الكتاب: أوائل المؤلفين في السيرة النبوية المؤلف: عبد الشافى محمد عبد اللطيف الناشر: - الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- أوائل المؤلفين في السيرة النبوية عبد الشافى محمد عبد اللطيف الكتاب: أوائل المؤلفين في السيرة النبوية المؤلف: عبد الشافى محمد عبد اللطيف الناشر: - الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة : النبي محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- هو صفوة الله من خلقه، بل هو صفوة الصفوة، فالأنبياء -عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام- هم المصطفون الأخيار، وهو إمامهم وخاتمهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم" 1. فهو حامل الرسالة العالمية الخاتمة لجميع الرسالات، وهو اللبنة الأخيرة في صرح عقيدة التوحيد. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟! قال: فأنا اللبنة" 2 وفي رواية أخرى: "وأنا خاتم النبيين". ولقد وصف الله تعالى عددًا من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ببعض الصفات، فقد وصف أبا الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} 3. وقال عن   1 مسند الإمام أحمد بن حنبل جـ1 ص5. 2 ابن حجر العسقلاني. فتح الباري شرح صحيح البخاري. جـ6 ص158. 3 مريم: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} 1. وفي سورة الأنبياء يصف إسحاق ويعقوب بالصلاح والخيرية فيقول سبحانه وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} 2. ويصف لوطًا وداود وسليمان بالعلم والحكمة؛ فيقول: {وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} 3 ويقول سبحانه وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 4. ويصف إسماعيل وإدريس وذا الكفل بالصبر فيقول: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} 5. وهكذا نرى الله تعالى يصف بعض أنبيائه ببعض الصفات النبيلة، لكنه في ختام السورة عندما يصف محمدًا -عليه الصلاة والسلام- فإنه لا يصفه بصفة جزئية وإنما يجعله كله هداية إلهية   1 مريم: 54. 2 الأنبياء: 72-73. 3 الأنبياء: 74. 4 الأنبياء: 79. 5 الأنبياء: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 إلى العالم، ورحمة لهذه الإنسانية1. فيقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2. وفي موضع آخر يصفه بالصفة الجامعة لكل خصال الخير وجميع الفضائل الإنسانية، فيقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 3. والخلق العظيم هو جوهر رسالته صلى الله عليه وسلم, فهو القائل: "بعثت لأتمم حسن الأخلاق"4 ولقد عاش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخلاقيًّا من طفولته إلى أن لقي ربه، فقد كان قومه ينادونه بصفة نادرة في ذلك الزمان وقبل أن يبعث؛ فقد نادوه وعرف بينهم بـ"الصادق الأمين". وعظمة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- ليست في أنه يمتاز بمجموعة من الأخلاق الإنسانية العالية فحسب، فهو الأمين إذا ذُكرت الأمانة، وهو الصادق إذا ذكر الصدق، وهو الوفي الكريم، الزاهد، الشجاع، المتواضع، الرحيم, البار، الحكيم، الفصيح، البليغ, العابد، كان الرسول هذا كله وكان فوق هذا، فكانت أخلاقه فوق الصعاب وفوق كل الظروف والتقلبات التي تأتي بها الأيام، لقد كان قادرًا على أن   1 انظر في ذلك: البحث القيم الذي كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس بعنوان شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كتاب: الجزيرة العربية في عهد الرسول والخلفاء الراشدين" جـ1 ص63 إلى ص93. وهو مرجعنا الأساسي في تلك المقدمة. 2 الأنبياء: 107. 3 القلم: 4. 4 مسند الإمام أحمد بن حنبل حـ2 ص 281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 يلتزم الموقف الأخلاقي المناسب، مهما تكن اللحظة التاريخية حرجة وحاسمة، إنه نبي يشرع بسلوكه, وينطلق من منهج واضح, وليس من رد فعل؛ تمليه أو تفرضه أية ضغوط أو ظروف1. "لقد تحدث بعض الكتاب معددًا الخوارق التي صاحبت الدعوة المحمدية فقال: "إن من أعظم الخوارق التي لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أخلاقه، فكانت في ذاتها أمرًا خارقًا للعادة بين بني الإنسان، فهي أعلى من أخلاق الملائكة؛ لأن الملائكة حسنت أخلاقهم بمقتضى كونهم، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ... فمحمد بين الناس الإنسانُ الذي تتجلى فيه الإنسانية الكاملة2. وقد كانت صفحة حياته -عليه الصلاة والسلام- كما نقلت إلينا بكل دقة وتوثيق -أخلاقية إنسانية بلغت من السمو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ، وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه الله أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق العمل الصالح، وأي سمو في الحياة كهذا السمو الذي جعل حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل الرسول مضرب المثل في الصدق, والكرامة, والأمانة، كما كانت بعد الرسالة كلها التضحية في سبيل الله وفي سبيل الحق الذي بعثه الله به، تضحية استهدفت حياته من جرائها للموت مرات، فلم يصده عنه أن أغراه   1 د. عبد الحليم عويس المرجع السابق ص73. 2 الشيخ محمد أبو زهرة -خاتم النبيين ج1 ص242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 قومه -وهو في الذروة منهم حسبًا ونسبًا- بالمال والملك وكل المغريات"1. والغريب أن هذه الإنسانية الأخلاقية قد طبقت على هذا النحو الخارق للعادة في أروع صور البساطة واليسر، فبدت -مع سموها- وكأن البساطة وعدم التقعر أو التكلف نسيجها الذي يجمع بين خيوطها المترابطة2. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا من لعنة تذكر، ولا انتقم لنفسه شيئًا يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن يضرب في سبيل الله، ولا سئل شيئًا قط فمنعه إلا أن يسأل مأثمًا، فإنه كان أبعد الناس عنه. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه" 3. "إن هذا النبي كان له -كما يقول كاتب نصراني- في مجال الأخلاق شئون وشئون، فبالرغم من مهامه الجسام وانشغالاته الكثيرة المتنوعة، وبالرغم من الغزوات والسرايا والحروب،   1 محمد حسين هيكل -حياة محمد ص583. 2 انظر د. عبد الحليم عويس -المرجع السابق ص74. 3 صحيح البخاري ج2 ص273. طبعة دار إحياء التراث العربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 واضطلاعه بجميع المسئوليات وحده دون سواه، فلقد وجد الوقت الكافي ليلقي على المؤمنين -بأقواله وأفعاله- دروسًا في شئون لا تمر ببال مسئول كبير في مثل مستواه وخطورته ... فذلك العظيم الذي كان يحاول تغيير التاريخ، ويعد شعبًا يفتح الدنيا من أجل الله، ذلك الرجل وجد الوقت الكافي ليلقي على الناس دروسًا في آداب المجتمع وفي أصول المجالسة وكيفية إلقاء السلام، لكأنه معلم حصر مهمته في تثقيف بضعة وعشرين تلميذًا، ولم يكن له مهمة سواها"1. ولقد نجح محمد -صلى الله عليه وسلم- نجاحًا باهرًا في كل عمل اضطلع به, من أكبر عمل -وهو تبليغ الرسالة- إلى أصغر عمل قام به2. فالتاريخ قد عرَّفنا برجال حملوا رسالات سماوية وأدوها بنجاح، ورجال بنوا أممًا، ورجال آخرين أسسوا دولًا، لكن التاريخ لم يحدثنا عن رجل جاء برسالة سماوية من عند الله تعالى، ثم بنى أمة ثم أسس دولة، ونجح في كل ذلك وفي حياته وقبل موته سوى النبي العربي محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم. ولهذا جعله مايكل هارت على رأس قائمة الخالدين المائة من أبناء آدم وعلل ذلك حسب منهجه العلمي ومقاييس العظمة عنده، بأن   1 المرجع السابق ص74 نقلا عن الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص367. 2 نصرى سلهب -في خطى محمد ص366-367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى، وبرز في كلا المستويين: الديني, والدنيوي، وأنه أسس ونشر أحد أعظم الأديان في العالم، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام. "وأنه بعد مرور أربعة عشر قرنًا لا زال تأثيره قويًّا ومتجددًا"1. وبالقياس نفسه يشهد لمحمد -صلى الله عليه وسلم- المؤرخ العالمي الشهير ول ديورانت فيقول: "وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا: إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو ولهيب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لا يدانيه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله. وقلَّ أن نجد إنسانًا غيره حقق كل ما كان يحلم به، وقد وصل إلى ما كان يبتغيه عن طريق الدين، ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى, بل لأنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين, تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلكوه، فقد لجأ إلى خيالهم وإلى مخاوفهم وآمالهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، وكانت بلادُ العرب لما بدأ الدعوة صحراءَ جدباءَ، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان، قليل عددها متفرقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمة   1 انظر: الخالدون مائة. تأليف مايكل هارت, ترجمة: أمين منصور ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 موحدة متماسكة، وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية, والمسيحية, ودين بلاده القديم, دينًا سهلًا واضحًا قويًّا، وصرحًا خلقيًّا قوامه البساطة والعزة، واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم"1. بعد كل ما تقدم، وهو قليل من كثير من شخصية الرسول الخاتم محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- ليس عجبًا أن تكون تلك الشخصية محور اهتمام كل الناس: مسلمين, وغير مسلمين, على مدى تاريخه كله وأظن أن هذا الاهتمام سيستمر ما استمرت الحياة، ولن يبلغ الكتاب والمؤلفون مهما كتبوا وألفوا جوانب العظمة في شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وليس هناك أبلغ -في هذا المجال- من الكلمة التي قدم بها فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر الأسبق، كتابَ حياة محمد للأستاذ الدكتور محمد حسين هيكل حيث قال: "منذ وجد الإنسان على الأرض، وهو مشوق إلى تعرف ما في الكون المحيط به من سنن وخصائص، وكلما أمعن في المعرفة ظهرت له عظمة الكون أكثر من ذي قبل، وظهر ضعفه وتضاءل غروره.   1 د. عبد الحليم عويس المرجع السابق ص89 نقلا عن قصة الحضارة ج2 ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ونبي الإسلام -صلوات الله عليه وسلامه- شبيه بالوجود، فقد جد العلماء منذ أشرقت الأرض بنوره يلتمسون نواحي العظمة الإنسانية فيه، ويلتمسون مظاهر أسماء الله -جلت قدرته- في عقله وخلقه وعلمه، ومع أنهم استطاعوا الوصول إلى شيء من المعرفة، فقد فاتهم حتى الآن كمال المعرفة. وأمامهم جهاد طويل وبعد شاسع وطريق لا نهاية له"1. ونَدُرَ أن نجد في التاريخ البشري رجلًا عرفت حياته -الخاصة والعامة- بكل تفاصيلها ودقائقها كما عرفت ودرست حياة النبي محمد -عليه الصلاة والسلام. "فحتى قضاؤه لوطره، واغتساله بعده، وطريقة غسله، ونومه، وطريقة قضائه لحاجته واغتساله منها، كل ذلك نقله إلينا التاريخ، بطريقة موثقة، ندر أن توثق بها نصوص في التاريخ"2. يقول المستشرق مونتييه في وصف وضوح حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ولقد ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثل محمد، وإن ما قام به من إصلاح الأخلاق، وتطهير المجتمع يمكن أن يعد به من أعظم المحسنين للإنسانية"3.   1 ص ط من تقديم الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي لكتاب حياة محمد. 2 د. عبد الحليم عويس - المرجع السابق ص67. 