الكتاب: جامع الرسائل المؤلف: تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) المحقق: د. محمد رشاد سالم الناشر: دار العطاء - الرياض الطبعة: الأولى 1422هـ - 2001م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم ابن تيمية الكتاب: جامع الرسائل المؤلف: تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) المحقق: د. محمد رشاد سالم الناشر: دار العطاء - الرياض الطبعة: الأولى 1422هـ - 2001م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[جامع الرسائل]ـ المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) المحقق: د. محمد رشاد سالم الناشر: دار العطاء - الرياض الطبعة: الأولى 1422هـ - 2001م عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] رِسَالَة فِي قنوت الْأَشْيَاء كلهَا لله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين وَبِه الْقُوَّة الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله أَجْمَعِينَ وَسلم تَسْلِيمًا فصل فِي قنوت الْأَشْيَاء لله عز وَجل وإسلامها وسجودها لَهُ وتسبحها لَهُ الْقُنُوت فِي الْقُرْآن فَإِن هَذِه الْأَرْبَعَة قد ذكرهَا الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن قَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ بل لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} [سُورَة الْبَقَرَة 116، 117] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الرّوم {وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} [سُورَة الرّوم 26، 27] الْإِسْلَام وَأما الْإِسْلَام فَقَالَ تَعَالَى {أفغير دين الله يَبْغُونَ وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وَإِلَيْهِ يرجعُونَ} [سُورَة آل عمرَان 83] السُّجُود وَأما السُّجُود فَقَالَ تَعَالَى {وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} [سُورَة الرَّعْد 15] وَقَالَ {أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 سجدا لله وهم داخرون وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة وَالْمَلَائِكَة وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [سُورَة النَّحْل 48، 49] وَقَالَ تَعَالَى ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَكثير من النَّاس وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب [سُورَة الْحَج 18] التَّسْبِيح وَأما التَّسْبِيح فَقَالَ تَعَالَى تسبح لَهُ السَّمَوَات السَّبع وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [سُورَة الْإِسْرَاء 44] وَقَالَ تَعَالَى سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض [سُورَة الصَّفّ 1] [سُورَة الْحَشْر 1] فِي موضِعين وسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض [سُورَة الْحَدِيد 1] ويسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض [سُورَة الْجُمُعَة 1] [سُورَة التغابن 1] فِي موضِعين فَخمس سور افتتحت بِذكر تسبح مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض لَهُ وَقَالَ ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه [سُورَة النُّور 41] فَأَما قَوْله تَعَالَى وَقَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ [سُورَة الْبَقَرَة 116] فَهُوَ نَظِير قَوْله وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا إِن كل من السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتٍ الرَّحْمَن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وَكلهمْ آتيه يَوْم الْقِيَامَة فَردا [سُورَة مَرْيَم 88 - 95] وَقد قَالَ تَعَالَى قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض إِن عنْدكُمْ من سُلْطَان بِهَذَا أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ [سُورَة يُونُس 68] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وَقَالَ تَعَالَى وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون إِلَى قَوْله وهم من خَشيته مشفقون [سُورَة الْأَنْبِيَاء 26 - 29] الْقُنُوت فِي اللُّغَة والقنوت فِي اللُّغَة دوَام الطَّاعَة والمصلى إِذا طَال قِيَامه أَو رُكُوعه أَو سُجُوده فَهُوَ قَانِت فِي ذَلِك كُله قَالَ تَعَالَى أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل سَاجِدا وَقَائِمًا يحذر الْآخِرَة ويرجو رَحْمَة ربه [سُورَة الزمر 9] فَجعله قَانِتًا فِي حَال السُّجُود وَالْقِيَام وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي الصَّلَاة أفضل فَقَالَ طول الْقُنُوت وَلم يرد بِهِ طول الْقيام فَقَط بل طول الْقيام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود كَمَا كَانَت صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت معتدلة إِذا أَطَالَ الْقيام أَطَالَ الرُّكُوع وَالسُّجُود وَقَالَ تَعَالَى إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا [سُورَة النَّحْل 120] وَقَالَ تَعَالَى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بِمَا حظف الله [سُورَة النِّسَاء 34] وَقَالَ تَعَالَى عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن مسلمات مؤمنات قانتات [سُورَة التَّحْرِيم 5] وَقَالَ تَعَالَى إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات والقانتين والقانتات [سُورَة الْأَحْزَاب 35] وسمى إطالة الْقيام فِي الصَّلَاة قنوتا لِأَنَّهُ يُطِيل فِيهِ الطَّاعَة وَلَو صلى قَاعِدا لقنت وَهُوَ قَاعد وَكَذَلِكَ إِذا صلى على جنب قنت وَهُوَ على جنب وَالْقِيَام قبل الرُّكُوع يُسمى أَيْضا قنوتا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 قَالَ ابْن قُتَيْبَة لَا أرى أصل الْقُنُوت إِلَّا الطَّاعَة لِأَن جَمِيع الْخلال من الصَّلَاة وَالْقِيَام فِيهَا وَالدُّعَاء وَغير ذَلِك يكون عَنْهَا وَقَالَ أَبُو الْفرج قَالَ الزّجاج الْقُنُوت هُوَ فِي اللُّغَة بمعنيين أَحدهمَا الْقيام وَالثَّانِي الطَّاعَة وَالْمَشْهُور فِي اللُّغَة والإستعمال أَن الْقُنُوت الدُّعَاء فِي الْقيام فالقانت الْقَائِم بِأَمْر الله وَيجوز أَن يَقع فِي جَمِيع الطَّاعَات لِأَنَّهُ وَإِن لم يكن قيَاما على الرجلَيْن فَهُوَ قيام بِالنِّيَّةِ قلت هَذَا ضَعِيف لَا يعرف فِي اللُّغَة أَن مُجَرّد الْقيام يُسمى قنوتا وَالرجل يقوم مَاشِيا وَقَائِمًا فِي أُمُور وَلَا يُسمى قَانِتًا وَهُوَ فِي الصَّلَاة يُسمى قَانِتًا لكَونه مُطيعًا عابدا وَلَو قنت قَاعِدا ونائما سمي قَانِتًا وَقَوله تَعَالَى وَقومُوا لله قَانِتِينَ [سُورَة الْبَقَرَة 238] يدل على أَنه لَيْسَ هُوَ الْقيام وَإِنَّمَا هُوَ صفة فِي الْقيام يكون بهَا الْقَائِم قَانِتًا وَهَذِه الصّفة تكون فِي السُّجُود أَيْضا كَمَا قَالَ أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل سَاجِدا وَقَائِمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الْقُنُوت عِنْد ابْن تَيْمِية هُوَ الطَّاعَة فَقَوْل الْقَائِل إِن الْمَشْهُور فِي اللُّغَة أَنه الدُّعَاء فِي الْقيام إِنَّمَا اخذه من كَون هَذَا الْمَعْنى شاع فِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء إِذا تكلمُوا فِي الْقُنُوت وَالصَّلَاة وَهَذَا عرف خَاص وَمَعَ هَذَا فالفقهاء يذكرُونَ الْقُنُوت سَوَاء صلى قَائِما أَو قَاعِدا أَو مُضْطَجعا لَكِن لما كَانَ الْفَرْض لَيْسَ يَصح أَن يصليه إِلَّا قَائِما وَصَلَاة الْقَاعِد على النّصْف من صَلَاة الْقَائِم صَار الْقُنُوت فِي الْقيام أَكثر وَأشهر وَإِلَّا فَلفظ الْقُنُوت فِي الْقُرْآن واللغة لَيْسَ مَشْهُورا فِي هَذَا الْمَعْنى بل وَلَا أُرِيد بِهِ هَذَا الْمَعْنى وَلَا هُوَ أَيْضا مُشْتَركا بل اللَّفْظ بِمَعْنى الطَّاعَة أَو الطَّاعَة الدائمة وَلِهَذَا يفسره الْمُفَسِّرُونَ بذلك وَقد رُوِيَ فِي ذَلِك حَدِيث مَرْفُوع رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من النُّسْخَة المصرية الَّتِي يرْوى مِنْهَا التِّرْمِذِيّ وَغَيره من حَدِيث ابْن وهب أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث أَن دَرَّاجًا أَبَا السَّمْح حَدثهُ عَن أبي الْهَيْثَم عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كل حرف فِي الْقُرْآن يذكر فِيهِ الْقُنُوت فَهُوَ الطَّاعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وَفِي تَفْسِير ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فالصالحات قانتات [سُورَة النِّسَاء 34] مطيعات قَالَ ابْن أبي حَاتِم وروى عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَأبي مَالك وَعَطَاء وَقَتَادَة السّديّ مثل ذَلِك وروى عَن مقَاتل بن حَيَّان قَالَ مطيعات لله ولأزواجهن فِي الْمَعْرُوف وروى عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله والقانتين والقانتات قَالَ يَعْنِي المطيعين والمطيعات قَالَ وروى عَن قَتَادَة وَالسُّديّ وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم مثل ذَلِك وروى بِإِسْنَادِهِ عَن أبي الْعَالِيَة فِي قَوْله يَا مَرْيَم اقنتي لِرَبِّك [سُورَة آل عمرَان 43] قَالَ اركدي لِرَبِّك وَعَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ ركدت فِي مِحْرَابهَا قَائِمَة وراكعة وساجدة حَتَّى نزل مَاء الْأَصْفَر فِي قدميها وَعَن الْحسن أَنه سُئِلَ عَن قَوْله اقنتي لِرَبِّك واسجدي قَالَ يَقُول اعبدي لِرَبِّك وَعَن لَيْث عَن مُجَاهِد قَالَ كَانَت تقوم حَتَّى تتورم قدماها وَقَوله تَعَالَى أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل قَالَ ابْن أبي حَاتِم تقدم تَفْسِير القانت فِي غير مَوضِع القانت الَّذِي يُطِيع الله وَرَسُوله وروى عَن أَحْمد بن سِنَان عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان عَن فراس عَن الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ القانت الَّذِي يُطِيع الله وَرَسُوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فَهَذَا تَفْسِير السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ لألفاظ الْقُنُوت فِي الْقُرْآن فصل وَكَذَلِكَ فسروا الْقُنُوت فِي قَوْله بل لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون [سُورَة الْبَقَرَة 116] لَكِن تنوع كَلَامهم فِي طَاعَة الْمَخْلُوقَات كلهَا لما رَأَوْا أَن من الْجِنّ وَالْإِنْس من يَعْصِي أَمر الله الَّذِي بعث بِهِ رسله فَذكر كل وَاحِد نوعا من الْقُنُوت الَّذِي يعم الْمَخْلُوقَات رِوَايَة ابْن أبي حَاتِم أوجه تَفْسِير لفظ الْقُنُوت قَالَ ابْن أبي حَاتِم اخْتلف فِي قَوْله كل لَهُ قانتون على أوجه وروى بِإِسْنَادِهِ الحَدِيث الْمَرْفُوع كل حرف فِي الْقُرْآن يذكر فِيهِ الْقُنُوت فَهُوَ الطَّاعَة الْوَجْه الأول الطَّاعَة وروى عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد قانتون قَالَ مطيعون يَقُول طَاعَة الْكَافِر فِي سُجُوده سُجُود ظله وَهُوَ كَارِه وَأَيْضًا عَن شريك عَن خصيف عَن مُجَاهِد كل لَهُ قانتون قَالَ مطيعون كن إنْسَانا فَكَانَ وَقَالَ كن حمارا فَكَانَ فَفَسَّرَهَا مُجَاهِد بِالسُّجُود طَوْعًا وَكرها وَفسّر الكره بسجوده ظله وفسرها أَيْضا بِطَاعَة أمره الكوني وَهُوَ قَوْله إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون [سُورَة يس 82] وَهَذَا الْأَمر الكوني لَا يخرج عَنهُ أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وَقد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول أعوذ بِكَلِمَات الله التامات الَّتِي لَا يجاوزهن بر وَلَا فَاجر وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ذكرهمَا ابْن الْأَنْبَارِي مَعَ ذكره وَجها آخر أَنَّهَا خَاصَّة قَالَ أَبُو الْفرج فَإِن قيل كَيفَ عَم بِهَذَا القَوْل وَكثير من الْخلق لَيْسَ لَهُ بمطيع فَفِيهِ ثَلَاثَة أجوبه أَحدهَا أَن يكون ظَاهرهَا الْعُمُوم وَمَعْنَاهَا معنى الْخُصُوص وَالْمعْنَى كل أهل الطَّاعَة لَهُ قانتون وَالثَّانِي أَن الْكفَّار تسْجد ظلالهم لله بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال والعشيات فنسب الْقُنُوت إِلَيْهِم بذلك وَالثَّالِث أَن كل مَخْلُوق قَانِت لَهُ بأثر صنعه فِيهِ وَجرى أَحْكَامه عَلَيْهِ فَذَلِك دَلِيل على إِلَه كَونه ذكرهن ابْن الْأَنْبَارِي الْوَجْه الثَّانِي الصَّلَاة قَالَ ابْن أبي حَاتِم الْوَجْه الثَّانِي حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج ثَنَا أَسْبَاط عَن مطرف عَن عَطِيَّة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قانتون مصلون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 قلت وَهَذَا من جنس وصفهَا بِالسُّجُود لَهُ وَالتَّسْبِيح قَالَ تَعَالَى ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه [سُورَة النُّور 41] لَكِن قد يُقَال فَالصَّلَاة صَلَاة الْمَخْلُوقَات وَالْمُؤمنِينَ وَلم يرد أَن الْكَافرين يصلونَ فَتكون الْآيَة خَاصَّة وَلِهَذَا حكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ هِيَ خَاصَّة الْوَجْه الثَّالِث الْإِقْرَار بالعبودية قَالَ وَالْوَجْه الثَّالِث ثمَّ روى بِالْإِسْنَادِ الْمَرْوِيّ عَن الْحُسَيْن بن وَاقد عَن أَبِيه عَن يزِيد النَّحْوِيّ عَن عِكْرِمَة كل لَهُ قانتون قَالَ مقرون بالعبودية قَالَ وروى عَن أبي مَالك نَحوه قلت وَهَذَا إِخْبَار عَمَّا فطروا عَلَيْهِ من الْإِقْرَار بِأَن الله رَبهم كَمَا قَالَ وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى الْآيَة [سُورَة الْأَعْرَاف 172] فَإِن هَذِه الْآيَة بَينه فِي إقرارهم وشهادتهم على أنفسهم بالمعرفة الَّتِي فطروا عَلَيْهَا أَن الله رَبهم وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مولولد مولد على الْفطْرَة وَطَائِفَة من الْعلمَاء جعلُوا هَذَا الْإِقْرَار لما اسْتخْرجُوا من صلب آدم وَأَنه أنطقهم وأشهدهم لَكِن هَذَا لم يثبت بِهِ خبر صَحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْآيَة لَا تدل عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَإِنَّمَا الَّذِي جَاءَت بِهِ الْأَحَادِيث الْمَعْرُوفَة أَنه استخرجهم وأراهم لآدَم وميز بَين أهل الْجنَّة وَأهل النَّار مِنْهُم فعرفوا من يَوْمئِذٍ هَذَا فِيهِ مأثور من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره بِإِسْنَاد جيد وَهُوَ أَيْضا من حَدِيث عمر بن الْخطاب الَّذِي رَوَاهُ أهل السّنَن وَمَالك فِي الْمُوَطَّأ وَهُوَ يصلح للإعتضاد وَأما إنطاقهم وإشهادهم فروى عَن بعض السّلف وَقد روى عَن أبي وَابْن عَبَّاس وَبَعْضهمْ رَوَاهُ مَرْفُوعا من طَرِيق ابْن عَبَّاس وَغَيره وروى ذَلِك الْحَاكِم فِي صَحِيحه لَكِن هَذَا ضَعِيف وللحاكم مثل هَذَا يرْوى أَحَادِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 مَوْضُوعَة فِي صَحِيحه مثل حَدِيث زريب بن برثملي وَهَامة بن الهيم وَغير ذَلِك وَبسط هَذَا لَهُ مَوضِع آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 لَكِن كَون الْخلق مفطورين على الْإِقْرَار بالخالق أَمر دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَهُوَ مَعْرُوف بدلائل الْعُقُول كَمَا قد بسط فِي مَوَاضِع وَبَين أَن الْإِقْرَار بالخالق فطري ضَرُورِيّ فِي جبلات النَّاس لَكِن من النَّاس من فَسدتْ فطرته فَاحْتَاجَ إِلَى دَوَاء بِمَنْزِلَة السفسطة الَّتِي تعرض لكثير من النَّاس فِي كثير من المعارف الضرورية كَمَا قد بسط فِي غير هَذَا الْموضع وَهَؤُلَاء يَحْتَاجُونَ إِلَى النّظر وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور النَّاس أَن أصل الْمعرفَة قد يَقع ضَرُورِيًّا فطريا وَقد يحْتَاج فِيهِ إِلَى النّظر والإستدلال وَكثير من أهل الْكَلَام يَقُول إِنَّه لَا يجوز أَن تقع الْمعرفَة ضَرُورِيَّة بل لَا تقع إِلَّا بِنَظَر وَكسب قَالُوا لِأَنَّهَا لَو وَقعت ضَرُورَة لارتفع التَّكْلِيف والإمتحان وَمِنْهُم من ادّعى انْتِفَاء ذَلِك فِي الْوَاقِع وَهَذَا ضَعِيف لِأَن الإمتحان والتكليف الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُل كَانَ بِأَن يعبدوا الله وَحده لَا يشركُونَ بِهِ إِلَى هَذَا دَعَا عَامَّة الرُّسُل وَمن كَانَ من النَّاس جاحدا دَعوه إِلَى الإعتراف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 بالصانع كفرعون وَنَحْوه مَعَ أَنه كَانَ فِي الْبَاطِن عَارِفًا وَإِنَّمَا جحد ظلما وعلوا كَمَا قَالَ تَعَالَى وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [سُورَة النَّمْل 14] وَقَالَ لَهُ مُوسَى لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَوَات وَالْأَرْض بصائر [سُورَة الْإِسْرَاء 102] وَخَاتم الرُّسُل دَعَا النَّاس إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ فَقَالَ أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَقَالَ لِمعَاذ فِي الحَدِيث الصَّحِيح إِنَّك تَأتي قوما أهل كتاب فَلْيَكُن أول مَا تدعوهم إِلَيْهِ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَإِن هم أطاعوا لَك بذلك فأعلمهم أَن الله افْترض عَلَيْهِم خمس صلوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فَإِن هم أطاعوا لَك فأعلمهم أَن الله افْترض عَلَيْهِم صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد فِي فقرائهم وَلِهَذَا قَالَت الرُّسُل لقومهم مَا أخبر الله تَعَالَى بِهِ فِي قَوْله عز وجلّ ألم يأتكم نبأ الَّذين من قبلكُمْ قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم إِلَى قَوْله وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ [سُورَة إِبْرَاهِيم 9 - 11] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وَأَيْضًا فَإِن المعارف لَا بُد أَن تَنْتَهِي إِلَى مُقَدمَات ضَرُورِيَّة وهم لَا يؤمرون بتحصيل الْحَاصِل بل يؤمرون بِالْعَمَلِ بموجبها وبعلوم أُخْرَى يكتسبونها بهَا وَأَيْضًا فَإِن أَكثر النَّاس غافلون عَمَّا فطروا عَلَيْهِ من الْعلم فَيذكرُونَ بِالْعلمِ الَّذِي فطروا عَلَيْهِ وأصل الْإِقْرَار من هَذَا الْبَاب وَلِهَذَا تُوصَف الرُّسُل بِأَنَّهُم يذكرُونَ ويصف الله تَعَالَى آيَاته بِأَنَّهَا تذكرة وتبصرة كَمَا فِي قَوْله تبصرة وذكرى لكل عبد منيب [سُورَة ق 8] فَإِذا كَانَ من المعارف مَا هُوَ ضَرُورِيّ بالِاتِّفَاقِ وَلم يكن ذَلِك مَانِعا من الْأَمر وَالنَّهْي إِمَّا بتذكرة وَإِمَّا بالإستدلال فَيُؤْمَر النَّاس تَارَة بالتذكرة وَتارَة بالتبصرة ثمَّ يُؤمر النَّاس أَن يقرُّوا بِمَا علموه ويشهدوا بِهِ فَلَا يعاندوه وَلَا يجحدوه وَأكْثر الْكفَّار جَحَدُوا مَا علموه والإعتراف بِالْحَقِّ الَّذِي يعلم وَالشَّهَادَة بِهِ والخضوع لصَاحبه لَا بُد مِنْهُ فِي الْإِيمَان وإبليس وَفرْعَوْن وَغَيرهمَا كفرُوا للعناد والإستكبار كَمَا ذكر الله تَعَالَى ذَلِك فِي كِتَابه وَلَكِن الْجَهْمِية لما ظنت أَن مُجَرّد معرفَة الْقلب هِيَ الْإِيمَان أَرَادوا أَن يجْعَلُوا ذَلِك مكتسبا وَزَعَمُوا أَن من كفره الشَّرْع كإبليس وَفرْعَوْن لم يكن فِي قلبه من الْإِقْرَار شَيْء كَمَا زَعَمُوا أَنه يُمكن أَن يقوم بقلب العَبْد إِيمَان تَامّ مَعَ كَونه يعادي الله وَرَسُوله ويسب الله وَرَسُوله فِي الظَّاهِر من غير إِكْرَاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وَلِهَذَا كفر وَكِيع بن الْجراح وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهمَا من الْأَئِمَّة من قَالَ بقَوْلهمْ كَمَا هُوَ مَبْسُوط فِي موَاضعه وَالْمَقْصُود هُنَا بَيَان قَول من قَالَ من السّلف كعكرمة وَأبي مَالك كل لَهُ قانتون أَي مقرون لَهُ بالعبودية الْوَجْه الرَّابِع الْقيام يَوْم الْقِيَامَة قَالَ ابْن أبي حَاتِم وَالْوَجْه الرَّابِع ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوف عَن الرّبيع بن أنس كل لَهُ قانتون قَالَ كل لَهُ قَائِم يَوْم الْقِيَامَة الْوَجْه الْخَامِس قَول الْإِخْلَاص وَالْخَامِس ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث عبد الله بن الْمُبَارك عَن شريك عَن سَالم عَن سعيد بن جُبَير كل لَهُ قانتون بقول الْإِخْلَاص قلت وَهَذَا إِن أَرَادَ بِهِ اعترافهم بِأَنَّهُ رَبهم وَأَنَّهُمْ إِذا اضطروا دعوا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 مُخلصين لَهُ الدَّين فَهُوَ من جنس قَول عِكْرِمَة وَإِلَّا فالإخلاص الَّذِي أمروا بِهِ وَهُوَ أَن يعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدَّين إِنَّمَا قَامَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَهَذَا إِنَّمَا يكون على قَول من يزْعم أَن الْآيَة خَاصَّة وَلم يذكر ابْن أبي حَاتِم هَذَا صَرِيحًا عَن أحد من السّلف إِلَّا أَن يتَأَوَّل على ذَلِك قَول ابْن عَبَّاس أَو قَول سعيد أَقْوَال الْمُفَسّرين هَذَا وَلم يذكر أَبُو الْفرج هَذَا عَن أحد من السّلف لم يذكرهُ إِلَّا فِيمَا تقدم عَن ابْن الْأَنْبَارِي بل قَالَ وللمفسرين فِي المُرَاد بِالْقُنُوتِ هَهُنَا ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا أَنه الطَّاعَة قَالَه ابْن عَبَّاس وَابْن جُبَير وَمُجاهد وَقَتَادَة وَالثَّانِي الْإِقْرَار بِالْعبَادَة قَالَه عِكْرِمَة وَالسُّديّ وَالثَّالِث الْقيام قَالَه الْحسن وَالربيع قَالَ وَفِي معنى الْقيام قَولَانِ أَحدهمَا أَنه الْقيام لَهُ بِالشَّهَادَةِ بالعبودية وَالثَّانِي أَنه الْقيام بَين يَدَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة لَكِن طَائِفَة من الْمُفَسّرين ذكرُوا عَن الْمُفَسّرين قَوْلَيْنِ كَالثَّعْلَبِيِّ وَالْبَغوِيّ وَغَيرهمَا قَالُوا وَاللَّفْظ لِلْبَغوِيِّ كل لَهُ قانتون قَالَ مُجَاهِد وَعَطَاء وَالسُّديّ مطيعون وَقَالَ عِكْرِمَة وَمُقَاتِل مقرون بالعبودية وَقَالَ ابْن كيسَان قائمون بِالشَّهَادَةِ وأصل الْقُنُوت الْقيام قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الصَّلَاة طول الْقُنُوت هَل الْقُنُوت خَاص أم عَام؟ قَالَ وَاخْتلفُوا فِي حكم الْآيَة فَذهب جمَاعَة إِلَى أَن حكم الْآيَة خَاص قَالَ مقَاتل هُوَ رَاجع إِلَى عُزَيْر والمسيح وَالْمَلَائِكَة وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ هُوَ رَاجع إِلَى أهل طَاعَته دون سَائِر النَّاس قَالَ وَذهب جمَاعَة إِلَى أَن حكم الْآيَة عَام فِي جَمِيع الْخلق لِأَن لفظ الْكل يَقْتَضِي الْإِحَاطَة بالشَّيْء بِحَيْثُ لَا يشذمنه شَيْء ثمَّ سلكوا فِي الْكفَّار طَرِيقين قَالَ مُجَاهِد تسْجد ظلالهم لله عز وجلّ على كره مِنْهُم قَالَ تَعَالَى وظلالهم بِالْغُدُوِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وَالْآصَال [سُورَة الرَّعْد 15] وَقَالَ السّديّ هَذَا يَوْم الْقِيَامَة دَلِيله وعنت الْوُجُوه للحي القيوم [سُورَة طه 111] وَقيل قانتون مذللون مسخرون لما خلقُوا لَهُ تَعْلِيق ابْن تَيْمِية قلت من قَالَ بالخصوص فَإِنَّهُ قد ينظر إِلَى سَبَب الْآيَة وَهُوَ أَنهم قَالُوا اتخذ الله ولدا وَهَذَا إِنَّمَا قَالُوهُ فِي الْمَلَائِكَة والأنبياء كالمسيح والعزير فَبين سُبْحَانَهُ أَن الَّذين قيل فيهم إِنَّه اتخذهم أَوْلَادًا هم عباد قانتون لَهُ كَمَا ذكر فِي الْأَنْبِيَاء وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى وهم من خَشيته مشفقون [سُورَة الْأَنْبِيَاء 26 - 28] فَإِن الضَّمِير فِي قَوْله وَقَالُوا عَائِد على الْمُشْركين وهم إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك فِي الْمَلَائِكَة وَأما الْمَسِيح وعزير فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك فيهمَا أهل الْكتاب وَسِيَاق الْآيَة يبين ذَلِك فَإِنَّهُ قَالَ وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إِن كُنَّا فاعلين بل نقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون [سُورَة الْأَنْبِيَاء 16 - 26] وَقَوله تَعَالَى وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين وَقَوله لهوا قد فسر بِالْوَلَدِ وَالْمَرْأَة وَفسّر باللعب فَإِن هَذِه الْآيَة نَظِير قَوْله وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَة الدُّخان 38 39 وَنَظِير قَوْله وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا الْآيَة [سُورَة ص 27] وَنَظِير قَوْله وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِن السَّاعَة لآتية فاصفح الصفح الْجَمِيل [سُورَة الْحجر 85] وَمثله قَوْله تَعَالَى أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا الْآيَة [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 115] فَقَوله وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين [سُورَة الْأَنْبِيَاء 16] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فنزه نَفسه أَن يكون فعله كَفعل اللاعب العابث الَّذِي لَا يقْصد غَايَة محمودة يُرِيد سوق الْوَسَائِل إِلَيْهَا فَإِن هَذَا فعل الجاد الَّذِي يَجِيء بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم لما آتَاهُ الله رشده من قبل التَّوْرَاة وَالْقُرْآن إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومه مَا هَذِه التماثيل الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون قَالُوا وجدنَا آبَاءَنَا لَهَا عابدين إِلَى قَوْله أم أَنْت من اللاعبين قَالَ بل ربكُم رب السَّمَوَات وَالْأَرْض الَّذِي فطرهن وَأَنا على ذَلِكُم من الشَّاهِدين [سُورَة الْأَنْبِيَاء 52 - 56] فَهُوَ لما قَالَ مَا قَالَ قَالُوا جئتنا بِالْحَقِّ أم أَنْت من اللاعبين الْآيَة 55 فَالَّذِي يَأْتِي بِالْحَقِّ خلاف اللاعب فَإِنَّهُ يقْصد أَن يخبر بِصدق وَيَأْمُر بِمَا ينفع وَهُوَ الْعدْل بِخِلَاف اللاعب العابث فَإِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُوده هَذَا بل اللَّهْو واللعب وَلِهَذَا قد يشْتم الْإِنْسَان على وَجه اللّعب وَيفْعل بِهِ أَفعَال مُنكرَة فَلَا يُنكر ذَلِك كَمَا يُنكره من الجاد المحق وَلِهَذَا كَانَ عَامَّة اللَّهْو بَاطِلا لَيْسَ لَهُ مَنْفَعَة كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل لَهو يلهو بِهِ الرجل لَهو بَاطِل إِلَّا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة امْرَأَته فَإِنَّهُ من الْحق فَالْحق ضد الْبَاطِل وَاللَّهْو بَاطِل وَلِهَذَا تنزه سُبْحَانَهُ عَن أَن يخلقهما بَاطِلا وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين فاللاعب صَاحب بَاطِل لَا صَاحب حق وَلِهَذَا لما دخل عمر على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعِنْده الْأسود بن سريع ينشده فأسكته مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا قَالَ من هَذَا الَّذِي تسكتني لَهُ قَالَ هَذَا رجل لَا يحب الْبَاطِل فَإِن عمر كَانَ لَا يُحِبهُ وَلَا يصبر على صَاحبه وَالنَّبِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أحلم وأصبر من عمر فَهُوَ أَيْضا لَا يحب الْبَاطِل لكنه يصبر وَيحْتَمل مِنْهُ مَا لم يكن محرما وَلَكِن هُوَ لَا مَنْفَعَة فِيهِ لفَاعِله فَإِذا فعله احتمله عَلَيْهِ فَهَذَا بَيَان قَول من فسر اللاعب بالعابث وَله نَظَائِر وَالَّذين فسروا بِالْوَلَدِ وَالزَّوْجَة قَالُوا ذَلِك لِأَن من الْمُشْركين من جعل لله ولدا وصاحبة وَقَالُوا إِنَّه ضاهى الْحق وهم يسمون الْمَرْأَة لهوا وَالْولد لهوا وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة أصل اللَّهْو الْجِمَاع وكنى عَنهُ باللهو كَمَا كنى عَنهُ بالسر وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد يَجْعَل ملاعبة الرجل امْرَأَته من اللَّهْو الَّذِي لَيْسَ بباطل والرب تَعَالَى منزه عَن اللّعب مُطلقًا فَإِن الَّذِي يلاعب امْرَأَته إِنَّمَا يفعل ذَلِك لِحَاجَتِهِ إِلَى الْمَرْأَة وَحِكْمَة ذَلِك بَقَاء النَّسْل وَالله تَعَالَى منزه عَن الْولادَة فتضمنت هَذِه الْآيَة تنزيهه عَن الْخلق عَبَثا لَا لحكمة فَإِن ذَلِك لعب وعبث وتضمنت تنزيهه عَن أَن يتَّخذ مَا يلهى بِهِ كَالْمَرْأَةِ وَالْولد وَلِهَذَا بَين بعد ذَلِك أَنه إِنَّمَا خلق ذَلِك بِالْحَقِّ وَأَنه منزه عَن الْأَوْلَاد وَقَالَ بل نقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه وَاللَّهْو كُله بَاطِل فِي حق الله تَعَالَى وَإِن كَانَ بعضه من الْحق فِي حق الْعباد وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهوا لاتخذناه من لدنا فَإِن مَا يلهو بِهِ اللاهي يكون عِنْده لَا يكون بَعيدا عَنهُ وَنحن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 خلقنَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فَكيف يكون هَذَا لعبا بل نقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق وَلكم الويل مِمَّا تصفون ثمَّ قَالَ وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته وَلَا يستحسرون يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون [سُورَة الأنبياءي 19 - 20] ثمَّ رد على من أشرك بِهِ ثمَّ حكى قَول الْمُشْركين الَّذين قَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا قَالَ سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى وهم من خَشيته مشفقون وَمن يقل مِنْهُم إِنِّي إِلَه من دونه فَذَلِك نجزيه جَهَنَّم كَذَلِك نجزي الظَّالِمين [سُورَة الْأَنْبِيَاء 26 - 29] فَهَذِهِ صفة الْمَلَائِكَة والمسيح والعزير وَنَحْوهمَا أَيْضا هم بِهَذِهِ الصّفة فَإِنَّهُم عباد مكرمون قَالَ تَعَالَى عَن الْمَسِيح إِن هُوَ إِلَّا عبد أنعمنا عَلَيْهِ [سُورَة الزخرف 59] وَقَالَ لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكن عبدا لله وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون [سُورَة النِّسَاء 172] فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى فِي الْبَقَرَة وَقَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ بل لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون وَالَّذين قَالُوا اتخذ الله ولدا جعله إِمَّا من الْمَلَائِكَة وَإِمَّا من الْآدَمِيّين كالمسيح والعزير فَقَوله تَعَالَى كل لَهُ قانتون يبين أَن هَؤُلَاءِ الَّذين قيل فيهم إِنَّهُم أَوْلَاد هم عباد لَهُ مطيعون كَمَا ذكر فِي الْأَنْبِيَاء وَغَيرهَا وكما قَالَ قل ادعوا الَّذين زعمتم من دونه فَلَا يملكُونَ كشف الضّر عَنْكُم وَلَا تحويلا أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة أَيهمْ أقرب ويرجون رَحمته وَيَخَافُونَ عَذَابه إِن عَذَاب رَبك كَانَ محذورا [سُورَة الْإِسْرَاء 56 - 57] فَبين أَن هَؤُلَاءِ المعبودين هم يعْبدُونَ الله تَعَالَى وَمثله قَوْله قل لَو كَانَ مَعَه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 آلِهَة كَمَا يَقُولُونَ إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا [سُورَة الْإِسْرَاء 42] على أصح الْقَوْلَيْنِ الْقُنُوت عِنْد ابْن تَيْمِية عَام فَهَذَا مَأْخَذ من جعل الْآيَة خَاصَّة لَكِن يُقَال الْآيَة لَفظهَا عَام والعموم مَقْصُود مِنْهَا كَمَا هُوَ مَقْصُود من قَوْله سُبْحَانَهُ بل لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض ثمَّ قَالَ كل لَهُ قانتون فَلَمَّا كَانَ قَوْله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض عَاما تبين أَن الْجَمِيع مَمْلُوك لَهُ والمملوك لَا يكون ولدا وَتبين أَيْضا أَن كلهم لَهُ قانتون مطيعون عَابِدُونَ وَالْعَابِد الْمُطِيع لَا يكون إِلَّا مَمْلُوكا لَا يكون ولدا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قد ذكر الْقُنُوت فِي سُورَة الرّوم مُجَردا عَن الْوَلَد فَقَالَ تَعَالَى وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره ثمَّ إِذا دعَاكُمْ دَعْوَة من الأَرْض إِذا أَنْتُم تخرجُونَ [سُورَة الرّوم 25] ثمَّ قَالَ وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ وَله الْمثل الْأَعْلَى فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم [سُورَة الرّوم 26 - 27] فَبين أَن لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَأَن كلا لَهُ قانتون وَتَخْصِيص هَذَا بِمن قيل إِنَّه ولد فَاسد ظَاهر الْفساد وَكَذَلِكَ تَخْصِيصه بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِن هَذَا مَذْكُور لبَيَان عُمُوم الْملك والاقتداء وخضوع الْمَخْلُوقَات كلهَا لَهُ فَلَو خص بِهِ الْمُؤْمِنُونَ لَكَانَ ذَلِك عكس الْمَقْصُود وَهُوَ مثل قَوْله أفغير دين الله يَبْغُونَ وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها [سُورَة آل عمرَان 83] فَهُوَ سُبْحَانَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 يَدعُوهُم إِلَى دين الْإِسْلَام وَيبين أَن كل مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض مُسلم لله إِمَّا طَوْعًا وَإِمَّا كرها وَإِذا كَانَ لَا بُد من أَحدهمَا فالإسلام لَهُ طَوْعًا هُوَ الَّذِي ينفع العَبْد فَلَا يجوز أَن يتَّخذ غير هَذَا الدَّين دينا فَإِنَّهُ ذكر هَذَا فِي تَقْرِير أَن كل دين سوى الْإِسْلَام بَاطِل فَقَالَ أفغير دين الله يَبْغُونَ وَذكر بعد ذَلِك مَا يصير بِهِ العَبْد مُسلما مُؤمنا فَقَالَ قل آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل علينا وَمَا أنزل على إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى والنبيون من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين [سُورَة آل عمرَان 84 - 85] ذكر عبَادَة الله وَحده وَالْإِيمَان برسله كلهم كَمَا ذكر فِي سُورَة الْبَقَرَة قَالَ أَبُو الْعَالِيَة قَوْله فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة الْحجر 92 - 93] قَالَ خصلتان يسْأَل عَنْهُمَا كل أحد مَاذَا كُنْتُم تَعْبدُونَ وماذا أجبتم الْمُرْسلين وَكَذَلِكَ ذكر سُجُود من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض لَهُ طَوْعًا وَكرها وَالسُّجُود هُوَ الخضوع وَهُوَ الْقُنُوت وَأَيْضًا فَإِذا كَانَت الصِّيغَة عَامَّة لم يجز أَن يُرَاد بهَا الْخُصُوص إِلَّا مَعَ مَا يبين ذَلِك فَأَما إِذا جردت عَن المخصصات فَإِنَّهَا لَا تكون إِلَّا عَامَّة وَالْآيَة عَامَّة عُمُوما مُجَردا بل مؤكدا بِمَا يدل على الْعُمُوم وَأما تَخْصِيص الْمُؤمنِينَ فَهَذَا يكون إِذا مدحوا بذلك أَو ذكر جَزَاء الْآخِرَة وَلَيْسَ الْمَقْصُود هُنَا مدح الْمُؤمنِينَ بِطَاعَتِهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُود بَيَان قدرته وَملكه وخضوع كل شَيْء لَهُ وَأَنه مَعَ هَذَا وَهَذَا يمْتَنع أَن يكون لَهُ ولد مَعَ خضوع كل شَيْء لَهُ وقنوته لَهُ وَيُقَال فِي الرُّكُوع من التَّسْبِيح الْمَأْثُور فِيهِ سُبْحَانَ من تواضع كل شَيْء لعظمته سُبْحَانَ من ذل كل شَيْء لعزته سُبْحَانَ من استسلم كل شَيْء لقدرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أَنْوَاع الْقُنُوت الَّذِي يعم الْمَخْلُوقَات وعَلى هَذَا فالقنوت الَّذِي يعم الْمَخْلُوقَات أَنْوَاع الأول أَحدهَا طَاعَة كل شَيْء لمشيئته وَقدرته وخلقه فَإِنَّهُ لَا يخرج شَيْء عَن مَشِيئَته وَقدرته وَملكه بل هُوَ مُدبر معبد مربوب مقهور وَلَو تخيل إِلَيْهِ فِي نَفسه أَنه لَا رب لَهُ وَأَنه يقدر أَن يخرج عَن ملك الرب فَهَذَا من جنس مَا يتخيل للسكران والنائم المأسور المقهور وَالْمَجْنُون المربوط بالأقياد والسلاسل بل نُفُوذ مَشِيئَته الرب وَقدرته فِي المستكبرين عَن عِبَادَته أعظم من فوذ أَمر الآسر فِي أسيره وَالسَّيِّد فِي مَمْلُوكه وقيم المارستان فِي الْمَجْنُون بِكَثِير كثير وَهَذَا مُتَوَجّه على قَول أهل السّنة الَّذين يَقُولُونَ لَا يكون فِي ملكه إِلَّا مَا يَشَاء فَلَيْسَ لأحد خُرُوج عَن الْقدر الْمَقْدُور وَلَا يتَجَاوَز مَا خطّ لَهُ فِي اللَّوْح المسطور بِخِلَاف قَول الْقَدَرِيَّة فَإِن العصاة على قَوْلهم خَرجُوا عَن مَشِيئَة وَقدرته وَحكمه وسلطانه وخلقه فليسوا قَانِتِينَ لَا لأَمره الشَّرْعِيّ وَلَا لأَمره القدري الكوني وَأما أهل السّنة فَيَقُولُونَ إِنَّهُم قانتون لمشيئته وَحكمه وَأمره الكوني كَمَا تقدم وعَلى هَذَا الْوَجْه فالقانت قد لَا يشْعر بقنوته فَإِن المُرَاد بقنوته كَونه مُدبرا مصرفا تَحت مَشِيئَة الرب من غير امْتنَاع مِنْهُ بِوَجْه من الْوُجُوه وَهَذَا شَامِل للجمادات والحيوانات وكل شَيْء قَالَ تَعَالَى مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها [سُورَة هود 56] وَقَالَ تَعَالَى فسبحان الَّذِي بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَإِلَيْهِ ترجعون [سُورَة يس 83] الثَّانِي النَّوْع الثَّانِي من الْقُنُوت هُوَ مَا يشْعر بِهِ القانت وَهُوَ اعترافهم كلهم بِأَنَّهُم مخلوقون مربوبون وَأَنه رَبهم كَمَا تقدم الثَّالِث الثَّالِث أَنهم يضطرون إِلَيْهِ وَقت حوائجهم فيسألونه ويخضعون لَهُ وَإِن كَانُوا إِذا أجابهم أَعرضُوا عَنهُ قَالَ الله تَعَالَى وَإِذا مس الْإِنْسَان الضّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما فَلَمَّا كشفنا عَنهُ صره مر كَأَن لم يدعنا إِلَى ضرّ مَسّه [سُورَة يُونُس 12] وَقَالَ تَعَالَى وَإِذا مسكم الضّر فِي الْبَحْر ضل من تدعون إِلَّا إِيَّاه فَلَمَّا نجاكم إِلَى الْبر أعرضتم وَكَانَ الْإِنْسَان كفورا [سُورَة الْإِسْرَاء 67] وَهُوَ أخبر أَنهم كلهم قانتون فَإِذا قنتوا لَهُ فَدَعوهُ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ عِنْد حَاجتهم كَانُوا قَانِتِينَ لَهُ وَإِن كَانَ إِذا كشف الضّر عَنْهُم نسوا مَا كَانُوا يدعونَ إِلَيْهِ وَجعلُوا لَهُ أندادا الرَّابِع الرَّابِع أَنهم كلهم لَا بُد لَهُم من الْقُنُوت وَالطَّاعَة فِي كثير من أوامره وَإِن عصوه فِي الْبَعْض وَإِن كَانُوا لَا يقصدون بذلك طَاعَته بل يسلمُونَ لَهُ ويسجدون طَوْعًا وَكرها وَذَلِكَ أَنه أرسل الرُّسُل وَأنزل الْكتب بِالْعَدْلِ فَلَا صَلَاح لأهل الأَرْض فِي شَيْء من أُمُورهم إِلَّا بِهِ وَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يعِيش فِي الْعَالم مَعَ خُرُوجه عَن جَمِيع أَنْوَاعه بل لَا بُد من دُخُوله فِي شَيْء من أَنْوَاع الْعدْل حَتَّى قطاع الطَّرِيق لَا بُد لَهُم فِيمَا بَينهم من قانون يتفقون عَلَيْهِ وَلَو أَرَادَ وَاحِد مِنْهُم أَن يَأْخُذ المَال كُله لم يمكنوه وأظلم النَّاس وأقدرهم لَا يُمكنهُ فعل كل مَا يُرِيد بل لَا بُد من أعوان يُرِيد أرضاءهم وَمن أَعدَاء يخَاف تسلطهم فَفِي قلبه رَغْبَة وَرَهْبَة تلجئه إِلَى أَن يلْتَزم من الْعدْل الَّذِي أَمر الله تَعَالَى بِهِ مَا لَا يُريدهُ فَيسلم لله ويقنت لَهُ وَإِن كَانَ كَارِهًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ كل لَهُ قانتون والقنوت الْعَام يُرَاد بِهِ الخضوع والإستسلام والإنقياد وَإِن كَانَ فِي الابطن كَارِهًا كطاعة الْمُنَافِقين هم خاضعون للْمُؤْمِنين مطيعون لَهُم فِي الظَّاهِر وَإِن كَانُوا يكْرهُونَ هَذِه الطَّاعَة الْخَامِس الْخَامِس خضوعهم لجزائه لَهُم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة كَمَا ذكر من ذكر أَنهم قانتون يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ سُبْحَانَهُ قد يَجْزِي النَّاس فِي الدُّنْيَا فيهلكهم وينتقم مِنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 كَمَا أهلك قوم نوح وعادا وَثَمُود وَفرْعَوْن فَكَانُوا خاضعين منقادين لجزائه وعقابه قَانِتِينَ لَهُ كرها وَالْجَزَاء يكون فِي الدُّنْيَا وَفِي البرزخ وَفِي الْآخِرَة وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت وَهُوَ قَائِم بِالْقِسْطِ والجميع مستسلمون لحكمه قانتون لَهُ فِي جزائهم على أَعْمَالهم والمصائب الَّتِي يصيبهم فِي الدُّنْيَا جَزَاء لَهُم قَالَ تَعَالَى وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم [سُورَة الشورى 30] وَقَالَ تَعَالَى مَا أَصَابَك من حسن فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك [سُورَة النِّسَاء 79] فَهَذِهِ خَمْسَة أَنْوَاع قنوتهم لخلقه وَحكمه وَأمره قدرا واعترافهم بربوبيته واضطراهم إِلَى مَسْأَلته وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ ودخولهم فِيمَا يَأْمر بِهِ وَإِن كَانُوا كارهين وجزاؤهم على أَعماله ودخولهم فِيمَا يَأْمر بِهِ مَعَ الْكَرَاهَة يدْخل فِيهِ الْمُنَافِق والمعطي للجزية عَن يَد وَهُوَ ساغر وَالَّذِي يسلم أَولا رَغْبَة وَرَهْبَة فالقنوت شَامِل دَاخل للْجَمِيع لَكِن الْمُؤمن يقنت لَهُ طَوْعًا وَغَيره يقنت لَهُ كرها قَالَ الله تَعَالَى وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها [سُورَة الرَّعْد 15] فصل الْكَلَام عَن السُّجُود وَالسُّجُود من جنس الْقُنُوت فَإِن السُّجُود الشَّامِل لجَمِيع الْمَخْلُوقَات هُوَ المتضمن لغاية الخضوع والذل وكل مَخْلُوق فقد تواضع لعظمته وذل لعزته واستسلم لقدرته وَلَا يجب أَن يكون سُجُود كل شَيْء مثل سُجُود الْإِنْسَان على سَبْعَة أَعْضَاء وَوضع جبهة فِي رَأس مدور على التُّرَاب فَإِن هَذَا سُجُود مَخْصُوص من الْإِنْسَان وَمن الْأُمَم من يرْكَع وَلَا يسْجد وَذَلِكَ سجودها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 كَمَا قَالَ تَعَالَى ادخُلُوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة [سُورَة الْبَقَرَة 58] وَإِنَّمَا قيل ادخلوه ركعا وَمِنْهُم من يسْجد على جنب كاليهود فالسجود اسْم جنس وَلَكِن لما شاع سُجُود الْآدَمِيّين الْمُسلمين صَار كثير من النَّاس يظنّ أَن هَذَا هُوَ سُجُود كل أحد كَمَا فِي لفظ الْقُنُوت وَكَذَلِكَ لفظ الصَّلَاة لما كَانَ الْمُسلمُونَ يصلونَ الصَّلَاة الْمَعْرُوفَة صَار يظنّ من يظنّ أَن كل من صلى فَهَكَذَا يُصَلِّي حَتَّى صَار بعض أهل الْكتاب ينفرون من قَوْلنَا إِن الله يُصَلِّي وينزهونه عَن ذَلِك فَإِنَّهُم لم يعرفوا من لفظ الصَّلَاة إِلَّا دُعَاء الْمُصَلِّي لغيره وخضوعه لَهُ وَلَا ريب أَن الله منزه عَن ذَلِك لَكِن لَيست هَذِه صلَاته سُبْحَانَهُ وَقد قَالَ الله تَعَالَى ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه [سُورَة النُّور 41] وَهُوَ سُبْحَانَهُ قد ذكر سُجُود الظل فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل سجدا لله وهم داخرون [سُورَة النَّحْل 48] وَقَالَ تَعَالَى وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال [سُورَة الرَّعْد 15] وَمَعْلُوم أَن الظل إِذا سجد لم يسْجد على سَبْعَة أَعْضَاء يضع رَأسه وَيَديه ثمَّ يرفع رَأسه وَيَديه بل سُجُوده ذله وخضوعه تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وادخلوا الْبَاب سجدا} الْآيَة وَقد سمى الله تَعَالَى المنحني سَاجِدا وَإِن لم يصل إِلَى الأَرْض فِي قَوْله وَإِذ قُلْنَا ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم رغدا وادخلوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد الْمُحْسِنِينَ [سُورَة الْبَقَرَة 58] وَفِي الْأَعْرَاف وَإِذ قيل لَهُم اسكنوا هَذِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الْقرْيَة وكلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد الْمُحْسِنِينَ [سُورَة الْأَعْرَاف 161] فَهُنَا لما أَمرهم بِالسُّكْنَى وَهِي الْمقَام قَالَ وكلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم وَلم يحْتَج أَن يُقَال رغدا فَإِن السَّاكِن الْمُقِيم مطمئن وَهُنَاكَ قَالَ ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة قَالَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم رغدا فَبين أَنهم يَأْكُلُون رغدا فيتهنون لَا يخَافُونَ الْخُرُوج وَبسط الْكَلَام فِي الْبَقَرَة وَذكر الدُّخُول لِأَنَّهُ قبل السُّكْنَى وَلِهَذَا قَالَ رغدا وَقَالَ وسنزيد وَقَالَ فبدل الَّذين ظلمُوا قولا غير الَّذِي قيل لَهُم فأنزلنا على الَّذين ظلمُوا رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يفسقون [سُورَة الْبَقَرَة 59] وَقدم السُّجُود لِأَنَّهُ أهم وَقد اخْتلفُوا فِي هَذَا السُّجُود فَقيل هُوَ الرُّكُوع كَمَا روى ابْن أبي حَاتِم من وَجْهَيْن ثابتين عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش عَن الْمنْهَال عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله ادخُلُوا الْبَاب سجدا قَالَ ركعا من بَاب صَغِير فَدَخَلُوا من قبل أستاههم وَقَالُوا حِنْطَة وَقيل بل هُوَ السُّجُود بِالْأَرْضِ ثمَّ قيل مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن الرّبيع بن أنس قَالَ سجدا قَالَ كَانَ سُجُود أحدهم على خَدّه وروى عَن وهب بن مُنَبّه قَالَ إِذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله فَكَأَن صَاحب هَذَا القَوْل جعل السُّجُود بعد الدُّخُول وَمن قَالَ بِهَذَا أَو قَالَ بِأَنَّهُم أمروا بِالرُّكُوعِ فَهُوَ يَقُول دُخُولهمْ وهم سجد بِالْأَرْضِ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 صعوبة وَقد يُؤْذِي أحدهم وَلَكِن هُوَ مُمكن فَإِن الْإِنْسَان يُمكنهُ حَال السُّجُود أَن يزحف إِذا كَانَت الأَرْض لَا تؤذيه وَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَهُم ادخُلُوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة فَدَخَلُوا يزحفون على أستاههم وَيَقُولُونَ حَبَّة فِي شَعْرَة فَهَذَا هُوَ الثَّابِت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَغَيرهمَا فِي ذَلِك أقوالا تخَالف هَذَا فَقَالَ خصيف عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فَدَخَلُوا على شقّ وروى السّديّ عَن أبي سعد الْأَزْدِيّ عَن أبي الكنود عَن ابْن مَسْعُود فَدَخَلُوا مقنعي رؤوسهم قَالَ ابْن أبي حَاتِم اخْتلف التابعون فروى عَن مُجَاهِد نَحْو قَول عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس وروى عَن السّديّ نَحْو مَا روى عَن ابْن مَسْعُود وَعَن مقَاتل أَنهم دخلُوا منكفئين وَأما القَوْل فقد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم قَالُوا حَبَّة فِي شعره وَإِذا ثقبت الْحبَّة وأدخلت فِيهَا الشعرة فَإِنَّهُ يُقَال حَبَّة فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 شَعْرَة وَيُقَال شَعْرَة فِي حَبَّة وَهَذَا معنى مَا رَوَاهُ السّديّ عَن مرّة عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ إِنَّهُم قَالُوا هطى سمقاثا أزبه مزبا وَهِي بِالْعَرَبِيَّةِ حَبَّة حِنْطَة حَمْرَاء مثقوبة فِيهَا شَعْرَة سَوْدَاء فَذَلِك قَوْله تَعَالَى فبدل الَّذين ظلمُوا قولا غير الَّذِي قيل لَهُم وَكَذَلِكَ رَوَاهُ السّديّ عَن أبي سعد الْأَزْدِيّ عَن أبي الكنود عَن ابْن مَسْعُود وَهَذَا مُوَافق لما ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ وَهَذَا اللَّفْظ أَخذه ابْن مَسْعُود عَن أهل الْكتاب وَهَذَا أصح من قَول ابْن عَبَّاس أَنهم قَالُوا حِنْطَة مَعَ أَن هَذَا مَرْوِيّ عَن غير وَاحِد قَالَ ابْن أبي حَاتِم وروى عَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالْحسن وَالربيع وَيحيى بن رَافع نَحْو ذَلِك لَكِن قد يُقَال الْحبَّة هِيَ الْحِنْطَة وهم لم يَقُولُوا بِالْعَرَبِيَّةِ بل بلسانهم وهم إِذا قَالُوا بلسانهم مَا مَعْنَاهُ حَبَّة حِنْطَة جَازَ أَن يُقَال حِنْطَة وَحَدِيث ابْن مَسْعُود وَقد ذكر أَنهم قَالُوا حَبَّة حِنْطَة فَلَا يكون فِي القَوْل خلاف وَأَبُو الْفرج ذكر خَمْسَة أَقْوَال وَهِي ترجع إِلَى هَذَا ذكر الحَدِيث الْمَرْفُوع وَالثَّانِي حِنْطَة وَالثَّالِث أَنهم قَالُوا حَبَّة حِنْطَة حَمْرَاء فِيهَا شَعْرَة سَوْدَاء قَالَه ابْن مَسْعُود وَالرَّابِع كَذَلِك إِلَّا أَنهم قَالُوا مثقوبة قَالَه السّديّ عَن أشياخه قلت كِلَاهُمَا رَوَاهُ السّديّ عَن ابْن مَسْعُود وهما قَول وَاحِد قَالَ وَالْخَامِس أَنهم قَالُوا استقلابا قَالَه أَبُو صَالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 قلت هَذَا الَّذِي ذكره ابْن مَسْعُود بلسانهم سمقاثا وَقد فسره بذلك قَالَ الْأَقْوَال كلهَا وَاحِدَة بِخِلَاف صفة الدُّخُول فَإِن الثَّابِت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم دخلُوا يزحفون على أستاههم وَفِي لفظ على أوراكهم وَالْمعْنَى وَاحِد وَمَا نقل خلاف هَذَا فَإِنَّمَا أَخذ عَن أهل الْكتاب وَقد كَانَ يُؤْخَذ عَنْهُم الْحق وَالْبَاطِل وَقَول ابْن مَسْعُود مقنعي رؤوسهم لَا يُنَاقض الزَّحْف على أستاههم وَابْن عَبَّاس قَالَ يزحفون على أستاههم كالمرفوع وَقَالَ قيل ادخُلُوا ركعا فَلَو جزمنا أَن هَذَا مَأْخُوذ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجزمنا بِأَن الله أَمرهم بِالرُّكُوعِ لَكِن ظَاهر الْقُرْآن هُوَ السُّجُود وَالسُّجُود الْمُطلق هُوَ السُّجُود الْمَعْرُوف وَكَون الْبَاب جعل صَغِيرا إِنَّمَا يكون لمن يكره على الدُّخُول مِنْهُ ليحتاج أَن ينحني وَهَؤُلَاء قصدت طاعتهم فَأمروا بالخضوع لله والإستغفار فدخولهم سجدا هُوَ خضوع لله وَقَوْلهمْ حطه أَي احطط عَنَّا خطايانا هُوَ استغفارهم كَمَا أخبر الله تَعَالَى أَن دَاوُد خر رَاكِعا وأناب وكما شرع للْمُسلمين أَن يَسْتَغْفِرُوا فِي سجودهم وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول فِي سُجُوده اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذَنبي كُله دقه وجله أَوله وَآخره عَلَانِيَته وسره وَكَانَ أَيْضا يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عُقُوبَتك وَأَعُوذ بك مِنْك لَا أحصى ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا اثنيت على نَفسك وَكَانَ يَقُول فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 رُكُوعه وَسُجُوده سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِر لي يتَأَوَّل الْقُرْآن وَثَبت فِي الصَّحِيح لمُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أقرب مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد فَأَكْثرُوا الدُّعَاء وَفِي الصَّحِيح أَيْضا لمُسلم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كشف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الستارة وَالنَّاس صُفُوف خلف أبي بكر فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس إِنَّه لم يبْق من مُبَشِّرَات النُّبُوَّة إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الْمُسلم أَو ترى لَهُ أَلا وَإِنِّي نهيت أَن أَقرَأ الْقُرْآن رَاكِعا أَو سَاجِدا فَأَما الرُّكُوع فَعَظمُوا فِيهِ الرب وَأما السُّجُود فاجتهدوا فِي الدُّعَاء فقمن أَن يُسْتَجَاب لكم فَفِي هذَيْن الحديثن أَنه خص السُّجُود بِالْأَمر بِالدُّعَاءِ فِيهِ وَلِهَذَا كَانَ من أهل الْعلم من يكره الدعا ءفي الرُّكُوع دون السُّجُود وحنيئذ فَأَمرهمْ بالإستغفار وَقَوْلهمْ حطة فِي السُّجُود أشبه فَلم يثبت لنا إِلَى الْآن أَن الرُّكُوع يُسمى سجودا بِخِلَاف الْعَكْس فَإِنَّهُ قَالَ فِي حق دَاوُد وخر رَاكِعا وأناب [سُورَة ص 24] وَقد ثَبت بِالنَّصِّ الصَّحِيح واتفاق النَّاس أَن دَاوُد سجد كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجدها دَاوُد تَوْبَة وَنحن نسجدها شكرا وَفِي صَحِيح مُسلم عَنهُ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ نَبِيكُم مِمَّن أَمر أَن يقْتَدى بِهِ سجدها دَاوُد فسجدها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي صَحِيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 مُسلم عَنهُ أَيْضا قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْجد فِيهَا وَفِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس قَالَ جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي رَأَيْتنِي اللَّيْلَة وَأَنا نَائِم كَأَنِّي أُصَلِّي خلف شَجَرَة فسجدت الشَّجَرَة لسجودي فسمعتها وَهِي تَقول اللَّهُمَّ اكْتُبْ لي بهَا عنْدك أجرا وضع عني بهَا وزرا وَاجْعَلْهَا لي عنْدك ذخْرا وتقبلها مني كَمَا تقبلتها من عَبدك دَاوُد فَقَرَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَجْدَة ص ثمَّ سجد فَسَمعته وَهُوَ يَقُول مثل مَا أخبرهُ الرجل من قَول الشَّجَرَة والْآثَار عَن السّلف متواترة بِأَن دَاوُد سجد فَكل ساجد رَاكِع وَلَيْسَ كل رَاكِع ساجد فَإِنَّهُ إِذا سجد من قيام انحنى انحناء الرَّاكِع وَزَاد فَإِنَّهُ يصير سَاجِدا وَلَو صلى قَاعِدا أَيْضا انحنى انحناء الرُّكُوع وَزَاد فَإِنَّهُ يصير سَاجِدا فالساجد رَاكِع وَزِيَادَة فَلهَذَا جَازَ أَن يُسمى رَاكِعا وَأَن يَجْعَل الرُّكُوع نَوْعَيْنِ رُكُوعًا خَفِيفا وركوعا تَاما فالقيام هُوَ السُّجُود بِخِلَاف لفظ السُّجُود فَإِنَّهُ إِنَّمَا يسْتَعْمل فِي غَايَة الذل والخضوع وَهَذِه حَال الساجد لَا الرَّاكِع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 لَكِن لَيْسَ من شَرط السُّجُود مُطلقًا أَن يصل إِلَى الأَرْض فقد ثَبت فِي الْأَحَادِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته قبل أَي وَجه تَوَجَّهت بِهِ ويوتر عَلَيْهَا غير أَنه لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَة وَقد اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن الْمُسَافِر الرَّاكِب يتَطَوَّع على رَاحِلَته وَيجْعَل سُجُوده أَخفض من رُكُوعه وَإِن كَانَ لَا يسْجد على مُسْتَقر وَكَذَلِكَ الْخَائِف قَالَ تَعَالَى وَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا [سُورَة الْبَقَرَة 239] يُصَلِّي إِلَى الْقبْلَة وَإِلَى غير الْقبْلَة ويومىء بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود وَلَا يصل إِلَى الأَرْض فَعلم أَن الْهَيْئَة الْمَأْمُور بهَا فِي السُّجُود على الأَرْض وعَلى سَبْعَة أَعْضَاء هِيَ أكمل سُجُود ابْن آدم وَله سُجُود لَا يسْجد فِيهِ على الأَرْض وَلَا على سَبْعَة بل يخْفض فِيهِ رَأسه أَكثر من خفض الرُّكُوع وَلِهَذَا كَانَ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء لَو ركع فِي سُجُود التِّلَاوَة بَدَلا عَن السُّجُود لم يجزه وَلَكِن إِذا كَانَت السَّجْدَة فِي آخر السُّورَة فَلهُ أَن يفعل كَمَا ذكره ابْن مَسْعُود أَنه يَكْتَفِي بسجود الصَّلَاة فَإِنَّهُ لَيْسَ بَينه وَبَينه إِلَّا الرُّكُوع وَهَذَا ظَاهر مَذْهَب أَحْمد وَمذهب أبي حنيفَة وَغَيرهمَا لَكِن قيل إِنَّه جعل الرُّكُوع مَكَان السُّجُود وَالصَّحِيح أَنه إِنَّمَا جعل سُجُود الصَّلَاة هُوَ المجزىء كَمَا لَو قَرَأَ فَإِن الرُّكُوع عمل فِيهِ فَلم يَجْعَل فصلا لَا سِيمَا وَهُوَ مُقَدّمَة للسُّجُود وَمن النَّاس من قَالَ فِي قصَّة دَاوُد إِنَّه خر سَاجِدا بعد مَا كَانَ رَاكِعا وَذكر أَن الْحُسَيْن بن الْفضل قَالَ لأبي عبد الله بن طَاهِر عَن قَوْله وخر رَاكِعا [سُورَة ص 24] هَل يُقَال للراكع خر قَالَ لَا وَمَعْنَاهُ فَخر بعد مَا كَانَ رَاكِعا أَي سجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَهَذَا قَول ضَعِيف وَالْقُرْآن إِنَّمَا فِيهِ وخر رَاكِعا لم يقل خر بعد مَا كَانَ رَاكِعا وَلَا كَانَ دَاوُد حِين تحاكموا إِلَيْهِ رَاكِعا بل كَانَ قَاعِدا معتدلا أَو قَائِما فَخر سَاجِدا وسؤال ابْن طَاهِر إِنَّمَا يتَوَجَّه إِذا أُرِيد بِالرُّكُوعِ انحناء الْقَائِم كركوع الصَّلَاة وَهَذَا لَا يُقَال فِيهِ خر وَالْمرَاد هُنَا السُّجُود بِالسنةِ واتفاق الْعلمَاء فَالْمُرَاد خر سَاجِدا وَسَماهُ رُكُوعًا لِأَن كل ساجد رَاكِع لَا سِيمَا إِذا كَانَ قَائِما وَسُجُود التِّلَاوَة من قيام أفضل وَلَعَلَّ دَاوُد سجد من قيام وَقيل خر رَاكِعا ليبين أَن سُجُوده كَانَ من قيام وَهُوَ أكمل وَلَفظ خر يدل على أَنه وصل إِلَى الأَرْض فَجمع لَهُ معنى السُّجُود وَالرُّكُوع وَالسُّجُود عبَادَة تفعل مُجَرّدَة عَن الصَّلَاة وكسجود الشَّجَرَة وَسُجُود دَاوُد وَسُجُود التِّلَاوَة وَالشُّكْر وَسُجُود الْآيَات وَغير ذَلِك وَهل يشْتَرط لَهُ شُرُوط الصَّلَاة على قَوْلَيْنِ كَمَا قد بسط فِي غير هَذَا الْموضع وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي ذَر أَنه قَالَ كنت فِي الْمَسْجِد حِين وَجَبت الشَّمْس فَقَالَ يَا أَبَا ذَر تَدْرِي أَيْن تذْهب الشَّمْس قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ فَإِنَّهَا تذْهب حَتَّى تسْجد بَين يَدي الله عز وجلّ فَتَسْتَأْذِن فِي الرُّجُوع فليؤذن لَهَا وَكَأَنَّهَا قد قيل لَهَا ارجعي من حَيْثُ جِئْت فترجع إِلَى مطْلعهَا فَذَلِك مستقرها ثمَّ قَرَأَ وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا [سُورَة يس 38] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فقد أخبر فِي هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح بسجود الشَّمْس إِذا غربت واستئذانها وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَغَيره قَالَ أَبُو الْعَالِيَة مَا فِي السَّمَاء نجم وَلَا شمس وَلَا قمر إِلَّا يَقع سَاجِدا حِين يغيب ثمَّ لَا ينْصَرف حَتَّى يُؤذن لَهُ فَيَأْخُذ ذَات الْيَمين حت يرجع إِلَى مطلعه وَمَعْلُوم أَن الشَّمْس لَا تزَال فِي الْفلك كَمَا اخبر الله تَعَالَى بقوله وَهُوَ الَّذِي خلق اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر كل فِي فلك يسبحون [سُورَة الْأَنْبِيَاء 33] فَهِيَ لَا تزَال تسبح فِي الْفلك وَهِي تسْجد لله وتستأذنه كل لَيْلَة كَمَا أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهِيَ تسْجد سجودا يُنَاسِبهَا وتخضع لَهُ وتخشع كَمَا يخضع ويخشع كل ساجد من الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ وَالْإِنْس وَكَذَلِكَ قَوْله فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض [سُورَة الدُّخان 29] بكاء كل شَيْء بِحَسبِهِ قد يكون خشيَة لله وَقد يكون حزنا على فِرَاق الْمُؤمن روى ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن وهب أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم قَالَ قَالَ عَمْرو يَعْنِي ابْن دِينَار إِنِّي لَيْلَة أَطُوف بِالْبَيْتِ إِذْ سَمِعت حنين رجل بَين الأستار والكعبة وبكاءه وتضرعه فوقفت لأعرفه فَذهب ليل وَجَاء ليل وَهُوَ كَذَلِك حَتَّى كَاد يسفر فانكشف الستور عَنهُ فَإِذا هُوَ طَاوُوس رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ من هَذَا عَمْرو قلت نعم أمتع الله بك قَالَ مَتى وقفت هَهُنَا قَالَ قلت مُنْذُ طَوِيل قَالَ مَا أوقفك قلت سَمِعت بكاءك فَقَالَ أعْجبك بُكَائِي قلت نعم قَالَ وطلع الْقَمَر فِي حرف أبي قبيس قَالَ وَرب هَذِه البنية إِن هَذَا الْقَمَر ليبكي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 خشيَة الله وَلَا ذَنْب لَهُ وَلَا يسْأَل عَمَّا عمل وَلَا يجازى بِهِ فعجبت أَن بَكَيْت من خشيَة الله وَأَنا صَاحب الذُّنُوب وَهَذَا الْقَمَر يبكي من خشيَة الله وَقَرَأَ ابْن زيد ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب [سُورَة الْحَج 18] قَالَ فَلم يسْتَثْن من هَؤُلَاءِ أحدا حَتَّى جَاءَ ابْن آدم اسْتَثْنَاهُ فَقَالَ وَكثير من النَّاس وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب [سُورَة الْحَج 18] قَالَ وَالَّذِي كَانَ هُوَ أَحَق بالشكر هُوَ أكفرهم ثمَّ قَرَأَ وَمن الْجبَال جدد بيض وحمر مُخْتَلف ألوانها وغرابيب سود وَمن النَّاس وَالدَّوَاب والأنعام مُخْتَلف ألوانه كَذَلِك إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء [سُورَة فاطر 27 - 29] قَالَ وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي دينهم كَمَا اخْتلف الْأَولونَ السُّجُود فِي اللُّغَة وَلَفظ السُّجُود يتسعمل فِي اللُّغَة لخضوع الجامدات وَغَيرهَا كالبيت الْمَعْرُوف بِجَيْش تضل البلق فِي حجراته ... ترى الأكم فِيهِ سجدا للحوافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 قَالَ ابْن قُتَيْبَة حجراته جوانبه يُرِيد أَن حوافر الْخَيل قد بلغت الأكم ووطئتها حَتَّى خَشَعت وانخفضت قَالَ ابْن عَطِيَّة فِي قَوْله يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل [سُورَة النَّحْل 48] وَقَالَت فرقة مِنْهُم الطَّبَرِيّ عبر عَن الخضوع وَالطَّاعَة وميلان الظلال ودورانها بِالسُّجُود كَمَا يُقَال للمشير بِرَأْسِهِ نَحْو الأَرْض على وَجه الخضوع ساجد وَمِنْه قَول الشَّاعِر وكلتاهما خرت وأسجد رَأسهَا ... كَمَا سجدت نصرانة لم تحنف فصل وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَالله سُبْحَانَهُ ذكر فِي الرَّعْد قَوْله وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها [سُورَة الرَّعْد 15] فَعم فِي هَذِه الْآيَة وَلم يسْتَثْن وَقسم السُّجُود إِلَى طوع وَكره وَقَالَ فِي الْحَج ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَكثير من النَّاس وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب [سُورَة الْحَج 18] وَفِي هَذَا الْكثير قَولَانِ أَحدهمَا أَنه لم يسْجد فَلهَذَا حق عَلَيْهِ الْعَذَاب كَمَا تقدم عَن طَاوُوس وَهُوَ قَول الْفراء وَغَيره وَالثَّانِي أَنه سجد وَحقّ عَلَيْهِ الْعَذَاب فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ السُّجُود الْمَأْمُور بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قَالَ أَبُو الْفرج وَفِي قَوْله وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب قَولَانِ أَحدهمَا أَنهم الْكفَّار وهم يَسْجُدُونَ وسجودهم سُجُود ظلهم قَالَه مقَاتل وَالثَّانِي أَنهم لَا يَسْجُدُونَ وَالْمعْنَى وَكثير من النَّاس أَبى السُّجُود ويحق عَلَيْهِ الْعَذَاب لتَركه السُّجُود هَذَا قَول الْفراء قلت ذَا قَول الْأَكْثَرين وَقد ذكر الْبَغَوِيّ فِي قَوْله ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض الْآيَة قَالَ قَالَ مُجَاهِد سجودها تحول ظلالها وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة مَا فِي السَّمَاء نجم وَلَا شمس وَلَا قمر إِلَّا يَقع سَاجِدا حِين يغيب ثمَّ لَا ينْصَرف حَتَّى يُؤذن لَهُ فَيَأْخُذ ذَات الْيَمين حَتَّى يرجع إِلَى مطلعه قَالَ وَقيل سجودها بِمَعْنى الطَّاعَة فَإِنَّهُ مَا من جماد إِلَّا وَهُوَ مُطِيع لله خاشع لَهُ مسبح لَهُ كَمَا أخبر الله عز وجلّ عَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين [سُورَة فصلت 11] وَقَالَ فِي وصف الْحِجَارَة وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله [سُورَة الْبَقَرَة 74] وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا يتفقهون تسبيحهم [سُورَة الْإِسْرَاء 44] قَالَ وَهَذَا مَذْهَب حسن مُوَافق لقَوْل أهل السّنة قلت قد تقدم قَول الطَّبَرِيّ وَغَيره بِهَذَا القَوْل فَإِذا كَانَ السُّجُود فِي هَذِه الْآيَة لس عَاما وَهُوَ هُنَاكَ عَام كَانَ السُّجُود الْمُطلق هُوَ سُجُود الطوع فَهَذِهِ الْمَذْكُورَات تسْجد تَطَوّعا هِيَ وَكثير من النَّاس وَالْكثير الَّذِي حق عَلَيْهِ الْعَذَاب إِنَّمَا يسْجد كرها وَحِينَئِذٍ فالكثير الَّذِي حق عَلَيْهِ الْعَذَاب لم يقل فِيهِ إِنَّه يسْجد وَلَا نفى عَنهُ كل سُجُود بل تَخْصِيص من سواهُ بِالذكر يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 على أَنه لَيْسَ مثله وَحِينَئِذٍ فَإِذا لم يسْجد طَائِعا حصل فَائِدَة التَّخْصِيص وَهُوَ مَعَ ذَلِك يسْجد كَارِهًا فكلا الْقَوْلَيْنِ صَحِيح وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَة من الْمُفَسّرين وَاللَّفْظ لِلْبَغوِيِّ قَالُوا وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب بكفرهم وتركهم السُّجُود وهم مَعَ كفرهم تسْجد ظلالهم لله تَعَالَى وَقَالَ فِي [سُورَة النَّحْل أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل سجدا لله وهم داخرون وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة وَالْمَلَائِكَة وهم لَا يستكبرن يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم ويفعلون مَا يؤمرون سُورَة النَّحْل 48 - 50] قَالَ فَلفظ دَابَّة إِن لم يتَنَاوَل بني آدم فالإبل تسْجد طَوْعًا وَإِن تنَاول بني آدم فسجودهم طَوْعًا وَكرها فصل وَالَّذين فسروا السُّجُود بالخضوع والإنقياد لَهُم فِي سجودها قَولَانِ أَحدهمَا أَنه كَونهَا مصنوعة مخلوقة منقادة لمشيئة الله واختياره كَمَا قَالُوا فِي تسبيحها مثل ذَلِك وَأَنه شهادتها ودلالتها على الْخَالِق قَالَ أَبُو الْفرج فِي قَوْله وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض [سُورَة الرَّعْد 15] الساجدون على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا من يعقل فسجوده عبَادَة وَالثَّانِي من لَا يعقل فسجوده بَيَان أثر الصَّنْعَة فِيهِ والخضوع الَّذِي يدل على أَنه مَخْلُوق هَذَا قَول جمَاعَة من الْعلمَاء وَاحْتَجُّوا بِالْبَيْتِ الْمُتَقَدّم * ترى الأكم فِيهِ سجدا للحوافر * قَالَ وَأما الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب فألحقها جمَاعَة بِمن يعقل قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أَبُو الْعَالِيَة سجودها حَقِيقَة مَا مِنْهَا غارب إِلَّا خر سَاجِدا بَين يَدي الله عز وجلّ ثمَّ لَا ينْصَرف حَتَّى يُؤذن لَهُ قَالَ وَيشْهد لقَوْل أبي العاليه حَدِيث أبي ذَر وَذكره قَالَ وَأما النَّبَات وَالشَّجر فَلَا يَخْلُو سُجُوده من أَرْبَعَة أَشْيَاء أَحدهَا أَن يكون سجودا لَا نعلمهُ وَهَذَا إِذا قُلْنَا بردعه فيهمَا وَالثَّانِي أَنه تفيؤ ظلاله وَالثَّالِث بَيَان الصَّنْعَة فِيهِ وَالرَّابِع الإنقياد لما سخر لَهُ قلت الثَّالِث وَالرَّابِع من نمط وَاحِد وَهُوَ كالمتقدم وَأما السُّجُود الَّذِي لَا نعلمهُ فَهُوَ كَمَا ذكره الْبَغَوِيّ وَقَالَ الْبَغَوِيّ أَيْضا فِي قَوْله وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله [سُورَة الْبَقَرَة 74] فَإِن قيل الْحجر لَا يفهم فَكيف يخْشَى قيل الله يفهمها ويلهمها فتخشى بإلهامه قَالَ وَمذهب أهل السّنة أَن لله علما فِي الجمادات وَسَائِر الْحَيَوَانَات سوى الْعُقَلَاء لَا يقف عَلَيْهِ غَيره وَلها صَلَاة وتسبيح وخشية كَمَا قَالَ عز وجلّ وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَقَالَ تَعَالَى وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه وَقَالَ ألم ترأن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم الْآيَة فَيجب على الْمَرْء الْإِيمَان بِهِ ويكل علمه إِلَى الله تَعَالَى وَذكر الحَدِيث الصَّحِيح عَن جَابر بن سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِنِّي لأعرف حجرا بِمَكَّة كَانَ يسلم عَليّ قبل أَن أبْعث وَإِنِّي لأعرفه الْآن وَذكر حَدِيث حنين الْجذع وطرقه صِحَاح مَشْهُورَة وروى عَن السّديّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 عَن أبي عباد بن أبي يزِيد عَن عَليّ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة فخرجنا فِي نَوَاحِيهَا خَارِجا من مَكَّة بَين الْجبَال وَالشَّجر فَلم يمر بشجرة وَلَا جبل إِلَّا قَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله وَقَالَ قَالَ مُجَاهِد لَا ينزل حجر من أَعلَى إِلَى أَسْفَل إِلَّا من خشيَة الله وَيشْهد لما قُلْنَا قَوْله تَعَالَى لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله [سُورَة الْحَشْر 21] قلت وَأما تَفْسِير سجودها وتسبيحها بنفوذ مَشِيئَة الرب وَقدرته فيهمَا ودلالتها على الصَّانِع فَقَط فالإقتصار على هَذَا بَاطِل فَإِن هَذَا وصف لَازم دَائِم لَهَا لَا يكون فِي وَقت دون وَقت وَهُوَ مثل كَونهَا مخلوقة محتاجة فقيرة إِلَى الله تَعَالَى وعَلى هَذَا فالمخلوقات كلهَا لَا تزَال سَاجِدَة مسبحة وَلَيْسَ المُرَاد هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى إِنَّا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق [سُورَة ص 18] وَقَالَ وَالطير محشورة كل لَهُ أواب [سُورَة ص 19] وَقَالَ كل قد علم صلَاته وتسبيحه [سُورَة النُّور 41] فقد أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنهُ أَنه يعلم ذَلِك ودلالتها على الرب يُعلمهُ عُمُوم النَّاس وَأَيْضًا فقد أخبر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن من كَلَام الهدهد والنمل وَأَن سُلَيْمَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 علم منطق الطير بِمَا يدل على الإختصاص وَهَذَا فِي الْحَيَوَان وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جعل الْجَمِيع يسْجد ثمَّ قَالَ وَكثير من النَّاس وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب [سُورَة الْحَج 18] وَهَذَا الْمَعْنى يشْتَرك فِيهِ جَمِيع الْمَخْلُوقَات دَائِما وَهُوَ وصف لَازم لكل مَخْلُوق لَا يزَال مفتقرا إِلَى الْخَالِق وَلَا يزَال دَالا عَلَيْهِ وَلَا يزَال منقادا لما يَشَاء الرب وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قسم السُّجُود إِلَى طوع وَكره وانفعالها لمشيئة الرب وَقدرته لَا يَنْقَسِم إِلَى طوع وَكره وَلَا يُوصف ذَلِك بطوع مِنْهَا وَلَا كره فَإِن دَلِيل فعل الرب فِيهَا لَيْسَ هُوَ فعل مِنْهَا أَلْبَتَّة وَالْقُرْآن يدل على أَن السُّجُود وَالتَّسْبِيح أَفعَال لهَذِهِ الْمَخْلُوقَات وَكَون الرب خَالِقًا لَهَا إِنَّمَا هُوَ كَونهَا مخلوقة للرب لَيْسَ فِيهِ نِسْبَة أَمر إِلَيْهَا يبين ذَلِك أَنه خص الظل بِالسُّجُود بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال والظل مَتى كَانَ وَحَيْثُ كَانَ مَخْلُوق مربوب وَالله تَعَالَى جعل الظُّلُمَات والنور وَالْقَوْل الَّذِي ذكره الْبَغَوِيّ أقرب من القَوْل الَّذِي ذكره أَبُو الْفرج وَهُوَ سُبْحَانَهُ تَارَة يَجْعَلهَا آيَات لَهُ وَتارَة يَجْعَلهَا سَاجِدَة مسبحة وَهَذَا نوع غير هَذَا وعَلى هَذَا القَوْل الْجَمِيع وَاحِد لَيْسَ فِي كَونهَا سَاجِدَة مسبحة إِلَّا كَونهَا آيَة دَالَّة وشاهدة للخالق تَعَالَى بصفاته لكَونهَا مفعولة لَهُ وَهَذَا معنى ثَابت فِي الْمَخْلُوقَات كلهَا لَازم لَهَا وَهِي آيَات للرب بِهَذَا الإعتبار وَهِي شَوَاهِد وَدَلَائِل وآيات بِهَذَا الإعتبار لَكِن ذَاك معنى آخر كَمَا يفرق بَين كَون الْإِنْسَان مخلوقا وَبَين كَونه عابدا لله فَهَذَا غير هَذَا هَذَا يتَعَلَّق بربوبية الرب لَهُ وَهَذَا يتَعَلَّق بتألهه وعبادته للرب وَالْبَيْت الَّذِي اسْتشْهدُوا بِهِ وَهُوَ قَوْله * ترى الأكم فِيهَا سجدا للحوافر * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فَإِنَّمَا ذكر سُجُود الأكم للحوافر وَذَلِكَ خضوعها وانخفاضها لَهَا فَهَذَا خضوع جماد لجماد وَلَا يلْزم أَن يكون سَائِر أَنْوَاع الخضوع مثل هَذَا وَإِنَّمَا يشْتَرك فِي نوع الخضوع وَلَيْسَ خضوع الْمَخْلُوقَات للخالق مثل هَذَا وَإِن قيل هُوَ انفعالها لمشيئته وَقدرته بل ذَاك نوع أبلغ من هَذَا فَلَا يجب أَن يكون سجودها بِغَيْر خضوع مِنْهَا وَطَاعَة وَلَكِن هَذَا الْبَيْت يَقْتَضِي أَنه لَا يجب أَن يكون سُجُود كل شَيْء وَضعه رَأسه بِالْأَرْضِ وَهَذَا حق بل هُوَ خضوع للرب يُنَاسب حَاله وَقد قيل لسهل بن عبد الله أيسجد الْقلب قَالَ نعم سَجْدَة لَا يرفع رَأسه مِنْهَا أبدا وَأهل الْجنَّة فِي الْجنَّة قد ألهموا التَّسْبِيح كَمَا ألهموا النَّفس فِي الدُّنْيَا وكما يلهم أهل الدُّنْيَا النَّفس وهم خاضعون للرب مطيعون لَهُ وَلَيْسَ هُنَاكَ سُجُود بِوَضْع رَأس فِي الأَرْض فَهَذَا أَمر بِهِ فِي الدُّنْيَا لحَاجَة النَّفس إِلَيْهِ فِي خضوعها لله تَعَالَى فَلَا تكون خاضعة إِلَّا بِهِ بِخِلَاف حَالهَا فِي الْجنَّة فَإِنَّهَا قد زكتْ وصلحت آخِره وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم تَسْلِيمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 رِسَالَة فِي لفظ السّنة فِي الْقُرْآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين وَعَلِيهِ التكلان وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله أَجْمَعِينَ وَسلم تَسْلِيمًا أما بعد فَهَذَا فصل لفظ السّنَن فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن اعْلَم أَنه قد ذكر الله تَعَالَى لفظ سنَنه فِي مَوَاضِع من كِتَابه فَقَالَ تَعَالَى سنة من قد أرسلنَا قبلك من رسلنَا وَلَا تَجِد لسنتنا تحويلا [سُورَة الْإِسْرَاء 77] وَقَالَ تَعَالَى مَا كَانَ على النَّبِي من حرج فِيمَا فرض الله لَهُ سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا [سُورَة الْأَحْزَاب 38] وَقَالَ تَعَالَى فِي آخر السُّورَة ملعونين أَيْنَمَا ثقفوا أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا [سُورَة الْأَحْزَاب 61 - 62] وَقَالَ فَهَل ينظرُونَ إِلَّا سنة الْأَوَّلين فَلَنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَلنْ تَجِد لسنة الله تحويلا [سُورَة فاطر 43] وَقَالَ سنة الله الَّتِي قد خلت فِي عباده وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ [سُورَة غَافِر 85] وَقَالَ وَلَو قاتلكم الَّذين كفرُوا لولوا الأدبار ثمَّ لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا سنة الله الَّتِي قد خلت من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا [سُورَة الْفَتْح 22 - 23] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَقَالَ تَعَالَى قد خلت من قبلكُمْ سنَن [سُورَة آل عمرَان 137] وَقَالَ تَعَالَى وَمَا منع النَّاس أَن يُؤمنُوا إِذْ جَاءَهُم الْهدى ويستغفروا رَبهم إِلَّا أَن تأتيهم سنة الْأَوَّلين [سُورَة الْكَهْف 55] سنته نصْرَة أوليائه وإهانة أعدائه فَهَذِهِ كلهَا تتَعَلَّق بأوليائه كمطيعيه وعصاته كالمؤمنين والكافرين فسنته فِي هَؤُلَاءِ إكرامهم وسنته فِي هَؤُلَاءِ إهانتهم وعقوبتهم الْآيَة الأولى فَأَما الأولى فَإِنَّهَا تتَعَلَّق بالرسل لِأَنَّهُ لَا حرج عَلَيْهِم فِيمَا فرض الله تَعَالَى لَهُم وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم [سُورَة التَّحْرِيم 2] والمفروض هُنَا مُبَاح مُقَدّر مَحْدُود مثل إِبَاحَة زَوْجَة المتبنى بعد أَن قضى مِنْهَا وطرا وَطَلقهَا لَا بِأَن تُؤْخَذ مِنْهُ بِغَيْر اخْتِيَاره وَقد قَالَ تَعَالَى وَقد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم وَمَا ملكت أَيْمَانهم [سُورَة الْأَحْزَاب 50] أَي أَوْحَينَا وحرمنا قبل وَهنا المُرَاد بِهِ سنته فِي رسله أَنه أَبَاحَ لَهُم الْأزْوَاج وَغَيرهَا كَمَا قَالَ وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك وَجَعَلنَا لَهُم أَزْوَاجًا وذرية [سُورَة الرَّعْد 38] وَأَنه لَا حرج عَلَيْهِم فِي ذَلِك فَلم يكن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بدعا من الرُّسُل وَلم يقل هُنَا وَلنْ تَجِد لسنتنا تبديلا فَإِنَّهُ لَا نَبِي بعد مُحَمَّد الْأَرْبَعَة الْبَوَاقِي: وَالْأَرْبَعَة الْبَوَاقِي تَتَضَمَّن عُقُوبَة الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ فَالْأولى قَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الأولى إِنَّهُم لَو استفزوه فأخرجوه لم يَلْبَثُوا خَلفه إِلَّا قَلِيلا كَسنة من أرسل قبله من الرُّسُل فإمَّا أَن يُقَال وَقع هَذَا الْإِخْرَاج بِالْهِجْرَةِ وَلم يَلْبَثُوا خَلفه إِلَّا قَلِيلا وَهُوَ مَا أَصَابَهُم يَوْم بدر وَإِمَّا أَن يُقَال لم يَقع الثَّانِيَة وَالثَّانيَِة قَوْله لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض الْآيَة [سُورَة الْأَحْزَاب 60] كَمَا أصَاب من قبلهم من أهل الْكتاب فَإِن الله أخرجهم فَإِن لم ينْتَه غي هَؤُلَاءِ بل أظهرُوا الْكفْر كَمَا أظهره أُولَئِكَ أخرجناهم كَمَا أخرجناهم بِخِلَاف مَا إِذا كتموه وَهَذِه السنه تَتَضَمَّن أَن كل من جاور الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَتى أظهر مُخَالفَته مكن الله الرَّسُول من إِخْرَاجه وَهَذِه فِي أهل الْعمد وَالْمُنَافِقِينَ وَقد يُقَال هِيَ لَهُم مَعَ الْمُؤمنِينَ أبدا الثَّالِثَة وَالثَّالِثَة فِي أهل الْمَكْر السيء وَأَن سنة الله أَن ينصر رسله وَالَّذين آمنُوا على أعدائهم وينتقم مِنْهُم وَقَالَ هُنَا فَلَنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَلنْ تَجِد لسنة الله تحويلا الرَّابِعَة وَالرَّابِعَة فِي حَال الْكفَّار مَعَ الْمُؤمنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 السّنَن الْمُتَعَلّقَة بالأمور الطبيعية ينقضها الله إِذا شَاءَ وَهَذِه السّنَن كلهَا سنَن تتَعَلَّق بِدِينِهِ وَأمره وَنَهْيه ووعده ووعيده وَلَيْسَت هِيَ السّنَن الْمُتَعَلّقَة بالأمور الطبيعية كسنته فِي الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب وَغير ذَلِك من الْعَادَات فَإِن هَذِه السّنة ينقضها إِذا شَاءَ بِمَا شاءه من الحكم كَمَا حبس الشَّمْس على يُوشَع وكما شقّ الْقَمَر لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكما مَلأ السَّمَاء بِالشُّهُبِ وكما أَحْيَا الْمَوْتَى غير مرّة وكما جعل الْعَصَا حَيَّة وكما أنبع المَاء من الصَّخْرَة بعصا وكما أنبع المَاء من بَين أَصَابِع الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد ذكر بعض هَذِه الْآيَات السهروردي فِي الْمَنْقُول فِي الألواح الْعمادِيَّة وَفِي المبدأ والمعاد محتجا بهَا على مَا يَقُوله هُوَ أَمْثَاله من المتفلسفة أَن الْعَالم لم يزل وَلَا يزَال هَكَذَا بِنَاء على أَن هَذِه سنة الرب عز وجلّ وعادته وَهِي لَا تَبْدِيل لَهَا إِذْ كَانَ عِنْدهم لَيْسَ فَاعِلا بمشيئته واختياره بل مُوجب بِذَاتِهِ فَيُقَال لَهُم احتجاجكم على هَذَا بِالْقُرْآنِ فِي غَايَة الْفساد فَإِن الْقُرْآن يُصَرح بنقيض مذهبكم فِي جَمِيع الْمَوَاضِع وَقد علم بالإضطرار أَن مَا يَقُولُونَهُ مُخَالف لما جَاءَ بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاحتجاجكم بِهَذَا أفسد من احتجاج النَّصَارَى على أَن مُحَمَّدًا شهد بِأَن دينهم بعد النّسخ والتبديل حق بآيَات من الْقُرْآن حرفوها عَن موَاضعهَا قد تكلمنا عَلَيْهَا فِي الْجَواب الصَّحِيح لمن بدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 دين الْمَسِيح فَإِن النَّصَارَى وَإِن كَانُوا كفَّارًا بتبديل الْكتاب الأول وَتَكْذيب الثَّانِي فهم خير مِنْكُم من وُجُوه كَثِيرَة فَإِنَّهُم يَقُولُونَ بالأصول الْكُلية الَّتِي اتّفقت عَلَيْهَا الرُّسُل وَإِن كَانُوا حرفوا بعض ذَلِك كالإيمان بِأَن الله خَالق كل شَيْء وَأَنه بِكُل شَيْء عليم وعَلى كل شَيْء قدير وَالْإِيمَان بملائكته وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر وَالْجنَّة وَالنَّار وَغير ذَلِك مِمَّا تكذبون أَنْتُم بِهِ الْأَدِلَّة على ذَلِك وَأما بَيَان الدّلَالَة فَمن وُجُوه الأول أَحدهَا أَن يُقَال الْعَادَات الطبيعية لَيْسَ للرب فِيهَا سنة لَازِمَة فَإِنَّهُ قد عرف بالدلائل اليقينية أَن الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب مخلوقة بعد أَن لم تكن فَهَذَا تَبْدِيل وَقع وَقد قَالَ تَعَالَى يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَوَات [سُورَة إِبْرَاهِيم 48] الثَّانِي وَأَيْضًا فقد عرف انْتِقَاض عَامَّة الْعَادَات فالعادة فِي بني آدم أَلا يخلقوا إِلَّا من أبوين وَقد خلق الْمَسِيح من أم وحواء من أَب وآدَم من غير أم وَلَا أَب وإحياء الْمَوْتَى متواتر مَرَّات مُتعَدِّدَة وَكَذَلِكَ تَكْثِير الطَّعَام وَالشرَاب لغير وَاحِد من الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ عَلَيْهِم السَّلَام الثَّالِث وَأَيْضًا فعندكم تغيرات وَقعت فِي الْعَالم كالطوفانات الْكِبَار فِيهَا تَغْيِير الْعَادة وَهَذَا خلاف عَادَته الَّتِي وعد بهَا وَأخْبر أَنَّهَا لَا تَتَغَيَّر لنصرة أوليائه وإهانة أعدائه فَإِن هَذَا علم بِخَبَرِهِ وحكمته أما خَبره فَإِنَّهُ أخبر بذلك ووعد بِهِ وَهُوَ الصَّادِق الَّذِي لَا يخلف الميعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَهَذَا يُوَافق طرق جَمِيع طوائف أهل الْملَل وَيَقُولُونَ مُقْتَضى حكمته أَن يكون الْعَاقِبَة والنصر لأوليائه دون أعدائه كَمَا قد بسط ذَلِك فِي مَوَاضِع وَأما الْأُمُور الطبيعية فإمَّا أَن تقع بمحض الْمَشِيئَة على قَول وَإِمَّا أَن تقع بِحَسب الْحِكْمَة والمصلحة على قَول وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ فتبديلها وَتَحْوِيلهَا لَيْسَ مُمْتَنعا كَمَا فِي نسخ الشَّرَائِع وتبديل آيَة بِآيَة فَإِنَّهُ إِن علق الْآيَة بمحض الْمَشِيئَة فَهُوَ يفعل مَا يَشَاء وَإِن علقها بالحكمة مَعَ الْمَشِيئَة فالحكمة تَقْتَضِي تَبْدِيل بعض مَا فِي الْعَالم كَمَا وَقع كثير من ذَلِك فِي الْمَاضِي وسيقع فِي الْمُسْتَقْبل فَعلم أَن هَذِه السّنَن دينيات لَا طبيعيات وَلَكِن فِي قَوْله تَعَالَى وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا حجَّة لِلْجُمْهُورِ الْقَائِلين بالحكمة فَإِن أَصْحَاب الْمَشِيئَة الْمُجَرَّدَة يجوزون نقض كل عَادَة وَلَكِن يَقُولُونَ إِنَّمَا نعلم مَا يكون بالْخبر سنته تَعَالَى مطردَة فِي الدينيات والطبيعيات وَقَوله تَعَالَى فَلَنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَلنْ تَجِد لسنة الله تحويلا دَلِيل على أَن هَذَا من مُقْتَضى حكمته وَأَنه يقْضِي فِي الْأُمُور المتماثلة بِقَضَاء متماثل لَا بِقَضَاء مُخَالف فَإِذا كَانَ قد نصر الْمُؤمنِينَ لأَنهم مُؤمنُونَ كَانَ هَذَا مُوجبا لنصرهم حَيْثُ وجد هَذَا الْوَصْف بِخِلَاف مَا إِذا عصوا وَنَقَضُوا إِيمَانهم كَيَوْم أحد فَإِن الذَّنب كَانَ لَهُم وَلِهَذَا قَالَ وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا فَعم كل سنة لَهُ وَهُوَ يعم سنته فِي خلقه وَأمره فِي الطبيعيات والدينيات نقض الْعَادة لاخْتِصَاص معِين لَكِن الشَّأْن أَن تعرف سنته وَحَقِيقَة هَذَا أَنه إِذا نقض الْعَادة فَإِنَّمَا ينقضها لاخْتِصَاص تِلْكَ الْحَال بِوَصْف امتازت بِهِ عَن غَيره فَلم تكن سنته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 مَعَ ذَلِك والإختصاص بسنته مَعَ عَدمه كَمَا نقُول إِذا خصت الْعلَّة لفَوَات شَرط أَو وجود مَانع وكما نقُول فِي الإستحسان الصَّحِيح وَهُوَ تَخْصِيص بعض أَفْرَاد الْعَام بِحكم يخْتَص بِهِ لامتيازه عَن نَظَائِره بِوَصْف يخْتَص بِهِ السّنة هِيَ الْعَادة وَالسّنة هِيَ الْعَادة فِي الْأَشْيَاء المتماثلة وَسنة هُنَا تجْرِي على سنه هَذَا فِي الإشتقاق الْأَكْبَر وَالسّنة من هَذَا الْبَاب سَوَاء كَانَ أَصله سنوة أَو سنهة وهما لُغَتَانِ فِي السّنة وَالسّنَن وأَسْنَان الْمشْط وَنَحْو ذَلِك بِلَفْظ السّنة يدل على التَّمَاثُل فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذا حكم فِي الْأُمُور المتماثلة بِحكم فَإِن ذَلِك لَا ينْتَقض وَلَا يتبدل وَلَا يتَحَوَّل بل هُوَ سُبْحَانَهُ لَا يفوت بَين المتماثلين وَإِذا وَقع تَغْيِير فَذَلِك لعدم التَّمَاثُل وَهَذَا القَوْل أشبه بأصول الْجُمْهُور الْقَائِلين بالحكمة فِي الْخلق وَالْأَمر وَأَنه سُبْحَانَهُ يُسَوِّي بَين المتماثلين وَيفرق بَين الْمُخْتَلِفين كَمَا دلّ الْقُرْآن على هَذَا فِي مَوَاضِع كَقَوْلِه تَعَالَى أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين [سُورَة الْقَلَم 35] وَمن هَذَا الْبَاب صَارَت قصَص الْمُتَقَدِّمين عِبْرَة لنا وَلَوْلَا الْقيَاس واطراد فعله وسنته لم يَصح الإعتبار بهَا والإعتبار إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ حكم الشَّيْء حكم نَظِيره كالأمثال المضروبة فِي الْقُرْآن وَهِي كَثِيرَة وَذكر لفظ التبديل والتحويل كَقَوْلِه تَعَالَى قل ادعوا الَّذين زعمتم من دونه فَلَا يملكُونَ كشف الضّر عَنْكُم وَلَا تحويلا [سُورَة الْإِسْرَاء 56] فالتبديل أَن تبدل بِخِلَافِهِ والتحويل أَن تحول من مَحل إِلَى مَحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مثل استفزازه من الأَرْض ليخرجوه فَإِنَّهُم لَا يلبثُونَ خَلفه إِلَّا قَلِيلا وَلَا تتحول هَذِه السّنة بِأَن يكون هُوَ الْمخْرج وهم اللابثون بل مَتى أَخْرجُوهُ خَرجُوا خَلفه وَلَو مكث لَكَانَ هَذَا اسْتِصْحَاب حَال بِخِلَاف ظُهُور الْكفَّار فَإِنَّهُ كَانَ تبديلا لظُهُور الْمُؤمنِينَ وَظُهُور الْكفَّار إِذْ كَانَ لَا بُد من أَحدهمَا وَأما أهل الْمَكْر السيء وَالْكفَّار فَهِيَ سنة تَبْدِيل لَا بُد لَهُم من الْعقُوبَة لَا يبدلون بهَا غَيرهَا وَلَا نتحول عَنْهُم إِلَى الْمُؤمنِينَ وَهُوَ عيد لأهل الْمَكْر السيء أَنه لَا يَحِيق إِلَّا بأَهْله وَلنْ يتبدلوا بِهِ خيرا بتضمن نفيا وإثباتا فَلهَذَا نفى عَنهُ التبديل والتحويل فصل وَالْقُرْآن قد دلّ على هَذَا الأَصْل فِي مَوَاضِع كَقَوْلِه قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله بَغْتَة أَو جهرة هَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الظَّالِمُونَ [سُورَة الْأَنْعَام 47] وَقَوله وَكَذَلِكَ أَخذ رَبك إِذا أَخذ الْقرى وَهِي ظالمة إِن أَخذه أَلِيم شَدِيد [سُورَة هود 102] وَقَوله أكفار كم خير من أولئكم [سُورَة الْقَمَر 43] وَمِنْه قَوْله لقد كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب [سُورَة يُوسُف 111] وَقَوله قد كَانَ لكم آيَة فِي فئتين التقتا [سُورَة آل عمرَان 13] إِلَى قَوْله إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولى الْأَبْصَار [سُورَة آل عمرَان 13] فصل وَقد أخبر سُبْحَانَهُ أَنه تَارَة يعاقبهم عقب السَّرَّاء وَتارَة يعاقبهم عقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الضراء إِذا لم يتضرعوا فَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ إِلَى قَوْله مبلسون [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 76 - 77] فَهُنَا أخبر أَنه بِالْعَذَابِ الْأَدْنَى مَا اسْتَكَانُوا وَمَا تضرعوا حَتَّى أَخذهم بالإهلاك كَمَا قَالَ ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر لَعَلَّهُم يرجعُونَ [سُورَة السَّجْدَة 21] وَقَالَ أَولا يرَوْنَ أَنهم يفتنون فِي كل عَام مرّة أَو مرَّتَيْنِ ثمَّ لَا يتوبون وَلَا هم يذكرُونَ [سُورَة التَّوْبَة 126] وَالضَّمِير يكون عَائِدًا على الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وَقَالَ فِي [سُورَة الْأَنْعَام وَلَقَد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك فأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء إِلَى قَوْله وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين سُورَة الْأَنْعَام 42 - 45] فَهَذِهِ نظيرها فِي الْأَعْرَاف فِي قَوْله وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء وَالضَّرَّاء إِلَى قَوْله وهم لَا يَشْعُرُونَ الْآيَات [سُورَة الْأَعْرَاف 94 - 95] فقد ذمهم أَنهم لم يتضرعوا لما أَخذهم بالبأساء وَالضَّرَّاء فَإِنَّهُ بعد هَذَا بدل الْحَالة السَّيئَة بالحالة الْحَسَنَة فَلم يطيعوا فَأَخذهُم بِالْعَذَابِ بَغْتَة فَهُنَا أَخذهم أَولا بالضراء ليضرعوا فَلم يتضرعوا فَابْتَلَاهُمْ الله بالسراء ليطيعوا فَلم يطيعوا فَأَخذهُم بِالْعَذَابِ وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى وبلوناهم بِالْحَسَنَاتِ والسيئات لَعَلَّهُم يرجعُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف 168] فَهَؤُلَاءِ ابتلوا بالضراء أَولا ثمَّ بالسراء ثَانِيًا وَقد أخبر أَنه مَا أرسل فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا كَانُوا هَكَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وَهَذَا كَمَا ذكره سُبْحَانَهُ فِي حَال قوم فِرْعَوْن وَغَيرهم وَهَذَا ذمّ لمن لم يستقم لَا فِي الضراء وَلَا فِي السَّرَّاء لَا دَعَا بالضراء وَلَا بالسراء وَلَا تضرع فِي الضراء وَلَا شكر وَلَا آمن فِي السَّرَّاء ابْتَلَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَهِي النعم والسيئات وَهِي المصائب فَمَا أطاعوا لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا وَأما آيَة الْمُؤمنِينَ فأمراؤهم لم يستكينوا وَلم يتضرعوا حَتَّى فتح عَلَيْهِم بَابا ذَا عَذَاب شَدِيد إِذا هم فِيهِ مبلسون وَهَؤُلَاء قد يكون تقدم لَهُم ابتلاء بِالْحَسَنَاتِ أَولا فَإِنَّهُ قَالَ فِي أول الْكَلَام يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 51] إِلَى قَوْله أيحسبون أَنما نمدهم بِهِ من مَال وبنين نسارع لَهُم فِي الْخيرَات بل لَا يَشْعُرُونَ إِلَى قَوْله حَتَّى إِذا اخذنا مترفيهم بِالْعَذَابِ إِذا هم يجأرون الْآيَة 64 إِلَى قَوْله وَلَو رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ للجوا فِي طغيانهم يعمهون وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم الْآيَتَانِ 75 76 فَهَؤُلَاءِ كَانُوا فِي حَالَة حَسَنَة فَلَمَّا لم يتقوه أَخذ مترفيهم بِالْعَذَابِ ثمَّ أَخذهم بِالْعَذَابِ ليتضرعوا فَلَمَّا لم يتضرعوا ابْتَلَاهُم بِالْحَسَنَاتِ أَولا فَلَمَّا لم يتقوه استحقوا الْعَذَاب فَيعْتَبر الْفرق بَين هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء آخِره وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله أَجْمَعِينَ وَسلم تَسْلِيمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 رِسَالَة فِي قصَّة شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين أما بعد فقد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قصَّة شُعَيْب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غير مَوضِع من كِتَابه وإرساله إِلَى أهل مَدين وَقَالَ فِي مَوضِع آخر كذب أَصْحَاب الأيكة الْمُرْسلين [سُورَة الشُّعَرَاء 176] فَأكْثر النَّاس يَقُولُونَ إِنَّهُم أهل مَدين وَمن النَّاس من يَجْعَلهَا قصتين شيخ مَدين لم يكن شعيبا وَذكر فِي قصَّة مُوسَى أَنه وَلما ورد مَاء مَدين وجد عَلَيْهِ أمة من النَّاس يسقون وَوجد من دونهم امْرَأتَيْنِ تذودان قَالَ مَا خطبكما الْآيَة [سُورَة الْقَصَص 23] إِلَى آخر الْقِصَّة فموسى عَلَيْهِ السَّلَام قضى أكمل الْأَجَليْنِ وَلم يذكر عَن هَذَا الشَّيْخ أَنه كَانَ شعيبا وَلَا أَنه كَانَ نَبيا وَلَا عِنْد أهل الْكِتَابَيْنِ أَنه كَانَ نَبيا وَلَا نقل عَن أحد من الصَّحَابَة أَن هَذَا الشَّيْخ الَّذِي صاهر مُوسَى كَانَ شعيبا النَّبِي لَا عَن ابْن عَبَّاس وَلَا غَيره بل الْمَنْقُول عَن الصَّحَابَة أَنه لم يكن هُوَ شُعَيْب قَالَ سنيد بن دَاوُد شيخ البُخَارِيّ فِي تَفْسِيره بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 قَالَ اسْمه يثرى قَالَ حجاج وَقَالَ غَيره يثرون وَعَن شُعَيْب الجبائي أَنه قَالَ اسْم الجاريتين ليا وصغوره وَامْرَأَة مُوسَى صغوره ابْنة يثرون كَاهِن مَدين والكاهن الحبر وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس أَن اسْمه يثرون أَو يثرى وَقَالَ ابْن جرير اسْم إِحْدَى الجاريتين ليا وَيُقَال شرفا وَالْأُخْرَى صغورة وَقَالَ أَيْضا وَأما أَبوهُمَا فمختلف فِي اسْمه فَقَالَ بَعضهم اسْمه يثرون وَقَالَ ابْن مَسْعُود الَّذِي اسْتَأْجر مُوسَى ابْن أخي شُعَيْب يثرون وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة هُوَ يثرون ابْن أخي شُعَيْب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ آخَرُونَ اسْمه يثرى وَهُوَ مَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس وَقَالَ الْحسن يَقُولُونَ هُوَ شُعَيْب النَّبِي لَا وَلكنه سيد أهل المَاء يَوْمئِذٍ قَالَ ابْن جرير وَهَذَا لَا يدْرك علمه إِلَّا بِخَبَر عَن مَعْصُوم وَلَا خبر فِي ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَقيل اسْمه أثرون فَهَذِهِ كتب التَّفْسِير الَّتِي تروي بِالْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالتَّابِعِينَ لم يذكر فِيهَا عَن أحد أَنه شُعَيْب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكِن نقلوا بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَة عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ يَقُولُونَ إِنَّه شُعَيْب وَلَيْسَ بشعيب وَلكنه سيد المَاء يَوْمئِذٍ فالحسن يذكر أَنه شُعَيْب عَمَّن لَا يعرف وَيرد عَلَيْهِم ذَلِك وَيَقُول لَيْسَ هُوَ شُعَيْب وَإِن كَانَ الثَّعْلَبِيّ قد ذكر أَنه شُعَيْب فَلَا يلْتَفت إِلَى قَوْله فَإِنَّهُ ينْقل الغث والسمين فَمن جزم بِأَنَّهُ شُعَيْب النَّبِي فقد قَالَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم وَمَا لم ينْقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن الصَّحَابَة وَلَا عَمَّن يحْتَج بقوله من عُلَمَاء الْمُسلمين وَخَالف فِي ذَلِك مَا ثَبت عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن الْبَصْرِيّ مَعَ مُخَالفَته أَيْضا لأهل الْكِتَابَيْنِ فَإِنَّهُم متفقون على أَنه لَيْسَ هُوَ شُعَيْب النَّبِي فَإِن مَا فِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود وَالْإِنْجِيل الَّذِي عِنْد النَّصَارَى أَن اسْمه يثرون وَلَيْسَ لشعيب النَّبِي عِنْدهم ذكر فِي التَّوْرَاة كَانَ شُعَيْب عَرَبيا ومُوسَى عبرانيا وَقد ذكر غير وَاحِد من الْعلمَاء أَن شعيبا كَانَ عَرَبيا بل قد رُوِيَ عَن أبي ذَر مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَوَاهُ أَبُو حَاتِم وَغَيره أَن شعيبا كَانَ عَرَبيا وَكَذَلِكَ هود وَصَالح ومُوسَى كَانَ عبرانيا فَلم يكن يعرف لِسَانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وَظَاهر الْقُرْآن يدل على مُخَاطبَة مُوسَى للمرأتين وأبيهما بِغَيْر ترجمان وَإِنَّمَا شُبْهَة من ظن ذَلِك أَنه وجد فِي الْقُرْآن قصَّة شُعَيْب وإرساله إِلَى أهل مَدين وَوجد فِي الْقُرْآن مَجِيء مُوسَى إِلَى مَدين ومصاهرته لهَذَا فَظن أَنه هُوَ وَالْقُرْآن يدل أَن الله أهلك قوم شُعَيْب بالظلة فَحِينَئِذٍ لم يبْق فِي مَدين من قوم شُعَيْب أحد وَشُعَيْب لَا يُقيم بقريه لَيْسَ بهَا أحد وَقد ذكرُوا أَن الْأَنْبِيَاء كَانُوا إِذا هَلَكت أممهم ذَهَبُوا إِلَى مَكَّة فأقامة بهَا إِلَى الْمَوْت كَمَا ذكر أَن قبر شُعَيْب بِمَكَّة وقبر هود بِمَكَّة وَكَذَلِكَ غَيرهمَا ومُوسَى لما جَاءَ إِلَى مَدين كَانَت معمورة بِهَذَا الشَّيْخ الَّذِي صاهره وَلم يكن هَؤُلَاءِ قوم شُعَيْب الْمَذْكُورين فِي الْقُرْآن بل وَمن قَالَ إِنَّه كَانَ ابْن أخي شُعَيْب أَو ابْن عَمه لم ينْقل ذَلِك عَن ثَبت وَالنَّقْل الثَّابِت عَن ابْن عَبَّاس لَا يُعَارض بِمثل قَول هَؤُلَاءِ وَمَا يذكرُونَهُ فِي عَصا مُوسَى وَأَن شعيبا أعطَاهُ إِيَّاهَا وَقيل أعطَاهُ إِيَّاهَا هَذَا الشَّيْخ وَقيل جِبْرِيل وكل ذَلِك لَا يثبت وَعَن أبي بكر أَظُنهُ الْهُذلِيّ قَالَ سَأَلت عِكْرِمَة عَن عَصا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصا خرج بهَا آدم من الْجنَّة ثمَّ قبضهَا بعد ذَلِك جِبْرِيل فلقي بهَا مُوسَى لَيْلًا فَدَفعهَا إِلَيْهِ وَقَالَ السّديّ فِي تَفْسِيره الْمَعْرُوف أَمر أَبُو الْمَرْأَتَيْنِ ابْنَته أَن يَأْتِي مُوسَى بعصا وَكَانَت تِلْكَ الْعَصَا عَصا استودعها ملك فِي صُورَة رجل إِلَى آخر الْقِصَّة استودعه إِيَّاهَا ملك فِي سُورَة رجل وَأَن حماه خاصمه وَحكما بَينهمَا رجلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَأَن مُوسَى أطَاق حملهَا دون حميه وَذكر عَن مُوسَى أَنه أَحَق بِالْوَفَاءِ من حميه وَلَو كَانَ هَذَا هُوَ شعيبا النَّبِي لم يُنَازع مُوسَى وَلم ينْدَم على إِعْطَائِهِ إِيَّاهَا وَلم يحاكمه وَلم يكن مُوسَى قبل أَن ينبأ أَحَق بِالْوَفَاءِ مِنْهُ فَإِن شعيبا كَانَ نَبيا ومُوسَى لم يكن نَبيا فَلم يكن مُوسَى قبل أَن ينبأ أكمل من نَبِي وَمَا ذكره زيد من أَنه كَانَ يعرف أَن مُوسَى نَبِي إِن كَانَ ثَابتا فالأحبار والرهبان كَانَت عِنْدهم عَلَامَات الْأَنْبِيَاء وَكَانُوا يخبرون بأخبارهم قبل أَن يبعثوا وَالله سُبْحَانَهُ أعلم فصل وَأما شياع كَون حمى مُوسَى شعيبا النَّبِي عِنْد كثير من النَّاس الَّذين لَا خبْرَة لَهُم بحقائق الْعلم ودلائله وطرقه السمعية والعقلية فَهَذَا مِمَّا لَا يغتر بِهِ عَاقل فَإِن غَايَة مثل ذَلِك أَن يكون مَنْقُولًا عَن بعض المنتسبين إِلَى الْعلم وَقد خَالفه غَيره من أهل الْعلم وَقَول الْعَالم الَّذِي يُخَالِفهُ نَظِيره لَيْسَ حجَّة بل يجب رد مَا تنَازعا فِيهِ إِلَى الْأَدِلَّة وَمِثَال ذَلِك مَا ذكره بَعضهم أَو كثير مِنْهُم من أَن الرُّسُل الْمَذْكُورين فِي [سُورَة يس هم من حواريي الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن حبيب النجار آمن بهم وَهَذَا أَمر بَاطِل عِنْد أجلاء عُلَمَاء الْمُسلمين وَعند أهل الْكتاب فَإِن الله قد أخبر عَن هَذِه الْقرْيَة الَّتِي جاءها المُرْسَلُونَ أَنه قد أهلك أَهلهَا فَقَالَ تَعَالَى إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم خامدون الْآيَة 29] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وأنطاكية لما جاءها اثْنَان من الحواريين بعد رفع الْمَسِيح آمنُوا بهما وَهِي أول مَدِينَة اتبعت الْمَسِيح وَلم يُهْلِكهُمْ الله بعد الْمَسِيح بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَأهل الْكتاب فَكيف يجوز أَن يُقَال هَؤُلَاءِ هم رسل الْمَسِيح وَأَيْضًا فَإِن الَّذين أتوهم كَانَا اثْنَيْنِ من الحواريين وَأهل الْكتاب معترفون بذلك وَلم يكن حبيب النجار مَوْجُودا حِينَئِذٍ بل هَؤُلَاءِ رسل أرسلهم الله قبل الْمَسِيح وَأهْلك أهل تِلْكَ الْقرْيَة وَقد قيل إِنَّهَا أنطاكية وآمن حبيب بأولئك الرُّسُل ثمَّ بعد هَذَا عمرت أنطاكية وجاءتهم رسل الْمَسِيح بعد ذَلِك والحواريون لَيْسُوا رسل الله عِنْد الْمُسلمين بل هم رسل الْمَسِيح كالصحابة الَّذين كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرسلهم إِلَى الْمُلُوك وَمن زعم أَن هَؤُلَاءِ حواريون فقد جعل لِلنَّصَارَى حجَّة لَا يحسن أَن يُجيب عَنْهَا وَقد بسطنا ذَلِك فِي الرَّد على النَّصَارَى وَبينا أَن الحواريين لم يَكُونُوا رسلًا فَإِن النَّصَارَى يَزْعمُونَ أَن الحواريين رسل الله مثل إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَقد يفضلونهم على إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَهَذَا كفر عِنْد الْمُسلمين وَقد بَينا ضلال النَّصَارَى فِي ذَلِك آخِره وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 رِسَالَة فِي الْمعَانِي المستنبطة من سُورَة الْإِنْسَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين فصل تَفْسِير السُّورَة إِجْمَالا اعْلَم أَن سُورَة هَل أَتَى على الْإِنْسَان سُورَة عَجِيبَة الشَّأْن من سور الْقُرْآن على اختصارها [الْآيَتَانِ: 1، 2] فَإِن الله سُبْحَانَهُ ابتدأها بِذكر كَيْفيَّة خلق الْإِنْسَان من النُّطْفَة ذَات الأمشاج والأخلاط الَّتِي لم يزل بقدرته ولطفه وحكمته يصرفهُ عَلَيْهَا أطوارا وينقله من حَال إِلَى حَال إِلَى أَن تمت خلقته وكملت صورته فَأخْرجهُ إنْسَانا سويا سميعا بَصيرًا ثمَّ لما تَكَامل تَمْيِيزه وإدراكه هداه طريقي الْخَيْر وَالشَّر وَالْهدى والضلال الْآيَة الثَّالِثَة وَأَنه بعد هَذِه الْهِدَايَة إِمَّا أَن يشْكر ربه وَإِمَّا أَن يكفره ثمَّ ذكر مآل أهل الشُّكْر وَالْكفْر وَمَا أعد لهَؤُلَاء وَهَؤُلَاء وَبَدَأَ أَولا بِذكر عَاقِبَة أهل الْكفْر ثمَّ عَاقِبَة أهل الشُّكْر وَفِي آخر السُّورَة ذكر أَولا أهل الرَّحْمَة ثمَّ أهل الْعَذَاب فَبَدَأَ السُّورَة بِأول أَحْوَال الْإِنْسَان وَهِي النُّطْفَة وختمها بآخر أَحْوَاله وَهِي كَونه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الْآيَة الرَّابِعَة أهل الرَّحْمَة أَو الْعَذَاب ووسطها بأعمال الْفَرِيقَيْنِ فَذكر أَعمال أهل الْعَذَاب مجملة فِي قَوْله إِنَّا اعتدنا للْكَافِرِينَ [سُورَة الْإِنْسَان 4] وأعمال أهل الرَّحْمَة مفصلة وجزاءهم مفصلا فتضمنت السُّورَة خلق الْإِنْسَان وهدايته ومبدأه وتوسطه ونهايته وتضمنت المبدأ والمعاد والخلق وَالْأَمر وهما الْقُدْرَة وَالشَّرْع وتضمنت إِثْبَات السَّبَب وَكَون العَبْد فَاعِلا مرِيدا حَقِيقَة وَأَن فاعليته ومشيئته إِنَّمَا هِيَ بِمَشِيئَة الله فَفِيهَا الرَّد على طائفتين الْقَدَرِيَّة والجبرية وفيهَا ذكر أَقسَام بني آدم كلهم فَإِنَّهُم إِمَّا أهل شمال وهم الْكفَّار أَو أهل يَمِين وهم نَوْعَانِ أبرار ومقربون الْآيَة الْخَامِسَة وَذكر سُبْحَانَهُ أَن شراب الْأَبْرَار يمزج من شراب عباده المقربين لأَنهم مزجوا أَعْمَالهم ويشربه المقربون صرفا خَالِصا كَمَا أَخْلصُوا أَعْمَالهم وَجعل سُبْحَانَهُ شراب المقربين من الكافور الَّذِي فِيهِ من التبريد وَالْقُوَّة مَا يُنَاسب برد الْيَقِين وقوته لما حصل لقُلُوبِهِمْ وَوصل إِلَيْهَا فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا فِي ذَلِك من مُقَابلَته للسعير وَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن لَهُم شرابًا آخر ممزوجا من الزنجبيل لما فِيهِ من طيب الرَّائِحَة وَلَذَّة الطّعْم والحرارة الَّتِي توجب تغير برد الكافور وإذابة الفضلات وتطهير الأجواف وَلِهَذَا وَصفه سُبْحَانَهُ بِكَوْنِهِ شرابًا طهُورا أَي مطرها لبطونهم فوصفهم سُبْحَانَهُ بِجَمَال الظَّاهِر وَالْبَاطِن كَمَا قَالَ ولقاهم نَضرة وسرورا [الْآيَة 11] فالنضرة جمال وُجُوههم وَالسُّرُور جمال قُلُوبهم كَمَا قَالَ تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم [سُورَة المطففين 24] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وَقَرِيب من هَذَا قَول امْرَأَة الْعَزِيز فِي يُوسُف فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ وَلَقَد راودته عَن نَفسه فاستعصم [سُورَة يُوسُف 32] فَأخْبرت بِجَمَال ظَاهره حِين أشارت إِلَيْهِ بِالْخرُوجِ عَلَيْهِنَّ ثمَّ ضمت إِلَى ذَلِك إخبارها بِأَن بَاطِنه أجمل من ظَاهره بِأَنِّي راودته فَأبى إِلَّا الْعِفَّة وَالْحيَاء والإستعصام ثمَّ ذكر سُبْحَانَهُ من أَعمال الْأَبْرَار مَا يُنَبه سامعه على جمعهم لأعمال الْبر كلهَا فَذكر سُبْحَانَهُ وفاءهم بِالنذرِ وخوفهم من رَبهم وإطعامهم الطَّعَام على محبتهم لَهُ وإخلاصهم لرَبهم فِي طاعتهم الْآيَة السَّابِعَة وَذكر سُبْحَانَهُ الْوَفَاء بِالنذرِ وَهُوَ أَضْعَف الْوَاجِبَات فَإِن العَبْد هُوَ الَّذِي أوجبه على نَفسه بالتزامه فَهُوَ دون مَا أوجبه الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ فَإِذا وفى لله بأضعف الواجبين الَّذِي الْتَزمهُ هُوَ فَهُوَ بِأَن يُوفى بِالْوَاجِبِ الْأَعْظَم الَّذِي أوجبه الله عَلَيْهِ أولى وَأُخْرَى وَمن هَهُنَا قَالَ من قَالَ من الفسرين المقربون يُوفونَ بِطَاعَة الله ويقومون بِحقِّهِ عَلَيْهِم وَذَلِكَ أَن العَبْد إِذا نذر لله طَاعَة فوفى بهَا فَإِنَّمَا يفعل ذَلِك لكَونهَا صَارَت حَقًا لله يجب الْوَفَاء بهَا وَهَذَا مَوْجُود فِي حُقُوقه كلهَا فَهِيَ فِي ذَلِك سَوَاء ثمَّ أخبر عَنْهُم بِأَنَّهُم يخَافُونَ الْيَوْم العسير القمطرير وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فَفِي ضمن هَذَا الْخَوْف إِيمَانهم بِالْيَوْمِ الآخر وكفهم عَن الْمعاصِي الَّتِي تَضُرهُمْ فِي ذَلِك الْيَوْم وقيامهم بالطاعات الَّتِي يَنْفَعهُمْ فعلهَا ويضرهم تَركهَا فِي ذَلِك الْيَوْم الْآيَة الثَّامِنَة ثمَّ أخبر عَنْهُم بإطعام الطَّعَام على محبتهم لَهُ وَذَلِكَ يدل على نفاسته عِنْدهم وحاجتهم إِلَيْهِ وَمَا كَانَ كَذَلِك فالنفوس بِهِ أشح والقلوب بِهِ أعلق وَالْيَد لَهُ أمسك فَإِذا بذلوه فِي هَذِه الْحَال فهم لما سواهُ من حُقُوق الْعباد أبذل فَذكر من حُقُوق الْعباد بذل قوت النَّفس على نفاسته وَشدَّة الْحَاجة منبها على الْوَفَاء بِمَا دونه كَمَا ذكر من حُقُوقه الْوَفَاء بِالنذرِ منبها على الْوَفَاء بِمَا هُوَ فَوْقه وَأوجب مِنْهُ وَنبهَ بقوله على حبه الْآيَة 8 أَنه لَوْلَا أَن الله سُبْحَانَهُ أحب إِلَيْهِم مِنْهُ لما آثروه على مَا يحبونه فآثروا المحبوب الْأَعْلَى على الْأَدْنَى الْآيَة التَّاسِعَة ثمَّ ذكر أَن مصرف طعامهم إِلَى الْمِسْكِين واليتيم والأسير الَّذين لَا قُوَّة لَهُم ينصرونهم بهَا وَلَا مَال لَهُم يكافئونهم بِهِ وَلَا أهل وَلَا عشيرة يتوقعون مِنْهُم مكافأتهم كَمَا يَقْصِدهُ أهل الدُّنْيَا والمعاوضون بإنفاقهم وإطعامهم ثمَّ أخبر عَنْهُم أَنهم إِنَّمَا فعلوا ذَلِك لوجه الله وَأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ مِمَّن أطعموه عوضا من أَمْوَالهم وَلَا ثَنَاء عَلَيْهِم بألسنتهم كَمَا يُريدهُ من لَا إخلاص لَهُ بإحسانه إِلَى النَّاس من معاوضتهم أَو الشكُور مِنْهُم فتضمن ذَلِك الْمحبَّة وَالْإِخْلَاص وَالْإِحْسَان الْآيَة الْعَاشِرَة ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ عَنْهُم بِمَا صدقهم عَلَيْهِ قبل أَن يقولوه حَيْثُ قَالُوا إِنَّا نَخَاف من رَبنَا يَوْمًا عبوسا قمطريرا الْآيَة 10 فَصَدَّقَهُمْ قبل قَوْلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 إِذْ يَقُول تَعَالَى يُوفونَ بِالنذرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَره مُسْتَطِيرا الْآيَة 7 الْآيَة: 11 ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ وقاهم شَرّ مَا يخافونه ولقاهم فَوق مَا كَانُوا يأملونه الْآيَات: 12-20 وَذكر سُبْحَانَهُ أَصْنَاف النَّعيم الَّذِي حياهم بِهِ من المساكن والملابس والمجالس وَالثِّمَار وَالشرَاب والخدم وَالنَّعِيم وَالْملك الْكَبِير وَلما كَانَ فِي الصَّبْر من حبس النَّفس والخشونة الَّتِي تلْحق الظَّاهِر وَالْبَاطِن من التَّعَب وَالنّصب والحرارة مَا فِيهِ كَانَ الْجَزَاء عَلَيْهِ بِالْجنَّةِ الَّتِي فِيهَا السعَة وَالْحَرِير الَّذِي فِيهِ اللين والنعومة والإتكاء الَّذِي يتَضَمَّن الرَّاحَة والظلال المنافية للْحرّ الْآيَة: 21 ثمَّ ذكر سُبْحَانَهُ لون ملابس الْأَبْرَار وَأَنَّهَا ثِيَاب سندس خضر وإستبرق وحليتهم وَأَنَّهَا أساور من فضَّة فَهَذِهِ زِينَة ظواهرهم ثمَّ ذكر زِينَة بواطنهم وَهُوَ الشَّرَاب الطّهُور وَهُوَ بِمَعْنى التَّطْهِير فَإِن قيل فَلم اقْتصر من آنيتهم وحليتهم على الْفضة دون الذَّهَب وَمَعْلُوم أَن الْجنان جنتان من فضَّة آنيتهما وحليتهما وَمَا فيهمَا وجنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وَمَا فيهمَا قيل سِيَاق هَذِه الْآيَات إِنَّمَا هُوَ فِي وصف الْأَبْرَار ونعيمهم مفصلا دون تَفْصِيل جَزَاء المقربين فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أشارة تنبه على مَا سكت عَنهُ وَهُوَ أَن شَارِب الْأَبْرَار يمزج من شرابهم فالسورة مسوقة بِصفة الْأَبْرَار وجزائهم على التَّفْصِيل وَذَلِكَ وَالله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لأَنهم أَعم من المقربين وَأكْثر مِنْهُم وَلِهَذَا يخبر سُبْحَانَهُ عَنْهُم بِأَنَّهُم ثلة من الْأَوَّلين وثلة من الآخرين وَعَن المقربين السَّابِقين بِأَنَّهُم ثلة من الْأَوَّلين وَقَلِيل من الآخرين وَأَيْضًا فَإِن فِي ذكر جَزَاء الْأَبْرَار تَنْبِيها على أَن جَزَاء المقربين مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذكر أهل الْكفْر وَأهل الشُّكْر وَأهل الشُّكْر نَوْعَانِ أبرار أهل يَمِين ومقربون سَابِقُونَ وكل مقرب سَابق فَهُوَ من الْأَبْرَار وَلَا ينعكس فاسم الْأَبْرَار والمقربين كاسم الْإِسْلَام وَالْإِيمَان أَحدهمَا أَعم من الآخر الْآيَة: 22 وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أخبر أَن هَذَا جَزَاء سَعْيهمْ المشكور وكل من الْأَبْرَار والمقربين سَعْيهمْ مشكور فَذكر سُبْحَانَهُ السَّعْي المشكور وَالسَّعْي المسخوط الْآيَتَانِ: 23، 24 ثمَّ ذكر سُبْحَانَهُ نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا أنعم عَلَيْهِ من تَنْزِيل الْقُرْآن عَلَيْهِ وَأمره بِأَن يصبر لحكمه وَهُوَ يعم الحكم الديني الَّذِي أمره بِهِ فِي نَفسه وَأمره بتبليغه وَالْحكم الكوني الَّذِي يجْرِي عَلَيْهِ من ربه فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ امتحن عباده وابتلاهم بأَمْره وَنَهْيه وَهُوَ حكمه الديني وابتلاهم بِقَضَائِهِ وَقدره وهوحكمه الكوني وَفرض عَلَيْهِم الصَّبْر على كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ وَإِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 كَانَ الحكم الديني فِي هَذِه الْآيَة أظهر إِرَادَة وَأَنه أَمر بِالصبرِ على تبليغه وَالْقِيَام بحقوقه وَلما كَانَ صبره عَلَيْهِ لَا يتم إِلَّا بمخالفته لمن دَعَاهُ إِلَى خِلَافه من كل آثم أَو كفور نَهَاهُ عَن طَاعَة هَذَا وَهَذَا وأتى بِحرف أَو دون الْوَاو ليدل على أَنه مَنْهِيّ عَن طَاعَة أَيهمَا كَانَ إِمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا فَكَأَنَّهُ قيل لَهُ لَا تُطِع أَحدهمَا وَهُوَ أَعم فِي النَّهْي من كَونه مَنْهِيّا عَن طاعتهما فَإِنَّهُ لَو قيل لَهُ لَا تطعهما أَو لَا تُطِع آثِما وكفورا لم يكن صَرِيحًا فِي النَّهْي عَن طَاعَة كل مِنْهُمَا بمفرده الْآيَتَانِ: 25، 26 وَلما كَانَ لَا سَبِيل إِلَى الصَّبْر إِلَّا بتعويض الْقلب بِشَيْء هُوَ أحب إِلَيْهِ من فَوَات مَا يصبر على فَوته أمره بِأَن يذكر ربه سُبْحَانَهُ بكرَة وَأَصِيلا فَإِن ذكره أعظم العون على تحمل مشاق الصَّبْر وَأَن يصبر لرَبه بِاللَّيْلِ فَيكون قِيَامه بِاللَّيْلِ عونا على مَا هُوَ بصدده بِالنَّهَارِ ومادة لقُوته ظَاهرا وَبَاطنا ولنعيمه عَاجلا وآجلا الْآيَة: 27 ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ عَمَّا يمْنَع العَبْد من إِيثَار مَا فِيهِ سعادته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَهُوَ حب العاجلة وإيثارها على الْآخِرَة تَقْدِيمًا لداعي الْحس على دَاعِي الْعقل الْآيَة: 28 ثمَّ ذكر سُبْحَانَهُ خلقهمْ وإحكامه وإتقانه بِمَا شدّ من أسرهم وَهُوَ ائتلاف الْأَعْضَاء والمفاصل والأوصال وَمَا بَينهَا من الرباطات وَشد بَعْضهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بِبَعْض وَحَقِيقَته الْقُوَّة وَمِنْه قَول الشَّاعِر من كل مجتنب شَدِيد أسره ... سَلس القياد تخاله مختالا وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا فِيمَا لَهُ شدّ ورباط وَمِنْه الإسار وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يشد بِهِ الْأَسير ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَنه قَادر على أَن يُبدل أمثالهم بعد مَوْتهمْ وَأَنه إِذا شَاءَ ذَلِك فعله وَإِذا للمحقق فَهَذَا التبديل وَاقع لَا محَالة فَهُوَ الْإِعَادَة الَّتِي هِيَ مثل الْبدَاءَة هَذَا هُوَ معنى الْآيَة وَمن قَالَ غير ذَلِك لم يصب مَعْنَاهَا وَلَا توحشك لَفْظَة الْمثل فَإِن الْمعَاد مثل للمبدوء وَإِن كَانَ هُوَ بِعَيْنِه فَهُوَ معاد أَو هُوَ مثله من جِهَة المغايدة بَين كَونه مبدءا ومعادا وَهَذَا كَالدَّارِ إِذا تهدمت وأعيدت بِعَينهَا فَهِيَ الأولى وَكَذَلِكَ الصَّلَاة الْمُعَادَة هِيَ الأولى وَهِي مثلهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وَقد نطق الْقُرْآن بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يعيدهم وَيُعِيد أمثالهم إِذْ شَاءَ وَكِلَاهُمَا وَاحِد فَقَالَ كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف 29] وَقَالَ تَعَالَى وإلينا ترجعون [سُورَة الْأَنْبِيَاء 35] وَقَالَ وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ [سُورَة الرّوم 27] وَقَالَ أوليس الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِقَادِر على أَن يخلق مثلهم بلَى وَهُوَ الخلاق الْعَلِيم [سُورَة يس 81] وَقَالَ إِنَّا لقادرون على أَن نبدل أمثالكم وننشئكم فِي مَا لَا تعلمُونَ وَلَقَد علمْتُم النشأة الأولى فلولا تذكرُونَ [سُورَة الْوَاقِعَة 61 - 62] فَهَذَا كُله معاد الْأَبدَان وَقد صرح سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ خلق جَدِيد فِي موضِعين من كِتَابه وَهَذَا الْخلق الْجَدِيد هُوَ الْمثل الْآيَة: 29 ثمَّ ختم سُبْحَانَهُ السُّورَة بِالشَّرْعِ وَالْقدر كَمَا افتتحها بالخلق وَالْهِدَايَة فَقَالَ فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه سَبِيلا [الْآيَة 29] فَهَذَا شَرعه وَمحل أمره وَنَهْيه الْآيَة الثَّلَاثُونَ ثمَّ قَالَ وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله الْآيَة 30 فَهَذَا قَضَاؤُهُ وَقدره ثمَّ ذكر الإسمين الموجبين للتخصيص وهما اسْم الْعَلِيم الْحَكِيم وَقَوله وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله فَأخْبر أَن مشيئتهم مَوْقُوفَة على مَشِيئَته وَمَعَ هَذَا فَلَا يُوجب ذَلِك حُصُول الْفِعْل مِنْهُم إِذْ أَكثر مَا فِيهِ أَنه جعلهم شائين وَلَا يَقع الْفِعْل إِلَّا حِين يشاؤه مِنْهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى فَمن شَاءَ ذكره وَمَا يذكرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله [سُورَة المدثر 55 - 56] وَقَالَ لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله [سُورَة التكوير 28 - 29] وَمَعَ هَذَا فَلَا يَقع الْفِعْل مِنْهُم حَتَّى يُرِيد من نَفسه إعانتهم وتوفيقهم فَهُنَا أَربع إرادات إِرَادَة الْبَيَان وَإِرَادَة الْمَشِيئَة وَإِرَادَة الْفِعْل وَإِرَادَة الْإِعَانَة وَالله أعلم آخِره وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ وَسلم تَسْلِيمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 رِسَالَة فِي قَوْله تَعَالَى وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فصل قَالَ الله تَعَالَى وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة [سُورَة الْبَقَرَة 75] قَالَ عَليّ بن أبي طَالب الصَّبْر من الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الرَّأْس من الْجَسَد فَإِذا انْقَطع الرَّأْس بار الْجَسَد أَلا لَا إِيمَان لمن لَا صَبر لَهُ فالصبر على أَدَاء الْوَاجِبَات وَاجِب وَلِهَذَا قرنه بِالصَّلَاةِ فِي أَكثر من خمسين موضعا فَمن كَانَ لَا يُصَلِّي من جَمِيع النَّاس رِجَالهمْ وَنِسَائِهِمْ فَإِنَّهُ يُؤمر فَإِن امْتنع عُوقِبَ بِإِجْمَاع الْمُسلمين ثمَّ أَكْثَرهم يوجبون قتل تَارِك الصَّلَاة وَهل يقتل كَافِرًا مُرْتَدا أَو فَاسِقًا على قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَالْمَنْقُول عَن أَكثر السّلف يَقْتَضِي كفره وَهَذَا مَعَ الْإِقْرَار بِالْوُجُوب فَأَما مَعَ جحود الْوُجُوب فَهُوَ كَافِر بالِاتِّفَاقِ وَمن ذَلِك تعاهد مَسَاجِد الْمُسلمين وأئمتهم وَأمرهمْ بِأَن يصلوا بهم صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَصلى مرّة بِأَصْحَابِهِ على طرف الْمِنْبَر وَقَالَ إِنَّمَا فعلت هَذَا لتأتموا بِي ولتعلموا صَلَاتي فعلى إِمَام الصَّلَاة أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاة كَامِلَة لَا يقْتَصر على مَا يجوز للمنفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الإقتصار عَلَيْهِ إِلَّا لعذر وَكَذَلِكَ على إمَامهمْ فِي الْحَج وأميرهم فِي الْحَرْب أَلا ترى الْوَكِيل وَالْوَلِيّ فِي البيع وَالشِّرَاء عَلَيْهِ أَن يتَصَرَّف لمُوكلِه ولموليه على الْوَجْه الْأَصْلَح لَهُ فِي مَاله وَهُوَ فِي مَال نَفسه يفوت على نَفسه مَا شَاءَ فَأمر الدَّين أهم وَمَتى اهتمت الْوُلَاة بإصلاح دين النَّاس صلح الدَّين للطائفتين وَالدُّنْيَا وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ الْأُمُور عَلَيْهِم جَمِيعًا وملاك ذَلِك حسن النِّيَّة للرعية وإخلاص الدَّين كُله لله عز وجلّ والتوكل عَلَيْهِ فَإِن الْإِخْلَاص والتوكل جماع صَلَاح الْخَاصَّة والعامة كَمَا أمرنَا أَن نقُول فِي صَلَاتنَا إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين فهاتان الكلمتان قد قيل إنَّهُمَا تجمعان مَعَاني الْكتب الْمنزلَة من السَّمَاء وروى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مرّة فِي غزَاة فَقَالَ يَا مَالك يَوْم الدَّين إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين فَجعلت الرُّءُوس تندر عَن كواهلها وَقد ذكر ذَلِك فِي غير مَوضِع من كِتَابه كَقَوْلِه عز وجلّ فاعبده وتوكل عَلَيْهِ [سُورَة هود 123] وَقَوله عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب [سُورَة هود 88] [سُورَة الشورى 10] وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ذبح أضحيته قَالَ مِنْك وَإِلَيْك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وأصل ذَلِك الْمُحَافظَة على الصَّلَوَات بِالْقَلْبِ وَالْبدن وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس بالنفع وَالْمَال الَّذِي هُوَ الزَّكَاة وَالصَّبْر على أَذَى الْخلق وَغَيره من النوائب فبالقيام بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصَّبْر يصلح حَال الرَّاعِي والرعية وَإِذا عرف الْإِنْسَان مَا يدْخل فِي هَذِه الْأَسْمَاء الجامعة عرف مَا يدْخل فِي الصَّلَاة من ذكر الله تَعَالَى ودعائه وتلاوة كِتَابه وإخلاص الدَّين لَهُ والتوكل عَلَيْهِ وَفِي الزَّكَاة من الْإِحْسَان إِلَى الْخلق بِالْمَالِ والنفع من نصر الْمَظْلُوم وإغاثة الملهوف وَقَضَاء حَاجَة الْمُحْتَاج وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كل مَعْرُوف صَدَقَة فَيدْخل فِيهِ كل إِحْسَان وَلَو ببسط الْوَجْه والكلمة الطّيبَة فَفِي الصَّحِيح عَن عدي بن حَاتِم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا سيكلمه ربه لَيْسَ بَينه وَبَينه ترجمان وَلَا حَاجِب فَينْظر أَيمن مِنْهُ فَلَا يرى إِلَّا شَيْئا قدمه وَينظر أشأم مِنْهُ فَلَا يرى إِلَّا شَيْئا قدمه وَينظر أَمَامه فيستقبل النَّار فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يَتَّقِي النَّار وَلَو بشق تَمْرَة فَلْيفْعَل فَإِن لم يجد فبكلمة طيبَة وَفِي السّنَن لَا تحقرن من الْمَعْرُوف شَيْئا وَلَو أَن تلقى أَخَاك بِوَجْه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 طلق وَفِي رِوَايَة ووجهك إِلَيْهِ منبسط وَلَو أَن تفرغ من دلوك فِي إِنَاء المستسقي وَفِي الصَّبْر احْتِمَال الْأَذَى وكظم الغيظ وَالْعَفو عَن النَّاس وَمُخَالفَة الْهوى وَترك الأشر والبطر كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَئِن أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة ثمَّ نزعناها مِنْهُ إِنَّه ليئوس كفور وَلَئِن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عني إِنَّه لفرح فخور إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات الْآيَة [سُورَة هود 9 - 11] وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَاد من بطْنَان الْعَرْش أَلا ليقمْ من أجره على الله فَلَا يقوم إِلَّا من عَفا وَأصْلح وَلَيْسَ من حسن النِّيَّة للرعية وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم أَن يفعل مَا يهوونه وَيتْرك مَا يكرهونه قَالَ تَعَالَى وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 71] وَقَالَ لأَصْحَاب نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاعْلَمُوا أَن فِيكُم رَسُول الله لَو يطيعكم فِي كثير من الْأَمر لعنتم [سُورَة الحجرات 7] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 رِسَالَة فِي تَحْقِيق التَّوَكُّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ وَسلم تَسْلِيمًا أما بعد فَهَذَا فصل فِي التَّوَكُّل التَّوَكُّل عِنْد طَائِفَة مُجَرّد عبَادَة لَا يحصل بِهِ جلب مَنْفَعَة وَلَا دفع مضرَّة قد ظن طَائِفَة مِمَّن تكلم فِي أَعمال الْقُلُوب أَن التَّوَكُّل لَا يحصل بِهِ جلب مَنْفَعَة وَلَا دفع مضرَّة بل مَا كَانَ مُقَدرا بِدُونِ التَّوَكُّل فَهُوَ مُقَدّر مَعَ التَّوَكُّل وَلَكِن التَّوَكُّل عبَادَة يُثَاب عَلَيْهَا من جنس الرِّضَا بِالْقضَاءِ وَذكر ذَلِك أَبُو عبد الله بن بطة فِيمَا صنفه فِي هَذَا الْبَاب وَقَول هَؤُلَاءِ يشبه قَول من قَالَ إِن الدُّعَاء لَا يحصل بِهِ جلب مَنْفَعَة وَلَا دفع مضرَّة بل هُوَ عبَادَة يُثَاب عَلَيْهَا كرمي الْجمار وَآخَرُونَ يَقُولُونَ بل الدُّعَاء عَلامَة وأمارة وَيَقُولُونَ ذَلِك فِي جَمِيع الْعِبَادَات وَهَذَا قَول من يَنْفِي الْأَسْبَاب فِي الْخلق وَالْأَمر وَيَقُول إِن الله يفعل عِنْدهَا لَا بهَا وَهُوَ قَول من طَائِفَة من متكلمي أهل الْإِثْبَات للقدر كالأشعري وَغَيره وَهُوَ قَول طَائِفَة من الْفُقَهَاء والصوفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وأصل هَذِه الْبِدْعَة من قَول جهم فَإِنَّهُ كَانَ غاليا فِي نفي الصِّفَات وَفِي الْجَبْر فَجعل من تَمام تَوْحِيد الذَّات نفي الصِّفَات وَمن تَمام تَوْحِيد الْأَفْعَال نفى الْأَسْبَاب حَتَّى أنكر تَأْثِير قدرَة العَبْد بل نفى كَونه قَادِرًا وَأنكر الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة وَكَانَ يخرج إِلَى الجذمي فَيَقُول أرْحم الرَّاحِمِينَ يفعل كل هَذَا يَعْنِي أَنه يفعل بمحض الْمَشِيئَة بِلَا رَحْمَة وَقَوله فِي الْقدر قد يقرب إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه من الطوائف وَالَّذِي عَلَيْهِ السّلف وَالْأَئِمَّة وَالْفُقَهَاء وَالْجُمْهُور وَكثير من أهل الْكَلَام إِثْبَات الْأَسْبَاب كَمَا دلّ على ذَلِك الْكتاب وَالسّنة مَعَ دلَالَة الْحس وَالْعقل وَالْكَلَام على هَؤُلَاءِ مَبْسُوط فِي مَوَاضِع أخر التَّوَكُّل عِنْد الْجُمْهُور يجلب الْمَنْفَعَة وَيدْفَع الْمضرَّة وَهُوَ سَبَب