الكتاب: أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر المؤلف: مرزوق بن هياس الزهراني الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] ---------- أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر مرزوق بن هياس الزهراني الكتاب: أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر المؤلف: مرزوق بن هياس الزهراني الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية الجامعة الإسلامية – المدينة المنورة ال مقدمة : الحمد لله أجل الحمد وأوفاه، والصلاة والسلام على أفضل رسل الله، سيدنا محمد ابن عبد الله، الذي بعثه ربه للعالمين رحمة، ولهداية البشر اصطفاه، وبه ختم الأنبياء، فلا نبوة بعده لأحد من خلق الله، وأنزل الله عليه الكتاب معجزة خالدة، وتبيانا لما فيه سعادة الإِنسان في أولاه وأخراه، وصلى الله على آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، ومن اقتفى أثره وترسم خطاه. أما بعد: فهذه نظرات علمية، وتأملات فكرية في معاني آيات من كتاب الله عز وجل، ضمت الآيات أموراً هي قوام المجتمع الإسلامي وأسس مثالية الحياة لكل إنسان وفقه الله وبفضله ورحمته اجتباه، تلكم الأمور هيَ المسماة (الوصايا العشر) والآيات التي ضمت هذه الوصايا هي المبدوءة بقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1. وقد يخطر في ذهن القارئ الكريم أن يسأل عن سبب عنايتي بهذا الموضوع دون سواه من موضوعات الشريعة التي تزخر بكثير من المسائل في العديد من الأبواب. وجوابي عن هذه الخاطرة أن الحافز إلى هذا العمل أمران: 1- حب المعايشة لكتاب الله عز وجل. ولأن هذه الوصايا عليها مدار الإسلام، وهي أسس النجاة وقوارب الفوز لعبور أمواج بحار الحياة العاتية، فالمستمسك بها تَحصل له السلامة في الدنيا والنجاة في الآخرة. 2- إن كتاب الله عز وجل هو المصدر الأول للشريعة الإسلامية، والسنة النبوية المصدر الثاني المبين والمفصل لما جاء في المصدر الأول فالعناية بهما أوجب الواجبات والتعرف على شيء من كنوزهما جهد المقل، وما عداهما من العلوم ففرع عنهما أو خادم لهما، وقد كنت عايشت سنة رسول الله صلى بعض الشيء، وتاقت نفسي إلى جلسات جمع كتاب الله عز وجل، فرأيت أن أبدأ بدراسة تلك الوصايا المباركة رجاء أن تكون وصيتي لنفسي كما هي   1 الآيات (151-153) من سورة الأنعام. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 11 وصية الله إلى عباده جميعا، ووصية نبي الله إلى أمته، ومما تجدر الإشارة إليه هنا إعطاء القارئ الكريم نبذة عن نظرتي إلى هذه الوصايا. فأقول سائلا الموَلى جل ثناؤه التوفيق لكل خير، والبعد عن المزالق والزلل: إن المتأمل لتلك الآيات التي وردت بعد الحديث عن تشريعات الأنعام والثمار يجد أن تلك الوصايا هي قواعد هذا الدين الذي جد في بناء المجتمع الإنساني بناء يليق بمقامه واصطفائه، ففيها سعادة بني الإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي قوام حياته تذكي جذوة التوحيد في نفسه لتحرق تلك الجذوة أوهام الجاهلية، وتبيد تصوراتها، وتكشف زيف مزاعمها، فتملأ قلب الإنسان بنور الإيمان الذي يضيء له الطريق عبر مشواره الطويل إلى أن يلقى ربه عز وجل علىَ صراط مستقيم، ويجد المتأمل أيضا أن هذه الوصايا قوام حياة الأسرة الإنسانية التي يتكون منها المجتمع البشري عبر أجيالها المتلاحقة، فكل أسرة تستمد هدايتهَا من هذا المنهل العذب فإنها تؤتي ثمارها طيبة مباركة بإذن ربها محفوفة برعاية الله في كل ما يحوط الحقوق الإنسانية من ضمانات، وتسعد بكل ما يدفع إلى القيام بالواجبات، وتقدمت الإشارة إلى أن الدين الإسلامي عني ببناء المجتمع الإسلامي الذي بناؤه نابع من صلاح الأسَرة، ومن هذه الوصايَا ندرك القدر العظيم في بناء المجتمع الذي جعل الدين الإسلامي التكافل أحد لبناته، فالعفة والطهارة تحوط كل ما يجري فيه من معاملات، كل ذلكَ مرتبط بعهد الله عز وجل ولتحقيق هذه الغاية يرى المتأمل أن الوصايا بدأت بأعظم أسس إصلاح المجتمع وهي أسس عظيمة لكن توحيد الله عز وجل في المقام الأول، فالمجتمع السليم يقوم على المبدأ السليم ولا حياة لمجتمع يفقد العقيدة النقية الموافقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا صحت العقيدة صح بناء المجتمع وإذا فسدت العقيدة فسد المجتمع، وبصحة العقيدة تصح العبادات، وإذا صحت العبادات أثمرت الأعمال وقوي الرجاء في النجاة بين يدي الله عز وجل ما لم يتخلف القبول بسبب خارجي، ولهذا فإن اللازم قبل الدخول في الأوامر والنواهي، وقبل الشروع في التكاليف والواجبات أن تقوم في المجتمع قاعدة التوحيد قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 1 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا لا إله إلا الله ... " 2 الحديث. وقال لما بعث معاذاً إلى اليمن: " ... فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ... " 3 وقد عني الكتاب والسنة بالتوحيد وجعله قاعدة أساسية   1 الآية (19) سورة محمد. 2 أخرجه الإمام البخاري (الصحيح مع الفتح1/75) . 3 أخرجه الإمام البخاري (المصدر السابق 3/ 261) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 12 لجميع الأعمال، منها تستمد الحقوق والواجبات، وقد رتب الِإسلام على العقيدة ما رتب من الولاء والبراء، وما وضع من الشرائع والأحكام فيجب أن يعترف الإنسان في هذا العصر المليء بالمتناقضات بربوبية الله له في كل شأن من شئون حياته، كما يجب أن يعترف بالله عز وجل إلهاً واحداً، لا شريك له في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته، ولا ريب أن المتأمل يجد في هذه الوصايا تحديدا للمنهج الذي يجب أن يسير عليه كل مسلم إنه المنهج الإسلامي الرفيع الذي يقدم الأسلوب الوقائي على الأسلوب العلاجي، ولا يعرض الناس لَلفتنة ثم يكلفهم مشقة في المقاومة تتلف أعصابهم وتهدر طاقاتهم، إن الإسلام دين وقاية قبل أن يرسم الحدود ويوقع العقوبات فهو دين حماية للفرد والأسرة والمجَتمع، يرعى الإنسان في شئون دنياه ويرشده في أمور آخرته، يحمي الضمير الإنساني فلا يهجس فيه إلا خير ولا ينطوي إلا على صفاء الاعتقاد، ونداء الحق، وهاتف الخير، ومراقبة الله في السر والعلانية، إنه دين صيانة المشاعر، إذ يرشد إلى سمو الأخلاق، ويحذر من الإساءة أياً كان مصدرها والباعث عليها، واعتنى بالحواس فأرسى قواعد تهذيبها، ووطَد دعائم حماية الجوارح، والحماية منها أيضا جعل لكل ذلك قانونه وضوابطه في شتى مجالات الأعمال الدنيوية والأخروية. وربك أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير. الباحث الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 13 المنهج في البحث لما كانت الآيات الكريمات تشمل عشر وصايا توضح جانباً عظيما أقامته الشريعة الإسلامية في مبادئها النظرية والتطبيقية، وفيه تحديد الأسس- التي يقوم عليها إصلاح البشرية رأَيت أن لا أخالف المنهج القرآني. في سرد الِوصايا مرقمة حسب تسلسلها في كتاب الله عز وجل وقد جعلت كل وصية عنواناً مستقلاً وتابعت بحث ما تضمنه الوصية من مبادئ وأحكام تحت عناوين جانبية ورأيت أن من تمام البحث التعرض لكل ما يخدم البحث من حيث بيان الغريب. والنظر في الجانب اللغوي مما له علاقة في توضيح المعنى مع الإفادة التامة من أقوال أئمة التفسير واستخدام المصادر وتوثيق المعلومات. والله تعالى أسأل حسن القصد والتمام والبعد عن اللغو والآثام. وأن يوفقنا لحفظ شريعته وخدمة دينه. بعض ما جاء في فضل هذه الآيات ما من شك أن كل آية في كتاب الله عز وجل تزخر بالفضيلة، وهي معين يفيض بالخير، ويتدفق بالهداية، ومن ذلك الخير ما حوت هذه الآيات، ومن ذلك النور ما أضاءت به طريق الحائرين حتى تركت لهم جادة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وما في هذه الآيات من نور يشع بالخير والهداية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هو وصية الله إلى عباده، ووصية محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمته. قال الترمذي رحمه الله: حدثنا الفضل بن الصباح البغدادي1، حدثنا محمد بن فضيل2, وعن داود الأودي3 عن الشعبي4 عن علقمة5: عن عبد الله6 قال: "من سره أن ينظر إلى الصحيفة7 التي عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم فليقرأ هذه الآيات":   1 أصله من نهاوند، ثقة مات سنة خمس وأربعين ومائة. 2 ابن غزوان، صدوق، رمي بالتشبع. 3 ابن يزيد، الأودي، الزعافري، ضعيف، مات سنة إحدى وخمسين ومائة. 4 عامر بن شراحيل، ثقة مشهور. 5 ابن قيس، النخعي، ثقة ثبت. 6 ابن مسعود رضي الله عنه. 7 لعل في هذه التسمية ما يشير إلى أنها من الصحف المنزلة قبل الإسلام ويأتي البيان إن شاء الله الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 14 {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم} الآية إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. وقال عقبه: هذا حديث حسن غريب2. وقال الطبري رحمه الله: حدثنا ابن وكيع3 قال: ثنا إسحاق الرازي4، عن أبي سفيان5، عن عمرو بن مرة6 قال: قال الربيع7: "ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفل8 خاتمها؟ فقرأ هذه الآيات {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم} "9. وقال رحمه الله: حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير10، عن الأعمش11، عن إبراهيم12، عن علقمة13 قال: "جاء إليه نفر فقالوا: قد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فحدثنا عن الوحي"، فقرأ عليهم هذه الآيات من الأنعام {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ   1 الآيات من (151-153) من سورة الأنعام. 2 الجامع 5/ 264. قد أشكل هذا المسلك للِإمام الترمذي رحمه الله على العلماء، ويذكر الدكتور نور الدين عنتر وهو صاحب بحث في جامع الترمذي أنه إذا قال: حسن غريب فهو يريد ما كان دون الصحة لكنه ليس بضعيف وهو الحسن لذاته، وقد يريد غرابة السند لا المتن (أنظر تعليقه على مقدمة ابن الصلاح ص 36) . ويؤيد أنه أراد غرابة السند أن الرواية أخرجها البيهقي في شعب للإيمان والطبراني وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردوية كلهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (الدر المنثور 3/ 54) وهو شبيه بحديث عمر إنما الأعمال بالنيات. فلينظر. وعلى هذا الفهم فالحديث حسن لذاته عند الترمذي رحمه الله. وإن كان في سنده داود بن يزيد الأودي مجمع على ضعفه (انظر التهذيب 3/ 205) لكنه ضعف محتمل، ولذلك قال ابن عدي رحمه الله: ولم أر في حديثه منكراً يجاوز الحد، وداود وإن كان ليس بالقوي في الحديث، فإنه يكتب حديثه ويقبل إذا روى عنه ثقة. (الكامل 3/948) وتلميذه محمد بن فضيل صدوق، وبقية رجال السند ثقات وتقدم البيان. ويقويه ما يأتي من إيضاح. 3 سفيان بن وكيع، صدوق، بلي بوراقة، ولم يقبل النصح، فسقط حديثه. 4 هو ابن سليمان، أبو يحي، ثقة فاضل، مات سنة مائتين. 5 سعيد بن سنان الشيباني، صدوق له أوهام أخرج له مسلم والأربعة. 6 الجملي، الأعمى، كان لا يدلس، ثقة، عابد، رمي بإرجاء أثنى عليه الأئمة، وله صفات جميلة (انظر التهذيب 8/102) 7 ابن خثيم بن عائذ الثوري، ثقة عابد، قال له ابن مسعود رضي الله عنه: لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك. لكن عمر وبن مرة في غالب ظني أنه لم يسمع منه فإني لم أجده في تلاميذ الربيع، ولا الربيع في شيوخه، ثم إن بين وفاتيهما خمساً وأربعين سنة، والربيع من الثانية، وعمرو من الخامسة وأخرجه الطبري من طريق أخرى عن الربيع غير أنه قال: عن رجل عن الربيع (الطبري 8/ 64) . 8 أي لم يكسر خاتمها، ومعنى الفل: الكسر. (انظر اللسان 11/ 530 والصحاح 2/ 260) . 9 الطبري 8/ 64. 10 ابن عبد الحميد بن قرط، ثقة، صحيح الكتاب. 11 سليمان بن مهران، ثقة، حافظ، لكنه يدلس. 12 ابن يزيد النخعي، ثقة، يرسل كثيراً. 13 ابن قيس ثقة ثبت تقدم. وهو يروى عن ابن مسعود فضل هذه الآيات، فيكون إبراهيم متابعاً لداود الأودي في أصل هذه الرواية. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 15 عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} قالوا: "ليس عن هذا نسألك"1 قال: "فما عندنا وهي غيره"2. سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المبايعة عليها: قال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار3، حدثنا محمد بن مسلمة الواسطي4، حدثنا يزيد بن هارون5، أنبأنا سفيان بن حسين6، عن الزهري7، عن أبي إدريس8، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يبايعني على هؤلاء الآيات، ثم قرأ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حتى ختم الآيات الثلاث، فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص أدركه الله بها في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة، كان أمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له"9. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرجاه"10. وقد وافقه على هذا الحافظ الذهبي رحمه الله11.   1الذي يظهر لي أنهم أرادوا أن يقص عليهم خبر الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو ماروت عائشة رضي الله عنها لكنهم صرفهم إلى هذا ليرشدهم إلى فضلها وأهميتها وقوله: (ليس عندنا وحي غيره) الضمير يعود على القرآن فلا يفهم أنه نفى ماعدا هذه الآيات. 2 الطبري 8/64. 3 نقل السبكي عن الحاكم أنه قال: هو محدث عصره وكان مجاب الدعوة (طبقات الشافعية 2/178) وهذه التزكية من أبي عبد الله الحاكم لشيخه ولها قيمتها لقوة الصلة ومزيد الخبرة رحم الله الجميع. 4 أبو جعفر، قال الخطيب رحمه الله: في حديثه مناكير بأسانيد واضحة، ونقَل عن الحاكم أنه سمع الدار القطني يقول: لا بأس به، ونقل الخطيب تضعيفه عن آخرين. (تاريخ بغداد 3/305) . وأمر الحاكم واضح في هذا فقد أخذ بقول الدارقطني رحمه الله وإن كنت لم أجد هذا في سؤالاته للدار قطني ولا الضعفاء المتروكون له ولعله في كتاب آخر بل الذي في سؤالات البرقاني للدار قطني (متروك) أنظر ص 28 لكن العجيب أن الحافظ الذهبي يوافق الحاكم على صحة الحديث مع أنه لا يرضى عن محمد بن مسلمة حسبما نفهم من ترجمته له (في الميزان 4/41) فهل تبع الحاكم في أخذ يقول الدارقطني أو أنها كبوة ولكل جواد كبوة. 5 أبو خالد، الواسطي، ثقة متقن. 6 أبو محمد، الواسطي ثقة في غير الزهري باتفاقهم. 7 محمد بن مسلم, الفقيه الحافظ, المتفق على جلالته وإتقانه. 8 الخولاني عائذ بن عبد الله, سمع من كبار الصحابة ,وكان عالم الشام بعد أبي الدرداء. 9 لاشك أن من المعلوم للمسلم أن الشرك لا يدخل تحت هذا القول فهو مخصوص بقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك} الآية 48 من النساء وإذا علم فإن قوله هذا أصل مذهب السنة والجماعة لأنه فيما عاد الشرك وقتل النفس على خلاف في الأخير من الكبائر التي يدخل أصحابها تحت مشيئة خلافاً للخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار وهو مذهب واضح البطلان. 10 (المستدرك 2/318) وتقدم الكلام عن هذا التعليق (4) والحديث في سنده محمد بن مسلمة الواسطي أقل أحواله الضعف وسفيان ضعيف في الزهري. لكن الحديث أصله في الصحيحين من رواية الزهري, عن أبي إدريس, عن عبادة رضي الله عنه, دون قوله: "من يبايعني على هؤلاء الآيات ثم قرأ- قل تعالوا أتل ما حرم الله عليكم -حتى ختم الآيات الثلاث-". ولينظر (الصحيح مع الفتح 1/64 وصحيح المسلم 3/1333) ولفظ الحاكم أخرجه عبد بن حميد, وابن أبي حاتم, وأبو الشيخ ابن مردوية عن عبادة بن الصامت (الدر المنثور 3/381) . 11 انظر (التلخيص المستدرك 2/318) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 16 صلة الآيات بالكتب السماوية: قال الطبري رحمه الله: حدثنا محمد بن المثنى1، ومحمد بن بشار2 قالا: ثنا وهب بن جرير3 قال: ثنا أبي4 قال: سمعت يحي بن أيوب5 يحدث عن يزيد بن أبي حبيب6، عن مرِثد بن عبد الله7، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار8 قال: "سمع كعب الأحبار9 رجلاً يقرأ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فقال: والذي نفس كعب بيده، إن هذا لأول شيء في التوراة،- بسم الله الرحمن الرحيم، قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم"10.   1 الزّمن، ثقة، ثبت, وهو قرين محمد بن بشار بندار, وماتا سنة واحدة. 2 بندار قرين سابقة، ثقة 3 ابن حازم، ثقة. 4 جرير بن حازم أبو النضر وهو والد وهب، ثقة، يضعف إدا حدث عن قتادة, وله أوهام إذا حدث من حفظه ولم يحدث في حال اختلاطه. 5 أبو العباس، الغافقي، صدوق ربما أخطأ روى له الجماعة. 6 أبو رجاء، المصري، ثقة، فقيه، وكان يرسل. 7 أبو الخير، المصري: ثقة، فقيه. 8 كان مميزا يوم الفتح فعد في الصحابة. وعده آخرون في ثقات التابعين. أنظر (أسد الغابة 5/341 والثقات للعجلي ص 318) . 9 كعب بن ماتع الحميري، من أهل اليمن وسكَن الشام، ثقة مخضرم. 10 الطبري 8/ 64 والإسناد لا يقل عن درجة الحسن فرجاله أئمة كبار وكون يحي بن أيوب في مرتبة صدوق ربما أخطأ لا ينزل بدرجته عن الحسن فإن الجماعة أخرجوا حديثه ومنهم الإمامان البخاري ومسلم ومن كان حوله فقد جاز القنطرة إن شاء الله وثبتت عدالته. ثم إن ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن المنذر أخرجوا عن كعب أنه قال: "أول ما نزل من التوراة عشر آيات هي العشر التي أنزلت في سورة الأنعام" {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم- إلى آخرها} أنظر (الدر المنثور 3/381) قال الشوكاني رحمه الله: هي وصايا العشر التي في التوراة. أولها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر, من بيت العبودية, لا يكن لك إله غيري. ومنها: أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض، التي يعطيك الرب إلهك. لا تقتل- لا تزن. لا تسرق. لا تشهد على قريبك شهادة الزور. ولا تشته بنت قريبك. ولا تشته إمرأة قريبك. ولا عبده. ولا أمته. ولا حماره, ولا شيئا لقريبك. قال رحمه الله: فلعل مراد كعب الأحبار هذا لليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة ,وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم، وأهل الإنجيل في أول إنجيلهم , وهي مكتوبة في لوحين , وقد تركنا منها ما يتعلق بالسبت (فتح القدير 2/179) قلت معلوم تحريف اليهود للتوراة , ولا يبعد أن يكون اللفظ محرفاً في البعض وعلامته بادية سيما قوله: لا تشهد على قريبك ... الخ، فإن مفهومه جواز ذلك فيما عدا القريب وهذه عقيدتهم المحرفة إستحلال دماء وأموال وأعراض الآخرين وحاشا شرع الله أن يسمح بذلك بل إن كعبا تلا الآيات والله أعلم. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 17 الآيات من محكم القرآن: قال الطبري رحمه الله: حدثنا محمد بن الحسين1 قال: ثنا أحمد بن المفضل2 قال: ثنا أسباط3، عن السدي4 قال: "هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم5 القرآن"6. وقال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله: حدثنا بكر بن محمد الصيرفي7 بمرو، ثنا عبد الصمد بن الفضل8، ثنا مالك بن إسماعيل النهدي9، ثنا إسرائيل10 عن أبي إسحاق11، عن عبد الله بن خليفة12 قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "إن في الأنعام آيات محكمات، هن أم   1 ابن موسى ابن أبي حنين, الكوفي صدوق. انظر (الجرح والتعديل 7/230) . 2 أبو علي، الحضرِي، شيعي، صدوق، في حفظه شيء روى له مسلم. 3 ابن نصر الهمداني صدوق، كثير الخطأ. 4 إسماعيل بن عبد الرحمن، صدوق يهم، رمي بالتشيع ,روى له مسلم. 5 تقول: أحكمت شيء فاستحكم، فصار محكماً, واحتكم الأمر، واستحكم وثق، وإحكام القول إتقانه, بتميز الصدق من الكذب, والحق من الباطل, والهدى من الضلال ,ولذلك وصف الله كتابه العزيز فقال: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} الآية (1) من سورة هود أي أحكمت وفصلت بجميع ما يحتاج إليه من الدلائل على توحيده عز وجل , وإثبات نبوة الأنبياء وختمهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم , وبيان شرائع الإسلام. فالقرآن الكريم كله محكم متقن , فمعانيه متفقة وإن اختلفت ألفاظه وهو متشابه في الأحكام والإتقان , متماثلة في الأوامر والنواهي يصدق بعضه على بعضا ويفسر بعضه بعضا، وفيه إحكام خاص وتشابه خاص قال تعالى: {وهو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات وأخر متشابهات} الآية (7) من سورة آل عمران. فالحكم الناسخ ,والحلال , والحرام , والحدود , والفرائض , والوعد , والوعيد , والمتشابه المنسوخ , والكيفية في الأسماء والصفات , وفواتح السور , وهذه الآيات محكمات لما تضمنت من الأوامر والنواهي. (انظر اللسان 12/143) 6 الطبري 8/64. 7 لم أقف على ترجمته. 8 لم أقف على ترجمته. 9 أبو غسان، ثقة، متقن، صحيح الكتاب. 10 ابن يونس، بن أبي إسحاق السبيعي، ثقة التكلم فيه , بلا حجة. 11 عمرو بن عبد الله، السبيعيِ، مكثر، ثقة، اختلط بأخرة وقد وصفه النسائي وغيره بالتدليس (انظر إتحاف ذوي الرسوخ ص40) لكنه من الطبقة التي توقف فيها جماعة ولم يحتجوا إلا بما صرح فيه بالسماع , وقبلهم آخرون مطلقاً. (المصدر السابق ص 11) 12 الهمداني , مقبول. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 18 الكتاب، ثم قرأ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية" قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"1، ووافقه على هذا الحافظ الذهبي2 رحمه الله. مناسبة الآيات لما قبلها: إلتمس علماء التفسير مناسبة للربط بين هذه الآيات وما سبقها، فتحصل من السياق أن الله عز وجل لما بين فساد رأي الكفار وضلالهم فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والثمار وأوضح سفههم في ذلك، وأبطل دعواهم بمطالبتهم بالبرهان ولا قدرة ألم عليه. فلله الحجة البالغة. ناسب بعد ذلك أن يوجههم بالأسلوب الحكيم إلى ما يجب عليهم إتباعه من شرع الله عز وجل لا مما تمليه عليهم أهواؤهم، وتسوقهم إليه رغباتهم فيضعوا لأنفسهم قانوناً فيما يحل وما يحرم. بل مرد ذلك إلى العليم الخبير الذي أوضح لهم بِأقوى بيان كمال قدرته عز وجل وشدة عجزهم عن تدبير شئونهم3. فقال تعالى موجهاً الأمر إلى عبده ورسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} . سؤال وجوابه قال العلماء قد يسأل سائل فيقول: قال الله تعالىِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ... } الآيات. وعندما نتأمل الآيات نجد عدداً من الأوامر اندرج تحت قوله: (ما حرم) كالإحسان إلى الوالدين، والوفاء في الكيل والميزان، والعدل في القول، والوفاء   1 المستدرك 2/317. 2 التلخيص مع المستدرك 2/317. والغرِيب أن الحافظ الذهبي يقول عن عبد الله بن خليفة: لا يكاد يعرف. (الميزان- 2/414) وتقدمت الإشارة لمثل هذه الملاحظة ص 6. 3 التسهيل2/ 25، الإرشاد 3/ 197، الفتوحات 2/106، القاسمي 6/ 780 الظلال 3/ 420، المجدد 2/ 185. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 19 بالعهد، وإتباع شرع الله وهذه الأشياء مأمور بها وليس منهياً عنها فبم يوجه هذا؟. والقول في جواب هذا أن أهل العلم لم يغفلوا عن هذا الإشكال من حيث الظاهر وأجابوا بأجوبة عديدة منها: 1- قوله تعالى: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} معناه وصاكم به ربكم فضمن حرَّم معنى وصّى، ويؤيد هذا الفهم ما جاء في آخر الآية قال تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِه} فالتحريم هنا مضمن معنى الوصية، وإذا نظرت في المعنى تجد أن الوصية فيه أعم من التحِريم. فكل تحريم وصية من الله عز وجل إلى عباده، وليس كل وصية تحريما، لأنها تكون بتحريم وبتحليل، وبوجوب وندب، وليس أمراً غريباً أن يراد بالتحريم الوصية، ومن الأساليب عند العرب ذكر اللفظ الخاص وإدارة العموم، أو العكس فتذكر اللفظ العام وتريد به الخاص وبناء على ما تقرر فإن تقدير الكلام: قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم، ثم حصل إبدال قوله تعالى: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} منه. وذلك على وجه البيان والتفسير. أي وصاكم أن لا تشركوا به شيئاً ووصاكم بالإحسان إلى الوالدين … الخ. فجمعت الوصية ترك المحرمات وفعل المأمورات. وهذا التوجيه في نظري حسن جداً1. 2- أن تكون (أن) في قوله تعالى: {أَلاَّ تُشْرِكُوا} تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف، والتقدير: أتل ما حرم عليكم وما أمركم به، فحذف وما أمركم به لدلالة (ما حرم) عليه لأن معنى ما حرم ربكم، ما ينهاكم ربكم عنه، فالمعنى قل تعالوا أتل ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به، ولا مانع من عطف الأمر على النهي والعكس ومن شواهده قول إمرئ القيس: يقولون لا تهلك أساً وتجمل2 3- جاز ذلك لجواز عطف الأوامر على النواهي لكونها تفسيراً لها باعتبار لوازمها التي هي النواهي المتعلقة بأضداد ما تعلقت به، فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده، بل هو عينه عند البعض، كأن الأوامر ذكرت وقصد لوازمها، فإن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد (إن) المفسرة لتلاوة المحرمات، مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرما دليل وأضح على أن التحريم راجع إلى الأضداد، على الوجه المذكور3   1 التسهيل 2/25. 2 البحر 4/249 3 الإرشاد 3/198 الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 20 الوصية الأولى البحث اللغوي ... الوصية الأولى قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1. البحث اللغوي: أ- المفردات: قل: فعل أمر موجه إلى عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. تعالوا: أي أقبلوا وهلموا. وهذا من الخاص الذي صار عاماً. فالأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه، ثم كثر واتسع فيه حتى عمَّ2. أتل: من التلاوة والمراد بها القراءة. حرم: من التحريم وهو المنع، والحرام الشيء الممنوع منه، ويكون المنع بأمور. إما بتسخير إلهي، وإما بمنع قهري، وإما بمنع من جهة العقل، أومن جهة الشرع، أومن جهة من يرتسم أمره، وهو في هذه الآية من جهة القهر بالمنع3، كقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} 4. ب- النحو: أتل: جواب الأمر، أي إن تأتوني أتل. ما: في قوله تعالى: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} : فيها ثلاثة أقوال. 1- أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، والتقدير: الذي حرمه، والموصول في محل نصب مفعول به. وهذا هو الأظهر. 2- أنها مصدرية، والتقدير: أتل تحريم ربكم، والتحريم نفسه لا يتلى، وإنما هو مصدر واقع موقع المفعول به، والتقدير: أتل محرم ربكم الذي حرمه هو عز وجل. 3- أنها استفهامية في محل نصب بحرم بعدها، وهي معلقة لأتل، والتقدير: أتل أي شيء حرم ربكم؟ وهذا ضعيف لأنه لا يعلق إلا أفعال القلوب وما حمل عليها5.   1 انظر الآية (151) من سورة الأنعام. 2 الكشاف 2 / 78، الإرشاد 3/197. 3 المفردات 114. 4 انظر االآية (72) من سورة المائدة. 5 الفتوحات 2 / 106، 107. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 21 عليكم: فيها وجهان: 1- أن الجار والمجرور متعلق بحرم، وهو اختيار البصريين. 2- أنه متعلق بأتل، وهو اختيار الكوفيين. فالمسألة من باب الإعمال، وقد عرف أن اختيار البصريين إعمال الثاني، واختيار الكوفيين إعمال الأول1. ورجح بعض العلماء الأول قالوا: لأنه أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة، وهو السر في التعرضِ لعنوان الربوبية معَ الإضافة إلى ضميرهم، فإن تذكيرهم بكونه تعالى رباً لهم، ومالكاً لأمرهم على الإطلاق من أقوى الدواعي إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشد انتهاء، و (أن) في قوله تعالى: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ} مفسرة لفعل التلاوة المعلق بما حرم و (لا) ناهية كما ينبئ عنه عطف ما بعده من الأوامر والنواهي عليه2.وقد أطال العلماء نفسر البحث في قوله تعالى {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ} من الناحية النحوية وحرر كل ما ورد في ذلك سليمان بن عمر العجلي الشهير بالجمل رحمه الله3 الإيضاح قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} أمر الله عز وجل نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبينِ للناس من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه، مستخدما لأسلوب الحكيم في ذلك إيذاناً بأن حق العباد اجتناب ما حرم الله ورسوله واتباع شرع الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الأسود والأبيض فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: يا من حرموا ما أحلَ الله (تعالوا) وهو أمر من التعالي. ولا يمنع أن يحمل على الأصل تعريضاً لأولئك الذين شرعوا مالم يأذن به الله، بأنهم يا حضيض الجهل والبعد عن المنهج السديد، ولو استجابوا لنداء الله ورسوله لتعالوا وترفعوا إلى ذروة العلم وقنة العزة. قوله تعالى: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . هذه أولى الوصايا العشر، وبدأ سبحانه وتعالى هذه الوصايا بتحريم الشرك لأمور ثلاثة كما ظهر لي. 1- إن الشرك أكبر الكبائر وأعظم الذنوب قال تعالِى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 4 وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ   1 الفتوحات 2/ 106، 107. 