3 المرجع السابق ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 دوافع المسلمين للاهتمام بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مدخل ... دوافع المسلمين للاهتمام بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم: ليس هناك شخصية تاريخة لقيت من اهتمام الدارسين والباحثين قديمًا وحديثًا كما لقيت شخصية الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- وليس هناك أمة اعتنت بتاريخ وحياة نبيها -بكل تفاصيله ودقائقه- كما اعتنت الأمة الإسلامية، وذلك لسببين رئيسين: الأول: أن هذه الحياة حياة مثالية في جميع جوانبها ومستوياتها ودراستها متعة روحية وذهنية؛ لأن الإنسان يبحث دائمًا عن المثل الأعلى والقدوة الحسنة، لعل الله يهديه إلى أقوم طريق وأفضل سلوك، وليس هناك حياة وسيرة يمكن أن يتعلم منها الناس أعظم من حياة وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصدق الله تعالى إذ جعلنا؛ بل يأمرنا بالاقتداء به, فيقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1. الثاني: أن الجانب الأعظم من حياة وسيرة الرسول ترجع للأمة ومن ثم كانت عنايتها بأحاديثه وأفعاله ومغازيه وأيامه، وتكاد تكون كل كلمة تلفظ بها الرسول، وكل حركة وكل فعل مرصودة من المسلمين، ويحفظونها عن ظهر قلب، ومدونة في صدورهم قبل أن تدون في الكتب عند بدء حركة التدوين مع نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني.   1 الأحزاب: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بداية التأليف في السيرة النبوية : من سنن الله الكونية أن كل شيء يخضع للتدرج في النشأة والتكوين، يتساوى في ذلك الإنسان والحيوان والأفكار والعلوم والفنون، فلا شيء يخلق كاملًا، أو ينشأ ناضجًا مستوي التكوين، وإنما يمر بمراحل زمنية متتابعة، حتى يصل إلى نضجه واستوائه وكماله، وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم تشذ عن تلك القاعدة ولم تخرج عن ذلك الناموس، فنحن نعلم أن سيرة الرسول لم تدون في حياته، أعني: أنه لم يكن من بين الكتَّاب الذين كانوا يكتبون للرسول -صلى الله عليه وسلم- الوحي وغيره -وهم كثيرون- مَن تخصص في تسجيل أحداث حياته صلى الله عليه وسلم؛ الخاصة والعامة، واستمر الحال على ذلك طوال خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة 11-40هـ ويبدو أنه كان لذلك أسباب كثيرة من أهمها أن الرجال الذين عاصروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهم صحابته -رضوان الله عليهم جميعًا- لم يكونوا في حاجة إلى تسجيل تلك الأحداث، فهم قد عايشوها وانفعلوا بها وتفاعلوا معها بدرجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الرسالات والدعوات الدينية فكل مشهد منطبع في ذاكرتهم، وكل كلمة نطق بها الرسول حفظوها، وكل عمل من أعماله معروف لديهم تمام المعرفة وبكل التفاصيل، هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 مع ما امتازوا به من قوة الحافظة وسرعة البديهة. لم تكن الحاجة إذن تدعو لتدوين أحداث حياة الرسول وسيرته لاستغنائهم بالمشاهدة والحفظ ولانشغالهم بالغزوات والفتوحات, غير أنه لم يكد جيل الصحابة -وهم شهود وحفاظ السيرة- يختفي حتى ظهرت الحاجة إلى تدوين وتسجيل السيرة النبوية، والتأريخ للعهد النبوي, فجيل التابعين -وهم الذين رأوا الصحابة وعاصروهم وتعلموا منهم- لم يروا بأنفسهم الأعمال الرائعة والجهاد المجيد الذي قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجل الرسالة الإسلامية وتبليغها للناس، ولكنهم سمعوا عن ذلك من الصحابة، فبهرتهم الأعمال والمواقف والأخلاق, فتاقت نفوسهم لمعرفة كل شيء بالتفصيل، ولم يفوِّتوا الفرصة، بل عضوا عليها بالنواجذ، وأخذوا يسألون الصحابة الذين صحبوا الرسول وضحوا معه، وشهدوا جميع مشاهده ومواقعه، ومن الأسئلة التي كانوا يسألونها -على سبيل المثال- متى وكيف كانت بيعة العقبة؟ متى كانت الهجرة إلى الحبشة؟ وكم عدد الذين هاجروا في الأولى والثانية؟ ومتى عادوا؟ وكيف كانت غزوة بدر؟ ومن الذين شهدوها؟ هذه الأسئلة وأمثالها كانت تلقى على الصحابة ويجيبون عنها، وأسلوب السؤال والجواب -كما هو معروف- من أهم روافد العلم، خصوصًا في مراحل النشأة والتكوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 بل إن القرآن الكريم حافل باستخدام أسلوب السؤال والجواب حتى في مجال العقيدة وإثباتها، وإقامة الحجة على الكافرين الجاحدين، مثل قول الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 1. وكان من الطبيعي أن تكون المدينة المنورة، هي أصلح بيئة للإجابة عن كل ما يتعلق بحياة الرسول وسيرته من حيث عاش معظم الصحابة الذين عايشوا أحداث الإسلام الكبرى في عهد الرسول، ونقلوها للتابعين، الذين لم يكتفوا بالتلقي والحفظ، بل بدأوا تدوين الوقائع والأحداث كما سمعوها من الذين شاهدوها، وكانت تلك لحظة البداية، بداية التأليف في السيرة النبوية. واتسعت دائرة السؤال والجواب، ولم تعد قاصرة على المدينة وحدها، بل سارع الناس في خطى الصحابة في كل مصرٍ حلوا به، مثل: البصرة والكوفة ودمشق والفسطاط ... إلخ. ومن حسن الحظ أن من كبار التابعين الذين بدأوا التدوين في السيرة النبوية، وأصبحوا مصدرًا رئيسًا من مصادرها كانوا من أبناء كبار الصحابة الذين أخذوا العلم عن آبائهم الكرام، وهم الذين   1 المؤمنون: 84- 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 رأوا كل شيء وشاركوا بأنفسهم، بل كان من أوائل علماء السيرة من هم على صلة قريبة ووثيقة ببيت النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل: عروة بن الزبير بن العوام، فأمه أسماء بنت الصديق -رضي الله عنهما- وخالته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فتتلمذ عليها ونقل عنها أخبارًا كثيرة عن حياة النبي وسيرته, وقد قسم العلماء كتَّاب السيرة النبوية والمؤلفين فيها إلى طبقات، والطبقة في اصطلاح المحدثين، هم جماعة تقاربوا في السن، واجتمعوا في لقاء الشيوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 طبقات كتَّاب السيرة: رجال الطبقة الأولى من كتَّاب المغازي والسير: 1- أبان بن عثمان : هو ابن الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ولد في المدينة المنورة حوالي سنة عشرين للهجرة، وتوفي فيها في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان 101- 105 على أرجح الأقوال، وقد نشأ أبان في كنف أبيه، الخليفة الراشد، أحد السابقين إلى الإسلام والمبشرين بالجنة والذي كانت تستحيي منه الملائكة كما أخبر الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- فهو من كبار الصحابة وفضلائهم، وبيته من أصلح وأطهر البيوت، في أصلح وأطهر بيئة على وجه الأرض في ذلك الزمان، وهي بيئة المدينة المنورة، في هذا الجو وتلك البيئة وذلك البيت -حيث الصلاح والتقى- نشأ أبان وتعلم، حتى أصبح من كبار فقهاء المدينة المعدودين والمشهورين. ومن أعلام رواة الحديث الشريف. فقد روى عن أبيه -رضي الله عنه- وغيره من كبار الصحابة. كما تتلمذ على يديه كثيرون من كبار المحدثين والفقهاء، أمثال محمد بن مسلم بن شهاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الزهري، أستاذ إمام المؤلفين في السيرة النبوية وعمدتهم، محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي. ولقد اشتهر أبان بن عثمان بالمغازي والسير -فوق شهرته في الفقه والحديث- حتى أصبح من أساتذة هذا الفن الحائزين على ثقة العلماء، فقد قال ابن سعد في الطبقات، وهو يترجم للمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، قال عنه: "كان ثقة قليل الحديث، إلا مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذها عن أبان بن عثمان"1. فهذا الخبر على وجازته يؤكد أستاذية أبان بن عثمان في المغازي والسير، فقد كان الحديث والمغازي والسير من أحب الأشياء إلى أهل المدينة، ولعل ابتعاد أبان عن الاشتغال بالسياسة -باستثناء الفترة التي عمل فيها واليًا على المدينة من سنة 75 إلى سنة 83هـ -في خلافة عبد الملك بن مروان- أقول: لعل ابتعاده عن السياسة -وقد عمر طويلًا حيث نيف على الثمانين عامًا- قلته من التفرغ للعلم، درسًا تدريسًا، وإذا كانت مؤلفاته قد ضاعت -فما ضاع أو تلف من تراث الإسلام. ولم تصل أبدًا، فقد بقيت لنا -من حسن الحظ- رواياته وآراؤه في المصادر التي وصلتنا بروايات تلاميذه.   1 انظر الطبقات الكبرى لابن سعد جـ5 ص179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 2- عروة بن الزبير : هو الرجل الثاني من رجال الطبقة الأولى من كتَّاب المغازي والسير، وأبوه الزبير بن العوام بن خويلد، أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، وأحد المبشرين بالجنة، وهو حواري الرسول -صلى الله عليه وسلم- وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وخديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- عمته، أي عمة الزبير بن العوام، أما أم عروة فهي ذات النطاقين السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- وخالته عائشة أم المؤمنين، وأحب أزواج النبي إليه، وقد ولد عروة في المدينة المنورة، حوالي سنة 26هـ، على أرجح الأقوال، لأنه كان صغير السن عندما حدثت موقعة الجمل سنة 36هـ، ولم يشهدها فقد قال هو في نفسه: "رُددت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، يوم الجمل، استصغرونا". فالبيت الذي نشأ فيه عروة ركناه: أبوه الزبير بن العوام، حواري الرسول, وأمه ذات النطاقين، أسماء بنت الصديق، أما أستاذته الكبرى ومعلمته فهي خالته، السيدة عائشة أم المؤمنين، التي كان كثير التردد عليها، والمداومة على زيارتها والتعلم منها والحديث إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وإذا كان عروة قد شهد -وهو صبي في العاشرة من عمره تقريبًا- الفتنة الكبرى التي حلت بالمسلمين وزلزلت كيانهم، في الشطر الثاني من خلافة عثمان بن عفان سنة 30- 35هـ -والتي استغرقت عهد علي بن أبي طالب كله 35-40هـ, فإن الله سبحانه وتعالى قد تدارك الأمة الإسلامية برحمته، ووحد كلمتها في عام 41هـ وهو العام الذي سماه المسلمون عام الجماعة -بعد الفتنة والفرقة- حينما تنازل الحسن بن علي -رضي الله عنهما- عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- إيثارًا لمصلحة الأمة، وحقنًا لدماء المسلمين، مصدقًا بذلك نبوءة جده -عليه الصلاة والسلام- حيث قال عنه: "ابني هذا سيد -يقصد الحسن- ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"1. ولقد استفتح معاوية -رضي الله عنه- عهده بالإحسان إلى أهل المدينة بصفة عامة، وإلى الصحابة وأبنائهم بصفة خاصة، وأغدق عليهم من الأموال ما أتاح لهم التفرغ للعلم والتعليم، فزخر مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأعداد هائلة من الفقهاء والمحدثين والمفسرين وأصحاب السير والمغازي, وكان عروة بن الزبير، فارسًا من فرسان هذه الحلقات وأبرز رجالها.   1 صحيح البخاري جـ4 ص216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فتروي المصادر وكتب الطبقات، أنه كان يجتمع كل ليلة، بطريقة تكاد تكون منتظمة في المسجد النبوي، بمجموعة من كبار التابعين ومن رجال الطبقة الأولى منهم، كانت تضم أخاه مصعب بن الزبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وعبد الملك بن مروان، وعبد الرحمن بن مسور، وإبراهيم بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة, وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، ولم تكن هذه الاجتماعات سوى حلقات علمية، يدور الحديث فيها عن العلوم الإسلامية؛ من فقه وتفسير وحديث وسير ومغازٍ، وكما اشتهر عروة بن الزبير بأنه أحد فقهاء المدينة السبعة الكبار -كما هو الحال بالنسبة لأبان بن عثمان -فقد اشتهر بأنه من أكابر علماء السيرة والمغازي، وكان الناس -حتى زملاؤه في الدراسة- يتجهون إليه، ليسألوه ويتعلموا منه السيرة النبوية بصفة خاصة، لقربه من بيت النبي، ولمعرفته أكثر من غيره بما كان يدور في ذلك البيت الكريم عن طريق خالته السيدة عائشة -رضي الله عنها- فعبد الملك بن مروان -الخليفة الأموي المشهور 65- 86هـ مع أنه كان أحد تلاميذ مدرسة المدينة المشهورين ومن فقهائها، وقد لقب بحمامة المسجد؛ لشدة ملازمته مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وانكبابه على حلقات العلم، وهو من زملاء عروة وأصدقائه، إلا أنه كان كثير الرجوع إليه في كل ما يتعلق بأحداث السيرة النبوية، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 عندما شغلته السياسة عن طلب العلم بعد أن أصبح خليفة, ويبدو أن عروة قد ألف كتبًا كثيرة في السيرة وغيرها، فهناك خبر جدير بالتنويه، يرويه ابن سعد1، عن هشام بن عروة أن أباه أَحرقَ يوم الحرة -يقصد يوم وقعة الحرة المشهورة بين ثوار المدينة وجيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان سنة 63هـ- عدة كتب، وقد حزن كثيرًا على فقدها فيما بعد، فهذا الخبر يدل على انتشار الكتابة والتأليف في ذلك الوقت المبكر من عهد المسلمين بالتأليف والتدوين العلمي. وإذا كانت مؤلفات عروة بن الزبير لم تصل إلينا، فقد حفظت لنا المصادر الباقية لدينا، الكثير من المادة العلمية والروايات التي كان مصدرها عروة، ففي سيرة ابن إسحاق ومغازي الواقدي وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري روايات كثيرة عن أحداث سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومغازيه عن عروة بن الزبير، وقد توفي رحمه الله تعالى سنة 94هـ2.   1 الطبقات الكبرى جـ5 ص133. 