عِنْد الْأَكْثَرين وَالْمَقْصُود هُنَا الْكَلَام على التَّوَكُّل فَإِن الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَن المتَوَكل يحصل لَهُ بتوكله من جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة مَا لَا يحصل لغيره وَكَذَلِكَ الدَّاعِي وَالْقُرْآن يدل على ذَلِك فِي مَوَاضِع كَثِيرَة ثمَّ هُوَ سَبَب عِنْد الْأَكْثَرين وعلامة عِنْد من يَنْفِي الْأَسْبَاب قَالَ تَعَالَى وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه إِن الله بَالغ أمره قد جعل الله لكل شَيْء قدرا [سُورَة الطَّلَاق 2 - 3] والحسب الْكَافِي فَبين أَنه كَاف من توكل عَلَيْهِ وَفِي الدُّعَاء يَا حسب المتَوَكل فَلَا يُقَال هُوَ حسب غير المتَوَكل كَمَا هُوَ حسب المتَوَكل لِأَنَّهُ علق هَذِه الْجُمْلَة على الأولى تَعْلِيق الْجَزَاء على الشَّرْط فَيمْتَنع فِي مثل ذَلِك أَن يكون وجود الشَّرْط كَعَدَمِهِ وَلِأَنَّهُ رتب الحكم على الْوَصْف الْمُنَاسب لَهُ توكل الْمُؤمن على الله هُوَ سَبَب كَونه حسبا لَهُ فَعلم أَن توكله هُوَ سَبَب كَونه حسبا لَهُ وَلِأَنَّهُ ذكر ذَلِك فِي سِيَاق التَّرْغِيب فِي التَّوَكُّل كَمَا رغب فِي التَّقْوَى فَلَو لم يحصل للمتوكل من الْكِفَايَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 مَا لَا يحصل لغيره لم يكن ذَلِك مرغبا فِي التَّوَكُّل كَمَا جعل التَّقْوَى سَببا لِلْخُرُوجِ من الشدَّة وَحُصُول الرزق من حَيْثُ لَا يحْتَسب وَقد قَالَ تَعَالَى الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل [سُورَة آل عمرَان 173] فمدحوه سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ نعم الْوَكِيل لما توكلوا عَلَيْهِ بقَوْلهمْ حَسبنَا الله أَي كافينا الله لَا يسْتَحق الْمَدْح إِن لم يجلب لمن توكل عَلَيْهِ مَنْفَعَة وَيدْفَع عَنهُ مضرَّة وَالله خير من توكل الْعباد عَلَيْهِ فَهُوَ نعم الْوَكِيل يجلب لَهُم كل خير وَيدْفَع عَنْهُم كل شَرّ وَقَالَ تَعَالَى وَاذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا [سُورَة المزمل 8 - 9] وَقَالَ تَعَالَى وآتينا مُوسَى الْكتاب وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل أَلا تَتَّخِذُوا من دوني وَكيلا [سُورَة الْإِسْرَاء 2] فَأمر أَن يتَّخذ وَكيلا وَنهى أَن يتَّخذ من دونه وَكيلا لِأَن الْمَخْلُوق لَا يسْتَقلّ بِجَمِيعِ حاجات العَبْد وَالْوكَالَة الْجَائِزَة أَن يُوكل الْإِنْسَان فِي فعل يقدر عَلَيْهِ فَيحصل للْمُوكل بذلك بعض مَطْلُوبه فَأَما مطالبه كلهَا فَلَا يقدر عَلَيْهَا إِلَّا الله وَذَلِكَ الَّذِي يُوكله لَا يفعل شَيْئا إِلَّا بِمَشِيئَة الله عز وجلّ وَقدرته فَلَيْسَ لَهُ أَن يتوكل عَلَيْهِ وَإِن وَكله بل يعْتَمد على الله فِي تيسير مَا وَكله فِيهِ فَلَو كَانَ الَّذِي يحصل للمتوكل على الله يحصل وَإِن توكل على غَيره أَو يحصل بِلَا توكل لَكَانَ اتِّخَاذ بعض المخلوقين وَكيلا أَنْفَع من اتِّخَاذ الْخَالِق وَكيلا وَهَذَا من أقبح لَوَازِم هَذَا القَوْل الْفَاسِد قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ [سُورَة الْأَنْفَال 64] أَي الله كافيك وكافي من اتبعك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الْمُؤمنِينَ فَلَو كَانَت كِفَايَته للْمُؤْمِنين المتبعين للرسول سَوَاء اتَّبعُوهُ أَو لم يتبعوه لم يكن للْإيمَان وَاتِّبَاع الرَّسُول ثمَّ أثر فِي هَذِه الْكِفَايَة وَلَا كَانَ لتخصصهم بذلك معنى وَكَانَ هَذَا نَظِير أَن يُقَال هُوَ خالقك وخالق من اتبعك من الْمُؤمنِينَ وَمَعْلُوم أَن المُرَاد خلاف ذَلِك وَإِذا كَانَ الْحسب معنى يخْتَص بِهِ بعض النَّاس علم أَن قَول المتَوَكل حسبي الله وَقَوله تَعَالَى وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه [سُورَة الطَّلَاق 3] أَمر مُخْتَصّ لَا مُشْتَرك وَأَن التَّوَكُّل سَبَب ذَلِك الإختصاص وَالله تَعَالَى إِذا وعد على الْعَمَل بوعد أَو خص أَهله بكرامة فَلَا بُد أَن يكون بَين وجود ذَلِك الْعَمَل وَعَدَمه فرق فِي حُصُول تِلْكَ الْكَرَامَة وَإِن كَانَ قد يحصل نظيرها بِسَبَب آخر فقد يَكْفِي الله بعض من لم يتوكل عَلَيْهِ كالأطفال لَكِن لَا بُد أَن يكون للمتوكل أثر فِي حُصُول الْكِفَايَة الْحَاصِلَة للمتوكلين فَلَا يكون مَا يحصل من الْكِفَايَة بالتوكل حَاصِلا مُطلقًا وَإِن عدم التَّوَكُّل التَّوَكُّل سَبَب نعْمَة الله وفضله وَقد قَالَ تَعَالَى وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل فانقلبوا بِنِعْمَة من الله وَفضل لم يمسسهم سوء وَاتبعُوا رضوَان الله وَالله ذُو فضل عَظِيم [سُورَة آل عمرَان 173 - 174] فمعقب هَذَا الْجَزَاء وَالْحكم لذَلِك الْوَصْف وَالْعَمَل بِحرف الْفَاء وَهِي تفِيد السَّبَب فَدلَّ ذَلِك على أَن ذَلِك التَّوَكُّل هُوَ سَبَب هَذَا الإنقلاب بِنِعْمَة من الله وَفضل وَأَن هَذَا الْجَزَاء جَزَاء على ذَلِك الْعَمَل وَفِي الْأَثر من سره أَن يكون أقوى النَّاس فَليَتَوَكَّل على الله فَلَو كَانَ التَّوَكُّل لَا يجلب مَنْفَعَة وَلَا يدْفع مضرَّة لم يكن المتَوَكل أقوى من غَيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ إِن الله كَانَ عليما حكيما وَاتبع مَا يُوحى إِلَيْك من رَبك إِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا [سُورَة الْأَحْزَاب 1 - 3] وَقَالَ فِي أثْنَاء السُّورَة وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ ودع أذاهم وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا [الْآيَة 48] فَأمره سُبْحَانَهُ بتقواه وَاتِّبَاع مَا يُوحى إِلَيْهِ وَأمره بالتوكل كَمَا جمع بَين هذَيْن الْأَصْلَيْنِ فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه فاعبده وتوكل عَلَيْهِ [سُورَة هود 123] وَقَوله وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا [سُورَة المزمل 8 - 9] وَقَوله تَعَالَى رَبنَا عَلَيْك توكلنا وَإِلَيْك أنبنا وَإِلَيْك الْمصير [سُورَة الممتحنة 4] وَقَوله تَعَالَى هُوَ رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ متاب [سُورَة الرَّعْد 30] وَقَوله تَعَالَى وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه [سُورَة الطَّلَاق 2 - 3] وَقَوله تَعَالَى فِي الْفَاتِحَة إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين وَعلم الْقُرْآن جمع فِي الْفَاتِحَة وَعلم الْفَاتِحَة فِي هذَيْن الْأَصْلَيْنِ عبَادَة الله والتوكل عَلَيْهِ وَإِذا أفرد لفظ الْعِبَادَة دخل فِيهِ التَّوَكُّل فَإِنَّهُ من عبَادَة الله تَعَالَى كَقَوْلِه تَعَالَى يَا أَيهَا النَّاس ابعدوا ربكُم [سُورَة الْبَقَرَة 21] وَقَوله تَعَالَى وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون [سُورَة الذاريات 56] وَإِذا قرن بِهِ التَّوَكُّل كَانَ مَأْمُورا بِهِ بِخُصُوصِهِ وَهَذَا كَلَفْظِ الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَالْعَمَل وَلَفظ الصَّلَاة مَعَ الْعِبَادَة وَمَعَ اتِّبَاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الْكتاب وَلَفظ الْفَحْشَاء وَالْبَغي مَعَ الْمُنكر ونظائر ذَلِك مُتعَدِّدَة فكون اللَّفْظ عِنْد تجرده وإفراده يتَنَاوَل أنواعا وَقد يعْطف بعض تِلْكَ الْأَنْوَاع عَلَيْهِ فَيكون مَأْمُورا بِهِ بِخُصُوصِهِ ثمَّ قد يُقَال إِذا عطف لم يدْخل فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَقد يُقَال بل أَمر بِهِ خَاصّا وعاما كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال وَإِذا كَانَ الله أمره بالتوكل على الله ثمَّ قَالَ وَكفى بِاللَّه وَكيلا [سُورَة الْأَحْزَاب 3] علم أَن الله وَكيل كَاف لمن توكل عَلَيْهِ كَمَا يُقَال فِي الْخطْبَة وَالدُّعَاء الْحَمد لله كَافِي من توكل عَلَيْهِ وَإِذا كَانَ كفى بِهِ وَكيلا فَهَذَا مُخْتَصّ بِهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ غَيره من الموجودات كفى بِهِ وَكيلا فَإِن من يتَّخذ وَكيلا من المخلوقين غَايَته أَن يفعل بعض الْمَأْمُور وَهُوَ لَا يَفْعَلهَا إِلَّا بإعانة الله لَهُ وَهُوَ عَاجز عَن أَكثر المطالب فَإِذا كَانَ سُبْحَانَهُ وصف نَفسه بِأَنَّهُ كفى بِهِ وَكيلا علم أَنه يفعل بالمتوكل عَلَيْهِ مَا لَا يحْتَاج مَعَه إِلَى غَيره فِي جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار إِذْ لَو تبقى شَرّ لم يكن كفى بِهِ وَكيلا وَهَذَا يَقْتَضِي بطلَان ظن من ظن أَن المتَوَكل عَلَيْهِ لَا يحصل لَهُ بتوكله عَلَيْهِ جلب مَنْفَعَة وَلَا دفع مضرَّة بل يجْرِي عَلَيْهِ من القضايا مَا كَانَ يجْرِي لَو لم يتوكل عَلَيْهِ وَالَّذين ظنُّوا هَذَا أصل شبهتهم أَنهم لما أثبتوا أَن الله إِذا قضى شَيْئا فَلَا بُد أَن يكون وَأَنه مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَأَن مَا سبق بِهِ علمه فَهُوَ كَائِن لَا محَالة صَارُوا يظنون مَا يُوجد بِسَبَب يُوجد بِدُونِهِ وَمَا يُوجد مَعَ عدم الْمَانِع يُوجد مَعَ الْمَانِع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَهَذَا غلط عَظِيم ضل فِيهِ طوائف طَائِفَة قَالَت لَا حَاجَة إِلَى الْأَعْمَال الْمَأْمُور بهَا فَإِن من خلق للجنة فَهُوَ يدخلهَا وَإِن لم يُؤمن وَمن خلق للنار فَهُوَ يدخلهَا وَإِن آمن وَهَذِه الشُّبْهَة سُئِلَ عَنْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد علم مَقْعَده من الْجنَّة وَالنَّار قَالُوا أَولا نَدع الْعَمَل ونتكل على الْكتاب فَقَالَ لَا اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ أما من كَانَ من أهل السَّعَادَة فسييسر لعمل أهل السَّعَادَة وَأما من كَانَ من أهل الشَّقَاء فسييسر إِلَى عمل أهل الشَّقَاء الْأَسْبَاب -وَمِنْهَا التَّوَكُّل- من قدر الله وَهَذَا الْمَعْنى قد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّحِيح فِي مَوَاضِع تَبْيِين أَن مَا سبق بِهِ الْكتاب سبق بالأسباب الَّتِي تُفْضِي إِلَيْهِ فالسعادة سبقت بِأَن صَاحبهَا يسْتَعْمل فِيمَا يصير بِهِ سعيدا والشقاوة سبقت بِأَن صَاحبهَا يسْتَعْمل فِيمَا يصير بِهِ شقيا فالقدر يتَضَمَّن الْغَايَة وسببها لم يتَضَمَّن غَايَة بِلَا سَبَب كَمَا تضمن أَن هَذَا ويلد لَهُ بِأَن يتَزَوَّج ويطأ الْمَرْأَة وَهَذَا ينْبت أرضه بِأَن يزرع ويسقى الزَّرْع وأمثال ذَلِك وَكَذَلِكَ فِي السّنَن أَنه قيل لَهُ يَا رَسُول الله أَرَأَيْت أدوية نتداوى بهَا ورقى نسترقيها وتقاة نتقيها هَل ترد من قدر الله شَيْئا فَقَالَ هِيَ من قدر الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 بَين أَن الْأَسْبَاب الَّتِي تدفع بهَا المكاره هِيَ من قدر الله لَيْسَ الْقدر مُجَرّد دفع الْمَكْرُوه بِلَا سَبَب وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ إِن الدُّعَاء لَا يُؤثر شَيْئا والتوكل لَا يُؤثر شَيْئا هُوَ من هَذَا الْجِنْس لَكِن إِنْكَار مَا أَمر بِهِ من الْأَعْمَال كفر ظَاهر بِخِلَاف تَأْثِير التَّوَكُّل وَلَكِن الأَصْل وَاحِد وَهُوَ النّظر إِلَى المقدرو مُجَردا عَن أَسبَابه ولوازمه وَمن هَذَا الْبَاب أَن الْمَقْتُول يَمُوت بأجله عِنْد عَامَّة الْمُسلمين إِلَّا فرقة من الْقَدَرِيَّة قَالُوا إِن الْقَاتِل قطع أَجله ثمَّ تكلم الْجُمْهُور لَو لم يقتل فَقَالَ بَعضهم كَانَ يَمُوت لِأَن الْأَجَل قد فرغ وَقَالَ بَعضهم لَا يَمُوت لانْتِفَاء السَّبَب وكلاء الْقَوْلَيْنِ قد قَالَه من ينتسب إِلَى السّنة وَكِلَاهُمَا خطأ فَإِن الْقدر سبق بِأَنَّهُ يَمُوت فَبِهَذَا السَّبَب لَا بِغَيْرِهِ فَإِذا قدر انْتِفَاء هَذَا السَّبَب كَانَ فرض خلاف مَا فِي الْمَقْدُور وَلَو كَانَ الْمَقْدُور أَنه لَا يَمُوت بِهَذَا السَّبَب أمكن أَن يكون الْمُقدر أَنه يَمُوت بِغَيْرِهِ وَأمكن أَن يكون الْمُقدر أَنه لَا يَمُوت فالجزم بِأَحَدِهِمَا جهل فَمَا تعدّدت أَسبَابه لم يجْزم بِعَدَمِهِ عِنْد عدم بَعْضهَا وَلَو لم يجْزم بِثُبُوتِهِ إِن لم يعرف لَهُ سَبَب آخر بِخِلَاف مَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا سَبَب وَاحِد مثل دُخُول النَّار فَإِنَّهُ لَا يدخلهَا إِلَّا من عصى فَإِذا قدر أَنه لم يعْص لم يدخلهَا نصر الله مَعَ التَّوَكُّل عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى فَاعْفُ عَنْهُم واستغفر لَهُم وشاروهم فِي الْأَمر فَإِذا عزمت فتوكل على الله إِن الله يحب المتوكلين إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم وَإِن يخذلكم فَمن ذَا الَّذِي ينصركم من بعده وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ [سُورَة آل عمرَان 159 - 160] فَأمره إِذا عزم أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 يتوكل على الله فَلَو كَانَ المتَوَكل لَا يُعينهُ على مثل مَا عزم عَلَيْهِ لم يكن بِهِ عِنْد الْعَزْم فَائِدَة يبين سُبْحَانَهُ أَنه هُوَ النَّاصِر دون غَيره فَقَالَ وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ فَنهى عَن التَّوَكُّل على غَيره وَأمر بالتوكل عَلَيْهِ ليحصل للمتوكل عَلَيْهِ النَّصْر الَّذِي لَا يقدر عَلَيْهِ غَيره وَإِلَّا فالمتوكل على غَيره يطْلب مِنْهُ النَّصْر فَإِن كَانَ ذَلِك الْمَطْلُوب لَا يحصل مِنْهُ لم يكن لذكر انْفِرَاده بالنصر معنى فَإِنَّهُ على هَذَا القَوْل نَصره لمن توكل عَلَيْهِ كنصره لمن لم يتوكل عَلَيْهِ وَهَذَا يُنَاقض مَقْصُود الْآيَة بل عِنْد هَؤُلَاءِ قد ينصر من يتوكل على غَيره وَلَا ينصر من توكل عَلَيْهِ فَكيف يَأْمر بالتوكل عَلَيْهِ دون غَيره مَقْرُونا بقوله إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم وَإِن يخذلكم فَمن ذَا الَّذِي ينصركم من بعده وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى أَلَيْسَ الله بكاف عَبده ويخوفونك بالذين من دونه وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد [سُورَة الزمر 36] إِلَى قَوْله قل حسبي الله عَلَيْهِ يتوكل المتوكلون [سُورَة الزمر 38] فَبين أَن الله يَكْفِي عَبده الَّذِي يعبده الَّذِي هُوَ من عباده الَّذين لَيْسَ للشَّيْطَان عَلَيْهِم سُلْطَان الَّذين هم من عباده المخلصين الَّذين هم من عباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا الَّذين هم من عباد الله الَّذين يشربون من عين يفجرونها تفجيرا وَمثل هَذَا قَوْله سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [سُورَة الْإِسْرَاء 1] وَقَوله تَعَالَى وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ [سُورَة الْجِنّ 19] وَقَوله تَعَالَى وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا [سُورَة الْبَقَرَة 23] ونظائر ذَلِك مُتعَدِّدَة ثمَّ أمره بقوله حسبي الله عَلَيْهِ يتوكل المتوكلون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 توكل الْمُرْسلين يدْفع عَنْهُم شَرّ أعدائهم وَقَالَ تَعَالَى واتل عَلَيْهِم نبأ نوح إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري بآيَات الله فعلى الله توكلت فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة ثمَّ اقتضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون [سُورَة يُونُس 71] وَكَذَلِكَ قَالَ عَن هود لما قَالَ لِقَوْمِهِ إِن نقُول إِلَّا اعتراك بعض آلِهَتنَا بِسوء قَالَ إِنِّي أشهد الله واشهدوا أَنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون من دونه فكيدوني جَمِيعًا ثمَّ لَا تنْظرُون إِنِّي توكلت على الله رَبِّي وربكم مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم [سُورَة هود 54 - 56] فَهَذَا من كَلَام الْمُرْسلين مِمَّا يبين أَنه بتوكله على الله يدْفع شرهم عَنهُ فنوح يَقُول إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري بآيَات الله فعلى الله توكلت فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة ثمَّ اقضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون فَدَعَاهُمْ إِذا استعظموا مَا يَفْعَله كارهين لَهُ أَن يجتمعوا ثمَّ يَفْعَلُوا بِهِ مَا يريدونه من الإهلاك وَقَالَ تَعَالَى فعلى الله توكلت فلولا أَن تَحْقِيقه هَذِه الْكَلِمَة وَهُوَ توكله على الله يدْفع مَا تحداهم بِهِ ودعاهم إِلَيْهِ تعجيزا لَهُم من مناجزته لَكَانَ قد طلب مِنْهُم أَن يهلكوه وَهَذَا لَا يجوز وَهَذَا طلب تعجيز لَهُم فَدلَّ على أَنه بتوكله على الله يعجزهم عَمَّا تحداهم بِهِ وَكَذَلِكَ هُوَ يشْهد الله وإياهم أَنه بَرِيء مِمَّا يشركونه بِاللَّه ثمَّ يتحداهم ويعجزهم بقوله فكيدوني جَمِيعًا ثمَّ لَا تنْظرُون إِنِّي توكلت على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الله رَبِّي وربكم مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها بَين أَنه توكل على من أَخذ بنواصي الْأَنْفس وبسائر الدَّوَابّ فَهُوَ يدفعكم عني لِأَنِّي متوكل عَلَيْهِ وَلَو كَانَ وجود التَّوَكُّل كَعَدَمِهِ فِي هَذَا لَكَانَ قد أغراهم بالإيقاع بِهِ وَلم يكن لذكر توكله فَائِدَة إِذْ كَانَ حَقِيقَة الْأَمر عِنْد هَؤُلَاءِ أَنه لَا فرق بَين من توكل وَمن لم يتوكل فِي وُصُول الْعَذَاب عَلَيْهِ وهم كَانُوا أَكثر وَأقوى مِنْهُ فَكَانُوا يهلكونه لَوْلَا قوته بتوكله عَلَيْهِ فَإِن التَّوَكُّل إِن لم يُعْطه قُوَّة فهم أقوى مِنْهُ وَهُوَ لَو قَالَ بِأَن الله مولَايَ وناصري وَنَحْو ذَلِك لعلم أَنه قَالَه مخبرا فَالله يدفعهم عَنهُ وَإِنَّمَا يدفعهم لإيمانه وتقواه وَلِأَنَّهُ عَبده وَرَسُوله وَالله تَعَالَى مَعَ رسله وأوليائه فَإِذا كَانَ بِسَبَب الْإِيمَان وَالتَّقوى يدْفع الله عَن الْمُؤمنِينَ التقين كَمَا قَالَ تَعَالَى إِن الله يدافع عَن الَّذين آمنُوا [سُورَة الْحَج 38] علم أَن العَبْد تقوم بِهِ أَعمال باطنة وظاهرة يجلب بهَا الْمَنْفَعَة وَيدْفَع بهَا الْمضرَّة فالتوكل من أعظم ذَلِك وَعلم أَن من ظن أَن الْمَقْدُور من الْمَنَافِع والمضار لَيْسَ مُعَلّقا بالأسباب بل يحصل بِدُونِهَا فَهُوَ غلط غلط من أنكر الْأَسْبَاب أَو جعلهَا مُجَرّد أَمارَة أَو عَلامَة وَكَذَلِكَ قَول من جعل ذَلِك مُجَرّد أَمارَة وعلامة لاقتران هَذَا بِهَذَا فِي غير مَوضِع من الْقُرْآن فِي خلقه وَأمره كَقَوْلِه تَعَالَى فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات [سُورَة الْأَعْرَاف 57] وَقَوله تَعَالَى كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم فِي الْأَيَّام الخالية [سُورَة الحاقة 24] وَقَوله تَعَالَى جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة السَّجْدَة 17] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَأنكر تَعَالَى على من ظن وجود الْأَسْبَاب كعدمها فِي قَوْله تَعَالَى أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين [سُورَة الْقَلَم 35] وَقَوله تَعَالَى أم نجْعَل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأَرْض أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار [سُورَة ص 28] وأمثال ذَلِك وَهَؤُلَاء الَّذين يَقُولُونَ بالجبد رقالوا بِالْأَمر وَالنَّهْي حَقِيقَته أَنه إِعْلَام بِوُقُوع الْعَذَاب بِالْمَعَاصِي بمحض الْمَشِيئَة لَا لسَبَب وَلَا لحكمة فقلبوا حَقِيقَة الْأَمر وَالنَّهْي إِلَى الْجَبْر كَمَا أبطلوا الْأَسْبَاب وَالْحكم وأبطلوا قدر الْعباد وهم وَإِن كَانُوا يردون على الْقَدَرِيَّة ويذكرون من تناقضهم مَا يبين بِهِ فَسَاد قَول الْقَدَرِيَّة فَردُّوا بَاطِلا بباطل وَقَابَلُوا بِدعَة ببدعة كرد الْيَهُود على النَّصَارَى وَالنَّصَارَى على الْيَهُود مقاتلهم فِي الْمَسِيح وكلا المقالتين بَاطِلَة وَكَذَلِكَ تقَابل الْخَوَارِج والشيعة فِي عَليّ كِلَاهُمَا بَاطِل على بَاطِل ونظائر مُتعَدِّدَة فصل فرض الله الدُّعَاء على الْعباد لافتقارهم إِلَى هدايته وَإِن مَا فرض عَلَيْهِ من الدُّعَاء الرَّاتِب الَّذِي يتَكَرَّر فِي الصَّلَوَات بل الرَّكْعَات فَرضهَا ونفلها هُوَ الدُّعَاء الَّذِي تضمنته أم الْقُرْآن وَهُوَ قَوْله تَعَالَى اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين لِأَن كل عبد فَهُوَ مُضْطَر دَائِما إِلَى مَقْصُود هذاالدعاء وَهُوَ هِدَايَة الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فَإِنَّهُ لَا نجاة من الْعَذَاب إِلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَة وَلَا وُصُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 إِلَى السَّعَادَة إِلَّا بِهِ فَمن فَاتَهُ هَذَا الْهدى فَهُوَ إِمَّا من المغضوب عَلَيْهِم وَإِمَّا من الضَّالّين وَهَذَا الإهتداء لَا يحصل إِلَّا بهدى الله فَمن يهده الله فَهُوَ الْمُهْتَدي وَمن يضلل فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشدا [سُورَة الْكَهْف 17] وَهَذِه الْآيَة مِمَّا يتَبَيَّن بهَا فَسَاد مَذْهَب الْقَدَرِيَّة الَّذين يَزْعمُونَ أَن العَبْد لَا يفْتَقر فِي حُصُول هَذَا الإهتداء إِلَى الله بل كل عبد عِنْدهم مَعَه مَا يحصل بِهِ الإهتداء وَالْكَلَام عَلَيْهِم مَبْسُوط فِي مَوضِع آخر وَالْمَقْصُود هُنَا أَن كل عبد فَهُوَ مفتقر دَائِما إِلَى حُصُول هَذِه الْهِدَايَة وَأما سُؤال من يَقُول فقد هدَاهُم إِلَى الْإِيمَان فَلَا حَاجَة إِلَى الْهدى وَجَوَاب من يُجيب بِأَن الْمَطْلُوب دوَام الْهدى فَكَلَام من لم يعرف حَقِيقَة حَال الْأَسْبَاب وَمَا أَمر بِهِ فَإِن الصِّرَاط الْمُسْتَقيم أَن تفعل فِي كل وَقت مَا أمرت بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت من علم وَعمل وَلَا تفعل مَا نهيت عَنهُ وَهَذَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي كل وَقت إِلَى أَن يعلم مَا أَمر بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت وَمَا نهى عَنهُ وَإِلَى أَن يحصل لَهُ إِرَادَة جازمة لفعل الْمَأْمُور وَكَرَاهَة جازمة لترك الْمَحْظُور وَهَذَا الْعلم الْمفصل والإرادة المفصلة لَا يتَصَوَّر أَن تحصل للْعَبد فِي وَقت وَاحِد بل فِي كل وَقت يحْتَاج أَن يَجْعَل الله فِي قلبه من الْعُلُوم والإرادات مَا يهدى بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت نعم حصل لَهُ هدى مُجمل فَإِن الْقُرْآن حق وَدين الْإِسْلَام حق وَالرَّسُول وَنَحْو ذَلِك وَلَكِن هَذَا الْهدى الْمُجْمل لَا يُعينهُ إِن لم يحصل لَهُ هدى مفصل فِي كل مَا يَأْتِيهِ ويدبره من الجزئيات الَّتِي يحار فِي كثير مِنْهَا أَكثر عقول الْخلق ويغلب الْهوى أَكثر الْخلق لغَلَبَة الشُّبُهَات والشهوات على النُّفُوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وَالْإِنْسَان خلق ظلوما جهولا فَالْأَصْل فِيهِ عدم الْعلم وميله إِلَى مَا يهواه من الشَّرّ فَيحْتَاج دَائِما إِلَى علم مفصل يَزُول بِهِ جَهله وَعدل فِي محبته وبغضه وَرضَاهُ وغضبه وَفعله وَتَركه وإعطائه وَمنعه وكل مَا يَقُوله ويعمله يحْتَاج فِيهِ إِلَى عدل يُنَافِي ظلمه فَإِن لم يمن الله عَلَيْهِ بِالْعلمِ الْمفصل وَالْعدْل الْمفصل وَإِلَّا كَانَ فِيهِ من الْجَهْل وَالظُّلم مَا يخرج بِهِ عَن الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَقد قَالَ تَعَالَى لنَبيه بعد صلح الْحُدَيْبِيَة وبيعة الرضْوَان إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر وَيتم نعْمَته عَلَيْك ويهديك صراطا مُسْتَقِيمًا وينصرك الله نصرا عَزِيزًا [سُورَة الْفَتْح 1 - 3] فَأخْبر أَنه فعل هَذَا ليهديه صراطا مُسْتَقِيمًا فَإِذا كَانَ هَذَا حَاله فَكيف حَال غَيره والصراط الْمُسْتَقيم قد فسر بِالْقُرْآنِ وَالْإِسْلَام وَطَرِيق الْعُبُودِيَّة وكل هَذَا حق فَهُوَ مَوْصُوف بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ فحاجته إِلَى هَذِه الْهِدَايَة ضَرُورِيَّة فِي سعادته ونجاته بِخِلَاف الْحَاجة إِلَى الرزق والنصر فَإِن الله يرزقه وَإِذا انْقَطع رزقه مَاتَ وَالْمَوْت لَا بُد مِنْهُ فَإِن كَانَ من أهل الْهِدَايَة كَانَ سعيدا وَإِن كَانَ بعد الْمَوْت وَكَانَ الْمَوْت موصلا لَهُ إِلَى السَّعَادَة الدائمة الأبدية فَيكون رَحْمَة فِي حَقه وَكَذَلِكَ النَّصْر إِذا قدر أَنه قهر وَغلب حَتَّى قتل فَإِذا كَانَ من أهل الْهِدَايَة إِلَى الإستقامة مَاتَ شَهِيدا وَكَانَ الْقَتْل من تَمام نعْمَة الله عَلَيْهِ فَتبين أَن حَاجَة الْعباد إِلَى الْهَدْي أعظم من حَاجتهم إِلَى الرزق بل لَا نِسْبَة بَينهمَا فَلهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاء هُوَ الْمَفْرُوض عَلَيْهِم وَأَيْضًا فَإِن الدُّعَاء يتَضَمَّن الرزق والنصر لِأَنَّهُ إِذا هدي الصِّرَاط الْمُسْتَقيم كَانَ من الْمُتَّقِينَ وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب وَكَانَ مِمَّن ينصر الله وَرَسُوله وَمن نصر الله نَصره وَكَانَ من جند الله وجند الله هم الغالبون فالهدى التَّام يتَضَمَّن حُصُول أعظم مَا يحصل بِهِ الرزق والنصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 رِسَالَة فِي تَحْقِيق الشُّكْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فصل يتَعَلَّق بالشكر الْمُجبرَة والقدرية والملاحدة لَا يحْمَدُونَ الله وَلَا يشكرونه اعْلَم أَن أهل الْبدع الْقَدَرِيَّة من الْجَهْمِية الْمُجبرَة والقدرية النافية لَا يحْمَدُونَ الله وَلَا يشكرونه كَمَا أَنهم لَا يعبدونه وَأما أهل الْإِلْحَاد من المتفلسفة والباطنية فهم أبعد عَن حَمده وشكره مقَالَة الْمُجبرَة وَذَلِكَ أَن الْمُجبرَة حَقِيقَة قَوْلهم أَنه لَيْسَ برحيم وَلَا منعم بل وَلَا إِلَه يسْتَحق أَن يعبد وَيُحب بل صُدُور الْإِحْسَان عَنهُ كصدور الْإِسَاءَة وَإِنَّمَا هُوَ يفعل بمحض مَشِيئَة ترجح الشَّيْء على مثله لَا لمرجح وكل الممكنات عِنْدهم متماثلة فَلَا فرق بَين أَن يُرِيد رَحْمَة الْخلق ونفعهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم أَو يُرِيد فسادهم وهلاكهم وضرارهم يَقُولُونَ هَذَا كُله عِنْده سَوَاء وَمَعْلُوم أَن الإنعام إِنَّمَا يكون إنعاما إِذا قصد بِهِ الْمُنعم نفع الْمُنعم عَلَيْهِ دون إضراره وَأما إِذا قصد الْأَمريْنِ فَهَذَا لَيْسَ جعله منمعما مصلحا بِأولى من جعله معتديا مُفْسِدا كمن بِيَدِهِ سيف يضْرب بِهِ صديق الْإِنْسَان تَارَة وعدوه أُخْرَى أَو مَعَه دَرَاهِم يقوى بهَا تَارَة ويقويه بهَا تَارَة فَهَذَا لَيْسَ كَونه محسنا إِلَيْهِ بِأولى من كَونه ضارا لَهُ ومحسنا إِلَى عدوه مقَالَة الْقَدَرِيَّة النافية وَأما النافية فعندهم أَن هَذَا كُله وَاجِب عَلَيْهِ الْبَيَان وَخلق الْقُدْرَة وإزاحة الْعِلَل وَالْجَزَاء وَمن فعل الْوَاجِب الَّذِي يسْتَحقّهُ غَيره عَلَيْهِ لم يسْتَحق الشُّكْر الْمُطلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَأَيْضًا إنعامه بِالْهدى على الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار سَوَاء فَشكر الْمُؤمنِينَ لَهُ على الْهدى كشكر الْكفَّار عَلَيْهِ إِذْ لم ينعم على الْمُؤمنِينَ بِنَفس الْهدى بل هم اهتدوا بقدرتهم ومشيئتهم وَإِذن كَانَ إنعامه على النَّوْعَيْنِ سَوَاء وَلَكِن هَؤُلَاءِ هم الَّذين فعلوا مَا يسعدون بِهِ مقَالَة المتفلسفة والمتفلسفة أرسطو وَأَتْبَاعه عِنْدهم أَنه لَا يفعل شَيْئا وَلَا يُرِيد شَيْئا وَلَا يعلم شَيْئا وَلَا يخلق شَيْئا فعلى أَي شَيْء يشْكر أم على أَي شَيْء يحمد ويعبد مقَالَة باطنية الشِّيعَة والمتصوفة والباطنية باطنية الشِّيعَة والمتصوفة كَابْن سبعين وَابْن عَرَبِيّ هم فِي الْبَاطِن كَذَلِك بل يَقُولُونَ الْوُجُود وَاحِد وجود الْمَخْلُوق هُوَ وجود الْخَالِق فَيجب عِنْدهم أَن يكون كل مَوْجُود عابدا لنَفسِهِ شاكرا لنَفسِهِ حامدا لنَفسِهِ مقَالَة ابْن عَرَبِيّ وَابْن عَرَبِيّ يَجْعَل الْأَعْيَان ثَابِتَة فِي الْعَدَم وَقد صرح بِأَن الله لم يُعْط أحدا شَيْئا وَأَن جَمِيع مَا للعباد فَهُوَ مِنْهُم لَا مِنْهُ وَهُوَ مفتقر إِلَيْهِم لظُهُور وجوده فِي أعيانهم وهم مفتقرون إِلَيْهِ لكَون أعيانهم ظَهرت فِي وجوده فالرب إِن ظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فَهُوَ العَبْد وَالْعَبْد إِن بطن فَهُوَ الرب وَلِهَذَا قَالَ لَا تحمد وَلَا تشكر إِلَّا نَفسك فَمَا فِي أحد من الله شَيْء وَلَا فِي أحد من نَفسه شَيْء وَلِهَذَا قَالَ إِنَّه يَسْتَحِيل من العَبْد أَن يَدعُوهُ لِأَنَّهُ يشْهد أحدية الْعين فالداعي هُوَ الْمَدْعُو فَكيف يَدْعُو نَفسه وَزعم أَن هَذَا هُوَ خُلَاصَة غَايَة الْغَايَة فَمَا بعد هَذَا شَيْء وَقَالَ فَلَا تطمع أَن ترقى فِي أَعلَى من هَذِه الدرج فَمَا ثمَّ شَيْء أصلا وَإِن هَذَا إِنَّمَا يعرفهُ خُلَاصَة خُلَاصَة الْخَاصَّة من أهل الله فَصرحَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بعد وجود الْمَخْلُوقَات وجود يخلق ويرزق ويعبد وَلِهَذَا كَانَ صَاحبه القَاضِي يَقُول مَا الْأَمر إِلَّا نسق وَاحِد ... مَا فِيهِ من حمد وَلَا ذمّ وَإِنَّمَا الْعَادة قد خصصت ... والطبع والشارع بالحكم وَقد قَالَ تَعَالَى وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله ثمَّ إِذا مسكم الضّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 فإليه تجأرون ثمَّ إِذا كشف الضّر عَنْكُم الْآيَة [سُورَة النَّحْل 53 - 54] إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَا يشتهون الْآيَة 57 كفر باطنية المتصوفة أعظم من كفر الفلاسفة وَهَذِه الْآيَات كَمَا تناولت ذمّ الَّذين جعلُوا لَهُ شَرِيكا وَولدا فَتَنَاولهَا لذم هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَة أعظم فَإِن الْقَائِلين بقدم الْعَالم وَأَنه مَعْلُول جَعَلُوهُ كُله وَالدّلَالَة قَدِيما أزليا مَعَه وَهَذَا أعظم من قَول أُولَئِكَ وَالَّذين لم يَجْعَلُوهُ معلولا لَهُ قَالُوا إِنَّه قديم مَعَه وَاجِب الْوُجُود مماثل لَهُ بل وَجعلُوا الْفلك هُوَ الَّذِي تحدث عَنهُ الْحَوَادِث لَكِن حركته للشبه بِهِ وَهَذَا أعظم من كل شرك فِي الْعَالم وَمن شرك الْمَجُوس والحرنانيين فَإِن أُولَئِكَ وَإِن جعلُوا مَعَه قَدِيما إِمَّا الظلمَة وَهِي إِبْلِيس عِنْد الْمَجُوس وَإِمَّا النَّفس والهيولي عِنْد الحرنانيين فهم يَقُولُونَ إِنَّه أحدث الْعَالم وَأَنه رَكبه من النَّفس والهيولي الْقَدَمَيْنِ ورحبه من أَجزَاء النُّور والظلمة وَلِهَذَا ذكر مُحَمَّد بن كَعْب وَغَيره عَن الْمَجُوس والصابئة أَنهم قَالُوا عَن الله لَوْلَا أولياؤه لذل فَأنْزل الله تَعَالَى وَلم يكن لَهُ ولي من الذل [سُورَة الْإِسْرَاء 111] فَإِنَّهُم يجعلونه مُحْتَاجا إِلَى من يعاونه إِذْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 مَغْلُوبًا من وَجه مَعَ القدماء مَعَه كَمَا هُوَ غَالب من وَجه وَكفر أُولَئِكَ أعظم فَإِنَّهُم لم يجْعَلُوا لَهُ تَأْثِيرا فِي الْفلك وَلَا تَصرفا بِوَجْه من الْوُجُوه فَهَؤُلَاءِ تنقصوه وسلبوه الربوبية والإلهية أعظم من أُولَئِكَ وجعلوه مَعَ الْفلك مَغْلُوبًا من كل وَجه لَا بِقدر أَن يفعل فِيهِ شَيْئا وكقول عَبدة الْأَوْثَان هُوَ أجل من أَن نعبده بل نعْبد الوسائط وَهُوَ أجل من أَن يبْعَث بشرا رَسُولا فجحدوا توحيده ورسالته على وَجه التَّعْظِيم لَهُ وَكَذَلِكَ الْمَجُوس الثنوية أثبتوا الظلمَة تَنْزِيها لَهُ عَن فعل الشَّرّ والحرنانيون أثبتوا مَعَه النَّفس والهبلوي قديمين تَنْزِيها لَهُ عَن إِحْدَاث الْعَالم بِلَا سَبَب فالأمم كلهم يعظمونه لَكِن تَعْظِيمًا يسْتَلْزم شُبْهَة وسبة كل مَا بالخلق من نعْمَة فَمن الله وَالْمَقْصُود هُنَا قَوْله تَعَالَى وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله [سُورَة النَّحْل 53] وَقَوله عز وجلّ وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ [سُورَة الجاثية 13] فَالْأَمْر ضد مَا قَالَه هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَة ابْن عَرَبِيّ وَنَحْوه حَيْثُ قَالُوا مَا فِي أحد من الله شَيْء فَيُقَال لَهُم بل كل مَا بالخلق من نعْمَة فَمن الله وَحده قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ إِذا أصبح اللَّهُمَّ مَا أصبح بِي من نعْمَة أَو بِأحد من خلقك فمنك وَحدك لَا شريك لَك فلك الْحَمد وَلَك الشُّكْر فقد أدّى شكر ذَلِك الْيَوْم وَمن قَالَ إِذا أَمْسَى اللَّهُمَّ مَا أَمْسَى بِي من نعْمَة أَو بِأحد من خلقك فمنك وَحدك لَا شريك لَك فلك الْحَمد وَلَك الشُّكْر فقد أدّى شكر تِلْكَ اللَّيْلَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فَكل مَا بالخلق من النعم فَمِنْهُ وَحده لَا شريك لَهُ وَلِهَذَا هُوَ سُبْحَانَهُ يجمع بَين الشُّكْر والتوحيد فَفِي الصَّلَاة أول الْفَاتِحَة الْحَمد لله رب الْعَالمين وأوسطها إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين والخطب وكل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أَجْذم وَعَن ابْن عَبَّاس إِذا قلت لَا إِلَه إِلَّا الله فَقل الْحَمد لله فَإِن الله يَقُول فَادعوهُ مُخلصين لَهُ الدَّين الْحَمد لله رب الْعَالمين [سُورَة غَافِر 65] وَفِي حَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من قَالَ حِين يصبح الْحَمد لله رَبِّي لَا أشرك بِهِ شَيْئا أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ظلّ تغْفر لَهُ ذنُوبه حَتَّى يُمْسِي وَمن قَالَهَا حِين يُمْسِي غفرت لَهُ ذنُوبه حَتَّى يصبح رَوَاهُ أبان الْمحَاربي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذكره ابْن عبد الْبر وَغَيره فَالْحَمْد أول الْأَمر كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أَجْذم والتوحيد نهايته وَلِهَذَا كَانَ النّصْف من الْفَاتِحَة الَّذِي هُوَ لله أَوله حمد وَآخره تَوْحِيد إياك نعْبد وَالْحَمْد رَأس الشُّكْر فالحامد يشكره أَولا على نعمه ثمَّ يعبده وَحده فَإِن العَبْد أول مَا يعرف مَا يحصل لَهُ من النِّعْمَة مثل خلقه حَيا وَخلق طرق الْعلم السّمع وَالْبَصَر وَالْعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَقد تنَازع النَّاس فِي أول مَا أنعم الله على العَبْد فَقيل هُوَ خلقه حَيا أَو خلق الْحَيَاة كَمَا قَالَ ذَلِك من قَالَه من الْمُعْتَزلَة وَقيل بل إِدْرَاك اللَّذَّات ونيل الشَّهَوَات كَمَا يَقُوله الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه من الْفُقَهَاء من أَصْحَاب أَحْمد وَغَيره كَالْقَاضِي أبي يعلى فِي أحد قوليه وَمن أَصْحَاب أَحْمد وَغَيرهم من قَالَ بل أَولهَا هُوَ الْإِيمَان وَلم يَجْعَل مَا قبل الْإِيمَان نعْمَة بِنَاء على أَن تِلْكَ لَا تصير نعما إِلَّا بِالْإِيمَان وَأَن الْكَافِر لَيْسَ عَلَيْهِ نعْمَة وَهَذَا أحد قولي الْأَشْعَرِيّ وَأحد الْقَوْلَيْنِ لمتأخري أَصْحَاب أَحْمد وَغَيرهم كَأبي الْفرج نعْمَة الله على الْكفَّار وَغَيرهم وَلَكِن نعْمَته الْمُطلقَة على الْمُؤمنِينَ وَالصَّحِيح أَن نعْمَة الله على كل أحد على الْكفَّار وَغَيرهم لَكِن النِّعْمَة الْمُطلقَة التَّامَّة هِيَ على الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ الَّذين أمرنَا أَن نقُول فِي صَلَاتنَا اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم فَإِن جعلت غير صفة لَا اسْتثِْنَاء فِيهَا لم يدْخل المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضالون فِي الْمُنعم عَلَيْهِم وَإِن جعلت اسْتثِْنَاء فقد دخلُوا فِي الْمُنعم عَلَيْهِم لَكِن رجحوا الأول فَقَالُوا وَاللَّفْظ لِلْبَغوِيِّ غير هَهُنَا بِمَعْنى لَا وَلَا بِمَعْنى غير وَلذَلِك جَازَ الْعَطف عَلَيْهَا كَمَا يُقَال فلَان يغر محسن وَلَا مُجمل فَإِذا كَانَ غير بِمَعْنى سوى فَلَا يجوز الْعَطف عَلَيْهَا بِلَا لَا يجوز فِي الْكَلَام عِنْدِي سوى عبد الله وَلَا زيد وَقد روى عَن عمر أَنه قَرَأَ صِرَاط من أَنْعَمت عَلَيْهِم غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 المغضوب عَلَيْهِم وَغير الضَّالّين وَهَذَا قد ذكره غير وَاحِد من أهل الْعَرَبيَّة ومثلوه بقول الْقَائِل إنى لأقر بالصادق غير الْكَاذِب قَالُوا وَغير هُنَا صفة لَيست للإستثناء وأصل غير أَن تكون صفة وَهِي فِي الْآيَة صفة وَلِهَذَا خفضت كَأَنَّهُ قيل صِرَاط الْمُنعم عَلَيْهِم المغايرين لهَؤُلَاء وَهَؤُلَاء هَذِه هِيَ النِّعْمَة الْمُطلقَة التَّامَّة وَالْقُرْآن مَمْلُوء من ذكر نعمه على الْكفَّار وَقد قَالَ تَعَالَى كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم [سُورَة الْبَقَرَة 28] فالحياة نعْمَة وَإِدْرَاك اللَّذَّات نعْمَة وَأما الْإِيمَان فَهُوَ أعظم النعم وَبِه تتمّ النعم فالإنسان بجبلته يطْلب مَا يُوَافقهُ ويتنعم بِهِ من الْغذَاء وَغَيره على هَذَا فطر فَيعرف النِّعْمَة فَيعرف الْمُنعم فيشكره فَلهَذَا كَانَ الْحَمد هُوَ الإبتداء فَإِن شعوره بِنَفسِهِ وَبِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ ويتنعم بِهِ قبل شعوره بِكُل شَيْء وَهُوَ من حِين خرج من بطن أمه شعر بِاللَّبنِ الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ ويتنعم بِهِ وَبِمَا يخرج مِنْهُ وَهُوَ الثدي فَلهَذَا تعرف الله إِلَيْهِ بِالنعَم ليشكره وشكره ابْتِدَاء مَعْرفَته بِاللَّه فَإِذا عرف الله أحبه فعبده وتنعم بِعِبَادَتِهِ وَحده لَا شريك لَهُ وَعرف مَا فِي التأله لَهُ من اللَّذَّة الْعَظِيمَة الَّتِي لَا يعد لَهَا لَذَّة فَلهَذَا كَانَ التَّوْحِيد نهايته أَوله الْحَمد وَآخره إياك نعْبد وَكَذَلِكَ فِي الْجنَّة كَمَا فِي صَحِيح مُسلم عَن صُهَيْب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أَنه قَالَ إِذا دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة نَادَى مُنَاد يَا أهل الْجنَّة إِن لكم عِنْد الله موعدا يُرِيد أَن ينجزكموه فَيَقُولُونَ مَا هُوَ ألم يبيض وُجُوهنَا ويدخلنا الْجنَّة ويجرنا من النَّار قَالَ فَيكْشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُم شَيْئا أحب إِلَيْهِم من النّظر إِلَيْهِ وَهِي الزياده فالنظر إِلَيْهِ أكمل اللَّذَّات وَآخِرهَا كَمَا قَالَ فَمَا أَعْطَاهُم شَيْئا أحب إِلَيْهِم من النّظر إِلَيْهِ وَلِهَذَا قيل أطيب مَا فِي الدُّنْيَا مَعْرفَته وَأطيب مَا فِي الْآخِرَة مشاهدته وعبادته وَحده بمحبته وَقصد رُؤْيَته هُوَ لأهل السّنة الَّذين يقرونَ بإلاهيته وحكمته وَأَنه يسْتَحق الْمحبَّة وَأَن يكون هُوَ أحب إِلَى العَبْد من كل شَيْء الْجَهْمِية والمعتزلة يُنكرُونَ محبته تَعَالَى ويقرون بِوُجُوب الشُّكْر وَأما الْجَهْمِية والمعتزلة فينكرون محبته وَحَقِيقَة إلاهيته وعَلى قَوْلهم تمْتَنع عِبَادَته لَكِن الْمُعْتَزلَة تقر بِالنعْمَةِ وَوُجُوب الشُّكْر وعَلى هَذَا بنوا دينهم وَغَايَة الْوَاجِبَات هِيَ الشُّكْر وَلِهَذَا قَالُوا الشُّكْر يجب عقلا وَأما الْعِبَادَة والمحبة فَلم يعرفوها وَلم يصلوا إِلَيْهَا بل أنكروها وَأما الْجَهْمِية الْمُجبرَة لَا هَذَا وَلَا هَذَا لَكِن يعترفون بقدرته وَأَنه يفعل مَا يَشَاء وَلِهَذَا كَانُوا فِي الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات أبعد من الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم مرجئة مجبرة فَلَا يجزمون بالوعيد وَهَذَا نصف الْحَرْف الْبَاعِث على الْعَمَل ويقلون بالجبر وَهَذَا نصف الإعتراف بِحَق الله على العَبْد وَوُجُوب شكره فتضعف دواعيهم من جِهَة الْخَوْف وَمن جِهَة الشُّكْر لَا يشكرون نعمه الْمَاضِيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الْجَهْمِية الْمُجبرَة يضعف شكرهم وخوفهم ويقوى رجاؤهم وَلَا يخَافُونَ عُقُوبَته الْمُسْتَقْبلَة وَلَكِن لما آمن من آمن مِنْهُم بالرسل صَار عِنْدهم خوف مَا ورجاء وصاروا يوجبون الشُّكْر شرعا وَعِنْدهم دَاعِي الرَّجَاء فالرجاء عِنْدهم أغلب من الْخَوْف وَهُوَ أحد الْمَعْنيين فِي تسميتهم مرجئة قيل إِنَّه من الرَّجَاء أَي يجْعَلُونَ النَّاس راجين فهم مرجية لَا مخيفة لَكِن الصَّحِيح أَنهم مرجئة بِالْهَمْز من الإرجاء لَكِن يُشَارك الرَّجَاء فِي الإشتقاق الْأَكْبَر الْمُؤمن يخَاف الله ويرجوه وَيُحِبهُ وَلِهَذَا قيل من عبد الله بالرجاء وَحده فَهُوَ مرجىء وَمن عَبده بالخوف وَحده فَهُوَ حروري وَمن عَبده بالحب فَهُوَ زنديق وَمن عَبده بالخوف والرجاء وَالْحب فَهُوَ مُؤمن موحد الْقَائِلُونَ بوحدة الْوُجُود يحبونَ بِدُونِ خوف أَو رَجَاء وَذَلِكَ أَن الْحبّ الَّذِي لَيْسَ مَعَه رَجَاء وَلَا خوف يبْعَث النَّفس على اتِّبَاع هَواهَا وَصَاحبه إِنَّمَا يحب فِي الْحَقِيقَة نَفسه وَقد اتخذ إلاهه هَوَاهُ فَلهَذَا كَانَ زنديقا وَمن هُنَا دخلت الْمَلَاحِدَة الباطنية كالقائلين بوحدة الْوُجُود فَإِن هَؤُلَاءِ سلوكهم عَن هوى ومحبة فَقَط لَيْسَ مَعَه رَجَاء وَلَا خوف وَلِهَذَا يتنوعون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فهم من الَّذين قَالَ الله فيهم أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ [سُورَة الجاثية 23] وَلِهَذَا يجوزون الشّرك كَمَا قَالَ تَعَالَى فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا الْآيَة وَمَا بعْدهَا إِلَى قَوْله كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ [سُورَة الرّوم 30 - 32] وهم فِي الْحَقِيقَة يُنكرُونَ محبَّة الله وَلَكِن يَقُولُونَ الْحِكْمَة هِيَ التَّشَبُّه بِهِ وَلِهَذَا كَانَ ابْن عَرَبِيّ يَجْعَل الْوَلِيّ هُوَ المتشبه بِهِ فِي التخلق بأسمائه وينكر اللَّذَّة بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْخطاب وَيَقُول مَا التذ عَارِف قطّ بِالْمُشَاهَدَةِ لِأَنَّهَا على أَصله مُشَاهدَة وجود مُطلق وَلَا لَذَّة فِيهَا وَوَقع بَينه وَبَين شهَاب الدَّين السهروردي مُنَازعَة هَل حِين يتجلى لَهُم يخاطبهم فَأثْبت شهَاب الدَّين ذَلِك كَمَا جائت بِهِ الْآثَار وَأنكر ذَلِك ابْن عَرَبِيّ وَقَالَ مِسْكين هَذَا السهروردي نَحن نقُول لَهُ عَن تجلي الذَّات وَهُوَ يَقُول عَن تجلي الصِّفَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَهَذَا بِنَاء على أَصله الْفَاسِد وَهُوَ أَن الذَّات وجود مُطلق لَا تقوم بِهِ صِفَات لَا كَلَام وَلَا غَيره فيستحيل عِنْد تجليها خطاب وشهاب الدَّين كَانَ أتبع للسّنة وَالشَّرْع مِنْهُ وَلِهَذَا كَانَ صَاحبهمَا ابْن حمويه يَقُول ابْن عَرَبِيّ بَحر لَا تكدره الدلاء وَلَكِن نور الْمُتَابَعَة المحمدية على وَجه الشَّيْخ شهَاب الدَّين شَيْء آخر لكنه كَانَ ضَعِيف الْإِثْبَات للصفات والعلو لما فِيهِ من التجهم الْأَشْعَرِيّ وَكَانَ يَقُول عَن الرب لَا إِشَارَة وَلَا تعْيين وَهَؤُلَاء مخانيث الْجَهْمِية وَابْن عَرَبِيّ من ذكورهم فهم يستطيلون على من دخل مَعَهم فِي التجهم وَإِنَّمَا يقهرهم أهل السّنة المثبتون العارفون بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وبمخالفتهم لَهُ وببطلان مَا يناقصن السّنة من المعقولات الْفَاسِدَة وَلم يكن السهروردي من هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ الحريري قَالَ كنت أثبت الْمحبَّة أَولا ثمَّ رَأَيْت أَن الْمحبَّة مَا تكون إِلَّا من غير لغير وَمَا ثمَّ غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فَهَؤُلَاءِ منتهاهم إِنْكَار الْمحبَّة الَّتِي يَسْتَحِقهَا الرب وَلِهَذَا لَا يتابعون رَسُوله وَلَا يجاهدون فِي سَبيله وَالله وصف الْمُؤمنِينَ بِهَذَا وَبِهَذَا فمحبة هَؤُلَاءِ تجر إِلَى الزندقة وَأَيْضًا فقد يَقُولُونَ إِن الْمُحب لَا تضره الذُّنُوب وصنف ابْن حمويه فِي ذَلِك مصنفا بناه على مَا يُقَال إِذا أحب الله عبدا لَا تضره الذُّنُوب وَهَذَا إِذا قَالَه المحق فقصده أَنه لَا يتْركهُ مصرا عَلَيْهَا بل يَتُوب عَلَيْهِ مِنْهَا فَلَا تضره فَأَخذه هَؤُلَاءِ وَقَالُوا إِن الذُّنُوب لَا تضر المحبوبين وأحدهم يَقُول عَن نَفسه إِنَّه مَحْجُوب فَلَا تضره الذُّنُوب فصاروا مثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّذين قَالُوا نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه [سُورَة الْمَائِدَة 18] فَصَارَ فيهم زندقة من هَذَا الْوَجْه وَمن غَيره بَيَان مقَالَة أهل السّنة وَقد قَالَ تَعَالَى عَن يُوسُف كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين [سُورَة يُوسُف 24] وَقَالَ تَعَالَى لَيْسَ بأمانيكم وَلَا أماني أهل الْكتاب من يعْمل سوءا يجز بِهِ [سُورَة النِّسَاء 123] وَسيد المحبين المحبوبين خَاتم الرُّسُل وَقد قَالَ إِنِّي أعلمكُم بِاللَّه واشدكم خشيَة لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يحب إِلَّا الْحَسَنَات وَلَا يحب السَّيِّئَات وَهُوَ يحب الْمُتَّقِينَ والمحسنين وَالصَّابِرِينَ والتوابين والمتطهرين وَلَا يحب كل مختال فخور وَلَا يحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الْفساد وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر فَإِذا أحب عبدا وأذنب كَانَ من التوابين المتطهرين وَبَعض النَّاس يَقُول الشَّاب التائب حبيب الله وَالشَّيْخ التائب عتيقه وَلَيْسَ كَذَلِك بل كل من تَابَ فَهُوَ حبيب الله سَوَاء كَانَ شَيخا أَو شَابًّا وَقد روى أهل ذكرى أهل مجالستي وَأهل شكري أهل زِيَادَتي وَأهل طَاعَتي أهل كَرَامَتِي وَأهل معصيتي لَا أويسهم من رَحْمَتي إِن تَابُوا فَأَنا حبيبهم وَإِن لم يتوبوا فَأَنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب وَهَذَا فعله مَعَ عباده إِذا أذنبوا إِمَّا أَن يَتُوب عَلَيْهِم وَإِمَّا أَن يبتليهم بِمَا يطهرهم إِذا لم يَجْعَل السَّيِّئَات تخفص درجتهم وَإِن لم يكن هَذَا وَلَا هَذَا انخفضت درجتهم بِحَسب سيئاتهم عَن دَرَجَات من ساواهم فِي الْحَسَنَات وَسلم من تِلْكَ السَّيِّئَات كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا [سُورَة الْأَنْعَام 132] لأهل الْجنَّة وَلأَهل النَّار دَرَجَات من أَعْمَالهم بحسبها كَمَا قد بسط فِي غير هَذَا الْموضع وَالْعَبْد هُوَ فَقير دَائِما إِلَى الله من كل وَجه من جِهَة أَنه معبوده وَأَنه مستعانه فَلَا يَأْتِي بِالنعَم إِلَّا هُوَ وَلَا يصلح حَال العَبْد إِلَّا بِعِبَادَتِهِ وَهُوَ مذنب أَيْضا لَا بُد لَهُ من الذُّنُوب فَهُوَ دَائِما فَقير مذنب فَيحْتَاج دَائِما وَإِلَى الغفور الرَّحِيم الغفور الَّذِي يغْفر ذنُوبه والرحيم الَّذِي يرحمه فينعم عَلَيْهِ وَيحسن إِلَيْهِ فَهُوَ دَائِما بَين إنعام الرب وذنوب نَفسه كَمَا قَالَ أَبُو إِسْمَاعِيل الْأنْصَارِيّ إِنَّه يسير بَين مطالعة الْمِنَّة ومطالعة عيب النَّفس وَالْعَمَل وكما قَالَ ذَلِك الْعَارِف لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ إِنِّي أصبح بَين نعْمَة وذنب فَأُرِيد أَن أحدث للنعمة شكرا وللذنب اسْتِغْفَارًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَفِي سيد الإستغفار أَبُوء لَك بنعمتك عَليّ وأبوء بذنبي وَفِي الحَدِيث الإلهي فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد غير ذَلِك فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه وَكَانَ يَقُول فِي خطبَته الْحَمد لله نستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ وَفِي الْقُنُوت اللَّهُمَّ إِنَّا نستعينك ونستهديك ونستغفرك إِلَى آخِره وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع يحمد الله ثمَّ يَسْتَغْفِرهُ فَيَقُول رَبنَا وَلَك الْحَمد ملْء السَّمَاوَات وملء الأَرْض وملء مَا بَينهمَا وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد أهل الثَّنَاء وَالْمجد أَحَق مَا قَالَ العَبْد وكلنَا لَك عبد لَا مَانع لما أَعْطَيْت وَلَا معطي مَا منعت وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد اللَّهُمَّ اغسلني من خطاياي بالثلج وَالْمَاء وَالْبرد اللَّهُمَّ نقني من خطاياي كَمَا ينقى الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 والإستغفار مقرون بِالْحَمْد كَمَا قرن بِالتَّوْحِيدِ وكما قرن الْحَمد بالتحميد وَقد جمعت الثَّلَاثَة فِي مثل كَفَّارَة الْمجْلس سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك وَكَانَ الْمَقْصُود أَن الْجَهْمِية الْمُجبرَة لما آمن مِنْهُم من آمن بالرسل صَار عِنْدهم خوف مَا ورجاء مَا وصاروا يوجبون الشُّكْر شرعا فالداعي عِنْدهم جُزْء من الشَّرْع وَأما دَاعِي الْمُعْتَزلَة فَهُوَ أقوى من داعيهم فهم أحسن أعمالا وأعبد وأطوع وَأَوْرَع كَأَهل السّنة والمعرفة فهم يعبدونه مَعَ الْخَوْف والرجاء وَالشُّكْر بداعي الْمحبَّة وَمَعْرِفَة الْحِكْمَة والإلهية وَهَذِه مِلَّة إِبْرَاهِيم الْخَلِيل فهم فَوق هَؤُلَاءِ كلهم وَالله تَعَالَى أعلم آخِره وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 رِسَالَة فِي معنى كَون الرب عادلا وَفِي تنزهه عَن الظُّلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قَاعِدَة فِي معنى كَون الرب عادلا وَفِي تنزهه عَن الظُّلم وَفِي إِثْبَات عدله وإحسانه تأليف شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدَّين ابْن تَيْمِية مِمَّا أَلفه فِي محبسه الْأَخير بالقلعة بِدِمَشْق قدس الله روحه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله أجميعن وَسلم تَسْلِيمًا فصل اتّفق الْمُسلمُونَ وَسَائِر أهل الْملَل على أَن الله تَعَالَى عدل قَائِم بِالْقِسْطِ لَا يظلم شَيْئا بل هُوَ منزه عَن الظُّلم تنَازع طوائف الْمُسلمين فِي معنى الظُّلم الَّذِي ينزه الله عَنهُ ثمَّ لما خَاضُوا فِي الْقدر تنازعوا فِي معنى كَونه عدلا فِي الظُّلم الَّذِي هُوَ منزه عَنهُ مقَالَة الْجَهْمِية والأشاعرة فَقَالَت طَائِفَة الظُّلم لَيْسَ بممكن الْوُجُود بل كل مُمكن إِذا قدر وجوده مِنْهُ فَإِنَّهُ عدل وَالظُّلم هُوَ الْمُمْتَنع مثل الْجمع بَين الضدين وَكَون الشَّيْء مَوْجُودا مَعْدُوما فَإِن الظُّلم إِمَّا التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر وكل مَا سواهُ ملكه وَإِمَّا مُخَالفَة الْآمِر الَّذِي تجب طَاعَته وَلَيْسَ فَوق الله تَعَالَى آمُر تجب عَلَيْهِ طَاعَته وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ مهما تصور وجوده وَقدر وجوده فَهُوَ عدل وَإِذا قَالُوا كل نعْمَة مِنْهُ فضل وكل نقمة مِنْهُ عدل فَهَذَا أَمر أوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وَهَذَا قَول الْمُجبرَة مثل جهم وَمن اتبعهُ وَهُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وَأَمْثَاله من أهل الْكَلَام وَقَول من وافقهم من الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث والصوفية وَقد روى عَن بعض الْمُتَقَدِّمين كَلِمَات مُطلقَة تشبه هَذَا الْمَذْهَب مثل قَول إِيَاس بن مُعَاوِيَة مَا ناظرت بعقلي كُله إِلَّا الْقَدَرِيَّة قلت لَهُم مَا الظُّلم قَالُوا أَن تَأْخُذ مَا لَيْسَ لَك قلت فَللَّه كل شَيْء وَمثل قَول أبي الْأسود لعمران بن حُصَيْن لما سَأَلَهُ فَقَالَ عمرَان أَرَأَيْت مَا يكدح النَّاس الْيَوْم ويعملون فِيهِ أَشَيْء قضى عَلَيْهِم وَمضى من قدر قد سبق أَو فِيمَا يستقبلون فِيمَا أَتَاهُم بِهِ نَبِيّهم فاتخذت بِهِ عَلَيْهِم الْحجَّة قَالَ قلت بل شَيْء قد قضى عَلَيْهِم وَمضى عَلَيْهِم قَالَ فَهَل يكون ذَلِك ظلما قَالَ فَفَزِعت من ذَلِك فَزعًا شَدِيدا وَقلت لَهُ إِنَّه لَيْسَ شَيْء إِلَّا وَهُوَ خلق الله وَملك يَده وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فَقَالَ سددك الله إِنِّي وَالله مَا سَأَلتك إِلَّا لأحرز عقلك وَهَذَا قَول كثير من أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد كَالْقَاضِي أبي يعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَأَتْبَاعه وَأبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَأَتْبَاعه وَأبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ وَأَتْبَاعه وَغَيرهم مقَالَة الْمُعْتَزلَة وَالْقَوْل الثَّانِي أَنه عدل لَا يظلم لِأَنَّهُ لم يرد وجود شَيْء من الذُّنُوب لَا الْكفْر وَلَا الفسوق وَلَا الْعِصْيَان بل الْعباد فعلوا ذَلِك بِغَيْر مَشِيئَته كَمَا فَعَلُوهُ عاصين لأَمره وَهُوَ لم يخلق شَيْئا من أَفعَال الْعباد لَا خيرا وَلَا شرا بل هم أَحْدَثُوا أفعالهم فَلَمَّا أَحْدَثُوا معاصيهم استحقوا الْعقُوبَة عَلَيْهَا فعاقبهم بأفعالهم لم يظلمهم هَذَا قَول الْقَدَرِيَّة من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم وَهَؤُلَاء عِنْدهم لَا يتم تنزيهه عَن الظُّلم إِن لم يَجْعَل غير خَالق لشَيْء من أَفعَال الْعباد بل وَلَا قَادر على ذَلِك وَإِن لم يَجْعَل غير شَاءَ لجَمِيع الكائنات بل يَشَاء مَا لَا يكون وَيكون مَا لَا يَشَاء إِذْ الْمَشِيئَة عِنْدهم بِمَعْنى الْأَمر وَهَؤُلَاء وَالَّذين قبلهم يتناقضون تناقضا عَظِيما وَلَكِن من الطَّائِفَتَيْنِ مبَاحث ومصنفات فِي الرَّد على الْأُخْرَى وكل من الطَّائِفَتَيْنِ تسمى الْأُخْرَى الْقَدَرِيَّة وَقد روى عَن طَائِفَة من التَّابِعين مُوَافقَة هَؤُلَاءِ مقَالَة أهل السّنة وَالْقَوْل الثَّالِث أَن الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه وَالْعدْل وضع كل شَيْء فِي مَوْضِعه وَهُوَ سُبْحَانَهُ حكم عدل يضع الْأَشْيَاء موَاضعهَا وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 يضع شَيْئا إِلَّا فِي مَوْضِعه الَّذِي يُنَاسِبه وتقتضيه الْحِكْمَة وَالْعدْل وَلَا يفرق بَين متماثلين وَلَا يُسَوِّي بَين مُخْتَلفين وَلَا يُعَاقب إِلَّا من يتسحق الْعقُوبَة فَيَضَعهَا موضعهَا لما فِي ذَلِك من الْحِكْمَة وَالْعدْل وَأما أهل الْبر وَالتَّقوى فَلَا يعاقبهم أَلْبَتَّة قَالَ تَعَالَى أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين مَا لكم كَيفَ تحكمون [سُورَة الْقَلَم 35 - 36] وَقَالَ تَعَالَى أم نجْعَل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأَرْض أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار [سُورَة ص 28] وَقَالَ تَعَالَى أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات الْآيَة [سُورَة الجاثية 21] قَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه يُقَال ظلم الرجل سقاءه إِذا سقا مِنْهُ قبل أَن يخرج زبده قَالَ الشَّاعِر وَصَاحب صدق لم تنلني شكاته ... ظلمت وَفِي ظلمي لَهُ عَامِدًا أجر أَرَادَ بالصاحب وطب اللَّبن وظلمه إِيَّاه أَن يسْقِيه قبل أَن يخرج زبده وَالْعرب تَقول هُوَ أظلم من حَيَّة لِأَنَّهَا تَأتي الْحفر الَّذِي لم تحفره فتسكنه وَيُقَال قد ظلم المَاء الْوَادي إِذا وصل مِنْهُ إِلَى مَكَان لم يكن يصل إِلَيْهِ فِيمَا مضى ذكر ذَلِك أَبُو الْفرج وَكَذَلِكَ قَالَ الْبَغَوِيّ أصل الظُّلم وضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه وَكَذَلِكَ ذكر غير وَاحِد قَالُوا وَالْعرب تَقول من أشبه أَبَاهُ فَمَا ظلم أَي مَا وضع الشّبَه فِي غير مَوْضِعه وَهَذَا الأَصْل وَهُوَ عدل الرب يتَعَلَّق بِجَمِيعِ أَنْوَاع الْعلم وَالدّين فَإِن جَمِيع أَفعَال الرب ومخلوقاته دَاخِلَة فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ أَقْوَاله وشرائعه كتبه الْمنزلَة وَمَا يدْخل فِي ذَلِك من مسَائِل المبدأ والمعاد ومسائل النبوات وآياتهم والنواب وَالْعِقَاب ومسائل التَّعْدِيل والتجوير وَغير ذَلِك وَهَذِه الْأُمُور مِمَّا خَاضَ فِيهِ جَمِيع الْأُمَم كَمَا قد بسط فِي مَوَاضِع وَأهل الْملَل كلهم يقرونَ بعدله لِأَن الْكتب الإلهية نطقت بعدله وَأَنه قَائِم بِالْقِسْطِ وَأَنه لَا يظلم النَّاس مِثْقَال ذرة لَكِن كثير من النَّاس فِي نَفسه ضغن من ذَلِك وَقد يَقُوله بِلِسَانِهِ ويعرض بِهِ فِي نظمه ونثره وَهَؤُلَاء أَكثر رما يكونُونَ فِي الْمُجبرَة الَّذين لَا يجْعَلُونَ الْعدْل قسيما لظلم مُمكن لَا يَفْعَله بل يَقُولُونَ الظُّلم مُمْتَنع ويجوزون تَعْذِيب الْأَطْفَال وَغير الْأَطْفَال بِلَا ذَنْب أصلا وَأَن يخلق خلقا يعذبهم بالنَّار أبدا لَا لحكمة أصلا وَيرى أحدهم أَنه خلق فِيهِ الذُّنُوب وعذب بالنَّار لَا لحكمة وَلَا لرعاية عدل فتفيض نُفُوسهم إِذا وَقعت مِنْهُم الذُّنُوب وأصيبوا بعقوباتها بأقوال يكونُونَ فِيهَا خصماء الله تَعَالَى وَقد وَقع من هَذَا قِطْعَة فِي كَلَام طَائِفَة من الشُّيُوخ وَأهل الْكَلَام لَيْسَ هَذَا مَوضِع حِكَايَة أعيانهم وَمَا ذَكرْنَاهُ من الْأَقْوَال الثَّلَاثَة نضبط أصُول النَّاس فِيهِ ونبين أَن القَوْل الثَّالِث هُوَ الصَّوَاب وَبِه يتَبَيَّن أَن كل مَا يَفْعَله الرب فَهُوَ عدل وَأَنه لَا يضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الْأَشْيَاء فِي غير رموضعها فَلَا يظلم مِثْقَال ذرة وَلَا يجزى أحدا إِلَّا بِذَنبِهِ وَلَا يخَاف أحد ظلما وَلَا هضما لَا يهضم من حَسَنَاته وَلَا يظلم فيزاد عَلَيْهِ فِي سيئاته لَا من سيئات غَيره وَلَا من غَيرهَا بل من يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره وَأَنه لَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى أَي لَا يملك ذَلِك وَلَا يسْتَحقّهُ وَإِن كَانَ قد يحصل لَهُ نفع بِفضل الله وَرَحمته وبدعاء غَيره وَعَمله فَذَاك قد عرف أَن الله يرحم كثيرا من النَّاس من غير جِهَة عمله لكنه لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا سعى قَالَ الله تَعَالَى أمل لم ينبأ بِمَا فِي صحف مُوسَى وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى أَلا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى وَأَن سَعْيه سَوف يرى ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى [سُورَة النَّجْم 36 - 41] وَقَوله أم لم ينبأ بِمَا فِي صحف مُوسَى يَقْتَضِي أَن المنبأ بذلك يجب عَلَيْهِ تَصْدِيق ذَلِك وَالْإِيمَان بِهِ فَكَانَ هَذَا مِمَّا أخبر بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصدقا لإِبْرَاهِيم ومُوسَى كَمَا قَالَ فِي آخر سبح إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى [سُورَة الْأَعْلَى 18 - 19] فصل وَمِمَّا يتَبَيَّن عدل الرب وإحسانه وَأَن الْخَيْر بيدَيْهِ وَالشَّر لَيْسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يثني على ربه بذلك فِي مناجاته لَهُ فِي دُعَاء الإستفتاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَأَنه سُبْحَانَهُ لَا يظلم مِثْقَال ذرة بل مَعَ غَايَة عدله فَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ وَهُوَ أرْحم من الوالدة بِوَلَدِهَا كَمَا أخبر بذلك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح وَهُوَ سُبْحَانَهُ أحكم الْحَاكِمين كَمَا قَالَ نوح فِي مناجاته وَأَنت أحكم الْحَاكِمين [سُورَة هود 45] وَأَن الظُّلم قد ذكرنَا فِي غير مَوضِع أَن للنَّاس فِي تَفْسِيره ثَلَاثَة أَقْوَال قيل هُوَ التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه أَو مُخَالفَة الْآمِر الَّذِي تجب طَاعَته وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي حق الله تَعَالَى وَهَذَا تَفْسِير الْمُجبرَة الْقَدَرِيَّة من الْجَهْمِية وَغَيرهم وَكثير مِمَّن ينتسب إِلَى السّنة وَهُوَ تَفْسِير الْأَشْعَرِيّ وَأَصْحَابه وَمن وافقهم كَالْقَاضِي أبي يعلى وَأَتْبَاعه وَأبي الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهم وَالثَّانِي أَنه إِضْرَار غير مُسْتَحقّ وَهَذَا أَيْضا مُنْتَفٍ عَن الله تَعَالَى وَهَذَا تَفْسِير الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ لَو قدر الذُّنُوب وعذب عَلَيْهَا لَكَانَ إِضْرَار غير مُسْتَحقّ وَالله منزه عَنهُ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ الظُّلم مُمْتَنع لذاته غير مُمكن وَلَا مَقْدُور بل كل مَا يُمكن فَهُوَ عدل غير ظلم وَإِذا عذب جَمِيع الْخلق بِلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ذَنْب أصلا لم يكن ظلما عِنْد هَؤُلَاءِ وَإِذا فعل مَا يَشَاء بِمُقْتَضى حكمته وَقدرته كَانَ ظلما عِنْد أُولَئِكَ فَإِنَّهُم يجْعَلُونَ ظلمه من جنس ظلم الْعباد وعدله من جنس عدلهم وهم مشبهة الْأَفْعَال وَالسَّيِّد إِذا ترك مماليكه يظْلمُونَ ويفسدون مَعَ قدرته على مَنعهم كَانَ ظَالِما وَإِذا كَانَ قد أَمرهم ونهاهم وَهُوَ يعلم أَنهم يعصونه وَهُوَ قَادر على مَنعهم كَانَ ظَالِما وَإِذا قَالَ مقصودي أَن أعرضهم لثواب الطَّاعَة وَلذَلِك اقتنيتهم وَقد علم أَنهم لَا يطيعونه كَانَ سَفِيها ظَالِما وهم يَقُولُونَ إِن الرب خلق الْخلق وَلَيْسَ مُرَاده إِلَّا أَن يَنْفَعهُمْ وَأمرهمْ وَلَيْسَ مُرَاده إِلَّا نفعهم بالثواب مَعَ علمه أَنهم يعصونه وَلَا يَنْتَفِعُونَ وَلِهَذَا طَائِفَة مِنْهُم نفت علمه وَآخَرُونَ قَالُوا مَا يُمكنهُ أَن يجعلهم مُطِيعِينَ وَهُوَ قَول جمهورهم فنفوا قدرته وَإِن أثبتوه عَالما قَادِرًا وَلم يفعل مَا أَرَادَهُ من الْخَيْر جَعَلُوهُ غير حَكِيم وَلَا