2 الإرشاد 3/198، الروح8/54. 3 انظر كتابه الفتوحات 2/107،108. 4 الآية (48) من سورة النساء. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 22 لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} 1 وقال تعالى: { ... إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 2 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر- ثلاثاً-؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله، وعقوق الوالدين- وجلس وكان متكئا- فقال: ألا وقول الزور ... " 3 الحديث. ويلاحظ هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم الإشراك على غيره من الكبائر مما يشير إلى أنه أعظم الذنوب وأفدحها. 2- أن من حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولذلك خلقهم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاِّ لِيَعْبُدُونِ} الآية وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4 الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ أتدري ماحق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم" 5. إن الإنسان تتحقق إنسانيته بقلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بصلاحهما، ولا صلاح لهما إلا بوحدانية الله عز وجل، إله هذا المخلوق الذي أوجده من العلم، وركب أجزاءه ورباه بنعمه، لا إله إلا هو ولا رب سواه، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 6وقال النبي الكريم: " ... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" 7. ولا ريب في ارتباط الروح بالقلب، كما أن بين القلب واللسان ارتباطاً إذ هو المعبر عما في القلب. يقول الشاعر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاد ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم8 والبراءة من الشرك تتحقق بالعلم والعمل بمقتضى العلم، فيعلم العبد أن هذه المخلوقات بجميع أنواعها بقوتها وضعفها ليس فيئها ما تسكن النفس إليه، وتنعم بالتوجه.   1 الآية (116) سن سورة النساء. 2 جزء من الآية (72) من سورة المائدة. 3 صحيح البخاري مع الفتح 5/261. 4 الآية (36) من سورة النحل. 5 صحيح البخاري مع الفتح 13/347. 6 الآية (16) من سورة ق. 7 صحيح البخاري مع الفتح 1/126. 8 البيت لزهير بن أبي سلمي انظر ديوانه ص89. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 23 والاعتماد عليه، إلا الله عز وجل قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1 الآية. ويتبع العلم العمل بما شرع الله عز وجل قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 2 الآية. فأعلم تعالى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه حرم عليهم أن يشركوا به شيئاً، فشمل ذلك كل مُشرَك به، ومُشرَك فيه، من أنواع العبادة، فإن قوله: (شيئاَ) من النكرات فيعم جميع الأشياء، ولم يبح عز وجل لعباده أن يشركوا به شيئاً، فإن الشرك أظلم الظلم وأقبح القبائح، قال تعالى حكاية عن لقمان عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3. ولفظ الشرك يدل على أن المشركين كانوا يعبدون الله عز وجل ولكن يشركون به غيره من الأوثان والصالحين والأصنام، فكانت الدعوة واقعة على ترك عبادة ما سوى الله عز وجل، وإفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، وكانت (لا إله إلا الله) متضمنة لهذا المعنى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إلى الإقرار بها اعتماد ونطقاً وعما، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: "إنكَ تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فاعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ... " 4 الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه … " 5 الحديث. وكان المشركون إذا سئلوا عما يقول لهم محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: يقول "اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم" 6. وكانوا يعلمون دلالة لا إله إلا الله، ولذلك أنكروا التوحيد قال تعالى حكاية عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 7 وحقيقة الشرك أن يعتقد الإنسان في بعض المخلوقات إنها تجلب نفعاً أو تدفع ضررا بتأثير منها. وهذا البلاء عم البشرَية جمعا ولم ينج منه إلا من رحم الله، ومنِ أن الشرك ما يقع فيه الكثير ون اليوم من الاعتقاد فيمن يعظمون من الأولياء، أن آثاراَ عجيبة تصدر عنهم، يزعمون أن ذلك لم يصدر عن أحد منهم إلا لكونه متصفاً بصفة من صفات الكمال، وفاتهم أن الكمال أمر لم يعهد في جنس الإِنسان، بل محله النقص فهو من لوازم العبودية ولاشك، أما الكمال فهو حق لله مختص به دون سواه وأعني بذلك الكمال المطلق،   1 الآية (22) من سورة الأنبياء. 2 الآية (19) من سورة محمد. 3 الآية (13) من سورة لقمان. 4 صحيح مسلم 1/50. 5 المصدر السابق 1/51. 6 انظر جواب أبي سفيان لهرقل (الصحيح مع الفتح 1/32) . 7 الآية (5) من سورة ص. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 24 وهم يعنون ذلك فيمن يعظمون حين تصدر منهم أعمال غير عادية. بل زعم غلاتهم أن ذلك لا يحدث إلا لمن خلع الله عليه صفة الألوهية، أومن يفنيه في ذاته، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وهذه عقيدة أهل وحدة الوجود خسئ أصحابها. والأمثلة على شطحات أهل هذا الاعتقاد يطول بيانها، فأنواع خرافاتهم لا تكاد تحصر ولها مظانها، ومن ذلك ما كان يعبر عنه المشركون بقولهم في حجهم: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك- إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"1 ويعنون شركاءهم الذين يعاملونهم معاملة العباد مع الله، ومن أصابهم هذا الداء العضال اليوم وإن لم يكن اللفظ الوارد عن مشركي العرب في تلبيتهم ظاهراً في تلبية هؤلاء غير أنه معنى يتجلى في أعمالهم وتصرفاتهم، والشرع لا يبحث إلا عن الأعمال والتصرفات، التي باشرها الناس بنية تعظيم مخلوق من المخلوقات، حتى صار ذلك العمل مظنة للشرك ولازما له في العادة، فالأعمال ترجمة عما في القلوب، ولازم الشيء يعطى حكمه، وقد أقام الشرع العلل الملازمة للمصالح والمفاسد مقامها ونظراً لخطورة هذا الأمر فلا بد من التنبيه على أمور جعلها الله عز وجل في الشريعة المحمدية- على صاحبها أكمل الصلاة وأتم التسليم- مظنات للشرك فنهى عنها، منها: أ- منها أن المشركين كانوا يسجدون للأصنام والنجوم وغيرها من الأوثان فجاء النهي عن السجود لغير الله عز وجل قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2ولم يكن الإشراك قاصراً على السجود بل يتعده إلى التدبير لأن السجود ناشئ عن التعظيم والتعَظيم ناشئ عن اعتقاد في المعظَّم أنه متصرف في الكون، ولديه القدرة على التدبير، وهذه الخطورة قد يكون منشؤها زعم بعض المتكلمين أن توحيد العبادة حكم من أحكام الله، وهو مما يقع الخلاف فيه باختلاف الأديان لا يطالب بدليل برهاني، وهذا ظاهر الفساد، فلو كان الأمر كذلك، لم يقع الإلزام من الله عز وجل بتفرده بالخلق والتدبير، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُون أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ   1 صحيح مسلم 2/843. 2 الآية (37) من سورة فصلت. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 25 خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1 وإن من يمعن النظر في هذه الآيات يجد صواعق محرقة لأوهام الجاهلية في كل زمان ومكان، وحجة دامغة تدك تلك الأفكار الواهية والحق أنهم اعترفوا بتوحيد الخلق والتدبير ولكن في الأمور العظام قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 2 فالتوحيدان متلازمان ولا يجوز الفصل بينهما، ولكنهم لا يعقلون. 2- أنهم كانوا يستعينون بغير الله عز وجل في حوائجهم، من شفاء المريض، وإغناء الفقير، ويقدمون القرابين ويفعلون النذور، لأنهم يتوقعون إنجاح مقاصدهم بذلك، ويتلون أسماءهم رجاء بركتهم، فأوجب الله عليهم أن يقولوا (إياك نعبد وإياك نستعين) في كل يوم وليلة سبع عشره مرة، ونهاهم عن دعوة غيره فقال: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3 والمراد هنا عموم العبادة، ومنها الدعاء، ومرت الدعاء الاستعانة لقوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 4. 3- ومنها أنهم كانوا يتخذون أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله عز وجل، وذلك بأنهم كان يعتقدون أن الحلال ما أحله الرهبان، وأن الحرام ما حرموا، فما أباحوا لهم أخذوه، وما حرموه عليهم امتنعوا عنه ويتجلى هذا حين نزل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 فسأل عدي بن حاتم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "كانوا يحلون أشياء فيستحلونها، ويحرمون عليهم أشياء فيحرمونها"6 والحكم بحلية الشيء أو بتحريمه لا يؤخذ إلا عن الله عز وجل قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} 7 فتحديد الأشياء التي يؤاخذ عليها العباد والتي لا يؤاخذون عليها   1 الآيات من سورة النمل. 2 الآية (65) من سورة العنكبوت. 3 جزء من الآية (18) من سورة الجن. 4 الآية (41) من سورة الأنعام. 5 الآية (31) من توبة. 6 انظر كلام ابن كثير ومادمن عن هذا 2/348. 7 الآية (116) من النحل. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 26 أمر خاص برب العباد، فتكوين أسباب المؤاخذة من عدمها له وحده، ورسم الحدود وتشريع الأوامر والنواهي في كل شأن من صفاته تعالى، قال عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} 1 أما نسبة التحليل والتحريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبمعنى أن قوله صلى الله عليه وسلم أمارة قطيعة تدل على تحليل الله وتحريمه، إذ هو المبلغ عن الله عز وجل قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 2وهو الصادق الأمين خياله قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 3ونسبة التحليل والتحريم إلى العلماء المجتهدين من أمته صلى الله عليه وسلم تكون بمعنى روايتهم ذلك عن الشرع، وأخذ الحكم من نص الشارع الحكيم، أو استنباطه من كلامه صلى الله عليه وسلم. ومما يجب التنبيه إليه أن الله عز وجل إذا بعث رسولاً، وأيد صدقه بالمعجزات والآيات البينات، وأحل على لسانه بعض ما كان محرماً عند قوم. وحصل من بعض الناس تردد وإحجام عن قبول ما أحلّ، وأصبحت نفسه تميل إلى التحريم، لما كان عليه من الحرمة فلا يخلو هذا المتردد من أحد أمرين: الأول: أن يكون ما حصل منه تردداً في ثبوت هذه الشريعة فهو كافر بالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 4. الثاني: أن يكون صدور ذلك منه لاعتقاد وقوع التحريم الأول تحريماً لا يحتمل النسخ، لأنه يعتقد أن الذي حرم ذلك، قد خلع الله عليه خلعة الألوهية، أو صار فانيا في الله عز وجل، أو غير ذلك من الاعتقادات الباطلة، فذلك مشرك بالله عز وجل. إذ أشرك مع الله غيره في هذا الأمر، وأثبت للغير غضباً ورضاً مقدسين، وتحليلاً وتحريماَ مقدسين. وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. 4- أنهم كانوا يتقربون إلى الأصنام والنجوم، إما بإهلال بأسمائهم عند الذبح، وإما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لهم، فحرم الله عز وجل ذلك قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا   1 الآية (59) من يونس. 2 الآية (7) من سورة الحشر. 3 الآيتان (3، 4) من سورة النجم. 4 الآية (65) النساء. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 27 أمر خاص برب العباد، فتكوين أسباب المؤاخذة من عدمها له وحده، ورسم الحدود وتشريع الأوامر والنواهي في كل شأن من صفاته تعالى، قال عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} 1 أما نسبة التحليل والتحريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبمعنى أن قوله صلى الله عليه وسلم أمارة قطيعة تدل على تحليل الله وتحريمه، إذ هو المبلغ عن الله عز وجل قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 2وهو الصادق الأمين خياله قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 3ونسبة التحليل والتحريم إلى العلماء المجتهدين من أمته صلى الله عليه وسلم تكون بمعنى روايتهم ذلك عن الشرع، وأخذ الحكم من نص الشارع الحكيم، أو استنباطه من كلامه صلى الله عليه وسلم. ومما يجب التنبيه إليه أن الله عز وجل إذا بعث رسولاً، وأيد صدقه بالمعجزات والآيات البينات، وأحل على لسانه بعض ما كان محرماً عند قوم. وحصل من بعض الناس تردد وإحجام عن قبول ما أحلّ، وأصبحت نفسه تميل إلى التحريم، لما كان عليه من الحرمة فلا يخلو هذا المتردد من أحد أمرين: الأول: أن يكون ما حصل منه تردداً في ثبوت هذه الشريعة فهو كافر بالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 4. الثاني: أن يكون صدور ذلك منه لاعتقاد وقوع التحريم الأول تحريماً لا يحتمل النسخ، لأنه يعتقد أن الذي حرم ذلك، قد خلع الله عليه خلعة الألوهية، أو صار فانيا في الله عز وجل، أو غير ذلك من الاعتقادات الباطلة، فذلك مشرك بالله عز وجل. إذ أشرك مع الله غيره في هذا الأمر، وأثبت للغير غضباً ورضاً مقدسين، وتحليلاً وتحريماَ مقدسين. وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. 4- أنهم كانوا يتقربون إلى الأصنام والنجوم، إما بإهلال بأسمائهم عند الذبح، وإما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لهم، فحرم الله عز وجل ذلك قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا   1 الآية (59) من يونس. 2 الآية (7) من سورة الحشر. 3 الآيتان (3، 4) من سورة النجم. 4 الآية (65) النساء. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 27 أَكَلَ السَّبُعُ إِلا َّمَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب} 1 الآية وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله" 2. 5- إنهم كانوا يسمُون السوائب3 والبحائر4 تقرباً إلى شركائهم فحرم الله عز وجل ذلك فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} 5 الآية. 6- وكانوا يعتقدون في أناس أن أسماءهم مباركة ومعظمة، ويعتقدون أن الحلف بأسمائهم على الكذب يستوجب نقصاً في المالي والأهل، فلا يقدمون على ذلك، ولذلك كانوا يستحلفون الخصوم بأسماء الشركاء بزعمهم، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أخرج الإمام النسائي رحمه الله بسنده من طريق مصعب بن سعد قال: "كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللاتي والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله جمع: بئس ما قلت، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فأتيته فأخبرته فقال لي: "قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له"6 لما تعاطى الصحابي في قسمه صورة تعظيم الصنم حيث حلف به، أنكر عليه الأصحاب رضي الله عنهم ولما كان ذلك القول يتعلق بالإيمان ظنوه كفراً، ولا ريب أنه رضي الله عنه لم يقصد التعظيم للصنِم غير أن قوله ذلك يتعلقَ بالاعتقاد فكان الإصلاح من النوع الذي يتعلق بالاعتقاد أيضا، فوجهه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى قول لا إله إلا اللَّه، فإنها إصلاح لما قد يخدش الإيمان، مما يجري على اللسان من غير قصد، كقول هذا، الصحابي رضي الله عنه، وينقل الحافظ عن العلماء أنهم قالوا: "يستحب أن يقول لا إله إلا الله"7. وفي نظري أن ما وجه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الوجوب لا الاستحباب إذ لا صارف يصرفه عن ذلك، فقول لا إله إلا الله هنا يقوم مقام الكفارة إلا أنها تجدد الوحدانية وتصلح سبق اللسان الذي قد يخدش الاعتقاد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"8 وقلنا إن الصحابي رضي الله عنه ما قصد ذلك لكونه حديث عهد بجاهلية، لكن شرك في اللفظ دون الاعتقاد، أما من تعمد ذلك فلا يُشك في كفره   1 الآية (3) من المائة. 2 صحيح مسلم 1567/3. 3 جمع سائبة وهي الناقة كانت تسيب إذا ولدت عشر إناث تركت انظر (الصحاح 1/ 634) . 4 جمع بحيرة وهي بنت السائبة تشق أذنها وتترك (الصحاح 1/72) . 5 الآية (31) من التوبة. 6 سنن النسائي 7/7، 8. 7 فتح الباري 11/536. 8 سنن الترمذي 4/ 110. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 28 7- ومن ذلك قصد مواضع مختصة بشركائهم للتبرك بها، ويكون الحلول بها تقرباً منهم فحرم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" فشد الرحال بقصد العبادة إلى غير هذه المساجد الثلاثة خروج عن الشرع، وإحياء لأمور الجاهلية التي حرمها الإسلام، وما يفعله كثير من المسلمين اليوم عند قبور الأولياء أمر منكر، ومصادم لما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 8- كانوا يسمون أبناءهم عبد العزى وعبد شمس وغير ذلك من الأسماء المشعرة بالعبودية لغير الله عز وجل فأنكر الله عز وجل ذلك وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 1. ولا يظن بآدم وحواء أنهما أشركا بالله عز وجل، لعصمة آدم عليه السلام ولاسيما بعد قصته مع إبليس لعنه الله، والأثر الوارد من طريق الحسن، عن سمرة بن جندب في ذلك، رده الحافظ ابن كثير رحمه من وجوه: الأول: أنه من رواية عمر بن إبراهيم البصري2 وثقة ابن معين3 وقال فيه أبو حاتم الرازي: "لا يحتج به"4. الثاني: أنه ورد من قول سمرة نفسه ليس مرفوعاً. أخرجه ابن جرير في تفسيره5. الثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعاً لما عدل عنه6 قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا ابن وكيع7 قال: حدثنا سهل بن يوسف8، عن عمرو9، عن الحسن10 {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 11 قال: "كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم".   1 الآيتان (189، 190) من الأعراف. 2 أنظر ترجمته (الجرح 6/ 98) . 3 انظر (رواية الدرامي ص 50 رقم 41) . 4 أنظر (الجرح 6/98) . 5 الطبري 99/9. 6 ابن كثير2/274. 7 سفيان، أسقط حديثه، وتقادم الكلام فيه. 8 الأنماطي، ثقة، رمي بالقدر، مات سنة تسعين ومائة. 9 ابن عبيد بن باب، التميمي، معتزلي، كان داعية، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة. 10 ابن أبي الحسن، البصريَ، ثقة، معروف، مات سنة عشر ومائة. 11 انظر الآية (190) من الأعراف. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 29 حدثنا محمد بن عبد الأعلى1 قال: حدثنا محمد بن ثور2، عن معمر3 قال: "قال الحسن: عنى بها ذرية آدم من أشرك منهم بعده". حدثنا بشر بن معاذ4 قال: حدثنا يزيد5 قال: حدثنا سعيد6، عن قتادة7 قال: "كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا"8. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه، أنه فسر الآية بذلك، وهو منِ أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث9 عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره، ولاسيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدل على أنه موقوف على الصحابي10، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب، من آمن منهم، مثل كعب11 أو وهب بن منبه وغيرهما12. وقد علم مما سبق أن الأثر المروي فيِ تفسير الآية لا يصح الاحتجاج به13 وقد ذكره صاحب تيسير العزيز الحميد14 تفسيرا للآية فلا يصار إليه والحق في ذلك ما ثبت عن الحسن نفسه كما تقدم بيانه. والآية تدل على تحريم اتخاذ الشركاء. ولم يسلم من هذا بعض المسلمين اليوم. فما أكثر من سمى عبد الولي وعبد الرسول وغير ذلك. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث أنه غير بعض أسماء أصحابه التي تشعر بالعبودية لغير الله عز وجل أوفيها قبح، وفيما تقدم ذكر صور وأشكال للشرك حرمها الشرع فيجب على المسلم أن يحذرها وأن يحذر منها وعند تدقيق النظر فيما سلف يتبين أن المشركين طوائف كثيرة وكثيرة   1 الصنعاني ثقة، مات سنة خمس وأربعين ومائتين. 2 الصنعاني، ثقة مات ستة تسعين ومائة تقريبا. 3 ابن رشد، ثقة ثبت، مات سنة أربع وخمسين ومائة. 4 أبو سهل العقدي، صدوق مات سنة بضع وأربعين ومائتين. 5 ابن زريع البصري ثقة ثبت مات سنة اثنتين وثمانين ومائة. 6 بن أبي عروبة ثقة حافظ له تصانيف من أثبت الناس قي قتادة. 7 ابن دعامة رأس الطبقة الرابعة ثقة ثبت مات سنة بضع عشرة ومائة. 8 الطبري 9/100 – 101. 9 ما ذكر في التفسير الآية أنه كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد ... الخ. 10 سمرة بن جندب رضي الله عنه. 11 كعب الأحبار تقدم وهو والذي بعده كانوا من العلماء اليهود فأسلموا. 12 ابن كثيبر 2/275. 13 للراغب في زيادة الاطلاع ينظر تحفة الأحوذي 8/460- 466، ابن كثير 2/274، 275. 14 انظر ص628 وما بعدها. وقد أخرج الأثر الترمذي وقال: حسن غريب. الجامع 5/267. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 30 جداً، تعددت بتعدد الأسباب والوسائل المؤدية إلى ذلك وقد ذكر الفخر الرازي رحمه الله أربع طوائف منهم: ا- طائفة يجعلون الأصنام شركاء لله عز وجل، وإليهم الإشارة بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. 2- طائفة يعبدون الكواكب وهم الذين حكى الله عنهم أن إبراهيم عليه السلام أبطل قولهم بقوله: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} 2. 3 – طائفة حكى الله عنهم أنهم جعلوا لله شركاء الجن قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} 3. 4- طائفة جعلوا لله عز وجل بنين وبنات. وأقام عز وجل الدليل على فساد أقوال هؤلاء4. وإذا نظرنا إلى الشرك بالنسبة إلى أقسام التوحيد نجد أن الشرك ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقا، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، وقد يكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه. وبيان ذلك فيما يلي: القسم الأول الشرك في الربوبية وهو نوعان: ا- شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك. وهو إنكار لوجود الله عز وجل، وممن يمارس هذا الذنب العظيم الدهريون، والطبائعيون، وإمامهم فيه فرعون هو سابقهم إلى هذا الإلحاد إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} 5. ومن هذا النوع شرك الفلاسفة، القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوماَ أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والمخلوقات عندهم جميعا ترجع إلى أسباب ووسائط، اقتضت إيجادها، يسمونها العقول والنفوس6، ومنه أيضاً شرك طائفة وحدة الوجود، مثل ابن عربي7،ابن سبعين8 والعفيف   1 الآية (74) من الأنعام. 2 الآية (76) من الأنغام. 3 الآية (100) من الأنغام. 4 الرازي 13/ 222. 5 انظر الآية (23) من الشعراء. 6 هذا مبني على مذهب الفلاسفة إن العقول والنفوس العلكية عالمة بجميع الأشياء (الذخيرة صح207) 7 محمد بن على بن محمد بن أحمد به عبد الله، الطائي، الحاتمي، لقبه محي الدين، وكنيته أبو بكر، وشهرته ابن عربي، ويقال له الشيخ الأكبر، ولد في السابع عشر من رمضان سنة ستين وخمسمائة، (560هـ) من غلاة الصوفية، وأحد القائلين بوحدة الوجود. أنظر (النفاق والزندقة ص111) . 8 عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن سبعين، ولد في سنة أربع عشرة وستمائة (614 هـ) عرف السيمياء - ولبس بها على الأغبياء، صنف في الِإلحاد، وله فيه وفي الزندقة كلام كثير، ومن سيئ قوله، لقد كذب ابن أبي كبشة على نفسه حيث قال. لا نبي بعدي- يعنى رسول الله صلى- وقوله: لقد تحجر ابن آمنة واسعاً بقول. لا نبي بعدي. انظر (النفاق والزنادقة ص (120) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 31 النعمان1، وابن الفارض2، وغيرهم من أهل الزيغ والإلحاد، الذين ألبسوه حلية الإسلام، ومزجوه بشيء من الحقِ، حتى راج سوقهم ونفقت بضاعتهم، واغتر بها جَهلاؤهم وعوامهم، ومن ذلك أيضاَ شرك من عطل أسماء الرب عز وجل، وهم غلاة الجهمية3 والقراطمة4. 2- شرك من جعل مع الله إلهاً آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، ومنه شرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 5 ومنه شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة، ومنه أيضاً شرك الذين يرون أن للكواكب والنجوم تدبيرا لأمر الكون أو زيادة الرزق أو نقصانه، والنجوم خلق من خلق الله لا يجوز أن يعتقد أحد أنها تنفع وتضرمن دون الله، ولذلك أقسم الله بها لصرف الأنظار إلى تدبر عظمة خالقها عز وجل وتدبيره أمرها. قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 6 وقال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 7 فأخبر عز وجل بسجود جنس النجم له عز وجل، ولم تخلق النجوم لتُعبد وإنما خلقت لأمور ثلاثة: الأول: زينة للسماء قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} 8 وقال عز   1 أبو الربيع، سليمان بن على بن عبد الله بن على العابدي، الكوفي ثم التلمساني، أحد زنادقة الصوفية، ومن عظماء القائلين بالوحدة المطلقة، ومن سيئ قوله: القرآن ليس فيه توحيد، بل كله شرك، ومن اتبع القرآن يصل إلى التوحيد، وكان يقول: نكاح الأم والبنت، والأجنبية واحد- بمعنى أنه لا فرق بين ذات المحرم وغيرها- وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا. حرام علينا فقلنا. حرام عليكم. انظر (النفاق والزندقة ص 132) . 2 عمر بن علي، ولد سنة ست وسبعين وخمسمائة (576 هـ) أحد القائلين بوحدة الوجود. قال عنه الذهبي رحمه الله: ينعق بالِإلحاد الصريح. له افتراءات وضلال ينوء بحملها، ويبوء بإثمها. انظر (النفاق والزندقة ص 123) . 3 أتباع الضال المبتدع أبي محرزجهم بن صفوان الراسبي، زرع شراً عظيماً، وهو من الجبرية الخالصة ظهرت بدعته بترمذ، وقتله سالم بر أحوز المارني بمرو، في آخر ملك في أمية، وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية، وراد عليهم بأشياء انظر (الفرق بين الفرق ص211، والملل والنحل 1/109) 4 فرقة من غلاة الشيعة يستحلون أموال المسلمين ودماءهم وهم أتباع أبي سعيد الحسر بن حهرام الجنابي، وظهرت هذه الفرقة في جمادى الآخرة من سنة ست وثمانين ومائتين وتوالى شرها على المسلمين. انظر (البداية والنهاية 11/ 81) وما بعدها. 5 الآية (73) من المائدة. 6 الآية (75) من الواقعة. 7 الآية (6) من الرحمن. 8الآية (6) من الصافات. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 32 وجل: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} 1 وقال عز وجل: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} 2 وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} 3. الثاني: رجوماً للشياطين. قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} 4 وقال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} 5 وقال تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} 6 الثالث: علامات يُهتدي بها. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر} 7 الآية وقال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 8 وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه تعليقاً قال: وقال قتادة:" ... خلق هذه النجوم لثلاث، جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يِهتدي بها، فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف مالا علم له به"9. فعجبا لمن يعتقد في النجوم أو ينسب إليها شيئا من أسباب الخير، أو دوافع الشر، بعد هذا البيان المنزل في أشرف الكتب على أصدق الخلق وأكرم الرسل صلى الله عليه وسلم، ومن هذا القسم أيضاً شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف في قضاء الحاجات بعد الموت، فيفرجون الكربات، ويجلبون الخير ويدفعون الشر، وينصرون من دعاهم ويحفظون من اعتصم بهم ولجأ إليهم وهؤلاء أشركوا في الفعل مع الله غيره، ولا ريب أن هذه من خصائص الربوبية، وكم من هالك في هذا الباب من المسلمين اليوم إذا لم تدركهم هداية الله، ويتحصنوا بالتوبة الصادقة ويلجأوا إلى كتاب الله وسنة رسوله لاستقاء عقيدتهم وتنقية ما علق بصدورهم. القسم الثاني: الشرك في توحيد الأسماء والصفات وهو نوعان: 1- تشبيه صفات الخالق بالمخلوق، كأن يقول: يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، واستواء كاستوائي، وهذا يسمى شرك الشبه، وهذا النوع ينافي قول الله عز وجل   1 الآية (12) من فصلت. 2 الآية (5) من الملك. 