2 انظر ترجمة عروة في المصدر السابق جـ5 ص 178- 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 3- شرحبيل بن سعد : ثالث الثلاثة في الطبقة الأولى من كتاب السيرة المدنيين، وهو مولى بني خطمة، نشأ في المدينة، وتلقى عن جمع من الصحابة؛ منهم زيد بن ثابت وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم من كبار الصحابة1. وروي عن سفيان بن عيينة أنه لم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه، وبرهن موسى بن عقبة أن شرحبيل دوَّن قوائم بأسماء المهاجرين إلى المدينة، وأسماء الرجال الذين اشتركوا في غزوتي بدر وأحد2. وقد امتد العمر بشرحبيل؛ حيث توفي عام 123هـ.   1 انظر الطبقات الكبرى لابن سعد جـ5 ص310 وفيها ترجمة لشرحبيل بن سعد. 2 انظر كتاب: المغازي الأولى ومؤلفوها. ليوسف هوروفيتش. ترجمة د/ حسين نصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 4- وهب بن منبه : يعتبر وهب بن منبه من رجال الطبقة الأولى من كتاب المغازي والسير وهو من مواليد اليمن، فقد ولد في قرية تسمى زمار بجوار صنعاء حوالي سنة 34هـ. وهو من هذه الناحية -ناحية النشأة والميلاد - يختلف عن الرجال الثلاثة الذين سبق الحديث عنهم، فكلهم مدنيون، نشأوا في مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعنى هذا الاهتمام بالمغازي والسير لم يعد مقصورًا على أهل المدينة وحدهم، بل أصبح الاشتغال بها موضع اهتمام من العلماء في كل الأقطار الإسلامية. ويختلف مؤرخو وهب بن منبه حول نسبه؛ فمنهم من يرى أنه من أصل يهودي، ومنهم من يرى -وهو الأرجح- أنه من أصل فارسي؛ أي من الفرس الذين سكنوا اليمن في فترة السيطرة الفارسية وسموا بالأبناء، ولكن الأهم من هذا كله أنه قد نشأ في أسرة مسلمة، اشتهر معظم رجالها بالعلم، وكانوا أهل ثقة عند العلماء1، وقد تأثر وهب بالجو العلمي الذي كان يحيط به في أسرته، وروى عن طائفة من الصحابة؛ منهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله وغيرهم, وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير، وحديثه في الصحيحين عن أخيه همام بن منبه، وكان ثقة واسع العلم2. ويعتبر من العلماء الموسوعيين، الذين تناولوا موضوعات شتى، فقد كانت له عناية واهتمام بأحاديث أهل الكتاب الذين كثر عددهم في جنوب بلاد العرب، وهو من الثقات المعتمدين خاصة في   1 انظر طبقات ابن سعد ج5، ص543، وتذكرة الحفاظ للذهبي، ج1، ص100 وفيهما ترجمة لوهب. 2 تذكرة الحفاظ، ج1، ص100- 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 قصص الأنبياء1. ويرجح أنه كتب كثيرًا في المغازي والسير، مما جعل العلماء يضعونه بين رجال الطبقة الأولى من علماء هذا الفن. ويوجد في مجموعة البرديات الموجودة في مدينة هيدلبرج في ألمانيا مجلد، يقول عنه بيكر: إنه يرجح أنه يحتوي على قطعة من كتاب المغازي لوهب بن منبه، وتاريخ نسخ هذه القطعة عام 228 هـ، وفيها معلومات عن بيعة العقبة الكبرى، وحديث قريش في دار الندوة -الذي قرروا فيه قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- والاستعداد للهجرة نفسها، ووصول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة2. وهكذا أسهم وهب بن منبه إسهامًا طيبًا في إثراء حركة التأليف في المغازي والسير وعاش حياة علمية ثرية حتى توفاه الله سنة 110هـ.   1 المغازي الأولى ومؤلفوها. مرجع سبق ذكره ص30- 31. 2 انظر المرجع السابق ص34- 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 رجال الطبقة الثانية من كتاب المغازى والسير مدخل ... رجال الطبقة الثانية من كتاب المغازي والسير: لا يعني تقسيم علماء المغازي والسير إلى طبقات؛ أولى وثانية وثالثة.. إلخ، أنه لا تبدأ الطبقة الثانية إلا إذا انتهت الطبقة الأولى؛ لأنه ليس هناك حد زمني فاصل بين هذه الطبقات، فالعلم متصل، وحلقاته ممتدة ومستمرة، وأجيال العلماء متداخلة، وربما يكون الواحد منهم تلميذًا وأستاذًا في نفس الوقت، بل المقصود من هذا التقسيم، تمييز رجال كل مرحلة عن التي سبقتها والتي تلتها. وكلما امتد الزمن اتسعت دائرة العلم وزاد عدد العلماء وتلاميذهم؛ ولذلك سنجد في هذه الطبقة الثانية، حشدًا كبيرًا من علماء المغازي والسير ذوي المكانة العلمية الرفيعة، خاصة في مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم. ويكفي أن نلقي نظرة على سيرة ابن إسحاق -الذي سنخصه بحديث مفصل في هذا الكتيب؛ لتميزه وإمامته في ميدان السيرة النبوية -والتي جاءتنا عن طريق عبد الملك بن هشام برواية زياد بن عبد الله البكائي، ليعرف مدى الحجم الذي وصل إليه عدد العلماء، وكيف كان اهتمام هذا الجيل بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فابن إسحاق يروي مباشرة بطريق المشافهة، عن أكثر من مائة راوٍ من علماء المدينة، وكلهم يروي عنه بقوله: حدثني فلان، أو أخبرني فلان، أو سألت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فلانًا فأخبرني، فبالإضافة إلى أستاذه الأكبر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، نجده يروي عن عدد كبير من العلماء، كثيرون منهم من أسرة واحدة؛ مثل آل الزبير ومواليهم، فهو يروي عن هشام بن عروة بن الزبير، وعن يحيى بن عروة بن الزبير، وعن عمر بن عبد الله بن الزبير، وعن محمد بن جعفر بن الزبير وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، وعن يزيد بن رومان، مولى عروة بن الزبير، وغيره من مواليهم، ورواية ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه، أو عن الزهري عن عروة بن الزبير، لها قيمتها الكبرى من ناحية التوثيق العلمي؛ فهي مرفوعة في أغلب الأحوال إلى السيدة عائشة، أم المؤمنين -رضي الله عنها- وإذا رفعت الرواية عن الثقات، عن سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى السيدة عائشة، كانت هي الصدق بعينه، كذلك يروي ابن إسحاق عن نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، وعن عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري، وعن أبيه إسحاق بن يسار. ورجال هذه الطبقة -الثانية- من علماء المغازي والسير، هم أساتذة محمد ابن إسحاق وشيوخه المباشرون، ولكثرة عددهم؛ فمن الصعب الحديث عنهم كلهم في حيز هذا الكتيب، ولذلك سنقصر الحديث على أشهرهم وأكثرهم تأثرًا في إثراء حركة التأليف في ميدان المغازي والسير، ويأتي على رأس القائمة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 1- محمد بن مسلم بن شهاب الزهري 1: ينتسب الزهري إلى بني زهرة، وهم أخوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو من كبار التابعين وأعلامهم، ويعتبر من أعظم مؤرخي المغازي والسير، وإليه يرجع الفضل في تأسيس مدرسة المدينة التاريخية، إلى جانب كونه من كبار الفقهاء والمحدثين. وقد رأى الزهري عشرة من الصحابة، وتتلمذ على كبار علماء التابعين وأعلامهم، ومنهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهؤلاء هم الذين كان الزهري يعتبرهم بحور قريش في العلم. وروى عن الزهري جماعة من العلماء الأئمة الأعلام، يأتي في مقدمتهم فقيه المدينة وعالمها الأشهر -الذي قيل عنه: لا يفتى ومالك في المدينة- مالك بن أنس الأصبحي، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري, وقد ذاع صيت الزهري، وأصبحت له مكانة علمية رفيعة في أوساط العلماء، فقد سئل مكحول الدمشقي: من أعلم من رأيت؟ فقال: ابن شهاب. قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب. قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب؛ كان قد حفظ علم الفقهاء السبعة -يقصد فقهاء المدينة المشهورين. وكتب عمر بن عبد العزيز وهو خليفة -إلى   1 انظر ترجمة الزهري في وفيات الأعيان لابن خَلِّكَان، جـ4 ص177 وما بعدها، وفي تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني، جـ9، ص448 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 سائر الأقاليم: "علكيم بابن شهاب، فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه"1. فعمر بن عبد العزيز -وهو من هو- لا يقول مثل ذلك الكلام عن ابن شهاب إلا إذا كان الرجل -فعلًا- يستحق هذا الثناء من الخليفة العالم، بما بلغ من مكانة علمية. والحق أن ابن شهاب كان موضع احترام وإجلال خلفاء بني أمية، لأنه إلى جانب تبحره في العلوم، كان يحترم نفسه، ولم يداهن في الحق2. وقد امتاز محمد ابن شهاب الزهري عن معاصريه بكثرة الكتابة والتدوين واقتناء الكتب. وكان إذا جلس في بيته بين كتبه اشتغل بها عن كل شيء سواها من أمور الدنيا، حتى يروى أن امرأته كانت تقول له: "إن هذه الكتب أشد عليَّ من ثلاث ضرائر"3. لاشتغاله بها عنها. وكان اهتمام الزهري بالكتابة والتدوين هو الذي مكنه من نشر علمه، وبوأه تلك المكانة العلمية الرفيعة التي حظي بها في أوساط العلماء، وفي بلاط الخلفاء ومجالسهم وكان هو شديد الفخر بذلك، وروي عنه أنه كان يقول: "ما نشر أحد من الناس هذا العلم نشري، ولا بذله بذلي". ولقد ضاع ما كتبه ودونه الزهري بنفسه، ولم يصل   1 انظر وفيات الأعيان، ج4، ص177. 2 انظر المغازي الأولى ومؤلفوها، ص58. 3 انظر وفيات الأعيان، ج4، ص177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 إلينا كما هو. ولولا ما بقي لنا من علمه مما رواه تلامذته -وبصفة خاصة أشهرهم وأنبغهم محمد بن إسحاق -لكانت خسارتنا فادحة، فإلى ابن إسحاق يرجع الفضل الأكبر في حفظ علم أستاذه الزهري، فهو الذي أوصله إلينا، لأنه كانت تربطه بأستاذه علاقة متينة قائمة على الحب والاحترام، ومما دل على قوة تلك العلاقة ومتانتها، ورفعة مكانة ابن إسحاق عند أستاذه وثقته فيه، أنه كان يعتبره مرجعه الأول في كل ما يتعلق بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما يحصل عليه من معلومات من طرق أخرى ليتثبت من صحتها. فعندما زار ابن إسحاق مصر، والتقى بعالمها الكبير يزيد بن أبي حبيب، وروى عنه العلم، أرسل إلى أستاذه الزهري، ليتثبت من صحة بعض الروايات, وذلك من أمثال القصة التالية؛ فقد قال ابن إسحاق نفسه: "حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري أنه وجد كتابًا فيه ذكر من بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى البلدان، وملوك العرب والعجم, وما قال لأصحابه حين بعثهم، قال -ابن إسحاق: فبعثت به إلى محمد ابن شهاب الزهري فعرفه"1. واسم الزهري هو الأشهر والأكثر ذكرًا في سيرة ابن إسحاق، وكثيرًا ما يعبر فيما يتعلق بروايته عن الزهري، بقوله: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وأحيانًا يقول: حدثني الزهري فقط، أو حدثني ابن شهاب، أو سألت ابن شهاب الزهري، إلى غير ذلك من التعابير. وكان الزهري -الذي توفي سنة 124هـ- عدد آخر من التلاميذ غير ابن إسحاق، وإن كانوا أقل شهرة من ابن إسحاق، ومنهم موسى بن عقبة المتوفى حوالي عام 141هـ. ومعمر بن راشد المتوفى حوالي عام 154هـ وهما من رجال الطبقة الثالثة ومن كبار علماء المغازي والسير.   1 سيرة ابن هشام، ج4، ص299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 2- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري 1: من علماء الطبقة الثانية من مؤلفي المغازي والسير، وهو مدني -أي من أهل المدينة- وكان جده الأعلى عمرو ابن حزم أحد صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ولاه الرسول على نجران، وكتب له كتابًا حين بعثه، أمره فيه بتقوى الله في أمره كله، ثم أمره بقبض الصدقات وتوزيعها على مستحقيها، وأن يعلمهم القرآن والسنة ويفقههم في الدين. أما جده المباشر، محمد بن عمرو فقد قيل: إن له رؤية - أي رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوفي عام 63هـ أما أبوه أبو بكر فقد ولي قضاء المدينة المنورة أثناء ولاية عمر بن عبد العزيز عليها من سنة 87 إلى سنة 93هـ. وذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك   1 انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي، ج5، ص314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ابن مروان 86- 96هـ. ثم أصبح واليًا على المدينة في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان 96- 99هـ. وخلافة عمر بن عبد العزيز 99- 101هـ.. وقد عُرف بمقدرته الفائقة في رواية الحديث، وكان من الثقات، ولذلك عهد إليه عمر بن عبد العزيز -أثناء خلافته- بجمع أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم. يقول عنه الذهبي1: "أمير المؤمنين ثم قاضي المدينة، أحد الأئمة الأثبات, وقيل: كان أعلم أهل زمانه بالقضاء. وقال عنه الإمام مالك بن أنس: "ما رأيت مثل ابن حزم، أعظم مروءة وأتم حالًا، ولا رأيت من أوتي مثل ما أوتي: ولاية المدينة, والقضاء, والموسم"2 وهو من شيوخ ابن إسحاق. فعبد الله بن أبي بكر نشأ إذن في بيت علم وقضاء وإمارة، وورث عن أبيه مواهبه، واختص برواية الحديث -خاصة الأحاديث المتصلة بالمغازي- وكان حجة في ذلك, وهو أحد مصادر كبار علماء السيرة والمؤرخين، فقد روى عنه ابن إسحاق، ومحمد بن عمر الواقدي، ومحمد بن سعد -كاتب الواقدي- والطبري. خاصة الروايات التي تتصل بأخبار الرسول في المدينة ووفود القبائل، إلى رسول الله -في عام الوفود- وأخبار تتعلق بحروب الردة، وكانت زوجته فاطمة بنت عمارة راوية للحديث، وكانت تروي عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، وعمرة كانت   1 المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة. 2 انظر سير أعلام النبلاء للذهبي، ج5، ص314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 تروي عن السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- وكان هو يروي عن زوجته، بل كان يسمح لها أن تحدث الغير بما عندها من أخبار عن السيرة النبوية, فقد أخبر الطبري، عن محمد بن إسحاق أنه دخل على عبد الله بن أبي بكر -ابن حزم- فقال عبد الله لامرأته فاطمة: "حدثي محمدًا ما سمعتِ من عمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: سمعت عمرة تقولك سمعت عائشة تقول ... إلخ، ويروي الطبري عن محمد بن إسحاق -أيضًا- عن عبد الله بن أبي بكر قال: كان جميع ما غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه ستًّا وعشرين غزوة، أول غزوة غزاها: ودَّان، ثم بواط.. إلخ. وعلى الجملة فقد كان عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري عظيم الأثر في كتب السير والمغازي، وكان له من بيته العظيم في الأنصار -وهو بيت علم وقضاء وإمارة- وتزوِّجه من فاطمة بنت عمارة الأنصارية, والتي كانت تروي عن عمرة بنت عبد الرحمن، التي تروي بدورها عن السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- كان له من كل ذلك ما يسر له جمع الأحاديث التي تتصل بالمغازي1، وأن يصبح مصدرًا كبيرًا من مصادرها، وأحد أعلام الطبقة الثانية من علماء المغازي والسير.   