوز للمجتهد أن يعدل عن حمل الحادثة على الأصل الذي هي أشبه به منها بغيره على وجه من الوجوه، ويجوز ذلك في جهات القبلة عند المسايَفَة (1) والراحلة. وأما الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين، فإنما كان المكفر مخيراً فيها؛ لأن كلاً منها منصوص عليه على طريق التخيير، وليس بينها (2) تضاد. ألا ترى أنه يجوز ورود العبادة بوجوب التكفير بهما جميعاً، ولا يجوز ورود التعبد باعتبار الحظر والإباحة في الشىء الواحد على المكلف الواحد. واحتج: بأن القياس طريق إلى إثبات الحكم كالنص، فلما جاز ورود النص بحكمين مختلفين، كذلك القياس. والجواب: أنه لا يجوز أن يرد النص بحكمين متضادين في الشىء الواحد في الوقت الواحد على المكلف الواحد، كما قلنا في القياس فلا فرق بينهما.   (1) في الأصل: (المسابقة) بالقاف، وهو خطأ، والمراد المسايفة بالفاء كما أثبتناه. والمسايفة: المجالدة بالسيوف. (2) في الأصل: (بينهما) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1539 باب الاجتهاد مسألة المصيب واحد من المجتهدين في أصول الديانات. (1) . وقد نصَّ أحمد -رحمه الله- في مواضع على تكفير جماعة من المتأولين، كالقائلين بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وخلْق الأفعال (2) . وهذا يمنع إصابتهم في اجتهادهم. وهو قول الجماعة (3) . وحُكي عن عبيد الله العنبري (4) : أن المجتهدين من أهل القبلة مصيبون مع   (1) راجع هذه المسألة في: كتاب المعتمد في أصول الدين للمؤلف ص (273) والتمهيد (4/307) وروضة الناظر (2/414) والمسوَّدة ص (495) وشرح الكوكب (4/488) . (2) حكم المؤلف على هؤلاء في كتاب المعتمد ص (267) بأنهم خالفوا الحق. ونقل عن الإمام أحمد أنه نصَّ على تكفيرهم. وروى أبو داود في مسائله ص (262) عن الإمام أحمد أنه ذكر له أن رجلاً يقول: (إن أسماء الله مخلوقة والقرآن مخلوق؟ قال أحمد: كفر) كما نقل عنه ص (263) أنه قال: (من قال: إن الله لا يرى فهو كافر) . (3) انظر: المراجع السابقة في أول المسألة. (4) هو: عبيد الله بن الحسن العنبري البصري، قاضي البصرة، روى عن خالد الحذّاء وعبد الملك العَرْزَمي وغيرهما. وعنه معاذ بن معاذ الأنصاري وعبد الرحمن بن مهدي. خرج له مسلم حديثاً واحداً في الجنائز. وثقه النسائي وابن سعد. وقال الذهبي: (صدوق مقبول، لكن تكلم في معتقده ببدعة) . وقال ابن حجر: (ثقة فقيه، عابوا عليه مسألة تكافؤ الأدلة) . ولد سنة (100) ومات سنة (168) . له ترجمة في: تاريخ بغداد (10/306) وتقريب التهذيب (1/531) وميزان الاعتدال (3/5) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1540 اختلافهم (1) . وهذا غلط؛ لأن إباحة الاجتهاد تجوز فيما جوَّزنا ورود الشرع، وغير جائز أن يرد الشرع بالأمرين المتضادين في صفات الباري سبحانه، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فإنه لا يجوز أن يكون يراد لا يراد، خالق لأفعال العباد غير خالق، والنبي صادق وليس بصادق. ولا يشبه هذا أحكام الفروع؛ لأن قد كان يرد بإباحة عين في حق واحد، وحظْرها في حق آخر، في حالٍ واحدة. كالحائض [238/أ] يحل لها الأكل في رمضان، ولا تجب عليها الصلاة. والطاهر لا يحل لها الأكل في رمضان، وتجب عليها الصلاة فجاز أن يكون كل مجتهدٍ مصيباً. [الحق في أحكام الفروع] فأما أحكام الفروع: فالحق فيها في واحدٍ عند الله تعالى (2) . وقد نصَب الله على ذلك دليلاً إما غامضاً أو جلياً، وكلف المجتهد طلبته وإصابته بذلك الدليل. فإذا اجتهد وأصابه كان مصيباً عند الله تعالى وفي الحكم، وله أجران: أحدهما على إصابته. والآخر على اجتهاده.   (1) نقل هذا القول عنه كثيرون. انظر: تاريخ بغداد الموضع السابق، والمعتمد للمؤلف والتمهيد، والروضة (2/418) والمسوَّدة، وتهذيب التهذيب (7/8) ، والمعتمد (2/988) . ولكن ذكر ابن حجر في كتابه: تهذيب التهذيب الموضع السابق: أن محمد بن إسماعيل الأزدى نقل في ثقاته: أنه رجع عن هذه المسألة لما بُيِّن له الصواب. (2) انظر: المراجع السابقة في أول المسألة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1541 وإن أخطأ كان مخطئاً عند الله تعالى وفي الحكم، وله أجر على اجتهاده، والخطأ موضوع عنه. والحكم بالاصابة والخطأ من طريق غلبة الظن، لا من طريق القطع. نص على هذا -رحمه الله- في رواية بكر بن محمد عن أبيه، فقال: "إذا اختلفت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ رجل بأحد الحديثين، وأخذ آخر بحديث آخر ضده، فالحق عند الله في واحد، وعلى الرجل أن يجتهد، ولا يقول لمخالفه: إنه مخطىء" (1) . فقد نصَّ على أن الحق في واحدٍ عند الله. وقوله: "لا يقول لمخالفه إنه مخطىء". يريد به: لا يقطع على خطئه؛ لأن الله تعالى ما نصب دليلاً قاطعاً، وإنما نصب دليلاً خفياً، أو ما هو أمارة على الحكم. والذى يدل على أنه أراد بذلك ما قلنا: أنه قال بعد ذلك في رواية بكر: "وإذا اختلف أصحاب محمد (2) ، فأخذ رجل بقول بعضهم، وأخذ آخر عن   (1) انظر هذه الرواية في كتاب: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف ص (75) والتمهيد (4/310) والمسوَّدة ص (498) . (2) في الأصل: (أصحاب عمل) وهو خطأ، والتصويب من كتاب المسائل الأصولية من كتاب الروايات والوجهين للمؤلف ص (76) . وهو كذلك في المسوَّدة ص (498) . وفى التمهيد (4/310) : (إذا اختلفت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ رجل بأحد الحديثين، وأخذ آخر بحديث آخر ضده، فالحق عند الله في واحد) . ومعنى النقلين يختلف، فما ذكره المؤلف واضح فيما إذا اختلف الصحابة على قولين أو أكثر، فالحق في واحد منها. وما ذكره أبو الخطاب في التمهيد يعني ما اختلف النقل فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن نقل أحدهم حديثاً، ونقل الآخر حديثاً ضده فالحق في واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1542 رجل منهم، فالحق في واحدٍ، وعلى الرجل أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ. وكذلك قال عمر: (والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأ) . فقد نصّ على أنه يجوز الخطأ على المجتهد. وكذلك قال في رواية أبي طالب فيمن يقول: لا شفعة إذا لم يكن طريقهما واحداً، "إذا قدموه إلى هؤلاء، وحلف ماله شفعة، إنما هذا اختيار، وقد اختلف الناس فيها" (1) . وقال في رواية بكر بن محمد -في حاكم حكَم في المفلس أنه أسوة الغرماء-: "رد حكمه" (2) . وإنما قال هذا؛ لأنه يعتقد أنه خالف النص في ذلك، لا أنه يقطع على إصابة المجتهد وخطئه. وقد علَّق القول في رواية أبي داود فيمن صلى خلف من لا يرى الوضوء من مسِّ الذكر، وقد علم أنه قد مس: "يصلى خلفه" (3) .   (1) هذه الرواية نقلها عبد الله عن أبيه في مسائله (3/960) رقم (1304) ولفظه: (سألت أبي عن رجل لا يرى الشفعة إلا لشريك، ترى أن يحلف يحنث؟ قال لا يعجبني أن يحلف على أمر قد اختلف الناس فيه) . وقال ابن قدامة في المغني (5/287) : (وقال في رواية أبي طالب وعبد الله ومثنى فيمن لا يرى الشفعة بالجوار، وقدم إلى الحاكم فأنكر، لم يحلف، إنما هو اختيار، وقد اختلف الناس فيه) . ثم نقل عن المؤلف قوله: (إنما هذا لأن يمين المنكر هاهنا على القطع والبت، ومسائل الاجتهاد مظنونة، فلا يقطع ببطلان مذهب المخالف، ويجوز للمشترى الامتناع به من تسليم المبيع بينه وبين الله تعالى) . وانظر: الإِنصاف للمرداوي (6/255) . (2) قال ابن قدامة في كتابه الكافي (2/174) : (فقال أحمد - رضي الله عنه - ينقصْ حكمه؛ لأنه يخالف صريح السنة، ويحتمل أن لا ينقض؛ لأنه مختلف فيه) . وراجع: المغني (4/409) والإنصاف (5/286) . (3) انظر هذه الرواية في مسائل الإِمام أحمد رواية أبي داود ص (12) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1543 وكذلك نقل الأثرم عنه فيمن صلى خلف من احتجم ولم يتوضأ: "فإن كان ممن يتدين بهذا وأنه لا وضوء فيه لا يعيد، وإن كان يعلم أنه لا يجوز فيعمدُ يعيد" (1) . وكذلك نقل الأثرم وإبراهيم بن الحارث فيمن صلى خلف من عليه جلود الثعالب، فإن تأول: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) [238/ب] "يصلى خلفه". قيل له: أفتراه جائزاً؟ قال: "لا، ولكن إذا كان يتأول فلا بأس أن يصلى خلفه". قيل له: كيف وهو مخطىء في تأويله؟! فقال: "وإن كان مخطئاً في تأويله ليس هو كمن لم يتأول". ثم قال: "من يرى الوضوء من الدم فلا يصلِّ خلف سعيد بن المسيب ومالك، ومن سَهَّل في الدم [قال] بل يصلى (2) ". وكذلك نقل ابن مُشيْش عنه في جلود الثعالب. وهذا لا يخالف ما رواه بكر بن محمد عنه.   (1) هذه الرواية المشهورة والمنصوص عليها. وهناك رواية أخرى ذكرها ابن قدامة منسوبة إلى المؤلف: (أنه لا يصح ائتمامه به؛ لأنه يرتكب ما يعتقده المأموم مفسداً للصلاة،.. كما لو خالفه في القبلة حال الاجتهاد فيها) انظر: المغني (3/23-24) طبعة هجر. (2) هذه الرواية ذكرها ابن قدامة في كتابه المغني الموضع السابق عن الأثرم مع بعض الاختلاف في الألفاظ. ومن الاختلافات الجوهرية أنه جاء في المغني: (نحن نرى الوضوء من الدم، فلا نصلى خلف سعيد بن المسيب ومالك، ومن سهَّل في الدم، أي: بلى) . بدلاً من قول المؤلف هنا: (من يرى الوضوء من الدم..) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1544 وإنما أجاز الصلاة خلف المتأولين؛ لأنه لم يقطع على خطئهم، ولا يقطع على أن الحق في جهته، وإنما يحكم بالخطأ والصواب من طريق غلبة الظن. وهذا فصل يجىء الكلام فيه في أثناء المسألة. ويحتمل أن يكون أجاز صلاتهم؛ لأن المأموم (1) معذور فيما جهل حالة الإمام فيه، ولهذا قلنا: إذا صلى بهم محدِثاً صحت صلاتهم (2) . ويحتمل وجهاً آخر وهو: أنه أجاز صلاتهم؛ لأن طريق هذه المسائل خفية، يعذر الجاهل فيها. ولهذا أجاز الصلاة خلف المبتدع إذا كان عامياً، ولم يجزها خلف العالِم (3) ؛ لأن طريق هذه المسائل خفية، فأجازه لذلك، لا لأن الحق مع كل واحدٍ. يبيِّن هذا ما قاله في رواية محمد بن أحمد بن واصل (4) ومهنّا "لا يصلى   (1) في الأصل: (المأمور) وهو خطأ. (2) هذا إذا لم يعلم بالحَدَث لا هو ولا المأمون حتى فرغوا من الصلاة، فصلاة المأمومين والحالة هذه صحيحة، وصلاة الإمام باطلة. هذا هو مذهب الحنابلة. وهناك رأي آخر لبعض العلماء: أنه تلزمهم الإعادة إماماً ومأمومين. انظر: المغني (2/504) طبعة هجر. (3) جاء في مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانىء (1/61) أنه سأل الإمام أحمد عمن قال: الإِيمان قول، يصلى خلفه؟ قال: (إذا كان داعية إليه لا يصلي خلفه، وإذا كان لا علم لديه أرجو أن لا يكون به بأس) . انظر: المغني (3/17) طبعهَ هجر. (4) أبو العباس المصري. روى عن أبيه والإمام أحمد وغيرهما. وعنه أبو مزاحم الخاقاني وأبو الحسن بن شنبوذ وغيرهما. مات سنة (273) هـ. له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/263) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1545 خلف من يقول: (الماء من الماء) " (1) . وكذلك نقل جعفر بن محمد عنه في إمام صلى ولم يقرأ فاتحة الكتاب: "يعيدُ الصلاة" (2) . "وكذلك إذا لم يقرأ في الركعتين الأخيرتين" (3) . وكذلك قال في القبلة: "إذا اجتهد نفسان في طلبها، واختلف اجتهادهما لم يَتْبَع أحدُهما الآخر في الصلاة" (4) . وكذلك قال في رواية أبي داود فيمن كان يتديَّن بحديث عُقْبة بن عامر في المسح أكثر من ثلاثة أيام (5) ثم ترك؟ "يعيدُ ما كان صلى وقد مسح أكثر   (1) سبق تخريج هذا الحديث. أما هذه الرواية عن الإمام أحمد فلم أقف عليها. وإنما رأيت في المغني (1/271) أن داود الظاهري حُكي عنه أنه قال: لا يجب الغسل، استدلالاً بهذا الحديث. ومعروف أن الحديث منسوخ بحديث: (إذا جلس بين شعبها الأربع، ومسّ الختان الختان فقد وجب الغسل) متفق عليه. (2) في مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانىء (1/51) قال: (سمعت أبا عبد الله يقول: لاتجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) . وفي مسائل الإِمام رواية أبي داود ص (32) قال: (سمعت أحمد سئل عمن صلى فقرأ، ولم يقرأ بفاتحة الكتاب؟ قال: لا تجزئه صلاته) . (3) وهو كذلك في مسائل الإِمام أحمد لابن هانىء (1/52) . (4) هذا هو الصحيح من المذهب. وقال بعض الأصحاب: يجوز الاقتداء. انظر: المغني (2/108) طبعة هجر والإِنصاف (2/14) . (5) هذا الأثر عن عقبة بن عامر الجهني أخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الطهارة، باب: ما ورد في ترك التوقيت (1/380) ولفظه: (قال يعني عقبة، خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب فقال: = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1546 من ثلاث؛ أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى (1) من قول عُقبَة بن عامر" (2) . وهذا كله يدل على أن الحق في أحدهما، والآخر مخطىء لا يُتْبَع في اجتهاده. وبهذا قال أكثر أصحاب الشافعي (3) . ومنهم من قال -وهو القاضي أبو الطيب الطبري- إنني أعلمُ بإصابتنا   = متى أولجت خفيك في رحليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: فهل نزعتهما؟ قلت: لا قال: أصبت السنة) . أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطهارة، باب: من كان لا يوقت في المسح شيئاً (1/185) . (1) هذه إشارة لمثل حديث شريح بن هانىء قال أتيت عائشة -أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسَلْهُ، فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين (1/232) . (2) هذه الرواية موجودة بنصها -مع اختلاف يسير- في مسائل الإِمام أحمد رواية أبي داود ص (10) . (3) وهو كذلك. قال إمام الحرمين في البرهان (2/1319) : (هو المشهور من مذهب الشافعي) . وقال الشيرازي -في شرح اللُّمع (2/1046) -: (هذا هو المنصوص عليه للشافعي في القديم والجديد، وليس له قول سواه) . ثم شَنَّع على قوم من المتأخرين نسبوا إليه القول: "أن كل مجتهد مصيب". وما أنكره الشيرازي نقله القاضي عن الإِمام الشافعي وقال: (لولا أن مذهبه هذا، وإلا ما عددته من الأصولية) . انظر: البرهان: الموضع السابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1547 للحق، وأقطعُ بخطأ من يخالفنا، وأمنعُه من الحكم باجتهاده غير أنني لا أنقضه (1) . وحُكي مثل مذهبنا عن بِشْر المَرِّيسي والأصمِّ وابن عُلَيَّة (2) . وقال أبو الحسن الكرخي -فيما حكاه أبو سفيان السرخسي عنه-: مذهب أصحابنا جميعاً: أن كل مجتهد مصيب لما كُلِّف من حكم الله تعالى، والحق في واحدٍ من أقاويل المجتهدين (3) .   (1) هكذا في الأصل، والصواب: (لا أفسقه) ؛ لأن المراجع الآتية ذكرت أنه يقول بالنقض، دون التفسيق والإثم. انظر رأيه في: التمهيد (4/312) والمسوَّدة ص (497) . (2) ذكر أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/949) مذهبهم بأوضح مما هنا، حيث قال في تحرير مذهبهم: (إن المحق من المجتهدين واحد، ومن عداه مخطىء في اجتهاده، وفيما أداه إليه اجتهاده. وقالوا: إن على الحق دليلاً يعلم به المستدل أنه قد وصل إلى الحق، ويجب نقض الحكم بما خالف الحق) . وانظر في مذهبهم أيضاً: التمهيد (4/312) والمستصفى (2/361) والمسوَّدة ص (497) والوصول إلى الأصول لابن برهان (2/342) . (3) ذكر السمرقندي في كتابه الميزان ص (753) من الحنفية نقلين: الأول: أن الحق عند الله واحد، وقد كلف المجتهدين إصابة الحق، فإن أصابوا فذاك، وان لم يصيبوا فقد اخطئوا في الاجتهاد، وفيما أدى إليه الاجتهاد. والثاني: أنه مصيب في اجتهاده، ولكنه قد يخطىء فيما أدى إليه اجتهاده، بأن يكون الحق عند الله تعالى بخلافه. قلت: وسبب الاختلاف هنا: ما نقل من الإِمام أبي حنيفة أنه قال ليوسف بن خالد السمتي: (كل مجتهد مصيب، والحق عند الله واحد) . ثم علَّق البخاري في كتابه كشف الأسرار (4/1139) بقوله: (فبيَّن أن الذي أخطأ ما عند الله مصيب في حق عمله) . انظر أيضاً: تيسير التحرير (4/202) وفواتح الرحموت (2/381) وكشف = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1548 قال: ومعنى ذلك أن الأشبه واحد عند الله تعالى إلا أن المجتهد لم يكلف [239/أ] إصابته. قال: وهكذا حُكي عن عيسى بن أبان أن كان يقول: لابد من مطلوب هو أشبه الأشياء بالحادثة، إلا أن المجتهد لم يُكلََّف إصابته، وإنما يبعد أن يحكم فيها بحكم الأصل الذي هو أشبه به في غالب ظن المجتهد. ونحو هذا حكى أبو عبد الله الجرجاني، وفسّر الأشبه بأنه شبَه الحادثة ببعض الأصول أقرب عند الله تعالى، وأنه لو أنْزِل ذلك الحكم لكان ينزله بأحد الوجهين. وذهبت المعتزلة: إلى أن كل مجتهد مصيب (1) . واختلفوا: هل هناك أشبه مطلوب أم لا؟. فمنهم من قال: هذا أشبه مطلوب، إلا أنه لم يُكلف إصابته، كما قال أصحاب أبي حنيفة. ومنهم من قال: ليس هناك أشبه، ولا عند الله في الحادثة حكم، وإن فَرْض كل واحد ما يغلب على ظنه، وأدى إليه اجتهاده (2) . حُكي ذلك عن أبي هاشم (3) . واختلفت الأشعرية فقال الأكثر منهم مثل قول [ابن فُورك و] (4) أبي إسحاق الإِسفراييني   = الأسرار للنسفي (2/303) . (1) انظر: المعتمد (2/949) . (2) انظر: المصدر السابق (2/982) فإنه عقد باباً للقول في الأشْبَه. (3) انظر رأيه في: التبصرة ص (499) والتمهيد (4/313) . (4) الزيادة من المسوَّدة ص (497) ، وهي ساقطة من الأصل بدلالة قوله بعد ذلك: (وغيرهما) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1549 وغيرهما: مثل قولنا (1) . وقال أبو بكر بن الباقلاني: لأبي الحسن الأشعري في ذلك قولان (2) . واختار (3) أن كل مجتهد مصيب، وأن فَرْض كل واحدٍ ما يغلب على ظنه، ويؤديه إليه اجتهاده. وليس هناك أشبه مطلوب (4) . والكلام في فصول أحدهما: الدلالة على أن الحق في واحدٍ من القولين. ودليله: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والاستدلال. [الدليل من الكتاب] : أما الكتاب فقوله تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذ يحكمانِ في الحرثِ) إلى قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًءَاتَيْنَا حُكْمَاً وعِلْمَاً) (5) . فموضع الاستدلال أن داود قضى باجتهاده، وسليمان قضى باجتهاده؛ لأن لو كان هناك نص ما اختلفا في الحكم.   (1) انظر رأيهما في: التبصرة ص (498) وشرح اللُّمع (2/1048) : البرهان (2/1319) والمسوَّدة ص (497) . وقد شدَّد أبو إسحاق الإِسفراييني النكير على من يقول بتصويب المجتهدين حيث قال -فيما نقله عنه إمام الحرمين في كتابه البرهان الموضع السابق-: (هذا مذهب أوله سَفْسَطَة، وآخره زندقة) . (2) هكذا نقل الشيرازي في شرح اللُّمع الموضع السابق. ثم علَّق على ذلك بقوله: ( ... يقال: إن هذه بقية اعتزال بقي في أبي الحسن -رحمه الله-) . (3) المراد: أبو بكر الباقلاني. (4) انظر رأيه في: شرح اللُّمع والبرهان والتمهيد والمسوَّدة، المواضع السابقة. (5) الآيتان (78-79) من سورة الأنبياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1550 فأخبر الله تعالى أنه فهَّم الحكم لسليمان. فثبت أنه كان أصاب في الحكم، وداود لم يصب. وعلى قولهم، هما جميعاً (1) ، مصيبان (2) . فإن قيل: قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) لا يدل على أنه لم يُفَهِّم داود؛ لأن تخصيص الشىء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه. ومن قوله تعالى: (وَلَقَدْءَاتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً) (3) ولم يدل على نفي العلم عن غيرهما من الأنبياء. وكذلك قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (4) لا يدل على أنه لم يرض عن غيرهم من المؤمنين الذين لم يبايعوه تحت الشجرة قيل له: تخصيص الشىء بالذكر يدل على نفي ما عداه. وهذا أصل قد سبق الكلام فيه (5) . فإن قيل: قد رُوِيَ أنهما كانا حكما في الحرث بالنص، ثم نسخ الله تعالى   (1) في الأصل: (جميعان) ، والنون زائدة. (2) قصة الحكم في هذه القضية -كما يحكيها ابن كثير في تفسيره (3/186) عن ابن عباس-: (أن داود قضى بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرُّعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال: لو وُلِّيتُ أمركم لقضيت بغير هذا، فأخْبِرَ بذلك داود، فدعاه، فقال: كيف تقضى بينهم؟ قال: أدفعُ الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه، أخذه أصحاب الحرث، وردوا الغنم إلى أصحابها) . وانظر: تفسير ابن جرير الطبري (7/52) . (3) آية (15) من سورة النمل. (4) آية (18) من سورة الفتح. (5) انظر: (2/448) من هذا الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1551 الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل على لسان سليمان، فيحتمل أنه فهَّمه الناسخ، ولم يُفَهَّم ذلك داود (1) . قيل: قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) يقتضي: في تلك الحكومة. وعندهم أنه لم يخص سليمان بالفهم في تلك الحكومة. فإن قيل: فقد رُويَ أنهما كانا قد حكما من طريق الاجتهاد (2) ، إلا أن سليمان -على نبينا وعليه السلام- قد أصاب حقيقة الأشبَه المطلوب عند الله، وداود لم يصب ذلك، فلم يخرجا بذلك من كونهما مصيبين الحق. قيل: جماعة مَن خالفنا في هذه المسألة لا تقول: إن هناك أشبه، وإنما فرضه الاجتهاد وحْدَه. فلا يصح هذا التأويل منه. ومن قال: إن هناك أشبَه قال: بأنه لم يكلفه، وإذا لم يكلفه يجب أن لا يؤثر وجوده وعدمه في حق أحدهما. وعلى أنه لولا أنه يجب طلب الأشبَه لم يمدح سليمان بفهمه. وعلى أنه الآية وردت في القضية في الحكم، ولم ترد في طلب الأشبَه، فوجب أن يكون سليمان مخصوصاً بإصابة الحكم. وجواب آخر وهو أنه رُوي في الحديث: أن سليمان نقضَ حكمَه. ولو كان داود مصيباً لم ينقض سليمان حكمه (3) .   (1) ذكر ذلك الجصاص في كتابه أحكام القرآن (5/55) عند تفسيره للآية المذكورة. وانظر: إحكام الفصول للباجى ص (709) . (2) انظر: المصدرين السابقين. (3) اختلف الناس في هذا: 1- فقيل: إن داود حكم، ثم نُقِض حكمه بحكم سليمان. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1552 فإن قيل: فقد قال تعالى: (وَكُلاًءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) ، وهذا يدل على أنهما جميعاً كانا مصيبين. قيل: لم يرد أنهما أوتيا الحكم والعلم في هذه المسألة؛ لأنه لو كان كذلك لما خص بالفهم أحدهما، وإنما أراد أنهما أوتيا ذلك في الجملة. فإن قيل: يجوز أن يكون في المسألة نصٌ خفي، وقف عليه سليمان ولم يقف عليه داود. قيل: لو كان هناك نص لما جاز الحكم بالاجتهاد. على أن من مذهبهم: أنه إذا كان هناك نص خفي فحكم به حاكم باجتهاده، لم يكن مخطئاً في حكمه. فإن قيل: كيف يجوز الخطأ على الأنبياء؟!. قيل: يجوز عليهم، كما يجوز على غيرهم. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أنَسَّى لأسُنَّ) . وإنما الفرق بيننا وبينهم أنهم لا يقرون على الخطأ، ونحن نقرُّ عليه.   = 2- وقيل: إن داود لم يكن قد أبرم الحكم في هذه القضية، فلما سمع ما قاله سليمان رجع إليه. 3- أو أن داود قال ذلك على سبيل الفتيا، لا على سبيل الحكم. 4- أو أن القضية معلقة بشريطة لم تُفْصَّل بعد، فأوحى الله بالحكم الذي حكم به سليمان فكان ناسخاً لما أراد داود ان ينفذه. انظر: أحكام القرآن للجصاص (5/55) . والظاهر من الآثار أن داود حكم في القضية، ثم نَقَض حكمه بما سمعه من سليمان. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1553 [الدليل من السنة] : وأيضاً: ما روى أبو هريرة وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وغير [هم] عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[240/أ] أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر) . وهذا يدل على أن المجتهدين بين الإِصابة والخطأ. فإن قيل: هذا خبر واحد. قيل: وإن كان خبر واحد فقد تلقته الأمة بالقبول، وأجمعوا على صحته وتأويله، فصار بمنزلة المتواتر، فوجب المصير إليه. فإن قيل: معناه: إذا أصاب الأشبَه المطلوب، فله أجران، وإن أخطأ الأشبَه كان له أجر واحد. قيل: عندك لم يكلف طلب الأشبَه ولا إصابته، وإنما فرضُه ما يغلب على ظنه. وإذا كان الأشبَه وغيره واحداً لم يختلفا في الثواب والأجر. فإن قيل: أراد بالإِصابة: إصابة النص أو الإِجماع، وبالخطأ: خطأ النص أو الإِجماع. قيل: هذا عام بما فيه نص أو إجماع وغيره، فوجب أن يحمل على عمومه. على أن استحقاق الأجر لا يختص بإصابة النص والإِجماع، بل ما فيه النص والإِجماع، ومالا نص فيه ولا إجماع في الأجر والثواب سواء. وعلى أنه لو وجب حمل الخبر على هذا لوجب تفسيق من خالفه وتأثيمه. ولمَّا حكم له النبي بأجر، لم يصح حملُه على ما قالوه. وقد قيل في جوابه: إن المجتهد إذا استقصى في طلب النص فلم يجد، فهو مصيب عندكم؛ لأنه لا يلزمه أن يحكم بما لم يبلغه. ولا يُسمى من لم يبلغه النص مخطئاً، كما لا يُسمى من لم تبلغه شريعة النبي أنه مخطىء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1554 فإن قيل: كيف يستحق الأجر وقد أخطأ في الحكم وفي الاجتهاد؟ قيل: هو مصيب فيما فعله من الاجتهاد مخطيء في تركه للزيادة على ما فعله، فهو مأجور على ما فعله، مغفور له ترك ما ترك من الاجتهاد. فإن قيل: فقد أغْرِيَ إذاً بالترك؛ لأنه قد علم أنه لا مضرة عليه في الفعل. قيل: ليس هذا بإغراء؛ ألا ترى أنه من بشره النبي بالجنة لا يحس ضرر النار فيما يفعله؛ لأنه علم أن إما أن يسقط عنه العقاب بالتوبة، وإما بالمغفرة، ومع ذلك ليس مغرى. وعلى أن المجتهد لا يكون مغرى؛ لأنه لا يعرف المرتبة التي إذا انتهى إليها من النظر غفر له تركه النظر فيما بعد. إنما ذلك شيء يعرفه الله تعالى وحده، فجرى ذلك مجرى صغائرنا التي لا يعرفها إلا الله وحده. وأيضاً: ما رُوِيَ أن -النبي عليه السلام- كان إذا بعث جيشاً قال لهم: (إذا حاصرتم [240/ب] أهل حصنِ أو مدينة فأرادوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تنزلوهم على حكم الله تعالى، فإنكم لا تدرون ما حكم الله فيهم) (1) . وهذا ينفي أن يكون حكم الله تعالى في الحادثة ما يُؤدي إليه اجتهاد المجتهد. فإن قيل: يجوز أن يكون قال لهم: لا تنزلوهم على حكم الله؛ لأنكم لا تأمنون ورود النسخ على الحكم الثابت. [قيل: هذا] لا يمنع وجوب العمل به قبل العلم بالنسخ.   (1) هذا جزء من حديث طويل يرويه بُرَيْدَة - رضي الله عنه - مرفوعاً، وقد سبق تخريجه عندما أورده المؤلف بلفظ: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على سرية أمره بتقوى الله..) الحديث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1555 ألا ترى أنه لا جائز أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم: لا تصلوا ولا تصوموا؛ لأنكم لا تأمنون أن يكون قد يصح ورودُ نسخ ذلك من الله تعالى. [الاستدلال بالإِجماع] وأيضاً: فإن المسألة إجماع الصحابة. فإنه قد ظهر منهم اختلاف في مسائل خطَّأ بعضُهم بعضاً فيها، وأنكر بعضهم على بعض. فلو كان كل مجتهدٍ في ذلك مصيباً لم يخطِّىء بعضهم بعضاً. بل كان يقول بعضُهم لبعض: أنا مصيب وأنت مصيب. فمن ذلك ما رُويَ عن عمر أنه أرسل إلى امرأة فأفْزَعَها ذلك، فأجْهَضَت. فاستشار الصحابة، فقالوا: (لاشىء عليك، إنما أنت مؤدِّب) . وكان عليٌّ: في القوم ساكتاً، فقال عمر: (عزمت عليك يا أبا الحسن لتخبرنِّي، فقال علي إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطؤوا، وإن كانوا قاربوك (1) فقد غشوك. أراك قد ضمنت الدية. فقِبلَ قوله) . فقد أطلق اسم الخطأ عليهم، وإن كانوا مجتهدين. وقال عمر في قضية قضى بها: (لا أدري أصبت أم أخطأت، ولكن لم آل عن الحق) . وقال ابن عباس: (من شاء باهَلْتُه، أن الفرائض لا تعول) .   (1) قارَبَه: ناغاه بكلام حسن. انظر: القاموس (1/115) مادة (قرب) . والكلمة هذه ثابتة في: إحكام الفصول للباجي ص (712) وقد سبق تخريج الأثر. والذي في المصنف لعبد الرزاق (7/459) : (وإن كان قالوا في هواك فلم ينصحوا لك) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1556 وقال: (ألا يتقى الله زيد: يجعل ابن الابن بمنزلة الابن، ولا يجعل أبا الأب بمنزلة الأب) . وقال: (من شاء باهَلْتُه عند الحجر الأسود أن الجَد أب) (1) . وقال ابن مسعود: (من شاء باهَلْتُه أن سورة النساء القصرى (2) نزلت بعد قوله تعالى: (أربَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً) (3) . وقالت عائشة: (أبلغي زيد بن أرقم أن الله أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب) . فإن قيل: يحمل قول علي: (أخطؤوا) (4) حقيقة الأشبَه المطلوب.   (1) هذا جزء من أثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بلفظ: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل الابن ابناً..) . (2) في الأصل: (القصوى) وهو تصحيف. (3) آية (234) من سورة البقرة. وهذا الأثر أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب: (وَأولاَتُ الأحْمَالِ أجَلُهُنَّ أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (6/194) ولفظ ابن مسعود فيه: (أتجعلوا عليها التغليظ، ولا تجعلون عليها الرخصة؟! لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: (وَأولاَتُ الأحمَالِ أجَلُهُنَّ أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) . وأخرج أبو داود في كتاب الطلاق، باب: في عدة الحامل (2/730) طبعة الدعاس، ولفظه: (من شاء لاعنته، لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشراً) . وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفي عنها زوجها (6/163) ولفظه: (من شاء لاعنته، ما أنزلت..) . وأخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب: الحامل المتوفي عنها زوجها (2/654) ولفظه: (والله لمن شاء لاعنَّاه..) . (4) في الأصل: (أخطى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1557 وكذلك قول ابن عباس: (من شاء باهلته) ثقة من نفسه أنه أصاب الأشبه. قيل: قد أجبنا عن هذا وقلنا: إن عندك لم يكلف طلب الأشبَه ولا إصابته، وإنما فَرْضُه ما يغلب على ظنه، فحكمه وحكم غيره سواء. ولا يجوز حمل ذلك على أنه كان هناك نص؛ لأن القوم صرحوا بالرجوع إلى الرأي. فقال علي: (إن اجتهدوا فقد أخطؤوا) . وكذلك [241/أ] ابن عباس (ألا يتقى الله زيد يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أبا الأب أباً) . وهذا رجوع إلى الرأي. فإن قيل: لا يجوز أن يكون عدولُه عما ثوابه أكثر إلى شىء ثوابه أقل من الشيطان. وقد أضافت الصحابة الخطأ في ذلك إلى الشيطان. وأيضاً فإنهم إذا اختلفوا على قولين متضادين مثل تحريم وتحليل، وتصحيح وإفساد، وإيجاب واسقاط، فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يكونا صحيحين، أو فاسدين، أو أحدهما صحيحاً والآخر فاسداً. ولا يجوز أن يكونا فاسدين؛ لأنه يؤدي إلى إجماع الأمة على خطأ فاسد، وهذا لا يقوله أحد. ولا يجوز أن يكونا صحيحين؛ لأنه لا يجوز أن يكون الشىء الواحد حراماً حلالاً، واجباً غير واجب، وصحيحاً باطلاً. ولهذا قلنا في الفرُوج، وهو إذا تزوج حنبلي امرأة من وليها، بعد أن تزوجها حنفي بغير ولي، فالحنبلي يقول: الأول باطل ونكاحي صحيح، وهي حلال لي دونه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1558 والحنفي يقول: نكاحي صحيح، والثاني باطل. فلو كان كل مجتهد مصيباً كانت حلالاً لكل واحد منهما. وهذا لا يجوز بالإِجماع. فإذا بطل هذان القسمان، ثبت أن أحدهما صحيح والآخر فاسد. فإن قيل: إنما لم يصح استباحتها لشخصين؛ لأن الإِجماع دال على أنه لا يجوز الجمع بينهما. قيل: الإِجماع يحصل على أن أحدهما مباح والآخر حرام. فإن قيل: المجتهدان (1) إذا أفتى أحدهما بحظر الوطء، والآخر بإباحته، وتساوى فتواهما عند المستفتي، فإن المستفتي يكون مخيراً في الأخذ بأي القولين شاء. فإذا اختار الأخذ بأحدهما تعَيّن (2) عليه الحكم الذي اختاره من حظر أو إباحة، فلا يكون قد اجتمع الحظر والإِباحة في الوطء الواحد. كما يقول في المكفر عن يمين: هو مخيرَّ بين الأشياء الثلاثة، فإذا اختار أحدها (3) تعَيّن (4) عليه ما اختاره. قيل: لو كان هذا يجري مجرى الكفارة لجاز لأحد المجتهدين أن يقول له أنت مخيَّر بين الحظر والإِباحة، كما يقول له: أنت مخيَّر بين العتق والإِطعام. فإن قيل: الحكم بصحتها لا يؤدي إلى التضاد في حق شخص (5) ، إنما   (1) في الأصل: (المجتهدين) . (2) في الأصل: (تغير) . (3) في الأصل: (أحدهما) . (4) في الأصل (تغير) . (5) يعني باعتبارات مختلفة وبأحوال متعددة، فالشخص الواحد يكون مقيماً ويكون مسافراً، والمرأة تكون طاهراً وتكون حائضاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1559 يؤدي إلى ذلك في حق شخصِ واحدٍ في وقت واحدٍ، فأما على شخصين أو فريقين فلا يستحيل، كما ورد الشرع بإيجاب الصلاة على الطاهر، وأسقطها عن الحائض. ووجوب الإِتمام على المقيم، والرخصة في القصر (1) للمسافر. قيل: [241/ب] الأدلة إذا كانت عامة لم يجز أن يكون مدلولها خاصاً، والدلالة على كل واحدٍ منهما عامة في الجميع؛ فلا يجوز أن يكون حكمها خاصاً. وإذا كانت عامة ثبت التضاد ولم يجز أن يكون الجميع صحيحاً (2) . فإن قيل: الأمارة على الحكم خاصة وليست بعامة؛ لأن الأمارة على الحكم ظن المجتهد، وذلك يخصه، فكان الحكم خاصاً فيه. يدل على ذلك: أن الأمارات التي فيها متكافئة ليس بعضها أقوى من بعض فلا طريق أولى من طريق. قيل [طريق] الاحكام هو الكتاب والسنة، دون الظن، وذلك عام. يدل على صحة هذا قوله: (فَإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى الله وَالرَّسُولِ) (3) والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله دون الظن. فإن قيل: فالقياس طريق الأحكام، وهو ظن القياس. قيل: القياس يرجع إليهما؛ لأن القياس يقع على ما ثبت بالكتاب والسنة، ويتعدى الحكم من الأصل الثابت بالكتاب والسنة (4) . وجواب آخر وهو: أن المجتهد يرجع إلى أدلة من الكتاب والسنة والقياس. وقوله: "إن الأمارة هي الظن" مخالف لإجماع الأمة (5)   (1) في الأصل: (والقصر) . (2) انظر في هذا: شرح اللُّمع (2/1056) . (3) آية (59) من سورة النساء. (4) يعني: إلى الفرع لاشتراكهما في العلة. (5) في شرح اللُّمع (2/1060) : (فقد خالف هذا النص) ويعني به قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَارَعْتُمْ في شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1560 جواب آخر وهو أنه لو كان الظن (1) هو الأمارة لوجب إذا كانت أمارات المجتهدين متكافئة، فظن بعضهم أن بعضهما أولى من بعض أن يكون خطأ، كمن ظن أن الثور سبُع، والحدأة باز، والحمار بغل. وقد علمنا أن أهل العلم فريقان في هذه المسائل (2) فيعتقد فريق قوة أمارة التحليل. والآخر قوة أمارة التحريم فيجب أن يكون الكل على خطأ (3) ، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على خطأ (4) . وجواب [آخر] وهو أنه لو كانت الأمارة هي الظن، وأنه لا طريق له لوجب أن يشاركهم العامة في ذلك؛ لأن العامي يظن كما يظن العالم. ألا ترى أن العامة لما شاركت أهل العلم في العقليات في طريق الظن وجب عليهم أن يعلموا منه ما يعلم أهل العلم، ويجب عليهم التقليد (5) ، لم يصح ما قالوه. وجواب آخر وهو: أن الظن يتبع وجود الشىء في الأكثر الأغلب، كما نقول في الغيْم الأسود يغلب على الظن وجود المطر معه. وكذلك التنفق (6) في عُرْض الحائط يغلب على الظن وقوعه.   (1) في الأصل: (الطرد) ، والتصويب من شرح اللُّمع (1/1061) . (2) يعني: المسائل الاجتهادية. (3) أي: على قول المعترض، وهو باطل؛ لأن الأمَّة لا تجتمع على خطأ. (4) انظر: شرح اللُّمع، الموضع السابق. (5) أي: يجب عليهم التقليد في المسائل الاجتهادية. انظر: التمهيد (4/337) وشرح اللُّمع (2/1060) . (6) النفَق بفتحتين: (سَرَب في الأرض يكون له مخرج من موضع آخر) . انظر: المصباح المنير (2/956) مادة (نفق) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1561 وكذلك إذا كان لرجل عادة في الجلوس بالغداة للتدريس، أو في يوم من الأسبوع لمجلس النظر، واستمرت عادته على ذلك [242/أ] في الأغلب الأكثر غلب على ظن كل من عرف ذلك منه في وقته. وكذلك إذا كانت عادة الإِنسان تَفْرقة صدقاته في شهر رمضان، وكثر ذلك من فعله واتصل، غلب على ظن كل من عرف ذلك أنه يفعل ذلك إذا أهلّ (1) شهر رمضان. وكذلك إذا كانت عادة الرجل أنه إذا أعطى ابنه أعطى ابنته، ثم ثبت بخبر الصادق أنه أعطى ابنه، غلب على ظن السامع أنه أعطى بنته. وإذا كان الظن يتبع وجود الشىء في الأغلب، تميز الحق من الباطل من طريق العلم وطريق الظن. وعلى قولهم: الأمارات متكافئة (2) . فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرت، وأن الأمارة في الاجتهاد في ترتيب الأدلة لوجب أن يعلم أو يظن مخالفك إذا نظر (3) [و] اجتهد فيما نظرت فيه. قيل: ويجب إذا نظر مخالفك في مسائل الكلام أن يعلم مثل ما تذكر علمته أو ظننتَه. فإن قيل: لم ينظر فيما نظرت فيه، ولا رتب الدليل على ما رتبته عليه. قيل: وكذلك مخالفنا لم يرتب الدليل على وجهه ولم يضعه في حقه.   (1) بالبناء المفعول جائز. وبالبناء للفاعل جائز عند بعضهم. انظر: مختار الصحاح ص (723) والمصباح المنير (2/990) مادة: (هلل) . (2) فليزم عليه أن الجميع حق، وهو ممنوع. انظر: شرح اللُّمع (2/1071) : التبصرة ص (508) . (3) في الأصل: (نظرت) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1562 وجواب آخر وهو: أنه قد ينظر في دليل وفيما نظرت فيه على ممر الأيام في مجالس النظر والتدريس والقراءة من كتابك، أو سمعه من لفظك فلم يصح قولك: "إنه لم ينظر فيما نظرت فيه". فإن قيل: تسبق إلى اعتقاده الشبهة فيمنعه ذلك، ويسوغ العلم بالدليل ومعرفة الطريق الصحيح. قيل: وكذلك مخالفنا في هذه المسائل، فلا فرق بينهما. وأيضاً: لو كان كل مجتهد مصيباً لكانت المناظرة بين أهل العلم خطأ وهوساً؛ لأن كل واحدٍ منهم عند صاحبه على حق، فلم يكن لمناظرتهم معنى، وكان بمنزلة مناظرة المتفقين فيما اتفقا فيه. فلما وجدنا أهل العلم في كل عصرٍ يتناظرون، ويحتج بعضهُم على بعض دلّ على أن ليس كل مجتهد مصيباً. فإن قيل: إنما يتناظرون حتى يغلب على ظن مخالفة ما (1) أدى إليه اجتهاده، فرجع إلى قوله. قيل: لا فائدة في رجوعه من حق. وكونه على ما هو فيه وانتقاله إلى ظن آخر سواء، بل في ذلك محمل الكلفة والعبث (2) والتنازع والتخاصم، وليس هذا من عمل العقلاء. فإن قيل: إنما حسُنت المناظرة في طلب الأشبَه. قيل: عندك لم يُكلف طلب، فلا فائدة في المناظرة فيما لم يُكلَّف طلبُه. وأيضاً: فإنه لا خلاف [242/ب] أن المجتهد في الحادثة كلف الاجتهاد   (1) (ما) مكررة في الأصل. (2) في الأصل: (البعث) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1563 في حكمها ليُميز الجائز من غير الجائز والصحيح من الفاسد. فلو كان الصواب في الجهتين لم يحتج إلى ذلك، فعلمنا أن هناك جائزاً (1) وغير جائز وصحيحاً وفاسداً (2) . فإن قيل: إنما يجتهد ليطلب النص أو الإِجماع. قيل: إذا كان هناك نص أو إجماع سقط الاجتهاد. وأيضاً فإنه لا يخلو: إما أن يكون كُلِّف الاجتهاد لطلب الحكم، أو لأن فَرْضه الاجتهاد. ولا يجوز أن يقال: كُلِّف الاجتهاد. لأن فَرْضه الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد لا يراد لنفسه، وإنما يراد لغيره؛ لأن الانسان لا يكلف الاجتهاد ليصير مجتهداً. فثبت أن الاجتهاد لطلب الحكم. وإذا ثبت أن هناك حكماً مطلوباً (3) صح قولنا، وبطل قولهم: إن فرضه الاجتهاد فقط، وليس هناك حكم مطلوب. ولا يصح قول من قال بالأشبَه: إنه كلف الاجتهاد لإِصابة الأشبه لما بينَّا، وهو: أنه لم يكلف طلب الأشبه، ولا إصابته، فلا معنى للاجتهاد في طلبه. فإن قيل: إنه كُلِّف الاجتهاد ليغلب على ظنه أن الحكم بهذا أولى من غيره. قيل: من كُلف طلب شىء يحتاج أن يكون ما كلفه (4) موجوداً حال الطلب، فلا يكلف طلب شىء ربما حدث بعد الطلب، وربما لم يحدث.   (1) في الأصل: (جائز) ، وحقه النصب؛ لأنه اسم (أن) . (2) الأصل: (صحيح وفاسد) وحقه النصب عطفاً على اسم (أن) إلا على تقدير، والأصل عدمه. (3) في الأصل: (حكم مطلوب) وحقهما النصب، اسم (أن) وصفة له. (4) في الأصل: (كلف) ، وسيذكره المؤلف بعد سطرين كما أثبتناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1564 ألا ترى أن من كُلف طلب عبد آبق أو جمل شارد فإنه يصح؛ لأن ما كُلفه موجود. وما يذهبون إليه من غلبة الظن أمر يحدث بعد الطلب، فلا يصح أن يكون الأمر بالاجتهاد لأجله. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (مَا قَطَعْتُم من لينةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة عَلَى أصولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ) (1) . فأخبر أن القطع والترك جميعاً من الله، وأحدهما ضد الآخر. والجواب: أن هذه الآية وردت على سبب، وهو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قطع نخل بني النضير وحرقها، قالت بنو النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك كنت تنهى عن الفساد وتعيبه، فما بالك تقطع نخلنا وتحرقها؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبرهم أن ما قطَع أو ترَك فبأمر الله تعالى (2) . وهذا يدل على أن الأمر في ذلك كان على التخيير في القطع والترك، فيجري مجرى التخيير في الكفارات، والحق في كل واحد منها. واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وهذا عام في حال الانفراد والاختلاف. والجواب: أنا نحملُه على أن كل [243/أ] واحد حجة حال الانفراد، ويكون القصد به أن قول الواحد حجة. واحتج: بأن الصحابة اختلفوا ولم ينكر بعضُهم على بعض، بل أقره عليه،   (1) آية (5) من سورة الحشر. (2) ذكر هذا السبب ابن كثير في تفسيره (4/333) معزواً إلى يزيد بن رومان وقتادة ومقاتل أنهم قالوا ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1565 وسوَّغ للعامي أن يستفتيَه ويعملَ بقوله. من ذلك: اختلافهم في الجد، هل يقاسم؟ (1) . وفي المُشركة (2) ، وغير ذلك. وقال عكرمة: (بعثني ابن عباس إلى زيد بن ثابت ليسأله عن زوج وأبوين فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقى، وما بقى للأب. قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته بذلك، فقال ابن عباس: عُدْ إليه فقل له: للجد (3) في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي؟! فمن أعطى ثلث جميع المال أخطأ؟! قال: فأتيته، فقلت له. فقال لم يخطىء، ولكنه شىء رأيناه وشىء رآه) (4) .   (1) مضى كثير من الآثار في اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في الجد. (2) سيأتي قريباً تخريج أثر عن عمر - رضي الله عنه - في المشركة، وفي المواضع المشار إليها توجد الآثار التي تحكى خلاف الصحابة في هذه المسألة. (3) في الأصل: (الجد) . (4) هذا الأثر أخرجه الدارمي في سننه في كتاب الفرائض، باب: في زوج وأبوين وامرأة وأبوين (2/250) ولفظه: (عن عكرمة قال: أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت: أتجد في كتاب الله للأم ثلث ما بقي؟! فقال زيد: أنت رجل تقول برأيك، وأنا رجل أقول برأيي) . وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب فرض الأم (6/228) . وأخرجه الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه، في باب: ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/202) . وأخرجه ابن حزم في كتابه المحلَّى في كتاب المواريث، مسألة رقم (1716) (10/328) . وذكره ابن عبد البَر في كتابه جامع بيان العلم وفضله، باب: اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص (2/72) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1566 وقيل لعمر بن الخطاب في المُشَرَّكَة (1) : لم تُشرك عام أول، وشَركْت العام؟ فقال: (ذاك على ما فرضناه، وهذه على ما فرضنا) (2) . ولأن بعضهم ولَّى بعضاً مع اختلافهم في الأحكام. فروي عن أبي بكر أنه ولى زيد بن ثابت القضاء، وكان يخالفه في الجد وغيره. وولى عمر أبَّي بن كعب وشريحاً القضاء، وكانا يخالفانه. وكذلك ولى علي شريحاً وابن عباس. والجواب عن قولهم: "إنه لم يخطىء بعضهم بعضاً" غلط؛ لما روينا عن علي في قصة المرأة التي أجْهَضَت ذا بطنِها: (إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأا) . وقول ابن عباس: ألا يتقي (3) الله زيد. وجواب آخر وهو: أنه لم يخطىء بعضهم بعضاً؛ لأن الخاطىء فيه معذور، له على قصد الصواب أجر، وقد ورد الشرع بذلك. جواب آخر وهو: أنه إنما لم ينكر بعضهم على بعض لوجهين: أحدهما: أن الشرع منع من ذلك، وهو أنه ليس على هذه الأحكام   (1) ضابط المشركة: (أن يوجد في المسألة زوج، وذات سدس من أم أو جدة وإخوة لأم اثنان فأكثر، وأخ شقيق فأكثر، سواءً أكانوا ذكوراً أم ذكوراً وإناثاً) . (2) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه الدارقطني في سننه في كتاب الفرائض (4/88/رقم 66) وأخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب: المشركة (6/255) . وأخرجه سعيد بن منصور في سننه في كتاب الفرائض، باب: قول عمر في الجد (1/67) رقم الحديث (62) وليس فيه أنه قال ذلك في مسألة معينة، وإنما اختلف قضاؤه في مسألة فَرَضِية فقال: (تلك على ما فرضنا، وهذه على ما فرضنا) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في أول كتاب الفرائض (10/249) رقم (19005) في مسألة المشركة، ولفظه قريب من لفظ البيهقي. وراجع: التلخيص الحبير (3/86) . (3) في الأصل: (ألا لايتقي) بزيادة (لا) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1567 أدلة مقطوع (1) عليها، وإنما طريقها غالب الظن. والثاني: أن الإِنكار في ذلك ربما أفضى إلى الفتنة والفساد والاختلاف. وقولهم: "إن بعضهم ولى بعضاً"، فلا يلزم: [أولاً] : لأنه يبطل بكل عصر بعد الصحابة، فإنهم فعلوا هذا، ومنهم من يذهب إلى أن الحق في واحد من القولين. الثاني: أنه وإن كان على خلاف مذهبه، فإنه لا يعلم أنه يبقى على اعتقاده إلى حين الحكم لجواز أن يغلب على ظنه حين الحكم في الحادثة على موافقة (2) . الثالث: أنه وإن كان مخالفاً له، فإنه لا يقطع على خطئه، بل يُجَوز على نفسه الخطأ والصواب لصاحبه، فلهذا استخلفه ورضي بحكمه. واحتج: بأنه لو كان الحق في واحد من القولين، وقد نصب الله تعالى عليه دليلاً، وجعل إليه (3) طريقاً، وكلف المجتهدين [243/ب] إصابته، لوجب أن يكون المصيب عالماً به قاطعاً (4) بخطأ من خالفه. ويكون المخالف آثماً فاسقاً، ويمنع من العمل بما أدى اجتهاده إليه، ووجب نقص حكمه إذا حكم به، وأن لا يسوغ للعامي أن يقلِّد من شاء من المجتهدين، ويكون بمنزلة من خالف الإِجماع والنص ودليل مسائل الأصول من الصفات   (1) في الأصل: (مقطوعاً) وحقه الرفع صفة لأدلة. (2) يريد بهذا: أن المُوَلَّى يكون مخالفاً في المسألة لمن ولاه حين التولية، لكن المولي لا يعلم استمرار من ولاه على هذه المخالفة، لجواز أن يتغير رأيه عندما يحكم في الحادثة فيحكم فيها على وفق رأي من ولاَّه. (3) في الأصل: (إلينا) . (4) في الأصل: (قطعاً) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1568 والقدر والإِمامة ونصب إمامين ونصب إمام من غير قريش، وما أشبه ذلك. ولما أجمعوا على أن المصيب غير عالم فلا قاطع بخطأ من خالفه، ولا إثم عليه فيه، ولا ينقض حكمه إذا حكم به، ويُخيَّر العامي في تقليد من شاء، دلَّ على أن كل مجتهد مصيب. والجواب: أنا إنما لم نعلم إصابته للحق، ونقطع بخطأ من خالفنا؛ لأن الدليل على الأحكام غير مقطوع عليه، وإنما هو بأن [يكون] مقطوعاً (1) عليه، كنص القرآن ونص السنة المتواترة والإِجماع. وبأن يكون غلبة الظن بخبر الواحد والقياس وشهادة الأصول فما (2) كان دليله مقطوعاً عليه: علمنا إصابته، وقطعنا بخطأ من خالفنا، ونقضنا حكمه، وحكمنا بإثمه، ولم نُخَير العامي في تقليده. وما كان غلبة ظن: لم نقطع بإصابة الحق وخطأ من خالفنا؛ لأن دليله غير مقطوع عليه. فإن قيل: فكان يجب أن ينصب عليه دليلاً مقطوعاً عليه ليتوصل به إلى الحق، كما نصب على مسائل الأصول. قيل: لا يجب هذا كما لم يجب في حكم الحاكم بشهادة شاهدين، فإنه يحكم به، وإن لم يقطع على صدقهما. وكالقِبلة، كُلف الاجتهاد في طلبها، وإن لم يكن دليلاً قاطعاً عليها. وقد قيل: إن الله تعالى دلنا على الحكم بدلالة قاطعة، وإن لم يدلنا على علة الحكم في الأصل؛ لأنه كلَّفنا العمل على أوْلى العلل وأقواها، وقد جعل لنا طريقاً نقطع معه.   (1) في الأصل: (مقطوع) . (2) في الأصل: (فيما) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1569 فإن إحدى العلتين أوْلى أن يتعلق الحكم بها وأنها موجودة في الأصل والفرع، وأنه يلزمنا العمل بها في الفرع. والطريق إلى ذلك هو وجوه الترجيح، وهي محصورة، فإذا وجدها أو أكثرها أو أقواها تختص إحدى العلتين، قطعنا على أنها أولى بأن تكون علة الحكم في الأصل من غيرها. كما أنا إذا رأينا أمارات الغَيْم الرطب، في بعض الغيوم، نحو كونه في الشتاء، وكونه كثيفاً قطعنا على أنه أولى أن يكون مطراً. وأمَّا التأثيم والتفسيق: فلا يجوز عليه ما ذكرنا، وهو أنا لا نقطع على خطئه، ولأن الشرع ورد بالعفو عن ذلك [244/أ] ، كما ورد بالعفو عن الخاطىء والناسي والمكره. يدل عليه قول الله تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ) إلى قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) ولم يؤثم داود. وكذلك قال النبي -عليه السلام-: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) فلم يؤثمه، بل جعل له الأجر مع الخطأ. وأمّا منعه من العمل بما أدى اجتهاده إليه فلا يمنع منه؛ لأن فرضه أن يحكم باجتهاده وبما يصح عنده، فلا يصح منعه منه. ولكن نقول إذا تزوج بغير ولي: "إنه نكاح فاسد". وإذا اشترى النبيذ "إنه شراء فاسد". وإذا شرب النبيذ: "إنه شَرِب حراماً"، وما أشبه ذلك من طريق غلبة الظن والظاهر. وأما إذا حكم باجتهاده فإننا لا ننقض حكمه لما بينَّا، وهو: أن الدليل غير مقطوع عليه، فلا يجوز نقضُه.   (1) انظر: المغني لابن قدامة (3/163) طبعة هجر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1570 وقد قيل: إن في نقض الحكم فساداً؛ لأنه يكون ذريعة إلى تسليط الحكام بعضُهم على بعض، فلا يشاء حام يكون في قلبه من حاكم شىء إلا وتعقب حكمه بنقض، فلا يستقر حكم، ولا يصح لأحد ملك، وفي ذلك فساد عظيم. وقد قيل: لا يمتنع أن يمنع من الحكم، وإذا حكم لم ينقض. كما منع من البيع عند النداء، والسَّوْم على سَوْم أخيه، والصلاة في الدار المغصوبة، ومع هذا فلا يبطل العقد (1) والصلاة (2) . والجواب الصحيح على أصولنا: ما ذكرناه أولاً، وأنه غير مقطوع عليه. وأما تسويغ العامي تقليد من يشاء من المجتهدين فلعمري انه كذلك. وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية الحسين بن بشار المخرمي وقد سأله عن مسألة من الطلاق فقال: "إن فعل حنث. فقال له: يا أبا عبد الله إن أفتاني إنسان، يعني: لا يحنث؟ فقال له: تعرف حلقة المدنيين بالرَّصافة؟ قال له: فإن أفتوفي يحل؟ قال نعم" (3) . وهذا يدل على أنه لا يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتيين؛ لأنه أرشده إلى حلقة المدنيين، ولم يأمره بالاجتهاد في ذلك.   (1) انظر مسألة البيع عند النداء من يوم الجمعة: المغني لابن قدامة (3/163) طبعة هجر. وانظر مسألة السَّوْم على سوْم أخيه: المغني (6/306) فإنه قسمها إلى أربعة أقسام، وبين حكم كل قسم. (2) انظر مسألة الصلاة في الدار المغصوبة: المغني (2/476) ومعروف أن للحنابلة روايتين في هذه المسألة. (3) قد سبق توثيق هذه الرواية في مسألة: للعامي أن يقلِّد من شاء من المجتهدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1571 ويدل أيضاً على أن العامي إذا سأل عالِميْن، فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة أنه يجوز له أن يأخذ بقول من أفتاه بالإباحة. وكذلك نقل ابن القاسم الحنبلي (1) أنه قال لأحمد -رحمه الله-: ربما اشتدَّ علينا الأمر من جهتك فمن نسأل؟ فقال: "سلوا عبد الوهاب" (2) . وكذلك نقل الحسن بن محمد بن الحارث عن أحمد -رحمه الله- أنه سئل عن مسألةٍ فقال: "سل إسحاق بن راهويه" (3) . [244/ب] . وكذلك نقل أحمد بن محمد البُرَاثي (4) عن أحمد أنه سئل عن مسألة فقال: "سل غيرنا، سل العلماء، سل أبا ثور".   (1) هو: أحمد بن القاسم الحنبلي، وقد سبقت ترجمته. (2) هو: عبد الوهاب بن عبد الحكم بن نافع أبو الحسن الوراق. كان صالحاً ورعاً زاهداً ثقة. صحب الإمام أحمد وسمع منه. توفى سنة (251هـ) على الراجح. له ترجمة في: تاريخ بغداد (11/25) وتذكرة الحفاظ (2/526) وتقريب التهذيب (1/528) وتهذيب التهذيب (6/448) وطبقات الحفاظ ص (229) وطبقات الحنابلة (1/209) . والكلام الذي نقله ابن القاسم عن الإِمام أحمد موجود في تذكرة الحفاظ في ترجمة عبد الوهاب. (3) لم أجد هذه الرواية بهذا النص، وإنما وجدت في تاريخ بغداد - (6/349) بسند الحافظ الخطيب البغدادي إلى أبي بكر الأثرم قال: (قلتُ: لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: إسحاق أبو يعقوب -أعني ابن راهويه- ترى الإنسان أن يقصد إليه فيتعلم منه الفقه، فإنه رجل مُمكَّن؟ فقال: ما أفْهَمَه! هو كيس) . (4) في الأصل: (البراتي) بالمثناة الفوقية. وهو: أحمد بن محمد بن خالد بن يزيد بن غزوان أبو العباس البُرَاثي. سمع الإِمام أحمد -رحمه الله- ونقل عنه بعض المسائل. مات سنة (300هـ) وقيل سنة (302هـ) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1572 وكأن المعنى في ذلك أنه لا سبيل له إلى معرفة الحق والوقوف على طريقه. وكل واحد من المجتهدين يفتيه بما أدى اجتهاده إليه، فيؤدي ذلك إلى حيرته، فجعل له أن يقلد أوثقهما في نفسه. ويخالف المجتهد؛ لأنه يمكن موافقته على طريق الحق ومناظرته فيه. واحتج: بأنه لو أداه اجتهاد [هُ] في وقت إلى جواز النكاح بلا وليِّ فقضى به، ثم أداه اجتهاده في وقت آخر إلى خلافه لزمه أن يقضي بذلك، فلو كان الثاني خطأ ما لزمه الحكم به. والجواب: أنه (1) حينما أداه اجتهاده إلى الحكم بجوازه كان يعتقد أن ضده خطأ، وإنما صار صواباً في وقت آخر، فما (2) اجتمع الجواز وضده في وقت واحد. واحتج: بأن اختلاف الفقهاء في مسائل الحوادث كاختلاف القُراء في الحروف، ثم ثبت أن كل من قرأ بحرف فهو مصيب، كذلك في الأحكام. والجواب: أن اختلاف القُرَّاء لا يفضي إلى مناقضة. ألا ترى أن كل من خالف في قراءة جاز له أن يقرأ بحرف غيره، فلهذا كان الكل صواباً، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه اختلاف في أحكام، ومن ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب أفضى إلى المناقضة. ألا ترى أنه لا يجوز أن يأخذ بالقولين معاً، فبانَ الفرق بينهما.   = له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/64) . والكلام الذي نقله عن الإِمام أحمد هنا موجود في تاريخ بغداد (6/66) في ترجمة أبي ثور، وقد نقله بسنده إلى أحمد بن محمد البراثي. (1) في الأصل: (أن) . (2) في الأصل: (كما) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1573 فصل [الدلالة على أن ذلك غير مقطوع به] والدلالة على أن ذلك غير مقطوع عليه (1) أنه لو كان مقطوعاً عليه لم يلزمه أن يجتهد دفعة ثانية في تلك الحادثة، ولا يجتهد في صلاة ثانية في الجهة. ولما أجمعنا على أنه يحدث اجتهاداً علمنا أنه غير مقطوع عليه. وليس لأحد أن يمتنع من هذا ويقول: إنه لا يلزمه أن يجتهد ثانياً؛ لأن هذا مخالف الإِجماع السابق، ولأنه لو كان مقطوعاً عليه لوجب أن ينقض بحكم الحاكم إذا خالفه، كما ينقض بمخالفة النص. وليس لهم أن يقولوا: إنما لم ينقض؛ لأنه يكون ذريعة إلى تسليط الحكام بعضهم على بعض؛ لأن هذا لا يمتنع، كما لم يمتنع عند مخالفة النص والإِجماع. فإن قيل: أحد الحكمين يتميز عن الآخر بالتأثير الموجب للعلة وبكثرة الأصول. قيل: فيجب أن يؤثر في نقض الحكم [245/أ] وإسقاط الاجتهاد دفعة ثانية، كما كان ذلك في المنصوص عليه. فإن قيل: قد وجدنا أن الحكم يتعلق بالعلة الشرعية كتعلقه بالعلة العقلية، فإنه ما دام عصيراً هو مباح، فإذا حدثت الشِّدة حُرم، فإذا زالت أبيح، فإذا عادت حُرم، فدل على أنها موجبة، كما أن الحركة لما كانت دلالة على كون المتحرك متحركاً [كانت موجبة] .   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/339) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1574 قيل: وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها لا يدل على أنها معلومة، كالنبيذ والاجتهاد في طلب القبلة، فإن ثبوت الحق يحصل لوجود [الشدة في] النبيذ ويعدم بعدمها، وليس شهادتهم مقطوعاً عليها، وكذلك الاجتهاد في القبلة غير مقطوع على إصابته. فصل [الدلالة على أن هناك حكماً مطلوباً] والدلالة على أن هناك حكماً مطلوباً (1) خلاف (2) من قال: ليس هناك شىء سوى ما يغلب على ظنه: ما تقدم من الدلائل على أن الحق في واحد من القولين، فلولا أن هناك حكماً مطلوباً (3) لم يكن الحق في أحدهما. وأيضاً: لما كان مأموراً بالاجتهاد وجب أن يكون هناك حكم مطلوب، كالاجتهاد في طلب النص، والاجتهاد في طلب القبلة، والاجتهاد في عدالة الشهود. فإن قيل: القبلة يجوز ترك التوجه إليها مع العلم بها في الخوف وفي السفر، ولا يجوز مثل ذلك في أحكام الحوادث، مثل الطلاق والعتق والنكاح. قيل: حال الخوف والسفر هو غير مأمور بالتوجه إلى القبلة، وإنما جاز تركها مع العلم للضرورة، ولا ضرورة بنا إلى ترك النص في غيرها من الأحكام.   (1) في الأصل: (حكم مطلوب) ، وحقه النصب كما هو معروف. (2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/344) والتبصرة ص (498) . (3) في الأصل: (حكم مطلوب) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1575 فإن كان هناك ضرورة جاز، كاستباحة طعام الغير للضرورة. فإن قيل: القبلة عين متوصل إليها، وليس كذلك ما اختلفنا فيه؛ لأن المطلوب ليس بعين. قيل: في حال الغيبة لا يتوصل إليها، ويجري حكمها مجرى سائر الأحكام. وأيضاً: قد بينَّا أن المجتهد كُلِّف الاجتهاد، والاجتهاد لا يراد لنفسه، وإنما يراد لغيره. ولأن الاجتهاد في طلب ما ليس بشىء ليحققه: لا يصح. ألا ترى أنه لا يصح أن يقول المجتهدُ: في غالب ظن هو مصيب للظن، وإنما يقول [في] غالب ظن: إنه مصيب الحقيقة. فعلم أن هناك مطلوباً (1) غير الظن. يبين هذا: أن الظن لابد أن يتعلق بمظنون ثابت على الحقيقة. فصل [إذا ثبت أن هناك حكماً مطلوباً فإنه قد كلف إصابته] وإذا ثبت أن هناك حكماً مطلوباً (2) [245/ب] فإنه قد كلف إصابته (3) خلاف من قال: هناك أشبه مطلوب، لكن لم يكلف إصابته. والدلالة عليه: ما تقدم من الدلائل على أن الحق في واحدٍ، وأن أحد المجتهدين مخطىء.   (1) في الأصل: (مطلوب) وحقه النصب اسم (أن) . (2) في الأصل: (حكم مطلوب) . (3) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/344) والتبصرة ص (498) وشرح اللُّمع (2/1050) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1576 وإذا ثبت خطؤه علمنا أن هناك معنى قد كُلف إصابته، فأخطأه. فإن كان ذلك المعنى الحكم على ما نقوله نحن فيجب طلبه. وإن كان الأشبَه (1) بالحادثة فيجب أيضاً طلبه. ولأن الأشبَه لا يُراد لنفسه، وإنما يُراد لغيره، وهو إثبات الحكم الحادث، فعلم أن هناك حكماً مطلوباً (2) . فإن قيل: لا يمتنع أن يكون هناك مطلوب ولم يكلف إصابته، كالقبلة والفَقْر ويوم عَرَفَة. قيل: هناك كُلِّف الإصابة، ولكن سقطت الإعادة لدلائل شرعية، ذكرناها في مواضعها، وهو: أن جهات القبلة تثبت بالاجتهاد. فإذا اجتهد ثم أخطأ، فلو أمرناه بالإعادة لنقضنا اجتهاد [هـ] أولاً باجتهاد [هـ] ، آخر، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. وكذلك الفقر ثبت بالاجتهاد والغنى أيضاً، فلو قلنا: يعيدُ نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد. وعَرَفَة لا نأمن أن يُخطِىء في القضاء كما أخطأ في الأداء. وغير ذلك مما يذكر [في] مواضعه. يبين صحة هذا: أن في الشرع مواضع إذا أخطأها أعاد. مثل: أن يصلي ثم يتبين أن الوقت لم يدخل. أو توضأ بماء يظنه طاهراً فبان نجساً. وغير ذلك.   (1) انظر اختلاف الأصولين في تفسير "الأشبه" في المراجع السابقة، والمعتمد (2/982) . (2) في الأصل: (حكم مطلوب) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1577 لأنه لم يدل الدليل على سقوط الإعادة، فثبت أن القبلة وعرفة والفقر كُلف إصابته، وإنما سقطت إصابته لدليل. مسألة قد كان يجوز لنبينا -عليه السلام- الاجتهاد فيما يتعلق بأمر الشرع عقلاً وشرعاً (1) . وقد ذكر أبو عبد الله بن بطة (2) هذا فيما كتب به إلى أبي إسحاق بن شاقْلاَ في جوابات مسائل، وقال: الدليل على أن سنته وأوامره قد كانت (3) بغير وحي وأنها كانت بآرائه واختياره: أنه قد عوتب على بعضها، ولو أمِر بها لما عوتب عليها. من ذلك: حكمه في أسارى بدر، وأخذ الفدية، فقيل له: (مَا كَانَ لِنَبِي أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأرضِ) (4) . ومنه: إذنه في غزوة تبوك للمخلفين بالعذر حتى تخلف من لا عذر له، حتى قيل له: (عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أذنْتَ لَهُمْ) (5) .   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/373) وروضة الناظر (2/409) والبُلْبُل ص (175) والمسوَّدة ص (507) وشرح الكوكب (4/474) . (2) هو: عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان أبو عبد الله العكبري الحنبلي، المعروف بابن بطة. سمع جماعة من شيوخ المذهب، منهم أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص العكبري. كان محدثاً فقيهاً. له مؤلفات كثيرة، منها: الإبانة الكبرى، والإبانة الصغرى، والسنن، والمناسك. ولد سنة (304هـ) وتوفى سنة (387هـ) . له ترجمة في: شذرات الذهب (3/122) وطبقات الحنابلة (2/144) . (3) في الأصل: (كان) . (4) آية (67) من سورة الأنفال. (5) آية (43) من سورة التوبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1578 ومنه: قوله: (وَشَاورْهُمْ في الْأمرِ) (1) . فلو كان وحياً لم يشاورهم فيه (2) وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى صحة ما قاله [246/أ] أبو عبد الله بن بطة في رواية الميموني لما قيل له: "ها هنا قوم يقولون: ما كان في القرآن أخذنا به، [قال] (3) : ففي القرآن تحريم لحوم الأهلية؟! والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) (4) وما علمهم بما أوتي".   (1) آية (159) من سورة آل عمران. (2) في الأصل: (لم يشاورونه) والتصويب من طبقات الحنابلة (2/164) والمسودة ص (508) . وكلام أبي عبد الله بن بطة هنا موجود بنصه في المصدرين السابقين. (3) الزيادة من المسوَّدة. (4) هذا الحديث رواه المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة (5/10) رقم الحديث (4604) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - (5/38) (رقم 3664) وقال فيه: (هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه) . وأخرجه عنه ابن ماجة في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1/6) رقم (12) . وأخرجه عنه الدارمي في باب السنة قاضية على كتاب الله (1/117) رقم (592) . وأخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده (4/131) . وأخرجه ابن حبان في كتابه موارد الظمآن، باب اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص (55) رقم (97) . وأخرجه الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه، باب الكلام في الأصل الثاني من أصول الفقه، وهو السنة (1/89) . ويلاحظ: أن حديث أبي داود أتم، وقد ورد فيه اللفظ الذي ذكره المؤلف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1579 وذكر أبو حفص (1) في الجزء السابع من البيوع في باب التسْعير: حدثنا بإسناده عن أبي فضلة (2) قال: أصاب الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَنَة. فقالوا: يا رسول الله سَعِّر لنا. فقال: (لا يسألني الله عن سُنَة أحدثتها فيكم (3) لم يأمر الله تعالى بها) (4) . قال أبو حفص: هذا دليل على أن كلِ سُنَّة سَنَها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته فبأمر الله تعالى، بقوله: (لا يسألني الله عن سُنّة أحدثتها) . واعلم أنه لا يحدث سنة إلا بأمر الله (5) ، وبهذا نطق القرآن، فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (6) . والأول أصح، وبه قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني والسرخسي (7) .   (1) هو أبو حفص العكبري كما في المسوَّدة ص (508) وهو: عمر بن محمد بن رجاء، وقد سبقت ترجمته. (2) هكذا في الأصل، وفى طبقات الحنابلة (2/163) : (ابن بطة) . (3) في الأصل (فيما) والتصويب من المسوَّدة ص (508) ومن طبقات الحنابلة الموضع السابق. (4) لم أجد هذا الحديث في مرجع معتمد، وإنما رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية ذكره في كتاب المسودة الموضع السابق، ولم يعلق عليه بشىء. كما رأيت ابن أبي يعلي ذكر في طبقاته في الموضع السابق في ترجمة أبي حفص العكبري: أن أبا حفص يرى أن كل سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته فبأمر الله، واحتج على ذلك بما رواه بإسناده عن ابن بطة قال: (أصاب الناس..) الحديث. (5) هذا هو رأي أبي حفص العكبري كما سبق بيانه نقلاً عن طبقات الحنابلة. (6) آية (3-4) من سورة النجم. (7) وهو كذلك، إلا أنهم يرون أنه ينتظر أولاً الوحي، فإذا مضت مدة الانتظار ولم = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1580 واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال بهذا (1) . ومنهم من منع من ذلك (2) . وهو قول المتكلمين من المعتزلة (3) ، والأشعرية (4) . دليلنا: قوله تعالى: (فَاعْتَبرُوا يَا أولِى الْأبْصَارِ) (5) . فأمر أهل البصائر بالاعتبار، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلى أهل البصائر رتبة وأرفعهم منزلة، فكان بالاعتبار أولى.   = ينزل عليه شىء، اجتهد، وعمل باجتهاده. انظر أصول السرخسي (2/91) وتيسير التحرير (4/183) وفواتح الرحموت (2/366) . وهو قول الإِمام الشافعي وأكثر أصحابه. انظر: التبصرة ص (521) وشرح اللُّمع (2/1091) والبرهان (2/1356) والمستصفى (2/355) والمنخول ص (468) والمحصول (6/9) والإحكام للآمدي (4/143) . (1) والمجوزون فريقان، فريق قال بوقوعه. وفريق أنكر وقوعه. انظر التبصرة ص (521) والإبهاج (3/263) . (2) انظر: المرجعين السابقين. (3) انظر: المعتمد (2/761) . (4) انظر: المسوَّدة ص (507) . وهناك قولان في ال مسألة : الأول: التوقف، ونسبه ابن السبكى إلى المحققين. والثاني: أنه يجوز في أمور الحرب دون الأحكام الشرعية. انظر: الإبهاج، الموضع السابق. (5) آية (2) من سورة الحشر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1581 وقوله -عليه السلام-: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران) . وهو حاكم، فوجب أن يكون داخلاً فيه. وذكر أبو عبيد (1) في "كتاب أدب القضاء" بإسناده عن الشعبي قال: (كان - صلى الله عليه وسلم - تنزل به القضية، وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى، فيمضي ما كان قضى على حاله، ويستقبل ما نزل به القرآن) (2) . ولأن ما يستنبط من المعاني طريق لأمته في الحكم، فوجب أن يكون طريقاً له، أصله القرآن ظاهرُه وعمومُه. ولأن الاجتهاد طاعة لله تعالى وقربة ينال بها رضاه وثوابه، فوجب أن يكون للنبي -عليه السلام- فيه مدخل، قياساً على سائر الطاعات. ولأن المجتهد إنما سُوِّغ له الاجتهاد متى كان عالماً بالأصول وطرق القياس، فيجتهد فيما لا نص فيه ليعرف حكمه بالوجود (3) ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلى المنازل لمعرفة الأصول وطرق القياس، فهو أولى بالاستعمال. ولأن جواز الاجتهاد لا يخلو أن يتعلق بعدم النص حال وجود الحادثة، أو عدمه [246/ب] في الثاني. ولا يجوز اعتبار الثاني؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز الاجتهاد فيما يجوز أن يحصل عليه إجماع وأمر قاطع، فبقي أن يعتبر عدمه في الحال. وهذا الشرط يوجد مما يعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحوادث ولا نص أنزل عليه فيها من قبل.   (1) هو: أبو عبيد القاسم بن سلام. وقد سبقت ترجمته. (2) هذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الأقضية (10/180) . (3) هكذا في الأصل، ولعل المقصود: حال وجود الحادثة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1582 وقد استدل أبو عبد الله بن بطة بدليلين (1) جيديْن: أحدهما: قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (2) ، فلو كان ذلك عن وحي لم يحتج إلى مشاورتهم. والثاني: أنه قد حكم باجتهاده في مواضع، بدليل أنه عوتب عليها. من ذلك: أخذ الفدية من أسارى بَدْر، [كما في] قوله: (مَا كَانَ لِنَبِيِّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ) (3) . وغير ذلك مما ذكرنا في رأس المسألة. وربما احتج من نصر جواز الاجتهاد بأشياء منها: أن السنة مضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحقيقة الإضافة تقتضي أنها من قِبَلِه. والجواب: أنه إنما أضيف إليه؛ لأنها بقوله وجبت، وهو السفير. ولهذا يضاف إليه جميعُ السنن، ومعلوم أن ليس جميعها باختياره. ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مكة: (ولا يُخْتَلَى خَلاَهَا) (4) قال العباس:   (1) ذكر هذين الدليلين: ابن أبي يعلي في طبقاته في ترجمة أبي حفص البرمكي (2/163) منسوبة إلى المؤلف وإلى ابن بطة. (2) آية (159) من سورة آل عمران. (3) آية (67) من سورة الأنفال. (4) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب لا ينفر صيد الحرم (3/17) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (2/986) رقم الحديث (1353) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1583 (إلا الإذْخِر) (1) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إلا الإذْخِر) ، ومعلوم أن الوحي لم يرد في تلك الحال. والجواب: أنه قد قيل: إن "الإذْخِر" ليس من الخلا، وإنما استثناه العباس تأكيداً (2) . أو لأنه لا يمتنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد استثناءه، فسبق العباس إلى سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو قلتُ نعم لوجبت) يعني الحج، فعلق وجوبها بقوله. الجواب: أنه لو قال: (نعم لوجبت) من حيث كان قوله دليلاً على وجوبه، وليس في الكلام ما يدل على أن قوله صادر عن اختياره أو من وحي. ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) . وقوله: (لولا أن أخشى أن يفرض السواك لاستكتُ) (3) فبين أن أمره بالسواك موقوف على اختياره. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون عنى أنه (لولا أن أشُق لأمرتهم) على طريق التنظيف. ولا يمتنع أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه لا ينبغي أن يأمرهم به لأجل المشقة.   (1) الإذْخِر: نبات معروف، له رائحة ذكية. انظر: المصباح المنير مادة (ذخر) . (2) كلمة (تأكيداً) غير واضحة في الأصل، وما أثبتناه موافق لما في التمهيد (4/382) . (3) لم أقف على هذا الحديث مع كثرة البحث والسؤال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1584 ومنها قولهم: إن موسى -عليه السلام- أثبت الأحكام من جهته إلا تسع آيات أنزلها الله عليه. والجواب: [247/أ] أنا لا نعلم ذلك، ولو علمنا ذلك لم نعلم أن ما عدا تسع آيات لم يوح إليه. ومنها قوله -عليه السلام-: (عفوتُ لكم عن صدقة الخيل والرقيق) . والجواب: أنه إنما أضاف العفو إلى نفسه؛ لأنه هو الذي يتولى أخذها، وهو الذي لم يأخذها الآن، وإن كان ذلك بوحي. ومنها: أن الصحابة قد حكمت في الحوادث وأضافت ذلك إلى اجتهادها، ولو كان ذلك عن دلالة لما أضيف ذلك إليها، وقد قالوا في حكمهم: (إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمنى ومن الشيطان) (1) ، ولو كان عن دليل لم يقولوا ذلك. والجواب: أنه لو كان ذلك عن اختيار قد أبيح لهم العمل به لما شكوا في كونه صواباً، على أن من يقول الحق في واحد يقول: يجوز أن يخطئوا. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (2) . والجواب: أن الاجتهاد ليس من الهوى، وإنما هو من الوحي الذي أوحي إليه؛ لأن الله تعالى أمره به كما أمر أمته، وقوله: (إِن هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) ، وكذا نقول؛ لأن القول بالقياس عن وحي وتنزيل.   (1) هذا الكلام عقَّب به كثير من الصحابة في أحكامهم الاجتهادية. وقد مضى تخريجه من قول أبي بكر - رضي الله عنه - وغيره، فانظر الفهرس. (2) آية (3-4) من سورة النجم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1585 وأجاب أبو عبد الله بن بطة عن هذه الآية: بأن المراد به القرآن؛ لأن كفار قريش قالوا: قد ضل محمد عن دين قريش وغوى، وما يأتى به من هذا القرآن من تلقاء نفسه. وأقسم الله تعالى بنجوم القرآن ونزوله في أوقاته، فقال: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) من السماء (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) . وقد ذكر أحمد -رحمه الله- هذا فيما خرَّجه في الرد على الزنادقة في متشابه القرآن (1) . واحتج: بأن الاجتهاد يؤدي إلى غلبة الظن، وهو قادر على الحكم بالعلم من طريق الوحي، وإنما يجوز الحكم بغالب الظن إذا تعذر طريق العلم. والجواب: أن النص من الله تعالى مفقود في الحال. وعلى أنه يجوز أن يحكم بالنص، وأن يوقع نصاً ينسخه، وكذلك يجوز لغيره أن يحكم باجتهاده، وإن يئس من انعقاد الإِجماع الذي هو في معنى النص، على أنه معصوم في اجتهاده كالأمة، فلا نقول: إن طريقه غالب الظن. واحتج: بأن من ردَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كَفَرَ، فلو جاز أن يحكم بالاجتهاد لم يجز تكفيره؛ لأن الاجتهاد حكم من طريق الظن، وهذا لا يجوز لإجماع المسلمين على كفره، فدل على أنه لا يجوز أن [247/ب] يكون في حكمه ما هو اجتهاد. والجواب: أنه يكفر لكونه مكذباً للرسول في خبره. وقولهم: إن الاجتهاد يؤدي إلى غالب الظن، فلا يصح؛ لأن النبي معصوم في اجتهاده من الخطأ والزلَل، مقطوع بإصابة الحق ودرك الصواب. واحتج: بأن الاجتهاد ردُّ الفرع إلى الأصل بضرب من الشبهَ، ومتى فعل   (1) انظر: رسالة: الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد ص (26) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1586 هذا وقاله صار نصاً، فإذا صار الاجتهاد نصاً ثبت أن لا يتصور فيه الاجتهاد. والجواب: أنه يصير نصاً بعد حصول الاجتهاد، وخلافنا في اجتهاده. مسألة يجوز أن يقول الله تعالى لنبيه: احكم بما ترى، أو بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بصواب (1) . وهذه مبنية على المسألة التي قبلها، وأنه كان يجوز أن يجتهد فيما يتعلق بالشرع. وهو اختيار الجرجاني (2) . وامتنع من ذلك جماعة من المعتزلة (3) . وهو اختيار أبي سفيان السرخسي (4) . دليلنا: أنه لا يخلو إما أن يتعين الخلاف فيما يحكم فيه باجتهاد واستدلال، أو يتعين فيما يقوله إذا خطرَ بباله من غير اجتهاد. فإن كان ذلك باجتهاد، فقد تقدم الكلامُ عليه ودليلُنا على جوازه. وإن كان فيما يخطر بباله من غير اجتهاد، فإنه غير ممتنع، إذا علم الله تعالى أنه يصيب ما هو عند الله تعالى؛ لأن التعبد قد ورد بمثله في العامي أنه مخيَّر   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/373) والمسودة ص (510) وشرح الكوكب المنير (4/519) . (2) وبقوله قال جمهور المحدثين. انظر: المسوَّدة ص (510) . (3) انظر: المعتمد (2/890) . (4) انظر: المسوَّدة ص (510) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1587 في تقليد من شاء من العلماء، ويكون ذلك حكم الله تعالى عليه من غير أنه يرجع إلى أصل يستدل به. وكذلك ورود التعبد في الاجتهاد لإحدى الكفارات الثلاث (1) . وكذلك خُيِّر في طعام عشرة مساكين غير معينين، وصرف خمسة دراهم من مائتين إلى فقير، وفقراء الدنيا تعني عينه (2) . ولأن الله تعالى قد قال: (إِلاَّ مَا حَرمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) (3) . فأضاف التحريم إليه، فدلّ ذلك على جواز ذلك. قال أبو بكر (4) في تفسير: (كُلُّ الطعَامِ كَانَ حِلاً لِبَنِى إسْرَائِيْلَ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَرلَ التَّوْرَاةُ) لكن إِسرائيل حرم على نفسه - من قبل أن تنزل التوراة بعضَ ذلك (5) . واحتج المخالف: بأن الشرعيات إنما يحسن تكليفها لما فيها من المصالح، ولا طريق لأحدٍ إلى معرفة المصالح سوى الله تعالى، فلم يجز أن يقول: احكم بما ترى فإنك لا تحكم إلا بصواب. والجواب: أنا قد بينَّا فيما تقدم أن الشرعيات لا يقف (6) تكليفها على المصلحة.   (1) في الأصل: (الثلاثة) . (2) هاتان الكلمتان بدون إعجمام في الأصل، وقد أعجمتها بما ترى، والمعنى واضح. (3) آية (93) من سورة آل عمران. (4) هو: عبد العزيز بن جعفر الحنبلي، والمشهور بغلام الخلال. وقد سبقت ترجمته. وتفسيره هذا -حسب علمي- مفقود. (5) وانظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير (1/383) . (6) في الأصل: (تقف) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1588 ويبين [248/أ] صحة هذا، و (1) أنه ليس من شرط جواز الحكم أن يكون الحاكم به عالماً بالمصلحة فيه. ألا ترى أن الحاكم في الحادثة من طريق الاجتهاد، لا يعلم أن ما حكم به صواب ومصلحة، بل يتبع حكمه في ذلك غالب الظن، ومع هذا قال: حكمه به كان جائزاً، ويحسن التعبد به، كذلك هاهنا. وكذلك في الكفارات وإطعام المساكين، كل ذلك مردود إلى اختيار المكلف. واحتج: بأن اتفاق الصدق في المستقبل لا يقع منا، كذلك اتفاق الصواب. والجواب: أنه غير ممتنع أن يقع في الأمرين، كما تتفق أمور كثيرة على طريق واحدة، كما تتفق في العلوم. واحتج: بأنه لو كان ذلك جائزاً لجاز أن يبعث الله تعالى رسولاً، ويجعل إليه أن يشرع الشريعة كلها. والجواب: أنه لا يمتنع ذلك فيما يمكن الوصول إليه من طريق الفكر والرأي إذا علم الله تعالى أن المصلحة فيه، كما يجوز أن يبيح له أكل ما شاء، إذا علم أنه لا يحتاج أكل الحرام. واحتج: بأنه لا يجوز أن يقع التعبد بما ذكر تموه؛ لأن المخبر لا يأمن الكذب فيما يخبر به. والجواب: أنه متى عرف أنه لا يقول إلا الصواب، زال هذا المعنى وأمن وقوع الخطأ.   (1) الواو هذه زائدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1589 مسألة [الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -] يجوز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن كان غائباً عنه، أو كان حاضراً (1) معه. وحُكي عن قوم: أنه لا يجوز ذلك لمن كان بحضرته (2) . وحَكَى الجرجاني عن أصحابه: إن كان بإذنه جاز، وإن كان بغير إذنه لم يجز (3) . دليلنا على جوازه في الجملة: قوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى الأَبْصَارِ) (4) ، ولم يفصل بين أنه يكون حاضراً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غائباً، في حياته أو بعد وفاته، بإذنه وبغير إذنه. وقوله -عليه السلام-: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران) ولم يفرق. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل إلى عمرو بن العاص قضية، فقال: أجتهد يا رسول   (1) راجع هذه المسألة في: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف ص (83) . والتمهيد (3/4422-423) وروضة الناظر (2/407) ، والمسودة ص (511) وشرح الكوكب المنير (4/481) . (2) وبه قال ابن حامد -شيخ المؤلف- وبعض الشافعية. انظر: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف ص (83) والمنخول ص (468) والمستصفى (2/354) والمسوَّدة ص (511) . (3) انظر: تيسير التحرير (4/193) وفواتح الرحموت (2/374) وللحنفية تفصيل في المسألة. انظر: المصدرين السابقين. (4) آية (2) من سورة الحشر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1590 الله وأنت حاضر؟! (فقال: نعم. إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأتَ فلك أجر) (1) .   (1) هذا الحديث رواه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/205) بلفظ: (جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خصمان يختصمان، فقال لعمرو: اقض بينهما يا عمرو، فقال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله، قال: وإن كان، قال: فإن قضيت بينهما فمالي؟ قال: إن أنت قضيت بينهما فأصبت القضاء فلك عشر حسنات، وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة) . انظر: الفتح الرباني (15/206) . وأخرجه ابن حزم في كتابه الإحكام (6/766) . ورواه أيضاً عقبة بن عامر - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده، الموضع السابق، مثل اللفظ السابق غير أنه قال: (فإن اجتهدت فأصبت القضاء فلك عشرة أجور، وإن اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد) . ورواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - مرفوعاً. وأخرجه عنه الحاكم في أول كتاب الأحكام (4/88) بمثل لفظ الإِمام أحمد عن عقبة بن عامر. ثم قال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة) . ولم يرتض الذهبي هذا فقال: (فرج -أحد رواة الحديث- ضعفوه) . وأخرجه عنه الدارقطني في سننه في أول الأقضية والأحكام (4/203) بمثل لفظ الإمام أحمد. وأخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده (2/2/187) ولفظه: (أن خصمين اختصما إلى عمرو بن العاص، فقضى بينهما، فسخط المقضي عليه، فأتى رسول الله فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قضى القاضي فاجتهد فأصاب فله عشرة أجور، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر أو أجران) . وانظر: الفتح الرباني (15/207) . وذكره ابن حزم بسند سعيد بن منصور في كتابه الإحكام (6/766) . والحديث بكل طرقه ضعيف. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1591 ورُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل إلى أبي موسى وإلى رجل معه قضية، وقال: (إن أصبتما فلكما عشر حسنات، وإن أخطأتما فلكما خمس (1)) . ورُوي أن النبي عليه السلام - حكَّم سعداً (2) في بنى قريظة قال: فكنا نكشف عن [248/ب] مؤتزرهم فكل من أنبتَ قَتَلَه، ومن لم ينبت جعلناه في الذاري. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقد حكمتَ بحكم الله من فوق سبع سموات) (3) . فإن قيل: إنما جاز؛ لأنه كان بإذن النبي - عليه السلام.   = فحديث عمرو بن العاص وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو عند الحاكم والدارقطني فيه "فرج بن فضالة التنوخي الحمصي" وهو ضعيف. انظر: تقريب التهذيب (2/108) وميزان الاعتدال (3/343) رقم (6696) . وحديث عبد الله بن عمرو عند الإمام أحمد فيه "سلمة بن أكْسُوم" قال فيه الهيثمي في مجمع الزوائد (4/195) : (لم أجد من ترجمه بعلم) . ثم الحديث معارض بما ثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) . انظر: فتح الباري (3/318) رقم الحديث (7352) وإرواء الغليل (8/224) . قلت: ولم أجد الحديث باللفظ الذي ذكره المؤلف. والله أعلم. (1) في الأصل: (خمسة) . وحديث أبي موسى هذا لم أقف عليه. (2) هو: سعد بن معاذ بن النعمان أبو عمرو الأنصاري. سيّد الأوس. أسلم قبل الهجرة. شهد بدراً وأحُداً والخندق وقريظة، وهو الذي حكم فيهم. ورمي يوم الخندق بسهم فعاش شهراً ثم انتقض جرحه، فمات منه. له ترجمة في: الاستيعاب (2/602) والإصابة (3/87) . (3) قصة حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في بني قريضة رواها أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخرجها البخاري في كتاب المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه - (5/44) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1592 قيل: المأذون فيه الحكم، فأما الاجتهاد فغير مأذون فيه؛ لأن الإذن في الحكم ليس بإذن في الاجتهاد. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أذن لعمْرو بالقضاء بين يديه أستأذنه في الاجتهاد بحضرته، فلم يفهم الاجتهاد من الإذن بالقضاء، تبت أن الإِذن بالقضاء ليس بإذن في الاجتهاد. ولأنه ليس في الاجتهاد بحضرته أكثر من الرجوع إلى غالب الظن مع القدرة على القطع واليقين، وهذا جائز بحضرته؛ لأنه لو كان حاضراً في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروى بعضُ الحاضرين عنه خبراً جاز له العمل به، وهو عمل بغالب ظن مع القدرة على القطع واليقين؛ لأنه كان يمكنه أن يرجع فيما أخبره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه منه قطعاً. فلما جاز هذا ولم يرجع فيه إليه، ثبت ما قلناه. ولأن ما جاز الحكم به في غَيْبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، جاز الحكم به في حضرته كالخبر. واحتج المخالف: بأنه لا يجوز الرجوع إلى غالب الظن مع القدرة على القطع واليقين، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضراً فهو قادر على معرفة الحكم من جهته قطعاً، فلا معنى للاجتهاد. والجواب: أنه باطل بما ذكرناه من قبول خبر الواحد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاضر. ولأنه إذا اجتهد والنبي حاضر، فإن (1) كان صواباً فذاك، وإن أخطأ لم يقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، كمن اجتهد ثم بان له أنه خالف النص.   = وأخرجها مسلم عنه في كتاب الجهاد والسير، باب: أنه جواز قتل من نقض العهد (3/1389) رقم الحديث (1768) . (1) في الأصل: (وإن) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1593 مسألة في صفة المفتي في الأحكام الذي يحرم عليه التقليد. منها (1) : أن يكون عارفاً بالقرآن، ناسخِه ومنسوخِه، ومجملِه ومحكمِه، وعامِّه وخاصِّه، ومطلقِه ومقيدِه. وهو المعرفة، بما قصد به بيان الأحكام الحلال والحرام. فأما ما قصد به أخبار الأولين وقصص النبيين والوعد والوعيد، فلا حاجة به إليه. وإنما قلنا هذا؛ لأنه قد يكون الأصل الذي يرد الفرع إليه من القرآن، فإذا لم يعرفه لم يمكنه الاجتهاد فيها. ويحتاج أن يعرف من السنة جملها التي [249/أ] تشتمل الأحكام عليها. ويعرف أيضاً المتقدم والمتأخر، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، والعام والخاص للمفتي الذي ذكرناه. ويحتاج أن يعرف إجماع أهل الأعصار عصراً بعد عصر؛ لأنه [قد] يكون الأصل ما أجمعوا عليه، فيرد الفرع إليه. ويحتاج أن يعرف من لغة العرب والإعراب ما يفهم عن الله تعالى وعن رسوله معنى خطابهما. وأن يكون عارفاً باستنباط معاني الأصول والطرق الموصلة إليها ليحكم في الفروع بحكم أصولها.   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/390) وروضة الناظر (2/401) والمسودة ص (514) وشرح الكوكب المنير (4/459) وصفة الفتوى ص (14) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1594 ويكون عارفاً بمراتب الأدلة، وما يجب تقديمه منها. وإذا كان بهذه الصفة وجب عليه أن يعمل في الأحكام باجتهاده، وحرام عليه تقليد غيره، إلا أن يكون حكماً يجب له أو لغيره، فيحتاج في فصله إلى حاكم يحكم بينهما باجتهاد. وإذا صار من أهل الاجتهاد بما ذكرنا، لم يجب قبول قوله فيما يفتي به إلا أن يكون ثقة مأموناً في دينه. فإذا كان بهذه الصفة وجب على العامة الرجوع إلى قوله وقبول فتياه. وقد نُقل عن أحمد -رحمه الله- ألفاظ في المفتي (1) ترجع إلى ما ذكرنا. فقال في رواية صالح: "ينبغي على الرجل إذا حملَ نفسَه على الفتيا أن يكون عالماً بوجوه القرآن، عالماً بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن" (2) . وكذلك نقل أبو الحارث عنه: "لا يجوز الاختيار إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة" (3) . وكذلك نقل حنبل عنه: "ينبغي لمن أفتاه أن يكون عالماً بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي" (4) . وكذلك نقل يوسف بن موسى: "واجب أن يتعلم كل ما يكلم الناس فيه (5) ". وقد ذكر أبو حفص بن شاهين في "الجزء الثامن من أخبار أحمد"، فقال:   (1) في الأصل: (المعنى) . (2) ذكرت هذه الرواية بنصها في المسوَّدة ص (515) وإعلام الموقعين (1/44) . (3) انظر هذه الرواية بنصها في المسوَّدة الموضع السابق، وإعلام الموقعين (1/45، 4/205) . (4) انظر هذه الرواية بنصها في المرجعين السابقين. (5) وردت هذه الرواية بنصها في إعلام الموقعين (4/205) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1595 حدثنا إسماعيل بن علي (1) حدثنا عبد الله سألت أبي عن الرجل يريد أن يسأل عن الشىء من أمر دينه مما يبتلى به، من الأيمان في الطلاق وغيره، وفي مِصْرِه من أصحاب الرأي، ومن أصحاب الحديث لا يحفظون، ولا يعرفون الحديث الضعيف، ولا الإِسناد القوي فمن يسأل؟ لأصحاب الرأي أو لهؤلاء؟ أعني أصحاب الحديث على ما كان من قدر معرفتهم، قال: "يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث خير من رأي أبي حنيفة" (2) . وظاهر هذا أنه أجاز تقليدهم، وإنه لم تكمل فيهم الشرائط التي ذكرنا. وذكر أبو حفص في "تعاليقه" فقال: حدثنا يحيى بن سهل، حدثنا بعض أصحابنا [249/ب] ، حدثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد الأطروش، قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن المنادي (3) يقول: سألت جدي كم كان يحفظ يحيى ابن معين؟ قال: "زهاء مائتي ألف. قلت فعثمان أخوه؟ (4) قال: مائة ألف"   (1) هو: إسماعيل بن علي بن إسماعيل، أبو محمد الخطبي. سمع عبد الله بن الإِمام أحمد والحارث بن أبي أسامة وغيرهما. وروى عنه الدارقطني وابن شاهين. وثَّقه الدارقطني. ولد سنة (269هـ) ، ومات سنة (350هـ) . وله ترجمة في: طبقات الحنابلة (2/118) . (2) انظر هذه الرواية بنصها في: المسوَّدة الموضع السابق وفي إعلام الموقعين (4/205) وفي آخرها: (ضعيف الحديث خير من الرأي) ولم يذكر الإمام أبا حنيفة -رحمه الله تعالى-. (3) سمع أباه وجده والصاغاني وغيرهم. وروى عنه أبو عمر بن حَيْوَة ومحمد بن فارس الغوري. ثقة. توفي سنة (336هـ) . له ترجمة في: طبقات الحنابلة (2/3) . (4) الضمير في (أخوه) فيما يظهر لي عائد على يحيى بن معين، ولم أجد له أخاً بهذا الاسم. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1596 وسألت عن أحمد بن حنبل فقال: "سمعت رجلاً يسأله إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيهاً؟ قال: لا. قال: فمائتي ألف؟ قال: لا. قال: فثلاثمائة ألف؟ (1) قال: لا. قال: فأربعمائة ألف؟ قال بيده هكذا، وحرَّك يده. فقلت: كم كان يحفظ أحمد بن حنبل؟ قال: أجاب عن ستمائة ألف" (2) . وظاهر هذا الكلام منه أنه لا يكون من أهل الاجتهاد إذا لم يحفظ من الحديث هذا القدر الكثير الذي ذكره. وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا. ويحتمل أن يكون أراد بذلك وصف أكمل الفقهاء، فأما ما لابد منه فالذي وصفنا. قال أبو حفص (3) : قال أبو إسحاق (4) : لما جلست في جامع المنصور للفتيا ذكرت هذه المسألة فقال لي رجل: "فأنت هو ذا تحفظ هذا المقدار حتى هو ذا تفتي الناس؟! فقلتُ له: عافاك الله، إن كنتُ أنا لا أحفظ هذا المقدار، فإني هو ذا أفتي الناس بقول من كان يحفظ هذا المقدار وأكثر منه" (5) . وليس هذا الكلام من أبي إسحاق مما يقتضي أنه كان يقلِّد أحمد فيما يفتي   (1) كلمة (ألف) مكررة في الأصل. (2) انظر هذه الرواية في: إعلام الموقعين (1/45) وفي آخرها: (أخذ عن ستمائة ألف) بدل (أجاب) . وذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة العكبري (2/164) بأخصر مما هنا، ومن رواية العكبري عن أبي إسحاق بن شاقلا. (3) هو العكبري. (4) هو: ابن شَاقْلاَ. (5) ذكر هذا الكلام ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة أبي حفص البرمكي (2/164) وذكره ابن القَيم في كتاب إعلام الموقعين (1/45) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1597 به؛ لأنه قد نص في بعض "تعاليقه" على كتاب "العلل" الدلالة على منع الفتيا بغير علم: قوله تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَاَ لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (1) . وقوله: (فَلِمَ تُحَاجوَن فِيْمَا ليس لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (2) . وذكر ابن بطة في مكاتباته إلى البرمكي "لا يجوز له أن يفتي بما يسمع ممن (3) يفتى، إنما يجوز أن يقلد نفسه، فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا" (4) . وذكر أبو حفص في "تعاليقه" قال: "سمعت أبا علي الحسن (5) بن عبد الله النجاد (6) يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار (7) يقول: ما أعيب على رجل يحفظ لأحمد خمس مسائل، يستند إلى بعض سواري المسجد يفتي الناس بها" (8) .   (1) آية (36) من سورة الاسراء. (2) آية (66) ص سورة آل عمران. (3) في الأصل: (من) . (4) هذه الرواية ذكرها ابن حمدان في كتابه: صفة الفتوى والمفتي ص (26) كما ذكرها ابن النجار في كتابه شرح الكوكب المنير (4/562) بأخصر مما هنا. ذُكرت في المسوَّدة ص (517) بنصها كما هنا. (5) هكذا ورد مكبراً. وفي طبقات الحنابلة (2/140) والمنهج الأحمد (2/55) بالتصغير. (6) الفقيه الحنبلي البربهاري مات سنة (360هـ) . له ترجمة في: طبقات الحنابلة والمنهج الأحمد، في الموضعين السابقين. (7) هو: علي بن محمد بن بشار أبو الحسن، الفقيه الحنبلي. روى عن صالح بن أحمد وأبي بكر المروذي. وعنه أبو الحسن أحمد بن مقسم وأبو علي النجاد توفي سنة (313هـ) . له ترجمة في: طبقات الحنابلة (2/57) والمنهج الأحمد (2/7) . (8) هذه الرواية مذكورة بنصها في: طبقات الحنابلة (2/63، 142) والمنهج الأحمد (2/11، 56) والمسودة ص (517) وشرح الكوكب المنير (4/562) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1598 وهذا منه مبالغة (1) . وذكر أبو عبد الله بن بطة في كتاب "الرد على من أفتى في الخلع" أنبأنا أبو حفص عمر بن محمد بن رجاء، حدثنا أبو نصر عصمة بن أبي عصمة (2) ، حدثنا العباس بن الحسين العيطوي حدثنا محمد بن الحجاج قال: كتب أحمد بن حنبل -رحمه الله- عني كلاماً، قال العباس وأملاه علينا قال: "لا ينبغى للرجل أن ينصب نفسه، يعني للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال. أما أولها: أن تكون له نية، فإنه إن لم تكن له نية [250/أ] لم يكن على كلامه نور، ولم يكن عليه نور. وأما الثانية: فيكون له حلم ووقار وسكينة. وأما الثالثة: فيكون قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفته. وأما الرابعة: فالكفاية، وإلا مَضَغَه الناس. والخامسة: فمعرفة الناس" (3) ورأيت في أخبار بِشْر بن الحارث رواية أبي عبد الله محمد بن مُخْلِد   (1) في المسوَّدة الموضع السابق زيادة: (في فضله) منسوبة إلى المؤلف. (2) العكبري. كنيته أبو طالب على ما في الطبقات، وكناه المؤلف هنا بأبي نصر. وهو من أصحاب الإمام أحمد الذين رووا عنه كثيراً من المسائل. روى عنه أبو حفص عمر بن رجاء وغيره. مات سنة (244هـ) . له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/246) . (3) ذكر هذه الرواية ابن القيَّم في كتابه إعلام الموقعين (4/199) وعلق عليها تعليقاً نفيساً، وحري بطالب العلم أن يطلع عليه. وقد نقلها بسنده عن ابن بطة ابن أبي يعلي في طبقاته في ترجمة أبي حفص عمر بن محمد بن رجاء العكبري - أحد المذكورين في سند المؤلف (2/57) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1599 العطار (1) قال: حدثني عيسى بن جعفر أبو موسى الوراق (2) قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل -رحمه الله- وذاكره دُحَيم (3) بالأصول عن النبي -عليه السلام- قال أحمد - رضي الله عنه -: "أما الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي فينبغي أن تكون ألفاً أو ألفاً ومائتين" (4) . وهذه الرواية تؤيد صحة التأويل لقول أحمد -رحمه الله- "لا يفتي [إلا] وقد حفظ مائة ألف ومائتي ألف"، على طريق الاحتياط؛ لأنه قد حَرَّر الأخيار التي يدور عليها العلم، يعني الحلال والحرام، بألف أو ألف ومائتين.   (1) هو: محمد بن مُخَلِد بن حفص أبو عبد الله الدوري العطار صاحب بعض تلاميذ الإمام أحمد، منهم صالح بن الإِمام أحمد وأبو داود السجستاني. حدث عنه الدارقطني وابن شاهين. ثقة مأمون ولد سنة (283هـ) ومات سنة (331هـ) له ترجمة في: طبقات الحنابلة (2/73) وتاريخ بغداد (3/310) وطبقات الحفاظ ص (344) . (2) الصفدي من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقل عنه بعض المسائل. سمع شبابة ابن سوار وشجاع بن الوليد وغيرهما. وروى عنه يحيى بن صاعد ومحمد بن مخلد وغيرهما. مات سنة (272) . له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/247) . (3) هو: عبد الرحمن بن إبراهيم أبو سعيد الدمشقي، المعروف بدُحَيم. روى عن الإِمام أحمد ومعروف الخياط وخلق. وعنه الإمام البخاري وجماعة. قال فيه الإِمام أحمد: "عاقل ركين". وقال أبو داود: "حجة، لم يكن بدمشق في زمنه مثله". توفى سنة (245) . له ترجمة في: تاريح بغداد (10/265) وتذكرة الحفاظ (2/480) وطبقات الحفاظ ص (208) وطبقات الحنابلة (1/204) . (4) ذكرت هذه الرواية في: المسوَّدة ص (516) وشرح الكوكب المنير (4/561) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1600 فصل وأما صفة المستفتي فهو العامي الذي ليس معه ما ذكرنا من آلة الاجتهاد (1) . وذكر أبو حفص في كتاب "أخبار أحمد" -رحمه الله- عن إسماعيل ابن علي عن عبد الله قال: "سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإِسناد القوي من الضعيف، فيجوز أن يعمل بما شاء، ويتخيَّر ما أحب منها، فيفتى به ويعمل به، قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم" (2) . وظاهر هذا أن فرضه التقليد والسؤال، إذا لم تكن له معرفة بالكتاب والسنة. وقال قوم من المعتزلة البغداديين: لا يجوز للعامي أن يقلد في دينه، ويجب عليه أن يقف على طريق الحكم. وإذا سأل العالِم، فإنما يسأله أن يعرِّفه طريق   (1) راجع هذا الفصل في: روضة الناظر (2/450) والمسودة ص (517) وشرح الكوكب المنير (4/539) وإعلام الموقعين (4/219) وصفة الفتوى ص (68) . (2) ذكرت هذه الرواية في: المسوَّدة ص (517) وصفة الفتوى ص (26) وإعلام الموقعين (4/206) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1601 الحكم، وإذا عرفه ووقَفَ عليه عَمِلَ به (1) . وهذا غير صحيح؛ لقوله تعالى: (فَاسْألوا أهلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بَالْبَيناتِ وَالزُّبُرِ) (2) . وقول النبي -عليه السلام-: (ألا تسألوا إذْ لم تعلموا، فإنما شفاء العِي السؤال) (3) .   (1) نقل ذلك عنهم أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/934) . (2) آية (43-44) من سورة النحل. (3) هذا الحديث رواه جابر - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب: في المجروح يتيمم (1/239) ولفظه: (قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشَجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه به فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخْبِر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويَعْصِر، أو يَعْصبِ -شك موسى- على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده) . وأخرجه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب: جواز التيمم لصاحب الجرح ... (1/190) ثم قال بعد ذلك: (لم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خُريْق، وليس بالقوي. وخالفه الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء، وقيل: بلغني عن عطاء، وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصواب) . ورواه ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في الموضع السابق. وأخرجه عنه ابن ماجة في كتاب الطهارة باب: في المجروح تصيبه الجنابة (1/189) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1602 ولأنه ليس من أهل الاجتهاد، فكان فرضُه التقليد كالأعمى في القبلة؛ فإنه لمَّا لم يكن معه آلة الاجتهاد في القبلة، كان عليه تقليد البصير فيها. والحاكم إذا لم يكن معه حكم القِيافة وقِيَم المتلفات، قلَّد فيها من هو من أهل العلم والبصر فيها. فأما قولهم [250/ب] إنه يقف على طريق الحكم. فالجواب: أنه لا سبيل إلى الوقوف على ذلك إلا بعد أن يتفقه سنين. ونرى من تفقه المدة الطويلة، ولا يتحقق طريق القياس، ولا يعلم ما يصححه وما يفسده، وما يوجب تقديمه على غيره. وفي تكليف ذلك العامة تكليف ما لا يطيقونه، ولا سبيل لهم إليه.   = وأخرجه عنه الدارقطني في الموضع السابق. وأخرج عنه الدارمي في كتاب الطهارة، باب: المجروح تصيبه الجنابة (1/157) . والحديث ضعفه البيهقي والدارقطني وابن حجر، وإن صححه ابن السكن انظر: سنن البيهقي الموضع السابق وسنن الدارقطني الموضع السابق أيضاً، والتلخيص (1/147) وإرواء الغليل (1/142) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1603 مسألة [الاستحسان] قد أطلق أحمد -رحمه الله- القول بالاستحسان في مسائل (1) . فقال في رواية صالح في المضارِب، إذا خالف فاشترى غير ما أمره به صاحب المال: "فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب، وكنتُ أذهبُ إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت" (2) . وقال في رواية الميموني: "استحسنُ أن يتيمم لكل صلاة، ولكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى يُحْدِث، أو يَجِدَ الماء" (3) . وقال في رواية المروذي: "يجوز شَرْي أرض السواد، ولا يجوز بيعها، فقيل له: كيف يشترى ممن لا يملك؟! فقال: القياس كما تقول، ولكن هو.   (1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/87) وروضة الناظر (1/407) ، والمسوَّدة ص (451) والبُلْبُل ص (143) وشرح الكوكب المنير (4/427) . (2) نصّ الرواية في مسائل الإِمام أحمد رواية ابنه صالح (1/448) يختلف عما هنا، حيث جاء فيها: (وسألته عن المضارب إذا خالف؟ قال: بمنزلة الوديعة عليه الضمان، والربح لرب المال إذا خالف، إلا أن المضارب أعجب إليَّ أن يعطي بقدر ما عمل) . وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود ص (199) : (سمعت أحمد سئل عن المضارب إذا خالف؟ قال: يختلفون فيه) . ونص الرواية في المسوَّدة ص (452) وبدائع الفوائد لابن القيِّم (4/124) كما ذكر المؤلف. (3) وردت هذه الرواية بنصها في التمهيد (4/87) والمسودة ص (451) وشرح الكوكب (4/427) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1604 استحسان. واحتج: بأن أصحاب النبي -عليه السلام- "رخَّصوا في شَرْي المصاحف، شَرْي المصاحف، وكرهوا بيعها" (1) . وهذا يشبه ذلك. وقال في رواية بكر بن محمد -فيمن غصب أرضاً فزرعها-: "الزرعُ لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا بشىء يوافق القياس، استحسنُ أن يدفع إليه نفقته" (2) . ونقل أبو طالب عن أحمد -رحمه الله- أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئاً خلاف القياس، قالوا: نستحسنُ هذا وندع القياس، فيَدَعون الذي (3) يزعمون أنه الحق بالاستحسان، وأنا أذهبُ إلى كل حديث جاء، ولا أقيس عليه" (4) . وظاهر هذا: إبطال القول بالاستحسان. وقد أطلقه أصحاب أبي حنيفة في مسائل (5) . واعترض عليهم أصحاب الشافعي، وحملوا ذلك على أنهم قالوا ذلك على طريق الشهوة والهوى، من غير حجة (6) .   (1) سبق تخريج هذه الرواية، وتخريج الأثر المحتج به. (2) انظر هذه الرواية بنصها في: التمهيد (4/87) والمسودة ص (452) وشرح الكوكب (4/427) . (3) في الأصل: (الدين) . (4) انظر هذه الرواية بنصها في المراجع السابقة. (5) انظر بيان رأي الحنفية في: تيسير التحرير (4/78) وأصول السرخسي (2/199) وكشف الأسرار للنسفي (2/290) وفواتح الرحموت (2/320) . (6) قال الإِمام الشافعي -فيما نقله الغزالي في المستصفى (1/274) : (من استحسن فقد شرَّع) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1605 ونحن نبين صحة هذه العبارة، ونوضح الغرض منها، ونقيم الحجة عليها. فالدليل (1) على صحة هذه العبارة: وجود استعمالها في الكتاب والسنة وإطلاق من تقدم من علماء السلف وفقهاء الأمصار. أما الكتاب: فقوله تعالى: (فَبَشر عِبَادِ الذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَبِعُونَ أحْسَنَهُ أوْلَئِكَ الذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأوْلَئِكَ هُمْ أوْلُوا الألبَابِ) (2) . والسنة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما رآه المسلمون حسناً، فهو [251/أ] عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً، كان عند الله سيئاً) . وروي مثله عن ابن مسعود (3) . وأما إطلاق ذلك من السلف وفقهاء الأمصار: فما روي عن إياس بن معاوية (4) أنه كان يقول: "قيسوا للقضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا" (5) .   = ولكنَّ المتأخرين من أصحابه - كما يقول الشيرازي في شرح اللُّمع (2/973) ، يقولون بالاستحسان، وهو عندهم: "ترك أضعف الدليلين لأقواهما، وقد يكون بدليل النص، وقد يكون بالإجماع، وقد يكون بالقياس، وقد يكون بالاستدلال بالنص". وانظر: الرسالة ص (503) والأم (7/294) والتبصرة ص (492) . (1) في الأصل: (بالدليل) . (2) آية (17-18) من سورة الزمر. (3) يعني موقوفاً على ابن مسعود - رضي الله عنه - قلتُ: وهو الصواب. (4) هو: إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني، أبو واثلة البصري. روى عن أنس وسعيد بن المسيب وغيرهما وعنه حميد الطويل وشعبة وغيرهما ثقة يضرب به المثل في الذكاء والفطنة. كان قاضياً على البصرة توفى سنة (122هـ) . له ترجمة في: أخبار القضاة (1/312) وتهذيب التهذيب (1/390) . (5) قول إياس هذا ورد بنصه في أخبار القضاة (1/341) والتمهيد (4/91) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1606 وكتُبُ مالك بن أنس مشحونة بذكر الاستحسان في المسائل (1) . وقد قال الشافعي "استحسنُ أن تكون المتعةُ ثلاثين درهماً" (2) . فإذا كان كذلك وجب أن تكون هذه العبارة صحيحة. وأما الغرض في إطلاق هذه العبارة فهو: ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه (3) . وقيل: هو أولى القياسين. والحجة التي يرجع إليها في الاستحسان فهي الكتاب تارة، والسنة أخرى، والإجماع ثالثة. والاستدلال يرجح شَبَهَ بعض الأصول على بعض.   (1) معنى هذا الكلام منقول عن القاضي عبد الوهاب المالكي. انظر: المسوَّدة ص (451) وشرح الكوكب المنير (4/428) . والاستحسان في مذهب مالك -كما يقول الشاطبي في الموافقات (4/205) - (الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي. ومقتضاه: الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس) . (2) المراد بالمتعة هنا متعة الطلاق، التي وردت في قوله تعالى: (لاَجُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلقْتُمُ النسَاءَ مَالم تَمَسوهُن أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَريضَةً وَمَتعُوهُن عَلَى المُوسِع قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِر قَدَرُهُ ... ) البقرة (236) . انظر: أحكام القرآن للإمام الشافعي (1/201) والأم (7/255) . وقول الشافعي هنا نقله عنه الآمدي في الإحكام (4/136) . (3) ولم يرتض أبو الخطاب تعريف شيخه هذا، فقد قال بعد نقله: (وهذا ليس بشىء وعلل ذلك بقوله: (لأن الأحكام لا يقال بعضها أولى من بعض، ولا بعضها أقوى من بعض، وإنما القوة للأدلة ... ) . ثم قال بعد ذلك: (الذي يقتضيه كلام صاحبنا أن يكون حد الاستحسان: العدول عن موجب القياس، إلى دليل أقوى منه) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1607 فمما قلنا بالاستحسان فيه لاتباع الكتاب: شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر إذا لم نجد مسلماً لقوله تعالى: (شَهَادَةُ بَيْنِكُم إذَا حَضَرَ أحَدَكُم الْمَوْتُ حِيْنَ الْوَصَيةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ فَأصَابَتْكُم مصيبَةً الْمَوْتِ) (1) الآية. ومما قلنا فيه بالاستحسان بالسنة: فيمن غصب أرضاً وزرعها، فالزرع لرب الأرض، وعلى صاحب الأَرْض النفقة لصاحب الزرع، لحديث رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من زرع في أرض قوم، فالزرع لرب الأرض، وله نفقته) (2)   = ثم علل أن ذلك هو مقتضى كلام الإمام أحمد بقوله: (لأنه لم يرد لفظه إلا في أنه يترك القياس للاستحسان، فأما في دليل آخر فلم يرد) . انظر التمهيد (4/93) . وهذا مقتضى الروايات التي نقلت عن الإمام أحمد، فإنه قد كان ينبه إلى أن قوله خلاف القياس، فيجيب بقوله: القياس كما تقول، ولكن قلنا بالاستحسان. وقد يكون مستنده قول صحابي في المسألة كما في مسألة: بيع المصحف. والله أعلم. (1) آية (106) من سورة المائدة. (2) هذا الحديث رواه رافع بن خديج - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع والاجارات، باب في زرع الأرض بغير إذن صاحبها (3/692) رقم الحديث (3403) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب: فيمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم (3/639) رقم الحديث (1366) . وقال: (حديث حسن غريب) . وقال: (سألت محمد بن إسماعيل [يعني البخاري فقال: هو حديث حسن) . وأخرجه ابن ماجة في كتاب الرهون، باب من المزرع في أرض قوم بغير إذنهم (2/824) رقم الحديث (2466) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1608 وإن كان القياسُ أن يكون الزرعُ لزارعه. ومما قلنا فيه بذلك للإجماع: جواز سلم الدراهم والدنانير في الموزونات، وبأن القياس أن لا يجوز ذلك، لوجود الصفة المضمومة إلى الجنس، وهي الوزن، إلا أنهم استحسنوا فيه الإجماع. فإن قيل: فما الفرق بين المستحسن وبين المشتهى؟ وهلا أجزتم إطلاق المشتهى على ما سميتموه مستحسناً؟. قيل: الفرق بينهما: أن الشهوة لا تتعلق بالنظر والاستدلال. ألا ترى أنها لا تختص من كمل عقله وعرف الأصول وطرق الاجتهاد في أحكام الشريعة، دون من ليست هذه صفته. وأما الاستحسان: فإنه يختص النظر والاستدلال على حسب ما بينَّا. يُبَيِّن صحة الفرق بينهما: أنه قد يصح وصف الشىء بأنه مستحسن عند الله، ولا يصح وصفه بأنه مشتهى عنده، تعالى الله على أن يوصف بذلك.   = وأخرجه البيهقي في كتاب المزارعة، باب: من زرع في أرض غيره بغير إذنه (6/136) . وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/465) و (4/141) . وقد ضعف الحديث الشيخ الألباني في كتابه إرواء الغليل (5/351) لأن في إسناده ثلاث علل. الأولى: الانقطاع بين عطاء ورافع. الثانية: اختلاط أبي إسحاق السبيعي وعنعنته. الثالثة: ضعف شريك بن عبد الله القاضي. ولكن كثرة شواهده هي التي جعلته يرقي إلى درجة الحسن، كما يقول الترمذي والبخاري. وانظر: التلخيص الحبير (3/54) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1609 فإن قيل: لا يخلو القول بالاستحسان من أن يكون عن حجة أو عن غير حجة. فإن كان عن [251/ب] حجة، فلا فرق إذاً بينه وبين القياس. وإن كان عن غير حجة فهو مردود. قيل: قد بينا أنه قول بحجة، وأنه أولى القياسين، إلا أنهم سموه استحساناً، ليفصلوا بهذه التسمية بينه وبين ما لم يكن معدولاً إليه لكونه أولى مما عدل إليه عنه. فإن قيل: فإذا كان الاستحسان أقوى الدليلين، فيجب أن يكون مذهبكم كله استحساناً؛ لأن كل مسألة فيها خلاف بين الفقهاء، فإنه قد ذهبتم فيه إلى أقوى الدليلين عندكم. قيل: الاستحسان أقوى الدليلين فيما حكمنا فيه بصحة كل واحدٍ من الدليلين، ومسائل (1) الخلاف بين الفقهاء لا نحكم بصحة أدلة مخالفنا، بل نعتقد فسادها؛ فلهذا لم نطلق اسم الاستحسان على جميع ذلك. مسألة لا يجوز أن يقال في الحادثة الواحدة بقولين في وقت واحد (2) . وما نقوله من ذكر الروايتين، فهو محمول على أنه قاله (3) في وقتين، كالخبرين، على ما نبينه. وقد أطلق الشافعي القولين في المسألة الواحدة في وقت واحد في مواضع   (1) في الأصل: (المسائل) . (2) راجع هذه المسألة في تهذيب الأجوبة لابن حامد ص (100) : التمهيد (4/357) وروضة الناظر (2/434) والبُلْبُل ص (179) والمسودة ص (450، 534) وشرح الكوكب المنير (4/493) . (3) في الأصل: (قال) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1610 من كتبه (1) . فالدلاله على منع هذا الإطلاق أشياء، منها: أن الصحابة تكلمت بالفقه، وكثرت، فلم تحك عن واحد منهم أن المسألة على قولين؛ فمن أحدث هذا فقد خالف الإجماع. فإن قيل: فالصحابة لم يفرعوا (2) ، كما فرَّع (3) غيرهم. قيل: قد فرَّعوا (5) . قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: (أرأيت لو رأيت رجلاً على فاحشة، أكنت تقيم عليه الحد؟ قال: لا، حتى يكون معي غيري) (5) . وهذا تفريع؛ لأنه سأله عما لم يوجد. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو) . وهذا تفريع. ولأن قوله: فيها قولان، لا يخلو: إما أن يحكي مذهب غيره، أو مذهب نفسه.، أو أن الدليل ما دلّ إلا على هذين القولين، وما عداهما باطل. فبطل أن يحكي مذهب غيره لوجوه:   (1) لم يرتض هذا الإطلاق الشيرازي في كتابيه التبصرة ص (511) وشرح اللُّمع (2/1075) وحمل ما نقل عن الإمام الشافعي في هذا الباب على وجه مرضي. وبين أنه لا يجوز أن يعتقد صحة القولين، بل الصحيح واحد منهما. وقد أطال تاج الدين السبكي الكلام فيها في الإبهاج (3/215) وشدد النكير على من عاب ذلك على الإمام الشافعي. (2) في الأصل: (لم يفزعوا) والصواب ما أثبتناه بدليل ما يأتي. (3) في الأصل: (فزع) والصواب ما أثبتناه بدليل ما يأتي. (4) في الأصل: (فزعوا) والصواب ما أثبتناه بدليل ما يأتي. (5) هذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الشهادات، باب: ليس للقاضي أن = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1611 أحدهما: أن قول غيره أكثر من قولين، فما استوفى الخلاف. ولأنه لو كان حاكياً مذاهب الغير لزمه أن يسمى كتابه كتاب الخلاف، وما سماه بذلك. ولأنه إذا كان حاكياً مذهب غيره فما أضاف مذهباً إلى نفسه، فلا قول له فيها، وما قصد هذا. ولأنه حكى قولين فيما لم يعرف فيه قول لغيره، فبطلت الحكاية. وبطل أن يحكيهما قول نفسه؛ لأن الشىء الواحد لا يكون في [252/أ] حالة واحدة حلالاً حراماً، ولا موجوداً معدوماً، ولا واجباً ندباً. وبطل أن يقال: ما دلَّ الدليل إلا على هذين؛ لأن الدليل الذي دل عليها لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتقاوم الدليلان عنده ويتقابلا، أو يُرجح أحدُهما. فبطل التقاوم؛ لأن أدلة الشرع لا تتقاوم؛ لأن في تقاومها [ما] يفيد إحلال حرام.   = يعمل [بعلمه] (10/144) بلفظ: (أن عمر بن الخطاب قال لعبد الرحمن بن عوف: أرأيت لو رأيت رجلاً قتل أو سرق أو زنى؟ قال: أرى شهادتك شهادة رجل من المسلمين قال: أصبت) . وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الشهادات، باب: شهادة الإمام (8/340) بمثل لفظ البيهقي. وأخرجه ابن أبي شيبة، حكى ذلك الحافظ في الفتح (3/159) ولفظه قريب من لفظ المؤلف. وسنده منقطع كما يقول الحافظ. وعلقه البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام، باب: الشهادة تكون عند الحاكم الفتح (13/159) . وتعليق البخاري هنا بالجزم لا يدل على صحته. قال الحافظ: (وهذا من المواضع التي ينبه عليها من يغتر بتعميم قولهم: إن التعليق = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1612 وبطل أن يُرجح أحدُهما؛ لأنه إذا رجح سقط الآخر، فلا يكون فيها قولان. فلم يبق إلا أن القول بالقولين باطل. ولأن القول بالقولين لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكونا صحيحين، أو باطلين، أو أحدهما صحيحاً والآخر باطلاً. فبطل أن يكونا صحيحين؛ لأنه لا يجوز أن يكون الشىء الواحد حلالاً حراماً. وبطل أن يكونا عنده باطلين؛ لأنهما لو كان كذلك ما حكاهما. وبطل أن يكون أحدُهما صحيحاً؛ لأنه لو كان الأمر على هذا لما حكى قولين. وإذا بطل الكل، بطل القول بالقولين. ولأنه إذا قال: فيها قولان، لا يخلو من أحد أمرين: أما أن يعلم أن أحدهما صحيح، أو يجهل ذلك. فإن كان يعلم أن الصحيح أحدهما، فلا يحل له أن يكتمه لقوله تعالى: (إن الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنزلْنَا مِنَ الْبيناتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيناهُ لِلناسِ في الْكِتَابِ أولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُم اللاعِنُونَ) (1) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) (2) .   = الجازم صحيح، فيجب تقييد ذلك بأن يزاد: "إلى من علق عنه" ويبقى النظر فيما فوق ذلك. وانظر: تغليق التعليق (5/298) والتلخيص الحبير (4/197) كلاهما للحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى. (1) آية (159) من سورة البقرة. (2) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1613 وإن كان جاهلاً بذلك، فما كان يحل له أن يحكيه لقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) (1) . وقال تعالى: (وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (2) . فلم يبق إلا أن القول باطل. فإن قيل: ذكر القولين ليعلم أصحابه طرق الاجتهاد، واستخراج العلل، وبيان ما يصححها ويفسدها؛ لأنه يحتاج إلى أن يبين طريق الأحكام، فكانت فائدة ذكر القولين هذا، دون أن يكون القولان مذهباً له. قيل: لو كان كذلك لوجب أن يحكي جميع الخلاف في ذلك، فيحصل التحريض والتجريح، وقد حكى في مسألة قولين وفيها أقوال. فإن قيل: أراد التخيير بين القولين؛ لأنه لم يظهر له مزيَّة لأحدهما على الآخر. قيل: هذا يفضي إلى أن يتقاوم الدليلان ويتقابلا، وأدلة الشرع لا تتقاوم؛ لأن في تقاومها [ما] يفيد إحلال حرام، وهذا لا يجوز. فإن قيل: إذا ذَكَر القولين ولم يبين الحق منهما، فقد أفاد بذكرهما أن ما عداهما باطل عنده، وأن الحق أحدهما.   = أخرجه عنه أبو داود في كتاب العلم، باب: كراهية منع العلم (4/67) حديث رقم (3658) . وأخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب: ما جاء في كتمان العلم (5/29) حديث رقم (2649) وقال: (حديث حسن) . وأخرجه ابن ماجة في مقدمة سننه، باب: من سئل عن علم فكتمه (1/96) حديث رقم (261) . (1) آية (36) من سورة الإسراء. (2) آية (169) من سورة البقرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1614 قيل: [252/ب] فإذا كان الحق أحدهما، فلا يجوز أن يطلق القول فيهما؛ لأن الإطلاق يمنع تعلق الحق في أحدهما، ولا يجوز أن يطلق لفظاً من غير معنى [فذلك] فاسد، وإن لم يرد به ما يقتضيه ظاهره، كما لا يجوز أن يعتقد صحة ذلك المعنى. ألا ترى أن من ليس في تقيَّة، لا يجوز له أن يظهر كلمة الكفر، وإن لم يرد بها ما يقتضيه ظاهرها، كما لا يجوز له أن يعتقد ما يبين ظاهرها عنه. وإذا كان كذلك، واتفقنا على فساد اعتقاد ما أطلقه من القولين المتضادين في المسألة الواحدة في الوقت الواحد، وجب أن يكون إطلاقه ذلك فاسداً، وإن لم يرد به ما يقتضيه ظاهره. فإن قيل: فالخبر عما هو متوقف فيه حسن مفيد. قيل: الخبر عما هو متوقف فيه حسن إذا كان اللفظ لا يُنبىء عن معنى فاسد، وقد بينَّا أن هذا يُنبىء إطلاقه عن معنى فاسد، فلم يصح. فإن قيل: أمور الناس محمولة على الصحة والسلامة، فوجب أن يحمل ما ذهب إليه الشافعي في ذلك على وجه يجوز حمله عليه دون ما لا يجوز. قيل: لو جاز هذا الاعتبار لوجب أن تحمل كل لفظة منكرة الظاهر على وجه يصح حملها عليه، ولا يكون المتكلم بها ممنوعاً من إطلاقها. فكان يجوز للقائل أن يقول "لا إله" ويسكت على ذلك، فيكون ذلك محمولاً على أنه إنما أراد به "لا إله إلا الله". وكذلك، إذا قال: (وَيْل لِلْمُصَلينَ) (1) وسكت عليه يجب أن يحمل على أنه إنما أراد به (المُصَلينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ) .   (1) آية (4) من سورة الماعون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1615 فإن قيل: أليس قد جعل عمر - رضي الله عنه - الأمر شورى في ستة (1) ، ولم ينص على واحد مما أنكرتم مثله هاهنا. قيل: عمر لم يقل إن الإمام فلان وفلان، كما قال الشافعي -رحمه الله- في المسألة قولان وأكثر من ذلك، فكيف يشتبهان؟!. فإن قيل: فقد دخل أحمد -رحمه الله- فيما أنكرتموه على الشافعي، فإنه رُوي عنه في مسِّ الذكر روايات (2) ، وفي غيرها الروايتان والثلاث (3) . قيل: الروايتان لم يقلهما أحمد في حال واحد، فيؤدي ذلك إلى أن يكون   (1) آية (4) من سورة الماعون. (2) الستة هم: عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. فقد جعل عمر - رضي الله عنه - الخلافة في واحد من هؤلاء، وعلل ذلك بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو راضٍ عنهم. أخرج هذا البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- من حديث طويل. انظر: فتح الباري (3/256) رقم الحديث (1392) . (2) للإمام أحمد -رحمه الله- في نقض الوضوء من مس الذكر روايات كثيرة، ذكر منها ابن قدامة في كتابه الكافي (1/44) ثلاث روايات هي: الأولى: ينقض مطلقاً، وهي أصح. الثانية: لا ينقض مطلقاً. الثالثة: ينقض إذا كان قاصداً للمس. وهناك روايات أخرى انظرها في: مسائل الإِمام أحمد رواية ابنه عبد الله (1/59) ومسائله رواية ابنه صالح (1/170) ومسائله رواية أبي داود ص (12) ومسائله رواية ابن هانىء (1/16) والروايتين والوجهين للمؤلف (1/84) وتهذيب الأجوبة للحسن بن حامد ص (100) والمغني (1/240) طبعة هجر، والإنصاف (1/202) . (3) في الأصل: (الروايتين والثلاثة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1616 الشىء الواحد حلالاً حراماً، وإنما قال ذلك في وقتين مختلفين، رجع عن الأول منهما. ولو علمنا المتأخر منهما صرنا إليه، وجعلناه رجوعاً عن الأول. فلما لم نعرف المتقدم من المتأخر، جعلنا الحكم فيها مختلفاً [253/أ] ؛ لأنه ليس تقديم أحدهما أولى من تأخيره؛ ولهذا قلنا -في مسائل عرفنا الثاني من قوله فيها-: إنه رجوع عن الأول. من ذلك قوله في رواية ابن إبراهيم: "إذا رأى الماء في الصلاة يمضي فيها، ثم تبينتُ، فإذا الأخبار: إذا رأى الماء يخرج من صلاته" (1) . ونقل أبو زرعة (2) عنه: "كنتُ أتهيبُ أن أقول: لا تبطل صلاة من لم يصلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تبينتُ، فإذا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة، فمن تركها أعاد الصلاة" (3) .   (1) المذهب أنه إذا رأى الماء فيها بطلت صلاته، وعليه أن يتوضأ ثم يصلي. وهناك رواية ثانية: أنه يمضي في صلاته. والأصحاب في رواية ابن إبراهيم هذه والمروذي التي سيذكرها المؤلف فريقان: الأول: أخذ برجوعه عن الرواية الأولى، ورأى أن صلاته باطلة. الثاني: أثبت الروايتين؛ لأنهما صادرتان عن اجتهادين في وقتين، فلا تنقض إحداهما بالأخرى. انظر: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (1/238) ، والمغني (1/347) طبعة هجر، والانصاف (1/298) . (2) هو: عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله النصري الدمشقي. وقد سبقت ترجمته. (3) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ركن في المذهب، واختاره أكثر الاصحاب، وعلل بعضهم ذلك برجوع أحمد عن القول الأول إلى الثاني. وعنه: رواية ثانية: أنها واجبة. انظر: مسائل الإمام أحمد رواية صالح (1/379) والإنصاف (2/116) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1617 وقال قوران (1) رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة وقال: "يعطى كل واحد منهم نصف صاع" (2) ، وقال: لا يحكى عن أبي عبد الله. وقال إسحاق بن إبراهيم: رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة في الزكاة وقال: "يضم الذهب إلى الفضة وتزكى" (3) . و"كذلك الحنطة إلى الشعير" (4) . وهذا ظاهر كلام أبي بكر الخلال وصاحبه أبي بكر عبد العزيز، وأن ذلك رجوع عن الأول، وذكرا ذلك في مواضع من كتبهما. فمن ذلك: ما رواه مهنا عنه أنه كره العقيقة يوم سابعه، فقال: "ذلك قول قديم، والعمل على ما رواه حنبل عنه وغيره" (5) .   (1) هكذا رسمت هذه الكلمة والذي يظهر لي أنها اسم علم بدلالة ما بعدها، ولم أجد أحداً من أصحاب الإمام أحمد اسمه يشابه رسم الكلمة. (2) هذه المسألة متعلقة بتوزيع صدقة الفطر على المساكين. انظر: مسائل الإِمام أحمد رواية ابنه عبد الله (1/587) والإنصاف (3/175) . (3) أشار المؤلف إلى هذه الرواية في كتابه: الروايتين والوجهين (1/241) والضم هو الصحيح من المذهب. وعليه أكثر الأصحاب. وهناك رواية أخرى: أنه لا ضم. انظر: الإنصاف (3/135) . (4) أشار المؤلف إلى هذه المسألة في كتابه السابق (1/240) . وهناك روايات ثلاث في المسألة: الأولى: تضم الحبوب بعضها إلى بعض في تكميل النصاب. الثانية: لا تضم. الثالثة: تضم الحنطة إلى الشعير، والقطنيات بعضها إلى بعض. انظر: المرجع السابق والإنصاف (3/96) . (5) فإن ذبح العقيقة يوم السابع أفضل. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1618 ونقل أبو الحارث: (إذا لم يجد إلا الثلج مسح به أعضاء الوضوء، ولا يعيد) . فقال: كان ذلك من أبي عبد الله في ذلك الوقت، والعمل على ما رواه المروذي (1) . فهذا كلام أبي بكر الخلال. وكذلك لصاحبه أبي بكر عبد العزيز في مواضع منها: ما رواه ابن منصور عن أحمد -رحمه الله- "يستحلف في حد القذف"، فقال: قول قديم، والعمل على ما رواه حرب وصالح: "لا يمين في شىء من الحدود" (2) .   = وإن ذبحها بعد الولادة وقبل السابع جاز. وذكر ابن البنا أنه يذبح إحدى الشاتين يوم الولادة والأخرى يوم السابع. وما رواه حنبل هنا هو ما رواه صالح عن أبيه في مسائله (2/208) . وانظر: الإنصاف (4/110) . (1) نص ابن قدامة في كتابه المغني (1/30) طبعة هجر: أن الطهارة لا تحصل بمرور الثلج على الأعضاء؛ لأن الواجب الغسل، وأقل ذلك أن يجري الماء على العضو. (2) هذه المسألة فيها روايتان. الأولى: لا يستحلف، لأنه حد، والحدود لا يشرع فيها اليمين. ولا يُعلم في هذا خلاف، كما يقول ابن قدامة. وهذا مقتضى ما رواه عبد الله في مسائله (3/1272) وما رواه صالح في مسائله (1/212) عن أبيهما الإمام أحمد. ونص الرواية عندهما: (سمعت أبي: سئل عن رجل افترى على رجل، ولم تكن له بينة استحلفه؟ قال: لا. قلت: وكذلك الحدود كلها؟ قال: اختلف الناس في ذلك) . الثانية: يستحلف؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ولكن اليمين على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1619 ونقل المروذي عنه فيمن قال: "يا لوطي، يسأل عما أراد، فإن قال: إنك من قوم لوط حُد، فهو قول قديم، والعمل على ما رواه مهنا وغيره: أن عليه الحد" (1) . ومن أصحابنا من حمل ذلك على ظاهره، ولم يسقط أحدهما بالآخر؛ لأنه لا يعلم المتقدم منهما إلا بالتاريخ (2) . فإن قيل: فقد قال في موضع واحد في المسألة الواحدة قولين. نقل ذلك أبو الحارث عنه: "إذا أخرت المرأةُ الصلاة في آخر وقتها، فحاضت قبل خروج الوقت ففيها قولان: أحدهما (3) : لا قضاء عليها؛ لأن لها أن تؤخر إلى آخر الوقت.   = المدعي عليه) ولأنه حق آدمي فيستحلف فيه كالدين. انظر: المغني (8/236) طبعة المنار الثالثة. (1) إذا فسر القائل: "يا لوطي" بأنه أراد: إنك من قوم لوط ففيه ثلاث روايات: الأولى: أنه يحد، ولا يسمع تفسيره بما يخرج العبارة عن القذف. نقل هذا جماعة عن الإمام أحمد؛ لأنها صريحة في القذف. ولعدم وجود من يُنْسَب إليه من قوم لوط. الثانية: أنه لا يحد؛ لأنه فسر كلامه بما لا يوجب الحد كما لو كان الكلام متصلاً. قال ابن قدامة: (نقلها المروذي) . وهي التي أشار إليها المؤلف، وجعلها من رواية مهنا. الثالثة: إن قالها في حال الغضب فيحد؛ لأن الغضب قرينة على إرادة القذف. انظر: المغني (8/221) طبعة المنار الثالثة والإنصاف (10/210) . (2) انظر: تهذيب الأجوبة ص (100) والتمهيد (4/370) والروضة (2/436) والمسودة ص (527) وشرح الكوكب المنير (4/494) . (3) في الأصل: (احداهما) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1620 والقول الآخر: أن الصلاة قد وجبت عليها بدخول وقتها فعليها القضاء، وهو أعجب القولين إليّ". وكذلك نقل الفضل بن زياد عنه في هذه المسألة. ونقل أبو داود عنه [253/ب] في البكر إذا استحيضت: عندنا فيه قولان: أن تقعد أدنى الحيض يوماً، ثم تغتسل وتصوم وتصلي. أو تقعد أكثر حيض النساء ستاً أو سبعاً. قلت لأحمد -رحمه الله-: فما تختار أنت؟ قال: "من قال يوماً، فهو احتياط" (1) .   (1) تكملة الرواية -كما في مسائل أبي داود ص (22) -: (فإذا عرفت أيامها، واستقامت عليه قضت ما كانت صلت في هذه الأيام دون حيضها) . ثم ذكر بعد ذلك رواية عن الإمام أحمد هي: (سمعت أحمد مرة أخرى سئل عن هذه المسألة قيل له: فيمن تستحاض أول مرة؟ فقال: قالوا، ثم اقتصر المسألة بمعناه. قال السائل: فما تختار أنت؟ قال: قالوا هذا وهذا. قال: فبأيهما أخذتُ فهو جائز؟ قال نعم، ومن قال يوم فهو احتياط) . وقد ذكر أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/365) هذه الرواية إلى قوله: (ستاً أو سبعاً) ثم قال: (تمام الرواية: فقلت له: فما تختار أنت؟ قال: من قال يوماً فهو الاحتياط) . ثم علق على ذلك بقوله: (فبين أن مذهبه: اختياره أن تجلس يوماً، وعلل بالاحتياط) . وهذا التوجيه لقول الإمام أحمد قال به المؤلف أيضاً في آخر المسألة. والذي يظهر لي أن الإمام أحمد خيَّر السائل بين الأمرين، فقد قال له: (فبأيهما أخذتُ فهو جائز؟ قال: نعم) . ثم أردف ببيان وجهة من قال باليوم: أن ذلك على سبيل الاحتياط. وأيضاً فإن نقل أبي الخطاب للرواية لم يكن دقيقاً إلا إذا كان هناك نقل آخر للرواية لم نطلع عليه فَيتجه، وإن كان خلاف الظاهر. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1621 وكذلك نقل المروذي عنه هذه المسألة. قيل: أحمد -رحمه الله- لم يطلق القولين حتى ينبئ عن اختياره، والصحيح منهما، فقال في مسألة أبي الحارث: "أعجب القولين إليّ القضاء". وكذلك في مسألة أبي داود: "من قال يوماً هو احتياط". فصل في معنى اللفظ المحتمل من كلام أحمد رحمه الله تعالى [جوابه بأخشى] إذا سئل عن حكم فقال: أخشى أن يكون كذا، أو أخشى أن لا يكون كذا، فهو مثل قوله: يجوز، ولا يجوز ذلك (1) . فدل في رواية صالح وقد سئل عن صلاة الجماعة فقال: "أخشى أن تكون فريضة" (2) .   (1) راجع في هذا: تهذيب الأجوبة لابن حامد ص (114) وصفة الفتوى ص (91) والمسوَّدة ص (529) . ويظهر أن المؤلف استفاد هذا الفصل من كتاب شيْخه تهذيب الأجوبة. (2) ذكر صالح هذه الرواية في مسائله (2/34) وتمامها: (ولو ذهب الناس يجلسون عنها لتعطلت المساجد. ويروى عن على وابن مسعود وابن عباس: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له") . وذكرها ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (114) . وفي حكم صلاة الجماعة عند الإِمام أحمد أربع روايات: الأولى: أنها واجبة، وهو المذهب. الثانية: أنها سنة. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1622 وكذلك نقل مهنَّا عنه فيمن حلف لا يلبس من غزلها، فلبس ثوباً فيه من غزلها الثلث: "أخشى أن يكون قد حنث" (1) . وكذلك نقل الأثرم عنه في إعطاء القِيَم لكل مسكين في الزكاة: "أخشى أن لا يجزىء" (2) . وكذلك نقل ابن إبراهيم فيمن قال: حلفت، ولم يحلف: "أخشى أن يكون قد حنث" (3) .   = الثالثة: أنها فرض كفاية. الرابعة: أنها شرط في صحة الصلاة. انظر: المغني (3/5) طبعة هجر، والإنصاف (2/210) . (1) ذكر هذه الرواية ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (115) . والمذهب أنه يحنث في هذه الصورة. انظر: المغني (8/781) طبعة المنار. (2) نقل عبد الله عن أبيه في مسائله (2/588) نحو هذا، حيث قال: (سمعت أبي يكره أن يعطي القيمة في زكاة الفطر، يقول: "أخشى إن أعطى القيمة ألا يجزئه ذلك) . وفى مسائل أبي داود ص (85) قال الإِمام أحمد: (أخاف أن لا يجزئه، خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . والمسألة فيها ثلاث روايات: الأولى: لا يجوز في شىء من الزكوات. وهي ظاهر المذهب عند ابن قدامة. والصحيح من المذهب، ونص عليه، وعليه جماهير الأصحاب عند المرداوي. الثانية: أنه يجوز إخراجها، وهي مخرَّجة، كما يقول المرداوي. الثالثة: يجوز إخراجها فيما عدا زكاة الفطر. انظر: المغني (3/65) والانصاف (3/182) . (3) ذكر ابن حامد هذه الرواية في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (116) . ومن قال: حلفتُ، هل ينعقد اليمين أولا؟ = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1623 وكل ذلك قد ورد عند النص الصريح بالحكم الذي ذكرنا (1) ؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الامتناع من فعل (2) الشىء خوف الضرر منه (3) ، ومنه قوله تعالى: (يَقُولُونَ نَخْشَى أنْ تُصيبَنَا دَائِرة) (4) معناه: نخاف. وكذلك قوله: (إنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (5) . [جوابه بأخاف] وكذلك إذا قال: أخاف أن لا يكون أو يكون، فإن يجري مجرى الصريح (6) .   = هناك روايتان: الأولى: أن ذلك يمين، سواء أنوى اليمين أم أطلق. الثانية: إن نوى بذلك اليمين فهو يمين، وإلا فلا. انظر: الروايتين والوجهين (3/48) والمغني (8/702) والإنصاف (11/9) . (1) حكى ابن حامد في كتابه: السابق الموضع السابق، أن بعض الأصحاب يقف عن القطع بهذا، ويقول: لا يجب أن يقطع عليه بإثبات القول. وقد ناقش ابن حامد أصحاب هذا القول مرجحاً ما اختاره، ورجحه تلميذه أبو يعلى. (2) في الأصل: (جعل) والتصويب من صفة الفتوى ص (92) . (3) في الأصل: (عنه به) والتصويب من المرجع السابق. (4) آية (52) من سورة المائدة والآية في الأصل (قالوا) بدل: (يقولون) وهو خطأ. (5) آية (28) من صورة فاطر. (6) راجع هذا التعبير في: تهذيب الأجوبة ص (120) وصفة الفتوى ص (91) والمسودة ص (529) . وما ذكره المؤلف هنا هو ما اختاره شيخه في تهذيب الأجوبة وانتصر له، فقد قال: (إذا ورد منه الجواب بهذه الصيغة، فإن ذلك علم لإيجاب الحكم ولإثباته. وهذا مذهب شيوخنا، قطع عبد العزيز وغيره به) . = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1624 وقد قال في رواية الميموني: "إذا أعطى القيمة، أخاف أن لا يجزىء" (1) . فنقل مُهنا: إذا قال لعبده: لا مُلكَ لي عليك،: "أخاف أن يكون قد عتق" (2) . وقد نقل صالح في ذلك الحكم الذي ذكرنا، والمعنى فيه ما ذكرنا، وهو: أنها تستعمل في الامتناع. ومنه قوله تعالى، (إني أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبي) (3) معناه: إنني أمتنع خوفاً من ربي. وقوله تعالى: (فَأخافُ أنْ يقْتُلُونِ) (4) . [جوابه بأن هذا يشنع عند الناس] وكذلك إذا قال: "هذا شنع عند الناس، فإن يقتضى المنع (5) .   = ثم نقل عن بعض الأصحاب أنهم قالوا: (إن ذلك لا يكون حتماً، وإنما يكون على التوقي عن الفعل، وأنه يتنزه عنه، فأما أن يكون مفروضاً فلا) . (1) سبق الكلام على مقتضى هذه الرواية، وقد جاءت في رواية الأثرم بصيغة "أخشى". (2) رواية مُهنّا هذه موجودة بنصها في كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (3/109) وتهذيب الأجوبة ص (120) . وفى مثل هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: صريح. الثانية: كناية. انظر: الإنصاف (7/397) . (3) آية (15) من سورة الأنعام. (4) آية (14) من سورة الشعراء. والآية في الأصل: (إنى أخَافُ) وهو خطأ. (5) راجع هذا التعبير في: تهذيب الأجوبة ص (149) وصفة الفتوى ص (94) والمسودة من (530) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1625 قال في رواية الميموني في شهادة العبيد في الحدود: "كأنه شنع، وإنما ذلك عنده أتهيب الناس" (1) . وهذا ظاهر كلام أبي بكر عبد العزيز؛ لأنه لما ذكر هذه المسألة قال: "لا يختلف القول عنه أن شهادته في الحدود لا تجوز" (2) . وخرَّج شيخُنا أبو عبد الله (3) وجهاً آخر: أنه لا يقتضي المنع؛ لأنه امتنع من الصلاة قبل المغرب [154/أ] لأجل أن العامة تشنع ذلك، ولم يقتض ذلك التحريم؛ لأن هذه اللفظة محتملة؛ لأنها تُستعمل في الامتناع فيما يخرج عن العادة، وتُستعمل فيما كان قبيحاً عند الله (4) .   (1) اختصر المؤلف هذه الرواية من كتاب شيخه ابن حامد، فجاءت مشوشة، وهي عند ابن حامد في تهذيب الأجوبة ص (149) : (قال الحسن بن حامد: صورة ذلك: ما رواه الميموني: قلتُ: شهادة العبد في الحدود؟ قال: لا تجوز شهادته، في الحقوق شاهد ويمين، والحدود ليس كذلك. قلتُ لم تستوحش من هذا إذا كان علماً يُتَّبع؟! قال: في الحدود كأنه يُشَنَّع، وإنما ذلك لهَيْب الناس، فردها) . والرواية موجودة أيضاً في صفة الفتوى ص (94) باختصار. في شهادة العبد في الحدود والقصاص ثلاث روايات: الأولى: تقبل فيهما. الثانية: لا تقبل فيهما. الثالثة: لا تقبل في الحدود خاصة. انظر: الإنصاف (12/60) . (2) نقل ذلك عنه ابن حامد في تهذيب الأجوبة من (150) . (3) يعني: الحسن بن حامد الحنبلي. (4) انظر: تهذيب الأجوبة ص (150) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1626 [جوابه بأحب ولا أحب] فإن قال: أحبُّ إليَّ كذا، ولا أحب كذا (1) ، فإطلاق هذا يقتضي الاستحباب دون الإيجاب (2) ؛ لأن هذا هو المعهود في عرف التخاطب. ومن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب) (3) . وقوله: (ليس حلال أحب إلى الله من العتاق) (4) .   (1) راجع هذا التعبير في: تهذيب الأجوبة ص (123) وصفة الفتوى ص (92) والمسودة ص (529) . (2) هذا رأي المؤلف وابن حمدان وجماعة من الحنابلة. وذهب ابن حامد وجماعة إلى أن هذا اللفظ إذا ورد جواباً عن سؤالات في الواجب بالحدود والفروض فذلك علم للإيجاب، وبيان اختياره في الحادثة من الأقاويل، ونقل بعد ذلك جملة من الروايات تدل على ما ذهب إليه. ثم ذكر رأي من يقول بأن هذا اللفظ يدل على الاستحباب، كما ذكر بعض أدلتهم ورد عليها. انظر: تهذيب الأجوبة ص (123-128) ، وصفة الفتوى الموضع السابق. (3) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأدب، باب: ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب (8/61) . وأخرجه الترمذي عنه في كتاب الأدب، باب: ما جاء في أن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب (5/86) . وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/428) . وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الأدب، باب: إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب (4/263) ثم قال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وقد وهم في استدراكه على الإمام البخاري. وأخرجه البخاري أيضاً في الأدب المفرد باب العطاس (2/374) مطبوع مع شرحه: فضل الله الصمد. (4) لم أقف عليه مع كثرة البحث والسؤال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1627 وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) (1) . وقد نقل عنه ما يدل على ذلك، فقال في رواية أبي طالب: "يذبح إلى القبلة أحبُّ إلي" (2) . وكذلك نقل صالح: "يذهب إلى الجمعة ماشياً أحب اليَّ" (3) . وقال في موضع: "وأحبُّ إلي أن يعلن بالنكاح، ويضرب عليه بالدف" (4) . ونقل عنه في مواضع أخر هذه اللفظة، والمراد بها الإيجاب (5) . ونقل أبو طالب: "الأجَل في السَّلَم أحبُّ إلي" (6) ، لقول   (1) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً. أخرجه عنها البخاري في كتاب اللباس، باب: الجلوس على الحصير (7/199) . وأخرجه عنها مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب: فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (1/540) . (2) ذكر هذه الرواية ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (125) . وتوجيه الذبيحة إلى القبلة مستحب في المذهب الحنبلي، وعلى هذا فالتعبير هنا بأحب إلي يعني الاستحباب. انظر: الإنصاف (4/82) . (3) هذه الرواية ذكرها ابن حامد في كتابه السابق ص (126) . ومن سنن الجمعة أن يبكر إليها ماشياً. انظر: المغني (3/234) طبعة هجر، والإنصاف (2/408) . (4) ذكر ابن حامد هذه الرواية في كتابة السابق ص (126) . وضرب الدُّف في النكاح مستحب. انظر: المغني (9/467) طبعة هجر. (5) نقل بعض هذه الألفاظ ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (123) . (6) نقل هذه الرواية ابن حامد في كتابه السابق، الموضع السابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1628 النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) . ونقل حنبل عنه: "إذا قال: أكفُرُ بالله، أحب إليَّ أن يُكَفر" (2) . وكذلك نقل الحسن بن محمد بن الحارث: "فيمن له مائة وعليه مائة، أحبُّ إلي أن يُكَفر" (3) .   (1) هذا إشارة إلى حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يسلفون بالثمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) . أخرجه البخاري في كتاب السلم، باب السلم إلى أجل معلوم (3/108) . وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساقاة، باب: السلم (1227) . وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب: في السلف (3/741) رقم الحديث (1311) . وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب: السلف في الثمار (7/290) حديث رقم (4616) . وأخرجه عنه ابن ماجة في كتاب التجارات باب: السلف في كيل معلوم (2/765) حديث رقم (2280) . وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/217، 222) . والأجَل شرط في السلَم. انظر: كتاب الرواتين والوجهين للمؤلف (1/358) والمغنى (6/402) والإنصاف (5/97) . (2) هذه الرواية مذكورة في كتاب: تهذيب الأجوبة ص (123) وتمامها عنده: (ويستغفر الله، ولا يعود) . والمسألة فيها روايتان: الأولى: أنه تجب عليه كفارة يمين. قال المؤلف: هي المذهب. الثانية: أنه تستحب الكفارة ولا تجب، وإليه تشير رواية حنبل. انظر: الروايتين والوجهين للمؤلف (3/43) . (3) هذه الرواية ذكرها المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين (3/53) كما ذكرها = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1629 وكذلك نقل علي بن سعيد: "إذا جعل على نفسه صيام سنة، فأحبُّ إليَّ أن يفطر في الفطر والأضحى ويُكَفر ويقضى" (1) . [جوابه بالكراهة] وأما الكراهة (2) فقد روي عنه ألفاظ تقتضي التنزيه، وألفاظ اقتضت التحريم. أما التحريم: فنقل الأثرم عنه: تكره جلود الثعالب" (3) .   = شيخه ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (123) . وهذه الرواية تتعلق بمسألة سقوط الكفارة، بالدين، وفيها روايتان: الأولى: يكفر عن يمينه إذا كان في يديه ما يفضل عن عياله يومه، نقلها عبد الله. والثانية: أنه يستحب له أن يُكَفر، ولا يجب عليه. وهي التي نقلها الحسن بن محمد بن الحارث هنا. انظر: كتاب الروايتين والوجهين الموضع السابق. (1) هذه الرواية ذكرها ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (124) وفي هذه المسألة ثلاثة أمور: الأول: أنه يفطر في يوم عيد الفطر والأضحى؛ لأنه لا يجوز صيامهما. الثاني: أن عليه القضاء. الثالث: هل عليه مع القضاء كفارة؟ في المذهب روايتان: الأولى: لا تلزمه الكفارة، نقلها حنبل. الثانية: تلزمه الكفارة، نقلها أبو طالب والأثرم وصالح والمروذي. انظر: الروايتين والوجهين (3/67) . (2) راجع في هذا اللفظ: تهذيب الأجوبة ص (168) ، وصفة الفتوى ص (93) والمسودة ص (530) وإعلام الموقعين (1/39) . (3) رواية الأثرم هذه نقلها عنه ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (171) . وفى لبس جلود الثعالب روايتان: = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1630 وكذلك نقل عنه: "إذا حلَفَ لا يلبس من غزلها، أكره أن يعطى أجرة القصَّار والخياط (1) ". ونقل المروذي: "أكره الصلاة في المقابر (2) ". ونقل ابن منصور: "أكره المتعة (3) ".   = إحداهما: يباح لبسها. والثانية: لا يجوز لبسها. وعلى القول بإباحة لبسها فعن الإمام أحمد: لا تصح الصلاة فيها. وعنه تصح. وعنه تكره. وعنه إن كان متأولاً فلا بأس، وإن كان جاهلاً ينهى عنه. انظر: مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانىء (2/58) ومسائل الإمام أحمد رواية أبي داود ص (40) وفيها أجاب بقوله: (لا يعجبني) والروايتين والوجهين: (1/67) والمغني (1/93) والإنصاف (1/90) . (1) انظر هذه الرواية في: تهذيب الأجوبة ص (171) . وراجع في هذه المسألة: المغني (8/781) والإنصاف (11/54) . (2) ذكرت هذه الرواية في: تهذيب الأجوبة ص (172) . في حكم الصلاة في المقابر روايات: الأولى: لا تصح، نقل ما يدل على ذلك بكر بن محمد. الثانية: تصح، وهو مقتضى ما نقله أبو الحارث. الثالثة: إن علم النهي لم تصح، وإلا صحت. الرابعة: تحرم الصلاة فيها، وتصح، واستبعده المجْد. الخامسة: تكره الصلاة فيها. والروايتان الأوليان هما المشهورتان، والأولى منهما هي المذهب. انظر: الروايتين والوجهين (1/156) والمغني (2/468) طبعة هجر، والإنصاف (1/489) . (3) المتعة هي: أن يتزوجها إلى أجل. ورواية ابن منصور هذه نقلها المؤلف في كتابه الروايتين الوجهين (2/107) = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1631 والمراد بذلك التحريم. ونقل ابن منصور: "كراهية الصلاة في ثياب أهل الذمة (1) ". ونقل المروذي: "كراهية قراءة حمزة (2) ".   = بلفظ: (ونقل ابن منصور: أنه سأله عن متعة النساء تقول: إنها حرام؟ قال: يتجبنها أحبُّ إليَّ) . قال المؤلف بعد ذلك: (فظاهر هذا أنها مكروهة، وليست حراماً) . والصحيح من المذهب أنها لا تصح وتحرم. وجعل جماعة من الأصحاب المسألة رواية واحدة وهي أنها حرام. وهو ما نقله صالح وعبد الله وحنبل. انظر: المرجع السابق، والإنصاف (8/163) . (1) جاء في مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانىء (2/58) : (قلت لأبي عبد الله: الصلاة في ثياب اليهود والنصارى والمجوس؟ قال: تكره الصلاة في ثياب هؤلاء) . وقال في مسائل أبي داود ص (41) (قلتُ لأحمد: ثياب المشركين؟ قال أما ما يلي جسده فلا يعجبنى أن يصلى فيه) . وفى المسألة تفصيل محصله: أن ما علا من ثيابهم كالعمامة والثوب الفوقاني فهو طاهر. وأما ما لاقى عوراتهم كالسراويل والثوب السُّفْلاني، فقد أجاب الإمام أحمد بقوله: (أحب إلي أن يعيد) يعني إذا صلى فيها. فحمل القاضي هذا على وجوب الإعادة، وحمله أبو الخطاب على عدم وجوب الإعادة. انظر: المغني (1/111) طبعة هجر والإنصاف (1/85) . (2) هو: حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل أبو عمارة الكوفي الزيات. أحد القراء السبعة ولد سنة (80هـ) . ومات سنة (156هـ) . له ترجمة في: غاية النهاية في طبقات القراء (1/261) . والرواية هذه ذكرها ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (174) وذكرها ابن قدامة في المغني (2/165) طبعة هجر. وبيَّن ابن قدامة أن السبب في ذلك ما في قراءته من الكسر والإدغام والتكلف = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1632 ونقل ابن منصور: "أكره النفخ (1) في اللحم (2) ". ونقل المروذي: "أكره الخبز الكبار (3) ". وهذا يقتضي التنزيه. ويجب أن يقال في جوابه بأحب وأكره، إذا نقل عنه في مسألة صريح القول بالتحريم، أجاب فيها بأكره، حمل على التحريم، فيبنى مطلق كلامه على مقيده. وإذا لم يكن عنه صريح القول حمل على التنزيه؛ لأن هذه اللفظة تستعمل في التحريم وفي التنزيه. قال تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ (4)) ولم يرد تحريمه. وقوله تعالى: (وَكَرِهُوا أن يُجَاهِدُوا (5) ... ) معناه: امتنعوا.   = وزيادة المد. وحمل الجزري ذلك على قراءة من سمع من حمزة ناقلاً عنه. ثم نقل عن محمد بن الهيثم أن حمزة كان يكره هذا، وينهى عنه. انظر: المغني الموضع السابق وغاية النهاية (1/263) . (1) في الأصل: (القيح) وهو خطأ، والتصويب من الإِنصاف (10/405) فقد نقل الرواية منسوبة إلى ابن منصور. (2) قصر ابن قدامة الكراهة على من يريد البيع لما فيه من الغش. انظر: المغني (8/580) . (3) انظر هذه الرواية في تهذيب الأجوبة ص (174) والمغني (8/614) وصفة الفتوى ص (93) . وقد سأل المروذي الإمام أحمد عن سبب كراهته للخبز الكبار، فأجاب: ليس فيه بركة، إنما البركة في الخبز الصغار، وقال: "مرْهم أن لا يخبزوا كباراً". انظر: المغني، الموضع السابق. (4) آية (46) من سورة البقرة. (5) آية (81) من سورة التوبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1633 وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحبُّ معاليَ الأخلاق ويكره [254/ب] سَفْسَافَهَا (1)) . وقال تعالى: (كُل ذَلِكَ كَانَ سَيئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (2)) معناه: محرماً. [جوابه بأعجب إليَّ] فإن قال: أعجبُ إليَّ (3) أن لا يكون أو يكون؛ فالمنصوص عنه أن ذلك   (1) هذا الحديث رواه الحسين بن علي - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الطبراني في الجامع الكبير، وابن عدي في الكامل. وفى إسناده خالد ابن إلياس، وهو ضعيف. قال الشيخ الألباني: (ويؤخذ من كلام سائر الأئمة فيه أنه ضعيف جداً، وعليه فلا يصلح شاهداً) . انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/367) رقم (1378) . ولكنه حكم له بالصحة في صحيح الجامع الصغير (2/147) رقم (1886) والحديث رواه أيضاً سهل بن سعد - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان، باب: إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق.. (1/48) وقال: (صحيح الإسناد) . وأخرجه أبو نعيم في كتابه: "الحلية" (3/255، 8/133) وقال: (غريب) . وأخرجه أبو الشيخ في "أحاديثه" والسلفي في معجم السفر - على ما حكاه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، الموضع السابق. والحديث صحيح. وله شاهد من رواية سهل بن سعد - رضي الله عنه - عند ابن عساكر وابن النجار والضياء، على ما حكاه الشيخ الألباني في المرجع السابق. وانظر: الجامع الكبير (1/183) وهامش كتاب صفة الفتوى ص (93) . (2) آية (38) من سورة الإِسراء. (3) راجع هذه الصيغة في: تهذيب الأجوبة ص (182) وصفة الفتوى ص (92) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1634 لا يقتضي الوجوب في التحريم والمنع، وإنما هو على طريق الاختيار. نقل الأثرم عنه أن سئل عن المكان يصيبه البول، فيبسط عليه باريَّة (1) وهو جاف يصلى عليه؟ أعجبُ إليَّ أن يتوقى. فقال له الهيثم (2) بن خارجة: هذا جاف وعليه بارية، أي شىء تكره من هذا؟ قال: "إنما قلت لك: أعجبُ إلي أن يتوقاه". وهذا صريح من كلامه أنه لا يقتضي التحريم. [ (3) ] ويجب أن يكون الحكم في قوله: "يعجبني" مثل قوله: "أكره وأحب". وأنه نقل عنه في مسألة صريح القول بالتحريم، ثم أجاب "بأعجبني" أن   (1) البارية: الحصير الخشن. انظر: المصباح المنير (1/76) مادة: (برى) . (2) هو: الهيثم بن خارجة، أبو أحمد، أو أبو يحيى، الخراساني الأصل. روى عنه الإمام أحمد والليث بن سعد وغيرهما. أثنى عليه الإمام أحمد، وروى عنه وهو حي. قال الحافظ فيه "صدوق" مات في سنة (227هـ) . له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/394) والتقريب (2/326) . (3) صحة الصلاة إذا كانت الأرض نجسة ووضع عليها بساطاً طاهراً، وصلى عليها، فإن الصلاة صحيحة مع الكراهة. هذا هو المذهب، وهو ظاهر كلام أحمد، ومقتضى رواية الهيثم بن خارجة التي ذكرها المؤلف هنا. وعنه تصح الصلاة بدون كراهة وعنه لا تصح. وعنه إن كان النجاسة المبسوط عليها رطبة فلا تصح الصلاة، وإلا صحت. ويشترط في الحائل أن يكون صفيقاً فإن لم يكن كذلك لم تصح الصلاة على الصحيح من المذهب وقيل: تصح. وهو بعيد. انظر: المغني (2/478) والإنصاف (1/484) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1635 يحمل على التحريم؛ لأن هذه اللفظة تستعمل في مستحسن غير واجب (1) . تم كتاب العدة في أصول الفقه ولله الحمد والمنة والفضل على تمامه ووافق الفراغ من نسخة في يوم السبت سابع عشر شهر رمضان المعظم سنة تسع وعشرين وسبعمائة للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام (2)   (1) هذا التعليل لا يصلح للحمل على التحريم، كما يظهر من العبارة. ولعل مقصود المؤلف: أن هذه اللفظة إذا أطلقت فيراد بها مستحسن غير واجب. ولكن إذا سبقتها قرينة، كأن سُئل في مسألة فأجاب بالتحريم، ثم سُئل عنها مرة أخرى فأجاب بقوله: "لا يعجبني" فإنها تحمل على التحريم لهذه القرينة. وينبغي أن يلاحظ أن هناك ألفاظاً كثيرة، يعبر بها الإمام أحمد في فتاواه لم يذكرها المؤلف. وقد عُني بها شيخُه ابن حامد في كتابه "تهذيب الأجوبة" عناية فائقة لم يسبق إليها حسب علمي. (2) جاء بآخر المخطوطة ما نصه: رأيت بخط الشيخ الإمام العالم نجم الدين بن حمدان في آخر نسخته التي بخط يده، التي نقلت هذه النسخة منها ما صورته: قال مؤلفه القاضي الإِمام أبو يعلى -رحمه الله-: كان فراغنا منه في ليلة الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1636 كلمة أخيرة وبعد: فلله الحمد والشكر على ما منَّ به علىَّ -ومننه كثيرة- بإنجاز كتاب العدة في أصول الفقه للعالم المحقق الفقيه الأصولي القاضي أبي يعلى الحنبلي البغدادي. والكتاب يعتبر أول كتاب في أصول فقه الحنابلة يصل إلينا، فهو بحق العمدة في بابه، وقد توخيت في تحقيقه الأصول المرعية في تحقيق المخطوطات. وعلم الله أننى لم أبخل عليه بوقت ولا بجهد. وإنني لأرجو أن يكون عملاً صالحاً، ولوجهه خالصاً، وأن يجزيني عليه أحسن الجزاء، فإنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1637