3 الآية (16) من الحجر. 4 الآية (5) من الملك. 5 الآية (35) من الرحمن 6 جزء من الآية (9) من الجن. 7 الآية (97) مر الأنعام. 8 الآية (16) ص الحل. 9 الصحيح مع الفتح (6 / هـ 29) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 33 {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1 وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2. 2- اشتقاق أسماء الآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق، كاشتقاق اللات من الإله، والعزى من العزيز، وهذا ما نهى الله عنه في قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. وممن فسر الإلحاد في أسماء الله بالاشتقاق ابن عباس رضي الله عنه. وقال به قتادة رحمه الله4. القسم الثالث: الشرك في توحيد الألوهية والعبادة: هذا القسم هو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية وهو نوعان: ا- أن يجعل العبد لله نداً يدعوه كما يدعو الله عز وجل، ويسأله الشفاعة كما يسأل الله تعالى، ويرجوه كما يرجو الله تعالى، ويحبه كما يحب الله تعالى، ويخشاه كما يخشى الله عز وجل، وجملة القول أنه جعل له إلها آخر يعبده كما يعبد الله، فهذا شرك أكبر وهو الذي قال الله عز وجل فيه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 5.وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 6 وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 7 الآية وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 8 الآيات في هذا المقام كثيرة ولا ريب أن الحجة قائمة على العباد ولو لم يحرم الله ذلك إلا بآية واحدة، فكيف وقد تعددت فيه أدلة التحريم كتاباً وسنة. 2- الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، وعدم الإخلاص لله عز وجل في العبادة، بل يعمل العبد لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، فله من عمله نصيب ولغيره منه نصيب، والله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وذكر الإخلاص في كتابه أكثر من عشرين مرة ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ   1 الآية (74) من النحل. 2 الآية (11) من الشورى. 3 الآية (180) من الأعراف. 4 1بن كثير 2/269. 5 الآية (36) من النساء. 6 الآية (37) من النحل. 7 الآية (18) من يونس. 8 الآية (48) من النساء. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 34 مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1 الآية وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2 الآية. ويتبع هذا النوع الشرك بالله عز وجل في الألفاظ كالحلف بغير الله عز وجل، وقول ما شاء الله وشئت، ومالي إلا الله وأنت، وأنا في حسب الله وحسبك، وقد يفضي ذلك إلى الشرك الأكبر بحسب حال قائله ومقصده، والأحاديث الواردة في النهي عن الشرك وبيان أنه أعظم الذنوب كثيرة منها حديث الصحيحين عن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق قلت: وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر؟ قال: وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر" 3 وفي بعض الروايات أن الذي قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبو ذر، وأنه عليه الصلاة والسلام قال في الثالثة: "وإن رغم أنف أبي ذر" فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث: "وإن رغم أنف أبي ذر" 4 وأخرج الإمام البخاري بسنده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار" 5 وأخرج الإمام مسلم رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" 6. قال عبد الله بن الإمام أحمد7 حدثني أبي8، ثنا عفان9، ثنا همام10، ثنا عامر الأحول11، عن شهر بن حوشب12 عن عمرو بن معد يكرب13 عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه   1 الآية (29) من الأعراف. 2 الآية (5) مر البينة. 3 انظر (صحيح مسلم 1/94) 4 انظر (صحيح البخاري مع الفتح 11/ 0 36- ا 36) وقد اختصره في أكثر من موضع. 5 انظر (المصدر السابق 8/ 176) . 6 صحيح مسلم 94/1. 7 أبو عبد الرحمن، ثقة، مات سنة تسعين ومائتين. 8 رابع الأئمة، أحمد بن حنبل، ثقة، فقيه حجة، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين. 9 ابن مسلم، الباهلي، ثقة، كان إذا شك في حرف من الحديث تركه. 10 ابن يحي، العوذي، ثقة ربما وهم، مات سنة خمس وستين ومائة، أو ما قبلها. 11 صدوق يخطئ، روى عن الصحابي عائذ بن عمرو مزني، ولم يدركه. 12 صدوق كثير الِإرسال والأوهام- لم يدرك عمرو بن معدي كرب- مات سنة اثنتي عشرة ومائة، وعمرو في عهد عثمان. 13 سقط اسم عمرو من المسند وتصحيحه من الدارميِ 2/ 322، وهو الزبيدي، الفارس المشهور، قدم على رسول الله صلى في وفد زبيد، فأسلم. انظر ترجمته (في الِإصابة مع الاستيعاب (7/ 144) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 35 قال: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، فإني سأغفر لك ما كان فيك، ولو لقيتني بقراب1 الأرض خطايا للقيتك بقرابها مغفرة مغفرومغفرة ولو عملت من الخطايا حتى تبلغ عنان2 السماء ما لم تشرك بي شيئا، ثم استغفرتني غفرت لك وولا أبالي " 3. ويؤيد هذا من كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 5. وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 6 الآية. وفيما تقدم بيانه حول هذه الوصية كفاية وغنية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.   1 مصدر قارب، أي بما يقارب ملأها. (النهاية 4/34) 2 بالفتح: هو السحاب، الواحدة عنانة (النهاية 3/313) . 3 المسند 172/5 وأخرجه الدارمي بسنده من طريق شهر ني (الدارمي 2/ 322) وهو منقطع بين شهر وعمر ولكنه يتأيد بما أسلفنا الآيات من كتاب الله العزيز ولا مطلب للصحة بعده. 4 الآية (53) من الزمر 5 الآية (135) من آل عمران. 6 الآية (48) من النساء. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 36 الإيضاح : قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} أمر الله عز وجل نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبينِ للناس من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه، مستخدما لأسلوب الحكيم في ذلك إيذاناً بأن حق العباد اجتناب ما حرم الله ورسوله واتباع شرع الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الأسود والأبيض فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: يا من حرموا ما أحلَ الله (تعالوا) وهو أمر من التعالي. ولا يمنع أن يحمل على الأصل تعريضاً لأولئك الذين شرعوا مالم يأذن به الله، بأنهم يا حضيض الجهل والبعد عن المنهج السديد، ولو استجابوا لنداء الله ورسوله لتعالوا وترفعوا إلى ذروة العلم وقنة العزة. قوله تعالى: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . هذه أولى الوصايا العشر، وبدأ سبحانه وتعالى هذه الوصايا بتحريم الشرك لأمور ثلاثة كما ظهر لي. 1- إن الشرك أكبر الكبائر وأعظم الذنوب قال تعالِى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 4 وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ   1 الفتوحات 2/ 106، 107. 2 الإرشاد 3/198، الروح8/54. 3 انظر كتابه الفتوحات 2/107،108. 4 الآية (48) من سورة النساء. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 22 لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} 1 وقال تعالى: { ... إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 2 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر- ثلاثاً-؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله، وعقوق الوالدين- وجلس وكان متكئا- فقال: ألا وقول الزور ... " 3 الحديث. ويلاحظ هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم الإشراك على غيره من الكبائر مما يشير إلى أنه أعظم الذنوب وأفدحها. 2- أن من حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولذلك خلقهم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاِّ لِيَعْبُدُونِ} الآية وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4 الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ أتدري ماحق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم" 5. إن الإنسان تتحقق إنسانيته بقلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بصلاحهما، ولا صلاح لهما إلا بوحدانية الله عز وجل، إله هذا المخلوق الذي أوجده من العلم، وركب أجزاءه ورباه بنعمه، لا إله إلا هو ولا رب سواه، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 6وقال النبي الكريم: " ... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" 7. ولا ريب في ارتباط الروح بالقلب، كما أن بين القلب واللسان ارتباطاً إذ هو المعبر عما في القلب. يقول الشاعر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاد ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم8 والبراءة من الشرك تتحقق بالعلم والعمل بمقتضى العلم، فيعلم العبد أن هذه المخلوقات بجميع أنواعها بقوتها وضعفها ليس فيئها ما تسكن النفس إليه، وتنعم بالتوجه.   1 الآية (116) سن سورة النساء. 2 جزء من الآية (72) من سورة المائدة. 3 صحيح البخاري مع الفتح 5/261. 4 الآية (36) من سورة النحل. 5 صحيح البخاري مع الفتح 13/347. 6 الآية (16) من سورة ق. 7 صحيح البخاري مع الفتح 1/126. 8 البيت لزهير بن أبي سلمي انظر ديوانه ص89. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 23 والاعتماد عليه، إلا الله عز وجل قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1 الآية. ويتبع العلم العمل بما شرع الله عز وجل قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 2 الآية. فأعلم تعالى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه حرم عليهم أن يشركوا به شيئاً، فشمل ذلك كل مُشرَك به، ومُشرَك فيه، من أنواع العبادة، فإن قوله: (شيئاَ) من النكرات فيعم جميع الأشياء، ولم يبح عز وجل لعباده أن يشركوا به شيئاً، فإن الشرك أظلم الظلم وأقبح القبائح، قال تعالى حكاية عن لقمان عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3. ولفظ الشرك يدل على أن المشركين كانوا يعبدون الله عز وجل ولكن يشركون به غيره من الأوثان والصالحين والأصنام، فكانت الدعوة واقعة على ترك عبادة ما سوى الله عز وجل، وإفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، وكانت (لا إله إلا الله) متضمنة لهذا المعنى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إلى الإقرار بها اعتماد ونطقاً وعما، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: "إنكَ تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فاعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ... " 4 الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه … " 5 الحديث. وكان المشركون إذا سئلوا عما يقول لهم محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: يقول "اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم" 6. وكانوا يعلمون دلالة لا إله إلا الله، ولذلك أنكروا التوحيد قال تعالى حكاية عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 7 وحقيقة الشرك أن يعتقد الإنسان في بعض المخلوقات إنها تجلب نفعاً أو تدفع ضررا بتأثير منها. وهذا البلاء عم البشرَية جمعا ولم ينج منه إلا من رحم الله، ومنِ أن الشرك ما يقع فيه الكثير ون اليوم من الاعتقاد فيمن يعظمون من الأولياء، أن آثاراَ عجيبة تصدر عنهم، يزعمون أن ذلك لم يصدر عن أحد منهم إلا لكونه متصفاً بصفة من صفات الكمال، وفاتهم أن الكمال أمر لم يعهد في جنس الإِنسان، بل محله النقص فهو من لوازم العبودية ولاشك، أما الكمال فهو حق لله مختص به دون سواه وأعني بذلك الكمال المطلق،   1 الآية (22) من سورة الأنبياء. 2 الآية (19) من سورة محمد. 3 الآية (13) من سورة لقمان. 4 صحيح مسلم 1/50. 5 المصدر السابق 1/51. 6 انظر جواب أبي سفيان لهرقل (الصحيح مع الفتح 1/32) . 7 الآية (5) من سورة ص. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 24 وهم يعنون ذلك فيمن يعظمون حين تصدر منهم أعمال غير عادية. بل زعم غلاتهم أن ذلك لا يحدث إلا لمن خلع الله عليه صفة الألوهية، أومن يفنيه في ذاته، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وهذه عقيدة أهل وحدة الوجود خسئ أصحابها. والأمثلة على شطحات أهل هذا الاعتقاد يطول بيانها، فأنواع خرافاتهم لا تكاد تحصر ولها مظانها، ومن ذلك ما كان يعبر عنه المشركون بقولهم في حجهم: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك- إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"1 ويعنون شركاءهم الذين يعاملونهم معاملة العباد مع الله، ومن أصابهم هذا الداء العضال اليوم وإن لم يكن اللفظ الوارد عن مشركي العرب في تلبيتهم ظاهراً في تلبية هؤلاء غير أنه معنى يتجلى في أعمالهم وتصرفاتهم، والشرع لا يبحث إلا عن الأعمال والتصرفات، التي باشرها الناس بنية تعظيم مخلوق من المخلوقات، حتى صار ذلك العمل مظنة للشرك ولازما له في العادة، فالأعمال ترجمة عما في القلوب، ولازم الشيء يعطى حكمه، وقد أقام الشرع العلل الملازمة للمصالح والمفاسد مقامها ونظراً لخطورة هذا الأمر فلا بد من التنبيه على أمور جعلها الله عز وجل في الشريعة المحمدية- على صاحبها أكمل الصلاة وأتم التسليم- مظنات للشرك فنهى عنها، منها: أ- منها أن المشركين كانوا يسجدون للأصنام والنجوم وغيرها من الأوثان فجاء النهي عن السجود لغير الله عز وجل قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2ولم يكن الإشراك قاصراً على السجود بل يتعده إلى التدبير لأن السجود ناشئ عن التعظيم والتعَظيم ناشئ عن اعتقاد في المعظَّم أنه متصرف في الكون، ولديه القدرة على التدبير، وهذه الخطورة قد يكون منشؤها زعم بعض المتكلمين أن توحيد العبادة حكم من أحكام الله، وهو مما يقع الخلاف فيه باختلاف الأديان لا يطالب بدليل برهاني، وهذا ظاهر الفساد، فلو كان الأمر كذلك، لم يقع الإلزام من الله عز وجل بتفرده بالخلق والتدبير، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُون أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ   1 صحيح مسلم 2/843. 2 الآية (37) من سورة فصلت. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 25 خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1 وإن من يمعن النظر في هذه الآيات يجد صواعق محرقة لأوهام الجاهلية في كل زمان ومكان، وحجة دامغة تدك تلك الأفكار الواهية والحق أنهم اعترفوا بتوحيد الخلق والتدبير ولكن في الأمور العظام قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 2 فالتوحيدان متلازمان ولا يجوز الفصل بينهما، ولكنهم لا يعقلون. 2- أنهم كانوا يستعينون بغير الله عز وجل في حوائجهم، من شفاء المريض، وإغناء الفقير، ويقدمون القرابين ويفعلون النذور، لأنهم يتوقعون إنجاح مقاصدهم بذلك، ويتلون أسماءهم رجاء بركتهم، فأوجب الله عليهم أن يقولوا (إياك نعبد وإياك نستعين) في كل يوم وليلة سبع عشره مرة، ونهاهم عن دعوة غيره فقال: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3 والمراد هنا عموم العبادة، ومنها الدعاء، ومرت الدعاء الاستعانة لقوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 4. 3- ومنها أنهم كانوا يتخذون أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله عز وجل، وذلك بأنهم كان يعتقدون أن الحلال ما أحله الرهبان، وأن الحرام ما حرموا، فما أباحوا لهم أخذوه، وما حرموه عليهم امتنعوا عنه ويتجلى هذا حين نزل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 فسأل عدي بن حاتم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "كانوا يحلون أشياء فيستحلونها، ويحرمون عليهم أشياء فيحرمونها"6 والحكم بحلية الشيء أو بتحريمه لا يؤخذ إلا عن الله عز وجل قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} 7 فتحديد الأشياء التي يؤاخذ عليها العباد والتي لا يؤاخذون عليها   1 الآيات من سورة النمل. 2 الآية (65) من سورة العنكبوت. 3 جزء من الآية (18) من سورة الجن. 4 الآية (41) من سورة الأنعام. 5 الآية (31) من توبة. 6 انظر كلام ابن كثير ومادمن عن هذا 2/348. 7 الآية (116) من النحل. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 26 الأحكام 1- إن المتأمل للأمر الموجه من المولى عز وجل إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم يتضح له أن الله عز وجل كلف رسوله صلى الله عليه وسلم بدعوة العباد إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم ومن ذلك سماعهم لأحكام الله عز وجل وتنفيذها في عباداتهم ومعاملاتهم وفق ما شرع الله. وهذا الذي كلف به رسوله صلى الله عليه وسلم يكلف به المصلحون من أمته ومن سار على نهجه فيجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس شريعة الله عز وجل، وأن يبينوا لهم ما حرم الله عليهم وما أحل لهم. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1 وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. 2- أن الشرك حرام وأنه أعظم الذنوب عند الله عز وجل وقد تقدم البيان. 3- أن التوحيد لا يتحقق إلا بنفي ضده وهو الشرك.   1 الآية (21) من الأحزاب. 2 الآية (108) من يوسف. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 36 ومما تجب الإشارة إليه هنا أنني استفدت التقسيمات التي مرت من كتاب تيسير العزيز الحميد1 وحرصت على تدوينها منه لما فيها من فائدة عظيمة وبيان في غاية الوضوح فجزى الله مؤلفه العفو والمغفرة والرحمة الواسعة.   1 انظر تيسير العزيز الحميد 43- هـ 4. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 37 الوصية الثانية المناسبة ... الوصية الثانية قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1. المناسبة: لعل المتأمل في الآيات الكريمة يظهر له أن أعظم الحقوق على الإنسان حق الله عز وجل، ويتمثل في عبادته وحده لا شريك له، وتنفيذ شرعه المبلغ على لسَان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا لاشك أنه أمر جلي وواضح، فأعظم النعم نعمة العبودية لله وحده لا شريك له، والله عز وجل هو المؤثر الحقيقي في وجود هذا الإنسان واصطفائه وتكريمه على سائر المخلوقات. ويتلو حق الله ونعمته في العظمة حق الوالَدين فقد جعلها الله سبباً لوجود الولد، وإذا كان الله عز وجل أنعم على العبد ورباه بجميع نعمه فقد سخر الوالدين لخدمته وتربيته ورعايته، ولهما من فضل الشفقة والحفظ من الضياع والهلاك فِي وقت الصغر مالا يقدر قدره إلا الله عز وجل لذلك ثنى الله عز وجل بهذا التكليف تكريماً للوالدين، وتنويهاً بأن حقهما أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل2، ولذلك قرن شكره تعالى بشكرهما قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 3   1 الآية (83) من البقرة. 2 أستفيد هذا التوجيه من الفخر الرازي رحمه الله 13/232. 3 الآية (14) من لقمان. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 37 البحث اللغوي : أ- في النحو: قوله: (إحسانا) نصب على المصدرية، وناصبه فعل مضمر من لفظه تقديره: وأحسنوا إحسانا. ب- في المفردات: إحساناً: من أحسن وهو أعم أعمال الخير، قال الراغب رحمه الله: الإحسان فوق العدل، وذلك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله، والإحسان أن يعطَي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 37 الإيضاح قال تعالِى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} المعنى أن مما وصىّ الله به عباده الإحسان إلى الوالدين إحساناً تاماً، لا يدخرون فيه وسعاً، والأمر بالإحسان إلى الوالدين جاء في أكثر من آية منها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1 الآية وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 2 الآية وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 3 الآية وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} 4 الآية. ولا ريب أن هذا التوكيد المستمر يدل على أن الإحسان إلَى الوالدين من أوجب الواجبات في الشريعة الإسلامية وهل جزاء الإحسان الإحسان، وهو يستلزم ترك الإساءة وإن قلت وتضاءلت، فيكون النهي عن العقوق لازمَاً بالأولى، فإنه من المحرم ومن أكبر الكبائر عند الله عز وجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبر بأكبر الكبائر؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين" 5 لذا أكد الكتاب والسنة على الإِحسان إلى الوالدين. قال العلماء: إن (أحسن) يتعدى (بالباء، وبإلي) فيقال: أحسن به، وأحسن إليه، والأول أبلغ ولذلك قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ولم يقل وأحسن إلى الوالدين، فالإحسان بالوالدين وذي القربى أليق، لأن من أحسنت به هو من يتصل به برك وحسن معاملتَك ويلتصق به مباشرة على مقربة منك وعدم انفصال عنك. أما من أحسنت إليه، فهو الذي تسدي إليه برك، ولو على بعد أو بالواسطة، إذ هو شيء يساق إليه سوقاً، وقالوا: إن هذه التعدية لم ترد إلا في تعبيرين في مقامين: 1- التعبير بالفعل حكاية عن يوسف عليه السلام وهو قوله لأبيه وإخوته: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} 6. 2- التعبير بالمصدر المفيد للتوكيد والمبالغة في مقام الإِحسان بالوالدين جاء ذلك في   1 الآية (83) من البقرة. 2 الآية (36) من النساء. 3 الآية (23) من الإسراء. 4 الآية (15) من الأحقاف. 5 صحيح البخاري مع الفتح 11/66. 6 الآية (100) من يوسف. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 38 أربع سور البقرة والنساء وقد عطف فيهما ذوى القربى على الوالدين بالتبع قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى} 1 الآية وفي النساء قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى} 2 الآية. وفي الأنعام التي نحن بصدد الكلام عنها، وفي الأحقاف3 هذا لبيان اهتمام الكتاب العزيز بشأن الوالدين وإلا لولم يرد فيه إلا قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} دون توكيد لكفى في الدلالة على عظم عناية الشرع بأمر الوالدين بما تدلى عليه الصيغة والتعدية، فكيف وقد قرنه بعبادته، وجعله ثانيهما في الوصايا، وأكده في سورة الإسراء4، كما قرن شكرهما بشكره في سورة لقمان5 والأمر بالإحسان إلى الوالدين عام يشمل الأبوين المسلمين، والكافرين إلا إن أمرا بمعصية فلا طاعة لهما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} 6 الآية. وقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} 7 الآية. فالآيتان ظاهرتان في عدم طاعة الوالدين في معصية الله وهما آمرتان ببر الوالدين ولو كانا كافرين، يوضح هذا سبب نزول الآيات قال الواحدي8 رحمه الله تعالى: قال المفسرون: نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وذاك أنه لما أسلم قالت له أمه حمنة: "يا سعد بلغن أنك صبوت، فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح9 والريح، ولا آكل ولا أشرب، حتى تكفر بمحمد، وترجع إلى ما كنت عليه". وكان أحب ولدها إليها، فأبى سعد رضي الله عنه، وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب، ولم تستظل بظل، حتى خشي عليها، فأتى سعد النبي صلى الله عليه وسلم وشكا ذلك إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف10، وساق الواحدي رحمه الله القصة بسنده 11 من طريق أبي   1 الآية (83) من البقرة. 2 الآية (36) من النساء. 3 الآية (15) . 4 الآية (23) . 5 الآية (14) . 6 الآية (8) من العنكبوت. 7 الآية (15) من لقمان. 8 أبو الحسن على بن أحمد الواحدي. 9 الشمس. 10 الآية (15) . 11 أسباب النزول صر 356. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 39 يعلى1 قال حدثنا أبو خيثمة. وهو زهير بن حرب شيخ الإمام مسلم الذي أخرج القصة أيضا عنه بسنده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية في ... القصة 2. وجاء في رواية أن سعدا رضي الله عنه قال لأمه: "لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع ديني هذا لشيء، قال فمكثت يوماً وليلة لا تأكل، فأصبحت وقد اشتد جهدها، قال فلما رأيت ذلك قلت: تعلمي والله يا أمه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً، ما تركت ديني هذا لشيء، إن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت"3. هذه القصة الثابتة في سبب نزول الآية تؤكد أن طاعة الوالدين الكافرين واجبة في المعروف قال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد أن ذكر سبب النزول: "اقتضت الآية الوصية بالوالدين، والأمر بطاعتهما، ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك- أو بمعصية- فتجب معصيتهما في ذلك، ففي الآية بيان ما أجمل في غيرها" 4، وقد جاء في كتاب الله عز وجل ما قد يفهم منه معارضة لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} لاسيما إذا كان الوالدان كافرين، وذلك قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} 5 الآية فالنص على الآباء في الآية مشعر بوجوب عدم الموادة للأبوين الكافرين، قال الشيخ محمد الأمين رحمه الله جواباً عن هذا الأمر: "الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه لا معارضة بين الآيتين، ووجه الجمع بينهما أن المصاحبة بالمعروف أعم من الموادة، لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده، والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم، فكأن الله حذر من الوادة المشعرة بالمحبة والموالاة بالباطن لجميع الكفار، يدخل في ذلك الآباء وغيرهم، وأمر الإنسان بأن لا يفعل لوالديه إلا المعروف، وفعل المعروف لا يستلزم المودة، لأن المودة من أَفعال القلوب، لا من أفعال أن الجوارح، ومما يدل لذلك إذنه صلى الله عليه وسلم لأسماء أن تصل أمها وهي كافرة6، وقال بعض العلماء: إن قصتها سبب لنزول قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} " 7 الآية.   1 مسند أبي يعلى 2/116 2 صحيح مسلم 3/1367 , 4/1877 3 أسباب النزول ص 356 ,357 وانظر ابن كثير 3/445 والفتح 10/400 24 الفتح 10/401 5 الآية (22) من المجادلة. 6 أخرجه الإمام البخاري بسنده عن أسماء رضي الله عنها قالت:"قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة , أفأصل أمي؟ قال: نعم , صلى أمك" (صحيح مع الفتح 5/233) 7 ألآية (8) من الممتحنة. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 40 انتهى كلامه رحمه الله1. وهو كلام جيد يزول به ما قد يعكر فهم البعض.. وأقول: من العلماء الذين أشار إليهم رحمه الله، الواحدي فإنه أخرج بسنده2من طريق أبي يعلى- أنه قال- حدثنا إبراهيم بن الحجاج3، حدثنا عبد الله بن المبارك4، عن مصعب بن ثابت5، عن عامر بن عبد الله بن الزبير6، عن أبيه7 قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر8 بهدايا، ضباب، وسمن، وأقط، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية. فأدخلتها منزلها، وقبلت هداياها9. وإذا كانت لكتاب الله عز وجل عناية بالوالدين فإن السنة المحمدية لم تغفل أمرهما، فقد كان نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يؤكد على طاعة الوالدين وبرهما، تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب، فمن الأول ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني" 10. ويلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله الذي هو من أكبر الحقوق العامة على الإنسان لأن حق الوالدين حق خاص ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: "أجاهد؟ قال: لك أبَوان؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد" 11. ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه" 12. وما ذكر في الحديث فرد من أفراد العقوق، وإن كان التسبب في لعن الوالدين من   1 مجلة الجامعة الإسلامية العدد الثاني السنة الرابعة شوال 1391 هـ ص 11-12 وله توجيه في كتابه دفع إيهام الاضطراب ص 292. وانظر كلام الحافظ (الفتح 5/233) . 2 أسباب النزول ص 450 3 أبو إسحاق البصري ثقة، يهم قليلاً، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين أو بعدها. 