رَحِيم بل وَلَا عَادل وَأما الطَّائِفَة الْأُخْرَى فهم معطلة فِي الْأَفْعَال كَمَا أَن أُولَئِكَ مشبهة الْأَفْعَال فَإِنَّهُم يعطلون فعل العَبْد وَيَقُولُونَ لَيْسَ بفاعل وَلَا قَادر على الْفِعْل وَلَا لَهُ قدرَة مُؤثرَة فِي الْمَقْدُور وَأما الرب فَيَقُولُونَ خلق مَا خلق لَا لحكمة أصلا فعطلوا حكمته وَقَالَ إِنَّه يجوز أَن يعذب جَمِيع الْخلق بِلَا ذَنْب فعطلوا عدله وَالْعدْل هُوَ فعله وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَائِم بِالْقِسْطِ فَمن نفى عدله وحكمته فإمَّا أَن يَنْفِي فعله وَإِمَّا أَن يصفه بضد ذَلِك من الظُّلم والسفه كَمَا أَن الْكَلَام على الطَّائِفَتَيْنِ فِي غير هَذَا الْموضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَالصَّوَاب القَوْل الثَّالِث وَهُوَ أَن الظُّلم وضع الْأَشْيَاء فِي غير موَاضعهَا وَكَذَلِكَ ذكره أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي وَغَيره من أهل اللُّغَة وَذكروا على ذَلِك عدَّة شَوَاهِد كَمَا قد بسط فِي غير هَذَا الْموضع وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ فِي الْوُجُود ظلم من الله سُبْحَانَهُ بل قد وضع كل شَيْء مَوْضِعه مَعَ قدرته على أَن يفعل خلاف ذَلِك فَهُوَ سُبْحَانَهُ يفعل بِاخْتِيَارِهِ ومشيئته وَيسْتَحق الْحَمد وَالثنَاء على أَن يعدل وَلَا يظلم خلاف قَول الْمُجبرَة الَّذين يَقُولُونَ لَا يقدر على الظُّلم وَقد وافقهم بعض الْمُعْتَزلَة كالنظام لَكِن الظُّلم عِنْده غير الظُّلم عِنْدهم فَأُولَئِك يَقُولُونَ الظُّلم هُوَ الْمُمْتَنع لذاته وَهَذَا يَقُول هُوَ مُمكن لَكِن لَا يقدر عَلَيْهِ والقدرية النفاة يَقُولُونَ لَيْسَ فِي الْوُجُود ظلم من الله لِأَنَّهُ عِنْدهم لم يخلق شَيْئا من أَفعَال الْعباد وَلَا يقدر على ذَلِك فَمَا نزهوه عَن الظُّلم إِلَّا بسلبه الْقُدْرَة وَخلق كل شَيْء كَمَا أَن أُولَئِكَ مَا أثبتوا قدرته وخلقه كل شَيْء حَتَّى قَالُوا إِنَّه لَا ينزه أَن يفعل مَا يُمكن كتعذيب الْبَراء بِلَا ذَنْب فَأُولَئِك أثبتوا لَهُ حمدا بِلَا ملك وَهَؤُلَاء أثبتوا لَهُ ملكا بِلَا حمد وَأهل السّنة أثبتوا مَا أثْبته لنَفسِهِ لَهُ الْملك وَالْحَمْد فَهُوَ على كل شَيْء قدير وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَهُوَ خَالق كل شَيْء وَهُوَ عَادل فِي كل مَا خلقه وَاضع للأشياء موَاضعهَا وَهُوَ قَادر على أَن يظلم لكنه سُبْحَانَهُ منزه عَن ذَلِك لَا يَفْعَله لِأَنَّهُ السَّلَام القدوس الْمُسْتَحق للتنزيه عَن السوء وَهُوَ سُبْحَانَهُ سبوح قدوس يسبح لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَسُبْحَان الله كلمة كَمَا قَالَ مَيْمُون بن مهْرَان هِيَ كلمة يعظم بهَا الرب ويحاشى بهَا من السوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن عَبَّاس وَغير وَاحِد من السّلف إِنَّهَا تَنْزِيه الله من السوء وَقَالَ قَتَادَة فِي اسْمه المتكبر إِنَّه الَّذِي تكبر عَن السوء وَعنهُ أَيْضا إِنَّه الَّذِي تكبر عَن السَّيِّئَات فَهُوَ سُبْحَانَهُ منزه عَن فعل القبائح لَا يفعل السوء وَلَا السَّيِّئَات مَعَ أَنه سُبْحَانَهُ خَالق كل شَيْء أَفعَال الْعباد وَغَيرهَا وَالْعَبْد إِذا فعل الْقَبِيح الْمنْهِي عَنهُ كَانَ قد فعل سوءا وظلما وقبيحا وشرا والرب قد جعله فَاعِلا لذَلِك وَذَلِكَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عدل وَحِكْمَة صَوَاب وَوضع للأشياء موَاضعهَا فخلقه سُبْحَانَهُ لما فِيهِ نقص أَو عيب للحكمة الَّتِي خلقه لَهَا هُوَ مَحْمُود عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْهُ عدل وَحِكْمَة وصواب وَإِن كَانَ فِي الْمَخْلُوق عَيْبا وَمثل هَذَا مفعول فِي الفاعلين المخلوقين فَإِن الصَّانِع إِذا أَخذ الْخَشَبَة المعوجة وَالْحجر الردى واللبنة النَّاقِصَة فوضعها فِي مَوضِع يَلِيق بهَا ويناسبها كَانَ ذَلِك مِنْهُ عدلا واستقامة وصوابا وَهُوَ مَحْمُود وَإِن كَانَ فِي تِلْكَ عوج وعيب هِيَ بِهِ مذمومه مذمومة وَمن أَخذ الْخَبَائِث فَجَعلهَا فِي الْمحل الَّذِي يَلِيق بهَا كَانَ ذَلِك حِكْمَة وعدلا وَإِنَّمَا السَّفه وَالظُّلم أَن يَضَعهَا فِي غير موضعهَا وَمن وضع الْعِمَامَة على الرَّأْس والنعلين فِي الرجلَيْن فقد وضع كل شَيْء مَوْضِعه وَلم يظلم النَّعْلَيْنِ إِذْ هَذَا مَحلهمَا الْمُنَاسب لَهما فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يضع شَيْئا إِلَّا مَوْضِعه فَلَا يكون إِلَّا عدلا وَلَا يفعل إِلَّا خيرا فَلَا يكون إِلَّا محسنا جوادا رحِيما وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخلق وَالْأَمر فَكَمَا أَنه فِي أمره لَا يَأْمر إِلَّا بأرجح الْأَمريْنِ وَيَأْمُر بتحصيل الْمصَالح وتكميلها وبتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها وَإِذا تعَارض امران رجح أحسنهما وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَة أَمر بِفعل إِلَّا ووجوده للْمَأْمُور خير من عَدمه وَلَا نهي عَن فعل إِلَّا وَعَدَمه خير من وجوده وَهُوَ فِيمَا يَأْمر بِهِ قد أَرَادَهُ إِرَادَة دينية شَرْعِيَّة وأحبه ورضيه فَلَا يحب ويرضى شَيْئا إِلَّا ووجوده خير من عَدمه وَلِهَذَا أَمر عباده أَن يَأْخُذُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 بِأَحْسَن مَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم فَإِن الْأَحْسَن هُوَ الْمَأْمُور بِهِ وَهُوَ خير من الْمنْهِي عَنهُ الْخَيْر بيدَيْهِ سُبْحَانَهُ وَالشَّر لَيْسَ إِلَيْهِ كَذَلِك هُوَ سُبْحَانَهُ فِي خلقه وَفعله فَمَا أَرَادَ أَن يخلقه وبفعله كَانَ أَن يخلقه ويفعله خيرا من أَن لَا يخلقه ويفعله وَمَا لم يرد أَن يخلقه ويفعله كَانَ أَن لَا يخلقه ويفعله خيرا من أَن يخلقه ويفعله فَهُوَ لَا يفعل إِلَّا الْخَيْر وَهُوَ مَا وجوده خير من عَدمه فَكل مَا كَانَ عَدمه خيرا من وجوده فوجوده شَرّ فَهُوَ لَا يَفْعَله بل هُوَ منزه عَنهُ وَالشَّر لَيْسَ إِلَيْهِ فالشر وَهُوَ مَا كَانَ وجوده شرا من عَدمه لَيْسَ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ هَذَا مُسْتَحقّا للعدم لَا يشاؤه وَلَا يخلقه والمعدوم لَا يُضَاف إِلَى فَاعل فَلَيْسَ إِلَيْهِ وَلَكِن الْخَيْر بيدَيْهِ وَهُوَ مَا كَانَ وجوده خيرا من عَدمه التَّعْلِيق على قَول بَعضهم: الْخَيْر كُله فِي الْوُجُود وَالشَّر كُله فِي الْعَدَم وَمن النَّاس من يَقُول الْخَيْر كُله فِي الْوُجُود وَالشَّر كُله فِي الْعَدَم والوجود خير روالشر الْمَحْض لَا يكون إِلَّا مَعْدُوما وَهَذَا لفظ مُجمل فَإِذا أُرِيد بذلك أَن كل مَا خلقه الله وأوجده فَفِيهِ الْخَيْر ووجوده خير من عَدمه فَهَذَا صَحِيح وَكَذَلِكَ مَا لم يخلقه وَلم يشأه وَهُوَ الْمَعْدُوم الْبَاقِي على عَدمه لَا خير فِيهِ إِذْ لَو كَانَ فِيهِ خير لفعله سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الْخَيْر فالشر العدمي هُوَ عدم الْخَيْر لَا أَن فِي الْعَدَم شرا وجوديا وَأما إِذا أُرِيد أَن كل مَا يقدر وجوده فوجوده خير وكل مَا يقدر عَدمه فعدمه شَرّ فَلَيْسَ بِصَحِيح بل من الْأَشْيَاء مَا وجوده شَرّ من عَدمه وَلَكِن هَذَا لَا يخلقه الرب فَيبقى مَعْدُوما وَعَدَمه خير فَهَذَا خير من هَذَا الْعَدَم بِمَعْنى أَن عَدمه خير رمن وجوده إِذْ كَانَ وجوده فِيهِ ضَرَر رَاجِح وَعدم الضَّرَر الرَّاجِح خير فَهُوَ خير عدمي فِي الْعَدَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 إِذْ الْعَدَم لَا يكون فِيهِ وجود فالشر لَيْسَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَا كَانَ وجوده شرا من عَدمه فَإِنَّهُ لَا يخلق هَذَا وَمَا لم يخلقه فَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهِ وكل مَا خلقه فوجوده خير من عَدمه وَهُوَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الْخَيْر وَذَلِكَ الَّذِي وجوده شَرّ من عَدمه فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَدْفَعهُ ويمنعه أَن يكون مَعَ الْقيام الْمُقْتَضِي لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِن الله يدافع عَن الَّذين آمنُوا [سُورَة الْحَج 38] وَالله يَعْصِمك من النَّاس [سُورَة الْمَائِدَة 67] لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله [سُورَة الرَّعْد 11] وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 88] فَدفعهُ الشَّرّ الَّذِي تريده النُّفُوس الشريرة هُوَ من الْخَيْر وَهُوَ بيدَيْهِ وَلَو مكن تِلْكَ النُّفُوس لفعلته فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُمكنهَا بل يمْنَعهَا إِذا أَرَادَتْهُ مَعَ أَنَّهَا لَو خليت لفعلته فَهُوَ تَارَة بِمَنْع الشَّرّ بِإِزَالَة سَببه ومقتضيه وَتارَة يخلق مَا يضاده وينافيه وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله ثمَّ إِذا مسكم الضّر فإليه تجأرون [سُورَة النَّحْل 53] وَقَول الْقَائِل خير وَشر أَي هَذَا خير من هَذَا وَهَذَا شَرّ من هَذَا وَلِهَذَا غَالب اسْتِعْمَال هذَيْن الإسمين كَذَلِك كَقَوْلِه آللَّهُ خير أما يشركُونَ [سُورَة النَّمْل 59] أَصْحَاب الْجنَّة يَوْمئِذٍ خير مُسْتَقرًّا وَأحسن مقيلا [سُورَة الْفرْقَان 24] وذروا البيع ذَلِكُم خير لكم [سُورَة الْجُمُعَة 9] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَقَالَت السَّحَرَة وَالله خير وَأبقى [سُورَة طه 73] وَقَالَ قل هَل أنبئكم بشر من ذَلِك مثوبة عِنْد الله من لَعنه الله وَغَضب عَلَيْهِ وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير وَعبد الطاغوت أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا وأضل عَن سَوَاء السَّبِيل [سُورَة الْمَائِدَة 60] وَقَالَ يُوسُف أَنْتُم شَرّ مَكَانا [سُورَة يُوسُف 77] وَقَالَ حسان * فشركما لخيركما الْفِدَاء * الْخَيْر وَالشَّر دَرَجَات فالخير مَا كَانَ خيرا من غَيره وَالشَّر مَا كَانَ شرا من غَيره وَالْخَيْر وَالشَّر دَرَجَات وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لما ذكر أهل الْجنَّة وَأهل النَّار قَالَ وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا [سُورَة الْأَنْعَام 132] وَقَالَ تَعَالَى أَفَمَن اتبع رضوَان الله كمن بَاء بسخط من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير هم دَرَجَات عِنْد الله [سُورَة آل عمرَان 162 - 163] وَكَذَلِكَ ذكر تَعَالَى فِي الْأَنْعَام والأحقاف بعد ذكر الطَّائِفَتَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم دَرَجَات الْجنَّة تذْهب علوا ودرجات النَّار تذْهب سفولا فدرجات الْجنَّة كلهَا فِيهَا النَّعيم وَبَعضهَا خير من بعض ودرجات النَّار كلهَا فِيهَا الْعَذَاب وَبَعضهَا شَرّ من بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَإِذا قيل إِن الله سُبْحَانَهُ هُوَ خَالق الْخَيْر وَالشَّر فَالْمُرَاد مَا هُوَ شَرّ من غَيره وَفِيه أَذَى لبَعض النَّاس وَلَكِن خلقه لحكمة وَمَا خلق لحكمة مَطْلُوبَة محبوبة فوجوده خير من عَدمه فَلم يخلق شَيْئا يكون شرا أَي يكون وجوده شرا من عَدمه لَكِن يخلق مَا هُوَ شَرّ من غَيره وَغَيره خير مِنْهُ للحكمة الْمَطْلُوبَة وَمَا فِيهِ أَذَى لبَعض النَّاس للحكمة الْمَطْلُوبَة لَا يعذب الله أحدا إِلَّا بِذَنبِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يعذب أحدا إِلَّا بِذَنبِهِ بِمُقْتَضى الْحِكْمَة وَالْعدْل وَفِي تعذيبه أَنْوَاع الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة وَهَذَا ظَاهر فِيمَا يبتلى بِهِ الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا من المصائب الَّتِي هِيَ جَزَاء سيئاتهم فَإِن فِي ذَلِك من الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة وَالْعدْل مَا هُوَ بَين لمن تَأمله وَلَا يُعَاقب أحدا إِلَّا بِذَنبِهِ قَالَ تَعَالَى وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير [سُورَة الشورى 30] ومَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك [سُورَة النِّسَاء 79] ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم [سُورَة الْأَنْفَال 53] فَلَا يسلبهم إِلَّا إِذا غيروا مَا فِي أنفسهم بِالْمَعَاصِي والذنُوب فَلَا يجزى بالسيئات إِلَّا من فعل السَّيِّئَات وَلَا يُوقع النقم ويسلب النعم إِلَّا من أَتَى بالسيئات الْمُقْتَضِيَة لذَلِك كَمَا فعل بِمن خَالف رسله من جَمِيع الْأُمَم كَمَا قَالَ فِي الْعَذَاب كدأب آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم كفرُوا بآيَات الله فَأَخذهُم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 بِذُنُوبِهِمْ إِن الله قوي شَدِيد الْعقَاب [سُورَة الْأَنْفَال 52] ثمَّ قَالَ ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم الْآيَة وَمَا بعْدهَا إِلَى قَوْله وكل كَانُوا ظالمين [سُورَة الْأَنْفَال 53 - 54] فَذكر تمثيلا لزوَال النعم عَلَيْهِم لما كذبُوا بآياته وَلِهَذَا قَالَ فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ [سُورَة الْأَنْفَال 54] وَذكر الأول تمثيلا لعذابهم بعد الْمَوْت كَمَا قَالَ وَلَو ترى إِذْ يتوفى الَّذين كفرُوا الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق ذَلِك بِمَا قدمت أَيْدِيكُم وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد كدأب آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم كفرُوا بآيَات الله فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ إِن الله قوي شَدِيد الْعقَاب [سُورَة الْأَنْفَال 50 - 52] فَقَالَ هُنَا فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ فَإِن أَخذه يتَضَمَّن أَخذهم ليصلوا بعد الْمَوْت إِلَى الْعَذَاب وَلَفظ الْهَلَاك يَقْتَضِي هلاكهم فِي الدُّنْيَا وَزَوَال النِّعْمَة عَنْهُم فَذكر هلاكهم بِزَوَال النعم وَذكروا أَخذهم بالنقم كَمَا قَالَ وَكَذَلِكَ أَخذ رَبك إِذا أَخذ الْقرى وَهِي ظالمة إِن أَخذه أَلِيم شَدِيد [سُورَة هود 102] وَلَفظ الْمُؤَاخَذَة من الْأَخْذ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا [سُورَة الْبَقَرَة 286] وَقَوله إِن أَخذه أَلِيم شَدِيد كَقَوْلِه إِن بَطش رَبك لشديد [سُورَة البروج 12] وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك فأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ الْآيَة [سُورَة الْأَنْعَام 42] وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 76] فَهَذَا تَعْذِيب لَهُم فِي الدُّنْيَا ليتضرعوا إِلَيْهِ وليتوبوا وَذكر هُنَا أَنه أَخذهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 بِالْعَذَابِ وَلم يقل بِالذنُوبِ كَأَنَّهُ وَالله أعلم ضمن ذَلِك معنى جذبانهم إِلَيْنَا لينيبوا وليتوبوا وَإِذا قَالَ فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ يكون قد أهلكهم فَأَخذهُم إِلَيْهِ بِالْهَلَاكِ وَبسط هَذَا لَهُ موضح آخر الله يفعل الْخَيْر وَالْأَحْسَن وَالْمَقْصُود هُنَا أَن كل مَا يَفْعَله الرب ويخلقه فوجوده خير من عَدمه وَهُوَ أَيْضا خير من غَيره أَي من مَوْجُود غَيره يقدر مَوْجُودا بدله فَكَمَا أَن وجوده خير من عَدمه فَهُوَ أَيْضا خير من مَوْجُود آخر يقدر مخلوقا بدله كَمَا ذكرنَا فِيمَا يَأْمر بِهِ أَن فعله خير من تَركه وَأَنه خير من أَفعَال غَيره يشْتَغل بهَا عَنهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ [سُورَة الْجُمُعَة 9] وَقَوْلنَا فعله خير من تَركه سَوَاء جعل التّرْك وجوديا أَو عدميا والرب تَعَالَى لَهُ الْمثل الْأَعْلَى وَهُوَ أَعلَى من غَيره وأحق بالمدح وَالثنَاء من كل مَا سواهُ وَأولى بِصِفَات الْكَمَال وَأبْعد عَن صِفَات النَّقْص فَمن الْمُمْتَنع أَن يكون الْمَخْلُوق متصفا بِكَمَال لَا نقص فِيهِ والرب لَا يَتَّصِف إِلَّا بالكمال الَّذِي لَا نقص فِيهِ وَإِذا كَانَ يَأْمر عَبده أَن يفعل الْأَحْسَن وَالْخَيْر فَيمْتَنع أَن لَا يفعل هُوَ إِلَّا مَا هُوَ الْأَحْسَن وَالْخَيْر فَإِن فعل الْأَحْسَن وَالْخَيْر مدح وَكَمَال لَا نقص فِيهِ فَهُوَ أَحَق بالمدح والكمال الَّذِي لَا نقص فِيهِ من غَيره قَالَ تَعَالَى وكتبنا لَهُ فِي الألواح من كل شَيْء موعظة وتفصيلا لكل شَيْء فَخذهَا بِقُوَّة وَأمر قَوْمك يَأْخُذُوا بأحسنها سأريكم دَار الْفَاسِقين [سُورَة الْأَعْرَاف 145] وَقَالَ الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه [سُورَة الزمر 18] وَاتبعُوا أحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم [سُورَة الزمر 55] وَقَالَ وافعلوا الْخَيْر لَعَلَّكُمْ تفلحون [سُورَة الْحَج 77] وَقد قَالَ تَعَالَى فِي مدح نَفسه قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك إِلَى قَوْله بِيَدِك الْخَيْر إِنَّك على كل شَيْء قدير [سُورَة آل عمرَان 26] وَقَالَ تَعَالَى الله نزل أحسن الحَدِيث [سُورَة الزمر 23] فَكَلَامه أحسن الْكَلَام وَقَالَ تَعَالَى الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه الْآيَة [سُورَة السَّجْدَة 7] فقد أحسن كل شَيْء خلقه وَقَالَ صنع الله الَّذِي أتقن كل شَيْء [سُورَة النَّمْل 88] وَهُوَ سُبْحَانَهُ الرَّحْمَن الرَّحِيم الغفور الْوَدُود الْجواد الْمَاجِد وَهُوَ سُبْحَانَهُ الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ وَخير الرَّاحِمِينَ كَمَا قَالَ أَيُّوب مسني الضّر وَأَنت أرحمن الرَّاحِمِينَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء 83] وَقَالَ لنَبيه وَقل رب اغْفِر وَارْحَمْ وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 118] فَهُوَ أَحَق بِالرَّحْمَةِ والجود وَالْإِحْسَان من كل أحد وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار ثمَّ قَالَ مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة [سُورَة الْقَصَص 68] فَأخْبر أَنه يخلق مَا يَشَاء ويختار والإختيار فِي لُغَة الْقُرْآن يُرَاد بِهِ التَّفْضِيل والإنتقاء والإصطفاء كَمَا قَالَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي يَا مُوسَى إِلَى قَوْله وَأَنا اخْتَرْتُك فاستمع لما يُوحى [سُورَة طه 11 - 13] وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد نجينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 بني إِسْرَائِيل من الْعَذَاب المهين [سُورَة الدُّخان 30] إِلَى قَوْله وَلَقَد اخترناهم على علم على الْعَالمين وآتيناهم من الْآيَات مَا فِيهِ بلَاء مُبين [سُورَة الدُّخان 32 - 33] وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى وَلَقَد آتَيْنَا بني إِسْرَائِيل الْكتاب وَالْحكم والنبوة الْآيَة [سُورَة الجاثية 16] وَمِنْه قَوْله تَعَالَى وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا [سُورَة الْأَعْرَاف 155] وَمِنْه فِي الحَدِيث إِن الله اخْتَار من الْأَيَّام يَوْم الْجُمُعَة وَمن الشُّهُور شهر رَمَضَان وَاخْتَارَ اللَّيَالِي فَاخْتَارَ لَيْلَة الْقدر وَاخْتَارَ الساعاة فَاخْتَارَ سَاعَات الصَّلَوَات رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر فِي كتاب تشريف يَوْم الْجُمُعَة وتعظيمه عَن كَعْب الْأَحْبَار فصل مُخْتَصر قَالَ الشَّيْخ رَحمَه الله فِي آخر هَذَا الْفَصْل من هَذِه الْقَاعِدَة بَيَان حَقِيقَة إِرَادَة الله إِذا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَن يخلق كَانَ الْخلق عقب الْإِرَادَة والمخلوق عقب التكوين والخلق كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون [سُورَة يس 82] والجهمية والمعتزلة لَا يَقُولُونَ بذلك فِي الْفِعْل بل يَقُولُونَ يفعل مَعَ جَوَاز أَن لَا يفعل إِلَى أَن قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَأَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرفُوا ذَلِك وبينوه للنَّاس وَعرفُوا أَن حُدُوث الْحَوَادِث اليومية المشهودة تدل على أَن الْعَالم مَخْلُوق وَأَن لَهُ رَبًّا خلقه وَيحدث فِيهِ الْحَوَادِث وَقد ذكر ذَلِك الْحسن الْبَصْرِيّ كَمَا رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب الْمَطَر وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب العظمة وَذكره أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي تَفْسِيره قَالَ أَبُو بكر بن أبي الدُّنْيَا حَدثنِي هَارُون حَدثنِي عَفَّان عَن مبارك بن فضَالة قَالَ سَمِعت الْحسن يَقُول كَانُوا يَقُولُونَ يَعْنِي أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَمد لله الرفيق الَّذِي لَو جعل هَذَا الْخلق خلقا دَائِما لَا يتَصَرَّف لقَالَ الشاك فِي الله لَو كَانَ لهَذَا الْخلق رب لحادثه وَإِن الله قد حادثه بِمَا ترَوْنَ من الْآيَات إِنَّه جَاءَ بضوء طبق مَا بَين الْخَافِقين وَجعل فِيهَا معاشا وسراجا وهاجا ثمَّ إِذا شَاءَ ذهب بذلك الْخلق وَجَاء بظلمة طبقت مَا بَين الْخَافِقين وَجعل فِيهَا سكنا ونجوما وقمرا منيرا وَإِذا شَاءَ بنى بِنَاء جعل فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 من الْمَطَر والبرق والرعد وَالصَّوَاعِق مَا شَاءَ وَإِذا شَاءَ صرف ذَلِك وَإِذا شَاءَ جَاءَ بِبرد يقرقف النَّاس وَإِذا شَاءَ ذهب بذلك وَجَاء بَحر يَأْخُذ بِأَنْفَاسِ النَّاس ليعلم النَّاس أَن لهَذَا الْخلق رَبًّا يحادثه بِمَا يرَوْنَ من الْآيَات كَذَلِك إِذا شَاءَ ذهب بالدنيا وَجَاء بِالآخِرَة فقد ذكر الْحسن عَن الصَّحَابَة الإستدلال بِهَذِهِ الْحَوَادِث المشهودة على وجود الرب سُبْحَانَهُ الْمُحدث الْفَاعِل بمشيئته وَقدرته وَبطلَان أَن يكون مُوجبا يقارنه مُوجبه فَإِن ذَلِك يمْتَنع محادثته أَي إِحْدَاث الْحَوَادِث فِيهِ وَقَوْلهمْ لَو كَانَ هَذَا الْخلق خلقا دَائِما لَا يتَصَرَّف لقَالَ الشاك فِي الله لَو كَانَ لهَذَا الْخلق رب لحادثه يَقْتَضِي أَن هَذِه الْحَوَادِث آيَات الله وَأَنه رب هَذَا الْخلق وَأَن هَذَا الْخلق مُحدث لكَون غَيره يحادثه أَي يحدث فِيهِ الْحَوَادِث وَمَا صرفه غَيره وأحدث فِيهِ الْحَوَادِث كَانَ مقهورا مُدبرا لم يكن وَاجِبا بِنَفسِهِ مُمْتَنعا عَن غَيره وَقَوله لَو كَانَ لَهُ رب لحادثه قد يُقَال إِنَّهُم أَنْكَرُوا هَذَا القَوْل لقَولهم لقَالَ الشاك فِي الله وَقد يُقَال بل هم مصدقون بِهَذِهِ الْقَضِيَّة الشّرطِيَّة وَلَكِن لَو لم تكن الْحَوَادِث لَكَانَ الله يعرف دون هَذِه الْحَوَادِث فَإِن مَعْرفَته حَاصِلَة بالفطرة والضرورة وَنَفس وجود الْإِنْسَان مُسْتَلْزم لوُجُود الرب فَكَانَ الصَّانِع يعلم من غير هَذِه الطَّرِيق فَلهَذَا يعاب الشاك وَيُمكن أَنهم لم يقصدوا عَيبه على هَذَا التَّقْدِير بل على هَذَا التَّقْدِير كَانَ الشَّك مَوْجُودا فِي النَّاس إِذْ لَا دَلِيل على وجوده فَكَانَت هَذِه الْآيَات مزيلة للشَّكّ وموجبة لليقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وَالْأول أشبه بمرادهم وَأولى بِالْحَقِّ فَإِنَّهُم قَالُوا لقَالَ الشاك فِي الله فَدلَّ على أَن هُنَاكَ من لَيْسَ بشاك فِي الله وَلم يَقُولُوا لشك النَّاس فِي الله وَبسط هَذَا القَوْل فِي إِثْبَات الصَّانِع لَهُ مَوضِع غير هَذَا وَالْمَقْصُود أَنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخلق بمشيئته واختياره وَأَنه يخْتَار الْأَحْسَن وَأَن إِرَادَته ترجح الرَّاجِح الْأَحْسَن وَهَذَا حَقِيقَة الْإِرَادَة وَلَا تعقل إِرَادَة ترجح مثلا على مثل وَلَو قدر وجود مثل هَذِه الْإِرَادَة فَتلك أكمل وَأفضل والخلق متصفون بهَا وَيمْتَنع أَن يكون الْمَخْلُوق أكمل من الْخَالِق والمحدث الْمُمكن أكمل من الْوَاجِب الْقَدِيم فَوَجَبَ أَن يكون مَا تُوصَف بِهِ إِرَادَته أكمل مِمَّا تُوصَف بِهِ إِرَادَة غَيره فَيجب أَن يُرِيد بهَا مَا هُوَ الأولى وَالْأَحْسَن وَالْأَفْضَل وَهُوَ سُبْحَانَهُ يفعل بمشيئته وَقدرته فالممتنع لَا تتَعَلَّق بِهِ قدرَة فَلَا يُرَاد والممكن لذِي يُمكن أَن يفعل وَيكون مَقْدُورًا ترجح الْإِرَادَة الْأَفْضَل الْأَرْجَح مِنْهُ وَمَا يَحْكِي عَن الْغَزالِيّ أَنه قَالَ لَيْسَ فِي الْإِمْكَان أبدع من هَذَا الْعَالم فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك وَلم يخلقه لَكَانَ بخلا يُنَاقض الْجُود أَو عَجزا يُنَاقض الْقُدْرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَقد أنرك عَلَيْهِ طَائِفَة هَذَا الْكَلَام وتفصيله أَن الْمُمكن يُرَاد بِهِ الْقُدُور وَلَا ريب أَن الله سُبْحَانَهُ يقدر على غير هَذَا الْعَالم وعَلى إبداع غَيره إِلَى مَا لَا يتناهى كَثْرَة وَيقدر على غير مَا فعله كَمَا قد بَينا ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع وَبَين ذَلِك فِي غير مَوضِع من الْقُرْآن وَقد يُرَاد بِهِ إِنَّه مَا يُمكن أحسن مِنْهُ وَلَا أكمل مِنْهُ فَهَذَا لَيْسَ قدحا فِي الْقُدْرَة بل قد أثبت قدرته على غير مَا فعله لَكِن قَالَ مَا فعله أحسن وأكمل مِمَّا لم يَفْعَله وَهَذَا وصف لَهُ سُبْحَانَهُ بِالْكَرمِ والجود وَالْإِحْسَان وَهُوَ سُبْحَانَهُ الأكرم فَلَا يتَصَوَّر أكْرم مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا آخِره وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ وَسلم تَسْلِيمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 رِسَالَة فِي دُخُول الْجنَّة هَل يدْخل أحد الْجنَّة بِعَمَلِهِ أم ينْقضه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل أحد الْجنَّة بِعَمَلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله وَسلم سُئِلَ شيخ الْإِسْلَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية عَن قَوْله تَعَالَى ونودوا أَن تلكم الْجنَّة أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف 43] هَل يدْخل أحد الْجنَّة بِعَمَلِهِ أم ينْقضه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل أحد الْجنَّة بِعَمَلِهِ قيل وَلَا أَنْت قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمته الْجَواب الْحَمد لله الْمُثبت فِي الْقُرْآن لَيْسَ هُوَ الْمَنْفِيّ فِي السّنة لَا مناقضة بَين مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَمَا جَاءَت بِهِ السّنة إِذْ الْمُثبت فِي الْقُرْآن لَيْسَ هُوَ الْمَنْفِيّ فِي السّنة والتناقض إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ الْمُثبت هُوَ الْمَنْفِيّ وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى قَالَ تلكم الْجنَّة أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وَقَالَ كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم فِي الْأَيَّام الخالية [سُورَة الحاقة 24] وَقَالَ أما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم جنَّات المأوى نزلا بِمَا كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة السَّجْدَة 19] وَقَالَ وحور عين كأمثال اللُّؤْلُؤ الْمكنون جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة الْوَاقِعَة 22 - 24] الْعَمَل سَبَب للثَّواب فَبين بِهَذِهِ النُّصُوص أَن الْعَمَل سَبَب للثَّواب وَالْبَاء للسبب كَمَا فِي مثل قَوْله تَعَالَى فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات [سُورَة الْأَعْرَاف 57] وَقَوله وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا [سُورَة الْبَقَرَة 164] وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يبين بِهِ الْأَسْبَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَلَا ريب أَن الْعَمَل الصَّالح سَبَب لدُخُول الْجنَّة وَالله قدر لعَبْدِهِ الْمُؤمن وجوب الْجنَّة بِمَا ييسره لَهُ من الْعَمَل الصَّالح كَمَا قدر دُخُول النَّار لمن يدخلهَا بِعَمَلِهِ السيء كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد كتب مَقْعَده من الْجنَّة ومقعده من النَّار قَالُوا يَا رَسُول الله أَفلا نَتَّكِل على الْكتاب وَنَدع الْعَمَل قَالَ لَا اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ أما من كَانَ من أهل السَّعَادَة فسييسره لعمل أهل السَّعَادَة وَأما من كَانَ من أهل الشقاوة فسييسره لعمل أهل الشقاوة وَقَالَ إِن الله خلق للجنة أَهلا وخلقها لَهُم وهم فِي أصلاب آبَائِهِم وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ وَخلق للنار أَهلا وخلقها لَهُم وهم فِي أصلاب آبَائِهِم وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ السَّبَب لَا يسْتَقلّ بالحكم وَإِذا عرف أَن الْبَاء هُنَا للسبب فمعلوم أَن السَّبَب لَا يسْتَقلّ بالحكم فمجرد نزُول الْمَطَر لَيْسَ مُوجبا للنبات بل لَا بُد من أَن يخلق الله أمورا أُخْرَى وَيدْفَع عَنهُ الْآفَات الْمَانِعَة فيربيه بِالتُّرَابِ وَالشَّمْس وَالرِّيح وَيدْفَع عَنهُ مَا يُفْسِدهُ فالنبات مُحْتَاج مَعَ هَذَا السَّبَب إِلَى فضل من الله أكبر مِنْهُ وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن يدْخل أحد مِنْكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ وَفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فَإِنَّهُ ذكره فِي سِيَاق أمره لَهُم بالإقتصاد قَالَ سددوا وقاربوا وَاعْلَمُوا أَن أحدا مِنْكُم لن يدْخل الْجنَّة بِعَمَلِهِ وَقَالَ إِن هَذَا الدَّين متين وَإنَّهُ لن يشاد الدَّين أحد إِلَّا غَلبه فسددوا وقاربوا وَاسْتَعِينُوا بالغدوة والروحة وَشَيْء من الدجلة وَالْقَصْد تبلغوا لَيْسَ جَزَاء الله على سَبِيل الْمُعَاوضَة فنفى بِهَذَا الحَدِيث مَا قد تتوهمه النُّفُوس من أَن الْجَزَاء من الله عز وجلّ على سَبِيل الْمُعَاوضَة والمقابلة كالمعاوضات الَّتِي تكون بَين النَّاس فِي الدُّنْيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فَإِن الْأَجِير يعْمل لمن اسْتَأْجرهُ فيعطيه أجره بِقدر عمله على طَرِيق الْمُعَاوضَة إِن زَاد أجرته وَإِن نقص نقص أجرته وَله عَلَيْهِ أُجْرَة يَسْتَحِقهَا كَمَا يسْتَحق البَائِع الثّمن فنفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون جَزَاء الله وثوابه على سَبِيل الْمُعَاوضَة والمقابلة والمعادلة وَالْبَاء هُنَا كالباء الدَّاخِلَة فِي الْمُعَاوَضَات كَمَا يُقَال اسْتَأْجَرت هَذَا بِكَذَا وَأخذت أجرتي بعملي غلط من توهم ذَلِك من وُجُوه وَكثير من النَّاس قد يتَوَهَّم مَا يشبه هَذَا وَهَذَا غلط من وُجُوه الأول أَحدهَا أَن الله تَعَالَى لَيْسَ مُحْتَاجا إِلَى عمل الْعباد كَمَا يحْتَاج الْمَخْلُوق إِلَى عمل من يستأجره بل هُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح إِنَّكُم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني وَلنْ تبلغوا ضري فتضروني والعباد إِنَّمَا يعْملُونَ لأَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت [سُورَة الْبَقَرَة 286] وَقَالَ تَعَالَى من عمل صَالحا فلنفسه وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا [سُورَة فصلت 46] وَقَالَ إِن تكفرُوا فَإِن الله غَنِي عَنْكُم وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَإِن تشكروا يرضه لكم [سُورَة الزمر 7] وَقَالَ تَعَالَى وَمن شكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ وَمن كفر فَإِن رَبِّي غَنِي كريم [سُورَة النَّمْل 40] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَقَالَ تَعَالَى وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمن كفر فَإِن الله غَنِي عَن الْعَالمين [سُورَة آل عمرَان 97] وَأما الْعباد فَإِنَّهُم محتاجون إِلَى من يستعملون لجلب مَنْفَعَة أَو دفع مضرَّة ويعطونه أُجْرَة نَفعه لَهُم الثَّانِي الثَّانِي أَن الله هُوَ الَّذِي من على الْعَامِل بِأَن خلقه أَولا وأحياه ورزقه ثمَّ بِأَن أرسل إِلَيْهِ الرُّسُل وَأنزل إِلَيْهِ الْكتب ثمَّ بِأَن يسر لَهُ الْعَمَل وحبب إِلَيْهِ الْإِيمَان وزينه فِي قلبه وَكره إِلَيْهِ الْكفْر والفسوق والعصيان والمخلوق إِذا عمل لغيره لم يكن الْمُسْتَعْمل هُوَ الْخَالِق لعمل أجيره فَكيف يتَصَوَّر أَن يكون للْعَبد على الله عوض وَهُوَ خلقه وأحدثه وأنعم على العَبْد بِهِ وَهل تكون إِحْدَى نعمتيه عوضا عَن نعْمَته الْأُخْرَى وَهُوَ ينعم بكلتيهما الثَّالِث الْوَجْه الثَّالِث أَن عمل العَبْد لَو بلغ مَا بلغ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يكون ثَوَاب الله مُقَابلا لَهُ ومعادلا حَتَّى يكون عوضا بل أقل أَجزَاء الثَّوَاب يسْتَوْجب أَضْعَاف ذَلِك الْعَمَل الرَّابِع الرَّابِع أَن العَبْد قد ينعم ويمتع فِي الدُّنْيَا بِمَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ مِمَّا يسْتَحق بإزائه أَضْعَاف ذَلِك الْعَمَل إِذا طلبت المعادلة والمقابلة وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يبالغوا فِي الِاجْتِهَاد مُبَالغَة من يضرّهُ الِاجْتِهَاد كالمنبت الَّذِي لَا أَرضًا قطع وَلَا ظهرا أبقى وَزَالَ عَنْهُم الْعجب وشهدوا إِحْسَان الله بِالْعَمَلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الْخَامِس الْخَامِس أَن الْعباد لَا بُد لَهُم من سيئات وَلَا بُد فِي حياتهم من تَقْصِير فلولا عَفْو الله لَهُم عَن السَّيِّئَات وتقبله أحسن مَا عمِلُوا لما استحقوا ثَوابًا وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نُوقِشَ الْحساب عذب قَالَت عَائِشَة يَا رَسُول الله أَلَيْسَ الله يَقُول فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا سور الإنشقاق 7 8 قَالَ ذَلِك الْعرض وَمن نُوقِشَ الْحساب عذب وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة الصَّحِيح إِذا طلبت الشَّفَاعَة من أفضل الْخلق آدم ونوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَاعْتذر كل مِنْهُم بِمَا فعل قَالَ لَهُم عِيسَى اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّد عبد غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيث لما قيل لَهُ وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله بعفوه فَتبين بِهَذَا الحَدِيث أَنه لَا بُد من عَفْو الله وتجاوزه عَن العَبْد وَإِلَّا فَلَو ناقشه على عمله لما اسْتحق بِهِ الْجَزَاء قَالَ الله تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذين نتقبل عَنْهُم أحسن مَا عمِلُوا ونتجاوز عَن سيئاتهم فِي أَصْحَاب الْجنَّة [سُورَة الْأَحْقَاف 16] وَقَالَ تَعَالَى وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون إِلَى قَوْله ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة الزمر 33 - 35] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وَإِذا تبين ذَلِك أَفَادَ هَذَا الحَدِيث أَلا يعجب العَبْد بِعَمَلِهِ بل يشْهد نعم الله عَلَيْهِ وإحسانه إِلَيْهِ فِي الْعَمَل وَأَنه لَا يستكثر الْعَمَل فَإِن عمله لَو بلغ مَا بلغ إِن لم يرحمه الله ويعف عَنهُ ويتفضل عَلَيْهِ لم يسْتَحق بِهِ شَيْئا وَأَنه لَا يُكَلف من الْعَمَل مَا لَا يُطيق ظَانّا أَنه يزْدَاد بذلك أجره كَمَا يزْدَاد أجر الْأَجِير الَّذِي يعْمل فَوق طاقته فَإِن ذَلِك يضرّهُ إِذْ المنبت لَا أَرضًا قطع وَلَا ظهرا أبقى وَأحب الْعَمَل مَا داوم عَلَيْهِ صَاحبه فَإِن الْأَعْمَال بالخواتيم بِخِلَاف عمل الأجراء فِي الدُّنْيَا فَإِن الْأُجْرَة تتقسط على الْمَنْفَعَة فَإِذا عمل بعض الْعَمَل اسْتحق من الْأُجْرَة بِقدر مَا عمل وَلَو لم يعْمل إِلَّا قَلِيلا فَمن ختم لَهُ بِخَير اسْتحق الثَّوَاب وَكفر الله بتوبته سيئاته وَمن ختم لَهُ بِكفْر أحبطت ردته حَسَنَاته فَلهَذَا كَانَ الْعَمَل الَّذِي داوم عَلَيْهِ صَاحبه إِلَى الْمَوْت خيرا مِمَّن أعْطى قَلِيلا ثمَّ أكدى وكلف نَفسه مَا لَا يُطيق كَمَا يَفْعَله كثير من الْعمَّال فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سددوا وقاربوا وَاعْلَمُوا أَن أحدا مِنْكُم لن يدْخل الْجنَّة بِعَمَلِهِ يَنْفِي الْمُعَاوضَة والمقابلة الَّتِي يُولد اعتقادها هَذِه الْمَفَاسِد وَقَوله بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ يثبت السَّبَب الْمُوجب لِأَن يَفْعَله العَبْد وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم اعْمَلْ وَقدر أَنَّك لم تعْمل وَقَالَ آخر لَا بُد مِنْك وَبِك وَحدك لَا يَجِيء شَيْء لَا بُد من الْعَمَل وَمن رَجَاء رَحْمَة الله فَلَا بُد من الْعَمَل الْمَأْمُور بِهِ وَلَا بُد من رَجَاء رَحْمَة الله وعفوه وفضله وشهود العَبْد لتَقْصِيره ولفقره إِلَى فضل ربه وإحسان ربه إِلَيْهِ وَقد قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة كَانُوا يَقُولُونَ ينجون من النَّار بِالْعَفو ويدخلون الْجنَّة بِالرَّحْمَةِ ويتقاسمون الْمنَازل بِالْأَعْمَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فنبه على أَن مقادير الدَّرَجَات فِي الجنه تكون بِالْأَعْمَالِ وَأَن نفس الدُّخُول هُوَ بِالرَّحْمَةِ فَإِن الله قد يدْخل الْجنَّة من ينشئه لَهَا فِي الدَّار الْآخِرَة بِخِلَاف النا رفإنه أقسم أَن يملأها من إِبْلِيس وَأَتْبَاعه الله يدْخل الْجنَّة بِالْعَمَلِ وَبِغَيْرِهِ من الْأَسْبَاب لَكِن مَعَ هَذَا فَالْعَمَل الصَّالح فِي الدُّنْيَا سَبَب للدخول والدرجة وَإِن كَانَ الله يدْخل الْجنَّة بِدُونِ هَذَا السَّبَب كَمَا يدْخل الْأَبْنَاء تبعا لِآبَائِهِمْ وَلَيْسَ كل مَا يحصل بِسَبَب لَا يحصل بِدُونِهِ كالموت الَّذِي يكون بِالْقَتْلِ وَيكون بِدُونِ الْقَتْل وَمن فهم أَن السَّبَب لَا يُوجب الْمُسَبّب بل لَا بُد أَن يضم الله إِلَيْهِ أمورا أُخْرَى وَأَن يدْفع عَنهُ آفَات كَثِيرَة وَأَنه قد يخلق الْمُسَبّب بِدُونِ السَّبَب انْفَتح لَهُ حَقِيقَة الْأَمر من هَذَا وَغَيره وَالله تَعَالَى أعلم آخِره وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيم كثيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 رِسَالَة فِي الْجَواب عَمَّن يَقُول إِن صِفَات الرب نسب وإضافات وَغير ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 سُؤال عَمَّن يَقُول إِن صِفَات الرب نسب وإضافات وَغير ذَلِك بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله وَسلم تَسْلِيمًا أما بعد فَهَذَا فصل مُخْتَصر من سُؤال سُئِلَ عَنهُ شيخ الْإِسْلَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية رَحمَه الله تَعَالَى نَص السُّؤَال مَا يَقُول السَّادة الْعلمَاء أَئِمَّة الدَّين رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ فِيمَن قَالَ إِن صِفَات الرب لَا تَتَعَدَّد وَلَا ينْفَصل بَعْضهَا عَن بعض إِلَّا فِي مَرَاتِب الْعبارَات وموارد الإشارات فَإِذا أضيف علمه إِلَى الإطلاع على ضمير الصَّغِير وَالْكَبِير يُقَال بَصِير وَإِذا ابتدر مِنْهُ الرزق يُقَال رزاق وَإِذا أَفَاضَ من مكنونات علمه على قلب أحد من النَّاس بأسرار إلاهيته ودقائق جبروت ربوبيته يُقَال مُتَكَلم وَلَيْسَ بعضه آلَة السّمع وَبَعضه آلَة الْبَصَر وَبَعضه آلَة الْكَلَام بل كُله بكلية ذَاته لَا يشْغلهُ شَيْء عَن شَيْء فَهَل هَذَا القَوْل صَوَاب أم لَا أفتونا مَأْجُورِينَ الْجَواب هَذِه مقَالَة المتفلسفة والقرامطة والاتحادية الْحَمد لله رب الْعَالمين لَيْسَ هَذَا القَوْل صَوَابا وَإِن كَانَ بعضه صَوَابا بل هَذَا القَوْل قرع بَاب الْإِلْحَاد وتوطئه سَبِيل الإتحاد فَإِن هَذَا القَوْل هُوَ قَول غلاة نفاة الصِّفَات الْجَهْمِية من متفلسف وقرمطي واتحادي وَنَحْوهم وَلَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 هُوَ قَول الْمُعْتَزلَة والنجارية والضرارية والشيعة وَنَحْوهم مِمَّن يَقُول الْقُرْآن مَخْلُوق بل هُوَ شَرّ من قَول هَؤُلَاءِ فَإِن هَؤُلَاءِ متفقون على أَنه خلق فِي غَيره كلَاما وَأَنه مُتَكَلم بذلك الَّذِي خلقه فِي غَيره وَأَن مُوسَى وَالْمَلَائِكَة يسمعُونَ ذَلِك الْكَلَام الْمَخْلُوق الَّذِي هُوَ كَلَام الله عِنْد هَؤُلَاءِ المبتدعة قَالُوا إِنَّه لَا يكون متكلما إِلَّا بِكَلَام يقوم بِهِ وَإِن الْكَلَام إِذا قَامَ بِمحل كَانَ صفة لذَلِك الْمحل لَا لغيره كَسَائِر الصِّفَات من الْحَيَاة وَالْعلم وَالْقُدْرَة والسمع وَالْبَصَر وَنَحْوه فَيُقَال عَالم وقادر وَسميع وبصير وَنَحْو ذَلِك رد السّلف عَلَيْهِم وَلِهَذَا قَالَ من قَالَ من السّلف من قَالَ إِنَّنِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا [سُورَة طه 14] مَخْلُوق فَهُوَ بِمَنْزِلَة من صدق فِرْعَوْن فِي قَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أَنا ربكُم الْأَعْلَى [سُورَة النازعات 24] لِأَنَّهُ لَو كَانَ قَوْله إِنَّنِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا مخلوقا لَكَانَ كلَاما للمحل الَّذِي خلق فِيهِ إِمَّا الشَّجَرَة وَإِمَّا الْهَوَاء فَيكون الشَّجَرَة أَو الْهَوَاء هُوَ الْقَائِل إِنَّنِي أَنا الله وَمن جعل هَذَا رَبًّا فَهُوَ بِمَنْزِلَة من جعل فِرْعَوْن رَبًّا وَإِن كَانَ الله خَالق ذَلِك الْكَلَام فِي الشَّجَرَة والهواء فقد ثَبت بِالْحجَّةِ أَنه خَالق أَفعَال الْعباد وَأَنه أنطق كل شَيْء فَكل نَاطِق فِي الْوُجُود هُوَ أنطقه وَخلق نطقه فَيجب أَن يكون كل نطق فِي الْوُجُود كَلَامه حَتَّى قَول فِرْعَوْن أَنا ربكُم الْأَعْلَى وَحِينَئِذٍ فَلَا فرق بَين قَوْله إِنَّنِي أَنا الله وَبَين خلقه على لِسَان فِرْعَوْن أَنا ربكُم الْأَعْلَى وَهَذَا اللَّازِم تَفِر مِنْهُ الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم إِذْ هم لَا يقرونَ بِأَن الله خَالق أَفعَال الْعباد لَكِن يلْزمهُم بِالْحجَّةِ مَا يخلقه الله من الْكَلَام مثل إنطاق الْجُلُود وتسبيح الْحَصَى وَتَسْلِيم الْحجر عَلَيْهِ السَّلَام وَشَهَادَة الْأَلْسِنَة وَالْأَيْدِي والأرجل فَإِن هَذَا لَيْسَ من أَفعَال الْعباد بل ذَلِك خلق الله فيلزمهم أَن يَقُولُوا ذَلِك كُله كَلَام الله وَهُوَ بَاطِل وهم لَا يلتزمونه وَإِنَّمَا الْتزم مثل هَذَا الإتحادية والحلولية الَّذين يَقُولُونَ إِنَّه وجود الْمَخْلُوقَات أَو هُوَ سَار فِي جَمِيع الْمَخْلُوقَات كَمَا قَالَ قَائِلهمْ وكل كَلَام فِي الْوُجُود كَلَامه ... سَوَاء علينا نثره ونظامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وَمن هَؤُلَاءِ من يفرق بَين قَول الحلاج وَأَمْثَاله أَنا الْحق وَبَين قَول فِرْعَوْن أَنا ربكُم الْأَعْلَى بِأَن الحلاج وَأَمْثَاله قَالُوا ذَلِك وهم فانون فَالْحق نطق على ألسنتهم لغيبتهم عَن شُهُود أنفسهم وَأما فِرْعَوْن وَأَمْثَاله مِمَّن هم فِي شُهُود أنفسهم فقالوه مَعَ رُؤْيَتهمْ أنفسهم وَحَاصِله أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي نطق على لِسَان الحلاج وَأَمْثَاله وَهَذَا شَرّ من قَول من يَقُول الْقُرْآن مَخْلُوق خلقه الله فِي الْهَوَاء وَنَحْوه لِأَن الجماد لَيْسَ لَهُ نطق يُضَاف إِلَيْهِ فوجود الْكَلَام فِيهِ شُبْهَة توجب جعله كلَاما لغيره أما الْإِنْسَان الْحَيّ إِذا وجد مِنْهُ مثل هَذَا الْكَلَام مُضَافا إِلَى نَفسه وَجعل الْمُتَكَلّم بِهِ هُوَ الله فَهَذَا صَرِيح بحلول الْحق فِيهِ واتحاده بِهِ كَمَا تَقوله النَّصَارَى فِي الْمَسِيح وَمَعْلُوم أَن النَّصَارَى أكفر من الْمُعْتَزلَة وَمَعْلُوم بالإضطرار من الْعقل وَالدّين أَن الله لم يتَكَلَّم على لِسَان بشر كَمَا يتَكَلَّم الجنى على لِسَان المصروع وَلَكِن يبْعَث الرُّسُل فيبلغون كَلَامه والمرسل يَقُول لرَسُوله قل على لساني كَذَا وَيَقُول كَلَامي على لِسَان رَسُولي فلَان أَي كَلَامي الَّذِي بلغه عني وَمن هَذَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله قَالَ على لِسَان نبيه سمع الله لمن حَمده أَي هَذَا من الْكَلَام الَّذِي بلغه الرَّسُول عَن الله كَمَا قَالَ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك [سُورَة الدُّخان 57] كَمَا يَقُول الْمُرْسل قد قلت لكم على لِسَان رَسُولي فلَان كَذَا وَكَذَا وَهَذَا كَمَا أَن القَوْل يُضَاف إِلَى الرَّسُول لِأَنَّهُ بلغه وَأَدَّاهُ فيضاف إِلَى جِبْرِيل تَارَة وَإِلَى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُخْرَى كَمَا قَالَ فِي آيَة إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون وَلَا بقول كَاهِن قَلِيلا مَا تذكرُونَ [سُورَة الْمَائِدَة 40 - 42] فَهَذَا مُحَمَّد وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين [سُورَة التكوير 19 - 21] فَهَذَا جِبْرِيل وَأما جُمْهُور الْعلمَاء من أهل الْفِقْه والْحَدِيث والتصوف وَالْكَلَام فطردوا الدَّلِيل وأثبتوا لله صِفَات فعلية تقوم بِذَاتِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْلُوم الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْعقل واللغة وَالشَّرْع النَّاس فِي الصِّفَات ثَلَاث مَرَاتِب فَالنَّاس ثَلَاث مَرَاتِب مِنْهُم من نفى قيام الصِّفَات وَالْأَفْعَال بِهِ كالمعتزلة وَمِنْهُم من أثبت قيام الصِّفَات بِهِ دون الْأَفْعَال كالكلابية وَمِنْهُم من أقرّ بِقِيَام الصِّفَات وَالْأَفْعَال وهم جُمْهُور الْأمة كَمَا ذكرته الْحَنَفِيَّة فِي كتبهمْ وكما ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الْبَغَوِيّ وَغَيره من أَصْحَاب الشَّافِعِي عَن أهل السّنة وكما ذكره أَبُو إِسْحَاق ابْن شاقلا وَأَبُو عبد الله بن حَامِد وَالْقَاضِي أَبُو يعلى فِي آخِره قوليه وَابْنه أَبُو الْحُسَيْن وَغَيرهم من أَصْحَاب أَحْمد وَذكره أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الكلاباذي عَن الصُّوفِيَّة فِي كتاب التعرف فِي مَذَاهِب التصوف وَذكره من ذكره من أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة وَذهب إِلَيْهِ طوائف من أهل الْكَلَام من المرجئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 والشيعة والكرامية وَذهب إِلَيْهِ جمهول أهل الحَدِيث مقَالَة أهل السّنة فِي كَلَام الله وَالْمَقْصُود هُنَا أَن الْجَهْمِية من الْمُعْتَزلَة وَنَحْوهم الَّذين قَالُوا الْقُرْآن مَخْلُوق وَقد عرف مقالات السّلف فِي تكفيرهم وتضليلهم هم خير قولا من أَصْحَاب هَذَا القَوْل الْمَذْكُور فِي السُّؤَال الْقَائِلين إِذا فاض من مكنونات علمه على قلب أحد من النَّاس بأسرار إلاهيته ودقائق جبروت ربوبيته يُقَال مُتَكَلم فَإِن هَذَا قَول من لَا يَجْعَل لله كلَاما قَائِما بِهِ كَمَا يَقُوله الَّذين يَقُولُونَ إِنَّه خلق كلَاما بَائِنا مِنْهُ وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد كَلَام الله من الله لَيْسَ بَائِنا مِنْهُ وَالْقُرْآن الَّذِي أنزلهُ هُوَ كَلَامه لَا كَلَام غَيره إِذْ الْكَلَام كَلَام من قَالَه مبتدئا لَا كَلَام من قَالَه مبلغا مُؤديا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وَلِهَذَا قَالَ السّلف وَالْأَئِمَّة الْقُرْآن كَلَام الله منزل غير مَخْلُوق مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود فَقَوْلهم مِنْهُ بَدَأَ نبهوا بِهِ على مُخَالفَة الْجَهْمِية الَّذين قَالُوا إِنَّه خلقه فِي غَيره مُنْفَصِلا عَنهُ فَقَالَ أهل السّنة مِنْهُ بَدَأَ لم يبتدىء من غَيره من الموجودات كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإنَّك لتلقى الْقُرْآن من لدن حَكِيم عليم [سُورَة النَّمْل 6] وَقَالَ وَلَكِن حق القَوْل مني [سُورَة السَّجْدَة 13] وَقَالَ كتاب أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت من لدن حَكِيم خَبِير [سُورَة هود 1] وَلَا نجْعَل لله كلَاما مخلوقا فِي غَيره مُنْفَصِلا عَنهُ كَمَا قالته الْمُعْتَزلَة وَنَحْوهم من الْجَهْمِية فَإِن هَؤُلَاءِ وَإِن كَانَ قَوْلهم من أعظم القَوْل فريةوظلالا فَهُوَ أقل كفرا وضلالا من قَول أهل القَوْل الْمَسْئُول عَنهُ الْقَائِلين إِذا فاض من مَكْنُون علمه على قلب أحد من النَّاس فَإِن هَؤُلَاءِ لم يَجْعَلُوهُ متكلما إِلَّا بِمَا جعله فِي الْقُلُوب من الْعلم مقَالَة الفلاسفة فِي كَلَام الله وَهَذَا فِي الأَصْل قَول المتفلسفة والصابئة وَنَحْوهم الَّذين لَا يجْعَلُونَ لله كلَاما إِلَّا مَا أفاضه على قُلُوب الْعباد من الْعُلُوم والمعارف ويجعلون تكليمه للعباد نوع تَعْرِيف يعرفهُمْ بِهِ الْأُمُور وَيَقُولُونَ إِنَّه تتشكل فِي نفس الشَّيْء أشكال نورانية هِيَ مَلَائِكَة الله عِنْدهم وأصوات قَائِمَة بِنَفسِهِ هِيَ كَلَام الله عِنْدهم ويزعمون أَن تكليم الله لمُوسَى هُوَ من هَذَا الْبَاب إِنَّمَا هُوَ فيض فاض عَلَيْهِ من الْعقل الفعال أَو من غَيره وَقد يجْعَلُونَ الْعقل الفعال هُوَ جِبْرِيل وَلَيْسَ التكليم عِنْدهم مُخْتَصًّا بِأحد وَلكنه يفِيض بِحَسب استعداد النُّفُوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وعَلى قَوْلهم فَجَمِيع الْخلق يكلمهم تكليما كَمَا كلم مُوسَى وكل كَلَام صَادِق تكلم بِهِ ذُو نفس صَافِيَة فَهُوَ كَلَام الله كَمَا أَن الْقُرْآن كَلَام الله فَيلْزمهُ أَن كل مَا تكلم بِهِ الْأَنْبِيَاء فَمن دونهم من الْخَبَر الصَّادِق وَالْأَمر بِالْخَيرِ هُوَ كَلَام الله وَأَن ذَلِك كُله من نوع الْقُرْآن وَأَن يكون الْقُرْآن كَلَام الْبشر وَلَا فرق عِنْدهم بَين قَول الْبشر وَقَول الله بل يلْزمهُم أَن جَمِيع مَا يتَكَلَّم بِهِ الْبشر كَلَام الله من أجل أَن ذَلِك يفِيض على قُلُوب الْبشر حَتَّى الْكَذِب وَالْكفْر فَإِن جِهَة الْإِفَاضَة وَاحِدَة فِي الْجَمِيع وكل مَا يلْزم الْقَائِلين بِأَن الْقُرْآن مَخْلُوق يلْزم هَؤُلَاءِ وَزِيَادَة فَإِن أُولَئِكَ يجعلونه مخلوقا خَارِجا عَن نفس النَّبِي وَهَؤُلَاء لَا يجْعَلُونَ لَهُ محلا إِلَّا نفس النَّبِي مُتَابعَة الْغَزالِيّ للفلاسفة وَهَذَا القَوْل هُوَ قَول المتفلسفة وَوَقع فِيهِ طوائف من المنتسبين إِلَى الْملَل من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَمن المنتسبين إِلَى الْمُسلمين مِمَّن خلط الفلسفة بالتصوف مثل أهل الْكَلَام الْمَسْئُول عَنهُ وَأَمْثَاله وَمثل مَا وَقع لأبي حَامِد فِي كتاب المضنون بِهِ على غير أَهله الأول وَالثَّانِي وَنَحْو ذَلِك من المصنفات مثل مشكاة الْأَنْوَار ومسائل النفخ والتسوية وكيمياء السَّعَادَة وجواهر الْقُرْآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَمَا يُشِير إِلَيْهِ أَحْيَانًا فِي الْإِحْيَاء وَغَيره فَإِنَّهُ كثيرا مَا يَقع فِي كَلَامه مَا هُوَ مَأْخُوذ من كَلَام الفلاسفة ويخلطه بِكَلَام الصُّوفِيَّة أَو عباراتهم فَيَقَع فِيهِ كثير من المتصوفة الَّذين لَا يميزون بَين حَقِيقَة دين الْإِسْلَام وَبَين مَا يُخَالِفهُ من الفلسفة الْفَاسِدَة وَغَيرهَا لَا سِيمَا إِذا بني على ذَلِك وَاتَّبَعت لوازمه فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى قَول ابْن سبعين وَابْن عَرَبِيّ صَاحب الفصوص وأمثالهما مِمَّن يَقُول بِمثل هَذَا الْكَلَام وَحَقِيقَة مَذْهَبهم يؤول إِلَى التعطيل الْمَحْض وَأَنه لَيْسَ للْعَالم رب مباين لَهُ بل الْخَالِق هُوَ الْمَخْلُوق والمخلوق هُوَ الْخَالِق مقَالَة ابْن عَرَبِيّ فِي الفصوص كَمَا قَالَ صَاحب الفصوص وَمن أَسْمَائِهِ الْحسنى الْعلي على من وَمَا تمّ إِلَّا هُوَ أَو عَن مَاذَا وَمَا هُوَ إِلَّا هُوَ فَعَلُوهُ لنَفسِهِ وَهُوَ من حَيْثُ الْوُجُود عين الموجودات فالمسمى محدثات هِيَ الْعلية لذاتها وَلَيْسَت إِلَّا هُوَ إِلَى أَن قَالَ فَهُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن فَهُوَ عين مَا ظهر وَهُوَ عين مَا بطن فِي حَال ظُهُوره وَمَا ثمَّ من يرَاهُ غَيره وَمَا ثمَّ يبطن عَنهُ سواهُ فَهُوَ ظَاهر لنَفسِهِ بَاطِن عَنهُ وَهُوَ الْمُسَمّى أَبُو سعيد الخراز وَغير ذَلِك من أَسمَاء المحدثات إِلَى أَن قَالَ وَمن عرف مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأَعْدَاد وَأَن نَفيهَا عين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 إِثْبَاتهَا علم أَن الْأَمر الْخَالِق الْمَخْلُوق وَأَن الْأَمر الْمَخْلُوق الْخَالِق كل ذَلِك من عين وَاحِدَة لَا بل هُوَ الْعين الْوَاحِدَة وهوالعيون الْكَثِيرَة فَانْظُر مَاذَا ترى قَالَ يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر [سُورَة الصافات 102] فَالْوَلَد عين أَبِيه فَمَا رأى يذبح سوى نَفسه وفداه بِذبح عَظِيم فَظهر بِصُورَة كَبْش من ظهر بِصُورَة إِنْسَان وَظهر بِصُورَة ولد من هُوَ عين الْوَالِد وَخلق مِنْهَا زَوجهَا [سُورَة النِّسَاء 1] فَمَا نكح سوى نَفسه إِلَى أَن قَالَ فالعلي لنَفسِهِ هُوَ الَّذِي يكون لَهُ الْكَمَال الَّذِي يسْتَغْرق بِهِ جَمِيع الْأُمُور الوجودية وَالنّسب العدمية سَوَاء كَانَت محمودة عرفا وعقلا وَشرعا أَو مذمومة عرفا وعقلا وَشرعا وَلَيْسَ ذَلِك لأحد إِلَّا لمسمى الله خَاصَّة وَقَالَ أَلا ترى الْحق يظْهر بِصِفَات المحدثات وَأخْبر بذلك عَن نَفسه وبصفات النَّقْص والذم أَلا ترى الْمَخْلُوق يظْهر بِصِفَات الْحق من أَولهَا إِلَى آخرهَا فَكلهَا حق لَهُ كَمَا هِيَ صِفَات المحدثات حق للحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وَقَالَ أَيْضا ومكروا مكرا كبارًا [سُورَة نوح 22] لِأَن الدعْوَة إِلَى الله مكر بالمدعو لِأَنَّهُ مَا عدم إِلَى الْبِدَايَة فيدعى إِلَى الْغَايَة ادعوا إِلَى الله فَهَذَا عين الْمَكْر إِلَى أَن قَالَ فَقَالُوا فِي مَكْرهمْ لَا تذرن آلِهَتكُم وَلَا تذرن ودا [سُورَة نوح 23] فَإِنَّهُم لَو تركوهم تركُوا من الْحق على قدر مَا تركُوا من صِفَات هَؤُلَاءِ فَإِن للحق فِي كل معبود وَجها يعرفهُ من عرفه ويجهله من جَهله كَمَا قَالَ فِي المحمدين وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه [سُورَة الْإِسْرَاء 23] أَي حكم فالعالم يعلم من عبد وَفِي أَي صُورَة ظهر حَتَّى عبد وَأَن التَّفْرِيق وَالْكَثْرَة كالأعضاء فِي الصُّورَة المحسوسة وكالقوى المعنوية فِي الصُّورَة الروحانية فَمَا عبد غير الله فِي كل معبود وَقَالَ أَيْضا فَكَانَ مُوسَى أعلم بِالْأَمر من هَارُون لِأَنَّهُ علم مَا عَبده أَصْحَاب الْعجل لعلمنه بِأَن الله قد قضى أَلا يعبد إِلَّا إِيَّاه وَمَا حكم الله بِشَيْء إِلَّا وَقع فَكَانَ عيب مُوسَى أَخَاهُ هَارُون لما وَقع من إِنْكَاره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وَعدم اتساعه فَإِن الْعَارِف من يرى الْحق فِي كل شَيْء بل يرَاهُ عين كل شَيْء وَقَالَ أَيْضا وَلما كَانَ فِرْعَوْن فِي مرتبَة التحكم وَأَنه الْخَلِيفَة بِالسَّيْفِ وَإِن جَار فِي الْعرف الناموسي لذَلِك قَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى [سُورَة النازعات 24] أَي وَإِن كَانَ الْكل أَرْبَابًا بِنِسْبَة مَا فَأَنا الْأَعْلَى مِنْهُم بِمَا أَعْطيته فِي الظَّاهِر من الحكم فِيكُم وَلما علمت السَّحَرَة صدقه فِيمَا قَالَ لم ينكروه وأقروا لَهُ بذلك وَقَالُوا لَهُ إِنَّمَا تقضي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا فَاقْض مَا أَنْت قَاض فالدولة لَك فصح قَوْله أَنا ربكُم الْأَعْلَى إِلَى أَمْثَال ذَلِك من هَذَا الْكَلَام الَّذِي يُسَمِّيه أَصْحَاب مَذْهَب الْوحدَة وَيَقُولُونَ إِن الْوُجُود واحدكما يَقُوله ابْن عَرَبِيّ صَاحب الفتوحات وَابْن سبعين وَابْن الفارض والتلمساني وأمثالهم عَلَيْهِم من الله مَا يستحقونه فَإِنَّهُم لَا يجْعَلُونَ للخالق سُبْحَانَهُ وجودا مباينا لوُجُود الْمَخْلُوق وَهُوَ جَامع كل شَرّ فِي الْعَالم ومبدأ ضلالهم من حَيْثُ لم يثبتوا للخالق وجودا مباينا لوُجُود الْمَخْلُوق وهم يَأْخُذُونَ من كَلَام الفلاسفة شَيْئا وَمن الْكَلَام الْفساد من كَلَام المتصوفة والمتكلمين شَيْئا وَمن كَلَام القرامطة والباطنية شَيْئا فيطوفون على أَبْوَاب الْمذَاهب ويفوزون بأخس المطالب ويثنون على مَا يذكر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 تأثر الْغَزالِيّ بِإِخْوَان الصَّفَا وأمثالهم التصوف الْمَخْلُوط بالفسلفة كَمَا يُوجد فِي كَلَام أبي حَامِد وَنَحْوه مِمَّا هُوَ مَأْخُوذ من رسائل إخْوَان الصَّفَا وأمثالهم مِمَّن يُرِيد أَن يجمع بَين مَا جَاءَت بِهِ الْكتب الإلهية وَالرسل المبلغون عَن الله عز وجلّ وَمَا تَقوله الصابئة المتفلسفون فِي الْعلم الإلهي فَيذكرُونَ أَحَادِيث مَوْضُوعَة وَرُبمَا حرفوا لَفظهَا كَمَا يذكرُونَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أول مَا خلق الله الْعقل فَقَالَ لَهُ أقبل فَأقبل فَقَالَ لَهُ أدبر فَأَدْبَرَ فَقَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خلقت خلقا أكْرم عَليّ مِنْك فبك آخذ وَبِك أعطي وَبِك الثَّوَاب وَبِك الْعقَاب وَهَذَا الحَدِيث مَوْضُوع على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاتِّفَاق أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ وَلَفْظَة أول مَا خلق الله الْعقل قَالَ لَهُ أقبل فَأقبل وروى لما خلق الله الْعقل قَالَ لَهُ أقبل فَأقبل فَمَعْنَاه أَنه خاطبه فِي أول أَوْقَات خلقه فغيروا لَفظه وَقَالُوا أول مَا خلق الله الْعقل ليُوَافق ذَلِك مَذْهَب الْمَشَّائِينَ من المتفلسفين أَتبَاع أرسطو الْقَائِلين أول الصادرات عَنهُ الْعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَقد بسطنا الْكَلَام فِي بَيَان فَسَاد ذَلِك شرعا وعقلا وَبينا أَن بَين هَؤُلَاءِ وَبَين الرُّسُل من المباينة أعظم مِمَّا بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَبَين الْمُسلمين وَأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِذا لم يتفلسفوا كَانُوا أقرب إِلَى الْحق من هَؤُلَاءِ فَإِن تفلسف الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ كَانَ كفره من جِهَتَيْنِ وَهَذِه الْكتب المضافة إِلَى أبي حَامِد مثل الْكِتَابَيْنِ المضنون بهما على غير أهلهما وأمثالهما مَا زَالَ أَئِمَّة الدَّين يُنكرُونَ مَا فيهمَا من الْبَاطِل الْمُخَالف للْكتاب وَالسّنة ثمَّ من النَّاس من يكذب نِسْبَة هَذِه الْكتب إِلَيْهِ وَمِنْهُم من يَقُول وَهُوَ أشبه رَجَعَ عَن ذَلِك كَمَا ذكر فِي كتب أُخْرَى ذمّ الفلاسفة وتكفيرهم وَذكر عبد الغافر الْفَارِسِي فِي تَارِيخ نيسابور أَنه اسْتَقر أمره على مطالعة البُخَارِيّ وَمُسلم فَكَانَ آخر أمره الرُّجُوع إِلَى الحَدِيث وَالسّنة وَالله أعلم كَلَام الْغَزالِيّ فِي كتاب المضنون فَهَذَا الْكَلَام الْمَذْكُور فِي السُّؤَال يُوجد نَحوه فِي مثل هَذِه الْكتب الَّتِي يَجْعَلهَا أَهلهَا من كتب الْحَقَائِق والأسرار كَمَا قَالَ صَاحب كتاب المضنون فصل يتخيل بعض النَّاس كَثْرَة فِي ذَات الله تَعَالَى من طَرِيق تعدد الصِّفَات وَقد صَحَّ قَول من قَالَ فِي الصِّفَات لَا هِيَ هُوَ وَلَا غَيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَهَذَا التخيل يَقع من توهم التغاير وَلَا تغاير فِي الصِّفَات مِثَال ذَلِك أَن إنْسَانا تعلم صُورَة الْكِتَابَة وَله علم بِصُورَة بِسم الله الَّتِي تظهر تِلْكَ الصُّورَة على القرطاس وَهَذِه صفة وَاحِدَة وكمالها أَن يكون الْمَعْلُوم تبعا لَهَا فَإِنَّهُ إِذا حصل الْعلم بِتِلْكَ الْكِتَابَة ظَهرت الصُّورَة على القرطاس بِلَا حَرَكَة يَد وواسطة قلم ومداد فَهَذِهِ الصّفة من حَيْثُ إِن الْمَعْلُوم انْكَشَفَ بهَا يُقَال لَهُ علم وَمن حَيْثُ إِن الْأَلْفَاظ تدل عَلَيْهَا يُقَال لَهَا كَلَام فَإِن الْكَلَام عبارَة عَن مَدْلُول الْعبارَات وَمن حَيْثُ إِن وجود الْمَعْلُوم تبع لَهَا يُقَال لَهَا الْقُدْرَة وَلَا تغاير هَهُنَا بَين الْعلم وَالْقُدْرَة وَالْكَلَام فَإِن هَذِه صفة وَاحِدَة فِي نَفسهَا وَلَا تكون هَذِه الإعتبارات الثَّلَاث وَاحِدَة وكل من كَانَ أَعور لَا ينظر إِلَّا بِالْعينِ العوراء وَلَا يرى إِلَّا مُطلق الصّفة فَيَقُول هُوَ هُوَ وَإِذا الْتفت إِلَى الإعتبارات الثَّلَاث يُقَال هِيَ غَيره وَمن اعْتبر مُطلق الصّفة مَعَ الإعتبارات فقد نظر بعينين صحيحتين اعْتقد أَنَّهَا لَا هُوَ وَلَا غَيره وَالْكَلَام فِي صِفَات الله تَعَالَى وَإِن كَانَ مناسبا لهَذَا الْمِثَال فَإِنَّهُ مباين لَهُ بِوَجْه آخر وتفهيم هَذِه الْمعَانِي بِالْكِتَابَةِ غير يسير فَهَذَا الْكَلَام من جنس الْكَلَام الْمَذْكُور فِي السُّؤَال وَكِلَاهُمَا يرجع إِلَى مَا تزعمه المتفلسفة من أَن الصِّفَات ترجع إِلَى الْعلم إِذا أثبتوه مقَالَة ابْن حزم وَقد يقرب من هَؤُلَاءِ ابْن حزم حَيْثُ رد الْكَلَام والسمع وَالْبَصَر وَغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ذَلِك إِلَى الْعلم مَعَ أَنه لَا يثبت صفة لله هِيَ الْعلم وَيجْعَل أسماءه الْحسنى إِنَّمَا هِيَ أَعْلَام مَحْضَة فالحي والعالم والقادر والسميع والبصير وَنَحْوه كلهَا أَسمَاء أَعْلَام لَا تدل على الْحَيَاة وَالْعلم وَالْقُدْرَة الرَّد على النفاة وَهَذَا يؤول إِلَى قَول