1 ضحى الإسلام -أحمد أمين، ج2، ص324- 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 3- عاصم بن عمر بن قتادة : يعتبر المؤرخون عاصمًا أحد رجال الطبقة الثانية البارزين من كتاب المغازي والسير، وجده قتادة بن النعمان الظفري الأنصاري كان من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشهد معه بدرًا وأحدًا، ويوم أحد أصيبت عينه وسقطت على وجنتيه فردها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعادت أحسن عينيه وأحدَّهما1. ولما كان قتادة أحد الصحابة المجاهدين الذين شهدوا المشاهد مع رسول الله فقد روى لابنه عمر ما شهده وشاهده بنفسه من مغازي وسير وأخبار رسول الله، ورواها عمر لابن عاصم الذي أصبح حجة في ذلك، قال عنه محمد بن سعد: "وكان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسير ولتبحره فيهما فقد كلفه الخليفة عمر بن عبد العزيز 99- 101هـ أن يجلس في المسجد الأموي في دمشق ليحدث الناس عن المغازي ومناقب الصحابة, ففعل2. وكان من المصادر المهمة التي اعتمد عليها أصحاب السير والمغازي، مثل محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر الواقدي، وقد توفي عاصم عام 120م وقيل عام تسع وعشرين.   1 انظر سيرة ابن هشام جـ3 ص31. 2 انظر السيرة النبوية للشيخ محمد أبو شهبة، ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 رجال الطبقة الثالثة من كتاب المغازي والسير موسى بن عقبة ... رجال الطبقة الثالثة من كتاب المغازي والسير: قلنا في صدر هذا البحث إن الكتابة والتأليف في المغازي والسير خضعت لسُنة التدرج والتطور، وكلما مر الزمن اتسعت دائرة العلماء، ولذلك ففرسان هذه الطبقة كثيرون، ومن ثم فنحن مضطرون للحديث عن أشهرهم -مثل: موسى بن عقبة، و معمر بن راشد - حديثًا موجزًا، ثم نتحدث بالتفصيل عن أشهر رجال هذه الطبقة على الإطلاق وإمام هذا الفن، وهو محمد بن إسحاق، لأهميته وتأثيره الكبير في ذلك العلم الذي أصبح الناس فيه عيالًا عليه، حسب تعبير الإمام الشافعي، رحمة الله تعالى عليه, والآن إلى الحديث عن: 1- موسى بن عقبة: هو مولى من الموالي، وكان مولى لآل الزبير، وقد مر بنا أن بيت الزبيريين كان حافلًا بعدد هائل من العلماء، خاصة في ميدان المغازي والسير، مثل عروة بن الزبير, وابنيه: هشام ويحيى, وعمر بن عبد الله بن الزبير، ويحيى بن عباد بن الزبير, وقد عرفنا الصلة التي كانت تربط الزبيريين ببيت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن طريق خالتهم السيدة عائشة -رضي الله عنها- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مما جعلهم مصدرًا موثوقًا به عن أخبار سير ومغازي رسول الله، وقد استفاد مواليهم من صلتهم بهم؛ ومن أبرزهم عالمنا هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه، وهو موسى بن عقبة الذي كان له أخوان أكبر منه سنًّا، وهما إبراهيم ابن عقبة، ومحمد بن عقبة، وكان الثلاثة من أبرز تلاميذ مدرسة المدينة المنورة في الفقه والحديث, وإن كان موسى قد برز واشتهر في علم المغازي، وكان ثقة عند العلماء حتى استحق أن يقول عنه الإمام مالك بن أنس: "عليكم بمغازي ابن عقبة، وهي أصح المغازي"1. وقد كتب سيرة مختصرة موجزة، لم تصل إلينا كاملة، وإنما وصلتنا منها مقتطفات في طبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري, ويروي موسى بن عقبة أن أحد موالي عبد الله بن عباس -وهو كريب بن أبي مسلم- وضع عنده حمل بعير من كتب ابن عباس، مما يدل على أن التدوين قد بدأ مبكرًا، غير أن معظم مدونات الفترة الأولى قد ضاعت, وقد توفي موسى بن عقبة سنة 141هـ.   1 انظر: ضحى الإسلام، أحمد أمين، ج2، ص327، والسيرة النبوية للشيخ محمد أبو شهبة ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 2- معمر بن راشد : من رجال الطبقة الثالثة البارزين، من كتاب السير والمغازي، وهو مولى من الموالي وكان من أهل الكوفة، كما يقول ابن النديم1، ثم رحل إلى البصرة ثم اليمن، وظل ينتقل بين هذه البلاد؛ يتلقى العلم عن الشيوخ، وكان أبرز شيوخه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وكان هو من أنبل وأنجب تلاميذ الزهري -بعد ابن إسحاق- ولذلك؛ فأكثر ما يرويه معمر عن السير والمغازي ينسبه إلى شيخه، الإمام الزهري، وكان يتحلى بخلق كريم، وصفات حميدة كثيرة، يقول عنه ابن سعد: "كان معمر رجلًا له حلم ومروءة ونبل في نفسه"2. كما كان واسع العلم بالحديث والسير والمغازي، وإن كان ابن النديم في الفهرست لم ينسب له سوى كتاب واحد في المغازي، فقد قال عنه: "معمر بن راشد من أهل الكوفة، يروي عنه عبد الرزاق، من أصحاب السير والأحداث, وله من الكتب كتاب المغازي"3. وحتى هذا الكتاب لم يصل إلينا، وإنما وصلنا منه مقتطفات في الواقدي وابن سعد والبلاذري والطبري. وكانت وفاته سنة 150هـ أو 152هـ4.   1 الفهرست ص138. 2 ضحى الإسلام ج2 ص328. 3 الفهرست ص138. 4 ضحى الإسلام ج2، ص328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 3- محمد بن إسحاق المطَّلبي 1: إذا نحن وصلنا إلى ابن إسحاق فقد وصلنا إلى إمام الأئمة وأكبر علماء السير والمغازي على الإطلاق، وفي كل العصور، ومن عليه كان اعتماد كل من كتب في السيرة النبوية ومغازي الرسول -صلى الله عليه وسلم- ممن جاءوا بعده. فهو فارس هذا الميدان دون منازع، ولقد شهد له بذلك جمع من العلماء، منهم أستاذه، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، حيث قال: "من أراد المغازي فعليه بابن إسحاق". وقال عنه الإمام الشافعي: "من أراد التبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق". ويقول عنه ابن خلِّكان -وهو راوي هذه الأخبار: "وأما في المغازي والسير فلا تجهل إمامته". وسئل يحيى بن معين عن ابن إسحاق فقال: "قال عاصم بن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما عاش ابن إسحاق". وقال سفيان بن عيينة: "لا يزال   1 انظر فيما يتعلق بابن إسحاق وأخباره ومكانته العلمية وآراء العلماء فيه، المصادر الآتية: 1- الطبقات الكبرى لابن سعد، ج4 ص321- 322 - طبعة دار صادر بيروت. 2- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، القسم الثاني من المجلد الثالث ص191- 194 - دار الكتب العلمية - بيروت. 3- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي - دار الكتاب العربي بيروت. 4- الفهرست لابن النديم - دار المعرفة بيروت. 5- تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص172. 6- لسان الميزان لابن حجر، ج5، ص72 - مؤسسة الأعلى للمطبوعات، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 في المدينة علم ما عاش هذا الغلام -يقصد ابن إسحاق". وقال عنه الذهبي -وهو معروف بتحريه ودقته وصرامته في الحكم على الرجال: "والذي تقرر عليه العمل أن ابن إسحاق إليه المرجع في المغازي والأيام النبوية.. وكان أحد أوعية العلم، حبرًا في معرفة المغازي والسير"1. وأقوال العلماء فيه مستفيضة، وكلها مجمعة على إمامته في المغازي والسير، لذلك رأينا أن نخصه بمزيد من التقصي والتفصيل لأخباره حتى يعرف المسلمون علماءهم، وأصحاب الفضل في إيصال أخبار وسير ومغازي وجهاد رسولهم وصحابته إليهم, فمن هو ابن إسحاق؟ هو: محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار -وقيل يسار بن كوتان- المطلبي بالولاء، المديني؛ نسبة إلى مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان يكنى بأبي بكر، وقيل بأبي عبد الله، وكان جده يسار من أهل قرية عين التمر بالعراق، وقد وقع في أسر المسلمين عندما فتح خالد بن الوليد -رضي الله عنه- عين التمر فيما فتح من أرض العراق سنة 12هـ في خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- 11- 13هـ وأرسل يسار بن خيار مع غيره من الأسرى إلى المدينة المنورة، عاصمة الدولة الإسلامية في ذلك الوقت. ولا يعرف على وجه   1 انظر تذكرة الحفاظ للذهبي، ج1، ص172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 اليقين ما إذا كانت أسرته عربية أم أعجمية، وإن كان ليس بعيدًا أن تكون عربية مسيحية، وصار ولاء يسار إلى قيس بن مخرمة ابن المطلب، وقد أسلم فأعتقه مولاه، ومن ثم نسب إليهم فلقب بالمطلبي. وكان ليسار بن خيار ثلاثة أولاد؛ أحدهم إسحاق، والد عالمنا الذي نتحدث عنه والذي طبقت شهرته الآفاق، وهو محمد بن إسحاق الذي ولد في المدينة المنورة، حوالي عام 85هـ ونشأ بها، وقد سبق أن أشرنا كثيرًا إلى بيئة المدينة وفضلها وصلاحها وحركتها العلمية الواسعة في مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا ينكر أحد فضل البيئة والوسط المحيط وتأثيرهما في تنشئته الناشئة، وأي بيئة أفضل من بيئة مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وتابعيهم، ولم تكن البيئة والجو العام الذي أحاط بابن إسحاق هو الذي أثر فيه فقط، بل كانت بيئته الخاصة ذات تأثير فيه كذلك، فأبوه إسحاق بن يسار كان من العلماء وكان محدثًا وفقيهًا، روى عنه ابنه محمد، وكثيرًا ما نجده يقول: حدثني أبي إسحاق بن يسار. وقد أدرك ابن إسحاق بعض الصحابة ممن طالت أعمارهم، فقد رأى أنس بن مالك صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخادمه المشهور -رضي الله عنه- وتتلمذ على كبار التابعين، من أعيان علماء المدينة المنورة وفقهائها المعدودين المشهورين، ومنهم القاسم بن محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ابن أبي بكر الصديق، وأبان بن عثمان بن عفان -وهو من رجال الطبقة الأولى من علماء المغازي والسير، كما سبق القول عنه- ومنهم محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ونافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعاصم بن عمر ابن قتادة بن النعمان الأنصاري. وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وغيرهم. وقد سبق القول أن أستاذه الأكبر، والذي كان أثره فيه أكبر وأوضح من غيره، هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. رحلته إلى مصر: لم يكتف ابن إسحاق بأنه ولد ونشأ في مدينة الرسول، وتنفس هواءها المعطر بأريج النبوة، وعطر الصحابة الكرام، بل أراد أن يتزود من علم الصحابة الآخرين، الذين تفرقوا في الآفاق ونزلوا وسكنوا الأمصار المفتوحة، فمن المعلوم أن جمعًا كبيرًا من حملة العلم النبوي من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد شاركوا في الفتوحات الإسلامية، بدءًا من عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه -ومرورًا بعهود الخلفاء الراشدين الثلاثة الآخرين، عمر بن الخطاب 13- 23هـ وعثمان بن عفان 23- 35هـ وعلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ابن أبي طالب 35- 40هـ -رضي الله عنهم جميعًا- وكثير من هؤلاء الصحابة لم يعودوا إلى المدينة، وإنما استوطنوا البلاد المفتوحة، وعاشوا حياتهم كلها فيها، وأصبحوا معلمين, ولهم مدارس، وتلاميذ، فأراد ابن إسحاق أن يتزود من علم هؤلاء ومن علم تلاميذهم، وأن يطلع على اتجاه مدارسهم وأفكارها فكانت رحلته الأولى إلى مصر، التي أصحبت منذ أن تم فتحها على يد الفاتح الكبير البطل الجليل عمرو بن العاص ، سنة 21هـ مركزًا من مراكز العلوم الإسلامية، فقد أسس الفاتح عمرو بن العاص مدينة الفسطاط سنة 21هـ أي عند تمام الفتح، وأسس مسجده العتيق -أو تاج الجوامع- الذي يعتبر أول مسجد يؤسس في قارة إفريقيا والذي أصبح مركزًا للدراسات الإسلامية، ومدرسة من أشهر المدارس، أساتذتها هم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء الذي جاءوا مع جيش الفتح مجاهدين، أو الذي لحقوا بهم وجاءوا بعد تمام الفتح وطاب لهم المقام في أرض الكنانة، وعلى ضفاف النيل واستقروا فيها، وقد ازدهرت المدرسة المصرية في الدراسات الإسلامية، وذاع صيتها، وأصبحت لها مكانة علمية رفيعة، فتاقت نفوس علماء الأقطار الأخرى إلى زيارتها وملاقاة علمائها والأخذ عنهم وإعطائهم أيضًا، فالعلم أخذ وعطاء، فما من عالم كبير في المشرق -في ذلك الوقت- سواء في مكة المكرمة، أو المدينة المنورة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أو الكوفة أو البصرة أو دمشق، أو بغداد، إلا وتراه قد زار مصر، وتعرف على علمائها وأخذ عنهم وأعطاهم. وكان من الطبيعي أن يتطلع طالبُ علمٍ نابهٌ مثل ابن إسحاق إلى زيارة بلد مثل مصر، فشد رحاله إليها، وهو في شرخ شبابه وفي مرحلة القوة والفتوة والقدرة على السفر، والشد والترحال، وحدة الذهن والقدرة على الحفظ والاستيعاب، فقد بدأ زيارته لمصر عام 115هـ، أي عندما كان في حوالي الثلاثين من عمره، وقد تجول في أقاليم مصر، وزار مدينة الإسكندرية -التي كانت عاصمة مصر منذ أسسها الإسكندر الأكبر المقدوني، في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد إلى الفتح الإسلامي في منتصف القرن السابع الميلادي أي أنها ظلت عاصمة مصر قرابة ألف عام وكانت بها مدرسة علمية لها شهرة عالمية، في علوم الطب والفلك والهندسة والرياضيات والكيمياء والفلسفة. فكان من الطبيعي أن يزور ابن إسحاق الإسكندرية ما دام قد حل بأرض مصر. وقد التقى ابن إسحاق بكثيرين من علماء مصر، وفي مقدمتهم عالمها الأكبر، يزيد بن أبي حبيب، وروى عنه كثيرًا، وقد أشرنا فيما سبق -ونحن نتحدث عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري شيخ ابن إسحاق -إلى الوثيقة التي رواها ابن إسحاق عن يزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ابن أبي حبيب، ثم عرضها على شيخه الزهري؛ ليتأكد من صحة المعلومات التي جاءت بها, ثم التقى بعبد الله ابن جعفر، والقاسم بن قزمان، وعبيد الله بن المغيرة وغيرهم. وبعد أن تزود من علم علماء مصر -وتأثر بهم وأثر فيهم، واطلع على اتجاهات المدرسة المصرية في الدراسات الإسلامية، عاد إلى المدينة؛ ليواصل دراسته على أيدي أساتذته فيها. ولم يغادرها بصفة نهائية -على ما يرجح- إلا في رحلته الأخيرة إلى العراق بعد قيام الدولة العباسية سنة 132هـ، حيث عاش بقية حياته فيها. رحلته إلى العراق: عاش ابن إسحاق في المدينة بصفة مستمرة حوالي نصف قرن، ولم يغادرها إلا للحج إلى مكة المكرمة، وزيارته لمصر سنة 115هـ -والتي يبدو أنها لم تطل- ويبدو أن من الأسباب التي جعلت ابن إسحاق يلزم المدينة المنورة ولم يغادرها كثيرًا أن صلته لم تكن ودية مع دولة بني أمية، فلم نسمع أنه قام بزيارة لعاصمتهم دمشق، وذلك عكس أستاذه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، الذي كان على علاقة وطيدة مع خلفاء بني أمية ومنحوه ثقتهم، خاصة أصلحهم وأعلمهم عمر بن عبد العزيز، وقد رأينا فيما سبق ثناء عمر بن عبد العزيز على الزهري. أما تلميذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ابن إسحاق فلم نسمع منه أنه اتصل بأحد من خلفاء بني أمية، ولعل موقف ابن إسحاق هذا من الدولة الأموية كان منسجمًا مع موقف عامة أهل المدينة الذين كانوا لا يحملون ودًّا لبني أمية، ولم تنطوِ قلوبهم على حب لدولتهم وخلفائها ورجالها -باستثناء عمر بن عبد العزيز -الذي كان موضع حب وإعجاب وثقة جميع المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم لسلوكه القويم وصلاحه وتقواه وعدله وطهارة سيرته- أما بقية خلفاء بني أمية فلم يحظوا بحب أهل المدينة ولا رضاهم، أو قل إن موقف أهل المدينة من خلفاء بني أمية كان أقرب إلى العداء والبغضاء منه إلى الولاء والحب والود. ولعل أهل المدينة لم ينسَوْا قط يوم الحرة أو موقعة الحرة التي جرت بينهم وبين جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية سنة 63هـ على أثر ثورتهم ضده التي قادها عبد الله بن حنظلة، والتي انتهت بهزيمتهم وقتل الكثيرين منهم. ونسب للجيش الأموي أعمال فظيعة, إذا صحت تكون كارثة؛ لأنها تخالف مبادئ الإسلام، وآداب الحرب فيه، حتى مع غير المسلمين، فكيف مع مسلمين يعيشون في جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟! على أية حال لم ينسَ أهل المدينة ذلك اليوم ولم تصفُ نفوسهم لبني أمية، وظلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ذكرى ذلك اليوم الحزين عالقة في نفوسهم، وكان ابن إسحاق واحدًا منهم، شاركهم في مشاعرهم تلك وليس هذا غريبًا. لقد أطلت في توضيح صلة أهل المدينة -بصفة عامة- ببني أمية ومحمد بن إسحاق بصفة خاصة؛ لأن العلاقات السياسية كانت ذات تأثير على معظم أوجه الحياة، ورضا رجال السياسة عن العلماء كان يعطيهم فرصة أكبر في حرية الحركة والتجوال في البلاد وزيارة المراكز العلمية.. وتصديقًا لذلك ما إن سقطت دولة بني أمية سنة 132هـ وقامت دولة بني العباس حتى رأينا ابن إسحاق يشد رحاله مغادرًا المدينة -التي لم يكد يبرحها قرابة نصف قرن- إلى العراق ويتجول في أرجائها من الكوفة إلى الجزيرة، وأخيرًا يلقى عصا تسياره في المدينة المدورة أو مدينة السلام أو مدينة المنصور -بغداد- تلك المدينة التي أخذت -منذ نشأتها سنة 145هـ- تخلب الألباب وتخطف الأبصار فهي مقام الخلافة، وحاضرة الإسلام، ومركز الأضواء والشهرة، ومقر العلماء والشعراء والأدباء، فليس غريبًا أن يطيب المقام لابن إسحاق في مدينة لها كل تلك المميزات. وقد اتصل ابن إسحاق -لعلمه وشهرته- بقمة الدولة ورأس الهرم الاجتماعي، الخليفة الذائع الصيت، ومؤسس بغداد، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المؤسس الحقيقي للدولة العباسية, أبي جعفر المنصور، وتوثقت الصلة بين الرجلين، حتى أشيع أن كتاب المغازي -أو ما عرف بسيرة ابن إسحاق وهو سبب شهرته- قد وضعه بناءً على طلب المنصور، لابنه محمد الذي سيعرف بالخليفة المهدي فيما بعد. وقد عاش ابن إسحاق ما تبقى من حياته في كنف الخليفة المنصور في بغداد حتى وافته منيته سنة 151هـ على أرجح الأقوال. علاقة محمد بن إسحاق بمالك بن أنس وهشام بن عروة: لا يكتمل الحديث عن ابن إسحاق إلا إذا عرفنا تلك الشخصية من مختلف جوانبها وفي كل أحوالها، خاصة علاقته برجلين من كبار رجالات المدينة المنورة، ومن ذوي النفوذ العلمي والكلمة المسموعة فيها، وهما: مالك بن أنس الأصبحي، الإمام المشهور، ورأس المذهب الفقهي المعروف الذي ينسب إليه، وثانيهما: هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، فمعظم المصادر التي تناولت حياة ابن إسحاق وترجمت له تحدثت عن خلاف وقع بينه وبين كل من مالك بن أنس وهشام بن عروة. ولقد بالغ بعض الباحثين المُحْدَثين1 في أمر ذلك الخلاف حتى جعلوه أحد الأسباب   1 انظر: "المغازي الأولى ومؤلفوها" ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 التي حملت ابن إسحاق على مغادرة مسقط رأسه -المدينة المنورة- إلى العراق. ونحن لا ننكر أمر الخلاف الذي كان بين ابن إسحاق، وبين كل من مالك بن أنس وهشام بن عروة، فهذا الخلاف مشهور، ومسطور في معظم المصادر الموثوق منها. ولكننا لا نرى أنه وصل إلى حد العداوة التي حملت ابن إسحاق على مغادرة موطنه، فالخلاف بين بعض العلماء -والقائم في معظمه على اختلاف وجهات النظر في المسائل العلمية- لم يكد يخلو منه جيل ولا قبيل من العلماء، وهذه طبيعة البشر في كل زمان ومكان، والمعاصرة حجاب كما يقولون. ورغم ذلك لم نسمع أن عالمًا ترك وطنه ورحل إلى غيره من أجل خلاف حدث بينه وبين بعض أقرانه، ثم لو كان ذلك الخلاف هو سبب مغادرة ابن إسحاق المدينة المنورة، فلماذا بقي فيها نصف قرن قبل مغادرتها عند سقوط الدولة الأموية. وبعد: فعلك أيها القارئ الكريم قد تاقت نفسك إلى معرفة شيء من أمر هذا الخلاف الذي وقع بين هؤلاء الرجال الكبار والعلماء الأفذاذ، ولا تثريب علينا في إيراد ذلك الخلاف ومعرفته، فهؤلاء ليسوا ملائكة، وإنما هم بشر، يختلفون ويحبون ويكرهون بل ويتعادون، وليس في ذلك خروج على طبائع الأشياء بشرط ألا يحمل ذلك أحدهم على الفحش والفجور في حق من يخالفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أو يخاصمه، وأعتقد أن الأمر بينهم لم يصل إلى شيء من هذا، وحاشا لله أن يصل إلى هذا؛ وهم من هم علمًا وتقى وصلاحًا، ونحن نورد أمر هذا الخلاف لما كان له من أثر على موقف بعض العلماء من ابن إسحاق، خاصة في روايته للحديث. وفيما يتعلق بالخلاف بين ابن إسحاق ومالك بن أنس تتحدث المصادر فتذكر أن ابن إسحاق كان يطعن في نسب الإمام مالك بن أنس الأصبحي -الذي ينسب إلى قبيلة أصبح العربية اليمنية- ويزعم أنه مولى من موالي بني تميم، ولا ندري كيف يقول ابن إسحاق ذلك عن مالك في مقام الانتقاص منه، وهو نفسه مولى، وكون الإنسان مولى لا ينتقص من قدره، خاصة في أوساط العلماء، والولاء هنا هو ولاء المحالفة والمودة، وليس ولاء العبد للحر. وقد كان هناك رجال من الموالي العلماء الذين حازوا احترام كل الناس من عرب وعجم، مثل الحسن البصري؛ الذي قيل: إنه عندما توفي سنة 110هـ في البصرة، خرج الناس جميعًا يشيعون جنازته، حتى لم يوجد في البصرة من يقيم صلاة العصر، وكذلك كانت نظرة الناس لمحمد بن سيرين وغيره من الموالي -لهذا الأثر في أن ما نسب لابن إسحاق في ذلك صحيح، لأنه لو كان في الولاء نقص لعاد عليه هو نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أما الذي يمكن أن يكون سببًا من أسباب الخلاف، فهو كثرة انتقاد ابن إسحاق لعلم مالك، فقد روى عنه أنه كان يقول: "ائتوني ببعض كتب مالك؛ حتى أبين عيوبه، أنا بيطار كتبه". فلما سمع مالك ذلك حنق على ابن إسحاق، وحمل عليه، وسفَّه علمه. وقد روى الخطيب البغدادي عن أحد تلاميذ ابن إسحاق؛ وهو عبد الله بن إدريس أنه قال: قلت لمالك بن أنس -وقد ذكر المغازي: قال ابن إسحاق: أنا بيطارها. فقال: هو قال لك: أنا بيطارها، نحن نفيناه من المدينة. ويضيف العلماء سببًا آخر للخلاف والجفاء بين ابن إسحاق، والإمام مالك بن أنس، فيقولون: إن ابن إسحاق كان يتهم بالتشيع، فعاداه مالك بن أنس -وهو إمام من أكبر أئمة أهل السنة -من أجل ذلك1. وإذا كان ذلك الاتهام صحيحًا فمن الجائز أن يكون أيضًا وراء الجفاء وعدم المودة بين ابن إسحاق والدولة الأموية. هذا عن الخلاف -وأسبابه- بين ابن إسحاق والإمام مالك بن أنس. أما خلاف ابن إسحاق مع هشام بن عروة بن الزبير، فترجعه المصادر التي تناولته إلى أن ابن إسحاق كان يروي الحديث عن فاطمة بنت المنذر -زوج هشام بن عروة- فأغضب ذلك هشامًا وأثار غيرته وحفيظته، وقال: "متى دخل عليها، ومتى سمع   1 انظر، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج1 ص223- 224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 منها؟! "1. ويبدو أن رواية ابن إسحاق عن فاطمة بنت النذر صحيحة، أكدها سفيان الثوري حين سئل: أكان ابن إسحاق قد جالس فاطمة بنت المنذر وسمع منها؟ فقال: "أخبرني ابن إسحاق أنها حدثته وأنه دخل عليها"2. وهذا الخبر في حد ذاته ليس غريبًا ولا مستنكرًا، إنما الغريب حقًّا هو غضب هشام بن عروة من ابن إسحاق، وحملته عليه بسببه، فرواية الرجال عن النساء وقعت وتقع كثيرًا، ولم يستغربه أو ينكره أحد من علماء المسلمين، وقد روى الصحابة والتابعون عن أمهات المؤمنين أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يستنكر ذلك أحد. بل إن ابن إسحاق نفسه روى عن زوجة أستاذ آخر من أساتذته، وهي فاطمة بنت عمارة الأنصارية؛ زوج عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، ولم ينكره ولم يعترض عليه، بل يروى أن زوجها نفسه -عبد الله بن أبي بكر- هو الذي طلب منها أن تحدث ابن إسحاق وقال لها: "حدثي محمدًا ما سمعت من عمرة بنت عبد الرحمن, فقالت له -أي لابن إسحاق: "سمعت عمرة تقول: سمعت عائشة تقول ... إلى آخر الحديث". فرواية ابن إسحاق إذًا عن فاطمة بنت المنذر -زوج هشام بن عروة- ليست حدثًا فريدًا نادر الوقوع، بل هو أمر مألوف في تراثنا   1 انظر، الفهرست لابن النديم، ص136. 2 تاريخ بغداد، ج1، ص221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الإسلامي ولا غبار عليه. وفوق ذلك فإن فارق السن بين فاطمة بنت النذر وبين تلميذها ابن إسحاق كبير وينتفي معه أي سبب للغيرة -التي هي شيء طبيعي في طبائع الناس لو كان لها ما يبررها- فقد ولدت فاطمة -زوج هشام- عام 48هـ. وأما ابن إسحاق فقد ولد عام 85 هـ كما سبق ذكره، فهي تكبره بسبع وثلاثين سنة. مكانة ابن إسحاق العلمية: سبق الحديث عن مكانة ابن إسحاق العلمية وإمامته في علم المغازي والسير ولا يكاد يوجد خلاف -بل هناك إجماع- على أنه إمام ورائد في ذلك الفن، وكتابه في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمدة في ذلك العلم الجليل، وعليه اعتمد ومنه أخذ ونهل كل من كتب بعده في سيرة الرسول ومغازيه، وإليك آراء العلماء في مكانة ابن إسحاق، ودرجة الثقة به في الحديث الشريف عن رجال الجرح والتعديل. فمن المعلوم أن العلماء -خاصة رجال الجرح والتعديل أو من يسمون بعلماء الرجال- يتشددون للغاية في الحكم على الرجال الذين يأخذون عنهم الحديث، أكثر من تشددهم في الحكم على رجال المغازي والسير ورواة التاريخ والأخبار، وذلك لأن الحديث الشريف هو المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية -بعد القرآن الكريم- وينبني عليه معرفة الحلال والحرام، وأحكام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 العبادات والمعاملات. لذلك وضع علماء الجرح والتعديل شروطًا قاسية لرجال السند -سند الحديث- وهم سلسلة الرواة، وليس هنا مكان تفصيل ذلك. ورغم كل ذلك فإن معظم علماء الحديث يكادون يجمعون على توثيق حديث ابن إسحاق، فقد سئل يحيى بن معين -وهو من هو في علم الرجال- فقال: "كان ثقة حسن الحديث"1. وقال شعبة بن الحجاج: "محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث"، وقال: "لو سوِّد أحد في الحديث لسود ابن إسحاق"2. وسئل على بن المديني عن ابن إسحاق: كيف حديث محمد بن إسحاق عندك، صحيح؟ قال: "نعم، حديثه عندي صحيح"3. وقال أبو بكر بن الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن محمد بن إسحاق كيف هو؟ فقال: "هو حسن الحديث"4. وقد روي عن الزهري -شيخ ابن إسحاق- وقد خرج إلى قرية له وقد سار خلفه طلاب الحديث يسألونه فالتفت إليهم قائلا: "قد خلفت فيكم الغلام الأحول"5 -يعني محمد بن إسحاق-   (1، 2، 3، 4، 5) راجع في كل ذلك: تاريخ بغداد جـ1 ص218- 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وذكر الساجي أن أصحاب الزهري كانوا يلجأون إلى محمد بن إسحاق فيما يشكون فيه من حديث الزهري؛ ثقة منهم بحفظه1. هذه هي منزلة الرجل، وتلك هي مكانته عند علماء الحديث، فقد وثقه وأثنى عليه شيوخه، مثل الزهري وعاصم ابن عمر، كما أثنى عليه تلاميذه، مثل شعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة، كما وثقه وأثنى عليه اللاحقون من كبار رجال الحديث، وعلماء الجرح والتعديل، مثل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وهما من أكثر العلماء تشددًا في قبول الأحاديث. والجهة الوحيدة التي جاء منها تجريح لابن إسحاق، وتوهين من شأنه في رواية الحديث، هي جهة الإمام مالك ابن أنس، من أجل الخلاف الذي كان بينهما -والذي وضحناه فيما سبق. ولعل الذين توقفوا عن رواية الحديث عن ابن إسحاق، كانوا متأثرين في ذلك بموقف الإمام مالك بن أنس من ابن إسحاق، ومالك كان صاحب نفوذ علمي كبير لا يخفى على أحد، وهو الوحيد الذي لقب بإمام دار الهجرة، وقد ذاع وشاع القول المأثور الذي صار مثلًا: "لا يفتى ومالك في المدينة" وكان ذلك القول صحيحًا ولم ينكره أحد من العلماء.   