4 المروزي، ثقة ثبت فقيه، جمعت فيه خصال الخير، مات سنة إحدى وثمانين ومائة. 5 ابن أخي عامر شيخه، لين الحديث، وكان عابدا، مات سنة سبع وخمسين ومائة. 6 أبو الحارث المدني، ثقة عابد، مات سنة إحدى وعشرين ومائة. 7 عبد الله بن الزبير بن العوام، أول مولود في الإسلام بالمدينة، ولي الخلافة تسع سنين وقتل في ذي الحجة رضي الله عنه. 8 زوج الزبير بن العوام، وهي ذات النطاقين، من كبار الصحابة، عاشت مائة سنة. 9 مسند أبي يعلي. أخرجه الواحدي بسنده من طريق أبي يعلى (الواحدي ص 488) ولم أجده في مسند أبي يعلي. وذكره صاحب مجمع الزوائد 7/126 ولم يعزه. وعزاه السيوطي في الدار المنثور الأبي يعلى. 10 صحيح البخاريَ مع الفتح 10/ 400. 11 أخرجه االإمام البخاري بسنده من حديث عبد الله بن عمرو (الصحيح مع الفتح10/403) . 12 أخرجه الِإَمام البخاري بسنده من حديث عبد الله بن عمرو أيضا (المصدر نفسه) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 41 الكبائر فالتصريح بلعنهما أشد. وقد فرقت السنة بين حق الأب والأم قال أبو هريرة رضي الله عنه: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من: قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك" 1. نقل الحافظ ابن حجر عن ابن بطال قوله: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر. قال: "وكأن ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} 2 فسوى بينهما في الوصاية وخصَ الأم بالأمور الثلاثة". قال القرطبي: "المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الحب عند المزاحمة"3. وقال عياض: "وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء. ونقله بعضهم عن مالك. والصواب الأول"4 قال الحافظ ابن حجر: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية- أي أنهما في البر سواء- لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر5، وفيه نظر والمنقول عن مالك ليس صريحاً في ذلك، فقد ذكره ابن بطال قال: "سئل مالك، طلبني أبي فمنعتني أمي؟ قال: أطع أباك ولا تعص أمك". قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء كذا قال، وليست الدلالة على ذلك بواضحة6. هذا جزء مما ذكره الحافظ في هذا الموضوع ومن يرغب في الاستيعاب فعليه بمراجعة المصدر وليعلم أن السنة تزخر بالحث على بر الوالدين، ليس في حياتهما فحسب بل بعد موتهما، قال أبو أسيد الساعدي رضي الله عنه: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقى من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ   1 أخرجه الِإمام البخاري بسنده من حديث أبي هريرة (الصحيح مع الفتح 10/ 401) . 2 الآية (14) من لقمان. 3 نقل هذا عنه الحافظ في الفتح 10/ 401. 4 المصدر السابق. 5 أرى والله أعلم أنه يدل على عظم حق الأم في البر لا على التفضل فالأصل برهما جميعا، ولما كانت الأم أحوج لضعف المرأة أكد برها. 6 الفتح 2/402. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 42 عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما" 1. وكما أن الكتاب العزيز ربط شكر الوالدين بشكر الله عز وجل، كما تقدم بيانه، كذلك السنة النبوية ربطت رضى الوالدين برضى الله عز وجل، وسخطهما بسخطه عز وجل قال الترمذي رحمه الله: حدثنا أبو حفص عمر بن عل2، حدثنا خالد بن الحارث3، حدثنا شعبة4، عن يعلي بن عطاء5، عن أبيه6، عن عبد الله بن عمرو7، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رضى الرب من رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد" 8. وقد أكثرت السنة من التنويه بشأن الوالدين وعظم حقهما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد ذلك في كل مناسبة. ولاشك أن من قصر في حق والديه لا يرجى منه خير للإسلام، ولا للمجتمع، ولا للأمة، جعلنا الله هداة مهتدين، ورزقنا بر الوالدين، والسير على نهج خير المرسلين.   1 أخرجه أبو داود (5/352) وفي سنده علي بن عبيد مولى أبا أسيد مقبول. وأخرجه ابن ماجة عن شيخه علي بن محمد بسند أبي داود (ابن ماجه 2/1208) 2 ابن مقدم ,وصف بالتدليس الشديد , انظر إتحاف ذوي الرسوخ ص 41 , مات سنة تسعين ومائة. 3 أبو عثمان , الهجيمي , ثقة ثبت , مات سنة ست وثمانين ومائة. 4 ابن الحجاج , أمير المؤمنين في الحديث , مات في حدود أربعين ومائة. 5 العامري , ثقة , مات في سنة عشرين ومائة أو بعدها. 6 عطاء , العامري ,الطائفي مقبول. 7 ابن العاص رضي الله عنهما , أحد المكثرين ,وأحد الفقهاء , مات بالطائف. 8 الجامع 4/310 وقد وقع خطاء (شعبة بن يعلى) والصواب ما أثبته انظر (التحفة 6/25) وأخرجه الحاكم من طريق أخرى عن شعبة 4 / 151. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 43 الأحكام يؤخذ مما تقدم: 1- وجوب طاعة الوالدين، وبرهما، وصيانتهما. 2- تحريم عقوق الوالدين، والإساء إليهما. 3- أن حقهما أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل. 4- تحريم طاعتهما فيما حرم الله عز وجل. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 43 الوصية الثالثة المناسبة ... الوصية الثالثة قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . المناسبة: لعل المناسبة واضحة من السياق وأن الله عز وجل لما قرر في كتابه العزيز واجب الابن الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 43 تجاه الوالدين أردف عز وجل بالوصية بالأبناء وبيان ما لهم من الحقوق كما أوضح ما عليهم من الواجبات، وهذا تحقيق للموازنة بين الحقوق والواجبات. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 44 البحث اللغوي : المفردات: الإملاق. فسرت هذه الكلمة بمعان عدة. ا- أن المراد بالإملاق الفقر. قاله ابن عباس1. 2- الإنفاق. وقد سألت امرأة ابن عباس، "أأنفق من مالي ما شئت؟ " قال: "نعم أملقي من مالك ما شئت"2. وذكر ابن عطية أن هذا ذكر عن علي رضي الله عنه3. 3- الإفساد4. 4- وقيل الجوع بلغة لخم. وقيل الإسراف. وفعل أملق يكون قاصراً ومتعدياً، يقال: أملق الرجل فهو مملق، إذا افتقر. فهذا اللازم، وأملق الدهر ما عنده. وهذا المتعدي5.   1 انظر الفتوحات 2/108، وفي الصحاح. الِإملاَق: الافتقار (2/ 512) وانظر اللسان 10/348. 2 اللسان 10/348. 3 ابن عطية 6/ 179. 4 اللسان 10/348. 5 انظر اللسان 10/348، والفتوحات 2/108. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 44 الإيضاح : قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} الآية. أوصى الرب عز وجل عباده بعدم الإقدام على قتل الأولاد، ذكوراً كانوا أم إناثاً، لأن لفظ الولد يشمل الذكر والأنثى على حد سَواء، وقد كان قتل الأولاد من أعمال الجاهلية ولاسيما البنات فحرم الله ذلك لأي سبب كان قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 1 فالجاهليون كانوا يفعلون ذلك لأسباب عدة منها: أ- الفقر الواقع والحالّ بالوالدين. فقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} يفيد هذا المعنى أي من أجل فقر حالّ بكم، ولذلك قدم رزق الوالدين على الأولاد، لأنهم تابعون لآبائهم في الرزق الحالّ2   1 الآيتان (8، 9) من التكوير. 2 المعلومات مستفادة من (الروح 8/ 47، والمنار 8/ 124) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 44 2- الفقر المتوقع مستقبلاً يؤيد هذا الفهم قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} 1 وهنا قدم رزق الأولاد على الآباء لتعلق رزقهم بالمستقبل وكثيراًَ ما يكون الآباء عاجزين عن الكسب، يحتاجون إلى أن ينفق عليهم فقدم رزق الأولاد في مقام الخوف والخشية من عدم الكسب وقلة الرزق2. 3- الخوف من العار، وهذا خاص بالبنات. فقد كانوا يئدون البنات حماية للشرف، وبعداً عن السُّبة، لكنها وسيلة قاسية وظالمة، والغاية في الإسلام لا تبرز الوسيلة. 4- التدين، فقد ينحر الجاهلي ولده تقرباً إلى الآلهة. وقد يستدل له بأن عبد المطلب نذر حين لقي من قريش ما لقي لئن ولد له عشرة أولاد لينحرن أحدهم، لكن ذكر ابن هشام أمرين يدفعان نهوض الاستدلال: 1- أن ابن هشام رحمه الله قال: فيما زعموا والله أعلم. هذه إشارة إلى عدم ثبوت القصة من وجه يعتمد عليه. 2- إن النذر كان لله ولم يكن للآلهة كما ورد في القصة3. وسواء ثبتت هذه الأسباب أولم تثبت فقد حرم الله عز وجل قتل الأولاد، في كتابه العزيز، وأكدت السنة النبوية المطهرة ذلك التحريم، وحذرت من ذلك العمل الجاهلي أشد التحذير، وقد شرط الله عز وجل في بيعة النساء عدم قتل الأولاد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} 4 الآية ومما جاء في السنة الحديث المتفق عليه واللفظ للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت أو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الذنب عند الله أكبر؟ قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" الحديث5 وفي آخره، قال: ونزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} 6 تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن فيما ذكرنا غنية لطالب الحق المستفيد، وفيه عون بإذن الله للباحث المستزيد.   1 الآية (31) من الِإسراء. 2 المنار 8/ 124. 3 ابن هشام 1/98. 4 الآية (12) من الممتحنة. 5 الصحيح مع الفتح 8/492. 6 الآية (68) من الفرقان. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 45 من الأحكام ا- الوصية تدل على تحريم قتل الأولاد. 2- يفهم منها وجوب الاعتماد على الله عز وجل في طلب الرزق. 3- قال القرطبي رحمه الله: وقد يستدل بهذا من يمنع العزل، لأن الوأد يرفع الموجود، والنسل، والعزل: منع أصل النسل، فتشابها، إلا أن قتل النفوس أعظم وزرا، وأقبح فعلاً، ولذلك قال بعض علمائنا: إنه يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي" 1 الكراهية لا التحريم2 والعزل: هو أن يفرغ الرجل ماءه خارج الرحم3. وقد اختلف العلماء في حكم العزل4. 1- الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله يقولون بجواز العزل عن الحرة بإذنها، ويعزل عن الأمة بغير إذنها. واستدلوا على ذلك بحديث أبي سعيد الخدريَ وحديث جابر رضي الله عنهما وما في معناهما5. 2- الإمام الشافعي رحمه الله ذهب إلى جواز العزل مطلقا، وبدون إذن. 3- ذهب ابن حزم إلى تحريم العزل مطلقاً مستدلاً بحديث جذامة بنت وهب عند مسلم6. والراجح الجمع بين هذه الأقوال. يحمل المنع على كراهة التنزيه، والجواز على عدم التحريم ولا يعني الجواز عدم وجود الكراهة7.   1 صحيح مسلم 2/1067 2 القرطبي 7/132 3انظر تعريفه عند النووي (في الشرح 3/612) وانظر (الفتح 9/305) 4 انظر التفصيل (الفتح 9/305-310) 5 انظر (الصحيح مع الفتح 9/305) 6 صحيح مسلم 2/1067 7 انظر (الفتح 9/305-310 وشرح النووي 3/612) وقد كان عثمان رضي الله عنه يكره لما فيه من إقلال النسل. (المحلى 10/7) وقد اختلف النقل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (المصدر السابق) وانظر (مصنف عبد الرزاق 7/144 , وسنن سعيد بن منصور 3/2/105 , البيهقي 7/231 ,والمغني 7/23, ومصنف ابن أبي شيبة 2/220-223 , ونيل الأوطار 6/210-222) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 46 الوصية الرابعة المناسبة ... الوصية الرابعة قوله تعالى {ولا تقربوا الفواحش ماظهر منها وما بطن} الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 46 المناسبة: إن المتأمل للوصايا الثلاث الأول يجد فيها عناية وتأكيداً على الطهارة المعنوية، ففي الوصية الأولى أوصى الله عز وجل بطهارة القلب من عبادة غيره، ومن كل شائبة تعكر صفو العقيدة مهما قل شأنها، وفي الوصية الثانية أوصى بطهارة الجوارح من الإساءة إلى الوالدين، وأمر بكبح كل جارحة بالإحسان الزائد على العدل، وفي الوصية الثالثَة أمر بطهارة الجوارح أيضا من صفة ذميمة، مارسها الجاهليون، فأكد الشرع على تحريمها، وأعلن قبحها، فالطهارة الأولى فيها حماية للفرد، والثانية والثالثة فيهما حماية للأسرة، وجاءت الوصية الرابعة شاملة لحماية الفرد والأسرة والمجتمع، فالطهارة المعنوية قاعدة يقوم عليها صلاح الفرد والأسرة والمجتمع ومرتكزها إفراد الله عز وجل بالعبادة. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 47 المباحث النحوية ... البحث اللغوي: أ- النحو: (ما ظهر) منصوب على البدل من الفواحش. (ما بطن) عطف عليه. ب- المفردات: الفواحش: جمع فاحشة. وكل شيء جاوز حده فهو فاحش1. والفحشاء والفاحشة، ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال2. والفاحشة، الزنا. وكل ما يشتد قبحه من الذنوب وكل ما نهى الله عز وجل عنه3. وقد جاء في معنى الفواحش في هذه الآية خمسة أقوال: 1- أن ما ظهر: هو نكاح المحرمات والخمر، وما بطن الزنا. قاله سعيد بن جبير ومجاهد. 2- وقال الضحاك: ما ظهر الخمر، وما بطن الزنا. 3- وقال ابن عباس والحسن والسدي: إن الفواحش الزنا، وما ظهر منه الإعلان به، وما بطن الإستسرار به. 4- قال قتادة إنه عام في الفواحش، وظاهرها علانيتها، وباطنها سرها4. 5- ذكر الماوردي في تفسير هذه الآية أن ما ظهر، أفعال الجوارح، وما بطن اعتقاد   1 الصحاح 2/ 225، وانظر اللسان 6/ 325. 2 الراغب ص 374. 3 ترتيب القاموس 3/ 425. 4 الزاد 3/ 148. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 47 القلوب1. والأولى حمل الآية على العموم في هذا، وأنها كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2 ولا فرق بين الآثام الظاهرة والباطنة لذلك قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} 3. أي سواء كان ظاهراً أو باطناًَ، فالجزاء واقع لا محالة، مَا لم تقع التوبة، أو يحظ العبد بعفو ربه وكرمه4 اللهم ارحمنا ووفقنا لصالح الأعمال، وقنا سيئها، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 48 الإيضاح : قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} . إن المتأمل لهذا النهي يجد أنه وقع بين نهين: النهي الأول: قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} . والنهي الثاني: قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} وهو نهي عن القتل مطلقاً. وقد حاول بعض المفسرين أن يجد علة لذلك، لأننا إذا اعتبرنا المراد بالفواحش الزنا، فإنها بهذا المعنى جناية عظيمة وهي جناية على النسل، وقتل جميع الحقوق المرتبة عليه، فكأن ذلك في حكم قتل الأولاد، وأولاد الزنا في حكم الأموات لاسيما في الحقوق المتعلقة بالنسل، وإذا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم في العزل: "ذلك الوأد الخفي" منفراً عن هذه الصفة فلا ريب أن عقوبة الزاني ربما تكون مضاعفة بهذا الاعتبار والله أعلم. وهذا المعنى تلمسه بعض المفسرين5. أما إذا اعتبرنا العموم وهو ما نراه في هذا الموضوع فلا تظهر علة للتوسط المذكور وإنما هي محرمات أوصى الله عباده باجتنابها، وإذا كانت الفواحش ما عظم قبحه من الأقوال والأعمال. ولاشك أن تجاوز ما حرم الله من الفواحش وأعظمها الشرك بالله. والخطر كامن في تجاوز الحدود وانتهاك الحرمات أعاذنا الله من ذلك. ولعل التحذير من الاقتراب من الفواحش مبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها، ومعلوم أن الاقتراب من الشهوة المحرمة يدعوا إلى اقترافها ومباشرة ما نهى الله عنه، وكم من إنسان ضعفت نفسه أمام شهوته، وحام حول الحمى فوقع فيه.   1 الماوردي 1/576. 2 الآية (23) من الأعراف. 3 الآية (120) من الأنعام. 4 وممن ذهب إلى القول بالعموم الطبري 8/ 61 والرازي 13/233. 5 انظر (الإرشاد 3/ 199) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 48 ومعنى الآية الكريمة: أن ما وصى الله به عباده عدم الاقتراب من الأعمال المؤدية إلى ما حرم الله والابتعاد عن الخصال السيئة التي منها الزنا، واللواط، وقذف المحصنات، ونكاح أزواج الآباء، وكل ما سماه الله عز وجل فاحشة، وجب الابتعاد عنه، فهو مما ثبتت شدة قبحه شرعاً وعقلاً، وقد كان الجاهليون يستقبحون الزنا، ويعدونه أكبر العار، ولاسيما إذا وقع من الحراير1، وكان وقوعه منهن نادرا، وإذا كان الأمر كذلك، فمن شرفهم الله عز وجل بالشرع المحمدي أولى بالعفة والنزاهة، بيد أن ذلك لم يحدث في الجاهلية علناً إلا في الإماء والجواري، فقد كانت المجاهرة منهن، في حوانيت ومواخير تمتاز بأعلام حمر، فيختلف إليَها الأرذلون منهم، أما الأشراف فلا يعلنون ذلك وقد يتخذون الأخدان سراً، قال الإمام الطبري رحمه الله: حدثني المثنى2 قال: ثنا عبد الله بن صالح3، ثنى معاوية4، عن على بن أبي طلحة5، عن ابن عباسِ قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال: "كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساًَ في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله الزنا في السر والعلانية"6. قوله تعالى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} يفهم من هذا القول الكريم أن العبد لابد أن يراقب الله عز وجل ويحذر المحرمات في جميع أحواله وهذا معنى التقوى في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك" الحديث7 وأصرح من هذا ما أخرجه الدارمي حيث قال: حدثنا أبو نعيم8، ثنا سفيان9، عن حبيب بن أبي ثابت10، عن ميمون بن أبي شبيب11، عن أبي ذر قال: قال رسول الله   1 ولذلك أنكرت هند بنت عتبة أن تزني في الحرة حين طلب منها المبايعة على غرار ما جاء في آية الأحزاب (ابن كثير4/354) . 2 المثنى بن إبراهيم الآملي. صرح باسمه كاملاً في الأثر رقم 594 (1/437 النسخة المحققة) ولم أقف عليه مترجما. 3 كاتب الليث، صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين. 4 الحضرمي، قاضي الأندلس، صدوق له أوهام، مات سنة ثمان وخمسين ومائة. 5 مولى بن العباس. أرسل عن ابن عباس ولم يره، صدوق يخطئ، وهو من رجال مسلم. مات في سنة ثلاث وأربعين ومائة وانظر (ابن معين ص هـ 8) والمصادر التي أحيل عليها. 6 الطبري 8/ 61 وأخرجه بسنده موقوفاً على الضحاك، ومن طريق أخرى موقوفاً على قتادة. 7 أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح 4/667، وفي السند ابن لهيعة وليس بقادح لأنه مقرون بالليث بن سعد، وروى عنهما عبد الله بن المبارك. وأخرجه أحمد من طريق ليث وحده (المسند 1/293) . 8 الفضل بن دكين، من كبار شيوخ البخاري، ثقة ثبت. 9 الثوري، الحجة، الفقيه، قال البخاري: ما أقل تدليسه. انظر (التبيين ص 27) . 10 ثقة، فقيه جليل، وصف بكثرة التدليل والإرسال. (المصدر السابق) . 11 الربعي، صدوق، كثير الإرسال، مات سنة ثلاث وثمانين. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 49 صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيث ما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" 1. وهذه الأحاديث وما في معناها مع الآية الكريمة تؤكد ارتباط النفس بمراقبة الله عز وجل واستصحاب التقوى في السر والعلانية وهي الصفة المنجية كما أخبر بذلك أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث منجيات خشية الله في السر والعلانية" الحديث2. ويكمن الخطر في حالة انفصال المراقبة عن النفس في وقت ما، فمثلاً إذا احترز الإنسان عن المعصية في الظاهر، ولم يحترز عنها في الباطن، علم أن الاحتراز في الظاهر ليس لأجل الله عز وجل، فليست فيه طاعة ولا عبودية لله، وإنما كان الاحتراز خوفاً من مذمّة الناس وذلك باطل، لأن من كانت مذمة الناس عنده أعظم وقعاً على نفسه من عقاب الله عز وجل فإنه يخشى عليه من الكفر، وأي حظر أعظم من أن يعرض الإنسان نفسه لهذا الذنب العظيم، وأي نقمة أشد من سخط الله، نعوذ بالله من التهلكة ونعوذ بالله من سخطه ونقمته. أما من ترك المعصية ظاهراً وباطناً، فذلك دليل على أنه إنما تركها تعظيماً لحدود الله أن ينتهكها، وتنفيذاً لأمر الله عز وجل بالاجتناب في كل حال، وتحقيقًا لعبوديته لله عز وجل. وخوفًا من عقابه3. ولئن كان كتاب الله عز وجل حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الإمام البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش" الحديث4. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ويكفي ورود هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أصحِ الكتب بعد كتاب الله. فحق على كل مسلم بالغ عاقل رشيد أن يجتنب ما حرم الله ظاهراً وباطناً، ويعلم أنه سيقف بين يدي الله عز وجل ويسأل عن هذه الوصية.   1 الدارمي 2/231 وانظر المصادر التي أحيل عليها في التعليق. 2 ذكره الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/64. 3 انظر الرازي 13/233 4 الصحيح مع الفتح 13/383، وانظر (صحيح مسلم 4/2113) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 50 الأحكام : من الأحكام المستفادة من هذه الوصية: 1- وجوب الابتعاد عما حرم الله ظاهرا وباطنا. 2- مراقبة الله عز وجل في كل حال خير معين على اجتناب المحرمات. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 50 الوصية الخامسة المناسية ... الوصية الخامسة قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . المناسبة: قد يتلمس الباحث ما يربط به بين المعاني أو الأوامر أو النواهي، وقد يكون ما يصل إليه أمراً واضحاً يتأيد بالأسلوب والمقام، وقد يكون فيه تكلف وبعد. ولعل الناظر في هذه الوصايا الكريمة يجد أن الله عز وجل حرم قتل القلوب بعبادة غير الله عز وجل، أيَّ نوع كان من أنواع العبادة، وصان بعد ذلك الوالدين وحماهما من جهل الجهلاء، وحماقة السفهاء، فالإساءة إليهما أو إلى أحدهما قتل للراوبط الأسرية، وقضاء على الإحسان الذي أمر الله به، ثم أحكم علاقة الأباء بالأبناء، ورسم حدوداً لا يجوز لأي من الأبوين تجاوزها، وصرح عز وجل بتحريم قتل الأولاد، لأن قتلهم قتل للمجتمعات، وقضاء على تتابع الأجيال، ويدخل في هذا الفساد ارتكاب الزنا فهو يقتل المجتمعات حساً ومعنى. وتلا ذلك النهي عن قتل النفس عامة، وهذا العموم يوحي بتضمن ما سبق، فإن كل قتلٍ فردي إنما يقع على جنس النفس في عمومه، يؤيد هذا الفهم قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ... } 1 الآية. فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها، وعلى النفوس البشرية في عمومها، والآية الكريمة دليل على أن الله عز وجل كفل حرمة النفس ابتداء2.   1 الآية (32) من المائدة. 2 هذا المعنى مستفاد من (الظلال 424/3) الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 51 المبحث اللغوي ... البحث اللغوي: أ- في النحو: قوله: (إلا بالحق) استثناء مفرع ولعله من أحد ثلاثة أمور: 1- من أعم الأحوال، أي لا تقتلوها في حال من الأحوال، إلا حال ملابستكم الحق، الذي هو أمر الشرع بقتلها. 2- أومن أعم الأسباب، أي لا تقتلوها بسبب منِ الأسباب إلا بسبب الحق. 3- أومن أعم المصادر، أي لا تقتلوها قتلاً إلا قتلاًَ كائناً بالحق. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 51 وقد رجح في الفتوحات أن قوله: {إِلا بِالْحَقِّ} مفعول مطلق، أي إلا القتل المتلبس بالحق1. قوله: {ذَلِكُمْ} إشارة إلى الوصايا المتقدمة. والكاف والميم: للخطاب، ولا حظّ لهما من الإعراب. قوله: {النَّفْسَ} أي جنس نفس الإنسان، فالألف واللام لتعريف الجنس، كقولهم: أهلك الناس حب الدرهم والدنيا. والله عز وجل يقول: {إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} 2 فالمراد الجنس. الضمير في قوله: {وَصَّاكُمْ} محله النصب، لأنه ضمير موضوع لمخاطبة الجمع. وفى وصى ضمير تقديره: هو، فاعل يعود على لفظ الجلالة أي: وصىّ الله تعالى عباده بذلك. ب- المفردات: الحق: واحد الحقوق، هو ضد الباطل3. تعقلون: من العقل، والمراد في الآية العلم4 الذي يستفيده الإنسان من التأمل في هذه الوصايا.   1 انظر (الإرشاد 3/ 199، والفتوحات 2/ 09 1) . 2 الآية (19) من المعارج. 3 انظر (الصحاح 1/ 281 واللسان 0 1/ 49. والمفردات ص 341) 4 انظر (الآية 98 من البقرة) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 52 الإيضاح : إن المتأمل للآية الكريمة يجد أن قتل النفس المحرمة من جملة الفواحش، وقد أفرده رب العزة فهو من باب ذكر الخاص بعد العام، وقد أجاب العلماء رحمهم الله عن هذا منهم الإمام الرازي رحمه الله قال: اعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش، إلا أنه أفرده تعالى بالذكر، لفائدتين: 1- أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم، والتفخيم كقوله تعالى: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} 5. 2- أن الفواحش لا يستثنى منها فلا يقال: لا تقربوا الفواحش إلا بالحق. وهو وارد في القتل فجاء إفراده لفرض الاستثناء أيضا6 وإذا تدبر الإنسان كتاب الله عز وجل يجد   1 انظر (ترتيب القاموس 3/ 277. والمفردات ص 341) 2 الرازي 13/233. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 52 بكثرة ورود النهي عن هذه المنكرات الثلاث متتابعاً، النهي عن الشرك، والنهي عن الزنا، والنهي عن قتل النفس ولعل في هذا توجيهاً للأنظار إلى أن هذه الأمور الثلاثة تشترك في صفة القتل، فإذا نظرنا إلى جريمة الشرك نجد أنها قتل للقلوب وإماتة للفطرة التي فطر الله الناس عليها. فالقلوب التي لا تعيش على التوحيد قلوب ميتة، قد قضي على ما فيها من فطرة يؤيد هذا الفهم قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 1 الآية. فليس المراد موت الأجساد بخروج الأرواح منها، بل المراد موت القلوب بخلوها من نور الحق، وبرهان الشرع، والشرع لا يقوم إلا على اعتقاد سليم وبرهان قويم. وجريمة الزنا قتل للجماعة حساً ومعنىً، فالجماعة التي تشيع فيها الفاحش جماعة ميتة معنوياً من حيث عدم وجود الغيرة التي من أعظم الأسباب في حماية المجتمع من هذا الوباء القاتل ولذلك وصف بها النبي ربه عز وجل فقال: "ما من أحد أغير من الله عز وجل" 2 فإذا قتلت الغيرة في الجماعة استشرى الخطر، وعم البلاء، أما قتلها حساً فإن مصيرها إلى الفناء والدمار لا محالة لاندفاعها خلف هذه الشهوة المحرمة حتى بلغت مستوى الدواب بل هم أضل سبيلا. وقد جاء في بلاغات الإمام مالك عن ابن عباس أنه قال: " … ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم المَوت ... "3 قال ابن عبد البر: "قد رويناه متصلاً عنه، ومثله لا يقال بالرأي"4. ويؤيد قوله هذا أن ابن ماجة قال: حدثنا محمود بن خالد الدمشقي5، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب6، عن ابن أبي مالك7 عن أبيه8 عن عطاء بن أبي رباح9، عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع، التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ... " 10 الحديث. وله شاهد من حديث ميمونة أخرجه الإمام أحمد رحمه الله11. وفي نظري أن هذا الخبر لا يقل   1 الآية (122) من الأنعام. 2 الصحيح مع الفتح 13/383، وصحيح مسلم 4/2113. 3 الموطأ 2/460. 4 قاله محمد فؤاد تعليقاً على المصدر السابق. ولا أراه إلا في التمهيد. ولم أقف عليه. 5 ثقة، مات سنة سبع وأربعين ومائتين. 6 صدوق يخطئ من رجال البخاري مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. 7 خالد بن يزيد بن عبد الرحمن ضعيف، مع كونه فقيهاً، قد اتهمه ابن معين، مات سنة خمس وثمانين. 8 يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، صدوق ربما وهم، مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها. 9 ثقة، كثير الإرسال، مات سنة أربع عشرة ومائة. 10 ابن ماجه 2/ 1332. 11 المسند 6/ 333. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 53 عن درجة الحسن لغيره وأنه كما قال ابن عبد البر رحمه الله: "مثله لا يقال بالرأي"، والواقع يؤيده بعد مضي أكثر من ألف وأربعمائة سنة، يظهر الوباء الذي لم يعهد من قبل، ويهدد العالم الذي فشا فيه الزنا ولا ريب أنه الموت الذي ذكره ابن عباس وهوا لطاعون الذي ذكره ابن عمر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو العقاب الذي ذكره الإمام أحمد من حديث ميمونة رضي الله عنها، وهو (الإيدز) 1 كما يسميه عالم الحضارة اليوم، فهل آن الأوان لأبناء الإسلام أن يرجعوا إلى حمى الإسلام فيحتموا به من قتل القلوب والمجتمعات. وجاء النهي الثالث يحرم الاعتداء على جنس النفس البشرية يجعل قتلها بغير حق فاحشة عظيمة وكبيرة، يعاقب الله عليها بأشد العقاب، ولذلك أجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق اعتمادا على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل يخاطب عباده في هذه الوصية بأن لا تقتلوا النفس التي حرم قتلها بالإسلام، أو عقد الذمة، أو العهد، أو الاستئمان، فيدخل في عموم النفس كل أحد إلا الحربي، ففي هذه الوصية حرم قتل النفس عامة. وكذلك في قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} 2. وأكد على النفس المؤمنة تكريماً لها وتنويها بشأنها وإلا فهي داخلة في العموم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً} 3 الآية وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} 4. كما نصت السنة المطهرة على تحريم قتل المعاهد، تنويهاً بمبادئ الإسلام، وتربية لأمة الإسلام على حفظ العهود والمواثيق والعهد يشمل الأمرين السابقين، عقد الذمة، والاستَئمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما"5. وأخرج الترمذي بسنده من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا من قتل نفسا معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا". قال: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح"6. وهذا غيض من فيض.   1 وباء هذا العصر نتيجة الخروج عن الآداب الإسلامية. والإنسانية والانحطاط إلى مستوى الحيوان بل أدنى من ذلك وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها 3413 الصادر في يوم السبَت 08/8/1408 هـ أن عدد الإصابات بهذا الوباء والذي تم إبلاغ منظمة الصحة العالمية بها وصل إلى 85273 إصابة في العالم. وما خفي أعظم. 2 الآية 33 من الإسراء. 