القرامطة الباطنية وَنَحْوهم نفاة أَسمَاء الله تَعَالَى الَّذين يَقُولُونَ لَا يُقَال حَيّ وَلَا عَالم وَلَا قَادر وَهَذَا كُله من الْإِلْحَاد فِي أَسمَاء الله وآياته قَالَ تَعَالَى وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ [سُورَة الْأَعْرَاف 180] وَإِذا كَانَ من الْإِلْحَاد إِنْكَار اسْمه الرَّحْمَن كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذا قيل لَهُم اسجدوا للرحمن قَالُوا وَمَا الرَّحْمَن [سُورَة الْفرْقَان 60] وَقَالَ قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن أَيَّامًا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى [سُورَة الْإِسْرَاء 110] وَقَالَ تَعَالَى وهم يكفرون بالرحمن قل هُوَ رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ متاب [سُورَة الرَّعْد 30] إِلَى غير ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فَإِذا كَانَ اسْمه الرَّحْمَن قد أنزل فِيهِ مَا انْزِلْ فَكيف إِنْكَار سَائِر الْأَسْمَاء وَمَعْلُوم أَن اللَّفْظ إِذا كَانَ علما مَحْضا لم يُنكره أحد وَلَو كَانَت أعلاما لم يفرق بَين الرَّحْمَن والعليم والقدير الرَّد على الْغَزالِيّ وَمَا ذكره صَاحب كتاب المضنون مَعَ المتفلسفة من أَن الْعلم بالممكنات هُوَ الْمُقْتَضى لوجودها مَعْلُوم الْبطلَان بِأَدْنَى تَأمل فَإِن الْعلم نَوْعَانِ علم نَظَرِي وَعلم عَمَلي فَأَما النظري وَهُوَ الْعلم بِمَا لَا يَفْعَله الْعَالم كعلم الله بِنَفسِهِ وكعلمنا بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر فَهَذَا لَيْسَ مقتضيا لوُجُود الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ واتفاق الْعُقَلَاء وَإِن كَانَ قد يكون سَببا لبَعض الْأَعْمَال وَأما الْعلم العملي كعلم الله بمخلوقاته وكعلمنا بمفعولاتنا فَهَذَا الْعلم وَحده لَيْسَ مُوجبا لوُجُود الْمَعْلُوم بِلَا قدرَة وَلَا إِرَادَة وَعمل فَإنَّا إِذا تصورنا مَا نُرِيد فعله لم يكن مُجَرّد تصورنا مَا نُرِيد وَلم نقدر عَلَيْهِ لم يكن وَإِذا كُنَّا قَادِرين على مَا نتصوره وَلَا نريده لم يكن بل لَا بُد علمنَا بِهِ وإرادتنا لَهُ وقدرتنا عَلَيْهِ فَلَو قَالَ قَائِل علم الله لَيْسَ كعلمنا قيل لَهُ وَذَات الله لَيست كذاتنا وَلَا قدرته وإرادته كقدرتنا وإرادتنا وَهَذَا السُّؤَال قد بسط الشَّيْخ الْكَلَام عَلَيْهِ وَقد اختصر مِنْهُ وَقَالَ فِي وسط الْكَلَام على هَذَا السُّؤَال إِثْبَات ابْن تَيْمِية وَأهل السّنة الْمَاهِيّة لله تَعَالَى بل لكل مَوْجُود حَقِيقَة تخصه يتَمَيَّز بهَا عَمَّا سَوَاء ويباين بهَا غَيره وَهَذِه الْحَقِيقَة هِيَ حَقِيقَة الربوبية وبنفيها ضل الْجَهْمِية من الْمُعْتَزلَة والفلاسفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 والقرامطة والإتحادية وأمثالهم وَهِي الْمَاهِيّة الَّتِي أثبتها ضرار وَأَبُو حنيفَة وَغَيرهمَا من الْكُوفِيّين وَخَالفهُم فِي ذَلِك معتزلة الْبَصْرَة وعَلى إِثْبَاتهَا أَئِمَّة السّنة وَالْجَمَاعَة من السّلف وَالْخلف وَلِهَذَا ينفون الْعلم بماهيه الله وكيفيته فَيَقُولُونَ لَا تجْرِي ماهيته فِي مقَال وَلَا تخطر كيفيته ببال وَمن نفاها من المنتسبين إِلَى السّنة وَغَيرهم قَالَ لَيْسَ لَهُ مَاهِيَّة فتجري فِي مقَال وَلَا لَهُ كيفيه فتخطر ببال وَالْأول هُوَ الْمَأْثُور عَن السّلف وَالْأَئِمَّة كَمَا قد بسط الْكَلَام عَلَيْهِ فِي غير هَذَا الْموضع وَيدل عَلَيْهِ صَرِيح الْمَعْقُول وصحيح الْمَنْقُول وَالله سُبْحَانَهُ أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 رِسَالَة فِي تَحْقِيق مَسْأَلَة علم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله فصل فِي مَسْأَلَة الْعلم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال: النَّاس المنتسبون إِلَى الْإِسْلَام فِي علم الله بِاعْتِبَار تعلقه بالمستقبل على ثَلَاثَة أَقْوَال الأول أَحدهَا أَنه يعلم المستقبلات بِعلم قديم لَازم لذاته وَلَا يَتَجَدَّد لَهُ عِنْد وجود المعلومات نعت وَلَا صفة وَإِنَّمَا يَتَجَدَّد مُجَرّد التَّعَلُّق بَين الْعلم والمعلوم وَهَذَا قَول طَائِفَة من الصفاتية من الْكلابِيَّة والأشعرية وَمن وافقهم من الْفُقَهَاء والصوفية وَأهل الحَدِيث من أَصْحَاب أَحْمد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وَهُوَ قَول طوائف من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم من نفاة الصِّفَات لَكِن هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ يعلم المستقبلات ويتجدد التَّعَلُّق بَين الْعَالم والمعلوم لَا بَين الْعلم والمعلوم وَقد تنَازع الْأَولونَ هَل لَهُ علم وَاحِد أَو عُلُوم مُتعَدِّدَة على قَوْلَيْنِ وَالْأول قَول الْأَشْعَرِيّ وَأكْثر أَصْحَابه وَالْقَاضِي أبي يعلى وَأَتْبَاعه وَنَحْو هَؤُلَاءِ وَالثَّانِي قَول أبي سهل الصعلوكي الثَّانِي وَالْقَوْل الثَّانِي أَنه لَا يعلم المحدثات إِلَّا بعد حدوثها وَهَذَا أصل قَول الْقَدَرِيَّة الَّذين يَقُولُونَ لم يعلم أَفعَال الْعباد إِلَّا بعد وجودهَا وَأَن الْأَمر أنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 لم يسْبق الْقدر بشقاوة وَلَا سَعَادَة وهم غلاة الْقَدَرِيَّة الَّذين حدثوا فِي زمَان ابْن عمر وتبرأ مِنْهُم وَقد نَص الْأَئِمَّة كمالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد على تَكْفِير قَائِل هَذِه الْمقَالة لَكِن الْقَدَرِيَّة صَرَّحُوا بِنَفْي الْعلم السَّابِق وَالْقدر الْمَاضِي فِي أَفعَال الْعباد الْمَأْمُور بهَا والمنهي عَنْهَا وَمَا يتَعَلَّق بذلك من الشقاوة والسعادة ثمَّ مِنْهُم من اقْتصر على نفي الْعلم بذلك خَاصَّة وَقَالَ إِنَّه قدر الْحَوَادِث وَعلمهَا إِلَّا هَذَا لِأَن الْأَمر وَالنَّهْي مَعَ هَذَا الْعلم يتناقض عِنْده بِخِلَاف مَا لَا أَمر فِيهِ وَلَا نهي وَمِنْهُم من قَالَ ذَلِك فِي عُمُوم المقدرات وَقد حكى نَحْو هَذَا القَوْل عَن عَمْرو بن عبيد وَأَمْثَاله وَقد قيل إِنَّه رَجَعَ عَن ذَلِك قبل إِنْكَاره لِأَن كَون تبت يدا أبي لَهب وَتب [سُورَة المسد 1] وذَرْنِي وَمن خلقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وحيدا [سُورَة المدثر 11] وَنَحْو ذَلِك فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وأمثال ذَلِك الثَّالِث وَالْقَوْل الثَّالِث أَنه يعلمهَا قبل حدوثها وَيعلمهَا بِعلم آخر حِين وجودهَا وَهَذَا قد حَكَاهُ المتكلمون كَأبي الْمَعَالِي عَن جهم فَقَالُوا إِنَّه ذهب إِلَى إِثْبَات عُلُوم حَادِثَة لله تَعَالَى وَقَالَ البارىء عَالم لنَفسِهِ وَقد كَانَ فِي الْأَزَل عَالما بِنَفسِهِ وَبِمَا سَيكون فَإِذا خلق الْعَالم وتجددت المعلومات أحدث لنَفسِهِ علوما بهَا يعلم المعلومات الْحَادِثَة ثمَّ الْعُلُوم تتعاقب حسب تعاقب المعلومات فِي وُقُوعهَا مُتَقَدّمَة عَلَيْهَا أَي الْعُلُوم مُتَقَدّمَة على الْحَوَادِث وَذكروا أَنه قَالَ إِنَّهَا فِي غير مَحل نَظِير مَا قَالَت الْمُعْتَزلَة البصرية فِي الْإِرَادَة وَهَذَا القَوْل وَإِن كَانَ قد احْتج عَلَيْهِ بِمَا فِي الْقُرْآن من قَوْله ليعلم فَتلك النُّصُوص لَا تدل على هَذَا القَوْل فَإِن هَذَا القَوْل مَضْمُونَة تجدّد علم قبل الْحُدُوث وَالَّذِي فِي الْقُرْآن إِنَّمَا ذكرُوا دلَالَته على مَا بعد الْوُجُود وَهَذَا قَولَانِ متغايران وَإِنَّمَا يحْتَج عَلَيْهِ بِمثل قَوْله فِي حَدِيث أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أَن يبتليهم وَلَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 هَذَا بداء يُخَالف الْعلم الْقَدِيم كَمَا قَالَه بعض غلاة الرافضة وَكَذَلِكَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ قَالَ بِإِثْبَات عُلُوم متجددة فِي ذَات الله بِحَسب تجدّد المعلومات وَكَذَلِكَ أَبُو البركات صَاحب الْمُعْتَبر الإِمَام فِي الفلسفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قَالَ بتجدد عُلُوم وإرادات لَهُ وَذكر أَن إلهيته لهَذَا الْعَالم لَا تصح إِلَّا مَعَ هَذَا القَوْل وَكَذَلِكَ أَبُو عبد الله الرَّازِيّ يمِيل إِلَى هَذَا القَوْل فِي المطالب الْعَالِيَة وَغَيرهَا وَأما السّمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام فقد ذكر الْحَارِث المحاسبي عَن أهل السّنة فِي تجدّد ذَلِك عِنْد وجود المسموع المرئي قَوْلَيْنِ وَالْقَوْل بسمع وبصر قديم يتَعَلَّق بهَا عِنْد وجودهَا قَول ابْن كلاب وَأَتْبَاعه والأشعري وَالْقَوْل بتجدد الْإِدْرَاك مَعَ قدم الصّفة قَول طوائف كَثِيرَة كالكرامية وَطَوَائِف سواهُم وَالْقَوْل بِثُبُوت الْإِدْرَاك قبل حدوثها وَبعد وجودهَا قَول السالمية كَأبي الْحسن بن سَالم وَأبي طَالب الْمَكِّيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 والطوائف الثَّلَاثَة تنتسب إِلَى أَئِمَّة السّنة كَالْإِمَامِ أَحْمد وَفِي أَصْحَابه من قَالَ بِالْأولِ وَمِنْهُم من قَالَ بِالثَّانِي والسالمية تنتسب إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْإِرَادَة والمشيئة فِيهَا للصفاتية ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا أَنَّهَا لَيست إِلَّا قديمَة وَهُوَ قَول ابْن كلاب والأشعري وأتباعهما الثَّانِي أَنَّهَا لَيست إِلَّا حَادِثَة وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين قَول الْمُعْتَزلَة البصرية أَن الْمُعْتَزلَة يَقُولُونَ بحدوثها لَا فِي مَحل لِامْتِنَاع كَونه محلا للحوادث عِنْدهم وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ تقوم بِذَاتِهِ كَمَا يقوم الْكَلَام بِذَاتِهِ وَالثَّالِث أَنَّهَا قديمَة وحادثة وَهُوَ قَول طوائف من الكرامية وَأهل الحَدِيث والصوفية وَغَيرهم وَكَذَلِكَ يَقُول هَؤُلَاءِ إِنَّه يُوصف بِأَنَّهُ مُتَكَلم فِي الْأَزَل وَأَنه يتَكَلَّم إِذا شَاءَ كَمَا صرح بذلك الْأَئِمَّة كَالْإِمَامِ أَحْمد وَغَيره لَكِن فِي تَحْقِيق ذَلِك نزاع بَين الْمُتَأَخِّرين فَقيل الْقَدِيم هُوَ الْقُدْرَة على الْكَلَام كَمَا قَالَت الكرامية وَقيل بل الْقَوْلَانِ متضادان كَمَا ذكر أَبُو بكر عبد الْعَزِيز وَعبد الله بن حَامِد عَن أَصْحَاب أَحْمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فَأَما إِثْبَات علمه وَتَقْدِيره للحوادث قبل كَونهَا فَفِي الْقُرْآن والْحَدِيث والْآثَار مَا لَا يكَاد يحصر بل كل مَا أخبر الله بِهِ قبل كَونه فقد علمه قبل كَونه وَهُوَ سُبْحَانَهُ يعلم مَا كَانَ وَمَا يكون وَمَا لم يكن لَو كَانَ كَيفَ يكون وَقد أخبر بذلك والنزاع فِي هَذَا مَعَ غلاة الْقَدَرِيَّة وَنَحْوهم وَأما الْمُسْتَقْبل فَمثل قَوْله وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ [سورةالبقرة 242] وَقَوله أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة الْآيَة [سُورَة الْبَقَرَة 214] آل عمرَان 142 وَقَوله أم حسبتم أَن تتركوا وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم الْآيَة [سُورَة التَّوْبَة 16] وَقَوله فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين [سُورَة العنكبوت 3] وَقَوله فليعلمن الله الَّذين آمنُوا وليعلمن الْمُنَافِقين [سُورَة العنكبوت 11] وَقَوله ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ ونبلو أخباركم [سُورَة مُحَمَّد 31] آخِره وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 رِسَالَة فِي الْجَواب عَن سُؤال عَن الحلاّج هَل كَانَ صدّيقًا أَو زنديقًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 نَص السُّؤَال: مَا يَقُول السَّادة الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم فِي الحلاج الْحُسَيْن بن مَنْصُور: هَل كَانَ صدّيقًا أَو زنديقًا؟ وَهل كَانَ وليا لله متقيًا لَهُ، أم كَانَ لَهُ حَال رحماني، أَو من أهل السحر والخزعبلات؟ وَهل قتل على الزندقة بِمحضر من عُلَمَاء الْمُسلمين، أَو قتل مَظْلُوما؟ أفتونا مَأْجُورِينَ. الْجَواب: فَأجَاب شيخ الْإِسْلَام أَبُو الْعَبَّاس تَقِيّ الدَّين أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن تَيْمِية، قدس الله روحه. الْحَمد لله رب الْعَالمين. الحلاج كَانَ زنديقًا: الحلاج قتل على الزندقة، الَّتِي ثبتَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَبِغير إِقْرَاره، وَالْأَمر الَّذِي ثَبت عَلَيْهِ مِمَّا يُوجب الْقَتْل بِاتِّفَاق الْمُسلمين، وَمن قَالَ: إِنَّه قتل بِغَيْر حق فَهُوَ إِمَّا مُنَافِق ملحد، وَإِمَّا جَاهِل ضال. وَالَّذِي قتل بِهِ مَا استفاض عَنهُ من أَنْوَاع الْكفْر، وَبَعضه يُوجب قَتله، فضلا عَن جَمِيعه. وَلم يكن من أَوْلِيَاء الله الْمُتَّقِينَ، بل كَانَ لَهُ عبادات ورياضات ومجاهدات، بَعْضهَا شيطاني، وَبَعضهَا نفساني، وَبَعضهَا مُوَافق للشريعة من وَجه دون وَجه، فَلبس الْحق بِالْبَاطِلِ. بعض أَخْبَار الحلاج: وَكَانَ قد ذهب إِلَى بِلَاد الْهِنْد، وَتعلم أنواعاً من السحر، وصنف كتابا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فِي السحر مَعْرُوفا، وَهُوَ مَوْجُود إِلَى الْيَوْم، وَكَانَت لَهُ أَقْوَال شيطانية، ومخاريق بهتانية. وَقد جمع الْعلمَاء أخباره فِي كتب كَثِيرَة أرّخوها، الَّذين كَانُوا فِي زَمَنه، وَالَّذين نقلوا عَنْهُم مثل ابْن عَليّ الخُطَبِي ذكره فِي "تَارِيخ بَغْدَاد"، والحافظ أَبُو بكر الْخَطِيب ذكر لَهُ تَرْجَمَة كَبِيرَة فِي "تَارِيخ بَغْدَاد"، وَأَبُو يُوسُف الْقزْوِينِي صنّف مجلدًا فِي أخباره، وَأَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ لَهُ فِيهِ مُصَنف سَمَّاهُ "رفع اللّجاج فِي أَخْبَار الحلاّج"، وَبسط ذكره فِي تَارِيخه. وَذكر أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ فِي "طَبَقَات الصُّوفِيَّة" أَن كثيرا من الْمَشَايِخ ذموه وأنكروا عَلَيْهِ وَلم يعدّوه من مَشَايِخ الطَّرِيق وَأَكْثَرهم حط عَلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَمِمَّنْ ذمه وحطّ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِم الجُنَيْد، وَلم يقتل فِي حَيَاة الْجُنَيْد، بل قتل بعد موت الْجُنَيْد، فَإِن الْجُنَيْد توفّي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ والحلاج قتل سنة بضع وثلاثمائة. وَقدمُوا بِهِ إِلَى بَغْدَاد رَاكِبًا عَليّ جمل يُنادى عَلَيْهِ: هَذَا دَاعِي القرامطة، وَأقَام فِي الْحَبْس مُدَّة حَتَّى وُجد من كَلَامه الْكفْر والزندقة واعترف بِهِ، مثل أَنه ذكر فِي كتاب لَهُ: من فَاتَهُ الْحَج فَإِنَّهُ يَبْنِي فِي دَاره بَيْتا وَيَطوف بِهِ، كَمَا يُتَطوف بِالْبَيْتِ، وَيتَصَدَّق على ثَلَاثِينَ يَتِيما بِصَدقَة ذكرهَا، وَقد أَجزَأَهُ ذَلِك عَن الْحَج. فَقَالُوا لَهُ: أَنْت قلت هَذَا؟ قَالَ: نعم. فَقَالُوا لَهُ: وَمن أَيْن لَك هَذَا؟ قَالَ: ذكره الْحسن الْبَصْرِيّ فِي كتاب "الصَّلَاة". فَقَالَ لَهُ القَاضِي أَبُو عمر: تكذب يازنديق، أَنا قَرَأت هَذَا الْكتاب وَلَيْسَ هَذَا فِيهِ. فَطلب مِنْهُم الْوَزير أَن يشْهدُوا بِمَا سَمِعُوهُ، ويفتوا بِمَا يجب عَلَيْهِ، فاتفقوا على وجوب قَتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 لَكِن الْعلمَاء لَهُم قَولَانِ فِي الزنديق إِذا أظهر التَّوْبَة، هَل تقبل تَوْبَته فَلَا يقتل، أم يقتل لِأَنَّهُ لَا يُعلم صدقه، فَإِنَّهُ مازال يظْهر ذَلِك؟ فَأفْتى طَائِفَة بِأَنَّهُ يُسْتَتَاب فَلَا يقتل، وَأفْتى الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ يقتل وَإِن أظهر التَّوْبَة، فَإِن كَانَ صَادِقا فِي تَوْبَته نَفعه ذَلِك عِنْد الله وَقتل فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ الْحَد تَطْهِيرا لَهُ، كَمَا لَو تَابَ الزَّانِي وَالسَّارِق وَنَحْوهمَا بعد أَن يرفعوا إِلَى الإِمَام، فَإِنَّهُ لابد من إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِم، فَإِنَّهُم إِن كَانُوا صَادِقين كَانَ قَتلهمْ كَفَّارَة لَهُم، وَمن كَانَ كَاذِبًا فِي التَّوْبَة كَانَ قَتله عُقُوبَة لَهُ. فَإِن كَانَ الحلاج وَقت قَتله تَابَ فِي الْبَاطِن فَإِن الله يَنْفَعهُ بِتِلْكَ التَّوْبَة، وَإِن كَانَ كَاذِبًا فَإِنَّهُ قتل كَافِرًا، وَلما قُتل لم يظْهر لَهُ وَقت الْقَتْل شَيْء من الكرامات، وكل من ذكر أَن دَمه كتب على الأَرْض اسْم الله، أَو أَن دجلة انْقَطع مَاؤُهَا، أَو غير ذَلِك، فَإِنَّهُ كَاذِب، وَهَذِه الْأُمُور لَا يحكيها إِلَّا جَاهِل أَو مُنَافِق، وَإِنَّمَا وَضعهَا الزَّنَادِقَة وأعداء الْإِسْلَام، حَتَّى يَقُول قَائِلهمْ: إِن شرع مُحَمَّد بن عبد الله يقتل أَوْلِيَاء الله حِين يسمعُونَ أَمْثَال هَذِه الهذيانات، وَإِلَّا فقد قتل أَنْبيَاء كَثِيرُونَ وَقتل من أَصْحَابهم وَأَصْحَاب نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم من الصَّالِحين من لَا يحصي عَددهمْ إِلَّا الله، قتلوا بسيوف الْفجار وَالْكفَّار والظلمة وَغَيرهم وَلم يكْتب دم أحدهم اسْم الله، وَالدَّم أَيْضا نجس فَلَا يجوز أَن يكْتب اسْم الله تَعَالَى؛ فَهَل الحلاج خير من هَؤُلَاءِ، وَدَمه أطهر من دِمَائِهِمْ؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وَقد جزع وَقت الْقَتْل، وَأظْهر التَّوْبَة وَالسّنة فَلم يُقبل ذَلِك مِنْهُ، وَلَو عَاشَ افْتتن بِهِ كثير من الْجُهَّال، لِأَنَّهُ كَانَ صَاحب خزعبلات بُهتانية، وأحوال شيطانية، وَلِهَذَا إِنَّمَا يعظمه من يعظم الْأَحْوَال الشيطانية، والنفسانية، والبهتانية. وَأما أَوْلِيَاء الله الْعَالمُونَ بِحَال الحلاج فَلَيْسَ مِنْهُم وَاحِد يعظمه، وَلِهَذَا لم يذكرهُ الْقشيرِي فِي مَشَايِخ رسَالَته، وَإِن كَانَ قد ذكر من كَلَامه كَلِمَات استحسنها. وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو يَعْقُوب النهرجوري قد زوّجه بابنته فَلَمَّا اطّلع على زندقته نَزعهَا مِنْهُ. وَكَانَ عَمْرو بن عُثْمَان يذكر أَنه كَافِر، وَيَقُول: كنت مَعَه فَسمع قَارِئًا يقْرَأ الْقُرْآن، فَقَالَ: أقدر أَن أصنِّف مثل هَذَا الْقُرْآن، أَو نَحْو هَذَا الْكَلَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وَكَانَ يظْهر عِنْد كل قوم مَا يستجلبهم بِهِ إِلَى تَعْظِيمه، فَيظْهر عِنْد أهل السّنة أَنه سني، وَعند أهل الشِّيعَة أَنه شيعي، ويلبس لِبَاس الزهاد تَارَة، ولباس الأجناد تَارَة. وَكَانَ من مخاريقه أَنه يبْعَث بعض أَصْحَابه إِلَى مَكَان فِي الْبَريَّة يخبأ فِيهِ شَيْئا من الْفَاكِهَة والحلوى، ثمَّ يَجِيء بِجَمَاعَة من أهل الدُّنْيَا إِلَى قريب من ذَلِك الْمَكَان فَيَقُول لَهُم: مَا تشتهون أَن آتيكم بِهِ من هَذِه الْبَريَّة؟ فيشتهي أحدهم فَاكِهَة أَو حلاوة، فَيَقُول: امكثوا. ثمَّ يذهب إِلَى ذَلِك الْمَكَان وَيَأْتِي بِمَا خبئ أَو بِبَعْضِه، فيظن الْحَاضِرُونَ أَن هَذِه كَرَامَة لَهُ. وَكَانَ صَاحب سيمياء وشياطين تخدمه أَحْيَانًا، كَانُوا مَعَه على جبل أبي قُبَيْس فطلبوا مِنْهُ حلاوة، فَذهب إِلَى مَكَان قريب مِنْهُم وَجَاء بِصَحْنِ حلوى، فكشفوا الْأَمر فوجدوا ذَلِك قد سرق من دكان حلاوي بِالْيمن، حمله شَيْطَان من تِلْكَ الْبقْعَة. أَخْبَار أُخْرَى عَن بعض أَصْحَاب الْأَحْوَال الشيطانية: وَمثل هَذَا يحدث كثيرا لغير الحلاج مِمَّن لَهُ حَال شيطاني، وَنحن نَعْرِف كثيرا من هَؤُلَاءِ فِي زَمَاننَا وَغير زَمَاننَا، مثل شخص هُوَ الْآن بِدِمَشْق كَانَ الشَّيْطَان يحملهُ من جبل الصالحية إِلَى قَرْيَة حول دمشق، فَيَجِيء من الْهَوَاء إِلَى طَاقَة الْبَيْت الَّذِي فِيهِ النَّاس فَيدْخل وهم يرونه، وَيَجِيء بِاللَّيْلِ إِلَى (بَاب الصَّغِير) فيعبر مِنْهُ هُوَ ورفيقه، وَهُوَ من أفجر النَّاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وَآخر كَانَ بالشَّوْبَك من قَرْيَة يُقَال لَهَا (الشاهدة) يطير فِي الْهَوَاء إِلَى رَأس الْجَبَل وَالنَّاس يرونه، وَكَانَ شَيْطَانه يحملهُ، وَكَانَ يقطع الطَّرِيق؛ وَأَكْثَرهم شُيُوخ الشَّرّ، يُقَال لأَحَدهم البَوْشي أبي الْمُجيب ينصبون لَهُ خركاه فِي لَيْلَة مظْلمَة ويصنعون خبْزًا على سَبِيل القربات، فَلَا يذكرُونَ الله وَلَا يكون عِنْدهم من يذكر الله وَلَا كتاب فِيهِ ذكر الله، ثمَّ يصعد ذَلِك البَوْشي فِي الْهَوَاء وهم يرونه ويسمعون خطابه للشَّيْطَان وخطاب الشَّيْطَان لَهُ، وَمن ضحك أَو سرق من الْخبز ضربه الدُّف وَلَا يرَوْنَ من يضْرب بِهِ. ثمَّ إِن الشَّيْطَان يُخْبِرهُمْ بِبَعْض مَا يسألونه عَنهُ، وَيَأْمُرهُمْ بِأَن يقربُوا لَهُ بقرًا وخيلاً وَغير ذَلِك، وَأَن يخنقوها خنقًا وَلَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا، فَإِذا فعلوا قضى حَاجتهم. وَشَيخ آخر أَخْبرنِي نَفسه أَنه كَانَ يَزْنِي بِالنسَاء ويتلوط بالصبيان الَّذين يُقَال لَهُم "الحوارات"، وَكَانَ يَقُول: يأتيني كلب أسود بَين عَيْنَيْهِ نكتتان بيضاوان، فَيَقُول لي: فلَان ابْن فلَان نذر لَك نذرا وَغدا نَأْتِيك بِهِ، وَأَنا قضيت حَاجته لِأَجلِك، فَيُصْبِح ذَلِك الشَّخْص يَأْتِيهِ بذلك النّذر، ويكاشفه هَذَا الشَّيْخ الْكَافِر. قَالَ: وَكنت إِذا طُلب مني تَغْيِير مثل اللاَّذَن أَقُول حَتَّى أغيب عَن عَقْلِي وَإِذ باللاذن فِي يَدي أَو فِي فمي، وَأَنا لَا أَدْرِي من وَضعه. قَالَ: وَكنت أَمْشِي وَبَين يَدي عَمُود أسود عَلَيْهِ نور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فَلَمَّا تَابَ هَذَا الشَّيْخ وَصَارَ يُصَلِّي ويصوم ويجتنب الْمَحَارِم ذهب الْكَلْب الْأسود وَذهب التَّغْيِير فَلَا يَأْتِي بلاذن وَلَا غَيره. وَشَيخ آخر كَانَ لَهُ شياطين يرسلهم يصرعون بعض النَّاس، فَيَأْتِي أهل ذَلِك المصروع إِلَى الشَّيْخ يطْلبُونَ مِنْهُ إبراءه، فَيُرْسل إِلَى أَتْبَاعه فيفارقون ذَلِك المصروع، ويعطون ذَلِك الشَّيْخ دَرَاهِم كَثِيرَة. وَكَانَ أَحْيَانًا تَأتيه الْجِنّ بِدَرَاهِم وَطَعَام تسرقه من النَّاس، حَتَّى أَن بعض النَّاس كَانَ لَهُ تين فِي كوارة فيطلب الشَّيْخ من شياطينه تينًا فيحضرونه لَهُ، فيطلب أَصْحَاب الكوارة التِّين فوجدوه قد ذهب. وَآخر كَانَ مشتغلاً بِالْعلمِ وَالْقِرَاءَة فَجَاءَتْهُ الشَّيَاطِين أغوته وَقَالُوا لَهُ: نَحن نسقط عَنْك الصَّلَاة ونحضر لَك مَا تُرِيدُ. فَكَانُوا يأتونه بالحلوى أَو الْفَاكِهَة، حَتَّى حضر عِنْد بعض الشُّيُوخ العارفين بِالسنةِ فاستتابه، وَأعْطى أهل الْحَلَاوَة ثمن حلاوتهم الَّتِي أكلهَا ذَلِك الْمفْتُون بالشيطان. فَكل من خرج عَن الْكتاب وَالسّنة وَكَانَ لَهُ حَال من مكاشفة أَو تَأْثِير فَإِنَّهُ صَاحب حَال نفساني أَو شيطاني، وَإِن لم يكن لَهُ حَال بل هُوَ يتشبه بأصحاب الْأَحْوَال فَهُوَ صَاحب حَال بهتاني. وَعَامة أَصْحَاب الْأَحْوَال الشيطانية يجمعُونَ بَين الْحَال الشيطاني وَالْحَال البهتاني، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [سُورَة الشُّعَرَاء: 221] ، 222] . والحلاج كَانَ من أَئِمَّة هَؤُلَاءِ، أهل الْحَال الشيطاني وَالْحَال البهتاني، وَهَؤُلَاء طوائف كَثِيرَة. فأئمة هَؤُلَاءِ هم شُيُوخ الْمُشْركين الَّذين يعْبدُونَ الْأَصْنَام، مثل الْكُهَّان والسحرة الَّذين كَانُوا للْعَرَب الْمُشْركين، وَمثل الْكُهَّان والسحرة الَّذين هم بِأَرْض الْهِنْد وَالتّرْك وَغَيرهم. وَمن هَؤُلَاءِ من إِذا مَاتَ لَهُم ميت يَعْتَقِدُونَ أَنه يَجِيء بعد الْمَوْت يكلمهم وَيَقْضِي دُيُونه وَيرد ودائعه ويوصيهم بوصايا، فَإِنَّهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 تأتيهم تِلْكَ الصُّورَة الَّتِي كَانَت فِي الْحَيَاة، وَهُوَ شَيْطَان تمثل فِي صورته فيظنونه إِيَّاه. وَكثير مِمَّن يستغيث بالمشائخ فَيَقُول: يَا سَيِّدي فلَان، أَو: يَا شيخ فلَان اقْضِ حَاجَتي، فَيرى صُورَة ذَلِك الشَّيْخ يخاطبه وَيَقُول: أَنا أَقْْضِي حَاجَتك، أَو أطيب قَلْبك، فَيَقْضِي حَاجته أَو يدْفع عَنهُ عدوه، وَيكون ذَلِك شَيْطَانا قد تمثل فِي صورته لمّا أشرك بِاللَّه فدعى غَيره. وَأَنا أعرف من هَذَا وقائع مُتعَدِّدَة، حَتَّى أَن طَائِفَة من أَصْحَابِي ذكرُوا أَنهم اسْتَغَاثُوا بِي فِي شَدَائِد أَصَابَتْهُم، أحدهم كَانَ خَائفًا من الأرمن، وَالْآخر كَانَ خَائفًا من التتر، فَذكر كل مِنْهُم أَنه لما اسْتَغَاثَ بِي رَآنِي فِي الْهَوَاء وَقد دفعت عَنهُ عدوه، فَأَخْبَرتهمْ أَنِّي لم أشعر بِهَذَا، وَلَا دفعت عَنْكُم شَيْئا، وَإِنَّمَا هَذَا شَيْطَان تمثل لأَحَدهم فأغواه لما أشرك بِاللَّه تَعَالَى. وَهَكَذَا جرى لغير وَاحِد من أَصْحَابنَا الْمَشَايِخ مَعَ أَصْحَابهم، يستغيث أحدهم بالشيخ، فَيرى الشَّيْخ قد جَاءَ وَقضى حَاجته، وَيَقُول ذَلِك الشَّيْخ: إِنِّي لم أعلم بِهَذَا، فيتبين أَن ذَلِك كَانَ شَيْطَانا. وَقد قلت لبَعض أَصْحَابنَا لما ذكر لي أَنه اسْتَغَاثَ بِاثْنَيْنِ كَانَ يعتقدهما وأنهما أَتَيَاهُ فِي الْهَوَاء وَقَالا لَهُ: طيِّب قَلْبك نَحن ندفع عَنْك هَؤُلَاءِ ونفعل ونصنع. قلت لَهُ: فَهَل كَانَ من ذَلِك شَيْء؟ فَقَالَ: لَا. فَكَانَ هَذَا مِمَّا دلّه على أَنَّهُمَا شيطانان، فَإِن الشَّيَاطِين وَإِن كَانُوا يخبرون الْإِنْسَان بقضية أَو قصَّة فِيهَا صدق فَإِنَّهُم يكذبُون أَضْعَاف ذَلِك، كَمَا كَانَت الْجِنّ يخبرون الْكُهَّان. وَلِهَذَا من اعْتمد على مكاشفته الَّتِي هِيَ من أَخْبَار الْجِنّ كَانَ كذبه أَكثر من صدقه؛ كشيخ كَانَ يُقَال لَهُ الشياح توّبناه وجدّدنا إِسْلَامه، كَانَ لَهُ قرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 من الْجِنّ يُقَال لَهُ "عنتر" يُخبرهُ بأَشْيَاء فَيصدق تَارَة ويكذب تَارَة، فَلَمَّا ذكرت لَهُ: إِنَّك تعبد شَيْطَانا من دون الله، اعْترف بِأَنَّهُ يَقُول لَهُ: يَا عنتر لَا سُبْحَانَكَ إِنَّك إِلَه قذر، وَتَابَ من ذَلِك فِي قصَّة مَشْهُورَة. وَقد قتل سيف الشَّرْع من قتل من هَؤُلَاءِ مثل الشَّخْص الَّذِي قَتَلْنَاهُ سنة خمس عشرَة، وَكَانَ لَهُ قرين يَأْتِيهِ ويكاشفه فَيصدق تَارَة ويكذب تَارَة، وَكَانَ قد انْقَادَ لَهُ طَائِفَة من المنسوبين إِلَى أهل الْعلم والرئاسة فيكاشفهم حَتَّى كشف الله أمره، وَذَلِكَ أَن القرين كَانَ تَارَة يَقُول: أَنا رَسُول الله، وَيذكر أَشْيَاء تنَافِي حَال الرَّسُول، فشُهد عَلَيْهِ أَنه قَالَ: إِن الرَّسُول يأتيني وَيَقُول لي كَذَا وَكَذَا، من الْأُمُور الَّتِي يكفر من أضافها إِلَى الرَّسُول. فَذكرت لولاة الْأُمُور أَن هَذَا من جنس الْكُهَّان، وَأَن الَّذِي يرَاهُ شَيْطَان، وَلِهَذَا لَا يَأْتِيهِ فِي الصُّورَة الْمَعْرُوفَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل يَأْتِيهِ فِي صُورَة مُنكرَة، وَيذكر عَنهُ أَنه يخضع لَهُ ويبيح لَهُ أَن يتَنَاوَل الْمُنكر وأمورًا أُخْرَى، وَكَانَ كثيرا من النَّاس يظنون أَنه كَاذِب فِيمَا يخبر بِهِ من الرُّؤْيَة، وَلم يكن كَاذِبًا فِي أَنه رأى تِلْكَ الصُّورَة، لَكِن كَانَ كَافِرًا فِي اعْتِقَاده أَن ذَلِك رَسُول الله، وَمثل هَذَا كثير. وَلِهَذَا تحصل لَهُم تنزّلات شيطانية بِحَسب مَا فَعَلُوهُ من مُرَاد الشَّيْطَان، فَكلما بعدوا عَن الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَرِيق الْمُؤمنِينَ قربوا من الشَّيْطَان، فيطيرون فِي الْهَوَاء والشيطان طَار بهم، وَمِنْهُم من يصرع الْحَاضِرين وشياطينه صرعتهم، وَمِنْهُم من يحضر طَعَاما وإدامًا ويملأ الإبريق مَاء من الْهَوَاء، وَالشَّيَاطِين فعلت ذَلِك، فيحسب الجاهلون أَن هَذِه كرامات أَوْلِيَاء الله الْمُتَّقِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ من جنس أَحْوَال السَّحَرَة والكهنة وأمثالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وَمن لم يُمَيّز بَين الْأَحْوَال الرحمانية والنفسانية اشْتبهَ عَلَيْهِ الْحق بِالْبَاطِلِ، وَمن لم ينوِّر الله قلبه بحقائق الْإِيمَان وَاتِّبَاع الْقُرْآن لم يعرف طَرِيق المحق من الْمُبْطل، والتبس عَلَيْهِ الْأَمر وَالْحَال، كَمَا الْتبس على النَّاس حَال مُسَيْلمَة صَاحب الْيَمَامَة وَغَيره من الْكَذَّابين فِي زعمهم أَنهم أَنْبيَاء وَإِنَّمَا هم كذابون. إِخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الدجالين والدجال الْكَبِير: وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يكون فِيكُم ثَلَاثُونَ دجالون كذابون كلهم يزْعم أَنه رَسُول الله". وَأعظم الدجاجلة فتْنَة الدَّجَّال الْكَبِير الَّذِي يقْتله عيسي بن مَرْيَم، فَإِنَّهُ مَا خَلق الله من لدن آدم إِلَى قيام السَّاعَة أعظم من فتنته، وَأمر الْمُسلمين أَن يستعيذوا من فتنته فِي صلَاتهم. وَقد ثَبت أَنه يَقُول للسماء: أمطري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فتمطر، وللأرض: أنبتي فتنبت، وَأَنه يقتل رجلا مُؤمنا ثمَّ يَقُول: قُم، فَيقوم، فَيَقُول: أَنا رَبك، فَيَقُول لَهُ: كذبت بل أَنْت الْأَعْوَر الْكذَّاب الَّذِي أخبرنَا عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالله مَا ازددت فِيك إِلَّا بَصِيرَة. فيقتله مرَّتَيْنِ وَيُرِيد أَن يقْتله فِي الثَّالِثَة فَلَا يُسلّط عَلَيْهِ، وَهُوَ يَدعِي الإلهية. وَقد بَين لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث عَلَامَات تنَافِي مَا يَدعِيهِ، أَحدهَا: أَنه أَعور وَإِن ربكُم لَيْسَ بأعور. وَالثَّانيَِة: أَنه مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ "كَافِر" يَقْرَؤُهُ كل مُؤمن قَارِئ وَغير قَارِئ. وَالثَّالِثَة: قَوْله: "وَاعْلَمُوا أَن أحدكُم لَا يرى ربه حَتَّى يَمُوت". فَهَذَا هُوَ الدَّجَّال الْكَبِير، ودونه دجاجلة: مِنْهُم من يَدعِي النُّبُوَّة، وَمِنْهُم من يكذب بِغَيْر ادِّعَاء النُّبُوَّة، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "يكون فِي آخر الزَّمَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 دجالون كذابون يحدثونكم بِمَا لم تسمعوا أَنْتُم وَلَا آباؤكم، فإياكم وإياهم". كَانَ الحلاج دجالًا وَوَجَب قَتله: فالحلاج كَانَ من الدجاجلة بِلَا ريب، وَلَكِن إِذا قيل: هَل تَابَ قبل الْمَوْت، أم لَا؟ قَالَ: الله أعلم، فَلَا يَقُول مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم؛ وَلَكِن ظهر عَنهُ من الْأَقْوَال والأعمال مَا أوجب كفره وَقَتله بِاتِّفَاق الْمُسلمين، وَالله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 رِسَالَة فِي الرَّد على ابْن عَرَبِيّ فِي دَعْوَى إِيمَان فِرْعَوْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 هَذَا سُؤال أجَاب عَنهُ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الأوحد، شيخ الْإِسْلَام، تَقِيّ الدَّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي. بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه التَّوْفِيق الْحَمد لله رب الْعَالمين، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم. نَص السُّؤَال: مَا تَقول السَّادة الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم فِي قَول فِرْعَوْن عِنْد الْغَرق: {آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل وَأَنا من الْمُسلمين} [سُورَة يُونُس: 90] هَل فِيهِ دَلِيل على إيمَانه وإسلامه؟ أَو هَل يُوجد فِي الْقُرْآن أَو السّنة أَو الْقيَاس دَلِيل على إيمَانه أَو إِسْلَامه؟ وَمَا يجب على من يَقُول: إِنَّه مَاتَ مُؤمنا، وَالْحَالة هَذِه؟ {الْجَواب} الْحَمد لله. فِرْعَوْن من أعظم الْخلق كفرا: كفر فِرْعَوْن، وَمَوته كَافِرًا، وَكَونه من أهل النَّار هُوَ مِمَّا علم بالاضطرار من دين الْمُسلمين، بل وَمن دين الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَإِن أهل الْملَل الثَّلَاثَة متفقون على أَنه من أعظم الْخلق كفرا، وَلِهَذَا لم يذكر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن قصَّة كَافِر كَمَا ذكر قصَّته فِي بسطها وتثنيتها، وَلَا ذكر عَن كَافِر من الْكفْر أعظم مِمَّا ذكر من كفره واجترائه وَكَونه أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة. وَلِهَذَا كَانَ الْمُسلمُونَ متفقين على أَن من توقف فِي كفره وَكَونه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 أهل النَّار فَإِنَّهُ يجب أَن يُسْتَتَاب، فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل كَافِرًا مُرْتَدا، فضلا عَمَّن يَقُول إِنَّه مَاتَ مُؤمنا. لَا يُصَرح بِمَوْتِهِ مُؤمنا إِلَّا من فِيهِ نفاق وزندقة كالاتحادية: وَالشَّكّ فِي كفره أَو نَفْيه أعظم مِنْهُ فِي كفر أبي لَهب وَنَحْوه، وَأعظم من ذَلِك فِي أبي جهل وَعقبَة بن أبي معيط وَالنضْر بن الْحَارِث وَنَحْوهم مِمَّن تَوَاتر كفرهم وَلم يذكر باسمه فِي الْقُرْآن، وَإِنَّمَا ذكر مَا ذكر من أَعْمَالهم، وَلِهَذَا لم يظْهر عَن أحد بالتصريح بِأَنَّهُ مَاتَ مُؤمنا إِلَّا عَمَّن فِيهِ من النِّفَاق والزندقة أَو التَّقْلِيد للزنادقة وَالْمُنَافِقِينَ مَا هُوَ أعظم من ذَلِك، كالإتحادية الَّذين يَقُولُونَ: إِن وجود الْخَالِق هُوَ وجود الْخلق، حَتَّى يصرحون بِأَن يَغُوث ويعوق ونسرا وَغَيرهَا من الْأَصْنَام هِيَ وجودهَا وجود الله، وَأَنَّهَا عبدت بِحَق، وَكَذَلِكَ الْعجل عبد بِحَق، وَأَن مُوسَى أنكر على هَارُون من نَهْيه عَن عبَادَة الْعجل، وَأَن فِرْعَوْن كَانَ صَادِقا فِي قَوْله: أَنا ربكُم الْأَعْلَى، وَأَنه عين الْحق، وَأَن العَبْد إِذا دَعَا الله تَعَالَى فعين الدَّاعِي عين الْمُجيب، وَأَن الْعَالم هويته، لَيْسَ وَرَاء الْعَالم وجود أصلا. وَمَعْلُوم أَن هَذَا بِعَيْنِه هُوَ حَقِيقَة قَول فِرْعَوْن الَّذِي قَالَ: {يَا هامان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ابْن لي صرحا لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب * أَسبَاب السَّمَوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا} [سُورَة غَافِر: 35]-36] . وَلَقَد خاطبت بعض الْفُضَلَاء مرّة بِحَقِيقَة مَذْهَبهم، وَأَنه حَقِيقَة قَول فِرْعَوْن فَذكر لي رَئِيس من رُؤَسَائِهِمْ أَنه لما دَعَاهُ إِلَى هَذَا القَوْل وَبَينه قَالَ: قلت لَهُ: هَذَا قَول فِرْعَوْن. فَقَالَ لَهُ: وَنحن على قَول فِرْعَوْن؛ وَمَا كنت أَظن أَنهم يقرونَ أَو يعترفون بِأَنَّهُم على قَول فِرْعَوْن. قَالَ: إِنَّمَا قلت ذَلِك اسْتِدْلَالا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِك، قلت لَهُ: مَعَ إِقْرَار الْخصم لَا يحْتَاج إِلَى بَيِّنَة. تَفْضِيل الاتحادية الْوَلِيّ على النَّبِي وَالرَّسُول: وهم مَعَ هَذَا الْكفْر والتعطيل الَّذِي هُوَ شَرّ من قَول الْيَهُود وَالنَّصَارَى، يدعونَ أَن هَذَا الْعلم لَيْسَ إِلَّا لخاتم الرُّسُل وَخَاتم الْأَوْلِيَاء الَّذِي يَدعُونَهُ، وَأَن خَاتم الْأَنْبِيَاء إِنَّمَا يرى هَذَا الْعلم من مشكاة خَاتم الْأَوْلِيَاء، وَأَن خَاتم الْأَوْلِيَاء يَأْخُذ من الْمَعْدن الَّذِي يَأْخُذ مِنْهُ الْملك الَّذِي يُوحى بِهِ إِلَى خَاتم الْأَنْبِيَاء، وَهُوَ فِي الشَّرْع مَعَ مُوَافَقَته لَهُ فِي الظَّاهِر مشكاة لَهُ فِي الْبَاطِن، وَلَا يحْتَاج أَن يكون مُتبعا للرسول لَا فِي الظَّاهِر وَلَا فِي الْبَاطِن. وَهَذَا -مَعَ أَنه من أقبح الْكفْر وأخبثه- فَهُوَ من أفسد الْأَشْيَاء فِي الْعقل، كَمَا يُقَال لمن قَالَ: "فَخر عَلَيْهِم السّقف من تَحْتهم": لَا عقل وَلَا قُرْآن؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 لِأَن الخرور لَا يكون من أَسْفَل، وَكَذَلِكَ الاستفادة، إِنَّمَا يَسْتَفِيد الْمُتَأَخر من الْمُتَقَدّم. ثمَّ خَاتم الْأَوْلِيَاء الَّذين يَدعُونَهُمْ، ضلالهم فِيهِ من وُجُوه، حَيْثُ ظنُّوا أَن للأولياء خَاتمًا، وَأَن يكون أفضلهم قِيَاسا على خَاتم الْأَنْبِيَاء، وَلم يعلمُوا أَن أفضل الْأَوْلِيَاء من هَذِه الْأمة أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، وهم السالفون من الْأَوْلِيَاء لَا الْآخرُونَ، إِذْ فضل الْأَوْلِيَاء على قدر اتباعهم للأنبياء واستفادتهم مِنْهُم علما وَعَملا. وَهَؤُلَاء الْمَلَاحِدَة يدعونَ أَن الْوَلِيّ يَأْخُذ من الله بِلَا وَاسِطَة، وَالنَّبِيّ يَأْخُذ بِوَاسِطَة، وَهَذَا جهل مِنْهُم، فَإِن الْوَلِيّ عَلَيْهِ أَن يتبع النَّبِي، ويعرض كل مَا لَهُ من محادثة وإلهام على مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي، فَإِن وَافقه وَإِلَّا رده، إِذْ لَيْسَ هُوَ بمعصوم فِيمَا يقْضِي لَهُ. وَقد يلبسُونَ على بعض النَّاس بدعواهم أَن ولَايَة النَّبِي أفضل من نبوته، وَهَذَا مَعَ أَنه ضلال فَلَيْسَ هُوَ مقصودهم، فهم مَعَ ضلالهم فِيمَا ظنوه من خَاتم الْأَوْلِيَاء ومرتبته يَخْتَلِفُونَ فِي عينه بِحَسب الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 لتنازعهم فِي تعْيين القطب الْفَرد الْغَوْث الْجَامِع، وَنَحْو ذَلِك من الْمَرَاتِب الَّتِي يدعونها، وَهِي مَعْلُومَة الْبطلَان بِالشَّرْعِ وَالْعقل. ثمَّ يتنازعون فِي عين الْمَوْصُوف بهَا، وَهَذَا بَاب وَاسع. وَالْمَقْصُود هُنَا أَن هَؤُلَاءِ الاتحادية من أَتبَاع صَاحب "فصوص الحكم" وَصَاحب "الفتوحات المكية" وَنَحْوهم، هم الَّذين يعظمون فِرْعَوْن، وَيدعونَ أَنه مَاتَ مُؤمنا، وَأَن تغريقه كَانَ بِمَنْزِلَة غسل الْكَافِر إِذا أسلم، وَيَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآن مَا يدل على كفره، ويحتجون على إيمَانه بقوله: {حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق قَالَ آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل وَأَنا من الْمُسلمين} [سُورَة يُونُس: 90] . بطلَان حجتهم على إِيمَان فِرْعَوْن: وَتَمام الْقِصَّة تبين ضلالهم، فَإِنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ: {آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين} [سُورَة يُونُس: 91] ، وَهَذَا اسْتِفْهَام إِنْكَار وذم، وَلَو كَانَ إيمَانه صَحِيحا مَقْبُولًا لما قيل لَهُ ذَلِك. وَقد قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: {رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه زِينَة وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن سَبِيلك رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} [سُورَة يُونُس: 88] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قَالَ الله تَعَالَى: {قد أجيبت دعوتكما} [سُورَة يُونُس: 89] ، فَاسْتَجَاب الله دَعْوَة مُوسَى وَهَارُون، فَإِن مُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُون يؤمّن أَن فِرْعَوْن وملأه لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم. وَقد قَالَ تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا أَكثر مِنْهُم وَأَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون * فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين * فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا سنة الله الَّتِي قد خلت فِي عباده وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ} [سُورَة غَافِر: 82]- 85] ، فَأخْبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن الْكفَّار لم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم حِين رَأَوْا الْبَأْس، وَأخْبر أَن هَذِه سنته الَّتِي قد خلت فِي عباده، ليبين أَن هَذِه عَادَته سُبْحَانَهُ فِي الْمُسْتَقْدِمِينَ والمستأخرين، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَيْسَت التَّوْبَة للَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذا حضر أحدهم الْمَوْت قَالَ إِنِّي تبت الْآن وَلَا الَّذين يموتون وهم كفار} [سُورَة النِّسَاء: 18] . ثمَّ إِنَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ بعد قَوْله: {آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتَكون لمن خَلفك آيَة} [سُورَة يُونُس: 91]- 92] ، فَجعله الله تَعَالَى عِبْرَة وعلامة لمن يكون بعده من الْأُمَم لينظروا عَاقِبَة من كفر بِاللَّه تَعَالَى، وَلِهَذَا ذكر الله تَعَالَى الِاعْتِبَار بِقصَّة فِرْعَوْن وَقَومه فِي غير مَوضِع. وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كذبت قبلهم قوم نوح وَأَصْحَاب الرس وَثَمُود * وَعَاد وَفرْعَوْن وإخوان لوط * وَأَصْحَاب الأيكة وَقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 تبع كل كذب الرُّسُل فَحق وَعِيد} [سُورَة ق: 12]- 14] ، فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، فِرْعَوْن وَغَيره، كذب الرُّسُل كلهم، إِذْ لم يُؤمنُوا بِبَعْض ويكفروا بِبَعْض كاليهود وَالنَّصَارَى، بل كذبُوا الْجَمِيع، وَهَذَا أعظم أَنْوَاع الْكفْر، فَكل من كذب رَسُولا فقد كفر، وَمن لم يصدقهُ وَلم يكذبهُ فقد كفر؛ فَكل مكذب للرسول كَافِر بِهِ، وَلَيْسَ كل كَافِر مُكَذبا بِهِ، إِذْ قد يكون شاكا فِي رسَالَته، أَو عَالما بصدقه لكنه يحملهُ الْحَسَد أَو الْكبر على أَلا يصدقهُ، وَقد يكون مشتغلا بهواه عَن اسْتِمَاع رسَالَته والإصغاء إِلَيْهِ؛ فَمن وصف بالْكفْر الْخَاص الأشد، كَيفَ لَا يدْخل فِي الْكفْر؟! وَلَكِن ضلالهم فِي هَذَا نَظِير ضلالهم فِي قَوْله: مقَام النُّبُوَّة فِي برزخ ... فويق الرَّسُول وَدون الْوَلِيّ وَقد علم أَن كل رَسُول نَبِي، وكل نَبِي ولي، وَلَا ينعكس. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَفرْعَوْن ذُو الْأَوْتَاد * وَثَمُود وَقوم لوط وَأَصْحَاب الأيكة أُولَئِكَ الْأَحْزَاب * إِن كل إِلَّا كذب الرُّسُل فَحق عِقَاب} [سُورَة ص: 12]- 14] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاء فِرْعَوْن وَمن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية} [سُورَة الحاقة: 9]- 10] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ثمَّ إِن الله تَعَالَى أخبر عَن فِرْعَوْن بأعظم أَنْوَاع الْكفْر: من جحود الْخَالِق، ودعواه الإلهية، وَتَكْذيب من يقر بالخالق سُبْحَانَهُ، وَمن تَكْذِيب الرَّسُول وَوَصفه بالجنون وَالسحر وَغير ذَلِك. وَمن الْمَعْلُوم بالاضطرار أَن الْكفَّار الْعَرَب الَّذين قَاتلهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -مثل أبي جهل وَذريته- لم يَكُونُوا يجحدون الصَّانِع، وَلَا يدعونَ لأَنْفُسِهِمْ الإلهية، بل كَانُوا يشركُونَ بِاللَّه ويكذبون رَسُوله. وَفرْعَوْن كَانَ أعظم كفرا من هَؤُلَاءِ؛ قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين * إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب * فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ من عندنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبنَاء الَّذين آمنُوا مَعَه واستحيوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال * وَقَالَ فِرْعَوْن ذروني أقتل مُوسَى وليدع ربه إِنِّي أَخَاف أَن يُبدل دينكُمْ أَو أَن يظْهر فِي الأَرْض الْفساد * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عذت بربي وربكم من كل متكبر لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب * وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم} [سُورَة غَافِر: 23]-28] ، إِلَى قَوْله: {وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب * أَسبَاب السَّمَوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله وَصد عَن السَّبِيل وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب} [سُورَة غَافِر: 36]- 37] . أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن فِرْعَوْن وَمن ذكر مَعَه قَالَ إِن مُوسَى سَاحر كَذَّاب، وَهَذَا من أعظم أَنْوَاع الْكفْر. ثمَّ أخبر الله أَنه أَمر بقتل أَوْلَاد الَّذين آمنُوا مَعَه لينفروا عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الْإِيمَان مَعَه كيدا لمُوسَى. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي تباب} [سُورَة غَافِر: 37] ، فَدلَّ على أَنهم من الْكَافرين الَّذين كيدهم فِي تباب، فوصفهم بالتكذيب وبالكفر جَمِيعًا، وَإِن كَانَ التَّكْذِيب مُشْتَمِلًا مستلزما للكفر، كَمَا أَن الرسَالَة مستلزمة للنبوة، والنبوة مستلزمة للولاية. ثمَّ أخبر عَن فِرْعَوْن أَنه طلب قتل مُوسَى وَقَالَ: {وليدع ربه} ، وَهَذَا تَنْبِيه على أَنه لم يكن مقرا بربه، وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمام الْكَلَام: {مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي} [سُورَة الْقَصَص: 38] ، وَهَذَا جحد صَرِيح لإله الْعَالمين، وَهِي الْكَلِمَة الأولى. ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك لما ذكره الله تَعَالَى بقوله: {فكذب وَعصى * ثمَّ أدبر يسْعَى * فحشر فَنَادَى * فَقَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى} [سُورَة النازعات: 21]- 24] ، قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى * إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى} [سُورَة النازعات: 25]- 26] . قَالَ كثير من الْعلمَاء: أَي نكال الْكَلِمَة الْآخِرَة، ونكال الْكَلِمَة الأولى، فنكل الله تَعَالَى بِهِ على الْكَلِمَتَيْنِ باعترافه، وَجعل ذَلِك عِبْرَة لمن يخْشَى. وَلَو كَانَ هَذَا مِمَّن لم يُعَاقب على مَا تقدم من كفره، وَلم يكن عِقَابه عِبْرَة، بل من آمن غفر الله لَهُ مَا سلف، وَلم يذكرهُ بِكفْر وَلَا بذم أصلا، بل يمدحه على إيمَانه، ويثني عَلَيْهِ كَمَا أثنى على من آمن بالرسل، وَأخْبر أَنه نجاهم. وَفرْعَوْن هُوَ أَكثر الْكفَّار ذكرا فِي الْقُرْآن، وَهُوَ لَا يذكرهُ سُبْحَانَهُ إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 بالذم والتقبيح واللعن، وَلم يذكرهُ بِخَير قطّ. وَهَؤُلَاء الْمَلَاحِدَة المُنَافِقُونَ يَزْعمُونَ أَنه مَاتَ طَاهِرا مطهرا لَيْسَ فِيهِ شَيْء من الْخبث، بل يَزْعمُونَ أَن السَّحَرَة صدقوه فِي قَوْله: مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي، وَأَنه صَحَّ قَوْله: أَنا ربكُم الْأَعْلَى، وَأَنه كَانَ عين الْحق. وَقد أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن جحوده لرب الْعَالمين. قَالَ لما قَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين * حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم فَأرْسل معي بني إِسْرَائِيل} [سُورَة الْأَعْرَاف: 104]- 105] ، {قَالَ فِرْعَوْن وَمَا رب الْعَالمين * قَالَ رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين * قَالَ لمن حوله أَلا تستمعون * قَالَ ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين * قَالَ إِن رَسُولكُم الَّذِي أرسل إِلَيْكُم لمَجْنُون * قَالَ رب الْمشرق وَالْمغْرب إِن كُنْتُم تعقلون * قَالَ لَئِن اتَّخذت إِلَهًا غَيْرِي لأجعلنك من المسجونين} [سُورَة الشُّعَرَاء: 23]- 29] ، فتوعد مُوسَى بالسجن إِن اتخذ إِلَهًا غَيره. وَهَؤُلَاء مَعَ تنظيمهم لفرعون يشاركون فِي حَقِيقَة كفره، وَإِن كَانُوا مفارقين لَهُ من جِهَة أُخْرَى، فَإِن عِنْدهم: مَا ثمَّ مَوْجُود غير الله أصلا، وَلَا يُمكن أحد أَن يتَّخذ إِلَهًا غَيره، لِأَنَّهُ أَي شَيْء عبد العابد من الْأَوْثَان والأصنام وَالشَّيَاطِين، فَلَيْسَتْ عِنْدهم غير الله أصلا. وَهل يُقَال هِيَ الله؟ لَهُم فِي ذَلِك قَولَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 إِخْبَار الله عَن عَذَاب فِرْعَوْن فِي الْآخِرَة: وإخباره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن تَكْذِيب فِرْعَوْن وَغير ذَلِك من أَنْوَاع كفره كثير فِي الْقُرْآن، وَكَذَلِكَ إخْبَاره عَن عَذَابه فِي الْآخِرَة. فَإِن هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَة يَزْعمُونَ أَنه لَيْسَ فِي الْقُرْآن آيَة تدل على عَذَابه، وَيَقُولُونَ إِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {يقدم قومه يَوْم الْقِيَامَة فأوردهم النَّار وَبئسَ الْورْد المورود} [سُورَة هود: 98] ، قَالُوا: فَأخْبر أَنه يوردهم، وَلم يذكر أَنه دخل مَعَهم. قَالُوا: وَقد قَالَ: {أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} [سُورَة غَافِر: 46] ، فَإِنَّمَا يدْخل النَّار آل فِرْعَوْن لَا فِرْعَوْن. وَهَذَا من أعظم جهلهم وضلالهم، فَإِنَّهُ حَيْثُ ذكر فِي الْكتاب وَالسّنة آل فلَان كَانَ فلَان دَاخِلا فيهم، كَقَوْلِه: {إِن الله اصْطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين} [سُورَة آل عمرَان: 33] ، وَقَوله: {إِلَّا آل لوط نجيناهم بِسحر} [سُورَة الْقَمَر: 34] ، وَقَوله: {سَلام على إل ياسين} [سُورَة الصافات: 130] . وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "اللَّهُمَّ صل على آل أبي أوفى"، وَقَوله: "لقد أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ نجيناكم من آل فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب} [سُورَة الْبَقَرَة: 49] ، {كدأب آل فِرْعَوْن} [سُورَة آل عمرَان: 11] ، {وَلَقَد جَاءَ آل فِرْعَوْن النّذر * كذبُوا بِآيَاتِنَا كلهَا فأخذناهم أَخذ عَزِيز مقتدر} [سُورَة الْقَمَر: 41]- 42] . وَقَوله: {أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} [سُورَة غَافِر: 46] متناول لَهُ وَلَهُم بِاتِّفَاق الْمُسلمين، وبالعلم الضَّرُورِيّ من دين الْمُسلمين. وَهَذَا بعد قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه: {أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله} [سُورَة غَافِر: 28] ، وَالَّذِي طلب قَتله هُوَ فِرْعَوْن، فَقَالَ الْمُؤمن بعد ذَلِك: {مَالِي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار * تدعونني لأكفر بِاللَّه وأشرك بِهِ} [سُورَة غَافِر: 41]- 42] ، والداعي إِلَى الْكفْر هُوَ كَافِر كفرا مغلظا، فَهَذَا فِيهِ. ووصفهم أَيْضا بالْكفْر إِلَى قَوْله: {فوقاه الله سيئات مَا مكروا وحاق بآل فِرْعَوْن سوء الْعَذَاب * النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} [سُورَة غَافِر: 45]- 46] ، فَأخْبر أَنه حاق بآل فِرْعَوْن سوء الْعَذَاب، وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب. ثمَّ قَالَ: {وَإِذ يتحاجون فِي النَّار فَيَقُول الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا نَصِيبا من النَّار * قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 كل فِيهَا إِن الله قد حكم بَين الْعباد} [سُورَة غَافِر: 47]- 48] وَمَعْلُوم أَن فِرْعَوْن هُوَ أعظم الَّذين استكبروا، ثمَّ هامان وَقَارُون، وَأَن قَومهمْ كَانُوا لَهُم تبعا، وَفرْعَوْن هُوَ متبوعهم الْأَعْظَم الَّذِي قَالَ: مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي، وَقَالَ: أَنا ربكُم الْأَعْلَى. وَقد قَالَ: {واستكبر هُوَ وَجُنُوده فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وظنوا أَنهم إِلَيْنَا لَا يرجعُونَ * فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين * وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار وَيَوْم الْقِيَامَة لَا ينْصرُونَ * وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين} [سُورَة الْقَصَص: 39]- 42] . وَهَذَا تَصْرِيح بِأَنَّهُ نبذه وَقَومه فِي اليم عُقُوبَة الَّذِي هُوَ الْكفْر، وَأَنه أتبعه وَقَومه فِي الدُّنْيَا لعنة، وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين هُوَ وَقَومه جَمِيعًا، وَهَذَا مُوَافق لقَوْله: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين * إِلَى فِرْعَوْن وملئه فاتبعوا أَمر فِرْعَوْن وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد * يقدم قومه يَوْم الْقِيَامَة فأوردهم النَّار وَبئسَ الْورْد المورود * وأتبعوا فِي هَذِه لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة بئس الرفد المرفود} [سُورَة هود: 96]- 99] . فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنهم اتبعُوا أمره، وَأَنه يقدمهم لِأَنَّهُ إمَامهمْ، فَيكون قادما لَهُم لَا سائقا لَهُم، وَأَنه يوردهم النَّار. فَإِذا كَانَ التَّابِع قد ورد النَّار فمعلوم أَن القادم الَّذِي يقدمهُ وَهُوَ متبوعه ورد قبله، وَلِهَذَا قَالَ بعد ذَلِك: {وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين} [سُورَة الْقَصَص: 42] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وَالتَّابِع والمتبوع كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِي تِلْكَ السُّورَة عَن فِرْعَوْن وَقَومه: {وأتبعوا فِي هَذِه لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة بئس الرفد المرفود} [سُورَة هود: 99] . وَالْكَلَام فِي هَذَا مَبْسُوط، لم تحْتَمل هَذِه الورقة إِلَّا هَذَا، وَالله أعلم. وَالْحَمْد لله وَحده، وصلوات الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم، وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل. تمّ وكمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 رِسَالَة فِي التَّوْبَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فصل قَالَ الإِمَام الْعَلامَة شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدَّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحَلِيم ابْن تَيْمِية رَحمَه الله الْحَمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدَّين كُله وَكفى بِاللَّه شَهِيدا صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا بعض آيَات التَّوْبَة فِي الْقُرْآن قَالَ الله تَعَالَى آلر كتاب أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت من لدن حَكِيم خَبِير أَلا تعبدوا إِلَّا الله إِنَّنِي لكم مِنْهُ نَذِير وَبشير وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يمتعكم مَتَاعا حسنا إِلَى أجل مُسَمّى وَيُؤْت كل ذِي فضل فَضله وَإِن توَلّوا فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عذب يَوْم كَبِير [سُورَة هود 1 - 3] وَقَالَ تَعَالَى قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم وأنيبوا إِلَى ربكُم وَأَسْلمُوا لَهُ من قبل أَن يأتيكم الْعَذَاب ثمَّ لَا تنْصرُونَ وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم من قبل أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 يأتيكم الْعَذَاب بَغْتَة وَأَنْتُم لَا تشعرون الْآيَات [سُورَة الزمر 53 - 55] وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا عَسى ربكُم أَن يكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه نورهم يسْعَى بَين أَيْديهم وبأيمانهم الْآيَة [سُورَة التَّحْرِيم 8] وَقَالَ تَعَالَى وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تفلحون [سُورَة النُّور 31] وَقَالَ تَعَالَى لقد تَابَ الله على النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار الَّذين اتَّبعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة من بعد مَا كَاد يزِيغ قُلُوب فريق مِنْهُم ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّه بهم رءوف رَحِيم وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم ليتوبوا إِن الله هُوَ التواب الرَّحِيم [سُورَة التَّوْبَة 117 - 118] وَقَالَ تَعَالَى وَقُلْنَا يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة وكلا مِنْهَا رغدا حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّه هُوَ التواب الرَّحِيم [سُورَة الْبَقَرَة 35 - 37] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وَقَالَ تَعَالَى فِي السُّورَة الْأُخْرَى وناداهما ربهما ألم أنهكما عَن تلكما الشَّجَرَة وَأَقل لَكمَا إِن الشَّيْطَان لَكمَا عَدو مُبين قَالَا رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [سُورَة الْأَعْرَاف 22 - 23] وَقَالَ تَعَالَى وَعصى آدم ربه فغوى ثمَّ اجتباه ربه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهدى [سُورَة طه 121 - 122] وَقَالَ تَعَالَى عَن نوح أَنه قَالَ لِقَوْمِهِ اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا الْآيَة [سُورَة نوح 10 - 11] وَقَالَ عَن نوح رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين [سُورَة هود 47] وَعَن هود وَيَا قوم اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم وَلَا تَتَوَلَّوْا مجرمين [سُورَة هود 52] وَعَن صَالح فاستغفروه ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِن رَبِّي قريب مُجيب [سُورَة هود 61] وَكَذَلِكَ قَالَ شُعَيْب وَاسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِن رَبِّي رَحِيم ودود [سُورَة هود 90] وَقَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام رَبنَا اغْفِر لي ولوالدي وَلِلْمُؤْمنِينَ يَوْم يقوم الْحساب [سُورَة إِبْرَاهِيم 41] وَقَالَ وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدَّين [سُورَة الشُّعَرَاء 82] وَقَالَ وأرنا مناسكنا وَتب علينا إِنَّك أَنْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 التواب الرَّحِيم [سُورَة الْبَقَرَة 128] وَقَالَ عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان إِنَّه عَدو مضل مُبين قَالَ رب إِنِّي ظلمت نَفسِي فَاغْفِر لي فغفر لَهُ إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم [سُورَة الْقَصَص 15 - 16] وَقَالَ مُوسَى رب اغْفِر لي ولأخي وأدخلنا فِي رحمتك وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ [سُورَة الْأَعْرَاف 151] وَقَالَ مُوسَى سُبْحَانَكَ تبت إِلَيْك وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ [سُورَة الْأَعْرَاف 143] وَقَالَ تَعَالَى لمُوسَى لَا تخف إِنِّي لَا يخَاف لدي المُرْسَلُونَ إِلَّا من ظلم ثمَّ بدل حسنا بعد سوء فَإِنِّي غَفُور رَحِيم [سُورَة النَّمْل 10 - 11] وَقَالَ مُوسَى أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء أَنْت ولينا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الغافرين واكتب لنا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة إِنَّا هدنا إِلَيْك قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَشَاء ورحمتي وسعت كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَالَّذين هم بِآيَاتِنَا يُؤمنُونَ الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل الْآيَة [سُورَة الْأَعْرَاف 155 - 157] وَقَالَ لخاتم الرُّسُل فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات [سُورَة مُحَمَّد 19] وَقَالَ إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر [سُورَة الْفَتْح 1 - 2] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وَقَالَ تَعَالَى إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين [سُورَة الْبَقَرَة 222] وَقَالَ حم تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْعَلِيم غَافِر الذَّنب وقابل التوب شَدِيد الْعقَاب ذِي الطول لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمصير [سُورَة غَافِر 1 - 3] وَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات وَيعلم مَا تَفْعَلُونَ ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ويزيدهم من فَضله [سُورَة الشورى 25 - 26] وَقَالَ تَعَالَى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا عَسى الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله غَفُور رَحِيم خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم وَالله سميع عليم ألم يعلمُوا أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَأْخُذ الصَّدقَات وَأَن الله هُوَ التواب الرَّحِيم وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون وستردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله إِمَّا يعذبهم وَإِمَّا يَتُوب عَلَيْهِم وَالله عليم حَكِيم [سُورَة التَّوْبَة 102 - 106] بعض الْأَحَادِيث فِي التَّوْبَة وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي بردة عَن الْأَغَر عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَا أَيهَا النَّاس تُوبُوا إِلَى الله فَإِنِّي أَتُوب إِلَيْهِ فِي الْيَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 مائَة مرّة وَعَن أبي بردة عَن الْأَغَر الْمُزنِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّه ليغان على قلبِي وَإِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة وَقَالَ إِنِّي لأستغفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ فِي الْيَوْم أَكثر من سبعين مرّة وَقَالَ إِن الله تَعَالَى يبسط يَده بِاللَّيْلِ ليتوب مسيء النَّهَار ويبسط يَده بِالنَّهَارِ ليتوب مسيء اللَّيْل حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا وَقَالَ من تَابَ قبل أَن تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا تَابَ الله عَلَيْهِ وَقَالَ لله أَشد فَرحا بتوبة عَبده حِين يَتُوب إِلَيْهِ من أحدكُم كَانَ على رَاحِلَته بِأَرْض فلاة فانفلتت مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه فأيس مِنْهَا فَأتى شَجَرَة فاضطجع فِي ظلها قد أيس من رَاحِلَته فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذا هُوَ بهَا قَائِمَة عِنْده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فَأخذ بخطامها ثمَّ قَالَ من شدَّة الْفَرح اللَّهُمَّ أَنْت عَبدِي وَأَنا رَبك أَخطَأ من شدَّة الْفَرح وَهَذَا الحَدِيث متواتر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَوَاهُ ابْن مَسْعُود والبراء بن عَازِب والنعمان بن بشير وَأَبُو هُرَيْرَة وَأنس بن مَالك فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن معسود قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لله أفرح بتوبة أحدكُم من رجل خرج بِأَرْض دوية مهلكة مَعَه رَاحِلَته عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه وزاده وَمَا يصلحه فأضلها فَخرج فِي طلبَهَا حَتَّى إِذا أدْركهُ الْمَوْت وَلم يجدهَا قَالَ أرجع إِلَى مَكَاني الَّذِي أضللتها فِيهِ فأموت فِيهِ فَأتى مَكَانَهُ فغلبته عينه فَاسْتَيْقَظَ فَإِذا رَاحِلَته عِنْد رَأسه عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه وزاده وَمَا يصلحه وَفِي السّنَن أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كل بني آدم خطاء وَخير الْخَطَّائِينَ التوابون وَقَالَ إِن العَبْد إِذا أذْنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 نكتت فِي قلبه نُكْتَة سَوْدَاء فَإِن تَابَ وَنزع واستغفر صقل قلبه وَإِن زَاد زيد فِيهَا حَتَّى تعلو قلبه فذلكم الران الَّذِي ذكر الله كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سُورَة المطففين 14] وَعَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله إِلَّا اللمم [سُورَة النَّجْم 32] قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِن تغْفر اللَّهُمَّ تغْفر جما ... وَأي عبد لَك لَا ألما " وَعَن ابْن عمر قَالَ إِن كُنَّا لنعد لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمجْلس الْوَاحِد يَقُول رب اغْفِر لي وَتب عَليّ إِنَّك أَنْت التواب الغفور مائَة مرّة رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث صَحِيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فصل التَّوْبَة نَوْعَانِ وَاجِبَة ومستحبة التَّوْبَة نَوْعَانِ وَاجِبَة ومستحبة الْوَاجِبَة من ترك مَأْمُور أَو فعل مَحْظُور فالواجبة هِيَ التَّوْبَة من ترك مَأْمُور أَو فعل مَحْظُور وَهَذِه وَاجِبَة على جَمِيع الْمُكَلّفين كَمَا أَمرهم الله بذلك فِي كِتَابه وعَلى أَلْسِنَة رسله والمستحبة من ترك المستحبات وَفعل المكروهات والمستحبة هِيَ التَّوْبَة من ترك المستحبات وَفعل المكروهات فَمن اقْتصر على التَّوْبَة الأولى كَانَ من الْأَبْرَار الْمُقْتَصِدِينَ وَمن تَابَ التوبتين كَانَ من السَّابِقين المقربين وَمن لم يَأْتِ بِالْأولَى كَانَ من الظَّالِمين إِمَّا الْكَافرين وَإِمَّا الْفَاسِقين قَالَ الله تَعَالَى وكنتم أَزْوَاجًا ثَلَاثَة فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشأمة مَا أَصْحَاب المشأمة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون فِي جنَّات النَّعيم [سُورَة الْوَاقِعَة 7 - 12] وَقَالَ تَعَالَى فَأَما إِن كَانَ من المقربين فَروح وَرَيْحَان وجنة نعيم وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم وتصلية جحيم [سُورَة الْوَاقِعَة 88 - 94] وَقَالَ تَعَالَى فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق بالخيرات بِإِذن الله [سُورَة فاطر 32] وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا إِنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سلاسل وأغلالا وسعيرا إِن الْأَبْرَار يشربون من كأس كَانَ مزاجها كافورا عينا يشرب بهَا عباد الله يفجرونها تفجيرا [سُورَة الْإِنْسَان 3 - 6] وَقَالَ كلا إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين إِلَى قَوْله كلا إِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 كتاب الْأَبْرَار لفي عليين وَمَا أَدْرَاك مَا عليون إِلَى قَوْله ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بهَا المقربون [سُورَة المطففين 7 - 28] قَالَ ابْن عَبَّاس تمزج لأَصْحَاب الْيَمين مزجا وَيشْرب بهَا المقربون صرفا التَّوْبَة من ترك الْحَسَنَات أهم من التَّوْبَة من فعل السَّيِّئَات وَالتَّوْبَة رُجُوع عَمَّا تَابَ مِنْهُ إِلَى مَا تَابَ إِلَيْهِ فالتوبة الْمَشْرُوعَة هِيَ الرُّجُوع إِلَى الله وَإِلَى فعل مَا أَمر بِهِ وَترك مَا نهى عَنهُ وَلَيْسَت التَّوْبَة من فعل السَّيِّئَات فَقَط كَمَا يظنّ كثير من الْجُهَّال لَا يتصورون التَّوْبَة إِلَّا عَمَّا يَفْعَله العَبْد من القبائح كالفواحش والمظالم بل التَّوْبَة من ترك الْحَسَنَات الْمَأْمُور بهَا أهم من التَّوْبَة من فعل السَّيِّئَات الْمنْهِي عَنْهَا فَأكْثر الْخلق يتركون كثيرا مِمَّا أَمرهم الله بِهِ من أَقْوَال الْقُلُوب وأعمالها وأقوال الْبدن وأعماله وَقد لَا يعلمُونَ أَن ذَلِك مِمَّا أمروا بِهِ أَو يعلمُونَ الْحق وَلَا يتبعونه فيكونون إِمَّا ضَالِّينَ بِعَدَمِ الْعلم النافع وَإِمَّا مغضوبا عَلَيْهِم بمعاندة الْحق بعد مَعْرفَته وَقد أَمر الله عباده الْمُؤمنِينَ أَن يَدعُوهُ فِي كل صَلَاة بقوله اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين وَلِهَذَا نزه الله نبيه عَن هذَيْن فَقَالَ تَعَالَى والنجم إِذا هوى مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى [سُورَة النَّجْم 1 - 4] فالضال الَّذِي لَا يعلم الْحق بل يظنّ أَنه على الْحق وَهُوَ جَاهِل بِهِ كَمَا عَلَيْهِ النَّصَارَى قَالَ تَعَالَى وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل [سُورَة الْمَائِدَة 77] والغاوي الَّذِي يتبع هَوَاهُ وشهواته مَعَ علمه بِأَن ذَلِك خلاف الْحق كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 عَلَيْهِ الْيَهُود قَالَ تَعَالَى سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا وَإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا ذَلِك بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين [سُورَة الْأَعْرَاف 146] وَقَالَ تَعَالَى واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض وَاتبع هَوَاهُ فَمثله كَمثل الْكَلْب إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث الْآيَة [سُورَة الْأَعْرَاف 175 - 176] الغي والضلال يجمعان جَمِيع السَّيِّئَات وَفِي الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم شهوات الغي فِي بطونكم وفروجكم ومضلات الْفِتَن فَإِن الغي والضلال يجمع جَمِيع سيئات بني آدم فَإِن الْإِنْسَان كَمَا قَالَ تَعَالَى وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا [سُورَة الْأَحْزَاب 72] فبظلمه يكون غاويا وبجهله يكون ضَالًّا وَكَثِيرًا مَا يجمع بَين الْأَمريْنِ فَيكون ضَالًّا فِي شَيْء غاويا فِي شَيْء آخر إِذْ هُوَ ظلوم جهول ويعاقب على كل من الذنبين بِالْآخرِ كَمَا قَالَ فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا [سُورَة الْبَقَرَة 10] وكما قَالَ فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم [سُورَة الصَّفّ 5] كَمَا يُثَاب الْمُؤمن على الْحَسَنَة بحسنة أُخْرَى فَإِذا عمل بِعِلْمِهِ وَرثهُ الله علم مَا لم يعلم وَإِذ عمل بحسنة دَعَتْهُ إِلَى حَسَنَة أُخْرَى قَالَ تَعَالَى وَالَّذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [سُورَة مُحَمَّد 17] وَقَالَ تَعَالَى وَيزِيد الله الَّذين اهتدوا هدى [سُورَة مَرْيَم 76] وَقَالَ وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا [سُورَة العنكبوت 69] وَقَالَ وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا وَإِذا لآتيناهم من لدنا أجرا عَظِيما ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا [سُورَة النِّسَاء 66 - 68] وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم لِئَلَّا يعلم أهل الْكتاب أَلا يقدرُونَ على شَيْء من فضل الله وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم [سُورَة الْحَدِيد 28 - 29] وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر شهوات الغي فِي الْبُطُون والفروج كَمَا فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ من تكفل لي بِمَا بَين لحييْهِ وَمَا بَين رجلَيْهِ تكفلت لَهُ بِالْجنَّةِ فَإِن هَذَا يعلم عَامَّة النَّاس أَنه من الذُّنُوب لَكِن يَفْعَلُونَهُ اتبَاعا لشهواتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وَأما مضلات الْفِتَن فَأن يفتن العَبْد فيضل عَن سَبِيل الله وَهُوَ يحْسب أَنه مهتد كَمَا قَالَ وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن السَّبِيل وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون [سُورَة الزخرف 36 - 37] وَقَالَ أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا فَإِن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء [سُورَة فاطر 8] وَقَالَ وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله وَصد عَن السَّبِيل وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب [سُورَة غَافِر 37] وَقَالَ قل هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا [سُورَة الْكَهْف 103 - 104] وَلِهَذَا تَأَول أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْآيَة فِيمَن يتعبد بِغَيْر شَرِيعَة الله الَّتِي بعث بهَا رَسُوله من الْمُشْركين وَأهل الْكتاب كالرهبان وَفِي أهل الْأَهْوَاء من هَذِه الْأمة كالخوارج الَّذين أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتالهم وَقَالَ فيهم يحقر أحدكُم صلَاته مَعَ صلَاتهم وصيامه مَعَ صِيَامهمْ وقراءته مَعَ قراءتهم يقرأون الْقُرْآن لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَام كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية أَيْنَمَا لقيتموهم فاقتلوهم فَإِن فِي قَتلهمْ أجرا عِنْد الله لمن قَتلهمْ يَوْم الْقِيَامَة وَذَلِكَ لِأَن هَؤُلَاءِ خَرجُوا عَن سنة رَسُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَمَاعَة الْمُسلمين حَتَّى كفرُوا من خالفهم مثل عُثْمَان وَعلي وَسَائِر من تولاهما من الْمُؤمنِينَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاء الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم يقتلُون أهل الْإِسْلَام وَيدعونَ أهل الْأَوْثَان وَإِذا اجْتمع شهوات الغي ومضلات الْفِتَن قوى الْبلَاء وَصَارَ صَاحبه مغضوبا عَلَيْهِ ضَالًّا وَهَذَا يكون كثيرا بِسَبَب حب الرِّئَاسَة والعلو فِي الأَرْض كَحال فِرْعَوْن قَالَ تَعَالَى إِن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض وَجعل أَهلهَا شيعًا يستضعف طَائِفَة مِنْهُم يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحيي نِسَاءَهُمْ إِنَّه كَانَ من المفسدين [سُورَة الْقَصَص 4] فوصفه بالعلو فِي الأَرْض وَالْفساد وَقَالَ فِي آخر السُّورَة تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين [سُورَة الْقَصَص 83] وَلِهَذَا قَالَ فِي حق فِرْعَوْن وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله [سُورَة غَافِر 37] وَذَلِكَ أَن حب الرِّئَاسَة شَهْوَة خُفْيَة كَمَا قَالَ شَدَّاد بن أَوْس رَضِي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 عَنهُ يَا بَغَايَا الْعَرَب يَا بَغَايَا الْعَرَب إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم الرِّيَاء والشهوة الْخفية قيل لأبي دَاوُد السجسْتانِي مَا الشَّهْوَة الْخفية قَالَ حب الرِّئَاسَة وحبك الشَّيْء يعمى ويصم فَيبقى حب ذَلِك يزين لَهُ مَا يهواه مِمَّا فِيهِ علو نَفسه وَيبغض إِلَيْهِ ضد ذَلِك حَتَّى يجْتَمع فِيهِ الإستكبار والإختيال والحسد الَّذِي فِيهِ بغض نعْمَة الله على عباده لَا سِيمَا من مناظره وَالْكبر والحسد هما داءان أهلكا الْأَوَّلين والآخرين وهما أعظم الذُّنُوب الَّتِي بهَا عصى الله أَولا فَإِن إِبْلِيس استكبر وحسد آدم وَكَذَلِكَ ابْن آدم الَّذِي قتل أَخَاهُ حسد أَخَاهُ وَلِهَذَا كَانَ الْكبر يُنَافِي الْإِسْلَام كَمَا أَن الشّرك نافي الْإِسْلَام فَإِن الْإِسْلَام هُوَ الإستسلام وَحده فَمن استسلم لَهُ وَلغيره فَهُوَ مُشْرك بِهِ وَمن لم يستسلم فَهُوَ مستكبر كَحال فِرْعَوْن وملإه وَلذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 قَالَ لَهُم مُوسَى وَأَن لَا تعلوا على الله إِنِّي آتيكم بسُلْطَان مُبين [سُورَة الدُّخان 19] وَقَالَ تَعَالَى عَن فِرْعَوْن واستكبر هُوَ وَجُنُوده فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وظنوا أَنهم إِلَيْنَا لَا يرجعُونَ [سُورَة الْقَصَص 39] وَقَالَ تَعَالَى وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين [سُورَة النَّمْل 14] وَمن أسلم وَجهه لله حَنِيفا فَهُوَ الْمُسلم الَّذِي على مِلَّة إِبْرَاهِيم الَّذِي قَالَ لَهُ ربه أسلم قَالَ أسلمت لرب الْعَالمين وَهَذَا الْإِسْلَام هُوَ دين الْأَوَّلين والآخرين من الْأَنْبِيَاء وأتباعهم كَمَا وصف الله بِهِ فِي كِتَابه نوحًا وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى ويوسف وَسليمَان وَغَيرهم من النَّبِيين مثل قَول مُوسَى لِقَوْمِهِ إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه فَعَلَيهِ توكلوا إِن كُنْتُم مُسلمين [سُورَة يُونُس 84] وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا [سُورَة الْمَائِدَة 44] وَقَالَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن توليتم فَمَا سألتكم من أجر إِن أجري إِلَّا على الله وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين [سُورَة يُونُس 72] وَقَالَ يُوسُف توفني مُسلما وألحقني بالصالحين [سُورَة يُوسُف 101] وَقَالَت بلقيس وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين [سُورَة النَّمْل 44] الغي فِي شهوات الرِّئَاسَة وَالْكبر والعلو وَلَيْسَ الغي مُخْتَصًّا بشهوات الْبُطُون والفروج فَقَط بل هُوَ فِي شهوات الْبُطُون والفروج وشهوات الرِّئَاسَة وَالْكبر والعلو وَغير ذَلِك فَهُوَ اتِّبَاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الْهوى وَإِن لم يعْتَقد أَنه هوى بِخِلَاف الضال فَإِنَّهُ يحْسب أَنه يحسن صنعا وَلِهَذَا كَانَ إِبْلِيس أول الغاوين كَمَا قَالَ فبمَا أغويتني لأقعدن لَهُم صراطك الْمُسْتَقيم ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم وَعَن أَيْمَانهم وَعَن شمائلهم وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين [سُورَة الْأَعْرَاف 16 - 17] وَقَالَ رب بِمَا أغويتني لأزينن لَهُم فِي الأَرْض ولأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين [سُورَة الْحجر 39 - 40] وَقَالَ تَعَالَى وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل رَبنَا هَؤُلَاءِ الَّذين أغوينا أغويناهم كَمَا غوينا تبرأنا إِلَيْك مَا كَانُوا إيانا يعْبدُونَ [سُورَة الْقَصَص 62 - 63] وَقد قَالَ تَعَالَى فكبكبوا فِيهَا هم والغاوون وجنود إِبْلِيس أَجْمَعُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء 94 - 95] وَإِنَّمَا فِي الحَدِيث مَا يخَاف على هَذِه الْأمة من الغي وَهُوَ شهوات الغي فِي الْبُطُون والفروج فَأَما الغي الَّذِي هُوَ الإستكبار عَن ابْتَاعَ الْحق فَذَاك أصل الْكفْر فصاحبه لَيْسَ من هَذِه الْأمة كإبليس وَفرْعَوْن وَغَيرهَا وَأما غي شهوات الْبُطُون والفروج فَذَاك يكون لأهل الْإِيمَان ثمَّ يتوبون كَمَا قَالَ وَعصى آدم ربه فغوى ثمَّ اجتباه ربه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهدى [سُورَة طه 121 - 122] وَفِي السّنَن والمسند من حَدِيث لَيْث بن سعد عَن يزِيد بن الْهَاد عَن عَمْرو عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 إِن إِبْلِيس قَالَ لرَبه عز وجلّ بعزتك وجلالك لَا أَبْرَح أغوى بني آدم مَا دَامَت الْأَرْوَاح فيهم فَقَالَ لَهُ ربه عز وجلّ فبعزتي وَجَلَالِي لَا أَبْرَح أَغفر لَهُم مَا استغفروني فصل الْعِصْيَان يَقع مَعَ ضعف الْعلم وَجَمِيع مَا يَتُوب العَبْد مِنْهُ سَوَاء كَانَ فعلا أَو تركا قد لَا يكون كَانَ عَالما بِأَنَّهُ يَنْبَغِي التَّوْبَة مِنْهُ وَقد يكون كَانَ عَالما بذلك فَإِن الْإِنْسَان كثيرا مَا يكون غير عَالم بِوُجُوب الشَّيْء أَو قبحه ثمَّ يتَبَيَّن لَهُ فِيمَا بعد وُجُوبه أَو قبحه وَقد يكون عَالما بِوُجُوبِهِ أَو قبحه ويتركه أَو يَفْعَله لضعف الْمُقْتَضى لفعل الْوَاجِب أَو قُوَّة الْمُقْتَضى لفعل الْقَبِيح لَكِن هَذَا لَا يكَاد يَقع إِلَّا مَعَ ضعف الْعلم بِوُجُوبِهِ وقبحه وَإِلَّا فَإِذا كمل الْعلم استلزم الْإِرَادَة الجازمة فِي الطَّرفَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا التَّوْبَة للَّذين يعْملُونَ السوء بِجَهَالَة ثمَّ يتوبون من قريب فَأُولَئِك يَتُوب الله عَلَيْهِم وَكَانَ الله عليما حكيما [سُورَة النِّسَاء 17] قَالَ أَبُو الْعَالِيَة قَالَ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل من عصى الله فَهُوَ جَاهِل وكل من تَابَ قبل الْمَوْت فقد تَابَ من قريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وَقَالَ تَعَالَى وَإِذا جَاءَك الَّذين يُؤمنُونَ بِآيَاتِنَا فَقل سَلام عَلَيْكُم كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة أَنه من عمل مِنْكُم سوءا بِجَهَالَة ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم [سُورَة الْأَنْعَام 54] وَالْمُؤمن لَا يزَال يخرج من الظُّلُمَات إِلَى النُّور ويزداد هدى فيتجدد لَهُ من الْعلم وَالْإِيمَان مَا لم يكن قبل ذَلِك فيتوب مِمَّا تَركه وَفعله وَالتَّوْبَة تصقل الْقلب وتجليه مِمَّا عرض لَهُ من رين الذُّنُوب كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن العَبْد إِذا أذْنب نكتت فِي قلبه نُكْتَة سَوْدَاء فَإِن تَابَ وَنزع واستغفر صقل قلبه وَإِن زَاد زيد فِيهَا حَتَّى تعلو قلبه فَذَلِك الران الَّذِي قَالَ الله كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سُورَة المطففين 14] وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح إِنَّه ليغان على قلبِي وَإِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة التَّوْبَة من الاعتقادات أعظم من التَّوْبَة من الإرادات وَالتَّوْبَة من الاعتقادات أعظم من التَّوْبَة من الإرادات فَإِن من ترك وَاجِبا أَو فعل قبيحا يعْتَقد وُجُوبه وقبحه كَانَ ذَلِك الِاعْتِقَاد دَاعيا لَهُ إِلَى فعل الْوَاجِب ومانعا من فعل الْقَبِيح فَلَا يكون فِي فعله وَتَركه ثَابت الدَّوَاعِي والصوارف بل تكون دواعيه وصوارفه متعارضة وَلِهَذَا يكون الْغَالِب على هَذَا التَّلَوُّم وَتَكون نفسهم لوامة تَارَة يؤدون الْوَاجِب وَتارَة يتركونه وَتارَة يتركون الْقَبِيح وَتارَة يَفْعَلُونَهُ كَمَا تَجدهُ فِي كثير من فساق الْقبْلَة الَّذين يؤدون الْحُقُوق تَارَة ويمنعونها أُخْرَى ويفعلون السَّيِّئَات تَارَة ويتركونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أُخْرَى لتعارض الإرادات فِي قُلُوبهم إِذْ مَعَهم أصل الْإِيمَان الَّذِي يَأْمر بِفعل الْوَاجِب وَينْهى عَن فعل الْقَبِيح وَمَعَهُمْ من الشُّبُهَات والشهوات مَا يَدعُوهُم إِلَى خلاف ذَلِك وَأما مَا فعله الْإِنْسَان مَعَ اعْتِقَاد وُجُوبه وَتَركه مَعَ اعْتِقَاد تَحْرِيمه فَهَذَا يكون ثَابت الدَّوَاعِي والصوارف أعظم من الأول بِكَثِير وَهَذَا تحْتَاج تَوْبَته إِلَى صَلَاح اعْتِقَاده أَولا وَبَيَان الْحق وَهَذَا قد يكون أصعب من الأول إِذْ لَيْسَ مَعَه دَاع إِلَى أَن يتْرك اعْتِقَاده كَمَا كَانَ مَعَ الأول دَاع إِلَى أَن يتْرك مُرَاده وَقد يكون أسهل إِذا كَانَ لَهُ غَرَض فِيمَا يُخَالف مُوجب الِاعْتِقَاد مثل الآصار والأغلال الَّتِي على أهل الْكتاب وإذلال الْمُسلمين لَهُم وَأخذ الْجِزْيَة مِنْهُم مَعَ مُخَالفَة الْمُسلمين لَهُ فَهَذَا قد يكون دَاعيا إِلَى أَن ينظر فِي اعْتِقَاده هَل هُوَ حق أَو بَاطِل حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ الْحق وَقد يكون أَيْضا مرغبا لَهُ فِي اعْتِقَاد يخرج بِهِ من هَذَا الْبلَاء الِاعْتِقَاد والإرادة يتعاونان وَكَذَلِكَ قهر الْمُسلمين لعدوهم بالأسر يَدعُوهُم إِلَى النّظر فِي محَاسِن الْإِسْلَام فللرغبة والرهبة تَأْثِير عَظِيم فِي معاونة الِاعْتِقَاد كَمَا للاعتقاد تَأْثِير عَظِيم فِي الْفِعْل وَالتّرْك فَكل وَاحِد من الْعلم وَالْعَمَل من الِاعْتِقَاد والإرادة يتعاونان فالعلم والاعتقاد يَدْعُو إِلَى الْعَمَل بِمُوجبِه والإرادة رَغْبَة وَرَهْبَة وَالْعَمَل بموجبها يُؤَيّد النّظر وَالْعلم الْمُوَافق لتِلْك الْإِرَادَة وَالْعَمَل كَمَا قَالَ من عمل بِمَا علم أورثه الله علم مَا لم يعلم وَفِي الْقُرْآن شَوَاهِد هَذَا مُتعَدِّدَة فِي مثل قَوْله وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا وَإِذا لآتيناهم من لدنا أجرا عَظِيما ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا [سُورَة النِّسَاء 66 - 68] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وَفِي قَوْله اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم [سُورَة الْحَدِيد 28] وَغير ذَلِك فَإِذا كَانَ الْإِنْسَان معاقبا على الِاعْتِقَاد كَمَا يُعَاقب الْكفَّار على كفرهم كَانَت التَّوْبَة مِنْهُ ظَاهِرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَمَا من إِلَيْهِ إِلَّا إِلَه وَاحِد وَإِن لم ينْتَهوا عَمَّا يَقُولُونَ ليمسن الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه وَالله غَفُور رَحِيم [سُورَة الْمَائِدَة 73 - 74] وَقَالَ تَعَالَى فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وخذوهم واحصروهم واقعدوا لَهُم كل مرصد فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم [سُورَة التَّوْبَة 5] فَأَما الإعقتاد المغفور كالخطأ وَالنِّسْيَان الَّذِي لَا يُؤَاخذ الله بِهِ هَذِه الْأمة كَمَا فِي قَوْله رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا [سُورَة الْبَقَرَة 286] وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن الله قد فعل ذَلِك وكما قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر فَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 قد يُقَال فِي مثله إِن قيل إِنَّه يُتَاب مِنْهُ فَكيف يُتَاب مِمَّا لَا ذمّ فِيهِ وَلَا عِقَاب وَإِن قيل لَا يُتَاب مِنْهُ فَكيف لَا يرجع الْإِنْسَان إِلَى الْحق إِذا تبين لَهُ وَجَوَاب ذَلِك أَنه يُتَاب مِنْهُ كَمَا يُتَاب من غَيره لِأَن صَاحبه قد ترك مَا هُوَ مَأْمُور بِهِ فِي نفس الْأَمر من الْعلم وَمَا يتبعهُ من أَعمال الْقُلُوب والجوارح إِمَّا لعَجزه عَن بُلُوغه وَإِمَّا لتَقْصِيره فِي طلبه وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قد فعل من الِاعْتِقَاد وَمَا يتبعهُ من أَعمال الْقُلُوب والجوارح مَا هُوَ مَنْهِيّ عَنهُ فِي نفس الْأَمر لَكِن سقط عَنهُ النَّهْي لعدم قدرته على معرفَة قبحه والتكليف مَشْرُوط بالتمكن من الْعلم وَالْقُدْرَة فَلَا يُكَلف الْعَاجِز عَن الْعلم مَا هُوَ عَاجز عَنهُ وَالنَّاسِي والمخطىء كَذَلِك لَكِن إِذا تجدّد لَهُ قدرَة على الْعلم صَار مَأْمُورا بِطَلَبِهِ وَإِذا تجدّد لَهُ الْعلم صَار مَأْمُورا حِينَئِذٍ باتباعه وَصَارَ فِي هَذِه الْحَال مذموما على ترك مَا يقدر عَلَيْهِ من طلب الْعلم الْوَاجِب وعَلى ترك اتِّبَاع مَا تبين لَهُ من الْعلم وَأَيْضًا فَمَا دَامَ غير مستيقن للحق فَهُوَ مَأْمُور بِطَلَب الْعلم الَّذِي يبين لَهُ الْحق والمعتقد المخطىء لَا يكون مُسْتَيْقنًا قطّ فَإِن الْعلم وَالْيَقِين يجده الْإِنْسَان من نَفسه كَمَا يجد سَائِر إدراكاته وحركاته مِثْلَمَا يجد سَمعه وبصره وَشمه وذوقه فَهُوَ إِذا رأى الشَّيْء يَقِينا يعلم أَنه رَآهُ وَإِذا علمه يَقِينا يعلم أَنه علمه وَأما إِذا لم يكن مُسْتَيْقنًا فَإِنَّهُ لَا يجد مَا يجده الْعَالم كَمَا إِذا لم يستيقن رُؤْيَته لم يجد مَا يجده الرَّائِي وَإِنَّمَا يكون عِنْده ظن وَنَوع إِرَادَة توجب اعْتِقَاده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 هَذَا هُوَ الَّذِي يجده بَنو آدم فِي نُفُوسهم كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى [سُورَة النَّجْم 23] وَإِذا كَانَ الْإِنْسَان مَأْمُورا بِطَلَب الْعلم الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ بِحَسب إِمْكَانه وَهُوَ إِذا لم يجد الْعلم اليقيني يعلم أَنه لم يجد الْعلم فَهُوَ مَأْمُور بِالطَّلَبِ وَالِاجْتِهَاد فَإِن ترك مَا أَمر بِهِ كَانَ مُسْتَحقّا للذم وَالْعِقَاب على ذَلِك فَإِذا تبين لَهُ الْحق وَعلمه وَعلم أَنه كَانَ جَاهِلا بِهِ مُعْتَقدًا غير الْحق كَانَ تَائِبًا بِمَعْنى أَنه رَجَعَ من الْبَاطِل إِلَى الْحق وَإِن كَانَ الله قد عفى عَنهُ مَا رَجَعَ عَنهُ لعَجزه إِذْ ذَاك وَكَانَ أَيْضا تَائِبًا مِمَّا حصل فِيهِ أَولا من تَفْرِيط فِي طلب الْحق فكثير من خطأ بني آدم من تفريطهم فِي طلب الْحق لَا من الْعَجز التَّام وَكَانَ أَيْضا تَائِبًا من اتِّبَاع هَوَاهُ أَولا بِغَيْر هدى من الله فَإِن أَكثر مَا يحمل الْإِنْسَان على اتِّبَاع الظَّن المخطىء هُوَ هَوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَيْسَ تَوْبَة هَذَا وحاله كَحال من كَانَ عَاجِزا عَن الْفِعْل ثمَّ قدر عَلَيْهِ كَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُطيق الْقيام إِذا قدر عَلَيْهِ بعد ذَلِك وكالخائف إِذا أَمن وكالمصلي بِتَيَمُّم وَنَحْو هَؤُلَاءِ وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ إِذا كَانَت إرادتهم للْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ على وجهة الْكَمَال ثَابِتَة فِي قُلُوبهم وَقد عمِلُوا مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ من المُرَاد وَإِنَّمَا تركُوا تَمَامه لعجزهم كَانَ لَهُم مثل ثَوَاب الْفَاعِل كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ عَن أبي مُوسَى إِذا مرض العَبْد أَو سَافر كتب لَهُ من الْعَمَل مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ صَحِيح مُقيم وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 قَالَ إِن بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مسيرًا وَلَا قطعْتُمْ وَاديا إِلَّا كَانُوا مَعكُمْ حَبسهم الْعذر وَقد قَالَ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولي الضَّرَر وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم [سُورَة النِّسَاء 95] فَهَؤُلَاءِ لَهُم علم بالمأمور بِهِ الْكَامِل واعتقاد الْأَمر بِهِ وَإِرَادَة فعله بِحَسب الْإِمْكَان وَهَذَا كُله من أدائهم للْمَأْمُور بِهِ فَإِذا تَجَدَّدَتْ لَهُم قدرَة لم يَتَجَدَّد رَغْبَة فِي الْفِعْل الْكَامِل وَإِنَّمَا يَتَجَدَّد الْعَمَل بِتِلْكَ الرَّغْبَة الْمُتَقَدّمَة وَإِن كَانَ لَا بُد لهَذَا الْفِعْل من إِرَادَة تخصه وَلم يكن هَؤُلَاءِ مأمورين بذلك إِلَّا فِي هَذِه الْحَال فَقَط كَمَا تُؤمر الْمَرْأَة بِالصَّلَاةِ عِنْد انْقِضَاء الْحيض وكما يُؤمر الصَّبِي بِمَا يجب عَلَيْهِ عِنْد بُلُوغه وكما يُؤمر المزكى بِالزَّكَاةِ بعد ملك النّصاب والحول وَالْمُصَلي بِالصَّلَاةِ بعد دُخُول الْوَقْت وَأما النَّاسِي والمخطىء فَإِنَّهُ لم يكن قد أَتَى بِالْعلمِ والاعتقاد والإرادة فَلَا يُثَاب على هَذِه الْأُمُور الَّتِي لم تكن لَهُ بل يكون الَّذِي حصل لَهُ ذَلِك أفضل مِنْهُ بهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ [سُورَة الزمر 9] فنفى الْمُسَاوَاة بَين الَّذِي يعلم وَالَّذِي لَا يعلم مُطلقًا لم يسْتَثْن الْمَعْذُور كَمَا اسْتثْنى فِي تَفْضِيل الْمُجَاهِد على الْقَاعِد الْمَعْذُور وَكَذَلِكَ سَائِر مَا فِي الْقُرْآن من نَحْو هَذَا كَقَوْلِه وَمَا يَسْتَوِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الْأَعْمَى والبصير وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور وَلَا الظل وَلَا الحرور وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات [سُورَة فاطر 19 - 22] وَقَوله مثل الْفَرِيقَيْنِ كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَل يستويان مثلا [سُورَة هود 24] وَقَوله أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا [سُورَة الْأَنْعَام 122] وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر لم يَجْعَل أجر الْعَاجِز على إِصَابَة الصَّوَاب مَعَ اجْتِهَاده كَأَجر الْقَادِر عَلَيْهِ كَمَا جعل للْمَرِيض وَالْمُسَافر مثل ثَوَاب الصَّحِيح الْمُقِيم كَمَا جعل الْمَعْذُور من القاعدين عَن الْجِهَاد الَّذِي تمت رغبته بِمَنْزِلَة الْمُجَاهِد فَإِن الأَصْل هُوَ الْقلب وَالْبدن تَابع فالمستويان فِي عمل الْقلب إِذا فعل كل مِنْهُمَا بِقدر بدنه متماثلان بِخِلَاف المتفاضلين فِي عمل الْقلب علمه وإرادته وَمَا يتبع ذَلِك فَإِنَّهُمَا لَا يتماثلان وَلِهَذَا يُعَاقب العَبْد على مَا تَركه من الْإِيمَان بِقَلْبِه وَإِن قيل إِن ذَلِك تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَلَا يُعَاقب على مَا عجز عَنهُ بدنه بِاتِّفَاق الْمُسلمين فَهُوَ يُعَاقب على ترك مَا أَمر بإرادته وَفعله وَإِن كَانَت نَفسه لَا تريده وَلَا تحبه وَلَيْسَ هُوَ معاقبا على ترك مَا عجز عَنهُ بدنه كجهاد المقعد وَالْأَعْمَى وَنَحْوهمَا وَنَفسه إِنَّمَا لَا تعلم الْحق الَّذِي بعث الله بِهِ رسله وَلَا تريده لتَفْرِيطه وتعديه إِذْ آيَات ذَلِك الْحق ظَاهره وَهُوَ مَحْبُوب وَقد خلق الله كل مَوْلُود على الْفطْرَة الَّتِي تَتَضَمَّن الْقُوَّة على معرفَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 هَذَا الْحق وعَلى محبته وَلَكِن غير فطرته بِمَا يقلده عَن غَيره كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فأبوه يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة جَمْعَاء هَل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء وَإِذا كَانَ قد خلق على الصِّحَّة والسلامة فَهُوَ يسْتَحق الْعقُوبَة على مَا غَيره من خلق الله بتفريطه وعدوانه لاتباعه الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَقد بعث الله الرُّسُل مبشرين ومنذرين وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا [سُورَة الْإِسْرَاء 15] وَهَذَا مِمَّا يظْهر بِهِ الْفرق بَين الْمُجْتَهد المخطىء وَالنَّاسِي من هَذِه الْأمة فِي الْمسَائِل الخبرية والعملية وَبَين المخطىء من الْكفَّار وَالْمُشْرِكين وَأهل الْكتاب الَّذِي بلغته الرسَالَة إِذا قيل إِنَّه غير معاند للحق فَإِن ذَاك لَا يكون خَطؤُهُ إِلَّا لتَفْرِيطه وعدوانه لَا يتَصَوَّر أَن يجْتَهد فَيكون مخطئا فِي الْإِيمَان بالرسول بل مَتى اجْتهد وَالِاجْتِهَاد استفراغ الوسع فِي طلب الْعلم بذلك كَانَ مصيبا للْعلم بِهِ بِلَا ريب فَإِن دَلَائِل مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول ودواعيه فِي نِهَايَة الْكَمَال والتمام الَّذِي يَشْمَل كل من بلغته وَلَا يتْرك أحد قطّ اتِّبَاع الرَّسُول إِلَّا لتفريط وعدوان فَيسْتَحق الْعقَاب بِخِلَاف كثير من تَفْصِيل مَا جَاءَ بِهِ فَإِنَّهُ قد يعزب علمه عَن كثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 من خَواص الْأمة وعوامها بِحَيْثُ لَا يكونُونَ فِي ترك مَعْرفَته لَا مقصرين وَلَا مفرطين فَلَا يعاقبون بِتَرْكِهِ مَعَ أَنهم قد آمنُوا بِهِ إِيمَانًا محملًا فِي إِيمَانهم بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُل فهم آمنُوا بِهِ مُجملا وَمَعَهُمْ أصُول الْإِيمَان بِهِ كَمَا أَن الْفَاسِق مَعَه الدَّوَاعِي لفعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور فَلهَذَا كَانَ المخطىء بالتأويل من هَذِه الْأمة وَالْفَاسِق بِالْفِعْلِ مَعَ صِحَة الِاعْتِقَاد كل مِنْهُمَا محسنا من وَجه مسيئا من وَجه وَلَيْسَ وَاحِد مِنْهُمَا كالكفار من الْمُشْركين وَأهل الْكتاب وَإِن كَانُوا فِي ذَلِك على دَرَجَات مُتَفَاوِتَة بل كل مِنْهُمَا لَيْسَ تَارِكًا لما أَمر بِهِ من الِاعْتِقَاد وَالْعَمَل مُطلقًا وَلَا فَاعِلا لضده مُطلقًا بل المتأول قد آمن إِيمَانًا عَاما بِكُل مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول واستسلم لكل مَا أمره بِهِ وَهَذَا الْإِيمَان وَالْإِسْلَام يتَنَاوَل مَا جَهله ويدعوه إِلَى الْإِيمَان وَالْإِسْلَام الْمفصل إِذا علمه لَكِن عَارض ذَلِك من جَهله وظلمه لنَفسِهِ مَا قد يكون مغفورا لَهُ وَقد يكون معذبا بِهِ وَلذَلِك الْفَاجِر بِالْعَمَلِ مَعَه من الْإِيمَان بقبح الْفِعْل وبغضه مَا هُوَ دَاع لَهُ إِلَى فعل الأَصْل الْمَأْمُور بِهِ وداع لَهُ إِلَى تَركه لَكِن عَارض ذَلِك من هَوَاهُ مَا منع كَمَال طَاعَته بِخِلَاف المكذب للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْكَافِر بِهِ فَإِنَّهُ لم يصدق بِالْحَقِّ وَلم يستسلم لَهُ لَا جملَة وَلَا تَفْصِيلًا لَكِن قد يكون مَا اتبعهُ من ظَنّه وهواه مُوجبا لبَعض مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول ومانعا لَهُ من النّظر فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع مَعَ ذَلِك أَن يسمع بِهِ فَهَذَا وَاقع كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وعرضنا جَهَنَّم يَوْمئِذٍ للْكَافِرِينَ عرضا الَّذين كَانَت أَعينهم فِي غطاء عَن ذكري وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا [سُورَة الْكَهْف 100 - 101] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وَقَالَ تَعَالَى وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أُولَئِكَ يعرضون على رَبهم وَيَقُول الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم أَلا لعنة الله على الظَّالِمين الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله ويبغونها عوجا وهم بِالآخِرَة هم كافرون أُولَئِكَ لم يَكُونُوا معجزين فِي الأَرْض وَمَا كَانَ لَهُم من دون الله من أَوْلِيَاء يُضَاعف لَهُم الْعَذَاب مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع وَمَا كَانُوا يبصرون [سُورَة هود 18 - 20] لَكِن عدم هَذِه الإستطاعة كَانَ بتفريطه وعدوانه وَمن كَانَ تَركه للْمَأْمُور بذنب مِنْهُ أَو ضَرُورَته إِلَى الْمَحْظُور بذنب مِنْهُ لم يكن ذَلِك مَانِعا من ذمه وعقابه وَمن هَذَا قَوْله سُبْحَانَهُ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة [سُورَة الْأَنْعَام 11] وَقَالَ تَعَالَى وَقَالُوا قُلُوبنَا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا مَا يُؤمنُونَ [سُورَة الْبَقَرَة 88] وَقَالَ وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا [سُورَة النِّسَاء 155] وَبِهَذَا يظْهر ضعف قَول طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين الَّذين يَقُولُونَ الْخَطَأ وَالْإِثْم يتلازمان ثمَّ مِنْهُم من يَقُول كل مُجْتَهد فِي الْمسَائِل العملية مُصِيب كَمَا يَقُوله كثير من الْمُعْتَزلَة والأشعرية وَمِنْهُم من يَقُول بل فِيهَا مخطىء والمخطىء آثم كَمَا يَقُوله المريسي وَغَيره وَذَلِكَ أَنهم اعتقدوا أَنه حَيْثُ يكون مخطئا يكون تَارِكًا لما وَجب عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ثمَّ قَالَ الْأَولونَ فَإِذا لم يكن تَارِكًا للْمَأْمُور بِهِ فَلَا يكون لله فِي الْمَسْأَلَة حكم معِين أَو لَا يكون الحكم الْمَنْصُوص حكما فِي حَقه إِذا لم يتَمَكَّن من مَعْرفَته وَقَالَ الْآخرُونَ بل إِذا كَانَ مخطئا يكون تَارِكًا للْمَأْمُور بِهِ فَيكون آثِما وَالتَّحْقِيق أَنه مَأْمُور بِهِ أمرا مُطلقًا لَكِن شَرط الْإِثْم بِمَنْزِلَة التَّمَكُّن من مَعْرفَته فَإِذا لم يتَمَكَّن من مَعْرفَته لَا يكون شَرط الْإِثْم مَوْجُودا فِيهِ وَلَكِن ذَلِك لَا ينفى أَن يكون هُوَ الْمَأْمُور بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُحِبهُ الله ويرضاه ويثيب فَاعله إِذا فعله وَإِنَّمَا سقط عَن بعض الْعباد لفَوَات الشَّرْط فِي حَقه خَاصَّة وَحِينَئِذٍ فَيكون النزاع فِي بعض الْمَوَاضِع نزاعا لفظيا وَلِهَذَا اخْتلف الْعلمَاء هَل هُوَ مُصِيب فِي اجْتِهَاده وَإِن كَانَ مخطئا فِي نفس الْأَمر أَو هُوَ مخطىء فِي اجْتِهَاده وَفِي نفس الْأَمر على قَوْلَيْنِ ذكرهمَا القَاضِي رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَذَلِكَ أَن الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد قد يَعْنِي بِهِ الْقُصُور وَالتَّقْصِير وَقد لَا يَعْنِي بِهِ إِلَّا التَّقْصِير إِذْ الْعَاجِز عَن معرفَة الحكم الَّذِي لله عَاجز قَاصِر لَيْسَ بمقصر وَلَا مفرط فِيمَا بعد عَلَيْهِ فَإِذا قَالَ أَخطَأ فِي اجْتِهَاده أَرَادَ أَخطَأ فِي استدلاله بِمَعْنى أَنه لم يسْتَدلّ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يوصله إِلَى نفس الْحق وَلَا ريب أَنه أَخطَأ هَذَا الإستدلال الْموصل لَهُ إِلَى الْحق إِذْ لَو أَصَابَهُ لأصاب الْحق لكنه لم يكن قَادِرًا على هَذَا الإستدلال فَلَا يُعَاقب على تَركه وَمن قَالَ لم يخطىء فِي اجْتِهَاده أَرَادَ أَنه لم يخطىء فِيمَا قدر عَلَيْهِ من الِاجْتِهَاد بل فعله على وَجهه لَكِن لم يكن مقدوره من الِاجْتِهَاد كَافِيا فِي إِدْرَاك الْمَطْلُوب فِي نفس الْأَمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وَمثل هَذَا النزاع أَن يُقَال هَل فعل مَا أَمر بِهِ أَو لم يفعل مَا أَمر بِهِ فالمأمور بِهِ فِي نفس الْأَمر لم يَفْعَله وَأما الْمَأْمُور بِهِ فِي حَقه من الْعَمَل الْمُمكن فقد فعله وَلذَلِك إِذا اشتبهت اخته بأجنبية هَل يُقَال الْحَرَام فِي نفس الْأَمر وَاحِدَة أم الإثنتان محرمتان على الْقَوْلَيْنِ بِهَذَا الإعتبار فصل التَّوْبَة من الْحَسَنَات لَا تجوز عِنْد أحد من الْمُسلمين فَأَما التَّوْبَة من الْحَسَنَات فَلَا تجوز عِنْد أحد من الْمُسلمين بل من تَابَ من الْحَسَنَات مَعَ علمه بِأَنَّهُ تَابَ من الْحَسَنَات فَهُوَ إِمَّا كَافِر وَإِمَّا فَاسق وَإِن لم يعلم أَنه تَابَ من الْحَسَنَات فَهُوَ جَاهِل ضال وَذَلِكَ أَن الْحَسَنَات هِيَ الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح فالتوبة من الْإِيمَان هِيَ الرُّجُوع عَنهُ وَالرُّجُوع عَنهُ ردة وَذَلِكَ كفر وَالتَّوْبَة من الْأَعْمَال الصَّالِحَة رُجُوع عَمَّا أَمر الله بِهِ وَذَلِكَ فسوق أَو مَعْصِيّة وَالله تَعَالَى حبب إِلَى الْمُؤمنِينَ الْإِيمَان وَكره إِلَيْهِم الْكفْر والفسوق والعصيان فَكل حَسَنَة يَفْعَلهَا العَبْد إِمَّا وَاجِبَة وَإِمَّا مُسْتَحبَّة وَالتَّوْبَة تَتَضَمَّن النَّدَم على مَا مضى والعزم على أَن لَا يعود إِلَى مثله فِي الْمُسْتَقْبل والندم يتَضَمَّن ثَلَاثَة أَشْيَاء اعْتِقَاد قبح مَا نَدم عَلَيْهِ وبغضه وكراهته وألم يلْحقهُ عَلَيْهِ فَمن اعْتقد قبح مَا أَمر الله بِهِ أَمر إيحاب أَو اسْتِحْبَاب أَو أبْغض ذَلِك وَكَرِهَهُ بِحَيْثُ يتألم على فعله ويتأذى بِوُجُودِهِ فَفِيهِ من النِّفَاق بِحَسب ذَلِك وَهُوَ إِمَّا نفاق أكب ريخرجه من أصل الْإِيمَان وَإِمَّا نفاق أَصْغَر يُخرجهُ من كَمَاله الْوَاجِب عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم [سُورَة مُحَمَّد 28] وَقَالَ تَعَالَى وَإِذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 مَا أنزلت [سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وماتوا وهم كافرون سُورَة التَّوْبَة 124 - 125] وَقَالَ تَعَالَى وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين وَلَا يزِيد الظَّالِمين إِلَّا خسارا [سُورَة الْإِسْرَاء 82] بل إِذا علم العَبْد أَن هَذَا الْفِعْل قد أمره الله بِهِ وأحبه فَاعْتقد هُوَ أَن ذَلِك لَيْسَ مِمَّا أَمر الله بِهِ وأبغضه وَكَرِهَهُ فَهُوَ كَافِر بِلَا ريب فَمثل هَذِه التَّوْبَة عَن الْحَسَنَات هِيَ ردة مَحْضَة عَن الْإِيمَان وَكفر بِالْإِيمَان وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين [سُورَة الْمَائِدَة 5] فإطلاق القَوْل بِأَن الْحَسَنَات يُتَاب مِنْهَا هُوَ كفر يجب أَن يُسْتَتَاب صَاحبه إِذْ مَعْنَاهُ أَنه يُؤمر بِالرُّجُوعِ عَن الْحَسَنَات واعتقاد أَن الرُّجُوع عَن الْحَسَنَات يقرب إِلَى الله وَهَذَا كفر بِلَا ريب ثمَّ إِن هَذِه التَّوْبَة متناقضة ممتنعة فِي نَفسهَا فَإِن التائب من الْحَسَنَات إِن اعْتقد أَن هَذِه التَّوْبَة حَسَنَة فَعَلَيهِ أَن يَتُوب مِنْهَا فَتكون بَاطِلَة فَلَا يكون قد تَابَ من الْحَسَنَات وَإِن اعْتقد أَنَّهَا سَيِّئَة كَانَ مقرا بِأَن هَذِه التَّوْبَة مُحرمَة فقد الْتزم أحد أَمريْن إِمَّا أَنه لم يتب من الْحَسَنَات أَو تَابَ تَوْبَة مُحرمَة وَهَذَا اشْتبهَ عَلَيْهِ حَال السَّابِقين المقربين الَّذين يتوبون من ترك المستحبات أَو فعل المكروهات غير الْمُحرمَات فَظن أَنهم تَابُوا مِمَّا فَعَلُوهُ من الْحَسَنَات وتركوه من الْمُحرمَات فَإِنَّهُم لَو تَابُوا من ذَلِك لكانوا مرتدين إِمَّا عَن أصل الْإِيمَان وَإِمَّا عَن كَمَاله وَإِنَّمَا هِيَ كوبة عَمَّا تَرَكُوهُ من مُسْتَحبّ وفعلوه من مَكْرُوه مثل أَن يكو العَبْد يُصَلِّي صَلَاة مجزئة غير كَامِلَة فتبلغه صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المستحبة فَيصَلي كصلاته ويندم على مَا كَانَ يَفْعَله من الصَّلَاة النَّاقِصَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فَهُوَ لَا يَتُوب مِمَّا فعله من الْحسن وَإِنَّمَا يَتُوب مِمَّا تَركه من الْحسن وَلِهَذَا ينْسب نَفسه إِلَى التَّفْرِيط بِمَا أضاعه من الْحَسَنَات وَكَذَلِكَ إِذا سمع فَضَائِل الْأَعْمَال المستحبة وَمَا وعد الله لأصحابها من علو الدَّرَجَات فيندم على مَا فرط من ذَلِك ويعزم على فعلهَا فَهُوَ تَوْبَة مِمَّا تَركه من الْحَسَنَات وَكَذَلِكَ لَو كَانَ يصبر على المكاره مثل الْفقر وَالْمَرَض وَخَوف الْعَدو من غير رضى بذلك فَبَلغهُ مقَام أهل الرِّضَا وَأَنه أَعلَى من الصَّبْر الَّذِي لَا رضَا مَعَه وَأَن هَؤُلَاءِ يسْتَحقُّونَ رضوَان الله عَلَيْهِم وَأَن أول من يدعى إِلَى الْجنَّة الْحَمَّادُونَ الَّذين يحْمَدُونَ الله على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَمَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لِابْنِ عَبَّاس إِن اسْتَطَعْت أَن تعْمل لله بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِين فافعل وَإِن لم تستطع فَإِن فِي الصَّبْر على مَا يكره خيرا كثيرا فَهَذَا يَتُوب من ترك الرِّضَا لَا من نفس مَا أَمر بِهِ من الصَّبْر فَإِن الصَّبْر يبْقى مَعَ الرِّضَا لَا بُد من الصَّبْر فِي الْحَالَتَيْنِ لَكِن تذْهب مرَارَة الْكَرَاهَة بِالرِّضَا وَتلك المرارة لَيست من الْحَسَنَات الْمَأْمُور بهَا وَلَا هِيَ دَاخِلَة أَيْضا فِي حد الصَّبْر الْمَأْمُور بِهِ بل الصَّبْر قد تكون مَعَه مرَارَة وَقد لَا تكون وَمن اعْتقد أَن الصَّبْر لَا يكون إِلَّا مَعَ مرَارَة وَأَنه ضد الرِّضَا فقد تكلم بعرف بعض الْمُتَأَخِّرين وَلَيْسَ ذَاك عرف الْكتاب وَالسّنة فَإِن الله تَعَالَى أمرنَا بِالصبرِ وَأثْنى على أَصْحَابه فِي أَكثر من تسعين موضعا من كِتَابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وَالله تَعَالَى لَا يَأْمر بِمَا هُوَ مَكْرُوه أَو ترك الْأَفْضَل وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بِفعل الْحسن لَا بترك الْأَحْسَن وَبِهَذَا يعرف قَول من قَالَ حَسَنَات الْأَبْرَار سيئات المقربين مَعَ أَن هَذَا اللَّفْظ لَيْسَ مَحْفُوظًا عَمَّن قَوْله حجَّة لَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن أحد من سلف الْأمة وأئمتها وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام وَله معنى صَحِيح وَقد يحمل على معنى فَاسد الْمَعْنى الصَّحِيح لعبارة: حَسَنَات الْأَبْرَار سيئات المقربين أما مَعْنَاهُ الصَّحِيح فَوَجْهَانِ أَحدهمَا أَن الْأَبْرَار يقتصرون على أَدَاء الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات وَهَذَا الإقتصار سَيِّئَة فِي طَرِيق المقربين وَمعنى كَونه سَيِّئَة أَن يخرج صَاحبه عَن مقَام المقربين فَيحرم درجاتهم وَذَلِكَ مِمَّا يسوء من يُرِيد أَن يكون من المقربين فَكل من أحب شَيْئا وَطَلَبه إِذا فَاتَهُ محبوبه ومطلوبه سَاءَهُ ذَلِك فالمقربون يتوبون من الإقتصار على الْوَاجِبَات لَا يتوبون من نفس الْحَسَنَات الَّتِي يعْمل مثلهَا الْأَبْرَار بل يتوبون من الإقتصار عَلَيْهَا وَفرق بَين التَّوْبَة من فعل الْحسن وَبَين التَّوْبَة من ترك الْأَحْسَن والإقتصار على الْحسن الثَّانِي أَن العَبْد قد يُؤمر بِفعل يكون حسنا مِنْهُ إِمَّا وَاجِبا وَإِمَّا مُسْتَحبا لِأَن ذَلِك مبلغ علمه وَقدرته وَمن يكون أعلم مِنْهُ وأقدر لَا يُؤمر بذلك بل يُؤمر بِمَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ فَلَو فعل هَذَا مَا فعله الأول كَانَ ذَلِك سَيِّئَة مِثَال ذَلِك أَن الْعَاميّ يُؤمر بِمَسْأَلَة الْعلمَاء المأمونين على الْإِسْلَام وَالرُّجُوع إِلَيْهِم بِحَسب قُوَّة إِدْرَاكه وَإِن كَانَ فِي ذَلِك تَقْلِيد لَهُم إِذا لَا يُؤمر العَبْد إِلَّا بِمَا يقدر عَلَيْهِ وَأما الْعلمَاء القادرون على معرفَة الْكتاب وَالسّنة والإستدلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 بهما فَلَو تركُوا ذَلِك وَأتوا بِمَا يُؤمر بِهِ الْعَاميّ لكانوا مسيئين بذلك وَهَذَا كَمَا يُؤمر الْمَرِيض أَن يُصَلِّي قَائِما فَإِن لم يسْتَطع فقاعدا فَإِن لم يسْتَطع فعلى جنب وكما يُؤمر الْمُسَافِر أَن يُصَلِّي الظّهْر وَالْعصر وَالْعشَاء رَكْعَتَيْنِ فِي السّفر وَهَذَا لَو فعله الْمُقِيم لَكَانَ مسيئا تَارِكًا للْفَرض بل فَرْضه أَربع رَكْعَات فَإِن الْمَرَض وَالسّفر لَا ينقص العَبْد عَن كَونه مقربا إِذا كَانَ ذَلِك حَاله فِي الْإِقَامَة فقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا مرض العَبْد أَو سَافر كتب لَهُ من الْعَمَل مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ صَحِيح مُقيم بِخِلَاف الْعلم وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله بِالنَّفسِ وَالْمَال والمسابقة إِلَى الْخيرَات فَإِن الله يَقُول يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات [سُورَة المجادلة 11] وَيَقُول لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولي الضَّرَر وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فضل الله الْمُجَاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم على القاعدين دَرَجَة وكلا وعد الله الْحسنى [سُورَة النِّسَاء 95] وَيَقُول فِي كِتَابه لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى [سُورَة الْحَدِيد 10] وَيَقُول أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله لَا يستوون عِنْد الله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله وَأُولَئِكَ هم الفائزون يبشرهم رَبهم برحمة مِنْهُ ورضوان وجنات لَهُم فِيهَا نعيم مُقيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 خَالِدين فِيهَا أبدا إِن الله عِنْده أجر عَظِيم [سُورَة التَّوْبَة 19 - 22] وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا تسبوا أَصْحَابِي فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أنْفق أحدكُم سُئِلَ أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه وَقَالَ خير القورن الْقرن الَّذين بعثت فيهم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ فالعلم وَالْجهَاد كالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَمَا يدْخل فِي ذَلِك هُوَ وَاجِب على الْكِفَايَة من الْمُؤمنِينَ فَمن قَامَ بِهِ كَانَ أفضل مِمَّن لم يقم بِهِ وَإِذا ترك ذَلِك من تعين عَلَيْهِ كَانَ مذنبا مسيئا فَيكون ذَلِك سَيِّئَة لَهُ إِذا تَركه وحسنة مفضلة لَهُ على غَيره إِذا فعله وَإِن كَانَ الْقيام بالواجبات بِدُونِ ذَلِك من حَسَنَات من لم يكن قَادِرًا على ذَلِك فحسنات هَؤُلَاءِ الْأَبْرَار وَهِي الإقتصار على ذَلِك سيئات أُولَئِكَ المقربين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وَكَذَلِكَ السَّابِقُونَ الْأَولونَ من هَذِه الْأمة فِيمَا فَعَلُوهُ من الْجِهَاد وَالْهجْرَة لَو تركُوا ذَلِك واقتصروا على مَا دون كَانَ ذَلِك من أعظم سيئاتهم قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة وَإِذا استنفرتم فانفروا كَانَ الإقتصار على مُجَرّد ذَلِك من حَسَنَات الْأَبْرَار الَّذين لَيْسُوا من أُولَئِكَ السَّابِقين وَكَذَلِكَ المُرْسَلُونَ لَهُم مأمورات لَو تركوها كَانَ ذَلِك سيئات وَإِن كَانَ فعل مَا دونهَا حَسَنَات لغَيرهم مِمَّن لم يُؤمر بذلك إِلَى نَظَائِر ذَلِك مِمَّا يُؤمر فِيهِ العَبْد بِفعل لم ؤمر بِهِ من هُوَ دونه فَيكون ترك ذَلِك سَيِّئَة فِي حقهه وَهُوَ من المقربين إِذا فعله وَيكون فعل مَا دون ذَلِك حَسَنَات لمن دونه وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان يفضل على غَيره إِمَّا بِفعل مُسْتَحبّ فِي حَقّهمَا وَإِمَّا بِمَا يُؤمر بِهِ أَحدهمَا دون الآخر فيفعله وتخصيصه بِفِعْلِهِ قد يكون لقدرته وَقد يكون لامتحانه بِسَبَبِهِ كمن لَهُ والدان فَإِنَّهُ يُؤمر ببرهما وَيكون بذلك أفضل مِمَّن لم يعْمل مثل عمله كَمَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حق المتصدقين بِفُضُول أَمْوَالهم المشاركين لغَيرهم فِي الْأَعْمَال البدينة ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء فَهَؤُلَاءِ المفضلون الإقتصار على مَا دون هَذِه الْأُمُور سيئات فِي حَقهم وحسنات لمن لَيْسَ مثلهم فِي ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فهذان الْوَجْهَانِ كِلَاهُمَا معنى صَحِيح لقَوْل الْقَائِل حَسَنَات الْأَبْرَار سيئات المقربين الْمَعْنى الْفَاسِد للعبارة وَأما الْمَعْنى الْفَاسِد فَأن يظنّ الضان أَن الْحَسَنَات الَّتِي أَمر الله بهَا أمرا عَاما يدْخل فِيهِ الْأَبْرَار وَيكون سيئات للمقربين مثل من يظنّ أَن الصَّلَوَات الْخمس ومحبة الله وَرَسُوله والتوكل على الله وإخلاص الدَّين لله وَنَحْو ذَلِك هِيَ سيئات فِي حق المقربين فَهَذَا قَول فَاسد غلا فِيهِ قوم من الزَّنَادِقَة الْمُنَافِقين المنتسبين إِلَى الْعلمَاء والعباد فزعموا أَنهم يصلونَ إِلَى مقَام المقربين الَّذِي لَا يؤمرون فِيهِ بِمَا يُؤمر بِهِ عُمُوم الْمُؤمنِينَ من الْوَاجِبَات وَلَا يحرم عَلَيْهِم مَا يحرم على عُمُوم الْمُؤمنِينَ من الْمُحرمَات كَالزِّنَا وَالْخمر وَالْميسر وَكَذَلِكَ زعم قوم فِي أَحْوَال الْقُلُوب الَّتِي يُؤمر بهَا جَمِيع الْمُؤمنِينَ أَن المقربين لَا تكون هَذِه حَسَنَات فِي حَقهم وكلا هذَيْن من أَخبث الْأَقْوَال وأفسدها وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن التائب من الْحَسَنَات إِن علم أَنَّهَا حَسَنَات وَتَابَ مِنْهَا فقد أذْنب إِمَّا بِكفْر أَو فسوق أَو مَعْصِيّة وَإِن لم يعلم أَنَّهَا حَسَنَات فَهُوَ ضال جَاهِل لِأَنَّهُ إِذا تَابَ مِمَّا يُسمى حَسَنَة وَكَانَ حَسَنَة فِي الشَّرِيعَة حَقِيقَة قد أَمر الله بهَا فَهُوَ ارْجع عَن طَاعَة الله الَّتِي هِيَ طَاعَته وَهِي حَسَنَة وَالرُّجُوع عَن طَاعَة الله وَدينه لَا يخرج عَن أَن يكون ردة عَن أصل الدَّين فَيكون كفرا مغلظا وَإِمَّا عَن كَمَاله هَذَا لَو كَانَ الرُّجُوع بِنَفس التّرْك فَإِن ترك الْإِيمَان كفر وَترك الْوَاجِبَات إِمَّا فسق وَإِمَّا مَعْصِيّة وَترك المستحبات المتطوعة يُؤَخر دَرَجَته هَذَا إِذا كَانَ تركا مَحْضا فَأَما إِذا اعقتد مَعَ ذَلِك أَن الْحَسَنَات الَّتِي يُحِبهَا الله وَرَسُوله مِمَّا يُتَاب مِنْهَا بِحَيْثُ ينْدَم العَبْد عَلَيْهَا فيعتقد أَن تَركهَا خير من فعلهَا أَو أَنَّهَا لَيست أمورا بهَا أَو أَنَّهَا لَا تقرب إِلَى الله أَو لَا تَنْفَع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 عِنْده أَو أبغضها وكرهها وَرجع عَنْهَا وتألم من فعلهَا مندينا بذلك فَهَذَا كَافِر مُرْتَد تجب استتابته بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء وَهَذَا هُوَ مُسَمّى التَّوْبَة فَعلم أَن القَوْل بِأَن الْحَسَنَات يُتَاب مِنْهَا كفر مَحْض وَأما إِن لم يعلم أَنَّهَا حَسَنَات بل تَابَ مِمَّا كَانَ يُسَمِّيه أَو غَيره حَسَنَات أَو كَانَ حَسَنَة فِي الشَّرِيعَة وَلم يعلم العَبْد أَنه حَسَنَة بل ظن أَنه سَيِّئَة أَو كَانَ سَيِّئَة مَنْهِيّا عَنْهَا واعتقد الْمَرْء أَنه حَسَنَة مَأْمُور بهَا فَهُوَ ضال جَاهِل وَهَذَا عَلَيْهِ أَن يَتُوب من هَذَا الِاعْتِقَاد وَالْعَمَل الَّذِي كَانَ يعْتَقد أَنه حَسَنَة كَمَا يَتُوب كل ضال من الْكفَّار وَأهل الْأَهْوَاء الْمُشْركين وَأهل الْكتاب والمبتدعة كالخوارج وَالرَّوَافِض والقدرية والجهمية وَغَيرهم فَإِن هَؤُلَاءِ يتوبون مِمَّا كَانُوا يَظُنُّونَهُ حَسَنَات لَا يتوبون مِمَّا هُوَ فِي الشَّرِيعَة حَسَنَات وَلَا يطلقون القَوْل إِنَّا نتوب من الْحَسَنَات وَلَا أَن التَّوْبَة من الْحَسَنَات فعل المقربين وَلَا أَن التَّوْبَة من الْحَسَنَات مَشْرُوع للسابقين وَلَا أَن الَّذِي تبنا مِنْهُ كَانَ حَسَنَات وَلَكِن يَقُولُونَ نتوب مِمَّا كُنَّا نظن أَنه حَسَنَات وَلَيْسَ بحسنات كَمَا قيل إِذا محاسني اللَّاتِي أدل بهَا ... كَانَت ذُنُوبِي فَقل لي كَيفَ أعْتَذر وَكَذَلِكَ يَتُوب الْمَرْء مِمَّا يعده حَسَنَات لَهُ وَهُوَ مقصر فِي فعله أَو خَائِف من تَقْصِيره فِي فعله كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وَجلة أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 60] وَقد روى عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله أهوَ الرجل يَزْنِي وَيسْرق وَيشْرب الْخمر وَيخَاف فَقَالَ لَا يَا بنت الصّديق وَلكنه الرجل يَصُوم وَيُصلي وَيتَصَدَّق وَيخَاف أَلا يقبل مِنْهُ وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ [سُورَة الْمَائِدَة 27] أَي من الَّذين يتقونه فِي الْعَمَل وَالتَّقوى فِي الْعَمَل بشيئين أَحدهمَا إخلاصه لله وَهُوَ أَن يُرِيد بِهِ وَجه الله لَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدا وَالثَّانِي أَن يكون مِمَّا أمره الله بِهِ وأحبه فَيكون مُوَافقا للشريعة لَا من الدَّين الَّذِي شَرعه من لم يَأْذَن الله لَهُ وَهَذَا كَمَا قَالَ الفضيل بن عِيَاض فِي قَوْله ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا [سُورَة هود 7] قَالَ اخلصه وأصوبه وَذَلِكَ أَن الْعلم إِذا كَانَ خَالِصا وَلم يكن صَوَابا لم يقبل وَإِذا كَانَ صَوَابا وَلم يكن خَالِصا لم يقبل حَتَّى يكون خَالِصا صَوَابا والخالص أَن يكون لله وَالصَّوَاب أَن يكون على السّنة فالسعيد يخَاف فِي أَعماله أَن لَا يكون صَادِقا فِي إخلاصه الدَّين لله أَو أَن لَا تكون مُوَافقَة لما أَمر الله بِهِ على لِسَان رَسُوله وَلِهَذَا كَانَ السّلف يخَافُونَ النِّفَاق على أنفسهم فَذكر البُخَارِيّ عَن أبي عالية قَالَ أدْركْت ثَلَاثِينَ من أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلهم يخَاف النِّفَاق على نَفسه وَلِهَذَا كَانُوا يستثنون فَيَقُول أحدهم أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله وَمثل هَؤُلَاءِ يَسْتَغْفِرُونَ الله مِمَّا علموه أَو لم يعلموه من التَّقْصِير والتعدي ويتوبون من ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وَهَذَا مَشْرُوع للأنبياء وَالْمُؤمنِينَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَغْفر بعد الصَّلَاة ثَلَاثًا وَقَالَ تَعَالَى والمستغفرين بالأسحار [سُورَة آل عمرَان 17] قَالُوا كَانُوا يحيون اللَّيْل صَلَاة ثمَّ يَقْعُدُونَ فِي السحر يَسْتَغْفِرُونَ فيختمون قيام اللَّيْل بالإستغفار وَقَالَ تَعَالَى فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام واذكروه كَمَا هدَاكُمْ وَإِن كُنْتُم من قبله لمن الضَّالّين ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم [سُورَة الْبَقَرَة 198 - 199] وَقَالَ تَعَالَى إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ إِنَّه كَانَ تَوَّابًا فَإِن قيل قد قَالَ تَعَالَى وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تفلحون [سُورَة النُّور 31] وَفِي الْمُؤمنِينَ من لَا ذَنْب لَهُ فَيكون أمره بِالتَّوْبَةِ أمرا بِالتَّوْبَةِ من الْحَسَنَات وَكَذَلِكَ تَوْبَة الْأَنْبِيَاء وهم معصومون لم تأت الشَّرِيعَة بِالتَّوْبَةِ من الْحَسَنَات قيل هَذَا من أعظم الْفِرْيَة لم تأت الشَّرِيعَة بِالتَّوْبَةِ من الْحَسَنَات وَهِي مَا أَمر بِهِ من طَاعَته وَطَاعَة أنبيائه وَلَيْسَ فِي الْمُؤمنِينَ إِلَّا من لَهُ ذَنْب من ترك مَأْمُور أَو فعل مَحْظُور كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل بني آدم خطاء وَخير الْخَطَّائِينَ التوابون وَقد قَالَ تَعَالَى وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 المتقون لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة الزمر 33 - 35] وَقَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذين نتقبل عَنْهُم أحسن مَا عمِلُوا ونتجاوز عَن سيئاتهم فِي أَصْحَاب الْجنَّة وعد الصدْق الَّذِي كَانُوا يوعدون [سُورَة الْأَحْقَاف 16] أصل هَذِه الْمقَالة هُوَ دَعْوَى الْعِصْمَة فِي الْمُؤمنِينَ وأصل هَذِه الْمقَالة وَهُوَ دَعْوَى الْعِصْمَة فِي الْمُؤمنِينَ وَمَا يشبه ذَلِك هُوَ من أَقْوَال الغالية من النَّصَارَى وغالية هَذِه الْأمة وابتدعها فِي الملتين منافقوها غلو النَّصَارَى فِي هَذِه الدَّعْوَى قَالَ الله تَعَالَى يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ [سُورَة النِّسَاء 171] وَقَالَ تَعَالَى يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل [سُورَة الْمَائِدَة 77] وَقَالَ تَعَالَى مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عبادا لي من دون الله وَلَكِن كونُوا ربانيين بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ الْكتاب وَبِمَا كُنْتُم تدرسون وَلَا يَأْمُركُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَة والنبيين أَرْبَابًا أيأمركم بالْكفْر بعد إِذْ أَنْتُم مُسلمُونَ [سُورَة آل عمرَان 79 - 80] وَقَالَ تَعَالَى وَقَالَت الْيَهُود عَزِيز ابْن الله وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله ذَلِك قَوْلهم بأفواههم يضاهئون قَول الَّذين كفرُوا من قبل قَاتلهم الله أَنى يؤفكون اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ [سُورَة التَّوْبَة 30 - 31] وَقد روى فِي حَدِيث عدي بن حَاتِم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قلت يَا رَسُول الله مَا عبدوهم قَالَ أحلُّوا لَهُم الْحَرَام فأطاعوهم وحرموا عَلَيْهِم الْحَلَال فأطاعوهم فَتلك عِبَادَتهم إيَّاهُم وَهَذَا الغلو الَّذِي فِي النَّصَارَى حَتَّى اتَّخذُوا الْمَسِيح وَأمه إِلَهَيْنِ من دون الله وَاتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله قد ذكرُوا أَن أول من ابتدعه لَهُم بولص الَّذِي كَانَ يَهُودِيّا فَأسلم وَاتبع الْمَسِيح نفَاقًا ليلبس على النَّصَارَى دينهم فأحدث لَهُم مقالات غَالِيَة وَكَثُرت الْبدع فِي النَّصَارَى فِي اعتقاداتهم وعباداتهم كَمَا قَالَ تَعَالَى ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله فَمَا رعوها حق رعايتها فآتينا الَّذين آمنُوا مِنْهُم أجرهم وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ [سُورَة الْحَدِيد 27] غلو الشِّيعَة فِي دَعْوَى الْعِصْمَة وَكَذَلِكَ أول مَا ابتدعت مقَالَة الغالية فِي الْإِسْلَام من جِهَة بعض من كَانَ قد دخل فِي الْإِسْلَام وَانْتَحَلَ التَّشَيُّع وَقيل أول من أظهر ذَلِك عبد الله بن سبأ الَّذِي كَانَ يَهُودِيّا فَأسلم وَكَانَ مِمَّن أَقَامَ الْفِتْنَة على عُثْمَان ثمَّ أظهر مُوالَاة عَليّ وَهُوَ من ابتدع الغلو فِي عَليّ حَتَّى ظهر فِي زَمَانه