1 انظر، وفيات الأعيان، ج4، ص276- 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فقد روي عن ابن وهب أنه قال: "سمعت مناديًا ينادي بالمدينة ألا لا يفتي الناسَ إلا مالكُ بن انس وابن أبي ذؤيب"1. وأهل المدينة هم الذين أمسكوا عن ابن إسحاق، ولم يقبلوا أحاديثه؛ مجاملة لإمامهم؛ مالك بن أنس، واستمر ذلك الموقف حتى بعد وفاة مالك بزمن طويل. فقد روي عن مفضل بن غسان أنه قال: "حضرت يزيد بن هارون، في سنة ثلاث وتسعين ومائة بالمدينة، وهو يحدث بالبقيع، وعنده ناس من أهل المدينة يسمعون، فحدث بأحاديث، حتى حدثهم عن محمد بن إسحاق، فأمسكوا، وقالوا: "لا تحدثنا عنه، نحن أعلم به، فذهب يزيد يحاولهم، فلم يقبلوا منه، فأمسك بزيد2. ويزيد بن هارون هذا من تلاميذ ابن إسحاق. وبيد أنه كان من أثر موقف مالك من ابن إسحاق أن الإمام البخاري لم يخرج له أحاديث، بينما خرج له الإمام مسلم حديثًا واحدًا، من أجل طعن مالك فيه3. ولكن رغم كان ذلك فإن ابن إسحاق سيظل جليل القدر، عظيم المكانة عند العلماء.   1 المصدر السابق، ج4، ص135. 2 تاريخ بغداد، ج1، ص226. 3 وفيات الأعيان، ج4، ص277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 آثار ابن إسحاق العلمية: ينسب ابن النديم في الفهرست1 لابن إسحاق كتابين؛ أحدهما، كتابه المشهور، ويسميه ابن النديم كتاب: السيرة والمبتدأ والمغازي، والثاني يسميه كتاب الخلفاء، وهو مفقود، ولم يصل إلينا حتى الآن، أما الكتاب الأول فهو الذي وصلنا في صورة تكاد تكون كاملة، عن طريق عبد الملك بن هشام، برواية زياد بن عبد الله البكائي، والذي أصبح مشهورًا في أوساط العلماء بسيرة ابن هشام. وبينما يسمي ابن النديم هذا الكتاب؛ كتاب السيرة والمبتدأ والمغازي، نجد محمد بن سعد، وهو أسبق من ابن النديم -يسميه كتاب المغازي فقط، ولعل مرجع ذلك الاختلاف في التسمية، هو أن المسلمين كان اهتمامهم في مبدأ الأمر منصبًّا على مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان الصحابة يعلمون أولادهم مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما يعلمونهم سور القرآن الكريم؛ وذلك لأهمية المغازي عندهم، ولما فيها من جهاد وتضحيات كبيرة، ولما فيها من تشريع وأحكام وقواعد فقهية وآداب وسلوك أخلاقي عظيم من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن صحابته الكرام، فكانت القدوة في كل ذلك عظيمة، ومن ثم كان حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- على تعليم أولادهم مغازي   1 ص136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الرسول وكل ما يتعلق بها من أحكام وتشريع وآداب. فلما بدأ عهد التدوين كانت المغازي أول ما حظي بالاهتمام الأكبر من العلماء، وبدأوا في تدوينها مستقصين كل أخبارها، ومتتبعين خطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل غزواته، حتى إن بعضهم -محمد بن عمر الواقدي، على سبيل المثال -كان يحرص على مشاهدة مواقع الغزوات بنفسه، ويتفقد الميادين التي شهدت جهاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. بل إن الاهتمام بمغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يبقَ مقصورًا على مؤلفات علماء المغازي والسير، فعلماء الحديث من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرهم قد ضمنوا كتبهم أبوابًا عن مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذا -ربما- اكتفى محمد بن سعد بأن سمى كتاب ابن إسحاق كتاب المغازي. ثم أخذت فكرة الكتاب في هذا المجال تنمو وتتطور حتى شملت حياة الرسول كلها والتأريخ للدعوة والدولة الإسلامية في عهده صلى الله عليه وسلم وهذا ما يفهمه الناس الآن؛ إذا تحدثوا عن السيرة النبوية. متى ألف ابن إسحاق؟: الرواية المشهورة أن محمد بن إسحاق ألف كتابه -السيرة والمبتدأ والمغازي- في العراق بتكليف من الخليفة العباسي المشهور أبي جعفر المنصور، فالبغدادي في تاريخ بغداد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وابن خلكان في وفيات الأعيان1 وغيرهما ممن ترجموا لابن إسحاق، يروون أنه وفد على أبي جعفر المنصور، في الحيرة، وذلك قبل أن يتم بناء بغداد وينتقل إليها المنصور -ولقد انتقل المنصور إلى بغداد واتخذها عاصمة لدولته سنة 145هـ- وبينما كان ابن إسحاق عند المنصور، دخل عليه محمد بن المنصور -الذي لقب بالمهدي بعد أن أصبح خليفة بعد وفاة أبيه- فقال المنصور لابن إسحاق؛ أتعرف هذا يا ابن إسحاق؟ قال: نعم؛ هذا ابن أمير المؤمنين. قال: اذهب فصنف له كتابًا منذ خلق الله آدم -عليه السلام- إلى يومنا هذا، فذهب فصنف له هذا الكتاب، فقال المنصور: لقد طولته يا ابن إسحاق، فاذهب فاختصره، فاختصره، فهو هذا الكتاب المختصر، وألقى الكتاب الكبير في خزانة أمير المؤمنين. معنى هذا أن سيرة ابن هشام التي بين أيدينا، والتي هي تلخيص لسيرة ابن إسحاق الأصلية، هي تلخيص التلخيص، أو مختصر المختصر، وأن الكتاب الأصلي كان كبير الحجم جدًّا ولم يصل إلينا -لسوء الحظ- حتى تلخيص ابن إسحاق الأصلي لم يصل إلينا كاملًا حتى الآن، وإن كنا سمعنا أنهم عثروا عليه مخطوطًا في المملكة المغربية، ولكنهم يتكتمون أمره، وحتى الآن   1 انظر: تاريخ بغداد، ج1، ص220 - ووفيات الأعيان، ج4، ص277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 لا نعرف ما إذا كانوا عثروا عليه حقيقة أم لا، وإذا كانوا عثروا عليه فهل نشروه أم لا. وكل ما نعرف منه هو ما جاءنا عن طريق ابن هشام والذي يعرفه الناس الآن بسيرة ابن هشام، والرواية السابقة عن تكليف أبي جعفر المنصور لابن إسحاق بكتابة كتاب في التاريخ من بدء الخليقة إلى وقته هي المشهورة، ومع شهرتها فإن النفس لا تطمئن إليها، بل يمكننا أن نقول: إن محمد بن إسحاق قد ألف كتابه، أو وضع أصوله على الأقل قبل أن يغادر المدينة المنورة إلى العراق وذلك للأسباب الآتية: أولًا: تنص تلك الرواية المشهورة -التي أوردها البغدادي وابن خلكان وغيرهما- على أن الخليفة أبا جعفر المنصور طلب من ابن إسحاق أن يؤلف لابنه وولي عهده -محمد المهدي- كتابًا منذ خلق الله آدم إلى وقته الذي هو فيه، وذلك الوقت وإن لم يحدد بدقة، فهو بالتأكيد بعد سنة 136هـ، وهي السنة التي تولى فيها أبو جعفر المنصور الخلافة -بعد وفاة أخيه أبي العباس السفاح- وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا توقف ابن إسحاق بالكتاب عند وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يضمنه شيئًا سوى سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا ما كان من حديثه عن مؤتمر السقيفة، وبيعة الخليفة الأول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وهي أمور من النتائج المباشرة لوفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ثانيًا: إن كتاب ابن إسحاق الأصلي الذي اختصره ابن هشام كان يحتوي عل أخبار ما كان يرضى عنها العباسيون؛ بل كانوا يستاءون منها، مثل مشاركة جدهم العباس بن عبد المطلب في معركة بدر في صفوف المشركين ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- ووقوعه في الأسر، وفداؤه نفسه بقدر كبير من المال، ورغم ما روي من أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال عن العباس إنه خرج مكرهًا، بل نهى عن قتله -إلا أن العباسيين كانوا يستاءون جدًّا من تلك القصة- التي ذكرها ابن إسحاق في كتابه الأصلي -ونحن عرفنا ذلك من رواية العلماء الذين أخذوا عن الأصل -مثل الطبري- ولذلك حذفها ابن هشام عند تلخيصه لسيرة ابن إسحاق إرضاءً للعباسيين، وتحاشى ذكرها في كتاباته كل من محمد بن عمر الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد لنفس السبب؛ وهو كراهية العباسيين لذكرها. لذلك لو كان ابن إسحاق قد ألف كتابه بأمر أبي جعفر المنصور لكان من المستبعد أن يذكر هذه القصة، وهو يعلم أن الخليفة يستاء من ذكرها. لذلك نرجح أن أصول الكتاب وضعت في المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ثالثًا: إننا نجد من بين تلاميذ محمد بن إسحاق الذين رووا عنه كتاب المغازي، تلميذًا مدنيًّا؛ هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، الإمام الحافظ، قاضي المدينة1. ولم يعرف عنه أنه غادر المدينة إلى العراق وأقام بها إقامة طويلة مكنته من رواية ونسخ كتاب أستاذه. والأقرب إلى المنطق -والحالة هذه- أن يكون إبراهيم بن سعد قد روى عن أستاذه أصول الكتاب، وهو في المدينة، وقبل أن يغادرها إلى العراق. ومن الطبيعي أن يكون محمد بن إسحاق قد حمل معه نسخة من كتابه في رحلته إلى العراق، حيث رواه عنه تلاميذه العراقيون، ومنهم زياد بن عبد الله البكائي، الذي روى عنه عبد الملك بن هشام السيرة ولخصها ونسبت إليه، بل طغت تلك النسبة على صاحب الكتاب الأصلي، وعرفه الناس بسيرة ابن هشام. رابعًا: لم يروِ ابن إسحاق في كتابه عن أحد من علماء العراق -وهم كثيرون في ذلك الوقت- إذ يتضح من قائمة الرواة الذين روى عنهم، وذكرهم بأسمائهم بل بأنسابهم، أنه ألف كتابه واستقى مادته   1 انظر تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص252- 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 العلمية على أساس الأحاديث والروايات التي جمعها في المدينة خاصة على أساس الأحاديث والمعلومات التي جمعها في مصر -عندما زارها- فقد حرص على الأخذ من علماء مصر؛ خصوصًا أشهرهم يزيد بن أبي حبيب، وسجل ذلك. وبالمقابل لو كان ألف كتابه في العراق، لكان من المحتمل جدًّا أن يجد هناك من العلم ما يستحق أن يضيفه ويسجله في كتابه -كما فعل في مصر- ولكنه لم يفعل، فدل خلو الكتاب من أي ذكر لعلماء العراق على أنه كتب في المدينة المنورة، وقبل أن يغادرها ابن إسحاق إلى العراق، ويلتقي بالخليفة أبي جعفر المنصور ويتلقى منه الأمر بالتأليف. والله أعلم. محتويات الكتاب: ذكرنا فيما سبق أن كتاب ابن إسحاق لم يصل إلينا بنصه الأصلي، ولم يطبع حتى الآن -حسب علمنا- وإنما وصل إلينا برواية عبد الملك بن هشام عن رواية زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق. وابن هشام عندما تناول كتاب ابن إسحاق لم ينقله كما هو، وإنما أجرى فيه تعديلات كثيرة؛ بالحذف تارة، وبالإضافة تارة أخرى -وأحيانًا- بتغيير العبارة. وندع ابن هشام نفسه يوضح لنا صنيعه في الكتاب؛ فهو يقول: "وأنا -إن شاء الله- مبتدئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم -ومن ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ولده وأولادهم لأصلابهم؛ الأول فالأول، من إسماعيل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة، للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب، مما ليس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببًا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرًا له، ولا شاهدًا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارًا ذكرها لم أرَ أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره -ولعل ابن هشام يقصد بذلك مثل حادثة حضور العباس بن عبد المطلب معركة بدر في صفوف المشركين مما كان يستاء منه العباسيون، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل- وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقصٍ إن شاء الله ما سوى ذلك، بمبلغ الرواية له، والعلم به1. هذه هي خطة ابن هشام ومنهجه في تناوله لسيرة ابن إسحاق، كما شرحه بنفسه. ولابن هشام الفضل كل الفضل، في حفظ هذا السفر الخالد عن سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومغازيه، إذ لولاه لكان من   1 سيرة ابن هشام ج1، ص2، تحقيق فضيلة الشيخ المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 المحتمل أن تفقد تلك الثروة العلمية الكبيرة عن موضوع من أجل وأعظم موضوعات العلوم الإسلامية، فعلى كل طالب علم مسلم أن يحيي ابن هشام وأن يستغفر الله له ويطلب له الرحمة على هذا العمل الجليل، وتلك المكرمة العلمية التي طوق بها أعناق العلماء. وإذا كان ابن هشام قد اضطر -كما قال- لحذف أشياء من أصل الكتاب -للدواعي والأسباب التي ذكرها- فإنه لمن حسن حظنا أن كثيرًا مما حذفه ابن هشام، ذكره المؤرخون الآخرون في كتبهم -وبصفة خاصة عمدة المؤرخين المسلمين وإمامهم محمد بن جرير الطبري- وقد قام أحد الباحثين الأوروبيين المحققين؛ وهو الأستاذ يوسف هوروفيتش بتلخيص محتويات سيرة ابن إسحاق الأصلية، في ضوء نص سيرة ابن هشام، إضافة إلى النصوص التي ذكرها المؤرخون الآخرون، في كتابه المعنون: "المغازي الأولى ومؤلفوها" وهذا الكتاب القيم هو مرجعنا الأساسي في تلك المعلومات، فمؤلفه يقول: "وإذا عنينا بهذا الفقرات