3 الآية (92، 93) من النساء. 4 الآية (92، 93) من النساء. 5 الصحيح مع الفتح 12/259. 6 الجامع 4/ 20. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 54 قوله: {إِلا بِالْحَقِّ} . المراد به ما يبيح قتل النفس التي حرم الله قتلها شرعاً. ومنه المذكور في الأسباب الآتية: 1- النفس بالنفس قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 1 الآية وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2. 2- الوقوع في الزنا بعد الإحصان. وقد جاء في كتاب الله عز وجل مما بقي حكمه ونسخت تلاوته "الشيخ والشيخة فَأرجموهما البتة"3 يعني إذا زنيا فذاك عقابهما وجاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم إمرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" 4. 3- المرتد عن الدين، التارك لجماعة المسلمين. كما ورد في الحديث آنفا. 4- المحاربون لشرع الله الذين يسعون بالفساد في الأرض. ومنهم قطاع الطرق، وما يسمون بالإرهابيين اليوم، والساطون على أعراض الناس، ودمائهم، وأموالهم. قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} 5 الآية. ثم إنه تعالى لما بين أحوال هذه الوصايا الخمس أتبع ذلك اللفظ الذي يقرب إلى القلوب القبول فقال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} لما فيه من الشمول للأمر والنهي، ولما فيه من اللطف والرأفة، كل ذلك ليكون القلب أقرب إلى القبول، ثم أتبعه عز وجل بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولعل هنا ليست على بابها، أي لكي تعقلوا فوائد هذه الوصايا في الدين والدنيا. ومن تأمل قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} يجد أن استخدام اسم الإشارة للبعيد له دلالة تنبئ عن عظمة هذه الوصايا وبعد ما ترمي إليه من إصلاح الدين والدنيا، وما فيها من الحكم والأحكام الإلهية التي تضمنت الكمال المطلق في الهداية والتوجيه، وإصلاح الإنسانية في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.   1 الآية (45) من المائدة. 2 الآية (179) من البقرة. 3 انظر (الموطأ 2/ 824) . 4 انظر (الصحيح مع الفتح 12/ 201 وصحيح مسلم 3 / 1302) . 5 الآية (33) من المائدة. ولتمام الفائدة انظر (الرازي 13/233) . الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 55 ولما كانت الوصية الخامسة تنهى عن القتل بغير حق فإنه يحسن الكلام عن القتل وأقسامه. إن الدارس لهذه القضية يجد أن الأكثرين من العلماء يرون القتل أقساماً ثلاثة: 1- العمد 2- شبه العمد 3- الخطأ. وممن يرى هذا التقسيم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولهما فيه قضاء1 وبه قال الشعبي، والنخعي، وقتادة، والثوري، والإمام الشافعي، ِ والإمام أحمد، وأهل العراق، وأصحاب الرأي رحم الله الجميع، ونقل عن الإمام مالك رحمه الله أنه أنكر شبه العمد وقال: "ليس في كتاب الله عز وجل إلا العمد، والخَطأ"، فهو لا يعمل بشبه العمد، وجعله من قسم العمد. وحكى عنه مثل قول الجماعة2. ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه أبو داود وقال: حدثنا سليمان بن حرب3ومسدد4 قالا: حدثنا حماد5، عن خالد6، عن القاسم بن ربيعة7، عن عقبة بن أوس8، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " … ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا، مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها"9. وهذا الحديث الذي لا يقل عن درجة الحسن نص يصد ما نقل عن الإمام مالك رحمه الله من إنكاره شبه العمد، وقد زاد أبو الخطاب قسماًَ رابعاًَ، وسماه (ما أجري مجرى الخطأ) نحو أن ينقلب نائم على شخص فيقتله، أو يقع عليه من علو، ومنه القتل بالسبب، كحفر البئر، ونصل السكين، ومنه قتل غير المكلف، فقد أجري مجرى الخطأ، وإن كان عمداً، لكن هذه الصورة التي ذكرها أبو الخطاب رحمه الله هي عن الأكثرين من قسم الخطأ، لأن صاحبها ليس من أهل القصد الصحيح، ولذلك أعطوه حكم الخطأ لأنه خطأ في الواقع. ويحسن في هذه العجالة إعطاء فكرة مبسطة عن كل قسم.   1 انظر سنن أبي داود 4 /685. 2 المغني مع الشرح الكبير 9 / 322. 3 البصري، إمام حافظ ثقة، مات سنة أربع وعشرين ومائتين. 4 ابن مسرهد، البصري، ثقة، حافظ، أول من صنف المسند مات سنة ثمان وعشرين ومائتين. 5 ابن زيد، البصري، ثقة، ثبت فقيه، مات سنة تسع وسبعين ومائة. 6 ابن مهران، الحذاء، ثقة، يرسل، من كبار الخامسة. 7 ابن جوشن، البصري، ثقة، من الثالثة. 8 البصري، صدوق من الرابعة. 9 أبو داود 4/ 711-712. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 56 1- العمد: هو أن يقصد شخص قتل آخر بما يراه قاتلا في العادة كالسيف، والخنجر، والطلقات النارية وغيرها من الأمور القاتلة. وهذا القسم ثبت بكتاب الله عز وجل قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 1 الآية. 2- شبه العمد: هو أن يقصد شخص ضرب آخر بما لا يقتل غالباً، إما لقصد العدوان عليه، أو لقصد التأديب له فيسرف فيه، ويتجاوز الحد المعقول في ذلك، كالضرب بالسوط، والعصا، والحجر الصغير ونحو ذلك. وهذا القسم ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد ذكرنا آنفاً حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط، والعصا، مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها" 2. وقد قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الإمام البَخاري بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة، عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على العاقلة"3. فاعتبره صلى الله عليه وسلم شبه عمد إذ أوجب الدية على العاقلة، ولو اعتبره عمداً لما حملت العاقلة الدية، لأنها لا تحمل العمد. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن يحي بن فارس4، حدثنا محمد بن بكار بن بلال العاملي5، أخبرنا محمد- يعنى ابن راشد6- عن سليمان- يعني ابن موسى7- عن عمر وبن شعيب8، عن أبيه9، عن جده10، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل شبه العمد مغلظ، مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه" 11. فهذه نصوص من السنة صحيحة تثبت شبه العمد، خلافاًَ لما نقل عن الإمام مالك رحمه الله. 3- الخطأ: هو أنٍ يفعل الشخص فعلاً لا يريد به الاعتداء علىِ أحد من البشرِ فيخطئ هدفه ويصيب إنساناً فيقتله، مثاله. أن يرمي صيداً فيصيب إنساناًَ، أو يلقي شيئاًَ   1 الآية (93) من النساء. 2 أخرجه أبو داود 4/ 711-712. 3 الحديث متفق عليه وهذا لفظ البخاري (الصحيح مع الفتح 12/ 252) . 4 الذهلي، ثقة، حافظ، جليل، مات سنة ثمان وخمسين ومائتين. 5 صدوق، مات سنة ست عشرة ومائتين. 6 المكحولى، صدوق يهم، مات بعد ستين ومائة. 7 الأموي، الأسدق، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، من الخامسة. 8 ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، صدوق، مات سنة ثمان عشرة ومائة. 9 شعيب بن محمد، صدوق، من الثامنة. 10 عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. 11 سنن أبي داود 4/ 694. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 57 فيقع على مارٍ، أو يقود سيارة فيعترضه شخص فيدهسه ونحو ذلك. والخطأ على قسمين أيضاً: 1- أن يفعل الشخص ما يجوز له فعله مما سبقت الإشارة إليه ونحو، فيؤل ذلك إلى إتلاف إنسان حر، مسلماً كان أو كافراً. 2- أن يكون في أرض العدو فيقتل من يظنه كافرا. فيصبح المقتول مسلماً. فهذا قسم من الخطأ وإن كانت الصورة صورة عمد لعدم قصد قتل المسلم. وقد ثبت القتل الخطأ بكتاب الله عز وجل قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 1 الآية. وهذه التقسيمات مستفادة من المغني والشرح الكبير2. 5- الامتناع عن أداء حق واجب الأداء من حقوق الله عز وجل ومنه الزكاة مثلاً فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يتردد في قتال مانعي الزكاة، بل أخذ ذلك بحزم وشدة، أخرج الإمام البخاري بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَان أبو بكر رضي الله عنه3، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه4: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله". فقال5: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها، قال عمر رضي الله عنه: فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، فعرفت أنه الحق"6. وهذا مما سنه أبو بكر رضي الله عنه ووافقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما شرح الله صدر عمر رضي الله عنه وعرف أنه الحق، ونحن مأمورون بإتباع الخلفاء الراشدين قال أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد7 قال: حدثني خالد بن معدان8 قال: حدثني عبد   1 الآية (92) من النساء. 2 9/ 338. 3 يعني خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 مخاطباً أبا بكر رضي الله عنه لما أمر بقتال المرتدين والمانعين للزكاة. 5 أبو بكر رضي الله عنه، 6 انظر (الصحيح مع الفتح 3/ 262، 322، 2 1/ 275، 13/ 250،) غير أنه قال (عقالا) ولمزيد الفائدة انظر (البداية والنهاية 6/ 311) . 7 أبو خالد، الحمصي، ثقة. 8 أبو عبد الله، الحمصي، ثقة، يرسل كثيرا. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 58 الرحمن بن عمرو السلمي1، وحجر بن حجر2 قالا: أتينا العرباض بن سارية3، وهو ممن نزل فيه {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} 4 فسلمنا وقلنا: "أتيناك زائرين، وعائدين، ومقتبسين"، فقال العرباض: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون.." فذكر الحديث وفيه "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ.." 5. 6- قد يجب قتال غير من سلف ذكرهم. وذلك في أحوال كمن قصد قتل رجل، أو أخذ ماله، أو الاعتداء على عرضه، فيجوز قتله على سبيل الدفاع عن النفس والمال والعرض يؤيد هذا ما أخرجه الإمام البخاري بسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد" 6 وأخرجه الإمام الترمذي وزاد في رواية: "ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"7. قال النووي رحمه الله: "فيه جواز قتل من قصد أخذ المال بغير حق، سواء كان المال قليلاً أو كثيراً، وهو قول الجمهور، وشذ من أوجبه"، قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع إذا أريد ظلماً، بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره، وترك القيام عليه. قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذه الترجمة في هذه الأبواب ليبين أن للإنسان أن يدفع عن نفسه، وماله ولاشيء عليه، فإنه إذا كان شهيداً إذا قتل في ذلك فلا قود عليه، ولا دية إذا كان هو القاتل"8. ويؤيد هذه الأقوال ما أخرجه الإمام مسلم بسنده من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: "أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك" قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت   1كلاهما مقبول، وتابعهما يحي بن أبي المطاع وهو صدوق، أخرج حديثه ابن ماجة 1 /15 وهو عند الترمذي من طريق السلمي وحده (الجامع 5/ 44) . 2كلاهما مقبول، وتابعهما يحي بن أبي المطاع وهو صدوق، أخرج حديثه ابن ماجة 1 /15 وهو عند الترمذي من طريق السلمي وحده (الجامع 5/ 44) . 3 صحابي من أهل الصفة. 4 الآية (92) من التوبة. 5 أبو داود 5 /13-15. 6 الصحيح مع الفتح 5 /123 وأخرجه الإمام مسلم 1 /125. 7 الجامع 4 /29-30 وأخرجه أبو داود 5 /128وهو عند النسائي وأبن ماجة. 8 ذكر هذه النقول الحافظ في الفتح5 /124. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 59 شهيد" قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار" 1 قال الترمذي رحمه الله: "وقد رخص بعض أهل العلم للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله"، وقال ابن المبارك: "يقاتل عن ماله ولو درهمين"2. وإذا كان هذا مقابل المال الذي يمكن تعويضه، فلا ريب أنه آكد مقابل النفس والعرض والدين، فإن النفس إذا تلفت لا يمكن تعويضها، والعرض إذا خدش لا يمكن جبره، والدين فوقهما، ولا يليق بالمسلم أن يستسلم ويكون جباناًَ وفي مقابل أعز ما يملك نفسه ودينه وعرضه. فيكون الصائل المعتدي إذا بلغت مقاومته حد قتله فإنه مباح الدم لا قود فيه ولا دية، وهذا هو الحق إن شاء الله. والحاصل أن الأصل في قتل النفس الحرمة، وحله لا يثبت إلا بدليل منفصل كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 1 صحيح مسلم 1/124. 2 الجامع 4/ 29. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 60 الأحكام : قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . قال الرازي رحمه الله معللاً سبب ختم الآية بهذا: "لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية (هذه) أمور ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها"1. دلت الوصية الكريمة على تخريم قتل النفس المعصومة بالإسلام أو بعقد الذمة إلا بحق يوجب ذلك. وهذا أمر مجمع عليه بين أمة الإسلام، فإن فعله إنسان متعمداً فسق، وأمره إلى الله عز وجل إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم.   1 الرازي 13/ 235. الجزء: 69 - 70 ¦ الصفحة: 60 رموز مصادر البحث الجزء: 69 - 70 الوصية السادسة المناسبة ... الوصية السادسة قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (الأنعام: من الآية152) . المناسبة: إن الله عز وجل رب العالمين، فهو سبحانه مربي كل مخلوق وراعيه، بكل ما تعنيه كلمة التربية والرعاية، وإذا كانت رعايته شاملة لجميع مخلوقاته، فإنها في حق بني آدم آكد وأشد، لأنه تعالى اصطفي آدم وذريته، وفضلهم على كثير من المخلوقات، لذلك جاءت عناية الرب عز وجل باليتيم الصغير الضعيف الذي لا إدراك له، ولا فهم ولا نضوج، تامة وافية بجميع مقاييس الحفظ والرعاية، نعم جاءت عناية الله في الوقت الذي فقد فيه هذا الصغير من يحوطه من البشر ويرعاه، ويدفع عنه نوائب الدهر وقسوة الحياة، فقررت قاعدة اجتماعية عظيمة، طالما حرمها اليتيم في المجتمعات الجاهلية، قاعدة التكافل الاجتماعي، التي ألقت بالمسئولية على كواهل المسلمين الفرد والجماعة في ذلك سواء. هذا من نظام الإسلام الذي تميز بحفظ الحقوق والواجبات لجميع أفراد الجنس البشري، فكم من يتيم ضاع في المجتمع الجاهلي، لا يجد الساعد الذي يحميه، ولا البيت الذي يؤويه، تنهب أمواله، وتنتهك حرماته، لذلك قيل: "أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام، لهذه الأسباب ولغيرها من المصالح العظيمة أوصى الله عز وجل بالأيتام، وجعل الأمة الإسلامية ذات مسئوليات محددة تقوم بالحقوق والواجبات على مستوى الفرد والجماعة، وأرسى قواعد التكافل الاجتماعي، ونوه بحماية اليتيم في غير ما آية من كتابه العزيز1. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 11 البحث اللغوي: أ- المفردات: قوله: "ولا تقربوا" من قربت الشيء أقربه إذا دنوت منه قال تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (البقرة: من الآية35) وقال1 منها: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (البقرة: من الآية220) . وقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} (النساء: من الآية2) . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} (النساء: من الآية10) . الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 11 عزوجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} (الاسراء: من الآية32) وتقدم قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} (الأنعام: من الآية151) كل ما ذكر من هذا الباب. والمراد النهي عن الأسباب الموصلة إلى ما ذكر بغير حق1. اليتيم: أصله الانفراد؛ يقال درة يتيمة، إشارة إلى انقطاع مادتها التي خرجت منها، ويقال: بيت يتيم تشبيهاً بالدرة اليتيمة. فاليتم في الناس فقدان الأب، والحيوان فقدان الأم. ويجمع على أيتام، كشريف وأشراف، وعلى يتامى، كأسارى. وبه نطق الكتاب الحكيم، وعلى يتمة، من قولهم: يتم فهو ياتم وهو غير مسموع من العرب2. (أشده) : قال الفراء: "واحدها شَدة في القياس، ولم أسمع لها بواحد"، وقال أبو الهيثم: "واحدة الأنعم نعمة، وواحدة الأشد شدة، والشدة؛ القوة والجلادة. وبلوغ الأشد، مبلغ الرجل الحنكة والمعرفة"، وقيل: "بلغ الرجل الأشد إذا اكتهل، وذكر أنه من نحو سبع عشرة إلى الأربعين، أو ما بين الثلاثين والأربعين"3. وقد تعددت آراء المفسرين في المراد بالأشد على أقوال4: 1- أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، رواه ابن جبير عن ابن عباس. 2- أنة السن ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. 3- أنه أربعون سنة، روي عن عائشة رضي الله عنها. 4- أنه ثماني عشرة سنة، قاله سعيد بن جبير ومقاتل. 5- أنه خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة. 6- أنه أربع وثلاثون سنة، قاله سفيان الثوري. 7- أنه ثلاثون سنة، قاله السدي. 8- أنه بلوغ الحلم، قاله زيد بن أسلم والشعبي ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك بن أنس.   1 ولتمام الفائدة انظر: اللسان 1/663. 2 ولمزيد العلم انظر: المفردات 550 واللسان 12/645 مع ملاحظة أن اليتم في الناس مقيد بمن لم يبلغ الحلم. 3 انظر: اللسان 3/235. 4 الزاد 3/149. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 12 وذكر الشيخ محمد الأمين رحمه الله: "أن الأشد يتناول البلوغ ويتناول ما ذكر آنفاً وغيره ومن إطلاقه على الخمسين قول الشاعر: أخو خمسين مجتمع أشدي ... ونجذنى1 مداورة2 الشئون وقال الألوسي رحمه الله: "وأياً ما كان فهو من الشدة أي القوة أو الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع، ومنه قول عنترة: عهدي به شد النهاركأنما ... خضب الليان ورأسه بالعظلم3 وقول الآخر: تطيف به شد النهار ضعينة4 ... طويلة أنقاء اليدين سحوق5 والذي يظهر لي والله أعلم أن المراد بالأشد في شأن اليتيم بلوغ الحلم مع حسن التصرف وهو المبين في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} 6.وبلوغ الحلم هو بلوغ النكاح، لكنه مشروط بإيناس الرشد. فكم من كبير غير رشيد ولا يحسن التصرف وهذا ما رجحه الشوكاني رحمه الله قال: "والأولى في تحقيق بلوغ الأشد، أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكاً مسلك العقلاء، لا مسلك أهل السفه والتبذير"7.واستدل رحمه الله بالآية السابقة. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 13 البحث اللغوي : أ- المفردات: قوله: "ولا تقربوا" من قربت الشيء أقربه إذا دنوت منه قال تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (البقرة: من الآية35) وقال1 منها: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (البقرة: من الآية220) . وقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} (النساء: من الآية2) . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} (النساء: من الآية10) . الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 11 الإضاح ... الإيضاح يقول تعالى في هذه الوصية: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} (الأنعام: من الآية152) إن مما حرم الله عزوجل على عباده مقاربة مال اليتيم، والدنو منه باتخاذ الأسباب الموصولة إليه بمعنى أنه لا يجوز لمسلم أن يدنو من سبب يؤدي به التصرف في مال اليتيم ومقارفته والمنع موجه لكل من ولي أمر يتيم   1 رجل منجذّ: مجرب أحكمته الأمور. والبيت لسحيم بن وثيل. وفي أضواء البيان: أثيل (الصحاح 2/542) (أضواء البيان: 2/279) . 2 كالمعالجة: أي معالجة الأمور وتصريفها، أكسبني ذلك حكمة ونباهة. (انظر الصحاح 1/423) . 3 بكسر العين واللام، وسكون الظاء المعجمة؛ صبغ أحمر، وقيل: هو الوسمة، شجر له ورق يختضب به. 4 أي مضعونة وهي الناقة. ومعنى سحوق: طويلة. (الصحاح 1/571) (وانظر الروح 8/49) . 5 أي مضعونة وهي الناقة. ومعنى سحوق: طويلة. (الصحاح 1/571) (وانظر الروح 8/49) . 6 الآية (6) من النساء. 7 فتح القدير 2/79. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 13 مباشرة، أو بواسطة وليه أو وصيه القائم على شئونه. وهذا نهي عن جميع التصرفات التي لا تعود بنفع ولا تدفع ضررا. {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} (الأنعام: من الآية152) : إلا بالصفة الحسنة وهي العمل الذي يقوم به صلاح ماله وتنميته وحفظه من الضياع، فإن الله عز وجل أباح لكل من يقوم على أمر يتيم أن يتصرف بهذا الشرط في أمواله فيصرفه فيما يعود عليه بالنفع يجتهد في رجحان مصلحته من استثماره، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه، وما يصلح به معاشه ومعاده، وهذا باب عظيم من أَبواب الشريعة الإسلامية. ألا ترى أن الرب عز وجل من بالغ حكمته ولطفه بعباده الكافل والمكفول. نهى عن قرب مال اليتيم، لأن النهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه؛ لأنه يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه، والتصرفات التي توقع فيه، والنهي عن قرب الشيء يتضمن أيضاً النهي عن الشبهات التي تحتمل التأويل فيه، فيجد المسلم المتقي إذ يعدها هضماً لحق اليتيم، ولا يقع فيها إلا طامع يرى أنها بالتأويل مما يحل، وهذا باب من الشر يغلق بفهم النهي عن قرب الشيء. فليحذر المسلم مواطن الانزلاق فإن فيها مكامن خطر لا ينجو منها إلا من حفظه الله. والأخذ بالأحوط من أسباب الحفظ والسلامة. {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (الأنعام: من الآية152) : هذا القيد غاية لإباحة التصرف في مال اليتيم بما يصلحه، ومن إصلاحه منع اليتيم نفسه منه حتى يكون راشداً في تصريف ماله كغيره من العقلاء. فإن الولي أو الوصي ممكّن شرعاً من منع اليتيم من تبديد ماله وإضاعته، أو الإسراف فيه. فالقيد المذكور غاية لما يفهم من الاستثناء، لا للنهي كأنه قيل: "احفظوا مال اليتيم حتى يبلغ، فإذا بلغ فادفعوا إليه ماله"، كما في قوله عز وجل: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: من الآية6) وإن مما يجدر التنبيه إليه أن النهي عن قرب مال اليتيم عام فلا يجوز التصرف في ماله بما يفسده من قبل أي أحد ومن وقع في شيء من ذلك فإنه مؤاخذ مهما بعد وإذا كان النهي يتناول الولي والوصي بالدرجة الأولى فهو لغيرهما من باب الأولى، ثم إن على المسلم أن يحذر هذا الأمر أشد الحذر وأن يتعامل مع المسلمين وفق ما شرع الله لاسيما في هذا الزمان الذي عبدت فيه المادة وكثر أتباع الدرهم والدينار ومن تأمل هذه الوصية وما جاء في أمر اليتيم من الآيات يعلم علم اليقين ما في نظام الإسلام من سعادة وحماية لكل فرد؛ إن حماية الأموال تقوم على أساسين هامين في حياة كل فرد: الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 14 1- القوة المادية؛ قوة اليد. 2- القوة الفكرية؛ قوة الرشد والعقل، وتدبير الأمور. ومن ألقى نظرة على ما كان عليه المجتمع الجاهلي يجد أن أصحاب الأفكار المادية لا يحترمون إلا القوة ولا يخضعون إلا للأقوياء. ومن هنا نعلم الشرع حينما بالغ في الوصية باليتيم إنما يعطيه الحصانة والحفظ من أي اعتداء. وإذا كانت معاناة اليتيم في ذلك المجتمع بالغة الصعوبة فإنه في هذا العصر عصر الماديات، والأساليب الماكرة الخادعة أحوج ما يكون إلى أن يعيش في ظل الإسلام الذي وفر له الحماية الكافية. لأن اليتيم في غير المجتمع الإسلامي لا يقدر على حماية نفسه وماله إلا إذا بلغ قوة الساعد وحصافة العقل، وكان رشيدا في عقله وأخلاقه وتجاربه ولن يحصل مع هذا على الحماية الكافية لكثرة الغش وأساليب الحيل الماكرة. أما الإسلام فإنه يوفر له الحماية الكاملة من خلال نظامه العام. طالما هو في حاجة إليها، ولا غنى لأحد عنها لكنه عند إيناس الرشد، وبلوغ الحلم، جاز له أن يستقل بنفسه والنظر لها، لمعرفته بما يصلح شأنه، وبصره بوجوه الأخذ والعطاء، لأنه في هذه الحال يزول عنه اسم اليتم ومعناه، من الحجر وغيره، أما إذا بلغ الحلم وهو مستمر في غرارته وسفهه، متماد في جهالته فإنه في هذه الحال يزول عنه اسم اليتم حقيقة، ويبقى عليه حكم الحجر، لقصور فكره عن إدارة شئونه. وعلى أي حال فكم للإسلام من ميزة في هذا الباب وغيره، إن الجاهليين كانوا لا يتحرجون من التصرف في أموال اليتامى، بحق وباطل، فيأخذون أموال اليتامى، ويبدلونها بأموالهم، فيقول الرجل منهم: مائة بمائة، فنهى الله عباده عن ذلك فقال: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} 1. وكانوا يتسلطون على أموال اليتامى؛ بالأكل والانتفاع فنهى الله عباده عن ذلك فقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} 2أي لا تضموا أموالهم إلى أموالكم لتنتفعوا بها في الأكل وغيره. وقد توعد الله عز وجل أكلة أموال اليتامى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 3 وقد خرج النهي عن الأكل مخرج الغالب؛ وإلا فالإحراق والإغراق وكل إتلاف له محرم شرعاً ولا يدخل في هذا ما أباح الله للولي الفقير أن يأكل بالمعروف4؛ لأن الإباحة مشروطة بأن يكون فقيراً، وأن يأكل بالمعروف.   1 الآية 2 من النساء. 2 الآية 2 من النساء. 3 الآية 10 من النساء. 4 لمزيد العلم انظر: الروح 8/45، المنار 8/190، الأحكام 308. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 15 وقد نوهت السنة النبوية بشأن كافل اليتيم على النهج الذي رسمه الشارع الحكيم فقد جاء في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " وقال بأصيعيه السبابة والوسطى1. فأي تكريم أعظم من هذا، وأي ثواب أجزل، وحق لكافل اليتيم أن يبالغ في الحفظ والرعاية، فإنه يحوط من لا يعقل أمر دينه ولا دنياه، فيرشده إلى الخير، ويعلمه أسباب الصلاح والنجاح، ويحسن معاملته وتربيته ويرعى مصالحه، ويدير شئونه بمنتهى الأمانة والإخلاص، فظهرت مناسبة عقد ذلك القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 16 الأحكام 1- تحريم الاعتداء على مال اليتيم، وجاء التعبير بالنهي عن القرب مبالغة في الزجر ليشمل كل سبب يجر إلى اعتداء عليه، أو إتلاف له. 2- يستظهر من الوصية أن النهي عام يشمل الأولياء والأوصياء وكافة الناس، وإلا لما تحققت الحماية التي هي مقصود الشارع. 3- إباحة التصرف في مال اليتيم بما يصلحه وينميه، مع الأخذ بالأحوط وعدم المجازفة. 4- وجوب دفع مال اليتيم كاملاً غير منقوص عند بلوغه الحلم وإيناس الرشد منه، وتمكنه من حفظه والتصرف فيه تصرفاً معقولا. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 16 الوصية السابعة قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (الأنعام: من الآية152) المناسبة: جاءت الوصايا السابقة مؤكدة أن المجتمع السليم لا يقوم إلا على تلك الأسس العظيمة؛ بناء العقيدة النقية، صيانة المجتمع في النفس، والعرض والمال، وهنا تتحدث الوصية عن أمر لا يقل أهمية عما سبق إذ أن أفراد أي مجتمع لابد لهم من تبادل المنافع والسلع   1 الصحيح مع الفتح 10/436. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 16 ولا ريب أن إشاعة الثقة بين أفراد المجتمع ونشر بنود العدل على ربوعه لا تتجلى في أسمى معانيها إلا إذا نبعت من عقيدة صحيحة وتجسدت في تعامل نظيف بين أفراده، لذلك جاءت هذه الوصية تؤكد هذا الجانب الهام من جوانب بناء المجتمع السليم، ولقوة الصلة بين العقيدة والمعاملات، اعتنت هذه الوصايا بقضية العقيدة والعبادة وربط المعاملات بها، نقضاً لما كان عليه المجتمع الجاهلي من الفصل بين العقيدة والعبادات، وبين الشرائع والمعاملات، وهذا المبدأ الذي رفضه الإسلام وأماته، يسعى اليوم دعاة الشر والجاهلية إلى إعادته وإحيائه، وهو ما يسمونه بفصل الدين عن الدولة، وذلك مبدأ هدام، وفكرة خطيرة، ونجاحها في المجتمع الإسلامي كفيل بتقويضه وإحياء الجاهلية الأولى على أنقاضه، وليس عندي أدنى شك في أن محاربة تلك الأفكار وبيان فسادها من الجهاد في سبيل الله. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 17 البحث اللغوي: المفردات: (أوفوا) : أي أتموا ولا تنقصوه. والوافي الذي بلغ التمام ولم يعتريه نقص1. (الكيل) : المراد: المكيل أي الشيء الذي يكال، وهذا من إطلاق الصفة على الموصوف، والمكيال: أداة الكيل، كالمد والصاع2. (الميزان) : المراد: الموزون من إطلاق اسم المحل على الحال. فالميزان آلة الوزن مثل (الكيلو) و (الجرام) وبهذه المناسبة يحسن أن نذكر حديثاً أخرجه أبو داود رحمه الله قال: "حدثنا عثمان بن أبي شيبة3، حدثنا ابن دكين4، حدثنا سفيان5، عن حنظلة6، عن طاووس7، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة" ثم8 هذا الحديث تنوعت أقوال العلماء فيه فذهب بعض العلماء في فكره مذهباً بعيدا إذ فسر هذا الحديث بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بهذا القول أن يضع قاعدة عامة   1 لمزيد الفائدة انظر: المفردات 528 واللسان 15/399. 2 للفائدة انظر اللسان 11/604. 3 عثمان بن محمد نسب إلى جده الأبعد، ثقة حافظ له أوهام. 4 الفضل بن دكين عمرو بن حماد، ثقة ثبت. 5 ابن سعيد الثوري، ثقة، إمام، حجة، ربما دلس. 6 ابن أبي سفيان، الجمحي، ثقة، حجة. 7 ابن كيسان، اليماني، ثقة، فقيه، فاضل. 8 السنن لأبي داود 3/633. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 17 يضبط الناس بها معاملاتهم وزناً وكيلا، فجعل ميزان أهل مكة ومكيال أهل المدينة أساساً لمقادير الأوزان العالمية المتنوعة في البلدان بحسب تنوع الأعراف فيها، ولاريب أن تنوع الأعراف غالباً ما يكون سبباً في الاختلاف لاسيما في المعاملات، ففهم صاحب هذا الرأي أن الحديث الشريف جاء حاسماً لأي اختلاف قد يطرأ مرشداً إلى ما يحدد المقدار مما يكال ويوزن وذلك بالرجوع إلى ميزان أهل مكة، ومكيال أهل المدينة فتخضع جميع مقادير الموازين العالمية عند الاختلاف لمقدار ميزان أهل مكة، فتخضع جميع مقادير المكاييل العالمية لمقدار مكيال المدينة. والحق أن من ذهب إلى هذا الفهم وأول الحديث الشريف عليه قد أبعد النجعة ولم يحالفه الصواب. إذ أن ما عليه أكثر الفقهاء وعلماء الأمصار خلاف هذا الفهم، ولأن الشريعة الإسلامية لم تغفل العرف وجعلت له دوراً في حل كثير من القضايا وبيان ذلك لو أن رجلاً أقَر لرجل بموزون أو مكيل لكن وقع بينهما خلاف في المقدار، فإن الشرع في هذه الحال يعطي العرف دوره في حل هذا الاختلاف وذلك بأن يحكم في تحديد المقدار بما تعارف عليه أهل البلد الذي تم فيه التعامل وهو حكم لا غبار عليه. والأمر الهام الذي جاء الحديث الشريف ليعطي فيه قاعدة شرعية هو نوع واحد من الموزون ذلك النوع هو الذهب والفضة لأن هذا النوع يتعلق به حكم شرعي، هو وجوب الزكاة، أو عدمه. بخلاف غيره مما يتعلق بمعاش الناس، وما يتعاملون به في البيع والشراء، ولما كان المضروب من الذهب والفضة. يختلف باختلاف الأمصار1 ويتعلق به الحكم الشرعي تدخلت السنة المطهرة لتضع قاعدة تحدد مقداراً ترجع إليه الأمة في تحديد ما يجب شرعا، فجعلت ميزان أهل مكة مرجعاً يحسم اختلاف الناس في الذهب والفضة خاصة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "والمكيال مكيال أهل المدينة" أراد به نوعاً خاصاً وهو الصاع الذي يتعلق به حكم شرعي فبه تقدر زكاة الحبوب، وصدقة الفطر، وتقدر النفقات، وحكم الأمة في هذه الأمور واحد وإن تعددت البلدان ونأت بهم الديار، وتنوع المكاييل بحسب تنوع الأعراف، فلكل بلد   1 منها: البغلي. وهو ثمانية دوانيق. ومنها: الطبري: وهو أربعة دوانيق. ومنها: الخوارزمي نسبة إلى خوارزم. ومنها: الدرهم الوزان، وهو من دراهم الإسلام الجائز بين الناس في عامة البلدان. وهو ستة دوانيق، وهو نقد أهل مكة، ووزنهم الجائز بينهم. ومما تجدر الإشارة إليه أن أهل المدينة كانوا يتعاملون بالدراهم عداً وقت مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا أن عائشة رضي الله عنها قالت لبريرة في شأن ثمنها: "إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة فعلت". فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الوزن في الدراهم والدنانير، وجعل العيار وزن أهل مكة، دون ما يتفاوت وزنه منها في سائر البلدان. لمزيد العلم انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 3/633-636. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 18 عرفه في ما يكال1 ويوزن، لكنه مقيد بنوع خاص يرجع فيه إلى ميزان مكة وهو الذهب والفضة. وإلى مكيال المدينة وهو الصاع للوفاء بالحكم الشرعي2. القسط: المراد به هنا العدل؛ وهو بكسر القاف تقول: أقسط الرجل فهو مقسط؛ ومنه قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} 3. وقوله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْط} 4، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 5. ومن معانيه المكيال، وقدره نصف صاع. والحصة والنصيب تقول: تقسطنا الشيء بيننا. والقسط بفتح القاف؛ المراد به الجور والعدول عن الحق، وإذا أخذ حق غيره وظلم وجار، سمي قاسطا؛ من قسط يقسط بكسر السين قسوطاً قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} 6. الوسع: المراد به هنا القدرة والطاقة في تحري العدل والوفاء7.   1 قال الخطابي رحمه الله: "وللناس صيعان مختلفة، فصاع أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث بالعراقي (3/1 5) وصاع أهل البيت - فيما يذكره زعماء الشيعة - تسعة أرطال وثلث (3/1 9) وصاع أهل العراق ثمانية أرطال؛ وهو صاع الحجاج الذي سعر به على أهل الأسواق، ولما ولي خالد بن عبد الله القسري العراق ضاعف الصاع فبلغ به ستة عشر رطلا. فإذا جاء باب المعاملات حملنا - كل صاع على عرف بلده - وإذا جاءت الشريعة وأحكامها فهو صاع المدينة" معالم السنن 3/ 636. 2 هذا ملخص ما ذكر الخطابي رحمه الله المصدر السابق 3/633. 3 الآية 4 من سورة يونس. 4 الآية 9 من سورة الرحمن. 5 الآية 42 من سورة المائدة. 6 الآية 15 من سورة الجن. ولمزيد العلم انظر: المفردات ص 403 والصحاح 2/306. 7 للتوسع في المعنى انظر: الصحاح 2/688 واللسان 8/ 392 والمفردات ص 403 والرازي 13/234. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 19 الإيضاح هذا المبدأ الاجتماعي الهام قرره رب العزة والجلال في أكثر من موضع في كتابه العزيز ومنها ما نحن بصدد بيانه قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} 8. فكأن نبي الهدى والرحمة المبلغ عن الله عز وجل يقول: "ومما أتلوا عليكم أيها المسلمون من وصايا ربكم أن أوفوا الكيل إذا كلتم للناس، أو اكتلتم عليهم لأنفسكم وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم   8 الآية 152 من سورة الأنعام. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 19 فيما تبتاعون، أو لغيركم فيما تبيعون، فليكن كل ذلك وافياً تاماً بالعدل لكم أو عليكم، ولا تكونوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ينقصون الكيل ويبخسون الوزن وهم الذين توعدهم الله عز وجل بالويل والهلاك"1. وهذا النهي مفهوم من الأمر بالإيفاء فهو مقابل له ولازم له لأن الإيفاء يستلزم عدم النقص بأي حال من الأحوال والنقص يستلزم عدم الإيفاء. وقد تقدمت الإشارة إلى ما قرره رب العزة والجلال من النهي عن التطفيف في سورة المطففين. وقوله عز وجل: {بِالْقِسْطِ} (الرحمن: من الآية9) فيه لفتة هامة إلى أن الإيفاء لا يكفي أن يكون من طرف واحد بل لابد أن يكون من الجانبين في حالة الأخذ والإعطاء. أي أوفوا مقسطين أو ملابسين للقسط متحرين له، فدل على أنه يجب على الإنسان أن يرضى لغيره ما يرضى لنفسه وهذا ما قررته السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم إذ ثبت عنه أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"2. وقد تواتر الأمر بإيفاء الكيل والميزان وكل كلام الله عز وجل متواتر فقال: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 3 وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} 4. ومن يتأمل كتاب الله عز وجل يجد أن الله عز وجل قد قص على هذه الأمة فيما قص من أنباء الأمم لتحصل لنا العبرة ويكمل الوعظ بما حدث لتلك الأمم ومن ذلك أنه عز وجل أهلك قوم شعيب ودمر مساكنهم وأبادهم بما كان من ظلمهم وفسادهم، وكان أمره عز وجل جزاء وفاقا لتكبرهم وعنادهم، طففوا الكيل وعموا وصموا عن سماع الحق فكان عاقبة ذلك الخسران المبين ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم، بلى إنهم موقوفون وعلى أعمالهم محاسبون ومجزيون الجزاء الأوفى. وحينما يتأمل الناظر في هذه الآيات قد يظهر له أن إيفاء الكيل والميزان هو القسط عينه فيتساءل عن فائدة هذا التكرار. والجواب عن ذلك أن في هذا التعبير لفتة ظريفة وهي أن يعلم المعطي أن الواجب عليه أن يؤدي الحق لصاحبه كاملاً غير منقوص، فلا يطمع في استبقاء شيء منه وإن قل، وليعلم الآخذ أن له أن يأخذ حقه كاملاً من غير طمع في الزيادة وإن قلت وهذا عين القسط وتمام الإيفاء5.   1 انظر سورة المطففين. 2 أخرجه الإمام البخاري انظر (الصحيح مع الفتح 1/57) . 3 الآية 35 الإسراء. 4 الآية 9 من سورة الرحمن. 5 الرازي 13/234. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 20 قوله تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 1. هذه الجملة الكريمة مستأنفه كشف الله بها غمة عظيمة، وهون ما قد يجيش في نفس المسلم الورع فقد يتوهم أن الإيفاء واجب على التحقيق لاسيما وقد أردف بقوله: {بِالْقِسْط} (الرحمن: من الآية9) فيظن أن المراد كمال الإيفاء المطلق بحيث لا يزيد على ما يستحقه صاحب الحق أدنى زيادة، ولا ينقص منه أقل القليل، ولا ريب أن تحقيق هذا صعب جداً ولا يمكن الوفاء على هذا النحو، لتحقيق الوفاء بالقسط أمر دقيق جداً ولا يتحقق في كل مكيل وموزون إلا بآلات بالغة في الحساسية ودقة الوزن والكيل إلا أن يكون ذلك بموازين الذهب التي تضبط الوزن بأقل ما يمكن وزنه أو بأجهزة (الكمبيوتر) البالغة الدقة وهذا فيه عنت وحرج على الأمة الإسلامية ولا يمكن أن تتوفر هذه الموازين لكل فرد من المسلمين وإن وجدت في عصر ما خلت منها عصور، فكانت رحمة العليم الخبير بشئون عباده تجلّل عباده توسعة عليهم ورفعاً للحرج، وليزيل ما قد يرد على صدور الأتقياء منهم من هواجس فقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 2 وهنا يفهم المسلم أن الله عز وجل لا يكلف عبدا إلا ما يسعه فعله، بأن يؤدي ما كلف من غير عسر ولا حرج، فهولا يكلف من يشتري أو يبيع أنواع الحبوب والفواكه وغيرها من الأقوات أن يكون كيله ووزنه على ما تقدم من الوصف في الدقة والكمال بحيث لا يزيد حبة ولا ينقص مثقالا، بل هو مكلف أن يكون كيله ووزنه منضبطا في بيعه وشرائه على حد سواء وعلى القدر الذي تعارف الناس ويكون معتقداً أنه أوفى الناس حقوقهم ولم يتطرق الظلم إلى معاملاته بزيادة أو نقص يعتد به عرفا، ويبرز هذا المنهج جليا للناظر، أنه قاعدة في اليسر عظيمة، وأساس في رفع الحرج عن هذه الأمة، فحصر التكليف بما في وسع المكلف غاية في التيسير، والبعد عن المؤاخذة فيما يقابل ذلك، وهذا من أعظم مقاصد الدين الإسلامي الذي جاء به محمدصلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهلا نبذ المسلمون حاكمون ومحكومون القوانين الوضعية، واستناروا بسرج الحق والهداية لتستقيم أمور معاملاتهم، وتسود الثقة والأمانة فيما بينهم، وليكونوا قدوة لغيرهم من الأمم في الخير، وحجة على المطففين والمفسدين، وما فسدت أمور المسلمين في عصر من العصور، وقلت ثقتهم بأنفسهم، واحتلت ثقتهم بالأجانب مكاناً رفيعاً من أنفسهم إلا بسبب البعد عن منهج الله، والخضوع للقوانين المستوردة فأعرضوا عما أوصاهم به العليم الخبير وحثهم على التمسك به البشير النذير.   1 الآية 152 من سورة الأنعام. 2 الآية 286 من سورة البقرة. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 21 الأحكام 1- وجوب بذل الجهد في إيفاء الحقوق على أتم ما يمكن. 2- يفهم من الأمر بالإيفاء تحريم النقص ويتأيد هذا الفهم بقوله تعالى: { ... فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ} 1. 3- أن من تحرى الحق واجتهد في الوصول إليه ولم يصبه فلا لوم عليه ولا عقاب ويتأيد هذا الفهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"2. 4- جواز الاجتهاد في الأحكام والآية الكريمة أصل في ذلك وحديث معاذ رضي الله عنه يؤيد هذا الفهم3.   1 الآية 85 من سورة الأعراف. 2 أخرجه الإمام البخاري الصحيح مع الفتح 13/318. 3 أخرجه أبو داود (السنن 4/ 18) وفيه كلام. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 22 الوصية الثامنة قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: من الآية152) . المناسبة: إن المتأمل في الوصية السابقة وهي الأمر بالإيفاء وتحري الكمال في أداء الحقوق وأخذها، قد يرى مناسبة للربط بين الوصيتين؛ وهي أن إيفاء الحقوق لا يقوم إلا على ركيزة أساسية في المجتمع المسلم، وهي مبدأ العدالة في الحقوق والواجبات، المتعلقة بسائر المعاملات التجارية وغيرها، لكنه خص المعاملات التجارية في الوصية السابقة، ثم أردف بالأمر بالعدل والتزام الإنصاف في المعاملات القولية، الشاملة للشهادات والأمور القضائية، وغيرها مما يتعلق بإظهار الحق وإشهاره بين أفراد المجتمع المسلم، مع قطع النظر عن أي مؤثر آخر يخرج عن التزام المنهج السوي في الجهر بالحق وإيصاله إلى ذويه، حتى ولو كان من المؤثرات رابطة النسب أو وشائج القربى فليس لها وزن في مقابل الإنصاف والتخلق بهذه الخلة العالية الرفيعة. وفي نظري أن الوصيتين هنا من باب عطف العام على الخاص. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 22 البحث اللغوي: العدل: ما قام في النفس أنه مستقيم. وهو ضد الجور. وفي أسماء الله عز وجل العدل؛ وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل مصدر سمي به، فوضع موضع العادل، وهو أبلغ منه، لأنه جعل المسمى نفسه عدلا. والعدل: الحكم بالحق، يقال: هو يقضي بالحق ويعدل، وهو حكم عادل، ذو معدلة في حكمه1. القربى: القرابة والقربى: الدنو في النسب، والقربى في الرحم، وفي التنزيل العزيز: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} 2 وأقارب الرجل، وأقربوه؛ عشيرته الأدنون. وفي التنزيل العزيز: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 3 وجاء في التفسير أنه لما نزلت4 هذه الآية صعد الصفا، ونادى الأقرب فالأقرب، فخذاً فخذاً5.   1 اللسان 11/ 430. 2 الآية 36 من سورة النساء. 3 الآية 214 من سورة الشعراء. 4 ابن كثير 3/149. 5 اللسان 1/667، وانظر صحيح مسلم 1/192 رقم 350. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 23 الإيضاح لما قرر عز وجل أهمية الإيفاء وخصه بوصية تنويهاً بشأنه العظيم في إصلاح المجتمع فهذا النوع من التعامل الاجتماعي من أبرز ما يحصل به الاحتكاك بين أفراد المجتمع في حياتهم اليومية نوه سبحانه بالأساس الذي يقوم عليه أمر إيفاء الحقوق وهو العدل في كل شأن من شئون الحياة، ولعل ذكر القول هنا دون غيره إشارة إلى أن القول والتخاطب هو العامل الرئيسي في المعاملات، فأراد رب العزة والجلال أن يقرر أن وسيلة التعامل هذه يجب أن تكون مبنية على الأساس الذي يحفظ الحقوق وهو العدل فكما أن العدل واجب في الأفعال كالأوزان والمكاييل، فهو كذلك واجب في الأقوال التي تبنى عليها المعاملات بين أفراد المجتمع، لأن العدل أساس عظيم تصلح به شئون البشرية جمعاء، فالعدل أساس المدنيات، وركن تقوم عليه حضارة الأمة، وبه يشمخ البناء، وتعلو صروح الفضيلة في المجتمع، وهو أساس دوام الملك، والمحور الذي يرتكز عليه النظام الإنساني في كل ما يتعلق بحياة هذا المخلوق، فيقرر الرب سبحانه وتعالى أنه لا يجوز لمؤمن أَن ينتهك حمى العدل الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 23 محاباة لقرابة، فضلاً عن المصالح الدنيوية التي تعادي منهج العدل وتنابذه، ونجد نبي الهدى صلى الله عليه وسلم يؤكد أن من الصفات المنجية تحقق العدل لدى المسلم على كل حال فيقول صلى الله عليه وسلم: "ثلاث منجيات؛ خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى … " الحديث1. وقد فصل الله عز وجل هذا الأمر الموجز في آيتين مدنيتين فقال وهو أصدق القائلين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 2 والثانية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 3. وهذه الآية الكريمة نصت على معنى الحديث الآنف الذكر ولو رغبنا في التعرض لنفحات الخير والحصول على الأدب الرفيع الذي أمر به الرب الكريم في هاتين الآيتين لطالت بنا الوقفة غير أني أذكر تحليلاً لطيفا للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله قال: القوام هو المبالغ في القيام بالشيء، وهو الإتيان به مقوما تاماً لا نقص فيه ولا عوج، وقد حذف هنا ما أمرنا بالمبالغة في القيام به فكان عاماً شاملا لجميع ما أخذ علينا الميثاق به من التكاليف حتى المباحات، أي كونوا من أصحاب الهمم العالية، وأهل الإتقان، والإخلاص لله تعالى في كل عمل تعملونه، من أمر دينكم أو أمر دنياكم. ومعنى الإخلاص لله في أعمال الدنيا: أن تكون بنية صالحة، بأن يريد العامل بعمله خيرا، والتزام الحق من غير شائبة اعتداء على حق أحد، أو إيقاع ضرر به. ومنطلق هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنية"4. والشهادة بالقسط معروفة، وهي أن تكون بالعدل بدون محاباة مشهود له، ولا مشهود عليه، لا لقرابته وولائه، ولا لماله وجاهه، ولا لفقره ومسكنته، فالشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به، أو إظهاره بالحكم به، أو الإقرار لصاحبه.- وهذا عين العدل في القول -. والقسط: هو ميزان الحقوق، متى وقعت فيه المحاباة والجور- لأي سبب أو علة من العلل- زالت الثقة من الناس، وانتشرت المفاسد وضروب العدوان بينهم، وتقطعت الروابط الإجتماعية، وصار بأسهم بينهم شديد5. والشيخ رشيد رضا رحمه الله سبقه الإمام   1 حققه محدث هذا الزمان الشيخ الألباني وحكم له بالحسن صحيح الجامع الصغير 3/ 65. 2 الآية 135 من سورة النساء. 3 الآية 8 من المائدة. 4 أخرجه البخاري وغيره الصحيح مع الفتح 1/135، 5/160. 5 تفسير المنار 5/273. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 24 الرازي رحمه الله إلى الحديث عن هذه الشمولية فقال: "واعلم أنه يدخل تحت قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الأنعام: من الآية152) وكل ما يتصل بالقول، فيدخل فيه ما يقول المرء في الدعوة إلى الدين، وتقرير الدلائل عليه، بأن يذكر الدليل ملخصاً عن الحشو والزيادة، بألفاظ مفهومة معتادة، قريبة من الأفهام، ويدخل فيه أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعاً على وجه العدل، من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش، ومن غير نقصان عن القدر الواجب، ويدخل في الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص منها، ومن جملتها تبليغ الرسالات عن الناس، فإنه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان1 فما أجملها من شمولية في القول، وما أوضحها من شمولية في الفهم، وما أسعد من تخلق بها.   1 الرازي 3/ 235. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 25 الأحكام 1- وجوب تحري العدل وصدق القول في كل شأن ومن ذلك القول في المعاملات، والشهادات، والأحكام، والأخبار، وغير ذلك ففي الحديث: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" 2. 2- تحريم المحاباة وأنها من الأعمال الرخيصة والمنافية لما أمر الله به. وتقدم بيان ذلك في الوصية وما في معناها من الكتاب والسنة.   2 الصحيح مع الفتح 10/507. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 25 الوصية التاسعة قوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: من الآية152) . المناسبة: من خلال التدبر لما تقدم من الوصايا نجدها فصلت ما يجب للمسلم من الحقوق، وما عليه من الواجبات، فأرست بذلك قواعد ثابتة لبناء الأمة بناء يناسب ما أوجدها الله عز وجل من أجله؛ وهو إقامة العدل في الأرض، يإشاعة المساواة بين بني الإنسان، وقد جاءت هذه الوصية بعد ذلك البيان واضعة خاتم العقد بين العبد وربه عز وجل على ما تقدم الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 25 تقريره، فيكون ذلك ميثاقاً موثقاً بعهد الله سبحانه وتعالى، الذي عهد إلى عباده العمل بتلك الوصايا، وأخذ عليهم الميثاق الذي يسألون عنه في يوم يندم فيه من فرط، وجاءت هذه الوصية خاصة بالأمر بالوفاء بالعهد، لأن عهد الله شامل لكل ما تقدم وهو بمثابة الخاتم الذي توثق به العقود. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 26 البحث اللغوي: العهد: كل ما عوهد الله عليه، وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد.- والمراد به هنا - كل ما أمر الله به في هذه الآيات ونهى عنه- فقد عهد إلى عباده فعل المأمور وترك المحذور-. أوفوا: وفي بعهده، يفي وفاء، وأوفى، إذا أتم ولم ينقص. وهو ضد الغدر1. ووفي وأوفى بمعنى وقد جمعها طفيل الغنوي في بيت واحد في قوله: أما ابن طوق فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها2 وصى: من الوصية، وهي من الله عز وجل: ما عهد إلى العباد أن يعملوه، من فعل خير، أو ترك شر، فهي بمعنى فرض (ذلكم وصاكم به) أي أمركم به وفرضه عليكم3. تذكرون: الذكر والذكرى والتذكر؛ خلاف النسيان. وفهمي لهذا أن قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: من الآية152) أي أوصيتكم بذلك وفصلته لكم لتستمر ذكراه في أذهانكم، فلا تقعوا فيما يخالفه ويناقضه، ففي اللفظ تحذير من الغفلة التي كثيراً ما يقع فيها الإنسان. والتذكر: تذكر ما أنسيته، وذكرت الشيء بعد النسيان، وذكرته بلساني، وبقلبي، وتذكرته، وأذكرته غيري، وذكرته بمعنى4 وفيها معنى الاتعاظ والاعتبار فإذا حصل هذا للعبد فهو عين التذكر، والله أعلم.   1 اللسان 3/ 311، 15/398. 2 اللسان 3/ 311، 15/398. 3 لمزيد المعرفة انظر: اللسان 15/ 394 ... والمنار 8/ 188، 189. 4 اللسان 15/ 309. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 26 القراءات: قال الرازي رحمه الله: قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم (تذكرون) مخففة، من الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 26 الذكر، والباقون: بتشديد الذال، في كل القرآن، وهما بمعنى واحد1. وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: " ... وليس هما بمعنى واحد كما قيل، فإن الصيغ من المادة الواحدة تعطى معاني خاصة، ويتجوز في بعضها ما لا يصح في بعض، فالذكر في الأصل يطلق على إخطار معنى الشيء، أو خطوره في الذهن، ويسمى ذكر القلب، وعلى النطق باللفظ الدال عليه، ويسمى ذكر اللسان، ويستعمل مجازا بمعنى الصيت والشرف، ويفسر به قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِك} 2. ويطلق بمعنى العلم وبه يسمى القرآن، دون غيره من الكتب الإلهية (ذكرا) ومنه قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 3. وأما التذكر: فمعناه تكلف ذكر الشيء في القلب، أو التدرج فيه بفعله المرة بعد المرة ويطلق على الاتعاظ، ومنه قوله تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ} 4 وقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} 5 والشواهد عليه في الذكر كثيرة. ومثله الإدكار؛ قال تعالى: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} 6 وهو افتعال من الذكر، الافتعال يقرب من التفعل … وحكمة القراءتين؛ إفادة المعاني التي تدلان عليها، من باب الإيجاز البليغ7.   1 الرازي 13/ 235. 2 الآية 44 من سورة الزخرف. 3 الآية 7 من سورة الأنبياء. 4 الآية 13 من سورة غافر. 5 الآية 10 من سورة الأعلى. 6 الآية 15 من سورة القمر. 7 المنار 8/ 193. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 27 الإيضاح مما تقدم بيانه يتضح لنا أن تلك الأوامر والنواهي، وتلك الأسس الاجتماعية، ما هي إلا أجزاء بنود عقد أقامه الرب سبحانه وتعالى بينه وبين عباده، ويتمثل ذلك العقد في القيام بتلك الأوامر والنواهي فعلا وتركا، والعهد شامل لكل ما عهده الله إلى الناس كافة على ألسنة الرسل، فطلب من هذه الأمة الوفاء بما عهد إليها فقال: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (الأنعام: من الآية152) فالوفاء بما تقدم وبكل عهد بين العبد وربه مطلوب شرعاً، وهذا معلوم لكل من استخدم ما آتاه الله من عقل، وفطرة سليمة، والوفاء بالعهد يشمل أيضاً ما يعاهد الناس عليه بعضهم الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 27 بعضاً، مما ليس فيه مخالفة لشرع الله عز وجل، ومما يدل على شمولية العهد قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} 1 وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 2 وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُم} 3 وقال: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ} 4 وقال في صفات المؤمنين: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} 5 فكل ما عهد به الله عز وجل إلى عباده، وكل ما شرعه للناس، فهو من عهده عز وجل إليهم، وكل من آمن برسول من رسل الله، فقد عاهد الله على الإيمان به والاتباع له، ويتجلى ذلك في السمع والطاعة، وامتثال الأمر بالفعل، والنهي بالترك. ولا ريب أن ما يلتزمه الإنسان من عمل البر بنذر، أو يمين يعقدها، فإن ذلك عهد عاهد ربه عليه، يجب الوفاء به وعدم الوفاء ليس من خلق المسلم، لذلك وصف الله به المنافقين فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} 6ومما تجدر الإشارة إليه، أن كل من عاهد إماماً7على السمع والطاعة فيما هو معروف، أو عاهد غيره على القيام بعمل يتفق مع الشرع، أنه يجب الوفاء به، وبه تطالب شريعة الله عز وجل، وكذلك ما يرم من اتفاقات ومعاهدات بين الدول يجب الوفاء بها وعدم الإخلال بشيء منها ما لم تكن مخالفة لشرع الله عز وجل. وللاهتمام بهذا المبدأ الشامل العظيم جاء تقديم معمول الفعل (أوفوا) عليه، وهو أسلوب عربي يظهر عند إرادة لفت النظر إلى أهمية الأمر المتكلم عنه، وللدلالة على إرادة حصر الوفاء بالعهد في كل عهد يرضي الله عز وجل ويوافق شرعه، ويخرج ما لا يرضيه سبحانه من العهود؛ كنذر الحرام، والحلف على إتيانه، وما يقع بين الدول من عهود لا ترضي الله عز وجل ولا تتفق مع شرعه، وغير ذلك مما فيه إضرار بمصالح المسلمين. وقد عظّمت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وجعلت الإخلال به من صفات المنافقين؛ من ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كن فيه   1 الآية 113من سورة طه. 2 الآية 60 من سورة يس. 3 الآية 91 من سورة النحل. 4 الآية 100 من سورة البقرة. 5 الآية 177 من سورة البقرة. 6 الآية 73 من سورة التوبة. 7 أردت بالإمام رأس الدولة الحاكم الشرعي وهو التعبير الإسلامي. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 28 كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"1. وهذا غيض من فيض. قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: من الآية152) . الإشارة إلى ما تقدم من الوصايا، وما فيها من الأمر والنهي، وتلك الوصايا لا ريب أن من تدبرها وتذكرها أدرك ما فيها من عظيم النفع في الدنيا والآخرة، فجاء هذا القول الكريم مشيراً إليها ليتم الأمر بتذكرها وتدبر معانيها فقال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: من الآية152) أي لتتذكروا ما فيها من الأوامر فتبادروا إلى عملها، وتعلموا ما فيها من النواهي فتسارعوا إلى تركها واجتنابها وبذلك تشاع الفضيلة في المجتمع المسلم ويبادر الناس زرافات ووحدانا إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإذا حصل التذكر بالقلب، حصل التذكير باللسان والتواصي بالخير، ويحصل بذلك الاتعاظ لمن أدركته الغفلة، أو ألهته شواغل الحياة. وتجدر الإشارة إلى أن الرازي رحمه الله سجل جواب سؤال محتمل الورود فقال: "فإن قيل: فما السبب في جعل خاتمة الآية الأولى بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأنعام: من الآية151) وخاتمة هذه الآية بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} (الأنعام: من الآية152) ؟ " قلنا: لأن التكاليف الخمسة في الآية الأولى ظاهرة جلية، فوجب تعقلها وتفهمها، وأما التكاليف الأربعة المذكورة في الآية فأمور خفية غامضة، لابد من الاجتهاد والفكر، حتى يقف على موضع الاعتدال، فلهذا السبب قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2. وللألوسي رحمه الله رأي قال فيه: "ويمكن أن يقال: إن أكثر التكاليف الأول أدي بصيغة النهي، وهو في معنى المنع، والمرء حريص على ما منع، فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك؛ بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس، وهذا بخلاف التكاليف الأخر، فإن أكثرها قد أدي بصيغة الأمر، وليس المنع فيه ظاهرا، كما في النهي، فيكون تأكيدا، والمبالغة فيه ليستمر عليه، ويتذكر إذا نسي3.   1 الصحيح مع الفتح 1/89. 2 الرازي 13/235. 3 الألوسي 8/49. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 29 الأحكام 1- وجوب الوفاء بجميع العهود والمواثيق الشرعية وما يوافقها. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 29 2- أن وجوب الوفاء ينحصر فيما يتفق مع الشرع ويحرم الوفاء بما فيه معصية ومخالفة للشرع. 3- يفهم من الأمر بالوفاء تحريم نقيضه وأنه ليس من صفات المؤمنين. والله أعلم. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 30 الوصية العاشرة قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) . المناسبة: بعد سياق ما تقدم وتوجيه المسلم إلى العمل بما جاء من الأوامر، وترك ما نهى الله عز وجل عنه، وحصل بذلك البيان الشافي، والإرشاد الكافي، من خلال تلك الوصايا، واتضح طريق الحق، ناسب ختم ذلك بالإشارة إلى أن تلك المجموعة من الأوامر، والنواهي، تلك الوصايا العظيمة تمثل صراط الله المستقيم، الذي يوصل سالكه إلى جنة الله ورضوانه، وأن من فرط في شيء منها فعلاً أو تركاً، فقد تنكب صراط الله، وابتعد عنه، واتجه نحو هوة سحيقة تهوي به في نار جهنم، فليتق الله كل مسلم، ولينظر في الأمر، فما بعد الحق إلا الضلال. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 30 البحث اللغوي: أ- في النحو: (مستقيماً) نصب على الحال1. (فتفرق بكم) نصب بإضمار (إن) بعد الفاء في جواب النهي2. والأصل (فتتفرق) فحذفت إحدى التاءين، والباء للتعدية، أي فتفرقكم حسب تفرقها- وهذا أبلغ من تفرقكم، كما قيل: من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه3.   1 الفتوحات 2/ 110. 2 الفتوحات 2/ 110. 3 الإرشاد 3/ 200. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 30 ب- المفرد ات: مستقيماً: أي مستوياً قويماً لا عوج فيه. الصراط: الطريق المستقيم. ومنه قول الشاعر: أكر على الحروريين مهري ... وأحملهم على وضح الطريق1 ويقال: سراط: الطريق المستسهل، وأصله من سرطت الطعام، وزردته، ابتلعته فقيل: سراط تصوراً أنه يبتلع سالكه، وقد قيل: قتل أرضاً عالمها، وقتلت أرض جاهلها. وعلى النظرين قال أبو تمام: دعته الفيافي بعد ما كان حقبة ... دعاها إذا ما لمزن ينهل ساكبه2 السبل: مفردها سبيل، وهي الطريق وما وضح منه3، ويستعمل (السبيل) لكل ما يتوصل به إلى شيء خيراً كان أو شرا4. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} 5، وقال عز وجل: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} 6. وله معان أخر7. التقوى: عرفها بعض العلماء، بأنها جعل النفس في وقاية مما يخاف ... وأنها في تعارف الشرع: حفظ النفس مما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك المباحات - لما ورد- الحلال بين، والحرام بين8 ...   1 اللسان 7/ 340. 2 المفردات 180، 230. 3 اللسان 11/319. 4 المفردات ص 530، 531. 5 الآية 125 النحل. 6 الآية 55 الأنعام. 7 اللسان 11/319. 8 الحديث في البخاري ومسلم، وانظر: لفظ البخاري الصحيح مع الفتح 1/126. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 31 القراءات: قال الرازي: "قرأ ابن عامر {وأنْ هذا} بفتح الألف وسكون النون. وقرأ حمزة والكسائي (وإِنَّ) بكسر الألف وتشديد النون". الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 31 أما قراءة ابن عامر: فأصلها {وَأَنَّه هَذَا صِرَاطِي} (الأنعام: من الآية153) والهاء ضمير الشأن والحديث، وعلى هذا الشرط تخفف. قال الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل أي: قد علموا أنه. وأما كسر (إِن) وتشديد النون. فالتقدير: أتل ما حرم. وأتل {وَإنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} (الأنعام: من الآية153) بمعنى أقول. وقال الفراء: "تكسر (إن) إذا نويت الاستئناف". وأما فتح (أن) فقال الفراء: " ... وتفتحها من وقوع (أتل) عليها- يعني وأتل عليكم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} (الأنعام: من الآية153) ، وإن شئت جعلها خفضاً تريد (ذلكم وصاكم به) بـ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} ". قال أبو علي: "من فتح (أن) فقياس قول سيبويه، أنه حملها على (فاتبعوه) والتقدير: لأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، كقوله: {أنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} 1 قال سيبويه: لأن هذه أمتكم. وقال في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} 2 ولأن المساجد لله". واعلم أن القراء أجمعوا على سكون (الياء) من {صراطي} غير ابن عامر فإنه فتحها. وقرأ ابن كثير، وابن عامر {سراطي} بالسين، وحمزة- قرأ- بين الصاد والزاي، - وقرأ- الباقون بالصاد صافية، وكلها لغات3. قال الزمخشري: "قرأ الأعمش {وهذا صراطي} وفي مصحف عبد الله {وهذا صراط ربكم} وفي مصحف أبي {وهذا صراط ربك} 4.   1 الآية 52 المؤمنون. 2 الآية 18 الجن. 3 الرازي 14/2. وانظر أقوال الفراء (معاني القرآن 1/364) . 4 الزمخشري 3/ 80. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 32 الإيضاح لما أوضح تبارك وتعالى فيما مضى من الآيات ما وصى به عباده ذكر سبحانه وتعالى في نهاية هذه الوصايا قولا أجمل فيه ما تقدم تفصيله، فقوله جل ذكره: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} (الأنعام: من الآية153) يدخل فيه كل ما أمر الله به ونهى عنه، فالشريعة جملة وتفصيلا هي صراط الله المستقيم، ومن المعلوم أن ما تقدم من الوصايا جملة من الأوامر والنواهي تدخل تحت هذا العموم؛ الذي يتناول كل ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الدعوة إلى الحق، وبيان دين الإسلام، فهو بدون شك المنهج القويم، وصراط الله المستقيم، الذي كلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الإنس والجن إلى اتباعه، والعمل به جملة وتفصيلا، ونهاهم عن العدول عنه، فمن عدل عنه وقع في الضلالات، وأحاطت به المهلكات، ومما تجدر الإشارة إليه هنا التنبيه على الإضافة في قوله: صراطي هل الصراط مضافا إلى الله عز وجل، أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. نقول جوابا عن هذا التساؤل: يجوز الأمران فإن كانت الإضافة إلى الرب عز وجل فباعتباره الشارع سبحانه وتعالى فهو الآمر الكريم، والناهي الحكيم. وإن كانت الإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فباعتباره سالك المنهج القويم، الداعي إلى النعيم المقيم وهذا ما قرره العلماء وقالوا: "قد يضاف إلى الدعاة إليه والسالكين له من النبيين1 وغيرهم كما في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 2. وعلى هذا فيكون المعنى ومما أتلو عليكم من وصايا رب العزة والجلال أن تعلموا أن القرآن الذي أدعوكم إلى العمل به والدعوة إليه وأن ما تضمن من أوامر ونواهي هو الطريق القويم الذي يصل سالكه إلى مرضاة الله وأن ذلك المنهج الذي أسير عليه، فهو الشرع النقي، والمورد العذب، والمشرب السائغ، ومما أتلو عليكم أن تعلموا أن ما أوصاكم الله به في هذه السورة العظيمة ما هو إلا جملة من الأوامر والنواهي التي ضمها كتاب الله العظيم الواجب عليكم العمل بما فيه جملة وتفصيلا، إن هذا القرآن الذي آمركم به وأدعوكم إليه فيه حياتكم، وبه رقيكم، وهو سفينة نجاتكم، فمن أحل حلاله، وحرم حرامه، وعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه فقد سلك صراط الله المستقيم المنتهي بسالكه إلى مرضاة الله عز وجل، إنه سبيل ظاهر الاستقامة، لا   1 الألوسي 5/50. 2 الآية 7 من الفاتحة. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 33 يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه، فاتبعوه وحده، ولا تتبعوا الطرق التي تخالفه، فتذهب بكم فتصبحوا فرقاً ضالة تنتهي إلى الهلكة والضياع، فما بعد الحق إلا الضلال، ومن ترك النور عاش في الظلمات، لأن ما بعث الله به رسله من نوح أول الرسل إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، وهو لا يتعدد، فالطريق الموصل إلى الله عز وجل واحد ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، لا يصل إلى الله أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب، فالطريق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متصل بالله، موصل إلى الله1. وتأكيداً لما سبق بيانه جاءت السنة النبوية تزيد الأمر شرحاً وتجليه بالرسم البياني بعد بيان القول يقول ابن ماجه رحمه الله: حدثنا أبو سعيد، عبد الله بن سعيد2، ثنا أبو خالد الأحمر3 قال: سمعت مجالداً4 يذكر عن الشعبي 5، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخطين عن يساره6، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله 7، ثم تلا هذه الآية {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 8". فالسبل التي حذر الله عز وجل منها ونبه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الوسيلة الإيضاحية زيادة في تحذير الأمة من الزيغ واتباع الهوى، وتلك السبل تعم اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وسائر أهل الملل، وجميع أصحاب البدع والضلالات، من أهل الأهواء، والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل، والخوض في الكلام9. هذه كلها عرضة للزلل، ومظنة لسوء   1 التفسير القيم ص 14. 15. 2 الأشج، ثقة، مات سنة سبع وخمسين ومائتين. 3 سليمان بن حيان، الأزدي، صدوق يخطىء، مات سنة تسعين ومائة. 4 ابن سعيد بن عمير، ليس بالقوي مات سنة أربع وأربعين ومائة. وقد وقع خطأ في السند في تفسير ابن كثير 2/ 190 فذكر بدله (مجاهد) والصواب (مجالد) . 5 عامر بن شراحيل. 6 لعل، صورته هكذا.   7 أخرجه ابن ماجه 1/6 وبسنده أخرجه الإمام أحمد، وكذلك من طريق أخرى عن ابن مسعود (المسند 3/397، 1/465) وبه أخرجه الحاكم (المستدرك2/318) وابن حبان (1/ 167) . 8 الآية 153 من الأنعام. 9 انظر (القرطبي7/238) . الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 34 المعتقد1. وهذا ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين قال الطبري رحمه الله: حدثني محمد بن عبد الأعلى2 قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبان3، أن رجلاً قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: "تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جوادّ، وعن يساره جوادّ، وثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة"4 ثم قرأ ابن مسعود {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما} (الأنعام: من الآية153) . ويزيد حرص ابن مسعود رضي الله عنه على دعوة الأمة المحمدية إلى الخير وتحذيرها من الشر، ويوضح رضي الله عنه أنه لا تتم السلامة لأحد إلا بنور العلم وضياء الكتاب والسنة وهو الإِسلام الذي فسر به الصراط المستقيم في حديث النواس بن سمعان الآتي: قال الدارمي رحمه الله: أخبرنا أبو المغيرة5، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير6، عن أبي قلابة7 قال: قال عبد الله بن مسعود: "تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع8، والتعمق9، والبدع10، وعليكم بالعتيق11"12 والرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين كثيرة في هذا الباب وإنما أردنا الدلالة عليها بما ذكرنا. وتبعهم من بعدهم من حملة الخير والهدى التابعون فهذا الدارمي رحمه الله يقول:   1 انظر (ابن عطية 6/ 185) . 2 الصنعاني، ثقة، مات سنة خمس وأربعين ومائتين. 3 ابن عثمان بن عفان، ثقة، مات سنة خمس ومائة. 4 الطبري 8/ 65. 5 عبد القدوس بن الحجاج الخولاني، ثقة، مات سنة ثنتي عشرة ومائتين. 6 ثقة، ثبت، مدلس، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. 7 عبد الله بن زيد الجرمي، ثقة، كثير الإرسال. 8 هما كلمتان مترادفتان ومعناهما هنا. التشدد والغلو في الكلام ولمزيد الفائدة انظر (اللسان 8/357، 10/ 271) . 9 هما كلمتان مترادفتان ومعناهما هنا. التشدد والغلو في الكلام ولمزيد الفائدة انظر (اللسان 8/357، 10/ 271) . 10 جمع بدعة وهي كل ما خالف أصول الشريعة من الأقوال والأعمال. وانظر (اللسان 8/ 6) . 11 القديم، أي الأمر الأول النهاية 3/ 179. 12 أخرجه الدارمي السنن 1/ 50. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 35 أخبرنا مخلد بن خالد بن مالك1، أخبرنا النضر بن شميل2، عن ابن عون3، عن ابن سيرين4 قال: "كانوا5يرون أنه على الطريق ما كان على الأثر"6. ولا ريب أن الأثر المذكور هو شرع الله عز وجل الذي جاء به نبي الهدى والرحمة وهو صراط الله المستقيم الذي سار عليه معلمو الإنسانية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتجدر بنا الإشارة – ونحن نختم هذه الجولة من معايشة آيات من كتاب الله - أن نذكر القارئ الكريم بأن الآية فيها من الأمور التي تظهر للمتأمل ما يلي: 1- إن الله عز وجل قد جمع في هذه الوصية بين الأمر باتباع سبيل الحق، والنهي عن سبيل الضلال المقابلة له. 2- أنه عزوجل كرر لفظ الوصية في هذه الآية فقال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} (الأنعام: من الآية151) لمزيد التوكيد والاهتمام بها، فيا لها من وصية عظم الله شأنها، وقوى برهانها، وجعلها نورا لمن عمل بها، وحجة على من لم يستظل بظلها. 3- في الآية الكريمة التنبيه على أن كل ما كان حقاً فهو واحد، ولا يلزم منه أن يقال: إن كل ما كان واحدا فهو حق، فإذا كان الحق واحداً، كان كل ما سواه باطلا، وما سوى الحق أشياء كثيرة، فيجب الحكم بأن كل كثير باطل، ولكن لا يلزم أن يكون كل باطل كثير7. 4- الأمر بلزوم جماعة المسلمين لأن اتباع صراط الله المستقيم يستلزم ذلك. 5- النهي عن الفرقة والإختلاف، فقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (الأنعام: من الآية153) دال على ذلك ويؤيده قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه}   1 هكذا في النسختين ولم أقف عليه ولعل الصواب مخلد بن مالك الجمال، فهو شيخ الدارمي، وتلميذ النضر، ثقة مات سنة إحدى وأربعين ومائتين. 2 ثقة، ثبت، مات سنة أربع ومائتين. 3 عبد الله بن عون بن أرطبان، ثقة، ثبت، مات سنة خمسين ومائة. 4 محمد بن سيرين، ثقة، ثبت، عابد، مات سنة عشر ومائة. 5 أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (يرون أنه) يعني المسلم يكون على طريق الحق ما دام يلتزم بالأثر. 6 أخرجه الدارمي السنن 1/50. 7 الرازي 3/14. وانظر تعليق أحمد شاكر رحمه الله عمدة التفسير 5/22. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 36 (الشورى: من الآية13) . {إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1. وهذا نهي عن التفرق فغنما هلك من هلك بسبب الفرقة وكثرة الجدل، والخصومات في دين الله عز وجل2. ولا ريب أن من يتابع أحوال المسلمين اليوم وما هم فيه من الفرقة والخلاف يعتريه قلق شديد علىمصير مئات الملايين من أبناء الأمة الإسلامية إذا لم يعتصموا بحبل الله المتين الكتاب والسنة. والأخطار محدقة بهم، ودعاة الهدم والضلال يزدادون يوما بعد يوم. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يصور الأمور لأمته أبدع تصوير ويجليها بضرب الأمثال، ويدلل عليها بإقامة المثال، قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي، ثنا الحسن بن سوار أبو العلاء3، ثنا ليث يعني ابن سعد4، عن معاوية بن صالح5، أن عبد الرحمن بن جبير6 حدثه، عن أبيه7، عن النواس بن سمعان8 الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا (ولا تتفرقوا) 9 وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم"10. فلو تأمل المسلمون كتاب ربهم ودرسوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم لما كثر دعاة الضلال، ولما قويت دعوات الطوائف أعداء الأمة المحمدية الذين لا يفتئون يفتون في عضد الوحدة الإسلامية، ولما تفتحت أبواب البدع، والخرافات، وتنوعت أشكال الشعارات المزيفة، التي أصبح لها الأثر البالغ في غواية الشباب، وشحن الأفكار باتباع الأهواء، والإنزلاق في الشهوات بجميع أصنافها دون أدنى   1 الآية 13 من الشورى. 2 انظر كلام ابن كثير 2/190. 3 صدوق، مات سنة ست عشرة ومائتين. 4 المصري، أبو الحارث، ثقة، ثبت، فقيه، مات سنة خمس وسبعين ومائة. 5 قاضي الأندلس، صدوق له أوهامروى له مسلم، مات سنة ثمان خمسين ومائة. 6 ابن نفير، ثقة، مات سنة ثمان عشرة ومائة. 7 جبير بن نفير، ثقة، جليل، ولأبيه صحبة، مات سنة ثمانين. 8 صحابي، قيل وفد على النبي صلى الله عليه وسلم. انظر (أسد الغابة 5/45) . 9 في المسند (تتفرجو) وصوابه ما أثبتناه. 10 المسند 4/182. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 37 نظرة لما يحل وما يحرم، فلسان حال الكثيرين اليوم يقول: إن الغاية تبرر الوسيلة، وإذا كنا نتحدث عما حل بالمسلمين اليوم وقلوبنا تنزف أسى وحسرة، لا نملك إلا أن نصرخ بالصوت العالي الجهور، ونقول: أيها المسلمون عودوا إلى كتاب ربكم لتعود عزتكم فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين1، عودوا إلى سنة نبيكم تعود لكم استقامتكم وتتحقق سلامتكم قال أبوداود رحمه الله: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا الوليد بن مسلم2، حدثنا ثور بن يزيد قال: حدثني خالد بن معدان قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي3، وحجر بن حجر4 قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} 5 فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: "صلى بنا رسوله الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله؛ كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً6، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء7 المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ8، وإياكم ومحدثات9 الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 10. فكما أرشدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بسنته أمرنا الله عز وجل بأخذ كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم، وترك كل ما نهى عنه قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 11 وحذر جل شأنه من مخالفة نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه   1 إقرأ الآية 8 من (سورة المنافقين) . 2 ثقة، كثير التدليس، ولا يضر هنا لأنه صرح بالتحديث. 3 مقبول مات سنة عشر ومائة. 4 مقبول أيضاً. 5 الآية 192 التوبة. 6 أي وإن ولي عليكم عبد حبشي. ففيه الأمر بطاعة ولي الأمر ما أقام الدين وحكم بالشريعة. 7 هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم أجمعين وعن كافة أصحاب رسوله الكريم. 8 النواجذ أقصى الأضراس، أو هي الأنياب، أو التي تلي الأنياب، أو هي الأضراس كلها. (ترتيب القاموس 4/327) . 9 جمع محدثة- بالفتح- وهي ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع. (النهاية 1/ 351) . 10 سنن أبى داود 5/13 وأخرجه الترمذي من طريق أخرى عن خالد وقال: هذا حديث حسن صحيح (الجامع 5/ 44) . 11 الآية 7 الحشر. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 38 أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 فالهرب الهرب من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنجاة النجاة، بالتمسك بهدية والسير على طريقه وصحابته ففي ذلك التجارة الرابحة، ويلحظ النابه أن محور دعوته صلى الله عليه وسلم بعد توحيد الله تحذير الأمة من الأهواء والبدع وإرشادهم إلى الأخذ بالأمر المستقيم فكان يوصي بلزوم السنة إلى أن فارق الدنيا ففي رواية ابن ماجه لحديث العرباض أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تركتكم على البيضاء2، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... " -وقال في آخره: "فإنما المؤمن كالجمل الأنف3، حيثما قيد انقاد" 4، هذا ما أوصى به نبي الهدى أمته وتواصى بالتمسك به أصحابه من بعده، قال الدارمي رحمه الله: أخبرنا الحكم بن المبارك5، أنا عمر بن يحيى6 قال سمعت أبي7، يحدث عن أبيه8 قال: "كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه9 جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمرا أنكرته10، ولم أر والحمد لله إلا   1 الآية 63 النور. 2 شبه منهجه صلى الله عليه وسلم بالجادة الواضحة؛ الطريق الأبلج الذي لا يضل سالكه. 3 شبه انقياد المؤمن للحق عند سماعه بالجمل الذي يخزم أنفه فينقاد لصاحبه، فالجمل الأنف هو الذي يشتكي أنفه من الوجع (الصحاح1/ 54) . 4 ابن ماجة 1/16 وتقدم أنه عند أبي داود والترمذي. 5 الخاشتي، صدوق ربما وهم، مات سنة عشر ومائتين. 6 هكذا عند الدارمي. والصواب عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة بن الحارث، الكوفي، ذكره الحافظ في (اللسان4/378) وقال: قال ابن معين: "حديثه ليس بشيء، قد رأيته". ولم أقف عليه في تاريخ ابن معين، وسبق الحافظ إلى نقل هذه العبارة الحافظ الذهبي (الميزان 3/ 293) . 7 يحيى بن عمرو بن سلمة، لم يذكره أبو حاتم بجرح ولا تعديل (الجرح والتعديل 9/176) . 8 عمرو بن سلمة بن الحارث، الهمداني، لم يذكره البخاري بجرح ولا تعديل (التاريخ 6/337) ومثله ابن أبي حاتم (الجرح والتعديل 6/ 235) . وذكره ابن حبان في (الثقات 5/ 172) وذكره الحافظ وقال: قال ابن أبي حاتم عن أبيه: "أخطأ في عمرو بن سلمة حيث جمع بينهما، ذاك جرمي، وهذا همداني". ثم قال: "وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة ... "الخ (التهذيب 8/42) ولي على هذا ملاحظتان: الأولى: ما خطىء فيه البخاري ليس وارداً فقد أفرد كل منهما بترجمة (التاريخ 6/313، 337) والثانية: أن المذكور في طبقات ابن سعد غير هذا (الطبقات 6/ 171) ومن هنا والله أعلم وقع الخطأ في التقريب حيث قال: ثقة (التقريب 260) . 9 إن صحت هذه الرواية فالقيام هنا ليس من باب التعظيم الذي ثبت النهي عنه. إنما هو من باب الاستعداد للمشي إلى الصلاة. 10 هذه المقولة تدل على عدم ثبوت الرواية والله أعلم، لأنه ليس من المعقول أن يذهب أبو موسى إلى المسجد للصلاة ثم خرج منه وهو يعرف فضل المبادرة إلى المسجد والسبق إلى الصلاة. ثم ليس من المعقول أن يرى منكراً ثم يقول ما رأيت إلا خيرا، ثم لا ينكر ذلك ويذهب ليأخذ رأي ابن مسعود أينكر أم لا؟. وقد كان أصحاب رسول الله أكثر الناس التزاماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا رأي عنّ لي في المسألة. وانظر ما في تعليق (3، 6) وتعليق (2) الآتي. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 39 خيرا، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه، قال: "رأيت في المسجد قوماً حلقا1جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة". قال: "فماذا قلت لهم؟ " قال: "ما قات لهم شيئا انتظار رأيك وانتظار أمرك"2، قال: "أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم"، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: "ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ " قالوا: "يا أبا عبد الرحمن حصى3 نعد به التكبير والتهليل والتسبيح". قال: "فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن لكم أن لا يضيع من حسناتكم شيء ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم4؛ هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل5، وأوانيه لم تكسر6، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة7 محمد؟! أو مفتتحو باب ضلالة؟ ". قالوا: "والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير". قال: "وكم من مريد للخير لن يصيبه8، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم9، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم"، ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: "رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج"10. فهذه المقولة عن ابن مسعود إن لم يصح سندها فمعناها صحيح ولها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة، وكلام التابعين الشواهد التي لا تحصر، وما رفعه ابن مسعود رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ثابت في الصحيحين من حديث أبي سعيد وغيره، انظر (الصحيح مع الفتح 13/415) وكذلك (صحيح مسلم 2/740 … ) ، وإنما المقدمة هي التي في النفس   1 بكسر الحاء، وفتح اللام، جمع الحلقة، مثل قصعة، وقصع، وهي الجماعة من الناس مستديرون كحلقة الباب (النهاية 1/426) . 2 على فرض صحة هذه الرواية فتوقف أبي موسى عن المبادرة فى الإنكار إنما كان تعقلاً لا سيما وأن العمل مشروع لكن بغير هذه الصورة. 3 جمع حصاة، وهي الأحجار الصغيرة. انظر (النهاية 1/398) . 4 باقتراف البدع، واتباع الأهواء، يؤيد هذا حديث ((تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)) . 5 كناية عن قرب موته صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يطل عليهم العهد، بل هم حديثوا عهد بهدى. 6 كناية عن قرب موته صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يطل عليهم العهد، بل هم حديثوا عهد بهدى. 7 هذه جملة توبيخ وإنكار، لأن من يزعم أنه جاء بأهدى من ذلك فهو كافر، فأراد ابن مسعود رضي الله عنه أن يوبخهم على ذلك ويحقر ما فعلوا. 8 إذا كان داعية هواه أو اجتهاده المحض، لكن من أراد الخير مستنيرا بالكتاب والسنة فإنه لا يعدم ذلك. 9 يريد به حديث. 10 الدارمي 1/ 61. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 40 عليك بدين الأعراب والغلام في الكتاب1، وأله عما سوى ذلك. قال الدارمي رحمه الله: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن2 قال: حدثنا أسد بن موسى3 قال: حدثنا حماد ابن دليل4 قال: سمعت سفيان الثوري5 يحدثنا عن النضر. ورواه أبو داود أيضا بالسند العالي قال: حدثنا محمد بن كثير6 قال: حدثنا سفيان قال: "كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القَدَر، فكتب7؛ أوصيك بتقوى الله والاقتصاد8 في أمره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون، بعد ما جرت به سنته، وكفوا مئونته، فعليك بلزوم السنة فإنها لك - بإذن الله - عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها9، أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنها من قد علم10 ما في خلافها من الخطأ، والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كَفّوا11، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه12 لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: - إنما حدث بعدهم - (فـ) ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مَقْصِر13، وما فوقهم من مجسر14، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح15 عنهم أقوام فعلوا، وإنهم بين   1 يريد به من كانوا على الفطرة تقبل قلتم الحق وفي ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة ". 2 صاحب الشافعي، ثقة، مات سنة سبعين ومائتين. 3 صدوق يغرب، وفيه نصب، مات سنة اثنتين عشرة ومائتين. 4 صدوق، نقموا عليه الرأي. 5 الإمام، الحجة. 6 العبدي، ثقة، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين. 7 عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو الخليفة العادل حتى قيل: إنه خامس الخلفاء الراشدين. 8 المراد أن يكون المرء بين ذلك قواما، فلا يقصر في حق الله عز وجل ولا يغلو فيكون مجانباً للإفراط والتفريط. 9 أي على أنها محدثة وليست من الهدي المحمدي. 10لم يقل محمد بن كثير في روايته: (من قد علم) . 11 أي امتنعوا عما يخالف السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. 12 من البدع والأهواء. 13 بفتح الميم، وسكون القاف، وكسر الصاد، أي لا يرضى المسلم بأقل مما وصلوا إليه من الفضل تقول: رضي بمقصر مما كان يحاول، دون ما طلب. (انظر اللسان 5/98) . وفي نظري أن الدعاس أخطأ في تعليقه على هذه اللفظة. 14 الذي في السنن ((محسر)) وفي نظري أنه خطأ صوابه ما أثبت أعلاه، من الجسارة أي لا يتطاول عليهم ويطلب المزيد على ما جاؤا به فإنهم أكرم الناس بعد رسول الله وأكمل الناس بعده صلى الله عليه وسلم. (انظر اللسان 4/136) . 