المحفوظة، في مقتطفات ليست في نص ابن هشام، وصلنا إلى الصورة التالية لمنهج ابن إسحاق. أ- التاريخ الجاهلي: وهو القسم الأول من كتاب ابن إسحاق، والذي يسميه المبتدأ، والذي ينقسم إلى أربعة فصول، يتناول أولها الوحي قبل الإسلام، منذ خلق الله العالم، حتى عيسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 عليه السلام، وقد لقي هذا الفصل الحظ الأوفر من إعراض ابن هشام. ولما كان ابن إسحاق معنيًّا في كل مكان بالتاريخ السنوي، أعد هذا الفصل أيضًا مثل هذا الإحصاءات، وعني بروايات وهب بن منبه، وروايات ابن عباس، وأخبار الأدباء اليهود والمسيحيين، ونص الكتاب المقدس نفسه، إلى جانب رجوعه للقرآن. ويظهر فيه -إلى جانب رجال الكتاب المقدس- القبائل العربية، من عاد وثمود بالذين أرسل الله إليهم رسله، كما يقول القرآن الكريم، ولكنه يذكر أيضًا طسمًا وجديسًا؛ وهما غير مذكورتين في القرآن. ويتناول الجزء الثاني من المبتدأ الذي حفظت مادته في كتاب ابن هشام، والذي يمكن تكميله من الطبري أيضًا تاريخ اليمن في العصور الجاهلية. ويتناول الفصل الثالث من المبتدأ القبائل العربية وعبادتها الأصنام. ويتناول الفصل الرابع أجداد النبي -صلى الله عليه وسلم- والديانات المكية. ب- المبعث: ويشمل تاريخ حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة، والهجرة، وربما شمل العام الأول من نشاطه في المدينة، ويكثر في هذا الجزء عدد الأسانيد وجل اعتماد ابن إسحاق فيه على روايات أساتذته المدنيين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 التي يبرزها في نظام سنوي، وهو يقدم الأخبار الفردية بموجز حاوٍ لمحتوياتها في الغالب، وفي هذا الجزء إلى جانب القصص التي يوردها بإسناد أو بغير إسناد، توجد وثيقة على جانب كبير من الأهمية دوَّنها ابن إسحاق وحده، ولم يذكرها أحد من كتاب المغازي الأولين، تلك الوثيقة هي معاهدة المدينة المشهورة -التي وقعها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع قبائل المدينة، وهي المسماة بنظام مجتمع المدينة ويسميها بعض الكتاب المحدثين، دستور المدينة، وكذلك يوجد بهذا الجزء من سيرة ابن إسحاق مجموعات كاملة من القوائم بأسماء الرجال، منها قائمة بأسماء المؤمنين الأولين، وقائمة بأسماء المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة، وقائمة بأسماء أول من أسلم من الأنصار، وقائمة بأسماء الذين اشتركوا في بيعة العقبة، وقائمة بأسماء المهاجرين والأنصار، الذين تلقوهم في المدينة، وقائمة بأسماء المهاجرين والأنصار الذين آخى بينهم النبي -صلى الله عليه وسلم. ج- المغازي: الجزء الثالث والأخير من كتاب ابن إسحاق -والذي يسمى المغازي هو تأريخ لحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة منذ أول يوم إلى أن لحق بالرفيق الأعلى في الثاني عشر من ربيع الأول سنة 11هـ إضافة إلى بعض الأحداث التي ترتبت على وفاته صلى الله عليه وسلم؛ مثل مؤتمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 سقيفة بني ساعدة، الذي ناقش فيه الصحابة من المهاجرين والأنصار مسألة الخلافة، والذي انتهوا فيه إلى بيعة أبي بكر الصديق خليفة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حكم الأمة الإسلامية. ولم يكد ابن إسحاق يترك شيئًا من أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، بدءًا من تأسيس مسجده والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار -طبعًا جل المؤاخاة كانت بين المهاجرين والأنصار- لكن كانت إلى جانب ذلك مؤاخاة بين مهاجر ومهاجر، ومؤاخاته صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب، وكمؤاخاة عمه حمزة بن عبد المطلب مع مولاه زيد بن حارثة -وهم مهاجرون- إضافة إلى معاهدة المدينة، وهذه الثلاثة -بناء المسجد والمؤاخاة والمعاهدة- يعتبرها المؤرخون أهم أركان وأسس الدولة الإسلامية، التي أقامها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة بعد الهجرة، ثم تنتشر في هذا الجزء من كتاب ابن إسحاق أخبار غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشكل تفصيلي وكل ما يتعلق بذلك من تشريع أخبار وأحكام، كما تنتشر فيه أيضًا أخبار النبي الشخصية؛ خاصة أزواجه وعلاقاته بهن، وهكذا إلى أن وصل إلى مرض ووفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فعالج كل ذلك بتفصيل وافٍ، والقاعدة الرئيسة هنا هي وجود الإسناد، ومصادر ابن إسحاق في كل ذلك شيوخه المدنيون، وأهمهم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري؛ الذي يدين له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ابن إسحاق بالنظام السنوي في ترتيب الأحداث، وإضافة إلى هؤلاء الشيوخ الكبار فإن ابن إسحاق أخذ كثيرًا عن غيرهم، خاصة من أقارب الرجال والنساء الذين اشتركوا في الحوادث، وسمعوا منهم، وأدوا ما سمعوه لابن إسحاق وغيره، ويستخدم ابن إسحاق منهجًا واضحًا ومحددًا في عرض غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيقدم ملخصًا للمحتويات في المقدمة، ثم يتبع ذلك بخبر جماعي مؤلف من أقوال وروايات أوثق شيوخه، ثم يكمل هذا الخبر الرئيس بالأخبار الفردية التي حصل عليها من مصادر أخرى، وقوائم الأسماء في هذا الجزء من الكتاب كثيرة، ويوردها غالبًا باكتسابها، ففيه قائمة وافية بأسماء الذين اشتركوا في غزوة بدر الكبرى، وقائمة بأسماء الذين استشهدوا من المسلمين، وقائمة بأسماء الذين قتلوا من المشركين، وأخرى بأسماء الأسرى. وقائمة بأسماء قتلى أحد والخندق وخيبر والطائف، وقائمة بأسماء المهاجرين الذين رجعوا من الحبشة مع جعفر ابن أبي طالب -رضي الله عنه. كيف وصل إلينا كتاب ابن إسحاق؟: ذكرنا -آنفًا- أننا نرجح أن ابن إسحاق قد كتب كتابه -أو وضع أصوله على الأقل- في المدينة المنورة، وقبل أن يغادرها إلى العراق، وقلنا: إن أحد تلاميذه المدنيين- وهو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف- روى عنه الكتاب، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 كان لابن إسحاق حوالي خمسة عشر تلميذًا آخرين، كلهم رووا كتاب شيخهم، منهم: مسلمة بن الفضل المتوفى عام 191هـ والذي اعتمد عليه الطبري كثيرًا فيما يرويه عن ابن إسحاق، ومنهم: يونس بن بكير المتوفى عام 199هـ، والذي اعتمد على روايته عن ابن إسحاق، كل من الحاكم في المستدرك في الفصل الخاص بالمغازي، وابن الأثير في أسد الغابة، وابن حجر في الإصابة، ويبدو أن كل النسخ التي كتبها تلاميذ ابن إسحاق العراقيون أو كانت عندهم قد ضاعت، أو تلقت ما عدا نسخة واحدة، هي نسخة زياد بن عبد الله البكائي التي كتب لها الخلود على يدي عبد الملك بن هشام. ويبدو كذلك أن الكتاب الأصلي لابن إسحاق ظل مصدرًا للأخذ منه والاعتماد عليه عدة قرون، فرغم سرعة وسعة انتشار ملخص ابن هشام -الذي أخذه من رواية زياد البكائي- لدرجة أن اليعقوبي؛ المتوفى سنة 292هـ قد استخدمه، فإن الكتاب الأصلي ظل متداولًا بعد ذلك طويلًا، إلى وقت ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ؛ فزياد بن عبد الله البكائي هو الذي أسدى إلينا هذه الخدمة الجليلة وحفظ كتاب أستاذه ابن إسحاق وأتاح لابن هشام أن يوصله لنا، فمن حقه علينا أن نعرف به لتعرفه الأجيال. فهو: زياد بن عبد الله بن الطفيل بن عامر القيسي، البكائي العامري، وكان يكنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 بأبي محمد، ويقال بأبي يزيد الكوفي، ولد وعاش وتوفي في الكوفة، ونسبه إلى عامر بن صعصعة1. روى عن عبد الملك بن عمير، وحميد الطويل، وعاصم الأحول، والأعمش، ومحمد بن إسحاق، وروى عنه جماعة من الأعلام، وأكابر العلماء والمحدثين؛ منهم: الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن عبده الضبي، وأبو غسان المهدي، وإسماعيل بن توبة، ويوسف بن حماد، وعمرو بن زرارة، وعبد الملك بن هشام السدوسي النحوي، صاحب السيرة، وقد أثنى على البكائي طائفة من العلماء، وأجمعوا على أن روايته لكتاب المغازي عن ابن إسحاق هي من أصح الروايات. قال يحيى بن آدم عن ابن إدريس: "ما أحد أثبت في ابن إسحاق منه، لأنه أملى عليه إملاء مرتين". وقال صالح ابن محمد: ليس كتاب المغازي عند أحد أصح منه عند زياد.. وذلك أنه باع داره وخرج يدور مع ابن إسحاق، حتى سمع منه الكتاب"2. هذا باختصار شديد هو زياد بن عبد الله البكائي، ويكفي أنه من حبه   1 انظر ترجمة زياد البكائي في تهذيب التهذيب لابن حجر، جـ3، صـ ووفيات الأعيان لابن خلكان، جـ2، صـ338. 2 انظر سيرة ابن هشام، جـ1، صـ29 من ترجمة المحقق فضيلة الشيخ المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد لابن هشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 للعلم -خاصة مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد باع بيته وفرغ نفسه لرواية سيرة النبي، من رائدها الأول؛ محمد بن إسحاق، وقد توفي البكائي -رحمه الله تعالى سنة 183هـ- بعد أن أدى الكتاب إلى من أوصله إلينا، والذي من حقه علينا كذلك أن نخصه بكلمة تقدير وتحية، وهو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري البصري المصري؛ فقد ولد ابن هشام في مدينة البصرة بالعراق، وفيها نشأ ودرج، وتتلمذ على علمائها ونهل من علمهم، وبعد أن تزود من علم علماء العراق، وتوج ذلك برواية السيرة عن أستاذه زياد بن عبد الله البكائي الذي أملاها عليه بنفسه؛ بعد ذلك رحل إلى مصر، التي كانت الحركة العلمية فيها آنذاك في أوج ازدهارها، بجهد علمائها، ومن وفد إليهم من علماء الأقطار الأخرى، وعندما وصل ابن هشام إلى مصر كانت سماؤها قد ازدانت بنجم ثاقب من نجوم العلم والفقه؛ وهو عالم قريش، الذي ملأ طباق الأرض علمًا: محمد بن إدريس الشافعي، الذي التقى به عبد الملك بن هشام، وتدارس معه العلم والأشعار، فقد كان كلاهما شاعرًا، فوق تبحرهما في العلوم الأخرى. وقد قضى ابن هشام في مصر بقية حياته، وقد أثرى -رحمه الله تعالى- المدرسة المصرية في علوم كثيرة؛ مثل: النحو واللغة وعلم الأنساب، ناهيك عن درته الخالدة، سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الكتاب القيم، الذي ظل مخطوطًا إلى أن قيض الله له الأستاذ وستنفيلد فقام على تحقيقه وطبعه في مدينة جوتنجن بألمانيا سنة 1859م. ومنذ أن ظهر مطبوعًا عرف الناس قيمته، وتوجهت إليه أنظار الباحثين والمهتمين بسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانتشر انتشارًا واسع النطاق في ربوع العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. وتوالت طبعاته بعد ذلك، فطبع في مطبعة بولاق، وظهرت له أكثر من طبعة محققة، من أهمها تلك التي حققها فضيلة الشيخ المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد -عميد كلية اللغة العربية الأسبق- وأحد كبار العلماء، ومن الذين لهم في مجال التحقيق باع طويل. كذلك من الطبعات المحققة تحقيقًا جيدًا تلك التي قام بتحقيقها الأستاذ مصطفى السقا وزملاؤه. وبعد؛ فهذا هو محمد بن إسحاق -أحد أعلام الطبقة الثالثة- بل رأس تلك الطبقة من كتاب المغازي والسير، والرائد الأول للكتابة المنظمة المنهجية في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو كتابه الخالد الذي لم يسبقه أحد إلى مثله، والذي أصبح الأصل الأصيل لكل من كتب في السيرة النبوية منذئذ إلى وقتنا هذا، وسيظل هو المرجع الأساسي في علوم السيرة. ولا أظن أن هذا البحث يكتمل دون أن يتضمن تعريفًا بعلمَيْن آخرين من أعلام كتابة المغازي والسير؛ وهما: محمد ابن عمر الواقدي، وتلميذه وكاتبه محمد بن سعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الواقدي : هو محمد بن عمر بن واقد، الملقب بلقبه المشهور «الواقدي» , وهو مولى من الموالي، قيل مولى بني هاشم، وقيل مولى بني سهم ابن أسلم. يعتبر الواقدي -عند العلماء-1 الثاني بعد ابن إسحاق في سعة العلم بالمغازي والسير. وقد ولد الواقدي بالمدينة المنورة سنة 130هـ وتوفي سنة 207هـ ببغداد، ودفن في مقابر الخيزران، حسب رواية تلميذه محمد بن سعد ، وقد لقي كثيرًا من الشيوخ وأخذ عنهم العلم مثل معمر بن راشد، ومالك بن أنس -الإمام المشهور- وسفيان الثوري، ومن أشهر شيوخه في السير والمغازي والتاريخ أبو معشر السندي، الذي وصفه الإمام أحمد بن حنبل بأنه كان بصيرًا بالمغازي2.وقد ألف فيها كتابًا ذكره ابن النديم في الفهرست، اقتبس منه ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى في الجزء الخاص بالسيرة النبوية وكذلك الطبري. وقد استفاد الواقدي كثيرًا   1 انظر ضحى الإسلام، جـ2، ص333. 