15 أي أبعدوا في طلب المزيد على ما جاء عن الصحابة فوقعوا في الغلو انظر (الصحاح2/48) . الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 42 ذلك1 لعلى هدى مستقيم ... الخ"2. ونقل القرطبي رحمه الله عن سهل بن عبد الله التستري3 قوله: "عليكم بالاقتداء بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه، ونفروا عنه، وتبرؤا منه، وأذلوه، وأهانوه ... لا يحدث أحدكم بدعة حتى يحدث له إبليس عبادة، فيتعبد بها ثم يحدث له بدعة، فإذا نطق بالبدعة ودعا الناس إليها نزع منه تلك الخدمة) 4 وهذا غيض من فيض، فنحذر إخواننا المسلمين من خطر الابتداع ومرافقة المبتدعين وإذا ثبت لنا أن رجلا ما يدعو إلى بدعة أو يحبذها. فعلينا مجانبته، والتحذير من مجالسته، فإنه جليس سوء ونافخ كير إما أن يحرق عقيدتك وإما أن تجد منه قولاً باطلاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، إن المروجين للبدع اليوم كثر وهم أئمة في مظاهرهم، وهيئاتهم، ولكنهم مضلون5 في بواطنهم وأفكارهم، فانصبوا لهم موازين الكتاب والسنة، وانفوا خبث أقوالهم بصوارم الأدلة، تكونوا من الفرقة الناجية التي عضت على الكتاب والسنة بالنواجذ، وإياكم والميل لصاحب بدعة أو مجالسته فإن ذلك يعرضكم للعقوبة فالله عز وجل يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 6وقد بينت آية النساء وهي مدنية عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} 7 فالله عز وجل ألحق من جالس هذه الطوائف بهم في الحكم، والعبرة أيها القارئ الكريم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهذا ما فهمه جلة من علماء المسلمين وأئمتهم منهم أحمد بن حنبل والأوزاعي وعبد الله بن المبارك حين حكموا بموجب هذه الآية وما في معناها في مجالسي أهل البدع، وأدبوهم على المعاشرة والمخالطة، وقالوا فيمن شأنه مجالسة أهل البدع: "ينهى عن مجالستهم فإن انتهى وإلا ألحق بهم، وقد نفذ هذا عملياً الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله وحكم بالحد   1 بين المقصر والمجسر (بين الإفراط والتفريط) . 2 أخرجه أبو داود 5/18 واستفاده القرطبي 7/ 139. 3 انظر شيئا من أقواله رحمه الله في الحلية10/189. 4 ذكره القرطبي 10/ 189. 5 انظر حديثاً في هذا قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح (الجامع 4/ 504) . 6 الآية 168 الأنعام. 7 الآية 140 النساء. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 43 على مجالسي شربة الخمر وتلا {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} (النساء: من الآية140) قيل له: فإنه (أي المجلس) يقول: "إني أجالسهم لأباينهم، وأرد عليهم". قال: "ينهى عن مجالستهم فإن لم ينته ألحق بهم"1. ولا ريب أن من طرق هذا الموضوع ورام البيان وقصد الاستيعاب، فإنه يجد ما ذكرناه هنا قطرة من بحر، وإنما قصدنا لفت لنظر وربما كفت الإشارة عن صريح العبارة. قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: من الآية153) . تقدم في الوصية التاسعة هذا القول الكريم ولم يكن تكراره هنا عبثا فقد جل كلام الله عن العيب والنقص فله الكمال المطلق، لكنه لمزيد من التوكيد أعاد اللفظ تنويها بقدر تلك الوصايا، وتنبيها على عظيم شأنها عند الله عز وجل، وحثا لعباده على تدبرها والتمسك بها، فيالها من وصية حوت الخير كله فكانت واضحة الأسلوب، جلية المقصد، أنارت الطريق للسالكين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. هذا ما تيسر بحثه في هذه الآيات ونسأل الله الهدى والتقى، والنية الخالصة فهو حسبنا ونعم الوكيل.   1 انظر ما نقله القرطبي 7/137-142. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 44 خاتمة البحث أقول: إن الإسلام جاء منقذا للبشرية، فأذاب الفوارق، وركز على الحقوق والواجبات، وبناء المجتمع النقي المترابط، وجعل لذلك البناء نظاماً دقيقاً، ومنهجاً أوضح من الشمس، وأمده بمصدرين الكتاب والسنة، وجعلهما معينين لا ينضبان على مر الدهر وتعاقب الأزمان، فلما تلقاهما الدارسون على يدي نبي الهدى والرحمة برغبة صادقة، وحب مكين نالوا من فهمهما الحظ الوافر، وطبقوا ما فهموا في أعمال مخلصة، كان عصرهم تاريخا مجيدا للمجتمع الإسلامي الصحيح، الذي بنيت أسس حضارته الرفيعة على أنبل القيم، وأثبت المبادئ، فقام على ذلك نظام الحكم المثالي، وتجلت الحياة الإنسانية في أبهى صورها، وقامت الدولة الإسلامية على أمثل الأساليب، وكان المجتمع الإسلامي يصدّر الحضارة الراقية والمثل السامية إلى أمم الجهل والتخلف، وكان الهدف من ذلك التصدير إسعاد البشرية جماعة وفرادى في الدنيا والآخرة، وأصبحت الحضارة الإسلامية بشتى مجالاتها تنادي بما فيه فلاح الإنسانية قاطبة في الحال والمآل. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 44 اللهم إنا نسألك حسن العمل، وحسن الخاتمة والفوز بالجنة، والنجاة من النار، ونسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. حرر في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتم ذلك ليلة السابع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعمائة وألف. 17/4/1408هـ. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 45 الأحكام 1- تحريم الاعتداء على مال اليتيم، وجاء التعبير بالنهي عن القرب مبالغة في الزجر ليشمل كل سبب يجر إلى اعتداء عليه، أو إتلاف له. 2- يستظهر من الوصية أن النهي عام يشمل الأولياء والأوصياء وكافة الناس، وإلا لما تحققت الحماية التي هي مقصود الشارع. 3- إباحة التصرف في مال اليتيم بما يصلحه وينميه، مع الأخذ بالأحوط وعدم المجازفة. 4- وجوب دفع مال اليتيم كاملاً غير منقوص عند بلوغه الحلم وإيناس الرشد منه، وتمكنه من حفظه والتصرف فيه تصرفاً معقولا. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 16 الوصية السابعة المناسبة ... الوصية السابعة قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (الأنعام: من الآية152) المناسبة: جاءت الوصايا السابقة مؤكدة أن المجتمع السليم لا يقوم إلا على تلك الأسس العظيمة؛ بناء العقيدة النقية، صيانة المجتمع في النفس، والعرض والمال، وهنا تتحدث الوصية عن أمر لا يقل أهمية عما سبق إذ أن أفراد أي مجتمع لابد لهم من تبادل المنافع والسلع   1 الصحيح مع الفتح 10/436. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 16 البحث اللغوي : المفردات: (أوفوا) : أي أتموا ولا تنقصوه. والوافي الذي بلغ التمام ولم يعتريه نقص1. (الكيل) : المراد: المكيل أي الشيء الذي يكال، وهذا من إطلاق الصفة على الموصوف، والمكيال: أداة الكيل، كالمد والصاع2. (الميزان) : المراد: الموزون من إطلاق اسم المحل على الحال. فالميزان آلة الوزن مثل (الكيلو) و (الجرام) وبهذه المناسبة يحسن أن نذكر حديثاً أخرجه أبو داود رحمه الله قال: "حدثنا عثمان بن أبي شيبة3، حدثنا ابن دكين4، حدثنا سفيان5، عن حنظلة6، عن طاووس7، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة" ثم8 هذا الحديث تنوعت أقوال العلماء فيه فذهب بعض العلماء في فكره مذهباً بعيدا إذ فسر هذا الحديث بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بهذا القول أن يضع قاعدة عامة   1 لمزيد الفائدة انظر: المفردات 528 واللسان 15/399. 2 للفائدة انظر اللسان 11/604. 3 عثمان بن محمد نسب إلى جده الأبعد، ثقة حافظ له أوهام. 4 الفضل بن دكين عمرو بن حماد، ثقة ثبت. 5 ابن سعيد الثوري، ثقة، إمام، حجة، ربما دلس. 6 ابن أبي سفيان، الجمحي، ثقة، حجة. 7 ابن كيسان، اليماني، ثقة، فقيه، فاضل. 8 السنن لأبي داود 3/633. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 17 الإيضاح هذا المبدأ الاجتماعي الهام قرره رب العزة والجلال في أكثر من موضع في كتابه العزيز ومنها ما نحن بصدد بيانه قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} 8. فكأن نبي الهدى والرحمة المبلغ عن الله عز وجل يقول: "ومما أتلوا عليكم أيها المسلمون من وصايا ربكم أن أوفوا الكيل إذا كلتم للناس، أو اكتلتم عليهم لأنفسكم وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم   8 الآية 152 من سورة الأنعام. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 19 الأحكام 1- وجوب بذل الجهد في إيفاء الحقوق على أتم ما يمكن. 2- يفهم من الأمر بالإيفاء تحريم النقص ويتأيد هذا الفهم بقوله تعالى: { ... فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ} 1. 3- أن من تحرى الحق واجتهد في الوصول إليه ولم يصبه فلا لوم عليه ولا عقاب ويتأيد هذا الفهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"2. 4- جواز الاجتهاد في الأحكام والآية الكريمة أصل في ذلك وحديث معاذ رضي الله عنه يؤيد هذا الفهم3.   1 الآية 85 من سورة الأعراف. 2 أخرجه الإمام البخاري الصحيح مع الفتح 13/318. 3 أخرجه أبو داود (السنن 4/ 18) وفيه كلام. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 22 الوصية الثامنة المناسبة ... الوصية الثامنة قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: من الآية152) . المناسبة: إن المتأمل في الوصية السابقة وهي الأمر بالإيفاء وتحري الكمال في أداء الحقوق وأخذها، قد يرى مناسبة للربط بين الوصيتين؛ وهي أن إيفاء الحقوق لا يقوم إلا على ركيزة أساسية في المجتمع المسلم، وهي مبدأ العدالة في الحقوق والواجبات، المتعلقة بسائر المعاملات التجارية وغيرها، لكنه خص المعاملات التجارية في الوصية السابقة، ثم أردف بالأمر بالعدل والتزام الإنصاف في المعاملات القولية، الشاملة للشهادات والأمور القضائية، وغيرها مما يتعلق بإظهار الحق وإشهاره بين أفراد المجتمع المسلم، مع قطع النظر عن أي مؤثر آخر يخرج عن التزام المنهج السوي في الجهر بالحق وإيصاله إلى ذويه، حتى ولو كان من المؤثرات رابطة النسب أو وشائج القربى فليس لها وزن في مقابل الإنصاف والتخلق بهذه الخلة العالية الرفيعة. وفي نظري أن الوصيتين هنا من باب عطف العام على الخاص. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 22 البحث الغوي ... البحث اللغوي: العدل: ما قام في النفس أنه مستقيم. وهو ضد الجور. وفي أسماء الله عز وجل العدل؛ وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل مصدر سمي به، فوضع موضع العادل، وهو أبلغ منه، لأنه جعل المسمى نفسه عدلا. والعدل: الحكم بالحق، يقال: هو يقضي بالحق ويعدل، وهو حكم عادل، ذو معدلة في حكمه1. القربى: القرابة والقربى: الدنو في النسب، والقربى في الرحم، وفي التنزيل العزيز: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} 2 وأقارب الرجل، وأقربوه؛ عشيرته الأدنون. وفي التنزيل العزيز: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 3 وجاء في التفسير أنه لما نزلت4 هذه الآية صعد الصفا، ونادى الأقرب فالأقرب، فخذاً فخذاً5.   1 اللسان 11/ 430. 2 الآية 36 من سورة النساء. 3 الآية 214 من سورة الشعراء. 4 ابن كثير 3/149. 5 اللسان 1/667، وانظر صحيح مسلم 1/192 رقم 350. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 23 الإيضاح لما قرر عز وجل أهمية الإيفاء وخصه بوصية تنويهاً بشأنه العظيم في إصلاح المجتمع فهذا النوع من التعامل الاجتماعي من أبرز ما يحصل به الاحتكاك بين أفراد المجتمع في حياتهم اليومية نوه سبحانه بالأساس الذي يقوم عليه أمر إيفاء الحقوق وهو العدل في كل شأن من شئون الحياة، ولعل ذكر القول هنا دون غيره إشارة إلى أن القول والتخاطب هو العامل الرئيسي في المعاملات، فأراد رب العزة والجلال أن يقرر أن وسيلة التعامل هذه يجب أن تكون مبنية على الأساس الذي يحفظ الحقوق وهو العدل فكما أن العدل واجب في الأفعال كالأوزان والمكاييل، فهو كذلك واجب في الأقوال التي تبنى عليها المعاملات بين أفراد المجتمع، لأن العدل أساس عظيم تصلح به شئون البشرية جمعاء، فالعدل أساس المدنيات، وركن تقوم عليه حضارة الأمة، وبه يشمخ البناء، وتعلو صروح الفضيلة في المجتمع، وهو أساس دوام الملك، والمحور الذي يرتكز عليه النظام الإنساني في كل ما يتعلق بحياة هذا المخلوق، فيقرر الرب سبحانه وتعالى أنه لا يجوز لمؤمن أَن ينتهك حمى العدل الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 23 الأحكام 1- وجوب تحري العدل وصدق القول في كل شأن ومن ذلك القول في المعاملات، والشهادات، والأحكام، والأخبار، وغير ذلك ففي الحديث: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" 2. 2- تحريم المحاباة وأنها من الأعمال الرخيصة والمنافية لما أمر الله به. وتقدم بيان ذلك في الوصية وما في معناها من الكتاب والسنة.   2 الصحيح مع الفتح 10/507. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 25 الوصية التاسعة المناسبة ... الوصية التاسعة قوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: من الآية152) . المناسبة: من خلال التدبر لما تقدم من الوصايا نجدها فصلت ما يجب للمسلم من الحقوق، وما عليه من الواجبات، فأرست بذلك قواعد ثابتة لبناء الأمة بناء يناسب ما أوجدها الله عز وجل من أجله؛ وهو إقامة العدل في الأرض، يإشاعة المساواة بين بني الإنسان، وقد جاءت هذه الوصية بعد ذلك البيان واضعة خاتم العقد بين العبد وربه عز وجل على ما تقدم الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 25 البحث اللغوي : العهد: كل ما عوهد الله عليه، وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد.- والمراد به هنا - كل ما أمر الله به في هذه الآيات ونهى عنه- فقد عهد إلى عباده فعل المأمور وترك المحذور-. أوفوا: وفي بعهده، يفي وفاء، وأوفى، إذا أتم ولم ينقص. وهو ضد الغدر1. ووفي وأوفى بمعنى وقد جمعها طفيل الغنوي في بيت واحد في قوله: أما ابن طوق فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها2 وصى: من الوصية، وهي من الله عز وجل: ما عهد إلى العباد أن يعملوه، من فعل خير، أو ترك شر، فهي بمعنى فرض (ذلكم وصاكم به) أي أمركم به وفرضه عليكم3. تذكرون: الذكر والذكرى والتذكر؛ خلاف النسيان. وفهمي لهذا أن قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: من الآية152) أي أوصيتكم بذلك وفصلته لكم لتستمر ذكراه في أذهانكم، فلا تقعوا فيما يخالفه ويناقضه، ففي اللفظ تحذير من الغفلة التي كثيراً ما يقع فيها الإنسان. والتذكر: تذكر ما أنسيته، وذكرت الشيء بعد النسيان، وذكرته بلساني، وبقلبي، وتذكرته، وأذكرته غيري، وذكرته بمعنى4 وفيها معنى الاتعاظ والاعتبار فإذا حصل هذا للعبد فهو عين التذكر، والله أعلم.   1 اللسان 3/ 311، 15/398. 2 اللسان 3/ 311، 15/398. 3 لمزيد المعرفة انظر: اللسان 15/ 394 ... والمنار 8/ 188، 189. 4 اللسان 15/ 309. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 26 القراءات : قال الرازي رحمه الله: قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم (تذكرون) مخففة، من الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 26 الإيضاح مما تقدم بيانه يتضح لنا أن تلك الأوامر والنواهي، وتلك الأسس الاجتماعية، ما هي إلا أجزاء بنود عقد أقامه الرب سبحانه وتعالى بينه وبين عباده، ويتمثل ذلك العقد في القيام بتلك الأوامر والنواهي فعلا وتركا، والعهد شامل لكل ما عهده الله إلى الناس كافة على ألسنة الرسل، فطلب من هذه الأمة الوفاء بما عهد إليها فقال: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (الأنعام: من الآية152) فالوفاء بما تقدم وبكل عهد بين العبد وربه مطلوب شرعاً، وهذا معلوم لكل من استخدم ما آتاه الله من عقل، وفطرة سليمة، والوفاء بالعهد يشمل أيضاً ما يعاهد الناس عليه بعضهم الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 27 الأحكام 1- وجوب الوفاء بجميع العهود والمواثيق الشرعية وما يوافقها. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 29 الوصية العاشرة المناسبة ... الوصية العاشرة قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) . المناسبة: بعد سياق ما تقدم وتوجيه المسلم إلى العمل بما جاء من الأوامر، وترك ما نهى الله عز وجل عنه، وحصل بذلك البيان الشافي، والإرشاد الكافي، من خلال تلك الوصايا، واتضح طريق الحق، ناسب ختم ذلك بالإشارة إلى أن تلك المجموعة من الأوامر، والنواهي، تلك الوصايا العظيمة تمثل صراط الله المستقيم، الذي يوصل سالكه إلى جنة الله ورضوانه، وأن من فرط في شيء منها فعلاً أو تركاً، فقد تنكب صراط الله، وابتعد عنه، واتجه نحو هوة سحيقة تهوي به في نار جهنم، فليتق الله كل مسلم، ولينظر في الأمر، فما بعد الحق إلا الضلال. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 30 البحث اللغوي : أ- في النحو: (مستقيماً) نصب على الحال1. (فتفرق بكم) نصب بإضمار (إن) بعد الفاء في جواب النهي2. والأصل (فتتفرق) فحذفت إحدى التاءين، والباء للتعدية، أي فتفرقكم حسب تفرقها- وهذا أبلغ من تفرقكم، كما قيل: من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه3.   1 الفتوحات 2/ 110. 2 الفتوحات 2/ 110. 3 الإرشاد 3/ 200. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 30 القراءات : قال الرازي: "قرأ ابن عامر {وأنْ هذا} بفتح الألف وسكون النون. وقرأ حمزة والكسائي (وإِنَّ) بكسر الألف وتشديد النون". الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 31 الإيضاح لما أوضح تبارك وتعالى فيما مضى من الآيات ما وصى به عباده ذكر سبحانه وتعالى في نهاية هذه الوصايا قولا أجمل فيه ما تقدم تفصيله، فقوله جل ذكره: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} (الأنعام: من الآية153) يدخل فيه كل ما أمر الله به ونهى عنه، فالشريعة جملة وتفصيلا هي صراط الله المستقيم، ومن المعلوم أن ما تقدم من الوصايا جملة من الأوامر والنواهي تدخل تحت هذا العموم؛ الذي يتناول كل ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الدعوة إلى الحق، وبيان دين الإسلام، فهو بدون شك المنهج القويم، وصراط الله المستقيم، الذي كلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الإنس والجن إلى اتباعه، والعمل به جملة وتفصيلا، ونهاهم عن العدول عنه، فمن عدل عنه وقع في الضلالات، وأحاطت به المهلكات، ومما تجدر الإشارة إليه هنا التنبيه على الإضافة في قوله: صراطي هل الصراط مضافا إلى الله عز وجل، أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. نقول جوابا عن هذا التساؤل: يجوز الأمران فإن كانت الإضافة إلى الرب عز وجل فباعتباره الشارع سبحانه وتعالى فهو الآمر الكريم، والناهي الحكيم. وإن كانت الإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فباعتباره سالك المنهج القويم، الداعي إلى النعيم المقيم وهذا ما قرره العلماء وقالوا: "قد يضاف إلى الدعاة إليه والسالكين له من النبيين1 وغيرهم كما في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 2. وعلى هذا فيكون المعنى ومما أتلو عليكم من وصايا رب العزة والجلال أن تعلموا أن القرآن الذي أدعوكم إلى العمل به والدعوة إليه وأن ما تضمن من أوامر ونواهي هو الطريق القويم الذي يصل سالكه إلى مرضاة الله وأن ذلك المنهج الذي أسير عليه، فهو الشرع النقي، والمورد العذب، والمشرب السائغ، ومما أتلو عليكم أن تعلموا أن ما أوصاكم الله به في هذه السورة العظيمة ما هو إلا جملة من الأوامر والنواهي التي ضمها كتاب الله العظيم الواجب عليكم العمل بما فيه جملة وتفصيلا، إن هذا القرآن الذي آمركم به وأدعوكم إليه فيه حياتكم، وبه رقيكم، وهو سفينة نجاتكم، فمن أحل حلاله، وحرم حرامه، وعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه فقد سلك صراط الله المستقيم المنتهي بسالكه إلى مرضاة الله عز وجل، إنه سبيل ظاهر الاستقامة، لا   1 الألوسي 5/50. 2 الآية 7 من الفاتحة. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 33 خاتمة البحث أقول: إن الإسلام جاء منقذا للبشرية، فأذاب الفوارق، وركز على الحقوق والواجبات، وبناء المجتمع النقي المترابط، وجعل لذلك البناء نظاماً دقيقاً، ومنهجاً أوضح من الشمس، وأمده بمصدرين الكتاب والسنة، وجعلهما معينين لا ينضبان على مر الدهر وتعاقب الأزمان، فلما تلقاهما الدارسون على يدي نبي الهدى والرحمة برغبة صادقة، وحب مكين نالوا من فهمهما الحظ الوافر، وطبقوا ما فهموا في أعمال مخلصة، كان عصرهم تاريخا مجيدا للمجتمع الإسلامي الصحيح، الذي بنيت أسس حضارته الرفيعة على أنبل القيم، وأثبت المبادئ، فقام على ذلك نظام الحكم المثالي، وتجلت الحياة الإنسانية في أبهى صورها، وقامت الدولة الإسلامية على أمثل الأساليب، وكان المجتمع الإسلامي يصدّر الحضارة الراقية والمثل السامية إلى أمم الجهل والتخلف، وكان الهدف من ذلك التصدير إسعاد البشرية جماعة وفرادى في الدنيا والآخرة، وأصبحت الحضارة الإسلامية بشتى مجالاتها تنادي بما فيه فلاح الإنسانية قاطبة في الحال والمآل. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 44 مصادر ومراجع ... المصادر والمراجع المصحف الشريف. إتحاف ذوي الرسول/ حماد بن محمد الأنصاري/ ط. الأولى 1406 هـ/ مكتبة المعلا بالكويت. أحكام القرآن / أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي 543هـ/ تحقيق البجاوي/ دار المعرفة. إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم/ أبو السعود محمد بن محمد العمادي 651هـ/ دار إحياء التراث. أسد الغابة في معرفة الصحابة/ أبو الحسن علي بن أبي الكرم ابن لأثير/ طهران. أسباب نزول القرآن / أبو الحسن علي بن الواحدي 487 هـ/ ط. الثانية 1404هـ/ دار القبلة. الإصابة في تمييز الصحابة/ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 852 هـ/ ط. الأولى 1396 هـ/ مكتبة الكليات االأزهرية. البحر المحيط/ محمد بن يوسف أبو حيان 754 هـ/ ط. الثانية 1403 هـ/ دار الكتب بيروت. البداية والنهاية/ إسماعيل بن كثير الدمشقي 774 هـ/ ط. الثالثة 1978 م/ مكتبة المعارف بيروت. تاريخ ابن معين (تحقيق د. أحمد نور سيف) / يحيى بن معين 233 هـ/ ط. الأولى 1399 هـ/ مركز البحث العلمي. تاريخ بغداد/ الخطيب البغدادي 463 هـ/ دار الكتاب العربي. تاريخ الدارمي (تحقيق د. أحمد نور سيف) / سعبد بن عثمان الدارمي 280 هـ/ ط 14000 هـ/ مركز البحث العلمي بمكة. التاريخ الكبير/ محمد بن إسماعيل البخاري 236 هـ/ المكتبة الإسلامية. التبيين لأسماء المدلسين/ سبط بن العجمي/ ط. الأولى 1406 هـ/ دار الكتب العلمية. تحفة الأحوذي/ محمد بن عبد الرحمن المباكفوري/ المكتبة السلفية بالمدينة. ترتيب القاموس المحيط/ الطاهر أحمد الزاوي/ ط. الثانية 1378 هـ/ عيسى الحلبي. تفسير القرآن العظيم/ إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي 741هـ/ ط. الثالثة 1376 هـ/ المكتبة التجارية. تفسير القرآن الحكيم (المنار) / محمد رشيد رضا/ ط. الثانية/ دار المعرفة. التفسير الكبير/ فخر الدين محمد بن ضباء الدين عمر الرازي 604 هـ/ ط. الثالثة 405 اهـ/ دار الفكر. التسهيل لعلوم التنزيل/ محمد بن أحمد بن جزي الكلبي 741 هـ/ ط. الثانية 393 اهـ/ دار الكتاب العربي. تقريب التهذيب/ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 852هـ/ ط. الأولى 1393 هـ/ دار الكتب باكستان. تلخيص الذهبي للمستدرك/ محمد بن أحمد الذهبي 748 هـ/ مكتب المطبوعات. تهذيب التهذيب/ أحمد بن علي بن حجر 852 هـ/ ط. الأولى 1325 هـ/ دائرة المعارف. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 46 تيسير العزيز الحميد/ سليمان بن عبد الله بن محمد 233 هـ/ ط. الثانية 1390هـ/ المكتب الإسلامي. التيسير في أحاديث التفسير/ محمد المكي الناصري/ ط. الأولى 1405 هـ/ دار الغرب الإسلامي. الثقات/ محمد بن حبان التميمي 354 هـ/ ط. الأولى 1393 هـ/ دائرة المعارف. جامع البيان في تفسير القرآن/ محمد بن جرير الطبري 310 هـ/ ط. الأولى 1323 هـ/ دار المعرفة. الجامع الصحيح (سنن الترمذي) / محمد بن عيسى الترمذي 279 هـ/ ط. الثانية 398 اهـ/ مصطفى البابي الحلبي. الجامع لأحكام القرآن/ محمد بن أحمد القرطبي 671هـ/ ط 0 387 1 هـ/ دار الكتاب العربي بالقاهرة. الجرح والتعديل/ عبد الرحمن بن أبي حاتم 327 هـ/ ط. الأولى 271 1 هـ/ مجلس دائرة المعارف. حلية الأولياء/ أحمد بن عبد الله الأصبهاني 0 43 هـ/ ط. الثانية 387 1 هـ/ دار الكتاب العربي. دفع إيهام الاضطراب/ محمد الأمين الجكني الشنقيطي/ ط. 1386 هـ/ مطبعة المدني. الدر المنثور/ جلال الدين السيوطي 911 هـ/ دار المعرفة. الذخيرة/ علاء الدين بن علي الطوسي 887 هـ/ ط. الأولى/ دائرة المعارف. روح المعاني/ محمود الألوسي 1275 هـ/ دائرة إحياء التراث.. زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي 597 هـ/ ط. الأولى 1384 هـ/ المكتب الإسلامي. سنن أبي داود/ سليمان بن الأشعث 275 هـ/ ط. الأولى 88 13 هـ/ محمد علي السيد. سنن ابن ماجة/ محمد بن يزيد القزويني 275 هـ/ ط. محمد فؤاد/ عيسى الحلبي. سنن الدارمي/ محمد بن عبد الرحمن الدارمي 255 هـ/ ط 13860 هـ/ عبد الله هاشم. سنن سعيد بن منصور/ سعيد بن منصور الخراساني 227 هـ/ ط. الأولى1405 هـ/ دار الكتب العلمية. سنن النسائي/ أحمد بن شعيب الأزدي 303 هـ/ ط. الأولى 1406 هـ/ مكتب المطبوعات. السنن الكبرى/ أحمد بن الحس!! ن البيهقي 458 هـ/ ط. الأولى 1344 هـ/ مجلس دائرة المعارف. سيرة النبي صلى الله عليه وسلم (سيرة ابن هشام) / عبد الملك بن هشام 218 هـ/ ط. 1383هـ/ مكتبة محمد علي صبيح. شرح النووي على مسلم/ يحيى بن شرف الدين النووي 676 هـ/ مطبعة الشعب. صحيح البخاري/ محمد بن إسماعيل البخاري 256 هـ/ ترتيب محمد فؤاد 1380 هـ/ السلفية. صحيح الجامع الصغير/ محمد ناصر الدين الألباني/ ط. الثالثة 1402 هـ/ المكتب الإسلامي. صحيح مسلم/ محمد بن الحجاج القشيري 261هـ/ ط. الأولى 1374 هـ/ عيسى الحلبي. الصحاح في اللغة والعلوم/ للجوهري/ ط. الأولى 1974 م/ دار الحضارة. الطبقات الكبرى/ محمد بن سعد بن منيع الهاشمي 230 هـ/ ط 13850 هـ/ دار صادر. عمدة التفسير/ إسماعيل بن كثير 774 هـ/ تحقيق أحمد شاكر. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 47 فتح القدير/ محمد بن علي الشوكاني 1250 هـ/ ط. الثانية 1383 هـ/ مصطفى البابي الحلبي. فتح الباري/ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 852 هـ/ ط. 1380هـ/ السلفية. الفتوحات الإلهية/ سليمان بن عمر العجلي 1204 هـ/ عيسى البابي الحلبي. في ظلال القرآن/ سيد قطب/ ط. السابعة 391 اهـ/ دار إحياء التراث. الكشاف عن حقائق التنزيل/ محمود بن عمر الزمخشري 538 هـ/ ط. الأولى 1397 هـ/ دار الفكر. لسان العرب/ محمد بن مكرم بن منظور 711 هـ/ دار صادر. مجمع الزوائد/ علي بن أبي بكر الهيثمي 857 هـ/ ط. الثالثة 1402 هـ/ دار الكتاب العربي. محاسن التأويل/ محمد جمال الدين القاسمي 332 1 هـ/ ط. الثانية 398 1 هـ/ دار الفكر. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ عبد الحق بن غالب بن عطية 546 هـ/ المجلس العلمي بفاس. المحلى/ علي بن أحمد بن حزم 456 هـ/ ط. الثانية 1395 هـ/ المكتب التجاري. المستدرك على الصحيحين/ محمد بن عبد الله الحاكم 405 هـ/ مكتب المطبوعات. المسند/ أحمد بن حنبل الشيباني 241 هـ/ المكتب الإسلامي. مسند أبي يعلى الموصلي/ أحمد بن علي بن المثنى 357 هـ/ ط. الأولى 1404 هـ/ دار المأمون. المصنف/ عبد الرزاق بن همام الصنعاني 211 هـ/ ط. الأولى 1390 هـ/ المجلس العلمي. المصنف في الأحاديث والآثار/ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة 235 هـ/ الدار السلفية بالهند. معالم السنن/ حمد بن محمد الخطابي 388 هـ/ ط. الأولى 1388 هـ مع سنن أبى داود. المغني/ محمد بن أحمد بن قدامة / ط. 1388هـ/ مكتبة القاهرة. مفردات غريب القرآن/ الحسين بن محمد الراغب 502 هـ/ تحقيق الكيلاني/ دار المعرفة. الملل والنحل/ علي بن أحمد بن حزم/ ط. الثانية 1395 هـ/ دار المعرفة. الموطأ/ مالك بن أنس 179 هـ/ ترتيب محمد فؤاد/ دار إحياء التراث. ميزان الاعتدال/ محمد بن أحمد الذهبي 748 هـ/ ط. الأولى 1382 هـ/ عيسى البابي الحلبى. النفاق والزندقة/ د. عطية بن عتيق الزهراني/ رسالة ماجستير (لم تطبع) . النكت والعيون/ علي بن حبيب الماوردي 455 هـ/ تحقيق خضر محمد خضر/ وزارة الأوقاف بالكويت. النهاية في غريب الحديث/ المبارك بن محمد الجزري 606هـ/ ط. الأولى 1383 هـ/ عيسى البابي الحلبي. نيل الأوطار/ محمد بن علي الشوكاني 1250 هـ/ مصطفى البابي الحلبي. المراجع جريدة الشرق الأوسط. مجلة الجامعة الإسلامية. الجزء: 71 - 72 ¦ الصفحة: 48