2 انظر ضحى الإسلام جـ2، ص333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 من علم أبي معشر خاصة في المغازي والتاريخ عندما تتلمذ عليه وهو في المدينة1. وقد اتصل الواقدي بالخلفاء العباسيين، بدءًا من هارون الرشيد عن طريق علمه وسعة معلوماته عن الغزوات ومشاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد روي أن أمير المؤمنين هارون الرشيد لما حج في أول سنة من خلافته سنة 170هـ. قال ليحيى بن خالد البرمكي: "ارتد لي رجلًا عارفًا بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن أي وجه كان يأتيه، وقبور الشهداء، فسأل يحيى ابن خالد عن العالم الذي تتوفر فيه تلك الصفات التي طلبها الخليفة فدله الناس على الواقدي، وذلك حسب قوله هو -أي الواقدي- فقد قال: "كلهم دله علي، فبعث إلي فأتيته، وذلك بعد العصر، فقال لي يا شيخ؛ إن أمير المؤمنين -أعزه الله- يريد أن تصلي العشاء الآخرة في المسجد، وتمضي معنا إلى هذه المشاهد، فتوقفنا عليها، ففعلتُ، ولم أدع موضعًا من المواضع، ولا مشهدًا من المشاهد إلا مررت بهما -يعني: الخليفة هارون الرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكي- عليه. ومنحاه مالًا كثيرًا وطلب إليه يحيى بن خالد البرمكي -الذي كانت كلمته نافذة في الدولة العباسية كلها في ذلك الوقت- أن يصير إليه في العراق، ففعل، وتوطدت صلته   1 انظر ضحى الإسلام، جـ2، ص333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 به وأغدق عليه كثيرًا من الأموال وأخلص هو في حبه للبرامكة، حتى إنه بعد نكبتهم المشهورة سنة 187هـ، كان كثير الترحم على يحيى بن خالد كلما ذكر اسمه. ورغم صلة الواقدي القوية بالبرامكة إلا أن مكانته في بلاط خلفاء بني العباس ظلت كما هي، ولم ينله ضرر بسبب تلك الصلة بعد نكبتهم، بل ازدادت مكانته وثقة الخلفاء فيه إلى الحد الذي جعل المأمون يوليه القضاء في عسكر الهدى، وهي المحلة المعروفة بالرصافة في شرق بغداد، وكان المأمون كثير الإكرام له، ويداوم على رعايته وظل في منصب القضاء حتى وفاته سنة 207هـ على أرجح الأقوال. وقد نبغ الواقدي في علم المغازي والسير والتاريخ الإسلامي بصفة عامة، قال عنه البغدادي: "وهو ممن طبق شرق الأرض وغربها ذكره، ولم يخف على أحد عرف أخبار الناس أثره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم؛ من المغازي والسير والطبقات، وأخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- والأحداث التي كانت في وقته، وبعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- وكتب الفقه، واختلاف الناس في الحديث وغير ذلك"1. وحدث هو عن نفسه فقال: "ما أدركت رجلًا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا سألته، هل سمعت أحدًا من أهلك   1 انظر تاريخ بغداد، جـ3، ص1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه"1. وكان الواقدي غزير الإنتاج كثير التأليف حتى عد له ابن النديم ما يقرب من أربعين كتابًا معظمها في المغازي والسير والتاريخ -تاريخ الفتوح بصفة خاصة- وقال ابن النديم: "خلف الواقدي بعد وفاته ستمائة قمطر كتبًا، كل قمطر منها حمل رجلين، وكان له غلامان مملوكان، يكتبان الليل والنهار، وقبل ذلك بيع له كتب بألفي دينار"2. وكانت كتب الواقدي مصدرًا أصيلًا لكل المؤرخين الذين جاءوا بعده فما من مؤرخ إلا واقتبس من كتبه، مثل اقتباسات الطبري من كتاب التاريخ الكبير. ولكن لسوء الحظ ضاعت معظم هذه الثروة العلمية التي خلفها الواقدي ولم يبق من كتبه إلا عدد قليل، منها كتاب فتوح الشام، وكتاب المغازي، وقد ذكر في أوله شيوخه الذين أخذ عنهم علم المغازي فأوصلهم إلى خمسة وعشرين شيخًا، ومعظمهم من أهل المدينة.   1 المصدر السابق، ج3، ص6. 2 الفهرست لابن النديم، ص144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ومغازي الواقدي أكثر إخبارًا عن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة وهو أميل في أخباره إلى الفقه والحديث من ابن إسحاق، وهو أحيانًا يرجع إلى مادة علمية مكتوبة في صحف رآها واعتمد عليها. فقد قال تلميذه وكاتبه ابن سعد: "قال الواقدي حدثني عبد الله بن جعفر الزهري قال: وجدت في كتاب أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور.. وقال محمد بن عمر -الواقدي- نسخت كتاب أهل أذرح فإذا فيه.. إلخ. ويمتاز عمن سبقه بالدقة في تعيين تاريخ الحوادث1. ومن المآخذ التي أخذها العلماء على الواقدي أن صلته بالخلفاء العباسيين قد أثرت في أمانته العلمية، فأعرض عن ذكر الأحداث التي تغضبهم، أو لا يرضون عنها، ومن أمثلة ذلك حذف اسم العباس بن عبد المطلب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- من جملة أسماء الذين شاركوا في معركة بدر من مشركي مكة، ووقعوا أسرى في يد المسلمين. رأي العلماء في الواقدي: اختلف علماء الحديث حول الواقدي اختلافًا كبيرًا، بين معدِّل له وبين مجرِّح، وقد حكى الخطيب البغدادي أقوالهم2 على   1 ضحى الإسلام، جـ2، ص336. 2 انظر تاريخ بغداد، جـ3، ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 اختلافها، وملخصها أن الإمام مالك بن أنس كان يثق في رواياته -بينما كان لا يثق في روايات ابن إسحاق كما سبق ذكره- وكذلك كان يثق في الواقدي من فقهاء الحنفية: محمد بن الحسن الشيباني، بل لقبه بأمير المؤمنين في الحديث، وذلك قبل أن يصبح هذا اللقب مقصورًا على الإمام البخاري فيما بعد. ووثق به من فقهاء الشافعية: القاسم بن سلام. أما الذين طعنوا عليه فمنهم، علي بن محمد المديني، ومن أقواله فيه: "عند الواقدي عشرون ألف حديث لم يسمع بها". وقال عنه يحيى بن معين: "أغرب الواقدي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرين ألف حديث". وقال عنه أحمد بن حنبل: "الواقدي يركب الأسانيد". والظاهر أن مطاعن المحدثين عليه كمطاعنهم على غيره من كتاب المغازي والسير؛ لاختلاف المنهج بين الطائفتين. فهو لم يكن يتقيد بمذهبهم من ناحتين: الأولى: أنه كان يأخذ من الصحف، ويعتمد على الكتب، وثقات المحدثين كانوا يكرهون تلك الطريقة أشد الكراهية، ويرون أنه لا يصح للمحدث أن يحدث بحديث إلا إذا كان قد سمعه بأذنه ممن روى عنه. الثانية: أنه كان يجمع الأسانيد المختلفة ويجيء بالمتن واحدًا، مع أن جزءًا من المتن لبعض الرواة، وجزءًا آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 لرواة آخرين، وكان المحدثون يعدون هذا عيبًا، وقد عابوا ذلك على الزهري وتلميذه ابن إسحاق من قبل. وكان عذر الواقدي لاستعماله تلك الطريقة، أنه لو أفرد كل حديث بسنده لطال الأمر جدًّا، فقد روي أنه لما طالبه تلاميذه بإفراد كل حديث بسنده، أراد أن يبرهن لهم على سلامة منهجه، فجاءهم بالأحاديث الخاصة بغزوة أحد باتباع إفراد كل حديث بسنده فاستكثروا ذلك؛ وقالوا: ردنا إلى الأمر الأول1. والخلاصة، أنه مهما كان من أمر اختلاف العلماء حول الواقدي -والناس لا يختلفون عادة إلا على الأشياء الكبيرة- فقد كان واسع العلم بالمغازي والسير، كما كان عالمًا بالفقه والحديث والتفسير، وكان من أكبر المصادر التي عول عليها واعتمدها كبار المؤرخين، خاصة الطبري. وقد سبق أن ابن النديم عد للواقدي ما يقرب من أربعين كتابًا في مختلف العلوم الإسلامية، أشهرها في السير والمغازي، والفتوح، كفتوح الشام، وفتوح العراق. فرحمه الله وجزاه عن العلم خير الجزاء.   1 انظر تاريخ بغداد جـ3 ص7، وضحى الإسلام جـ2 ص337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 محمد بن سعد : يعتبر محمد بن سعد آخر الكتاب الكبار في المغازي والسير وهو من مواليد البصرة سنة 168هـ، وكان من الموالي؛ فآباؤه كانوا موالي للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، وقد رحل ابن سعد إلى المدينة المنورة، ثم إلى بغداد، حيث اتصل بأستاذه محمد بن عمر الواقدي، وارتبط به ارتباطًا وثيقًا، وكان يدون له كتبه وأحاديثه1، ومن أجل ذلك اشتهر بأنه كاتب الواقدي، واستفاد ابن سعد من أستاذه فائدة كبرى، ومعظم كتبه التي ألفها استقاها من علمه -وليس معنى هذا أنه لم يستفد من علم غيره، فقد استفاد كثيرًا من علماء آخرين سبقوا الواقدي كابن إسحاق وأبي معشر السندي، وموسى بن عقبة، وغيرهم- وكما استفاد ابن سعد من علم أستاذه، فقد كان هو نفسه صاحب فضل كبير في ترتيب علم أستاذه، وكثيرًا ما كان يزيد عليه، فقد كان يكمل ما كان ينقص الواقدي من أخبار الجاهلية، وقد استعان في ذلك بعلم هشام الكلبي، الذي كان حجة في أخبار الجاهلية، وقد خلف لنا ابن سعد واحدًا من أهم وأشهر المصادر الإسلامية، في السير والمغازي، وأخبار الصحابة والتابعين وطبقاتهم- وهو كتاب   1 انظر الفهرست لابن النديم ص145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الطبقات الكبرى، والذي وصلنا سالمًا -لحسن الحظ- وهو في ثمانية أجزاء، وقد خصص ابن سعد الجزأين: الأول والثاني منه لسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومغازيه والأجزاء الستة الباقية خصصها لأخبار الصحابة والتابعين حسب مواطنهم وأمصارهم، فمن في مكة المكرمة، ومن في المدينة المنورة، ومن في البصرة، ومن في الكوفة، ثم رتب علماء كل مصر، حسب شهرتهم وزمانهم. وكان ابن سعد موضع ثقة المحدثين، ومدحه كثيرون منهم، فقد قال فيه الخطيب البغدادي: "محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل على صدقه، فإنه يتحرى في كثير من رواياته"1. وإذا كان ابن سعد قد تتلمذ على أشهر علماء السير والمغازي في وقته، وارتبط اسمه واشتهر بأنه كاتبه، وهو الواقدي، فقد كان هو بدوره أستاذًا لكثير من العلماء، من أشهرهم المؤرخ الكبير، البلاذري صاحب كتاب فتوح البلدان، وهو من أشهر وأهم الكتب في موضوعه. وقد توفي ابن سعد في بغداد سنة 230هـ. رحمه الله رحمة واسعة. هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم، هم أشهر وأكبر مؤرخي وكتاب المغازي والسير، طوال القرنين الأول والثاني للهجرة ومطلع   1 انظر تاريخ بغداد، جـ5، ص321، وانظر كذلك ضحى الإسلام، جـ2، ص328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 القرن الثالث، ومن خلال ما مر نستطيع أن نستنتج النتائج الآتية:1. 1- إن أكثر وأشهر كتاب السير والمغازي الأولين، كانوا من أهل المدينة، وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا، لأن أكثر أحداث السيرة، وكل المغازي كانت في المدينة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو محور كل ذلك، وكان من حوله من الصحابة أعرف الناس بتلك الأخبار، لأنهم شهودها ومشتركون فيها، وكان يروونها ويحدثون بها ويتناقلونها في فخر واعتزاز كبيرين، وقد تلقى التابعون منهم كل ذلك بشغف كبير وسلموا كل ذلك إلى رجال التدوين الذين حفظوه بكل تفاصيله، وسلموه بدورهم للأجيال التالية حتى وصل إلينا، وهو ثروة قلما حظيت بها أمة من الأمم عن تاريخ نبيها وسيرته ومغازيه، فجزاهم الله خير الجزاء، وغفر لهم، وأسكنهم فسيح جناته. 2- كانت السير والمغازي -في البداية- جزءًا من الحديث يرويه الصحابة، كما يروون الأحاديث، وقد شغلت السيرة النبوية حيزًا غير قليل من الأحاديث، والذين ألفوا في الأحاديث لم تخلُ كتبهم من ذكر ما يتعلق بحياة النبي -صلى الله وعليه وسلم- ومغازيه وخصائصه ومناقبه، وقد استمر هذا المنهج، حتى بعد أن انفصلت السيرة، عن علوم الحديث، وأصبحت علمًا مستقلًّا، له علماؤه ومؤلفوه، وأقدم كتاب   1 انظر في ذلك، ضحى الإسلام، جـ2، ص338- 339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وصل إلينا في علم الحديث، وهو موطأ الإمام مالك بن أنس -المتوفى سنة 179هـ- لم يخلُ من ذكر طائفة كبيرة من الأحاديث التي تتعلق بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأوصافه وأسمائه، وذكر ما يتعلق بالجهاد1. واستمر هذا التقليد، أو هذا المنهج بعد ذلك في كتب كبار علماء المحدثين، وفي مقدمتهم الإمامان: البخاري -المتوفى سنة 256هـ- ومسلم بن الحجاج -المتوفى سنة 261هـ- فقد اشتمل صحيحاهما على جزء كبير من مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفضائله وفضائل أصحابه ومناقبهم، وقد شغل ذلك عشر صحيح البخاري2 وحذا حذو البخاري ومسلم أصحاب السنن والمسانيد في كتبهم. 3- سلك معظم المؤلفين الأوائل في السيرة والمغازي مسلك علماء الحديث؛ من حيث العناية بالإسناد، وإن بعضهم -كمحمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر الواقدي وأمثالهما- قد اضطر هؤلاء مراعاة لسير الحوادث وترتيبها في نسق واحد، أن يجمعوا الأسانيد، ويجمعوا بعد ذلك المتن، من غير أن يفردوا كل جزء من المتن بسنده، وقد قصدوا بذلك عرض الحادثة التاريخية في   1 انظر السيرة النبوية للشيخ محمد أبو شهبة ص23. 2 المرجع السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 إيجاز؛ تسهيلًا على القراء. ولكن المحدثين عابوا عليهم تلك الطريقة، وهاجموهم من أجلها، كما ذكرنا آنفًا. وبعد؛ فهؤلاء هم أشهر رواد علم السيرة النبوية ومغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نقدمهم للمسلمين؛ ليعرفوا فضلهم في تسجيل أحداث أشرف سيرة وأعطر حياة عرفتها البشرية، وهي سيرة وحياة خير الخلق أجمعين؛ محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 محتويات الكتاب : الصفحة الموضوع 3 مقدمة. 13 دوافع المسلمين للاهتمام بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم. 14 بداية التأليف في السيرة النبوية. 19 طبقات كتاب السيرة. 19 رجال الطبقة الأولى من كتاب المغازي والسير. 19 أبان بن عثمان. 21 عروة بن الزبير. 25 شرحبيل بن سعد. 25 وهب بن منبه. 28 رجال الطبقة الثانية من كتَّاب المغازي والسير. 30 محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. 33 عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو. 36 عاصم بن عمرو بن قتادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الصفحة الموضوع 37 رجال الطبقة الثالثة من كتاب المغازي والسير. 37 موسى بن عقبة. 39 معمر بن راشد. 40 محمد بن إسحاق المطلبي. 75 الواقدي. 82 محمد بن سعد. طبع بمطبعة وزارة الأوقاف بطرة البلد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88