من ادّعى فِيهِ الإلهية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وسجدوا لَهُ لما خرج من بَاب مَسْجِد كِنْدَة فَأمر عَليّ رَضِي الله عَنهُ بتحريقهم بالنَّار بعد أَن أَجلهم ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي الصَّحِيح أَن ابْن عَبَّاس بلغه أَن عليا حرق زنادقة فَقَالَ لَو كنت أَنا لم أحرقهم لنهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعذب بِعَذَاب الله ولضربت رقابهم بِالسَّيْفِ لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ قَالُوا وهم هَؤُلَاءِ وَقد رووا قصتهم مستوفاة وروا أَنه أظهر أَيْضا سبّ أبي بكر وَعمر حَتَّى طلب عَليّ أَن يقْتله فهرب مِنْهُ وَلما بلغ عليا أَن أَقْوَامًا يفضلونه على أبي بكر وَعمر قَالَ لَا أُوتِيَ بِأحد يُفَضِّلُنِي على أبي بكر وَعمر إِلَّا جلدته حد المفتري تَحْقِيقا لما رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة أَنه سَأَلَ أَبَاهُ من خير النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَبُو بكر قَالَ ثمَّ من قَالَ ثمَّ عمر وَقد روى ذَلِك عَن على من نَحْو ثَمَانِينَ طَرِيقا وَهُوَ متواتر عَنهُ وروى هَذَا الْمَعْنى عَنهُ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وُجُوه مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب ثَنَاء الصَّحَابَة على الْقَرَابَة وثناء الْقَرَابَة وثناء الْقَرَابَة على الصَّحَابَة وَحِينَئِذٍ ابتدع القَوْل بِأَن عليا إِمَام مَنْصُوص على إِمَامَته وابتدع أَيْضا القَوْل بِأَنَّهُ مَعْصُوم أعظم مِمَّا يَعْتَقِدهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي عصمَة الْأَنْبِيَاء بل ابتدع القَوْل بنبوته وَحدث بِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ من اعْتقد كفره وردته واستحل قَتله على ذَلِك من الْخَوَارِج وَمن اعْتقد فسقه أَو ظلمه من الأموية وَبَعض أهل الْكَلَام من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم وَمن لم يعْتَقد إِمَامَته وَلَا إِمَامَة غَيره فِي زَمَانه أَو جعل إِمَامَته وإمامة غَيره سَوَاء مَعَ اعْتِقَاده فَضله وسابقته فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة حدثت بِإِزَاءِ تِلْكَ الثَّلَاثَة فالغالية والرافضة والمفضلة بِإِزَاءِ المكفرة والمفسقة والمتوقفة عَن اخْتِصَاصه بِالْإِمَامَةِ إِذْ ذَاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ثمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إِمَام مَنْصُوص عَلَيْهِ مَعْصُوم تفَرقُوا فِي الْإِمَامَة بعده تفَرقا كثيرا مَشْهُورا فِي كتب المقالات مِنْهُم الإثنا عشرِيَّة الَّذين يَقُولُونَ بِأَن الْإِمَامَة انْتَقَلت بِالنَّصِّ من وَاحِد إِلَى وَاحِد إِلَى المنتظر مُحَمَّد بن الْحسن الَّذِي يَزْعمُونَ أَنه دخل سرداب سامراء سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ طِفْل لَهُ سنتَانِ أَو ثَلَاث وَأكْثر مَا قيل خمس ويزعمون مَعَ ذَلِك أَنه إِمَام مَعْصُوم يعلم كل شَيْء من أَمر الدَّين وَيجب الْإِيمَان بِهِ على كل أحد وَلَا يَصح إِيمَان أحد إِلَّا بِالْإِيمَان بِهِ وَمَعَ هَذَا فَلهُ الْيَوْم أَكثر من أربعمئة وَأَرْبَعين سنة لم يعرف لَهُ عين وَلَا أثر وَلَا سمع لَهُ أحد بِمَا يعْتَمد عَلَيْهِ من الْخَبَر وَأهل الْمعرفَة بِالنّسَبِ يَقُولُونَ إِن الْحسن بن عَليّ العسكري وَالِده لم يكن لَهُ نسل وَلَا عقب وَاتفقَ الْعُقَلَاء على أَنه لم يدْخل السرداب أحد وَأجْمع أهل الْعلم بالشريعة على مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة أَن هَذَا لَو كَانَ مَوْجُودا لَكَانَ من أَطْفَال الْمُسلمين الَّذين يجب الْحجر عَلَيْهِم فِي أنفسهم وَأَمْوَالهمْ حَتَّى يبلغ وَيُؤْنس مِنْهُ الرشد كَمَا قَالَ تَعَالَى وابتلوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم وَلَا تَأْكُلُوهَا إسرافا وبدارا أَن يكبروا [سُورَة النِّسَاء 6] وَقد بسطنا القَوْل فِي بَيَان فَسَاد هَذَا فِي ذكر مَا خاطبنا بِهِ الشِّيعَة قبل هَذَا ثمَّ فِي كتَابنَا الْكَبِير الْمُسَمّى بمنهاج أهل السّنة النَّبَوِيَّة فِي نقض كَلَام الشيع والقدرية وَمن الرافضة من يزْعم أَن الإِمَام بعد عَليّ أَو بعد الْحُسَيْن هُوَ ابْن عَليّ مُحَمَّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ابْن الْحَنَفِيَّة وهم الكيساينة وَمِنْهُم طوائف كَثِيرَة لَيْسَ هَذَا موضعهَا إِذْ لَيْسَ فِي نحل الْأمة أَكثر تفَرقا واختلافا مِنْهُم فَإِن أول من ابتدع مقالتهم كَانَ منافقا زنديقا لم يَك مُؤمنا ثمَّ انتشرت فِي أَقوام لم يعرفوا أَخْبَار الْمُسلمين الْأَوَائِل وَلم يقصدوا الزندقة وَالْمَقْصُود هُنَا أَن هَؤُلَاءِ هم أول من أظهر القَوْل بِأَن فِي الْمُؤمنِينَ من لَا ذَنْب لَهُ كَمَا قَالَ هَذَا السَّائِل وَادعوا عصمَة الْأَئِمَّة الإثنى عشر حَتَّى عَن الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد وَعَن نِسْيَان الْعلم وَعَن عدم معرفَة شَيْء من الْعلم فَقَالُوا إِنَّهُم يعلمُونَ كل شَيْء وَادعوا عصمتهم من صَغِير الذُّنُوب وكبيرها وَغير ذَلِك وَادعوا ذَلِك فِي الْأَنْبِيَاء أَيْضا لأَنهم أفضل من الْأَئِمَّة غلو الصُّوفِيَّة وَلم يقل هَذَا فِي الْأمة غَيرهم على هَذَا الْوَجْه لَكِن ظهر فِي صنفين من الْأمة بعض بدعتهم طَائِفَة من النساك والعباد يَزْعمُونَ فِي بعض الْمَشَايِخ أَو فِيمَن يَقُولُونَ إِنَّه ولي الله أَنه لَا يُذنب وَبِمَا عينوا بعض الْمَشَايِخ وَزَعَمُوا أَنه لم يكن لأَحَدهم ذَنْب وَرُبمَا قَالَ بَعضهم النَّبِي مَعْصُوم وَالْوَلِيّ مَحْفُوظ وَمن غَالِيَة هَؤُلَاءِ من يعْتَقد فِي بعض الْمَشَايِخ من الإلهية والنبوة مَا اعتقدته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الغالية فِي عَليّ وَيَزْعُم أَن الشَّيْخ يخلق ويرزق وَيدخل من يَشَاء الْجنَّة وَمن يَشَاء النَّار ويعبده ويدعوه كَمَا يعبد الله وَيَقُول كل رزق لَا يرزقنيه الشَّيْخ فلَان فَإِنِّي لَا أريده ويذبح الذَّبَائِح باسمه وَيُصلي وَيسْجد إِلَى جِهَة قَبره ويستغيث بِهِ فِي الْحَاجَات كَمَا يستغاث بِاللَّه تَعَالَى فَأَما ضلال هَذِه الغالية فشرك وَاضح قد بَيناهُ فِي غير هَذَا الْموضع فَإِنَّهُ لَا تجوز عبَادَة أحد دون الله وَلَا التَّوَكُّل عَلَيْهِ والإستعانة بِهِ ودعاؤه ومسألته كَمَا يدعى الله وَيسْأل الله قَالَ تَعَالَى قل ادعوا الَّذين زعمتم من دونه فَلَا يملكُونَ كشف الضّر عَنْكُم وَلَا تحويلا أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة أَيهمْ أقرب ويرجون رَحمته وَيَخَافُونَ عَذَابه إِن عَذَاب رَبك كَانَ محذورا [سُورَة الْإِسْرَاء 56 - 57] وَقَالَ تَعَالَى قل ادعوا الَّذين زعمتم من دون الله لَا يملكُونَ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض وَمَا لَهُم فيهمَا من شرك وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ [سُورَة سبأ 22 - 23] وَقَالَ تَعَالَى من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ [سُورَة الْبَقَرَة 255] وَقَالَ تَعَالَى أم اتَّخذُوا من دون الله شُفَعَاء قل أَو لَو كَانُوا لَا يملكُونَ شَيْئا وَلَا يعْقلُونَ قل لله الشَّفَاعَة جَمِيعًا لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض [سُورَة الزمر 43 - 44] وَقَالَ تَعَالَى فَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتكون من الْمُعَذَّبين [سُورَة الشُّعَرَاء 213] وَقَالَ تَعَالَى لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَقَالَ الْمَسِيح يَا بني إِسْرَائِيل اعبدوا الله رَبِّي وربكم إِنَّه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار وَمَا للظالمين من أنصار [سُورَة الْمَائِدَة 72] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 لَا عصمَة لأحد بعد الرَّسُول وَالْمَقْصُود هُنَا ذكر الْعِصْمَة فقد أجمع جَمِيع سلف الْمُسلمين وأئمة الدَّين من جَمِيع الطوائف أَنه لَيْسَ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد مَعْصُوم وَلَا مَحْفُوظ لَا من الذُّنُوب وَلَا من الْخَطَايَا بل من النَّاس من إِذا أذْنب اسْتغْفر وَتَابَ وَإِذا أَخطَأ تبين لَهُ الْحق فَرجع إِلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا وَاجِبا لأحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل يجوز أَن يَمُوت أفضل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء وَله ذَنْب يغفره الله وَقد خفى عَلَيْهِ من دَقِيق الْعلم مَا لم يعرفهُ وَلِهَذَا اتَّفقُوا على أَنه مَا من النَّاس أحد إِلَّا يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذهب بعض النَّاس إِلَى أَن قَول أبي بكر وَحده حجَّة وَإِن خَالفه عمر ثمَّ قَول عمر حجَّة وَإِن خَالفه عُثْمَان وَعلي وَأما أَئِمَّة الْإِسْلَام فَلَا يَقُولُونَ بِهَذَا بل تنازعوا فِيمَا إِذا اتّفق أَبُو بكر وَعمر على قَول هَل يكون حجَّة على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَالْأَظْهَر فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَن ذَلِك حجَّة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر وَقَوله إِن يطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الْقَوْم أَبَا بكر وَعمر يرشدوا وَقَوله لَو اتفقتما على شَيْء لم أخالفكما وَلقَوْله عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي تمسكوا بهَا وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور فَإِن كل بِدعَة ضَلَالَة وَقد قَالَ الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ تصير ملكا وَقد كَانَت خلَافَة على تَمام الثَّلَاثِينَ مَعَ الْأَشْهر الَّتِي تولاها الْحسن رَضِي الله عَنهُ وَاتَّفَقُوا على أَنه لَيْسَ من شَرط ولي الله أَن لَا يكون لَهُ ذَنْب أصلا بل أَوْلِيَاء الله تَعَالَى هم الَّذين قَالَ الله فيهم أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [سُورَة يُونُس 62 - 63] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وَلَا يخرجُون عَن التَّقْوَى بإتيان ذَنْب صَغِير لم يصروا عَلَيْهِ وَلَا بإتيان ذَنْب كَبِير أَو صَغِير إِذا تَابُوا مِنْهُ قَالَ تَعَالَى وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة الزمر 33 - 35] وَقَالَ تَعَالَى إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وتدخلك مدخلًا كَرِيمًا [سُورَة النِّسَاء 301] وَقَالَ تَعَالَى لقد تَابَ الله على النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار الَّذين اتَّبعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة من بعد مَا كَاد يزِيغ قُلُوب فريق مِنْهُم ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّه رءوف رَحِيم وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ [سُورَة التَّوْبَة 117 - 118] والفريق الثَّانِي قوم من أهل الْكَلَام من الْمُعْتَزلَة وَمن اتبعهم زَعَمُوا أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام معصومون مِمَّا يُتَاب مِنْهُ وَأَن أحدا مِنْهُم لم يتب عَن ذَنْب وحرفوا نُصُوص الْكتاب وَالسّنة كعادة أهل الْأَهْوَاء فِي تَحْرِيف الْكَلم عَن موَاضعه والإلحاد فِي أَسمَاء الله وآياته مَذْهَب السّلف وَأهل السّنة هُوَ القَوْل بتوبة الْأَنْبِيَاء وَقد اتّفق سلف الْأمة وأئمتها وَمن اتبعهم على مَا أخبر الله بِهِ فِي كِتَابه وَمَا ثَبت عَن رَسُوله من تَوْبَة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من الذُّنُوب الَّتِي تَابُوا مِنْهَا وَهَذِه التَّوْبَة رفع الله بهَا درجاتهم فَإِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين وعصمتهم هِيَ من أَن يقرُّوا على الذُّنُوب وَالْخَطَأ فَإِن من سوى الْأَنْبِيَاء يجوز عَلَيْهِم الذَّنب الْخَطَأ من غير تَوْبَة والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام يستدركهم الله فيتوب عَلَيْهِم وَيبين لَهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقِي الشَّيْطَان ثمَّ يحكم الله آيَاته وَالله عليم حَكِيم * ليجعل مَا يلقِي الشَّيْطَان فتْنَة للَّذين فِي قُلُوبهم مرض والقاسية قُلُوبهم وَإِن الظَّالِمين لفي شقَاق بعيد [سُورَة} الْحَج 52 - 53] وَقد ذكر الله تَعَالَى قصَّة آدم ونوح وَدَاوُد وَسليمَان ومُوسَى وَغَيرهم كَمَا تلونا بعض ذَلِك فِيمَا ذَكرْنَاهُ من تَوْبَة الْأَنْبِيَاء واستغفارهم كَقَوْلِه {فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ} [سُورَة الْبَقَرَة 37] وَقَول نوح {رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [سُورَة هود 47] وَقَول إِبْرَاهِيم {رَبنَا اغْفِر لي ولوالدي وَلِلْمُؤْمنِينَ يَوْم يقوم الْحساب} [سُورَة إِبْرَاهِيم 41] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وَقَوله وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدَّين [سُورَة الشُّعَرَاء 82] وَقَوله سُبْحَانَهُ فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات [سُورَة مُحَمَّد 19] وَقَالَ تَعَالَى وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضبا فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَات أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين فاستجبنا لَهُ ونجيناه من الْغم وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء 87 - 88] وَقَالَ تَعَالَى وَاذْكُر عَبدنَا دَاوُد ذَا الأيد إِنَّه أواب إِنَّا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق إِلَى قَوْله ظن دَاوُد أَنما فتناه فَاسْتَغْفر ربه وخر رَاكِعا وأناب فغفرنا لَهُ ذَلِك وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب إِلَى قَوْله وَلَقَد فتنا سُلَيْمَان وألقينا على كرسيه جسدا ثمَّ أناب قَالَ رب اغْفِر لي وهب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب الْآيَة [سُورَة ص 17 - 35] الْيَهُود فرطوا فِي حق الْأَنْبِيَاء وَلما كَانَ الْيَهُود ضد النَّصَارَى حَيْثُ قتلوا الْأَنْبِيَاء وكذبوهم جَحَدُوا نبوة دَاوُد وهم لنبوة سُلَيْمَان أجحد وَزَعَمُوا أَنَّهُمَا كَانَا حكيمين وَأَن دَاوُد كَانَ مسيحا وَقد نزه الله سُلَيْمَان مِمَّا تلته الشَّيَاطِين على ملكه مِمَّا اتبعهُ السَّحَرَة من الصابئة وَالْمُشْرِكين وَمن اتبعهم من أهل الْكتاب والمنتسبين إِلَى هَذِه الْملَّة والسامرة أعظم جحُودًا لَا يقرونَ إِلَّا بنبوه مُوسَى خَاصَّة ويوشع بعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الْإِسْلَام هُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَالله سُبْحَانَهُ قد هدى الَّذين آمنُوا لما اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم كَمَا اخْتلفت الأمتان فِي الْمسْح فَقَالَ تَعَالَى ذَلِك عِيسَى ابْن مَرْيَم قَول الْحق الَّذِي فِيهِ يمترون مَا كَانَ لله أَن يتَّخذ من ولد سُبْحَانَهُ إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون [سُورَة مَرْيَم 34 - 35] وَكَذَلِكَ المنحرفون من هَذِه الْأمة قد اخْتلفُوا فِي عَليّ وَغَيره كَمَا تقدم فتجد أحدهم يغلو فِي الرجل الْعَالم وَالْعَابِد حَتَّى يعْتَقد عصمته أَو يَجعله كالأنبياء أَو فَوْقهم أَو يَجْعَل لَهُم حظا فِي الإلهية وتجد الآخر يقْدَح فِي ذَلِك فَرُبمَا كفره أَو فسقه أَو أخرجه عَن أَن يكون من أَوْلِيَاء الله الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ فَالْأول يَجْعَل مَا صدر مِنْهُ من اجْتِهَاد وَعمل صَوَابا وَإِن كَانَ خطأ وذنبا وَالْآخر يَجْعَل صُدُور الذَّنب وَالْخَطَأ مِنْهُ مَانِعا من ولَايَته وَوُجُوب موالاته وكلا الْقَوْلَيْنِ خطأ موروث عَن أهل الْكِتَابَيْنِ كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ حَذْو القذة بالقذة حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَب لدخلتموه قَالُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَقَالَ فَمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَقد ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي أم الْقُرْآن أَنَّهَا أفضل [سُورَة فِي الْقُرْآن وَأَنه لم ينزل فِي التَّوْرَاة وَلَا فِي الْإِنْجِيل وَلَا فِي الزبُور وَلَا فِي الْقُرْآن مثلهَا وَأَنَّهَا السَّبع المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم الَّذِي أعْطِيه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ تَعَالَى وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم سُورَة الْحجر 87] وَثَبت فِي صَحِيح مُسلم أَن الله تَعَالَى يَقُول قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ فنصفها لي وَنِصْفهَا لعبدي ولعبدي مَا سَأَلَ فَإِذا قَالَ العَبْد الْحَمد لله رب الْعَالمين قَالَ الله حمدني عَبدِي فَإِذا قَالَ الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ أثنى عَليّ عَبدِي فَإِذا قَالَ مَالك يَوْم الدَّين قَالَ مجدني عَبدِي فَإِذا قَالَ إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين قَالَ هَذِه الْآيَة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ ولعبدي مَا سَأَلَ فَإِذا قَالَ اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم قَالَ فَهَؤُلَاءِ لعبدي ولعبدي مَا سَأَلَ وَهَذِه الْبدع هِيَ وَغَيرهَا من الْبدع لَا بُد أَن تنَافِي كَمَال الْإِيمَان وتقدح فِي بعض حقائقه فَإِن رَأس الْإِسْلَام شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَرَسُوله فَلَا بُد من إخلاص الدَّين لله حَتَّى لَا يكون فِي الْقلب تأله لغير الله فَمَتَى كَانَ فِي الْقلب تأله لغير الله فَذَاك شرك يقْدَح فِي تَحْقِيق شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَلَا بُد من الشَّهَادَة بِأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَذَلِكَ يتَضَمَّن تَصْدِيقه فِي كل مَا أخبر وطاعته فِيمَا أَمر بِهِ وَمن ذَلِك الْإِيمَان بِأَنَّهُ خَاتم النَّبِيين وَأَنه لَا نَبِي بعده فَمَتَى جعل لغيره نَصِيبا من خَصَائِص الرسَالَة والنبوة كَانَ فِي ذَلِك نصيب من الْإِيمَان بِنَبِي بعده وَرَسُول بعده كالمؤمنين بنبوة مُسَيْلمَة والعنسي وَغَيرهمَا من المتنبئين الْكَذَّابين كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن بَين يَدي السَّاعَة ثَلَاثِينَ دجالين كَذَّابين كلهم يزْعم أَنه رَسُول الله عصمَة الْأَئِمَّة تَعْنِي مضاهاتهم للرسول فَمن أوجب طَاعَة أحد غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل مَا يَأْمر بِهِ وَأوجب تَصْدِيقه فِي كل مَا يخبر بِهِ وَأثبت عصمته أَو حفظه فِي كل مَا يَأْمر بِهِ ويخبر من الدَّين فقد جعل فِيهِ من الْمُكَافَأَة لرَسُول الله والمضاهأة لَهُ فِي خَصَائِص الرسَالَة بِحَسب ذَلِك سَوَاء جعل ذَلِك المضاهي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعض الصَّحَابَة أَو بعض الْقَرَابَة أَو بعض الْأَئِمَّة والمشايخ أَو الْأُمَرَاء من الْمُلُوك وَغَيرهم وَقد قَالَ الله فِي كِتَابه يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وَالْأولَى الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا [سُورَة النِّسَاء 59] فغاية المطاع بِإِذن الله أَن يكون من أولى الْأَمر الَّذين أَمر الله بطاعتهم من الْعلمَاء والأمراء وَمن يدْخل فِي ذَلِك من الْمَشَايِخ والملوك وكل متبوع فَإِن الله تَعَالَى أَمر بطاعتهم مَعَ طَاعَة رَسُوله كَمَا قَالَ أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَلم يقل وَأَطيعُوا أولي الْأَمر ليبين أَن طاعتهم فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 كَانَ طَاعَة للرسول أَيْضا إِذْ اندراج الرَّسُول فِي طَاعَة الله أَمر مَعْلُوم فَلم يكن تَكْرِير لفظ الطَّاعَة فِيهِ مُؤذنًا بِالْفرقِ بِخِلَاف مَا لَو قيل أطِيعُوا الرَّسُول وَأَطيعُوا أولى الْأَمر مِنْكُم فَإِنَّهُ قد يُوهم طَاعَة كل مِنْهُمَا على حياله وَقد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ إِنَّمَا الطَّاعَة فِي الْمَعْرُوف وَقَالَ لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق وَقَالَ على الْمَرْء الْمُسلم الطَّاعَة فِيمَا أحب وَكره مَا لم يُؤمر بِمَعْصِيَة فَإِذا أَمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ بعد ذَلِك فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا فَلم يَأْمر عِنْد التَّنَازُع إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى الله وَالرَّسُول دون الرَّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 إِلَى أولى الْأَمر وَلِهَذَا كَانَ أولو الْأَمر إِذا اجْتَمعُوا لَا يَجْتَمعُونَ على ضَلَالَة فَإِذا تنازعوا فالرد إِلَى كتاب الله وَسنة رَسُوله لَا إِلَى غير ذَلِك من عَالم أَو أَمِير وَمن يدْخل فِي ذَلِك من الْمَشَايِخ والملوك وَغَيرهم وَلَو كَانَ غير الرَّسُول مَعْصُوما أَو مَحْفُوظًا فِيمَا يَأْمر بِهِ ويخبر بِهِ لَكَانَ مِمَّن يرد إِلَيْهِ مواقع النزاع كَمَا يردهُ الْقَائِلُونَ بِإِمَام مَعْصُوم إِلَيْهِ وكما جرت عَادَة كثير من الأتباع أَن يردوا مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى الإِمَام والقدوة الَّذِي يقلدونه وَمَعْلُوم أَن عُلَمَاء الطوائف ومقتصديهم لَا يرَوْنَ هَذَا الرَّد وَاجِبا على الْإِطْلَاق لَكِن قد يَفْعَلُونَ ذَلِك لِأَنَّهُ لَا طَرِيق لَهُم إِلَى معرفَة الْحق واتباعه إِلَّا ذَلِك لعجزهم عَمَّا سوى ذَلِك فيكونون معذورين وَقد يَفْعَلُونَ ذَلِك اتبَاعا لهواهم فِي محبتهم لذَلِك الشَّخْص وبغضهم لنظرائه فيكونون غير معذورين وَلَكِن من اعْتقد من هَؤُلَاءِ فِي متبوعه أَنه مَعْصُوم أَو أَنه مَحْفُوظ عَن الذُّنُوب وَالْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد فَذَلِك مَرْدُود عَلَيْهِ بِلَا نزاع بَين أهل الْعلم وَالْإِيمَان الغلو فِي الْبشر يُؤَدِّي إِلَى الشّرك وَلِهَذَا إِنَّمَا يَقُول ذَلِك غلاة الطوائف الَّذين يغلب عَلَيْهِم اتِّبَاع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَقد غلب على أحدهم جَهله وظلمه وكما أَن الغلو فِي غير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ قدح فِي منصب الرَّسُول وَمَا خصّه الله بِهِ وَهُوَ أحد أُصَلِّي الْإِسْلَام فَكَذَلِك الغلو فِي غير الله فِيهِ قدح فِيمَا يجب لله من الألوهية وَفِيمَا يسْتَحقّهُ من صِفَاته فَمن غلا فِي الْبشر أَو غَيرهم فجعلهم شُرَكَاء فِي الألوهية أَو الربوبية فقد عدل بربه وأشرك بِهِ وَجعل لَهُ ندا وَمن زعم أَن الله ذمّ أحدا من الْبشر أَو عاقبه على مَا فعله وَلم يكن ذَلِك ذَنبا فقد قدح فِيمَا أخبر الله بِهِ وَمَا وَجب لَهُ من حكمته وعدله فالجاهل يُرِيد تَنْزِيه الصَّحَابَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أَو الْعلمَاء أَو الْمَشَايِخ من شَيْء لَا يضيرهم وَلَا يضرهم ثُبُوته فيقدح فِي الرَّسُول أَو فِي الله تَعَالَى وَيُرِيد تَنْزِيه الْأَنْبِيَاء عَمَّا لَا يضرهم ثُبُوته بل هُوَ رفع دَرَجَة لَهُم فيقدح فِي الربوبية فَتدبر هَذَا فَإِنَّهُ نَافِع بطلَان القَوْل بعصمة الْأَنْبِيَاء من التَّوْبَة من الذُّنُوب والقائلون بعصمة الْأَنْبِيَاء من التَّوْبَة من الذُّنُوب لَيْسَ لَهُم حجَّة من كتاب الله وَسنة رَسُوله وَلَا لَهُم إِمَام من سلف الْأمة وأئمتها وَإِنَّمَا مبدأ قَوْلهم من أهل الْأَهْوَاء كالروافض والمعتزلة وحجتهم آراء ضَعِيفَة من جنس قَول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض والقاسية قُلُوبهم الَّذين قَالَ الله فيهم ليجعل مَا يلقى الشَّيْطَان فتْنَة للَّذين فِي قُلُوبهم مرض والقاسية قُلُوبهم وَإِن الظَّالِمين لفي شقَاق بعيد [سُورَة الْحَج 53] وعمدة من وافقهم من الْفُقَهَاء أَن الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَفعاله مَشْرُوع وَلَوْلَا ذَلِك مَا جَازَ الِاقْتِدَاء بِهِ وَهَذَا ضَعِيف فَإِنَّهُ قد تقدم أَنهم لَا يقرونَ بل لَا بُد من التَّوْبَة وَالْبَيَان والاقتداء إِنَّمَا يكون بِمَا اسْتَقر عَلَيْهِ الْأَمر فَأَما الْمَنْسُوخ والمنهي عَنهُ والمتوب مِنْهُ فَلَا قدوة فِيهِ بالِاتِّفَاقِ فَإِذا كَانَت الْأَقْوَال المنسوخة لَا قدوة فِيهَا فالأفعال الَّتِي لم يقر عَلَيْهَا أولى بذلك تَفْصِيل مَذْهَب أهل السّنة فِي ذَلِك وَأما مَذْهَب السّلف وَالْأَئِمَّة وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة الْقَائِلين بِمَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة من تَوْبَة الْأَنْبِيَاء من الذُّنُوب فقد ذكرنَا من آيَات الْقُرْآن مَا فِيهِ دلالات على ذَلِك وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَدْعُو اللَّهُمَّ اغْفِر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْت أعلم بِهِ منى اللَّهُمَّ اغْفِر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذَلِك عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِر لي مَا قدمت وَمَا أخرت وَمَا أسررت وَمَا أعلنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وَأما أَنْت أعلم بِهِ مني أَنْت الْمُقدم وَأَنت الْمُؤخر وَأَنت على كل شَيْء قدير وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول فِي استفتاح الصَّلَاة اللَّهُمَّ أَنْت الْملك لَا شريك لَك أَنْت رَبِّي وَأَنا عَبدك ظلمت نَفسِي وَاعْتَرَفت بذنبي فَاغْفِر لي ذُنُوبِي جَمِيعًا فَإِنَّهُ لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت واهدني لأحسن الْأَخْلَاق فَإِنَّهُ لَا يهدي لأحسنها إِلَّا أَنْت واصرف عني سيئها فَإِنَّهُ لَا يصرف عني سيئها إِلَّا أَنْت قَالَ ثمَّ يكون من آخر مَا يَقُول بَين التَّشَهُّد التَّشَهُّد وَالتَّسْلِيم اللَّهُمَّ اغْفِر لي مَا قدمت وَمَا أخرت وَمَا أسررت وَمَا أعلنت وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني أَنْت الْمُقدم وَأَنت الْمُؤخر لَا إِلَه إِلَّا أَنْت وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسكت بَين التَّكْبِير وَالْقِرَاءَة إسكاتة فَقلت بِأبي وَأمي يَا رَسُول الله إسكاتك بَين التَّكْبِير وَالْقِرَاءَة مَا تَقول قَالَ أَقُول اللَّهُمَّ باعد بيني وَبَين خطاياي كَمَا باعدت بَين الْمشرق وَالْمغْرب اللَّهُمَّ نقني من الْخَطَايَا كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ينقي الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس اللَّهُمَّ اغسل خطاياي بِالْمَاءِ والثلج وَالْبرد وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكثر أَن يَقُول فِي رُكُوعه وَسُجُوده سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِر لي يتَأَوَّل الْقُرْآن وَفِي الصَّحِيح أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي سُجُوده اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذَنبي كُله دقه وجله وأوله وَآخره وعلانيته وسره وقليله وَكَثِيره وَقد تقدم قَوْله فِي الحَدِيث الصَّحِيح إِنِّي لأستغفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ فِي الْيَوْم أَكثر من سبعين مرّة وَقَوله يَا أَيهَا النَّاس تُوبُوا إِلَى ربكُم فَإِنِّي أَتُوب إِلَيْهِ فِي الْيَوْم مائَة مرّة وَقَوله إِنَّه ليغان على قلبِي وَإِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة وَتقدم أَيْضا أَنهم كَانُوا يعدون لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمجْلس الْوَاحِد يَقُول رب اغْفِر لي وَتب عَليّ إِنَّك أَنْت التواب الغفور مائَة مرّة وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قفل من غَزْو أَو حج أَو عمْرَة يكبر على كل شرف من الأَرْض ثَلَاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 تَكْبِيرَات ثمَّ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير آيبون تائبون عَابِدُونَ لربنا حامدون صدق الله وعده وَنصر عَبده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده وَفِي السّنَن عَن عَليّ أَنه أَتَى بِدَابَّة ليرْكبَهَا فَلَمَّا وضع رجله فِي الركاب قَالَ بِسم الله فَلَمَّا اسْتَوَى على ظهرهَا قَالَ الْحَمد لله سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين وَإِنَّا إِلَى رَبنَا لمنقلبون ثمَّ قَالَ الْحَمد لله ثَلَاثًا سُبْحَانَكَ إِنِّي ظلمت نَفسِي فَاغْفِر لي فَإِنَّهُ لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت ثمَّ ضحك فَقيل من أَي شَيْء ضحِكت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صنع كَمَا صنعت ثمَّ ضحك فَقلت من أَي شَيْء ضحِكت يَا رَسُول الله فَقَالَ إِن رَبك ليعجب من عَبده إِذا قَالَ رب اغْفِر لي ذُنُوبِي يَقُول يعلم أَن الذُّنُوب لَا يغفرها أحد غَيْرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فصل فِي أَن دين الْأَنْبِيَاء وَاحِد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فصل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّا معاشر الْأَنْبِيَاء ديننَا وَاحِد قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات إِلَى قَوْله وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 51 - 52] أَي ملتكم مِلَّة وَاحِدَة كَقَوْلِه إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة [سُورَة الزخرف 22 - 23] أَي على مِلَّة وَقَالَ شرع لكم من الدَّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك الْآيَة [سُورَة الشورى 13] فدين الْأَنْبِيَاء وَاحِد وَهُوَ دين الْإِسْلَام لِأَن بعض الشَّرَائِع تتنوع فقد يشرع فِي وَقت أمرا لحكمة ثمَّ يشرع فِي وَقت آخر أمرا آخر لحكمة كَمَا شرع فِي أول الْإِسْلَام الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ نسخ ذَلِك وَأمر بِالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَة فتنوعت الشَّرِيعَة وَالدّين وَاحِد وَكَانَ اسْتِقْبَال الشَّام من ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الْوَقْت من دين الْإِسْلَام وَكَذَلِكَ السبت لمُوسَى من دين الْإِسْلَام ثمَّ لما صَار دين الْإِسْلَام هُوَ النَّاسِخ وَهُوَ الصَّلَاة إِلَى الْكَعْبَة فَمن تمسك بالمنسوخ فَلَيْسَ على دين الْإِسْلَام وَلَا هُوَ من الْأَنْبِيَاء وَمن ترك شرع الْأَنْبِيَاء وابتدع شرعا فشرعه بَاطِل لَا يجوز اتِّبَاعه كَمَا قَالَ أم لَهُم شُرَكَاء شرعوا لَهُم من الدَّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله [سُورَة الشورى 21] وَلِهَذَا كفرت الْيَهُود وَالنَّصَارَى لأَنهم تمسكوا بشرع مَنْسُوخ وَالله أوجب على جَمِيع الْخلق أَن يُؤمنُوا بِجَمِيعِ كتبه وَرُسُله وَمُحَمّد خَاتم الرُّسُل فعلى جَمِيع الْخلق اتِّبَاعه وَاتِّبَاع مَا شَرعه من الدَّين هُوَ مَا أَتَى بِهِ من الْكتاب وَالسّنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فصل فِي الدَّلِيل على فضل الْعَرَب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فصل الدَّلِيل على فضل الْعَرَب مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب قَالَ قلت يَا رَسُول الله إِن قُريْشًا جَلَسُوا يتذاكرون أحسابهم بَينهم فَجعلُوا مثلك كَمثل نَخْلَة فِي كبوة من الأَرْض فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله خلق الْخلق فجعلني فِي خير فرقهم ثمَّ خير الْقَبَائِل فجعلني فِي خير قَبيلَة ثمَّ خير الْبيُوت فجعلني فِي خير بُيُوتهم فَأَنا خَيرهمْ نفسا وَخَيرهمْ بَيْتا قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن والكبا بِالْكَسْرِ وَالْقصر والكبة الكناسة وَالْمعْنَى أَن النَّخْلَة طيبَة فِي نَفسهَا وَإِن كَانَ أَصْلهَا لَيْسَ بِذَاكَ وَعَن سلمَان قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا سلمَان لَا تبغضني فتفارق دينك قلت يَا رَسُول الله وَكَيف أبغضك وَبِك هَدَانِي الله قَالَ تبغض الْعَرَب فتبغضني قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب وروى أَبُو جَعْفَر الْحَافِظ الْكُوفِي عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحبُّوا الْعَرَب لثلاث لِأَنِّي عَرَبِيّ وَالْقُرْآن عَرَبِيّ ولسان أهل الْجنَّة عَرَبِيّ قَالَ الْحَافِظ السلَفِي هَذَا حَدِيث حسن فَمَا أَدْرِي أَرَادَ حسن إِسْنَاده على طَريقَة الْمُحدثين أَو حسن مَتنه على الإصطلاح الْعَام وَأَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ ذكره فِي الموضوعات وَقَالَ سلمَان يَا معشر الْعَرَب لتفضيل رَسُول الله إيَّاكُمْ لَا ننكح نساءكم وَلَا نؤمكم فِي الصَّلَاة وَإِسْنَاده جيد رَوَاهُ مُحَمَّد بن أبي عمر الْعَدنِي وَسَعِيد فِي سنَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وَلما وضع عمر الدِّيوَان للعطاء كتب النَّاس على قدر أنسابهم فَبَدَأَ بالأقرب فَالْأَقْرَب إِلَى رَسُول الله فَلَمَّا انْقَضتْ الْعَرَب ذكر الْعَجم هَكَذَا كَانَ الدِّيوَان على عهد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وخلفاء بني أُميَّة وخلفاء بني الْعَبَّاس إِلَى أَن تغير الْأَمر بعد ذَلِك وَالْأَحَادِيث والْآثَار فِي ذَلِك كَثِيرَة أَصَحهَا مَا ذَكرْنَاهُ سَبَب مَا اخْتصَّ بِهِ الْعَرَب من الْفضل وَسبب مَا اختصوا بِهِ من الْفضل وَالله أعلم مَا جعل الله لَهُم من الْعُقُول والألسنة والأخلاق والأعمال وَذَلِكَ أَن الْفضل إِمَّا بِالْعلمِ النافع أَو الْعَمَل الصَّالح وَالْعلم لَهُ مبدأ وَهُوَ قُوَّة الْعقل الَّذِي هُوَ الْفَهم وَالْحِفْظ وَتَمام وَهُوَ قُوَّة الْمنطق الَّذِي هُوَ الْبَيَان والعبارة فالعرب هم أفهم وأحفظ وأقدر على الْبَيَان والعبارة ولسانهم أتم الْأَلْسِنَة بَيَانا وتمييزا للمعاني وَأما الْعَمَل فَإِن مبناه على الْأَخْلَاق وَهِي الغرائز المخلوقة فِي النَّفس فغرائزهم أطوع من غرائز غَيرهم فهم أقرب إِلَى السخاء والحلم والشجاعة وَالْوَفَاء من غَيرهم وَلَكِن حازوا قبل الْإِسْلَام طبيعة قَابِلَة للخير معطلة عَن فعله لَيْسَ عِنْدهم علم منزل وَلَا شَرِيعَة مأثورة وَلَا اشتغلوا بِبَعْض الْعُلُوم بِخِلَاف غَيرهم فَإِنَّهُم كَانَت بَين أظهرهم الْكتب الْمنزلَة وأقوال الْأَنْبِيَاء فضلوا لضعف عُقُولهمْ وخبث غرائزهم وَإِنَّمَا كَانَ علم الْعَرَب مَا سمحت بِهِ قرائحهم من الشّعْر والخطب أَو مَا حفظوه من أنسابهم وأيامهم أَو مَا احتاجوا إِلَيْهِ فِي دنياهم من الأنواء والنجوم والحروب فَلَمَّا بعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْهدى تلقفوه عَنهُ بعد مجاهدة شَدِيدَة ونقلهم الله عَن تِلْكَ الْعَادَات الْجَاهِلِيَّة الَّتِي كَانَت قد أحالت قُلُوبهم عَن فطرتها فَلَمَّا تلقوا عَنهُ ذَلِك الْهدى زَالَت تِلْكَ الريون عَن قُلُوبهم فقبلوا هَذَا الْهدى الْعَظِيم وأخذوه بِتِلْكَ الْفطْرَة الجيدة فَاجْتمع لَهُم الْكَمَال بِالْقُوَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 المخلوقة فيهم والكمال الَّذِي أنزلهُ الله إِلَيْهِم بِمَنْزِلَة أَرض طيبَة فِي نَفسهَا لَكِن هِيَ معطلة عَن الْحَرْث أَو قد نبت فِيهَا شجر العضاء والعوسج وَصَارَت مأوى الْخَنَازِير وَالسِّبَاع فَإِذا طهرت عَن ذَلِك المؤذي من الشّجر وَغَيره من الدَّوَابّ وازدرع فِيهَا أفضل الْحُبُوب أَو الثِّمَار جَاءَ فِيهَا من الْحبّ وَالثَّمَر مَا لَا يُوصف مثله فَصَارَ السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار أفضل خلق الله سوى الْأَنْبِيَاء وَصَارَ أفضل النَّاس بعدهمْ من اتبعهم بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من الْعَرَب والعجم وَالله سُبْحَانَهُ أعلم وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله أَجْمَعِينَ وَسلم تَسْلِيمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 جَامِعُ الرَّسَائِل لشيخ الْإِسْلَام أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحَلِيم ابْن تَيْمِية الْمُتَوفَّى سنة (728) هـ تَحْقِيق الدكتور مُحَمَّد رشاد سَالم الْمَجْمُوعَة الثَّانِيَة الرسَالَة الأولى رِسَالَة فِي الصِّفَات الاختيارية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله، نستعينه، وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وسيئات أَعمالنَا. من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ. ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، ونشهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم تَسْلِيمًا. قَالَ شيخ الْإِسْلَام أَبُو الْعَبَّاس تَقِيّ الدَّين بن تَيْمِية، قدس الله روحه، وَنور ضريحه. فصل فِي الصِّفَات الاختيارية: وَهِي الْأُمُور الَّتِي يَتَّصِف بهَا الرب عز وَجل فتقوم بِذَاتِهِ بمشيئته وَقدرته؛ مثل كَلَامه وسَمعه وبصره وإرادته ومحبته وَرضَاهُ وَرَحمته وغضبه وَسخطه؛ وَمثل خلقه وإحسانه وعدله؛ وَمثل استوائه ومجيئه وإتيانه ونزوله وَنَحْو ذَلِك من الصِّفَات الَّتِي نطق بهَا الْكتاب الْعَزِيز وَالسّنة. مقَالَة الْجَهْمِية والمعتزلة: " فالجهمية " وَمن وافقهم من " الْمُعْتَزلَة " وَغَيرهم يَقُولُونَ: لَا يقوم بِذَاتِهِ شَيْء من هَذِه الصِّفَات وَلَا غَيرهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 مقَالَة الْكلابِيَّة والسالمية: و" الْكلابِيَّة " وَمن وافقهم من " السالمية " وَغَيرهم يَقُولُونَ: " تقوم بِهِ صِفَات بِغَيْر مَشِيئَته وَقدرته؛ فَأَما مَا يكون بمشيئته وَقدرته: فَلَا يكون إِلَّا مخلوقا مُنْفَصِلا عَنهُ لَا يقوم بِذَات الرب ". مقَالَة السّلف وَأهل السّنة: وَأما " السّلف وأئمة السّنة والْحَدِيث " فَيَقُولُونَ: إِنَّه متصف بذلك؛ كَمَا نطق بِهِ الْكتاب وَالسّنة؛ وَهُوَ قَول كثير من " أهل الْكَلَام والفلسفة " أَو أَكْثَرهم كَمَا قد ذكرنَا أَقْوَالهم بألفاظها فِي غير هَذَا الْموضع. صفة الْكَلَام: وَمثل هَذَا: " الْكَلَام ". فَإِن السّلف وأئمة السّنة والْحَدِيث يَقُولُونَ: إِنَّه يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته؛ وَكَلَامه لَيْسَ بمخلوق؛ بل كَلَامه صفة لَهُ قَائِمَة بِذَاتِهِ. وَمِمَّنْ ذكر أَن ذَلِك قَول أَئِمَّة السّنة: أَبُو عبد الله ابْن مَنْدَه وَأَبُو عبد الله ابْن حَامِد وَأَبُو بكر عبد الْعَزِيز وَأَبُو إِسْمَاعِيل الْأنْصَارِيّ وَغَيرهم؛ وَكَذَلِكَ ذكر أَبُو عمر بن عبد الْبر نَظِير هَذَا فِي " الاسْتوَاء ". وأئمة السّنة - كَعبد الله بن الْمُبَارك وَأحمد بن حَنْبَل وَالْبُخَارِيّ وَعُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ وَمن لَا يُحْصى من الْأَئِمَّة وَذكره حَرْب بن إِسْمَاعِيل الْكرْمَانِي عَن سعيد بن مَنْصُور وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَسَائِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 أهل السّنة والْحَدِيث - متفقون على أَنه يتَكَلَّم بمشيئته وَأَنه لم يزل متكلما إِذا شَاءَ وَكَيف شَاءَ. وَقد سمى الله الْقُرْآن الْعَزِيز حَدِيثا، وَقَالَ: {الله نزل أحسن الحَدِيث} وَقَالَ: {وَمن أصدق من الله حَدِيثا} . وَقَالَ {مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث} . وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِن الله يحدث من أمره مَا يَشَاء " وَهَذَا مِمَّا احْتج بِهِ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَفِي غير صَحِيحه؛ وَاحْتج بِهِ أَيْضا غير البُخَارِيّ كنعيم بن حَمَّاد وَحَمَّاد بن زيد. وَمن الْمَشْهُور عَن السّلف: أَن الْقُرْآن الْعَزِيز كَلَام الله غير مَخْلُوق مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود. مقَالَة الْجَهْمِية والمعتزلة فِي صفة الْكَلَام: وَأما " الْجَهْمِية " و " الْمُعْتَزلَة " فَيَقُولُونَ: لَيْسَ لَهُ كَلَام قَائِم بِذَاتِهِ؛ بل كَلَامه مَخْلُوق مُنْفَصِل عَنهُ. و " الْمُعْتَزلَة " يطلقون القَوْل: بِأَنَّهُ يتَكَلَّم بمشيئته؛ وَلَكِن مُرَادهم بذلك أَنه يخلق كلَاما مُنْفَصِلا عَنهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 مقَالَة الْكلابِيَّة والسالمية فِيهَا: و" الْكلابِيَّة والسالمية " يَقُولُونَ: إِنَّه لَا يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته؛ بل كَلَامه قَائِم بِذَاتِهِ بِدُونِ قدرته ومشيئته مثل حَيَاته؛ وهم يَقُولُونَ: الْكَلَام صفة ذَات؛ لَا صفة فعل يتَعَلَّق بمشيئته وَقدرته؛ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: هُوَ صفة فعل؛ لَكِن الْفِعْل عِنْدهم: هُوَ الْمَفْعُول الْمَخْلُوق بمشيئته وَقدرته. وَأما " السّلف وأئمة السّنة " وَكثير من أهل الْكَلَام كالهشامية والكرامية وَأَصْحَاب أبي معَاذ التَّوْمَني وَزُهَيْر الأثري وَطَوَائِف غير هَؤُلَاءِ فقولون: إِنَّه " صفة ذَات وَفعل " هُوَ يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته كلَاما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 قَائِما بِذَاتِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُول من صفة الْكَلَام لكل مُتَكَلم فَكل حَيّ وصف بالْكلَام كالملائكة والبشر وَالْجِنّ وَغَيرهم: فكلامهم لَا بُد أَن يقوم بِأَنْفسِهِم وهم يَتَكَلَّمُونَ بمشيئتهم وقدرتهم. وَالْكَلَام صفة كَمَال؛ لَا صفة نقص وَمن تكلم بمشيئته أكمل مِمَّن لَا يتَكَلَّم بمشيئته؛ فَكيف يَتَّصِف الْمَخْلُوق بِصِفَات الْكَمَال دون الْخَالِق وَلَكِن " الْجَهْمِية والمعتزلة " بنوا على " أصلهم ": أَن الرب لَا يقوم بِهِ صفة؛ لِأَن ذَلِك بزعمهم يسْتَلْزم التجسيم والتشبيه الْمُمْتَنع؛ إِذْ الصّفة عرض وَالْعرض لَا يقوم إِلَّا بجسم. و" الْكلابِيَّة " يَقُولُونَ: هُوَ متصف بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا قدرَة وَلَا تكون بمشيئته؛ فَأَما مَا يكون بمشيئته فَإِنَّهُ حَادث والرب - تَعَالَى - لَا تقوم بِهِ الْحَوَادِث. ويترجمون " الصِّفَات الاختيارية " بِمَسْأَلَة " حُلُول الْحَوَادِث " فَإِنَّهُ إِذا كلم مُوسَى بن عمرَان بمشيئته وَقدرته وناداه حِين أَتَاهُ بقدرته ومشيئته كَانَ ذَلِك النداء وَالْكَلَام حَادِثا. قَالُوا: فَلَو اتّصف الرب بِهِ لقامت بِهِ الْحَوَادِث قَالُوا: وَلَو قَامَت بِهِ الْحَوَادِث لم يخل مِنْهَا وَمَا لم يخل من الْحَوَادِث فَهُوَ حَادث؛ قَالُوا: وَلِأَن كَونه قَابلا لتِلْك الصّفة إِن كَانَ من لَوَازِم ذَاته كَانَ قَابلا لَهَا فِي الْأَزَل فَيلْزم جَوَاز وجودهَا فِي الْأَزَل والحوادث لَا تكون فِي الْأَزَل؛ فَإِن ذَلِك يَقْتَضِي وجود حوادث لَا أول لَهَا وَذَلِكَ محَال: " لوجوه " قد ذكرت فِي غير هَذَا الْموضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 قَالُوا: وَبِذَلِك استدللنا على حُدُوث الْأَجْسَام وَبِه عرفنَا حُدُوث الْعَالم وَبِذَلِك أثبتنا وجود الْمَانِع وَصدق رسله؛ فَلَو قدحنا فِي ذَلِك لزم الْقدح فِي أصُول " الْإِيمَان " و " التَّوْحِيد ". وَإِن لم يكن من لَوَازِم ذَاته صَار قَابلا لَهَا بعد أَن لم يكن قَابلا فَيكون قَابلا لتِلْك القابلية فَيلْزم التسلسل الْمُمْتَنع. وَقد بسطنا القَوْل على عَامَّة مَا ذَكرُوهُ فِي هَذَا الْبَاب وَبينا فَسَاده وتناقضه على وَجه لَا تبقى فِيهِ شُبْهَة لمن فهم هَذَا الْبَاب. مقَالَة الرَّازِيّ: وفضلاؤهم الْمُتَأَخّرُونَ: كالرازي والآمدي والطوسي والحلي وَغَيرهم - معترفون بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُم حجَّة عقلية على نفي ذَلِك؛ بل ذكر الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه أَن هَذَا القَوْل يلْزم جَمِيع الطوائف وَنَصره فِي آخر كتبه: " كالمطالب الْعَالِيَة " - وَهُوَ من أكبر كتبه الكلامية [وَخَالف بذلك قَوْله فِي أجل مَا صنفه فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 الْكَلَام وَهُوَ كِتَابه] الَّذِي سَمَّاهُ " نِهَايَة الْعُقُول فِي دراية الْأُصُول " - وَلما عرف فَسَاد قَول النفاة لم يعْتَمد على ذَلِك فِي " مَسْأَلَة الْقُرْآن ". فَإِن عمدتهم فِي " مَسْأَلَة الْقُرْآن " إِذا قَالُوا: لم يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته - قَالُوا - لِأَن ذَلِك يسْتَلْزم حُلُول الْحَوَادِث؛ فَلَمَّا عرف فَسَاد هَذَا الأَصْل لم يعْتَمد على ذَلِك فِي " مَسْأَلَة الْقُرْآن ". فَإِن عمدتهم عَلَيْهِ؛ بل اسْتدلَّ بِإِجْمَاع مركب وَهُوَ دَلِيل ضَعِيف إِلَى الْغَايَة لَكِن لم يكن عِنْده فِي نصر قَول الْكلابِيَّة غَيره؛ وَهَذَا مِمَّا يبين أَنه وَأَمْثَاله تبين لَهُم فَسَاد قَول الْكلابِيَّة. مقَالَة الْآمِدِيّ: وَكَذَلِكَ " الْآمِدِيّ " ذكر فِي " أبكار الأفكار " مَا يبطل قَوْلهم وَذكر أَنه لَا جَوَاب عَنهُ وَقد كشفت هَذِه الْأُمُور فِي مَوَاضِع؛ وَهَذَا مَعْرُوف عِنْد عَامَّة الْعلمَاء حَتَّى الْحلِيّ بن المطهر ذكر فِي كتبه أَن القَوْل بِنَفْي " حُلُول الْحَوَادِث " لَا دَلِيل عَلَيْهِ، فالمنازع جَاهِل بِالْعقلِ وَالشَّرْع. مقَالَة الْجُوَيْنِيّ: وَكَذَلِكَ من قبل هَؤُلَاءِ كَأبي الْمَعَالِي وَذَوِيهِ إِنَّمَا عمدتهم أَن " الكرامية " قَالُوا ذَلِك وتناقضوا فيبينون تنَاقض الكرامية ويظنون أَنهم إِذا بينوا تنَاقض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الكرامية - وهم منازعوهم - فقد فلجوا؛ وَلم يعلمُوا أَن السّلف وأئمة السّنة والْحَدِيث - بل من قبل الكرامية من الطوائف - لم يكن يلْتَفت إِلَى الكرامية وأمثالهم؛ بل تكلمُوا بذلك قبل أَن يُخلق الكرامية: فَإِن ابْن كرام كَانَ مُتَأَخِّرًا بعد أَحْمد بن حَنْبَل فِي زمن مُسلم بن الْحجَّاج وطبقته وأئمة السّنة والمتكلمون تكلمُوا بِهَذِهِ قبل هَؤُلَاءِ وَمَا زَالَ السّلف يَقُولُونَ بِمُوجب ذَلِك. لَكِن لما ظَهرت " الْجَهْمِية النفاة " فِي أَوَائِل الْمِائَة الثَّانِيَة بيّن عُلَمَاء الْمُسلمين ضلالهم وخطاؤهم؛ ثمَّ ظهر محنة الْجَهْمِية فِي أَوَائِل الْمِائَة الثَّالِثَة وامتحن " الْعلمَاء ": الإِمَام أَحْمد وَغَيره فجردوا الرَّد على الْجَهْمِية وكشف ضلالهم حَتَّى جرد الإِمَام أَحْمد الْآيَات الَّتِي من الْقُرْآن تدل على بطلَان قَوْلهم وَهِي كَثِيرَة جدا. بل الْآيَات الَّتِي تدل على " الصِّفَات الاختيارية " الَّتِي يسمونها " حُلُول الْحَوَادِث " كَثِيرَة جدا. الْآيَات الدَّالَّة على صفة الْكَلَام: وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا} فَهَذَا بَين فِي أَنه إِنَّمَا أَمر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود بعد خلق آدم؛ لم يَأْمُرهُم فِي الْأَزَل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وَكَذَلِكَ قَوْله: {إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون} فَإِنَّمَا قَالَ لَهُ: " كن " بعد أَن خلقه من تُرَاب؛ لَا فِي الْأَزَل. وَكَذَلِكَ قَوْله فِي " قصَّة مُوسَى ": {فَلَمَّا جاءها نُودي أَن بورك من فِي النَّار وَمن حولهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطئ الْوَادي الْأَيْمن فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين} فَهَذَا بَين فِي أَنه إِنَّمَا ناداه حِين جَاءَ لم يكن النداء فِي الْأَزَل كَمَا يَقُوله " الْكلابِيَّة " يَقُولُونَ: إِن النداء قَائِم بِذَات الله فِي الْأَزَل وَهُوَ لَازم لذاته لم يزل وَلَا يزَال مناديا لَهُ لكنه لما أَتَى خلق فِيهِ إدراكا لما كَانَ مَوْجُودا فِي الْأَزَل. ثمَّ من قَالَ مِنْهُم إِن الْكَلَام معنى وَاحِد: مِنْهُم من قَالَ: سمع ذَلِك الْمَعْنى بأذنه كَمَا يَقُوله الْأَشْعَرِيّ وَمِنْهُم من يَقُول: بل أفهم مِنْهُ مَا أفهم؛ كَمَا يَقُوله: القَاضِي أَبُو بكر وَغَيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فَقيل لَهُم: عنْدكُمْ هُوَ معنى وَاحِد لَا يَتَبَعَّض وَلَا يَتَعَدَّد فموسى فهم الْمَعْنى كُله أَو بعضه؟ إِن قُلْتُمْ كُله فقد علم علم الله كُله وَإِن قُلْتُمْ بعضه فقد تبعض وعندكم لَا يَتَبَعَّض. وَمن قَالَ من أَتبَاع " الْكلابِيَّة ": بِأَن النداء وَغَيره من الْكَلَام الْقَدِيم حُرُوف أَو حُرُوف وأصوات لَازِمَة لذات الرب كَمَا يَقُوله " السالمية " وَمن وافقهم يَقُولُونَ: إِنَّه يخلق لَهُ إدراكا لتِلْك الْحُرُوف والأصوات؛ وَالْقُرْآن وَالسّنة وَكَلَام السّلف قاطبة يَقْتَضِي أَنه إِنَّمَا ناداه وناجاه حِين أَتَى؛ لم يكن النداء مَوْجُودا قبل ذَلِك فضلا عَن أَن يكون قَدِيما أزليا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذاقا الشَّجَرَة بَدَت لَهما سوآتهما وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة وناداهما ربهما ألم أنهكما عَن تلكما الشَّجَرَة وَأَقل لَكمَا إِن الشَّيْطَان لَكمَا عَدو مُبين} ، وَهَذَا يدل على أَنه لما أكلا مِنْهَا ناداهما، لم ينادهما قبل ذَلِك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْم يناديهم فَيَقُول مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين} . {وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ} . فَجعل النداء فِي يَوْم معِين وَذَلِكَ الْيَوْم حَادث كَائِن بعد أَن لم يكن وَهُوَ حِينَئِذٍ يناديهم؛ لم ينادهم قبل ذَلِك. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم غير محلي الصَّيْد وَأَنْتُم حرم إِن الله يحكم مَا يُرِيد} . فَبين أَنه يحكم فيحلل مَا يُرِيد وَيحرم مَا يُرِيد وَيَأْمُر بِمَا يُرِيد؛ فَجعل التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم وَالْأَمر وَالنَّهْي مُتَعَلقا بإرادته. وَهَذِه أَنْوَاع الْكَلَام، فَدلَّ على أَنه يَأْمر بإرادته وَينْهى بإرادته، ويحلل بإرادته وَيحرم بإرادته. و" الْكلابِيَّة " يَقُولُونَ: لَيْسَ شَيْء من ذَلِك بإرادته؛ بل هُوَ قديم لَازم لذاته غير مُرَاد لَهُ وَلَا مَقْدُور. و " الْمُعْتَزلَة مَعَ الْجَهْمِية " يَقُولُونَ: كل ذَلِك مَخْلُوق مُنْفَصِل عَنهُ لَيْسَ لَهُ كَلَام قَائِم بِهِ لَا بإرادته وَلَا بِغَيْر إِرَادَته وَمثل هَذَا كثير فِي الْقُرْآن الْعَزِيز. فصل صفة الْإِرَادَة: وَكَذَلِكَ فِي " الْإِرَادَة " و " الْمحبَّة " كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} . وَقَوله: {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَقَوله: {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين} وَقَوله: {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل} وَقَوله: {وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا فَلَا مرد لَهُ} وَقَوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 {وَإِذا شِئْنَا بدلنا أمثالهم تبديلا} وَقَوله: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} وأمثال ذَلِك فِي الْقُرْآن الْعَزِيز. فَإِن جوازم الْفِعْل الْمُضَارع ونواصبه تخلصه للاستقبال مثل " إِن " و " أَن " وَكَذَلِكَ " إِذا " ظرف لما يسْتَقْبل من الزَّمَان؛ فَقَوله: {إِذا أَرَادَ} و {إِن شَاءَ الله} وَنَحْو ذَلِك يَقْتَضِي حُصُول إِرَادَة مُسْتَقْبلَة ومشيئة مُسْتَقْبلَة. صفتا الْمحبَّة وَالرِّضَا: وَكَذَلِكَ فِي الْمحبَّة وَالرِّضَا قَالَ الله تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} فَإِن هَذَا يدل على أَنهم إِذا اتَّبعُوهُ أحبهم الله؛ فَإِنَّهُ جزم قَوْله: " يحببكم الله " فجزمه جَوَابا لِلْأَمْرِ وَهُوَ فِي معنى الشَّرْط فتقديره: إِن تتبعوني يحببكم الله. وَمَعْلُوم أَن جَوَاب الشَّرْط وَالْأَمر إِنَّمَا يكون بعده لَا قبله؛ فمحبة الله لَهُم إِنَّمَا تكون بعد اتباعهم للرسول؛ والمنازعون: مِنْهُم من يَقُول: مَا ثمَّ محبَّة بل المُرَاد ثَوابًا مخلوقا وَمِنْهُم من يَقُول: بل ثمَّ محبَّة قديمَة أزلية إِمَّا الْإِرَادَة وَإِمَّا غَيرهَا وَالْقُرْآن يدل على قَول السّلف وأئمة السّنة الْمُخَالف للقولين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وَكَذَلِكَ قَوْله: {ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه} فَإِنَّهُ يدل على أَن أَعْمَالهم أسخطته فَهِيَ سَبَب لسخطه وَسخطه عَلَيْهِم بعد الْأَعْمَال؛ لَا قبلهَا. وَكَذَلِكَ قَوْله: {فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم} وَكَذَلِكَ قَوْله: {إِن تكفرُوا فَإِن الله غَنِي عَنْكُم وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَإِن تشكروا يرضه لكم} علق الرِّضَا بشكرهم وَجعله مَجْزُومًا جَزَاء لَهُ وَجَزَاء الشَّرْط لَا يكون إِلَّا بعده. وَكَذَلِكَ قَوْله: {إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين} و {يحب الْمُتَّقِينَ} و {يحب المقسطين} و {يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا} وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ يدل على أَن الْمحبَّة بِسَبَب هَذِه الْأَعْمَال وَهِي جَزَاء لَهَا وَالْجَزَاء إِنَّمَا يكون بعد الْعَمَل وَالسَّبَب. فصل صفتا السّمع وَالْبَصَر: وَكَذَلِكَ " السّمع " و " الْبَصَر " " وَالنَّظَر ". قَالَ الله تَعَالَى: {وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله} هَذَا فِي حق الْمُنَافِقين وَقَالَ فِي حق التائبين: {وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون} فَقَوله {فسيرى الله} دَلِيل على أَنه يَرَاهَا بعد نزُول هَذِه الْآيَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الْكَرِيمَة والمنازع إِمَّا أَن يَنْفِي الرُّؤْيَة؛ وَإِمَّا أَن يثبت رُؤْيَة قديمَة أزلية فَقَط. وَكَذَلِكَ قَوْله {ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من بعدهمْ لنَنْظُر كَيفَ تَعْمَلُونَ} وَلَام " كي " تَقْتَضِي أَن مَا بعْدهَا مُتَأَخّر عَن الْمَعْلُول فنظره كَيفَ يعْملُونَ هُوَ بعد جعلهم خلائف. وَكَذَلِكَ {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا وتشتكي إِلَى الله وَالله يسمع تحاوركما} أخبر أَنه يسمع تحاورهما حِين كَانَت تجَادل وتشتكي إِلَى الله. وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {إِذا قَالَ الإِمَام سمع الله لمن حَمده فَقولُوا رَبنَا وَلَك الْحَمد يسمع الله لكم} " فَجعل سَمعه لنا جَزَاء وجوابا للحمد فَيكون ذَلِك بعد الْحَمد والسمع يتَضَمَّن مَعَ سمع القَوْل قبُوله وإجابته. وَمِنْه قَول الْخَلِيل {إِن رَبِّي لسميع الدُّعَاء} . وَكَذَلِكَ قَوْله: {لقد سمع الله قَول الَّذين قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} وَقَوله لمُوسَى وَهَارُون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 و " الْعقل الصَّرِيح " يدل على ذَلِك فَإِن الْمَعْدُوم لَا يرى وَلَا يسمع بِصَرِيح الْعقل واتفاق الْعُقَلَاء؛ لَكِن قَالَ من قَالَ من " السالمية ": إِنَّه يسمع وَيرى مَوْجُودا فِي علمه لَا مَوْجُودا بَائِنا عَنهُ وَلم يقل أحد: إِنَّه يسمع وَيرى بَائِنا عَن الرب. فَإِذا خلق الْعباد وَعمِلُوا وَقَالُوا؛ فإمَّا أَن نقُول: إِنَّه يسمع أَقْوَالهم وَيرى أَعْمَالهم؛ وَإِمَّا لَا يرى وَلَا يسمع. فَإِن نفي ذَلِك تَعْطِيل لهاتين الصفتين وَتَكْذيب لِلْقُرْآنِ وهما صفتا كَمَال لَا نقص فِيهِ فَمن يسمع ويبصر أكمل مِمَّن لَا يسمع وَلَا يبصر. والمخلوق يَتَّصِف بِأَنَّهُ يسمع ويبصر فَيمْتَنع اتصاف الْمَخْلُوق بِصِفَات الْكَمَال دون الْخَالِق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقد عَابَ الله تَعَالَى من يعبد من لَا يسمع وَلَا يبصر فِي غير مَوضِع؛ وَلِأَنَّهُ حَيّ والحي إِذا لم يَتَّصِف بِالسَّمْعِ وَالْبَصَر اتّصف بضد ذَلِك وَهُوَ الْعَمى والصمم وَذَلِكَ مُمْتَنع وَبسط هَذَا لَهُ مَوضِع آخر. وَإِنَّمَا " الْمَقْصُود هُنَا " أَنه إِذا كَانَ يسمع ويبصر الْأَقْوَال والأعمال بعد أَن وجدت؛ فإمَّا أَن يُقَال: إِنَّه تجدّد شَيْء، وَإِمَّا أَن يُقَال: لم يَتَجَدَّد شَيْء، فَإِن كَانَ لم يَتَجَدَّد، وَكَانَ لَا يسْمعهَا وَلَا يبصرها، فَهُوَ بعد أَن خلقهَا لَا يسْمعهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وَلَا يبصرها. وَإِن تجدّد شَيْء: فإمَّا أَن يكون وجودا أَو عدما؛ فَإِن كَانَ عدما فَلم يَتَجَدَّد شَيْء وَإِن كَانَ وجودا: فإمَّا أَن يكون قَائِما بِذَات الله أَو قَائِما بِذَات غَيره و " الثَّانِي " يسْتَلْزم أَن يكون ذَلِك الْغَيْر هُوَ الَّذِي يسمع وَيرى فَيتَعَيَّن أَن ذَلِك السّمع والرؤية الْمَوْجُودين قَائِم بِذَات الله وَهَذَا لَا حِيلَة فِيهِ. و" الْكلابِيَّة " يَقُولُونَ فِي جَمِيع هَذَا الْبَاب: المتجدد هُوَ تعلُّقٌ تعلَّق بَين الْأَمر والمأمور وَبَين الْإِرَادَة وَالْمرَاد وَبَين السّمع وَالْبَصَر والمسموع والمرئي. فَيُقَال لَهُم: هَذَا التَّعَلُّق إِمَّا أَن يكون وجودا وَإِمَّا أَن يكون عدما فَإِن كَانَ عدما فَلم يَتَجَدَّد شَيْء فَإِن الْعَدَم لَا شَيْء وَإِن كَانَ وجودا بَطل قَوْلهم. وَأَيْضًا فحدوث " تعلق " هُوَ نِسْبَة وَإِضَافَة من غير حُدُوث مَا يُوجب ذَلِك مُمْتَنع فَلَا تحدث نِسْبَة وَإِضَافَة إِلَّا بحدوث أَمر وجودي يَقْتَضِي ذَلِك. وَطَائِفَة مِنْهُم ابْن عقيل يسمون هَذِه النّسَب " أحوالا ". و" الطوائف " متفقون على حُدُوث " نسب " و " إضافات " و " تعلقات " لَكِن حُدُوث النّسَب بِدُونِ حُدُوث مَا يُوجِبهَا مُمْتَنع. فَلَا تكون نِسْبَة وَإِضَافَة إِلَّا تَابِعَة لصفة ثبوتية؛ كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية والتيامن والتياسر فَإِنَّهَا لَا بُد أَن تَسْتَلْزِم أمورا ثبوتية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 أَفعَال الرب الاختيارية: وَكَذَلِكَ كَونه " خَالِقًا " و " رازقا " و " محسنا " و " عادلا " فَإِن هَذِه أَفعَال فعلهَا بمشيئته وَقدرته إِذْ كَانَ يخلق بمشيئته ويرزق بمشيئته. ويعدل بمشيئته وَيحسن بمشيئته. وَالَّذِي عَلَيْهِ " جَمَاهِير الْمُسلمين " من السّلف. وَالْخلف أَن الْخلق غير الْمَخْلُوق؛ فالخلق فعل الْخَالِق والمخلوق مَفْعُوله. وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستعيذ بِأَفْعَال الرب وَصِفَاته كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عُقُوبَتك وَبِك مِنْك لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك.} " فاستعاذ بمعافاته كَمَا استعاذ بِرِضَاهُ. وَقد اسْتدلَّ " أَئِمَّة السّنة " كأحمد وَغَيره على أَن " كَلَام الله غير مَخْلُوق " بِأَنَّهُ استعاذ بِهِ فَقَالَ: " {من نزل منزلا فَقَالَ: أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة من شَرّ مَا خلق لم يضرّهُ شَيْء حَتَّى يرتحل مِنْهُ} . " فَكَذَلِك معافاته وَرضَاهُ غير مَخْلُوق لِأَنَّهُ استعاذ بِهِ والعافية الْقَائِمَة ببدن العَبْد مخلوقة فَإِنَّهَا نتيجة معافاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وَإِذا كَانَ " الْخلق فعله " والمخلوق مَفْعُوله " وَقد خلق الْخلق بمشيئته دلّ على أَن الْخلق فعل يحصل بمشيئته وَيمْتَنع قِيَامه بِغَيْرِهِ فَدلَّ على أَن أَفعاله قَائِمَة بِذَاتِهِ مَعَ كَونهَا حَاصِلَة بمشيئته وَقدرته. وَقد حكى البُخَارِيّ إِجْمَاع الْعلمَاء على الْفرق بَين الْخلق والمخلوق وعَلى هَذَا يدل " صَرِيح الْمَعْقُول ". فَإِنَّهُ قد ثَبت بالأدلة " الْعَقْلِيَّة والسمعية " أَن كل مَا سوى الله تَعَالَى مَخْلُوق مُحدث كَائِن بعد أَن لم يكن وَأَن الله انْفَرد بالقدم والأزلية. وَقد قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام} فَهُوَ حِين خلق السَّمَوَات ابْتِدَاء؛ إِمَّا أَن يحصل مِنْهُ فعل يكون هُوَ خلقا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْض وَإِمَّا أَن لَا يحصل مِنْهُ فعل؛ بل وجدت الْمَخْلُوقَات بِلَا فعل وَمَعْلُوم أَنه إِذا كَانَ الْخَالِق قبل خلقهَا وَمَعَ خلقهَا وَبعده سَوَاء لم يجز تَخْصِيص خلقهَا بِوَقْت دون وَقت بِلَا سَبَب يُوجب التَّخْصِيص. و" أَيْضا " فحدوث الْمَخْلُوق بِلَا سَبَب حَادث مُمْتَنع فِي بدايه الْعقل وَإِذا قيل: الْإِرَادَة وَالْقُدْرَة الْقَدِيمَة خصصت. قيل: نِسْبَة الْإِرَادَة الْقَدِيمَة إِلَى جَمِيع الْأَوْقَات سَوَاء. وَأَيْضًا فَلَا تعقل إِرَادَة تخصص أحد المتماثلين إِلَّا بِسَبَب يُوجب التَّخْصِيص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 " وَأَيْضًا " فَلَا بُد عِنْد وجود المُرَاد من سَبَب يَقْتَضِي حُدُوثه وَإِلَّا فَلَو كَانَ مُجَرّد مَا تقدم من الْإِرَادَة وَالْقُدْرَة كَافِيا؛ للَزِمَ وجوده قبل ذَلِك لِأَنَّهُ مَعَ الْإِرَادَة التَّامَّة وَالْقُدْرَة التَّامَّة يجب وجود الْمَقْدُور. وَقد احْتج من قَالَ: " الْخلق " هُوَ الْمَخْلُوق - كَأبي الْحسن وَمن اتبعهُ مثل ابْن عقيل - بِأَن قَالُوا: لَو كَانَ غَيره لَكَانَ إِمَّا قَدِيما وَإِمَّا حَادِثا فَإِن كَانَ قَدِيما لزم قدم الْمَخْلُوق لِأَنَّهُمَا متضايفان؛ وَإِن كَانَ حَادِثا لزم أَن تقوم بِهِ الْحَوَادِث ثمَّ ذَلِك الْمَخْلُوق يفْتَقر إِلَى خلق آخر وَيلْزم التسلسل. فأجابهم " الْجُمْهُور " - كل طَائِفَة على أَصْلهَا - فطائفة قَالَت: الْخلق قديم وَإِن كَانَ الْمَخْلُوق حَادِثا كَمَا يَقُول ذَلِك كثير من أهل الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَعَلِيهِ أَكثر الْحَنَفِيَّة؛ قَالَ هَؤُلَاءِ: أَنْتُم تسلمون لنا أَن الْإِرَادَة قديمَة أزلية؛ وَالْمرَاد مُحدث فَنحْن نقُول فِي الْخلق مَا قُلْتُمْ فِي الْإِرَادَة. وَقَالَت " طَائِفَة ": بل الْخلق حَادث فِي ذَاته وَلَا يفْتَقر إِلَى خلق آخر؛ بل يحدث بقدرته. وَأَنْتُم تَقولُونَ: إِن الْمَخْلُوق يحصل بقدرته بعد أَن لم يكن فَإِن كَانَ الْمُنْفَصِل يحصل بِمُجَرَّد الْقُدْرَة فالمتصل بِهِ أولى وَهَذَا جَوَاب كثير من الكرامية والهشامية وَغَيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 و " طَائِفَة " يَقُولُونَ: هَب أَنه يفْتَقر إِلَى فعل قبله فَلم قُلْتُمْ: إِن ذَلِك مُمْتَنع؟ وقولكم: هَذَا تسلسل. فَيُقَال: هَذَا لَيْسَ تسلسلا فِي الفاعلين والعلل الفاعلة؛ فَإِن هَذَا مُمْتَنع بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء؛ بل هُوَ تسلسل فِي الْآثَار وَالْأَفْعَال وَهُوَ حُصُول شَيْء بعد شَيْء. وَهَذَا مَحل النزاع. " فالسلف " يَقُولُونَ: لم يزل متكلما إِذا شَاءَ وكما شَاءَ؛ وَقد قَالَ تَعَالَى: {قل لَو كَانَ الْبَحْر مدادا لكلمات رَبِّي لنفد الْبَحْر قبل أَن تنفد كَلِمَات رَبِّي وَلَو جِئْنَا بِمثلِهِ مدَدا} . فكلمات الله لَا نِهَايَة لَهَا وَهَذَا تسلسل جَائِز كالتسلسل فِي الْمُسْتَقْبل فَإِن نعيم الْجنَّة دَائِم لَا نفاد لَهُ فَمَا من شَيْء إِلَّا وَبعده شَيْء بِلَا نِهَايَة. فصل و" الْأَفْعَال نَوْعَانِ ": مُتَعَدٍّ ولازم. فالمتعدي مثل: الْخلق والإعطاء وَنَحْو ذَلِك وَاللَّازِم: مثل الاسْتوَاء وَالنُّزُول والمجيء والإتيان. قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} فَذكر الْفِعْلَيْنِ: الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِم وَكِلَاهُمَا حَاصِل بقدرته ومشيئته وَهُوَ متصف بِهِ؛ وَقد بسط هَذَا فِي غير هَذَا الْموضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 الْأَدِلَّة على هَذَا الأَصْل من السّنة: وَالْمَقْصُود هُنَا: أَن الْقُرْآن يدل على " هَذَا الأَصْل " فِي أَكثر من مائَة مَوضِع. وَأما " الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة " فَلَا يُمكن ضَبطهَا فِي هَذَا الْبَاب كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ {أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الصُّبْح بِالْحُدَيْبِية على أثر سَمَاء كَانَت من اللَّيْل ثمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ ربكُم اللَّيْلَة؟ قَالَ: أصبح من عبَادي مُؤمن بِي وَكَافِر بِي فَأَما من قَالَ مُطِرْنَا بِفضل الله وَرَحمته فَذَلِك مُؤمن بِي كَافِر بالكواكب وَأما من قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا ونوء كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِك كَافِر بِي مُؤمن بالكواكب} ". وَفِي الصِّحَاح فِي حَدِيث الشَّفَاعَة " {يَقُول كل من الرُّسُل إِذا أَتَوا إِلَيْهِ: إِن رَبِّي قد غضب الْيَوْم غَضبا لم يغْضب قبله مثله وَلنْ يغْضب بعده مثله} " وَهُوَ بَيَان أَن الْغَضَب حصل فِي ذَلِك الْيَوْم لَا قبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وَفِي الصَّحِيح: " {إِذا تكلم الله بِالْوَحْي سمع أهل السَّمَوَات كجر السلسلة على الصفوان} " فَقَوله: إِذا تكلم الله بِالْوَحْي سمع يدل على أَنه يتَكَلَّم بِهِ حِين يسمعونه وَذَلِكَ يَنْفِي كَونه أزليا وَأَيْضًا فَمَا يكون كجر السلسلة على الصَّفَا يكون شَيْئا بعد شَيْء والمسبوق بِغَيْرِهِ لَا يكون أزليا. وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح " {يَقُول الله: قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ نصفهَا لي وَنِصْفهَا لعبدي ولعبدي مَا سَأَلَ؛ فَإِذا قَالَ: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} قَالَ الله: حمدني عَبدِي فَإِذا قَالَ: {الرَّحْمَن الرَّحِيم} قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 الله: أثنى عَليّ عَبدِي. فَإِذا قَالَ {مَالك يَوْم الدَّين} قَالَ الله: مجدني عَبدِي؛ فَإِذا قَالَ: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} قَالَ الله هَذِه الْآيَة بيني وَبَين عَبدِي ولعبدي مَا سَأَلَ؛ فَإِذا قَالَ: {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} {صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} قَالَ الله: هَؤُلَاءِ لعبدي ولعبدي مَا سَأَلَ} فقد أخبر أَن العَبْد إِذا قَالَ {الْحَمد لله} قَالَ الله: حمدني عَبدِي فَإِذا قَالَ {الرَّحْمَن الرَّحِيم} قَالَ الله: أثنى عَليّ عَبدِي.. الحَدِيث. وَفِي الصِّحَاح حَدِيث النُّزُول أَنه " {ينزل رَبنَا كل لَيْلَة حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر فَيَقُول: من يدعوني فأستجيب لَهُ؟ من يسألني فَأعْطِيه؟ من يستغفرني فَأغْفِر لَهُ؟} " فَهَذَا قَول وَفعل فِي وَقت معِين وَقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 اتّفق السّلف على أَن " النُّزُول " فعل يَفْعَله الرب كَمَا قَالَ ذَلِك الْأَوْزَاعِيّ وَحَمَّاد بن زيد والفضيل بن عِيَاض وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهم. وَأَيْضًا فقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {لله أَشد أذنا إِلَى الرجل الْحسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ من صَاحب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته} " وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح الآخر " {مَا أذن الله لشَيْء كَإِذْنِهِ لنَبِيّ حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يجْهر بِهِ} " أذن يَأْذَن أذنا: أَي اسْتمع يستمع استماعا {وأذنت لِرَبِّهَا وحقت} . فَأخْبر أَنه يستمع إِلَى هَذَا وَهَذَا. وَفِي الصَّحِيح " {لَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 أحببته كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ؛ وبصره الَّذِي يبصر بِهِ وَيَده الَّتِي يبطش بهَا وَرجله الَّتِي يمشي بهَا} " فَأخْبر أَنه لَا يزَال يتَقرَّب بالنوافل بعد الْفَرَائِض حَتَّى يُحِبهُ، و "حَتَّى " حرف غَايَة، يدل على أَنه يُحِبهُ بعد تقربه بالنوافل والفرائض. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يروي عَن ربه تَعَالَى قَالَ: " {قَالَ الله أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي وَأَنا مَعَه إِذا ذَكرنِي؛ إِن ذَكرنِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي وَإِن ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي ملإ خير مِنْهُم} " وحرف " إِن " حرف الشَّرْط؛ وَالْجَزَاء يكون بعد الشَّرْط فَهَذَا يبين أَنه يذكر العَبْد بعد أَن يذكرهُ العَبْد، إِن ذكره فِي نَفسه ذكره فِي نَفسه وَإِن ذكره فِي ملإ ذكره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 فِي ملإ خير مِنْهُم والمنازع يَقُول مَا زَالَ يذكرهُ أزلا وأبدا ثمَّ يَقُول: ذكره وَذكر غَيره وَسَائِر مَا يتَكَلَّم الله بِهِ هُوَ شَيْء وَاحِد لَا يَتَبَعَّض وَلَا يَتَعَدَّد فحقيقة قَوْله إِن الله لم يتَكَلَّم وَلَا يتَكَلَّم وَلَا يذكر أحدا. وَفِي صَحِيح مُسلم فِي حَدِيث تَعْلِيم الصَّلَاة " {وَإِذا قَالَ الإِمَام سمع الله لمن حَمده فَقولُوا: اللَّهُمَّ رَبنَا وَلَك الْحَمد؛ يسمع الله لكم فَإِن الله قَالَ على لِسَان نبيه سمع الله لمن حَمده} " فَقَوله: سمع الله لمن حَمده؛ لِأَن الْجَزَاء بعد الشَّرْط فَقَوله " يسمع الله لكم " مجزوم حرك بِالْكَسْرِ لالتقاء الساكنين وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه يسمع بعد أَن تحمدوا. فصل مَوَاقِف النفاة من مَسْأَلَة الصِّفَات وَالرَّدّ عَلَيْهِم: والمنازعون " النفاة " كَذَلِك. مِنْهُم من يَنْفِي الصِّفَات مُطلقًا فَهَذَا يكون الْكَلَام مَعَه فِي الصِّفَات مُطلقًا؛ لَا يخْتَص " بِالصِّفَاتِ الاختيارية ". وَمِنْهُم من يثبت الصِّفَات وَيَقُول لَا يقوم بِذَاتِهِ شَيْء بمشيئته وَقدرته؛ فَيَقُول: إِنَّه لَا يتَكَلَّم بمشيئته واختياره وَيَقُول: لَا يرضى ويسخط وَيُحب وَيبغض ويختار بمشيئته وَقدرته وَيَقُول: إِنَّه لَا يفعل فعلا " هُوَ الْخلق " يخلق بِهِ الْمَخْلُوق وَلَا يقدر عِنْده على فعل يقوم بِذَاتِهِ بل مقدوره لَا يكون إِلَّا مُنْفَصِلا مِنْهُ وَهَذَا مَوضِع تنَازع فِيهِ النفاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 فَقيل: لَا يكون " مقدوره " إِلَّا بَائِنا عَنهُ؛ كَمَا يَقُوله الْجَهْمِية والكلابية والمعتزلة وَقيل: لَا يكون " مقدوره " إِلَّا مَا يقوم بِذَاتِهِ؛ كَمَا يَقُوله: السالمية والكرامية وَالصَّحِيح: أَن كليهمَا مَقْدُور لَهُ. أما " الْفِعْل " فَمثل قَوْله تَعَالَى {قل هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم} . وَقَوله: {أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى} . وَقَول الحواريين: {هَل يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء} . وَقَوله: {أوليس الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِقَادِر على أَن يخلق مثلهم} وَقَوله: {أولم يرَوا أَن الله الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلم يعي بخلقهن بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى} إِلَى أَمْثَال ذَلِك مِمَّا يبين أَنه يقدر على " الْأَفْعَال " كالإحياء والبعث وَنَحْو ذَلِك. وَأما " الْقُدْرَة على الْأَعْيَان " فَفِي الصَّحِيح عَن أبي مَسْعُود قَالَ: " {كنت أضْرب غُلَاما فرآني النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: اعْلَم أَبَا مَسْعُود اعْلَم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 أَبَا مَسْعُود: لله أقدر عَلَيْك مِنْك على هَذَا} " فَقَوله: " لله أقدر عَلَيْك مِنْك على هَذَا " دَلِيل على أَن الْقُدْرَة تتَعَلَّق بالأعيان الْمُنْفَصِلَة: " قدرَة الرب " و " قدرَة العَبْد ". وَمن النَّاس من يَقُول: كِلَاهُمَا يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ كالكرامية وَمِنْهُم من يَقُول: قدرَة الرب تتَعَلَّق بالمنفصل وَأما قدرَة العَبْد فَلَا تتَعَلَّق إِلَّا بِفعل فِي محلهَا كالأشعرية. و" النُّصُوص " تدل على أَن كلا القدرتين تتَعَلَّق بالمتصل والمنفصل فَإِن الله تَعَالَى أخبر أَن العَبْد يقدر على أَفعاله كَقَوْلِه: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَقَوله: {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فَمن مَا ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم} فَدلَّ على أَن منا من يَسْتَطِيع ذَلِك وَمنا من لم يسْتَطع. وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {يَا معشر الشَّبَاب من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج وَمن لم يسْتَطع فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء} ". أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وَقَوله: " {إِن اسْتَطَعْت أَن تعْمل بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِين فافعل} . وَقَوله فِي الحَدِيث الَّذِي فِي الصَّحِيح: " {إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم} وَقد أخبر أَنه قَادر على عَبده وَهَؤُلَاء الَّذين يَقُولُونَ: لَا تقوم بِهِ " الْأُمُور الاختيارية " عمدتهم أَنه لَو قَامَت بِهِ الْحَوَادِث لم يخل مِنْهَا وَمَا لم يخل من الْحَوَادِث فَهُوَ حَادث. وَقد نازعهم النَّاس فِي كلا " المقدمتين " وأصحابهم الْمُتَأَخّرُونَ كالرازي والآمدي قَدَحُوا فِي " الْمُقدمَة الأولى " فِي نفس هَذِه الْمَسْأَلَة وقدح الرَّازِيّ فِي " الْمُقدمَة الثَّانِيَة " فِي غير مَوضِع من كتبه وَقد بسط الْكَلَام على ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وَقَوْلهمْ: إِنَّمَا عرفنَا حُدُوث الْعَالم بِهَذِهِ الطَّرِيق وَبِه أثبتنا " الصَّانِع " فَيُقَال لَهُم: لَا جرم ابتدعتم طَرِيقا لَا يُوَافق السّمع وَلَا الْعقل فالعالمون بِالشَّرْعِ معترفون أَنكُمْ مبتدعون محدثون فِي الْإِسْلَام مَا لَيْسَ مِنْهُ وَالَّذين يعْقلُونَ مَا يَقُولُونَ يعلمُونَ أَن الْعقل يُنَاقض مَا قُلْتُمْ وَأَن مَا جعلتموه دَلِيلا على إِثْبَات الصَّانِع لَا يدل على إثْبَاته بل هُوَ اسْتِدْلَال على نفي " الصَّانِع ". وَإِثْبَات " الصَّانِع " حق وَهَذَا الْحق يلْزم من ثُبُوته إبِْطَال استدلالكم بِأَن مَا لم يخل من الْحَوَادِث فَهُوَ حَادث. وَأما كَون " طريقكم مبتدعة " مَا سلكها الْأَنْبِيَاء وَلَا أتباعهم وَلَا سلف الْأمة؛ فَلِأَن كل من يعرف مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول - وَإِن كَانَت مَعْرفَته متوسطة لم يصل فِي ذَلِك إِلَى الْغَايَة - يعلم أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدع النَّاس فِي معرفَة الصَّانِع وتوحيده وَصدق رسله إِلَى الِاسْتِدْلَال بِثُبُوت الْأَعْرَاض وَأَنَّهَا حَادِثَة ولازمة للأجسام؛ وَمَا لم يخل من الْحَوَادِث فَهُوَ حَادث؛ لِامْتِنَاع حوادث لَا أول لَهَا، بل يعلم بالاضطرار أَن " هَذِه الطَّرِيق " لم يتَكَلَّم بهَا الرَّسُول وَلَا دَعَا إِلَيْهَا أَصْحَابه، وَلَا أَصْحَابه تكلمُوا بهَا وَلَا دعوا بهَا النَّاس. وَهَذَا يُوجب الْعلم الضَّرُورِيّ من دين الرَّسُول بِأَنَّهُ عِنْد الرَّسُول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وَالْمُؤمنِينَ بِهِ أَن الله يُعرف ويُعرف توحيده وَصدق رسله بِغَيْر هَذِه الطَّرِيق فَدلَّ الشَّرْع دلَالَة ضَرُورِيَّة على أَنه لَا حَاجَة إِلَى هَذِه الطَّرِيق وَدلّ مَا فِيهَا من مُخَالفَة نُصُوص الْكتاب وَالسّنة على أَنَّهَا طَرِيق بَاطِلَة. فَدلَّ الشَّرْع على أَنه لَا حَاجَة إِلَيْهَا وَأَنَّهَا بَاطِلَة. وَأما الْعقل فقد بسط القَوْل فِي جَمِيع مَا قيل فِيهَا فِي غير هَذِه الْمَوَاضِع وَبَين أَن أَئِمَّة أَصْحَابهَا قد يعترفون بفسادها من جِهَة الْعقل. كَمَا يُوجد فِي كَلَام أبي حَامِد والرازي وَغَيرهمَا بَيَان فَسَادهَا. وَلما ظهر فَسَادهَا لِلْعَقْلِ تسلط " الفلاسفة " على سالكيها وظنت الفلاسفة أَنهم إِذا قَدَحُوا فِيهَا فقد قَدَحُوا فِي دلَالَة الشَّرْع ظنا مِنْهُم أَن الشَّرْع جَاءَ بموجبها إِذْ كَانُوا أَجْهَل بِالشَّرْعِ وَالْعقل من سالكيها فسالكوها لَا لِلْإِسْلَامِ نصروا وَلَا لأعدائه كسروا بل سلطوا الفلاسفة عَلَيْهِم وعَلى الْإِسْلَام. وَهَذَا كُله مَبْسُوط فِي مَوَاضِع. وَإِنَّمَا " الْمَقْصُود هُنَا ": أَن يعرف أَن نفيهم " للصفات الاختيارية " الَّتِي يسمونها حُلُول الْحَوَادِث لَيْسَ لَهُم دَلِيل عَقْلِي عَلَيْهِ وحذاقهم يعترفون بذلك وَأما السّمع فَلَا ريب أَنه مَمْلُوء بِمَا يناقضه وَالْعقل أَيْضا يدل نقيضه من وُجُوه نبهنا على بَعْضهَا. وَلما لم يُمكن مَعَ أَصْحَابهَا حجَّة " لَا عقلية وَلَا سمعية ": من الْكتاب وَالسّنة احتال متأخروهم فسلكوا " طَرِيقا سمعية " ظنُّوا أَنَّهَا تنفعهم فَقَالُوا: هَذِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 الصِّفَات إِن كَانَت صِفَات نقص وَجب تَنْزِيه الرب عَنْهَا وَإِن كَانَت صِفَات كَمَال فقد كَانَ فاقدا لَهَا قبل حدوثها وَعدم الْكَمَال نقص؛ فَيلْزم أَن يكون كَانَ نَاقِصا وتنزيهه عَن النَّقْص وَاجِب بِالْإِجْمَاع. الرَّد على حجَّة للنفاة من وُجُوه: وَهَذِه الْحجَّة من أفسد الْحجَج وَذَلِكَ من وُجُوه: الأول : (أَحدهَا) : أَن هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: نفي النَّقْص عَنهُ لم يعلم بِالْعقلِ وَإِنَّمَا علم " بِالْإِجْمَاع " - وَعَلِيهِ اعتمدوا فِي نفي النَّقْص هُنَا - فَيَعُود الْأَمر إِلَى احتجاجهم بِالْإِجْمَاع وَمَعْلُوم أَن الْإِجْمَاع لَا يحْتَج بِهِ فِي موارد النزاع؛ فَإِن المنازع لَهُم يَقُول أَنا لم أوافقكم على نفي هَذَا الْمَعْنى وَإِن وافقتكم على إِطْلَاق القَوْل بِأَن الله منزه عَن النَّقْص؛ فَهَذَا الْمَعْنى عِنْدِي لَيْسَ بِنَقص وَلم يدْخل فِيمَا سلمته لكم فَإِن بينتم بِالْعقلِ أَو بِالسَّمْعِ انتفاءه وَإِلَّا فاحتجاجكم بِقَوْلِي مَعَ أَنِّي لم أرد ذَلِك كذب عَليّ؛ فَإِنَّكُم تحتجون بِالْإِجْمَاع؛ والطائفة المثبتة من أهل الْإِجْمَاع وهم لم يسلمُوا هَذَا. الثَّانِي: (الثَّانِي) : أَن يُقَال: لَا نسلم أَن عدم هَذِه الْأُمُور قبل وجودهَا نقص؛ بل لَو وجدت قبل وجودهَا لَكَانَ نقصا؛ مِثَال ذَلِك تكليم الله لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ونداؤه لَهُ فنداؤه حِين ناداه صفة كَمَال؛ وَلَو ناداه قبل أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 يَجِيء لَكَانَ ذَلِك نقصا؛ فَكل مِنْهَا كَمَال حِين وجوده؛ لَيْسَ بِكَمَال قبل وجوده؛ بل وجوده قبل الْوَقْت الَّذِي تَقْتَضِي الْحِكْمَة وجوده فِيهِ نقص. الثَّالِث: (الثَّالِث) : أَن يُقَال: لَا نسلم أَن عدم ذَلِك نقص فَإِن مَا كَانَ حَادِثا امْتنع أَن يكون قَدِيما وَمَا كَانَ مُمْتَنعا لم يكن عَدمه نقصا؛ لِأَن النَّقْص فَوَات مَا يُمكن من صِفَات الْكَمَال. الرَّابِع: (الرَّابِع) : أَن هَذَا يرد فِي كل مَا فعله الرب وخلقه. فَيُقَال: خلق هَذَا إِن كَانَ نقصا فقد اتّصف بِالنَّقْصِ وَإِن كَانَ كمالا فقد كَانَ فاقدا لَهُ؛ فَإِن قُلْتُمْ: " صِفَات الْأَفْعَال " عندنَا لَيست بِنَقص وَلَا كَمَال. قيل: إِذا قُلْتُمْ ذَلِك أمكن المنازع أَن يَقُول: هَذِه الْحَوَادِث لَيست بِنَقص وَلَا كَمَال. الْخَامِس: (الْخَامِس) : أَن يُقَال: إِذا عرض على الْعقل الصَّرِيح ذَات يُمكنهَا أَن تَتَكَلَّم بقدرتها وَتفعل مَا تشَاء بِنَفسِهَا وَذَات لَا يُمكنهَا أَن تَتَكَلَّم بمشيئتها وَلَا تتصرف بِنَفسِهَا أَلْبَتَّة بل هِيَ بِمَنْزِلَة الزَّمن الَّذِي لَا يُمكنهُ فعل يقوم بِهِ بِاخْتِيَارِهِ قضى الْعقل الصَّرِيح بِأَن هَذِه الذَّات أكمل وَحِينَئِذٍ فَأنْتم الَّذين وصفتم الرب بِصفة النَّقْص؛ والكمال فِي اتصافه بِهَذِهِ الصِّفَات؛ لَا فِي نفي اتصافه بهَا. السَّادِس: (السَّادِس) : أَن يُقَال: الْحَوَادِث الَّتِي يمْتَنع كَون كل مِنْهَا أزليا وَلَا يُمكن وجودهَا إِلَّا شَيْئا فَشَيْئًا إِذا قيل: أَيّمَا أكمل أَن يقدر على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فعلهَا شَيْئا فَشَيْئًا أَو لَا يقدر على ذَلِك؟ كَانَ مَعْلُوما - بِصَرِيح الْعقل - أَن الْقَادِر على فعلهَا شَيْئا فَشَيْئًا أكمل مِمَّن لَا يقدر على ذَلِك. وَأَنْتُم تَقولُونَ: إِن الرب لَا يقدر على شَيْء من هَذِه الْأُمُور؛ وتقولون إِنَّه يقدر على أُمُور مباينة لَهُ. وَمَعْلُوم أَن قدرَة الْقَادِر على فعله الْمُتَّصِل بِهِ قبل قدرته على أُمُور مباينة لَهُ؛ فَإِذا قُلْتُمْ لَا يقدر على فعل مُتَّصِل بِهِ لزم أَن لَا يقدر على الْمُنْفَصِل؛ فَلَزِمَ على قَوْلكُم أَن لَا يقدر على شَيْء وَلَا أَن يفعل شَيْئا فَلَزِمَ أَن لَا يكون خَالِقًا لشَيْء؛ وَهَذَا لَازم للنفاة لَا محيد لَهُم عَنهُ. وَلِهَذَا قيل: الطَّرِيق الَّتِي سلكوها فِي حُدُوث الْعَالم وَإِثْبَات الصَّانِع: تنَاقض حُدُوث الْعَالم وَإِثْبَات الصَّانِع وَلَا يَصح القَوْل بحدوث الْعَالم وَإِثْبَات الصَّانِع إِلَّا بإبطالها؛ لَا بإثباتها. فَكَأَن مَا اعتمدوا عَلَيْهِ وجعلوه أصولا للدّين ودليلا عَلَيْهِ هُوَ فِي نَفسه بَاطِل شرعا وعقلا وَهُوَ مُنَاقض للدّين ومناف لَهُ، كَمَا أَنه مُنَاقض لِلْعَقْلِ ومناف لَهُ. وَلِهَذَا كَانَ " السّلف وَالْأَئِمَّة " يعيبون كَلَامهم هَذَا ويذمونه وَيَقُولُونَ: من طلب الْعلم بالْكلَام تزندق؛ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُف. ويروى عَن مَالك. وَيَقُول الشَّافِعِي: حكمي فِي أهل الْكَلَام أَن يضْربُوا بِالْجَرِيدِ وَالنعال وَيُطَاف بهم فِي العشائر وَيُقَال: هَذَا جَزَاء من ترك الْكتاب وَالسّنة وَأَقْبل على الْكَلَام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وَقَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل: عُلَمَاء الْكَلَام زنادقة وَمَا ارتدى أحد بالْكلَام فأفلح. وَقد صدق الْأَئِمَّة فِي ذَلِك فَإِنَّهُم يبنون أَمرهم على " كَلَام مُجمل " يروج على من لم يعرف حَقِيقَته فَإِذا اعْتقد أَنه حق تبين أَنه مُنَاقض للْكتاب وَالسّنة فَيبقى فِي قلبه مرض ونفاق وريب وَشك؛ بل طعن فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول. وَهَذِه هِيَ الزندقة. وَهُوَ " كَلَام بَاطِل من جِهَة الْعقل " كَمَا قَالَ بعض السّلف: الْعلم بالْكلَام هُوَ الْجَهْل فهم يظنون أَن مَعَهم عقليات وَإِنَّمَا مَعَهم جهليات: {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عِنْده فوفاه حسابه وَالله سريع الْحساب} . هَذَا هُوَ الْجَهْل الْمركب؛ لأَنهم كَانُوا فِي شكّ وحيرة فهم فِي ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض إِذا أخرج يَده لم يكد يَرَاهَا وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور. أَيْن هَؤُلَاءِ من نور الْقُرْآن وَالْإِيمَان؟ قَالَ الله تَعَالَى: {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض مثل نوره كمشكاة فِيهَا مِصْبَاح الْمِصْبَاح فِي زجاجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري يُوقد من شَجَرَة مباركة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار نور على نور يهدي الله لنوره من يَشَاء وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس وَالله بِكُل شَيْء عليم} . فَإِن قيل: أما كَون الْكَلَام وَالْفِعْل يدْخل فِي " الصِّفَات الاختيارية " فَظَاهر. فَإِنَّهُ يكون بِمَشِيئَة الرب وَقدرته وَأما " الْإِرَادَة " و " الْمحبَّة " و " الرِّضَا " و " الْغَضَب " فَفِيهِ نظر فَإِن نفس " الْإِرَادَة " هِيَ الْمَشِيئَة وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذا خلق من يُحِبهُ كالخليل فَإِنَّهُ يُحِبهُ وَيُحب الْمُؤمنِينَ وَيُحِبُّونَهُ. وَكَذَلِكَ إِذا عمل النَّاس أعمالا يَرَاهَا وَهَذَا لَازم لَا بُد من ذَلِك، فَكيف يدْخل فِي الِاخْتِيَار؟ قيل: كل مَا كَانَ بعد عَدمه فَإِنَّمَا يكون بِمَشِيئَة الله وَقدرته وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن؛ فَمَا شاءه وَجب كَونه وَهُوَ يجب بِمَشِيئَة الرب وَقدرته وَمَا لم يشأه امْتنع كَونه مَعَ قدرته عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها} {وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ} {وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 فكون الشَّيْء وَاجِب الْوُقُوع لكَونه قد سبق بِهِ الْقَضَاء، وَعلم أَنه لَا بُد من كَونه لَا يمْتَنع أَن يكون وَاقعا بمشيئته وَقدرته وإرادته وَإِن كَانَت من لَوَازِم ذَاته كحياته وَعلمه. فَإِن " إِرَادَته للمستقبلات " هِيَ مسبوقة " بإرادته للماضي " {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} وَهُوَ إِنَّمَا أَرَادَ " هَذَا الثَّانِي " بعد أَن أَرَادَ قبله مَا يَقْتَضِي إِرَادَته؛ فَكَانَ حُصُول الْإِرَادَة اللاحقة بالإرادة السَّابِقَة. وَالنَّاس قد اضْطَرَبُوا فِي " مَسْأَلَة إِرَادَة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى " على أَقْوَال مُتعَدِّدَة. وَمِنْهُم من نفاها وَرجح الرَّازِيّ هَذَا فِي " مطالبه الْعَالِيَة " لَكِن - وَللَّه الْحَمد - نَحن قد قررناها وبيّنّاها وبيّنّا فَسَاد الشّبَه الْمَانِعَة مِنْهَا؛ وَأَن مَا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة هُوَ الْحق الْمَحْض الَّذِي تدل عَلَيْهِ المعقولات الصَّرِيحَة وَأَن " صَرِيح الْمَعْقُول مُوَافق لصحيح الْمَنْقُول ". وَكُنَّا قد بيّنّا " أَولا " أَنه يمْتَنع تعَارض الْأَدِلَّة القطعية فَلَا يجوز أَن يتعارض دليلان قطعيان سَوَاء كَانَا عقليين أَو سمعيين أَو كَانَ أَحدهمَا عقليا وَالْآخر سمعيا؛ ثمَّ بَينا بعد ذَلِك: أَنَّهَا متوافقة متناصرة متعاضدة. فالعقل يدل على صِحَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 السّمع والسمع يبين صِحَة الْعقل وَأَن من سلك أَحدهمَا أفْضى بِهِ إِلَى الآخر. وَأَن الَّذين يسْتَحقُّونَ الْعَذَاب هم الَّذين لَا يسمعُونَ وَلَا يعْقلُونَ. كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} . وَقَالَ تَعَالَى: {كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير} {قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال كَبِير} {وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} . وَقَالَ تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا أَو آذان يسمعُونَ بهَا فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} . وَقَالَ تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد} . فقد بَين الْقُرْآن أَن من كَانَ يعقل أَو كَانَ يسمع: فَإِنَّهُ يكون ناجيا وسعيدا وَيكون مُؤمنا بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَقد بسطت هَذِه الْأُمُور فِي غير مَوضِع وَالله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 فصل فَسَاد حجج النفاة لحلول الْحَوَادِث: وفحول النظار " كَأبي عبد الله الرَّازِيّ وَأبي الْحسن الْآمِدِيّ " وَغَيرهمَا ذكرُوا حجج النفاة " لحلول الْحَوَادِث " وبينوا فَسَادهَا كلهَا. فَذكرُوا لَهُم أَربع حجج: الْحجَّة الأولى: فَسَاد هَذِه الْحجَّة: (إِحْدَاهَا) : " الْحجَّة الْمَشْهُورَة " وَهِي أَنَّهَا لَو قَامَت بِهِ لم يخل مِنْهَا وَمن أضدادها وَمَا لم يخل من الْحَوَادِث فَهُوَ حَادث. وَمنعُوا الْمُقدمَة الأولى؛ والمقدمة الثَّانِيَة؛ ذكر الرَّازِيّ وَغَيره فَسَادهَا وَقد بسط فِي غير هَذَا الْموضع. الْحجَّة الثَّانِيَة: و (الثَّانِيَة) : أَنه لَو كَانَ قَابلا لَهَا فِي الْأَزَل لَكَانَ الْقبُول من لَوَازِم ذَاته فَكَانَ الْقبُول يَسْتَدْعِي إِمْكَان المقبول وَوُجُود الْحَوَادِث فِي الْأَزَل محَال وَهَذِه أبطلوها هم بالمعارضة بِالْقُدْرَةِ: بِأَنَّهُ قَادر على إِحْدَاث الْحَوَادِث وَالْقُدْرَة تستدعي إِمْكَان الْمَقْدُور و " وجود الْمَقْدُور " وَهُوَ الْحَوَادِث فِي الْأَزَل محَال. بطلَان هَذِه الْحجَّة من وُجُوه: و" هَذِه الْحجَّة " بَاطِلَة من وُجُوه: الْوَجْه الأول: (أَحدهَا) أَن يُقَال " وجود الْحَوَادِث دَائِما " إِمَّا أَن يكون مُمكنا وَإِمَّا أَن يكون مُمْتَنعا؛ فَإِن كَانَ مُمكنا أمكن قبُولهَا وَالْقُدْرَة عَلَيْهَا دَائِما وَحِينَئِذٍ فَلَا يكون وجود جِنْسهَا فِي الْأَزَل مُمْتَنعا؛ بل يُمكن أَن يكون جِنْسهَا مَقْدُورًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 مَقْبُولًا؛ وَإِن كَانَ مُمْتَنعا فقد امْتنع وجود حوادث لَا تتناهى؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا تكون فِي الْأَزَل مُمكنَة؛ لَا مقدورة وَلَا مَقْبُولَة؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يلْزم من امتناعها فِي الْأَزَل امتناعها بعد ذَلِك. فَإِن الْحَوَادِث مَوْجُودَة؛ فَلَا يجوز أَن يُقَال بدوام امتناعها؛ وَهَذَا تَقْسِيم حاصر يبين فَسَاد " هَذِه الْحجَّة ". الْوَجْه الثَّانِي: (الْوَجْه الثَّانِي) : أَن يُقَال: لَا ريب أَن الرب تَعَالَى قَادر؛ فإمَّا أَن يُقَال إِنَّه لم يزل قَادِرًا، وَإِمَّا أَن يُقَال بل صَار قَادِرًا بعد أَن لم يكن. فَإِن قيل: لم يزل قَادِرًا - وَهُوَ الصَّوَاب - فَيُقَال: إِذا كَانَ لم يزل قَادِرًا فَإِن كَانَ الْمَقْدُور لم يزل مُمكنا أمكن دوَام وجود الممكنات فَأمكن دوَام وجود الْحَوَادِث؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يمْتَنع كَونه قَابلا لَهَا فِي الْأَزَل. وَإِن قيل: بل كَانَ الْفِعْل مُمْتَنعا ثمَّ صَار مُمكنا. قيل: هَذَا جمع بَين النقيضين، فَإِن الْقَادِر لَا يكون قَادِرًا على مُمْتَنع، فَكيف يكون قَادِرًا مَعَ كَون الْمَقْدُور مُمْتَنعا؟ ثمَّ يُقَال: بِتَقْدِير إِمْكَان هَذَا كَمَا قيل: هُوَ قَادر فِي الْأَزَل على مَا يُمكن فِيمَا لَا يزَال، قيل: وَكَذَلِكَ فِي الْقبُول، يُقَال: هُوَ قَابل فِي الْأَزَل لما يُمكن فِيمَا لَا يزَال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 الْوَجْه الثَّالِث: (الْوَجْه الثَّالِث) : أَنه سُبْحَانَهُ إِذا قيل - هُوَ قَابل لما فِي الْأَزَل فَإِنَّمَا هُوَ قَابل لما هُوَ قَادر عَلَيْهِ يُمكن وجوده فَإِن مَا يكون مُمْتَنعا لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة فَهَذَا لَيْسَ بقابل لَهُ. الْوَجْه الرَّابِع: (الرَّابِع) : أَن يُقَال - هُوَ قَادر على حُدُوث مَا هُوَ مباين لَهُ من الْمَخْلُوقَات وَمَعْلُوم أَن قدرَة الْقَادِر على فعله الْقَائِم بِهِ أولى من قدرته على المباين لَهُ؛ وَإِذا كَانَ الْفِعْل لَا مَانع مِنْهُ إِلَّا مَا يمْتَنع مثله لوُجُود الْمَقْدُور المباين ثمَّ ثَبت أَن الْمَقْدُور المباين هُوَ مُمكن وَهُوَ قَادر عَلَيْهِ فالفعل أَن يكون مُمكنا مَقْدُورًا أولى. الْحجَّة الثَّالِثَة: إِثْبَات بطلَان هَذِه الْحجَّة: (الْحجَّة الثَّالِثَة) لَهُم: أَنهم قَالُوا: لَو قَامَت بِهِ الْحَوَادِث للَزِمَ " تغيره " والتغير على الله محَال وأبطلوا هم " هَذِه الْحجَّة " الرَّازِيّ وَغَيره؛ بِأَن قَالُوا: مَا تُرِيدُونَ بقولكم: لَو قَامَت بِهِ للَزِمَ تغيره، أتريدون بالتغير نفس قِيَامهَا بِهِ أم شَيْئا آخر؟ فَإِن أردتم الأول كَانَ الْمُقدم هُوَ الثَّانِي والملزوم هُوَ اللَّازِم وَهَذَا لَا فَائِدَة فِيهِ فَإِنَّهُ يكون تَقْدِير الْكَلَام لَو قَامَت بِهِ الْحَوَادِث لقامت بِهِ الْحَوَادِث وَهَذَا كَلَام لَا يُفِيد. وَإِن أردتم بالتغير معنى غير ذَلِك فَهُوَ مَمْنُوع فَلَا نسلم أَنَّهَا لَو قَامَت بِهِ لزم " تغير " غير حُلُول الْحَوَادِث فَهَذَا جوابهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 الْمَعْنى الصَّحِيح للتغير: وإيضاح ذَلِك: أَن لفظ " التَّغَيُّر " لفظ مُجمل فالتغير فِي اللُّغَة الْمَعْرُوفَة لَا يُرَاد بِهِ مُجَرّد كَون الْمحل قَامَت بِهِ الْحَوَادِث فَإِن النَّاس لَا يَقُولُونَ للشمس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب إِذا تحركت: إِنَّهَا قد تَغَيَّرت وَلَا يَقُولُونَ للْإنْسَان إِذا تكلم وَمَشى إِنَّه تغير وَلَا يَقُولُونَ إِذا طَاف وَصلى وَأمر وَنهى وَركب إِنَّه تغير إِذا كَانَ ذَلِك عَادَته بل إِنَّمَا يَقُولُونَ تغير لمن اسْتَحَالَ من صفة إِلَى صفة كَالشَّمْسِ مَا زَالَ نورها ظَاهرا لَا يُقَال إِنَّهَا تَغَيَّرت فَإِذا اصْفَرَّتْ قيل قد تَغَيَّرت. وَكَذَلِكَ الْإِنْسَان إِذا مرض أَو تغير جِسْمه بجوع أَو تَعب قيل قد تغير وَكَذَلِكَ إِذا تغير خلقه وَدينه مثل أَن يكون فَاجِرًا فيتوب وَيصير برا أَو يكون برا فينقلب فَاجِرًا فَإِنَّهُ يُقَال قد تغير. وَمِنْه الحَدِيث: " رَأَيْت وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متغيرا "، وَهُوَ لما رأى بِهِ أثر الْجُوع، وَلم يزل يرَاهُ يرْكَع وَيسْجد، فَلم يسم حركته تغيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وَكَذَلِكَ يُقَال: فلَان قد تغير على فلَان إِذا صَار يبغضه بعد الْمحبَّة فَأَما إِذا كَانَ ثَابتا على مودته لم يسم هشته إِلَيْهِ وخطابه لَهُ تغيرا. وَإِذا جرى على عَادَته فِي أَقْوَاله وأفعاله فَلَا يُقَال إِنَّه قد تغير. قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} . وَمَعْلُوم أَنهم إِذا كَانُوا على عَادَتهم الْمَوْجُودَة يَقُولُونَ ويفعلون مَا هُوَ خير لم يَكُونُوا قد غيروا مَا بِأَنْفسِهِم فَإِذا انتقلوا عَن ذَلِك فاستبدلوا بِقصد الْخَيْر قصد الشَّرّ وباعتقادهم الْحق اعْتِقَاد الْبَاطِل قيل: قد غيروا مَا بِأَنْفسِهِم مثل من كَانَ يحب الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة فَتغير قلبه وَصَارَ لَا يحب الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة فَهَذَا قد غير مَا فِي نَفسه. وَإِذا كَانَ هَذَا " معنى التَّغَيُّر " فالرب تَعَالَى لم يزل وَلَا يزَال مَوْصُوفا بِصِفَات الْكَمَال منعوتا بنعوت الْجلَال وَالْإِكْرَام وكماله من لَوَازِم ذَاته فَيمْتَنع أَن يَزُول عَنهُ شَيْء من صِفَات كَمَاله وَيمْتَنع أَن يصير نَاقِصا بعد كَمَاله. و" هَذَا الأَصْل " عَلَيْهِ يدل قَول السّلف وَأهل السّنة: أَنه لم يزل متكلما إِذا شَاءَ وَلم يزل قَادِرًا وَلم يزل مَوْصُوفا بِصِفَات الْكَمَال وَلَا يزَال كَذَلِك فَلَا يكون متغيرا. وَهَذَا معنى قَول من يَقُول: يَا من يُغير وَلَا يتَغَيَّر، فَإِنَّهُ يحِيل صِفَات الْمَخْلُوقَات ويسلبها مَا كَانَت متصفة بِهِ إِذا شَاءَ، ويعطيها من صِفَات الْكَمَال مَا لم يكن لَهَا، وكماله من لَوَازِم ذَاته؛ لم يزل وَلَا يزَال مَوْصُوفا بِصِفَات الْكَمَال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 قَالَ تَعَالَى {كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} وَقَالَ تَعَالَى: {كل من عَلَيْهَا فان} {وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} . وَلَكِن " هَؤُلَاءِ النفاة " هم الَّذين يلْزمهُم أَن يكون قد تغير؛ فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: كَانَ فِي الْأَزَل لَا يُمكنهُ أَن يَقُول شَيْئا؛ وَلَا يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته؛ وَكَانَ ذَلِك مُمْتَنعا عَلَيْهِ لَا يتَمَكَّن مِنْهُ ثمَّ صَار الْفِعْل مُمكنا يُمكنهُ أَن يفعل. وَلَهُم فِي " الْكَلَام " قَولَانِ. فَمن أثبت الْكَلَام الْمَعْرُوف وَقَالَ: إِنَّه يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته قَالَ أَيْضا: إِنَّه صَار الْكَلَام مُمكنا لَهُ بعد أَن كَانَ مُمْتَنعا عَلَيْهِ. وَمن لم يصفه بالْكلَام الْمَعْرُوف؛ بل قَالَ: إِنَّه يتَكَلَّم بِلَا مَشِيئَته وَقدرته كَمَا تَقوله الْكلابِيَّة فَهَؤُلَاءِ أثبتوا كلَاما لَا يعقل وَلم يسبقهم إِلَيْهِ أحد من الْمُسلمين. بل كَانَ الْمُسلمُونَ قبلهم على " قَوْلَيْنِ ": فالسلف وَأهل السّنة يَقُولُونَ: إِنَّه يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته وَكَلَامه غير مَخْلُوق. و " الْجَهْمِية " يَقُولُونَ: إِنَّه مَخْلُوق بقدرته ومشيئته فَقَالَ هَؤُلَاءِ بل يتَكَلَّم بِلَا مَشِيئَته وَقدرته وَكَلَامه شَيْء وَاحِد لَازم لذاته وَهُوَ حُرُوف أَو حُرُوف وأصوات: أزلية لَازِمَة لذاته كَمَا قد بسط فِي غير هَذَا الْموضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 و (الْمَقْصُود) أَن هَؤُلَاءِ كلهم الَّذين يمْنَعُونَ أَن يكون الرب لم يزل يُمكنهُ أَن يفعل مَا يَشَاء وَيَقُولُونَ ذَلِك يسْتَلْزم وجود حوادث لَا تتناهى وَذَلِكَ محَال فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ صَار الْفِعْل مُمكنا لَهُ بعد أَن كَانَ مُمْتَنعا عَلَيْهِ. وَحَقِيقَة قَوْلهم إِنَّه صَار قَادِرًا بعد أَن لم يكن قَادِرًا وَهَذَا حَقِيقَة التَّغَيُّر مَعَ أَنه لم يحدث سَبَب يُوجب كَونه قَادِرًا. وَإِذا قَالُوا: هُوَ فِي الْأَزَل قَادر على مَا لَا يزَال. قيل: هَذَا جمع بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات فَهُوَ فِي الْأَزَل كَانَ قَادِرًا. فَكَانَ القَوْل مُمكنا لَهُ أَو مُمْتَنعا عَلَيْهِ؟ إِن قُلْتُمْ: مُمكن لَهُ فقد جوزتم دوَام كَونه فَاعِلا وَأَنه قَادر على حوادث لَا نِهَايَة لَهَا. وَإِن قُلْتُمْ: بل كَانَ مُمْتَنعا. قيل: الْقُدْرَة على الْمُمْتَنع ممتنعة، فَمَعَ كَون الْفِعْل مُمْتَنعا غير مُمكن - لَا يكون مَقْدُورًا للقادر إِنَّمَا الْمَقْدُور هُوَ الْمُمكن لَا الْمُمْتَنع. فَإِذا قُلْتُمْ: أمكنه بعد ذَلِك. فقد قُلْتُمْ: إِنَّه أمكنه أَن يفعل بعد أَن كَانَ لَا يُمكنهُ أَن يفعل وَهَذَا صَرِيح فِي أَنه صَار قَادِرًا بعد أَن لم يكن وَهُوَ صَرِيح فِي التَّغَيُّر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 فَهَؤُلَاءِ النفاة الَّذين قَالُوا: إِن المثبتة يلْزمهُم القَوْل بِأَنَّهُ " تغير " قد بَان بطلَان قَوْلهم وَأَنَّهُمْ هم الَّذين قَالُوا بِمَا يُوجب تغيره. وَإِذا قَالَ المنازع: أَنا أُرِيد بِكَوْنِهِ تغير: أَنه يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، وَأَنه يحب من أطاعه، ويفرح بتوبة التائب، وَيَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة. قيل: فَهَب أَنَّك سميت هَذَا تغيرا، فَلم قلت: إِن هَذَا مُمْتَنع؟ فَهَذَا مَحل النزاع، كَمَا قَالَ الرَّازِيّ: فالمقدم هُوَ التَّالِي. وَقد ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة أَن الله يُوصف " بالغيرة "، وَهِي مُشْتَقَّة من " التَّغَيُّر ". فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح: " لَا أحد أغير من الله أَن يَزْنِي عَبده أَو تَزني أمته ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وَقَالَ أَيْضا " {لَا أحد أحب إِلَيْهِ الْمَدْح من الله من أجل ذَلِك مدح نَفسه وَلَا أحد أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله من أجل ذَلِك بعث الرُّسُل وَأنزل الْكتب وَلَا أحد أغير من الله من أجل ذَلِك حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن} ". وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح أَيْضا لما قَالَ سعد بن عبَادَة: لَو رَأَيْت لَكاع - يَعْنِي امْرَأَة سعد - قد تفخّذها رجل لضربته بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: " {أتعجبون من غيرَة سعد لأَنا أغير مِنْهُ وَالله أغير مني} ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الْحجَّة الرَّابِعَة: (الْحجَّة الرَّابِعَة) : قَالُوا: حُلُول الْحَوَادِث بِهِ أفول؛ والخليل قد قَالَ: {لَا أحب الآفلين} و " الآفل " هُوَ المتحرك الَّذِي تقوم لَهُ الْحَوَادِث فَيكون " الْخَلِيل " قد نفى الْمحبَّة عَمَّن تقوم بِهِ الْحَوَادِث فَلَا يكون إِلَهًا. الرَّد عَلَيْهَا: و (الْجَواب) : أَن قصَّة الْخَلِيل حجَّة عَلَيْهِم لَا لَهُم؛ وهم المخالفون لإِبْرَاهِيم ولنبينا ولغيرهما من الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى قَالَ: {فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل رأى كوكبا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين} {فَلَمَّا رأى الْقَمَر بازغا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أفل قَالَ لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين} {فَلَمَّا رأى الشَّمْس بازغة قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر فَلَمَّا أفلت قَالَ يَا قوم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون} {إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين} . فقد أخبر الله فِي كِتَابه: أَنه من حِين بزغ الْكَوْكَب وَالْقَمَر وَالشَّمْس وَإِلَى حِين أفولها لم يقل الْخَلِيل: لَا أحب البازغين وَلَا المتحركين وَلَا المتحولين وَلَا أحب من تقوم بِهِ الحركات وَلَا الْحَوَادِث وَلَا قَالَ شَيْئا مِمَّا يَقُوله النفاة حَتَّى أفل الْكَوْكَب وَالشَّمْس وَالْقَمَر. و" الأفول " بِاتِّفَاق أهل اللُّغَة وَالتَّفْسِير: هُوَ المغيب والاحتجاب؛ بل هَذَا مَعْلُوم بالاضطرار من لُغَة الْعَرَب الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن وَهُوَ المُرَاد بِاتِّفَاق الْعلمَاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 فَلم يقل إِبْرَاهِيم: {لَا أحب الآفلين} ، حَتَّى أفل وَغَابَ عَن الْأَبْصَار، فَلم يبْق مرئيا وَلَا مشهودا، فَحِينَئِذٍ قَالَ: {لَا أحب الآفلين} . وَهَذَا يَقْتَضِي أَن كَونه متحركا منتقلا تقوم بِهِ الْحَوَادِث؛ بل كَونه جسما متحيزا تقوم بِهِ الْحَوَادِث لم يكن دَلِيلا عِنْد إِبْرَاهِيم على نفي محبته. فَإِن كَانَ إِبْرَاهِيم إِنَّمَا اسْتدلَّ " بالأفول " على أَنه لَيْسَ رب الْعَالمين - كَمَا زَعَمُوا -: لزم من ذَلِك أَن يكون مَا تقدم الأفول - من كَونه متحركا منتقلا - تحله الْحَوَادِث؛ بل وَمن كَونه جسما متحيزا: لم يكن دَلِيلا عِنْد إِبْرَاهِيم على أَنه لَيْسَ بِرَبّ الْعَالمين وَحِينَئِذٍ فَيلْزم أَن تكون قصَّة إِبْرَاهِيم حجَّة على نقيض مطلوبهم؛ لَا على نفس مطلوبهم. وَهَكَذَا نجد أهل الْبدع لَا يكادون يحتجون " بِحجَّة " سمعية وَلَا عقلية إِلَّا وَهِي عِنْد التَّأَمُّل حجَّة عَلَيْهِم؛ لَا لَهُم. وَلَكِن " إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام " لم يقْصد بقوله {هَذَا رَبِّي} إِنَّه رب الْعَالمين وَلَا كَانَ أحد من قومه يَقُول: إِنَّه رب الْعَالمين، حَتَّى يرد ذَلِك عَلَيْهِم؛ بل كَانُوا مُشْرِكين مقرين بالصانع؛ وَكَانُوا يتخذون الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر أَرْبَابًا يدعونها من دون الله ويبنون لَهَا الهياكل وَقد صنفت فِي مثل مَذْهَبهم كتب، مثل كتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 " السِّرّ المكتوم فِي السحر ومخاطبة النُّجُوم " وَغَيره من الْكتب. وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيل: {أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ} {أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون} {فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} . وَقَالَ تَعَالَى: {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده} . وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيل فِي تَمام الْكَلَام: {إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون} {إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين} . فَقَوله: {إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين} يبين أَنه إِنَّمَا يعبد الله وَحده، فَلهُ يُوَجه وَجهه، فَإِنَّهُ إِذا توجه قَصده إِلَيْهِ تبع قَصده وَجهه، فَالْوَجْه موجه حَيْثُ توجه الْقلب، فَصَارَ قلبه وقصده وَوَجهه مُتَوَجها إِلَى الله تَعَالَى. وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا أَنا من الْمُشْركين} لم يذكر أَنه أقرّ بِوُجُود الصَّانِع فَإِن هَذَا كَانَ مَعْلُوما عِنْد قومه لم يَكُونُوا ينازعونه فِي وجود فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وَإِنَّمَا كَانَ النزاع فِي عبَادَة غير الله واتخاذه رَبًّا؛ فَكَانُوا يعْبدُونَ الْكَوَاكِب السماوية ويتخذون لَهَا أصناما أرضية. وَهَذَا " النَّوْع الثَّانِي من الشّرك " فَإِن الشّرك فِي قوم نوح كَانَ أَصله من عبَادَة الصَّالِحين - أهل الْقُبُور - ثمَّ صوروا تماثيلهم فَكَانَ شركهم بِأَهْل الأَرْض؛ إِذْ كَانَ الشَّيْطَان إِنَّمَا يضل النَّاس بِحَسب الْإِمْكَان فَكَانَ تزيينه " أَولا " الشّرك بالصالحين أيسر عَلَيْهِ. ثمَّ قوم إِبْرَاهِيم انتقلوا إِلَى الشّرك بالسماويات فالكواكب، وضعُوا لَهَا " الْأَصْنَام " بِحَسب مَا رَأَوْهُ من طبائعها يصنعون لكل كَوْكَب بَيْتا وَطَعَامًا وخاتما وبخورا وأقوالا تناسبه. وَهَذَا كَانَ قد اشْتهر على عهد إِبْرَاهِيم إِمَام الحنفاء؛ وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيل: {مَاذَا تَعْبدُونَ} {أئفكا آلِهَة دون الله تُرِيدُونَ} {فَمَا ظنكم بِرَبّ الْعَالمين} وَقَالَ لَهُم: {أتعبدون مَا تنحتون} {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} . وقصة إِبْرَاهِيم قد ذكرت فِي غير مَوضِع من الْقُرْآن مَعَ قومه: إِنَّمَا فِيهَا نهيهم عَن الشّرك؛ خلاف قصَّة مُوسَى مَعَ فِرْعَوْن فَإِنَّهَا ظَاهِرَة فِي أَن فِرْعَوْن كَانَ مظْهرا الْإِنْكَار للخالق وجحوده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وَقد ذكر الله عَن إِبْرَاهِيم أَنه حَاج الَّذِي حاجه فِي ربه فِي قَوْله: {ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه أَن آتَاهُ الله الْملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت قَالَ أَنا أحيي وأميت قَالَ إِبْرَاهِيم فَإِن الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب} فَهَذَا قد يُقَال: إِنَّه كَانَ جاحدا للصانع وَمَعَ هَذَا فالقصة لَيست صَرِيحَة فِي ذَلِك؛ بل يَدْعُو الْإِنْسَان إِلَى عبَادَة نَفسه وَإِن كَانَ لَا يُصَرح بإنكار الْخَالِق مثل إِنْكَار فِرْعَوْن. وَبِكُل حَال " فقصة إِبْرَاهِيم " إِلَى أَن تكون حجَّة عَلَيْهِم أقرب مِنْهَا إِلَى أَن تكون حجَّة لَهُم وَهَذَا بَين - وَللَّه الْحَمد - بل مَا ذكره الله عَن إِبْرَاهِيم يدل على أَنه كَانَ يثبت مَا ينفونه عَن الله؛ فَإِن إِبْرَاهِيم قَالَ: {إِن رَبِّي لسميع الدُّعَاء} وَالْمرَاد بِهِ: أَنه يستجيب الدُّعَاء كَمَا يَقُول الْمُصَلِّي سمع الله لمن حَمده وَإِنَّمَا يسمع الدُّعَاء ويستجيبه بعد وجوده؛ لَا قبل وجوده. كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا وتشتكي إِلَى الله وَالله يسمع تحاوركما} . فَهِيَ تجَادل وتشتكي حَال سمع الله تحاورهما؛ وَهَذَا يدل على أَن سَمعه كرؤيته الْمَذْكُورَة فِي قَوْله: {وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون} وَقَالَ: {ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من بعدهمْ لنَنْظُر كَيفَ تَعْمَلُونَ} فَهَذِهِ رُؤْيَة مُسْتَقلَّة وَنظر مُسْتَقل وَقد تقدم أَن الْمَعْدُوم لَا يرى وَلَا يسمع مُنْفَصِلا عَن الرَّائِي السَّامع بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء فَإِذا وجدت الْأَقْوَال والأعمال سَمعهَا وَرَآهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 و " الرُّؤْيَة " و " السّمع " أَمر وجودي لَا بُد لَهُ من مَوْصُوف يَتَّصِف بِهِ فَإِذا كَانَ هُوَ الَّذِي رَآهَا وسمعها امْتنع أَن يكون غَيره هُوَ المتصف بِهَذَا السّمع وَهَذِه الرُّؤْيَة. وَأَن تكون قَائِمَة بِغَيْرِهِ فَتعين قيام هَذَا السّمع وَهَذِه الرُّؤْيَة بِهِ بعد أَن خلقت الْأَعْمَال والأقوال وَهَذَا قَطْعِيّ لَا حِيلَة فِيهِ. وَقد بسط الْكَلَام على " هَذِه الْمَسْأَلَة " وَمَا قَالَه فِيهَا عَامَّة الطوائف فِي غير هَذَا الْموضع وحكيت أَلْفَاظ النَّاس وحججهم بِحَيْثُ يتَيَقَّن الْإِنْسَان أَن النَّافِي لَيْسَ مَعَه حجَّة لَا سمعية وَلَا عقلية؛ وَأَن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة الصَّرِيحَة مُوَافقَة لمَذْهَب السّلف وَأهل الحَدِيث؛ وعَلى ذَلِك يدل الْكتاب وَالسّنة مَعَ " الْكتب الْمُتَقَدّمَة ": التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور فقد اتّفق عَلَيْهَا نُصُوص الْأَنْبِيَاء وأقوال السّلف وأئمة الْعلمَاء ودلت عَلَيْهَا صرائح المعقولات. فالمخالف فِيهَا كالمخالف فِي أَمْثَالهَا مِمَّن لَيْسَ مَعَه حجَّة لَا سمعية وَلَا عقلية بل هُوَ شَبيه بالذين قَالُوا: {لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} . قَالَ الله تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا أَو آذان يسمعُونَ بهَا فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وَلَكِن " هَذِه الْمَسْأَلَة " و " مَسْأَلَة الزِّيَارَة " وَغَيرهمَا حدث من الْمُتَأَخِّرين فِيهَا شبه. وَأَنا وغيري كُنَّا على " مَذْهَب الْآبَاء " فِي ذَلِك نقُول فِي " الْأَصْلَيْنِ " بقول أهل الْبدع؛ فَلَمَّا تبين لنا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول دَار الْأَمر بَين أَن نتبع مَا أنزل الله أَو نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فَكَانَ الْوَاجِب هُوَ اتِّبَاع الرَّسُول؛ وَأَن لَا نَكُون مِمَّن قيل فِيهِ: {وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} . وَقد قَالَ تَعَالَى: {قَالَ أولو جِئتُكُمْ بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حسنا وَإِن جَاهَدَاك لتشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم فَلَا تطعهما إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} . فَالْوَاجِب اتِّبَاع الْكتاب الْمنزل وَالنَّبِيّ الْمُرْسل وسبيل من أناب إِلَى الله فاتبعنا الْكتاب وَالسّنة كالمهاجرين وَالْأَنْصَار؛ دون مَا خَالف ذَلِك من دين الْآبَاء وَغير الْآبَاء وَالله يهدينا وَسَائِر إِخْوَاننَا إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَالله سُبْحَانَهُ أنزل الْقُرْآن وَهدى بِهِ الْخلق وأخرجهم بِهِ من الظُّلُمَات إِلَى النُّور؛ وَأم الْقُرْآن هِيَ فَاتِحَة الْكتاب. قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح {يَقُول الله قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ فنصفها لي وَنِصْفهَا لعبدي ولعبدي مَا سَأَلَ فَإِذا قَالَ العَبْد: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} قَالَ الله: حمدني عَبدِي فَإِذا قَالَ: {الرَّحْمَن الرَّحِيم} قَالَ الله: أثنى عَليّ عَبدِي فَإِذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 قَالَ: {مَالك يَوْم الدَّين} قَالَ الله: مجدني عَبدِي - وَقَالَ مرّة: فوض إِلَيّ عَبدِي - فَإِذا قَالَ: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} قَالَ الله: هَذِه بيني وَبَين عَبدِي ولعبدي مَا سَأَلَ فَإِذا قَالَ: {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} {صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} قَالَ: هَؤُلَاءِ لعبدي ولعبدي مَا سَأَلَ} ". فَهَذِهِ " السُّورَة " فِيهَا لله الْحَمد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وفيهَا للْعَبد السُّؤَال، وفيهَا لله الْعِبَادَة لَهُ وَحده، وَلِلْعَبْدِ الِاسْتِعَانَة، فَحق الرب حَمده وعبادته وَحده، وَهَذَانِ " حمد الرب وتوحيده " يَدُور عَلَيْهِمَا جَمِيع الدَّين. و" مَسْأَلَة الصِّفَات الاختيارية " هِيَ من تَمام حَمده فَمن لم يقر بهَا لم يُمكنهُ الْإِقْرَار بِأَن الله مَحْمُود أَلْبَتَّة وَلَا أَنه رب الْعَالمين فَإِن الْحَمد ضد الذَّم وَالْحَمْد هُوَ الْإِخْبَار بمحاسن الْمَحْمُود مَعَ الْمحبَّة لَهُ والذم هُوَ الْإِخْبَار بمساوئ المذموم مَعَ البغض لَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وجماع المساوئ فعل الشَّرّ كَمَا أَن جماع المحاسن فعل الْخَيْر. فَإِذا كَانَ يفعل الْخَيْر - بمشيئته وَقدرته اسْتحق " الْحَمد ". فَمن لم يكن لَهُ فعل اخْتِيَاري يقوم بِهِ؛ بل وَلَا يقدر على ذَلِك لَا يكون خَالِقًا وَلَا رَبًّا للْعَالمين. وَالله تَعَالَى يحمد نَفسه بأفعاله، لقَوْله: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} ، وَقَوله: {الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} ، {الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب} - وَنَحْو ذَلِك - فَإِذا لم يكن لَهُ فعل يقوم بِهِ بِاخْتِيَارِهِ امْتنع ذَلِك كُله. فَإِنَّهُ من الْمَعْلُوم بِصَرِيح " الْعقل " أَنه إِذا خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَلَا بُد من فعل يصير بِهِ خَالِقًا لَهَا؛ وَإِلَّا فَلَو اسْتمرّ الْأَمر على حَال وَاحِدَة وَلم يحدث فعلا، لَكَانَ الْأَمر على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل أَن يخلق وَحِينَئِذٍ فَلم يكن الْمَخْلُوق مَوْجُودا فَكَذَلِك يجب أَن لَا يكون الْمَخْلُوق مَوْجُودا إِن كَانَ الْحَال فِي الْمُسْتَقْبل مثل مَا كَانَ فِي الْمَاضِي لم يحدث من الرب فعل هُوَ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقد قَالَ تَعَالَى: {مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم} . وَمَعْلُوم أَنهم قد شهدُوا نفس الْمَخْلُوق فَدلَّ على أَن " الْخلق " الَّذِي لم يشهدوه وَهُوَ تكوينه لَهما وإحداثه لَهما؛ غير الْمَخْلُوق التَّالِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ {خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام} . فالخلق لَهَا كَانَ فِي سِتَّة أَيَّام وَهِي مَوْجُودَة بعد السِّتَّة فَالَّذِي اخْتصَّ بالستة غير الْمَوْجُود بعد السِّتَّة. وَكَذَلِكَ قَالَ {الرَّحْمَن الرَّحِيم} فَإِن الرَّحْمَن الرَّحِيم هُوَ الَّذِي يرحم الْعباد بمشيئته وَقدرته فَإِن لم يكن لَهُ رَحْمَة إِلَّا نفس الْإِرَادَة الْقَدِيمَة؛ أَو صفة أُخْرَى قديمَة: لم يكن مَوْصُوفا بِأَنَّهُ يرحم من يَشَاء ويعذب من يَشَاء. قَالَ الْخَلِيل: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ بَدَأَ الْخلق ثمَّ الله ينشئ النشأة الْآخِرَة إِن الله على كل شَيْء قدير} {يعذب من يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء وَإِلَيْهِ تقلبون} فالرحمة ضد التعذيب والتعذيب فعله وَهُوَ يكون بمشيئته؛ وَكَذَلِكَ الرَّحْمَة تكون بمشيئته؛ كَمَا قَالَ: {وَيرْحَم من يَشَاء} . والإرادة الْقَدِيمَة اللَّازِمَة لذاته - أَو صفة أُخْرَى كَذَلِك - لَيست بمشيئته؛ فَلَا تكون الرَّحْمَة بمشيئته. وَإِن قيل: لَيْسَ بمشيئته إِلَّا الْمَخْلُوقَات المباينة لزم أَن لَا تكون الرَّحْمَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 صفة للرب بل تكون مخلوقة لَهُ وَهُوَ إِنَّمَا يَتَّصِف بِمَا يقوم بِهِ لَا يَتَّصِف بالمخلوقات فَلَا يكون هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " {لما قضى الله الْخلق كتب فِي كتاب فَهُوَ مَوْضُوع عِنْده فَوق الْعَرْش: إِن رَحْمَتي تغلب غَضَبي} - وَفِي رِوَايَة - تسبق غَضَبي ". وَمَا كَانَ سَابِقًا لما يكون بعده لم يكن إِلَّا بِمَشِيئَة الرب وَقدرته. وَمن قَالَ: مَا ثمَّ رَحْمَة إِلَّا إِرَادَة قديمَة أَو مَا يشبهها امْتنع أَن يكون لَهُ غضب مَسْبُوق بهَا فَإِن الْغَضَب إِن فسر بالإرادة فالإرادة لم تسبق نَفسهَا وَكَذَلِكَ إِن فسر بِصفة قديمَة الْعين فالقديم لَا يسْبق بعضه بَعْضًا وَإِن فسر بالمخلوقات لم يَتَّصِف برحمة وَلَا غضب. وَهُوَ قد فرق بَين غَضَبه وعقابه بقوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما} وَقَوله: {ويعذب الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات الظانين بِاللَّه ظن السوء عَلَيْهِم دَائِرَة السوء وَغَضب الله عَلَيْهِم ولعنهم وَأعد لَهُم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} . وَفِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ [عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ] عَن النَّبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول: " {أعوذ بِكَلِمَات الله التامات من غَضَبه وعقابه وَمن شَرّ عباده وَمن همزات الشَّيَاطِين وَأَن يحْضرُون} ". وَيدل على ذَلِك قَوْله: {ربكُم أعلم بكم إِن يَشَأْ يَرْحَمكُمْ أَو إِن يَشَأْ يعذبكم} فعلق الرَّحْمَة بِالْمَشِيئَةِ كَمَا علق التعذيب بِالْمَشِيئَةِ. وَمَا تعلق بِالْمَشِيئَةِ مِمَّا يَتَّصِف بِهِ الرب فَهُوَ من " الصِّفَات الاختيارية ". وَكَذَلِكَ كَونه مَالِكًا ليَوْم الدَّين، يَوْم يدين الْعباد بأعمالهم: إِن خيرا فَخير، وَإِن شرا فشر: {وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدَّين * ثمَّ مَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدَّين * يَوْم لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله} . فَإِن " الْملك " هُوَ الَّذِي يتَصَرَّف بِالْأَمر يَأْمر فيطاع وَلِهَذَا إِنَّمَا يُقَال " ملك " للحي المطاع الْأَمر لَا يُقَال فِي الجمادات: لصَاحِبهَا " ملك "؛ إِنَّمَا يُقَال لَهُ: " مَالك " وَيُقَال ليعسوب النَّحْل: " ملك النَّحْل " لِأَنَّهُ يَأْمر فيطاع وَالْمَالِك الْقَادِر على التَّصَرُّف فِي الْمَمْلُوك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وَإِذا كَانَ " الْملك " هُوَ الْآمِر الناهي المطاع فَإِن كَانَ يَأْمر وَينْهى بمشيئته كَانَ أمره وَنَهْيه من " الصِّفَات الاختيارية " وَبِهَذَا أخبر الْقُرْآن قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم غير محلي الصَّيْد وَأَنْتُم حرم إِن الله يحكم مَا يُرِيد} . وَإِن كَانَ لَا يَأْمر وَينْهى بمشيئته - بل أمره لَازم لَهُ حَاصِل بِغَيْر مَشِيئَته وَلَا قدرته - لم يكن هَذَا مَالِكًا أَيْضا؛ بل هَذَا إِلَى أَن يكون مَمْلُوكا أقرب، فَإِن الله تَعَالَى خلق الْإِنْسَان وَجعل لَهُ صِفَات تلْزمهُ - كاللون والطول وَالْعرض والحياة وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يحصل لذاته بِغَيْر اخْتِيَاره - فَكَانَ بِاعْتِبَار ذَلِك مَمْلُوكا مخلوقا للرب فَقَط وَإِنَّمَا يكون " ملكا " إِذا كَانَ يَأْمر وَينْهى بِاخْتِيَارِهِ فيطاع - وَإِن كَانَ الله خَالِقًا لفعله وَلكُل شَيْء. وَلَكِن الْمَقْصُود أَنه لَا يكون " ملكا " إِلَّا من يَأْمر وَينْهى بمشيئته وَقدرته، فَمن نفى الصِّفَات الاختيارية وَقَالَ: لَيْسَ للرب أَمر وَنهي يقوم بِهِ بمشيئته بل من قَالَ: إِنَّه لَازم لَهُ بِغَيْر مَشِيئَته، أَو قَالَ: إِنَّه مَخْلُوق لَهُ، فكلاهما يلْزمه أَنه لَا يكون " ملكا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وَإِذا لم يُمكنهُ أَن يتَصَرَّف بمشيئته لم يكن " ملكا " أَيْضا. فَمن قَالَ إِنَّه لَا يقوم بِهِ " فعل اخْتِيَاري " لم يكن عِنْده فِي الْحَقِيقَة مَالِكًا لشَيْء وَإِذا اعْتبرت سَائِر الْقُرْآن وجدت أَنه من لم يقر " بِالصِّفَاتِ الاختيارية " لم يقم بِحَقِيقَة الْإِيمَان وَلَا الْقُرْآن. فَهَذَا يبين أَن الْفَاتِحَة وَغَيرهَا يدل على " الصِّفَات الاختيارية " وَقَوله: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} فِيهِ إخلاص الْعِبَادَة لله والاستعانة بِهِ وَأَن الْمُؤمنِينَ لَا يعْبدُونَ إِلَّا الله وَلَا يستعينون إِلَّا بِاللَّه؛ فَمن دَعَا غير الله من المخلوقين أَو اسْتَعَانَ بهم: من أهل الْقُبُور أَو غَيرهم لم يُحَقّق قَوْله: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَلَا يُحَقّق ذَلِك إِلَّا من فرق بَين " الزِّيَارَة الشَّرْعِيَّة " و " الزِّيَارَة البدعية ". فَإِن " الزِّيَارَة الشَّرْعِيَّة " عبَادَة لله وَطَاعَة لرَسُوله وتوحيد لله وإحسان إِلَى عباده وَعمل صَالح من الزائر يُثَاب عَلَيْهِ. و " الزِّيَارَة البدعية " شرك بالخالق وظلم للمخلوقات وظلم للنَّفس. فَصَاحب الزِّيَارَة الشَّرْعِيَّة هُوَ الَّذِي يُحَقّق قَوْله: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} . أَلا ترى أَن اثْنَيْنِ لَو شَهدا جَنَازَة فَقَامَ أَحدهمَا يَدْعُو للْمَيت وَيَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ وارحمه وعافه واعف عَنهُ وَأكْرم نزله ووسع مدخله واغسله بِمَاء وثلج وَبرد ونقه من الذُّنُوب والخطايا كَمَا ينقى الثَّوْب الْأَبْيَض من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 الدنس وأبدله دَارا خيرا من دَاره وجيرانا خيرا من جِيرَانه وَأهلا خيرا من أَهله وأعذه من عَذَاب النَّار وَعَذَاب الْقَبْر وأفسح لَهُ فِي قَبره وَنور لَهُ فِيهِ وَنَحْو ذَلِك من الدُّعَاء لَهُ. وَقَامَ الآخر فَقَالَ: يَا سَيِّدي أَشْكُو لَك ديوني وأعدائي وذنوبي، وَأَنا مستغيث بك مستجير بك أجرني أَغِثْنِي وَنَحْو ذَلِك؛ لَكَانَ الأول عابدا لله ومحسنا إِلَى خلقه محسنا إِلَى نَفسه بِعبَادة الله ونفع عباده وَهَذَا الثَّانِي مُشْركًا بِاللَّه مُؤْذِيًا ظَالِما معتديا على هَذَا الْمَيِّت ظَالِما لنَفسِهِ. فَهَذَا بعض مَا بَين " البدعية " و " الشَّرْعِيَّة " من الفروق. وَالْمَقْصُود أَن صَاحب " الزِّيَارَة الشَّرْعِيَّة " إِذا قَالَ: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} كَانَ صَادِقا؛ لِأَنَّهُ لم يعبد إِلَّا الله وَلم يستعن إِلَّا بِهِ وَأما صَاحب " الزِّيَارَة البدعية " فَإِنَّهُ عبد غير الله واستعان بِغَيْرِهِ. فَهَذَا بعض مَا يبين أَن " الْفَاتِحَة " أم الْقُرْآن: اشْتَمَلت على بَيَان الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَنَازع فيهمَا: " مَسْأَلَة الصِّفَات الاختيارية " وَمَسْأَلَة " الْفرق بَين الزِّيَارَة الشَّرْعِيَّة والزيارة البدعية ". وَالله تَعَالَى هُوَ الْمَسْئُول أَن يهدينا وَسَائِر إِخْوَاننَا إِلَى صراطه الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وَمِمَّا يُوضح ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: {إِذا قَالَ العَبْد: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} قَالَ الله: حمدني عَبدِي فَإِذا قَالَ: {الرَّحْمَن الرَّحِيم} قَالَ أثنى عَليّ عَبدِي. فَإِذا قَالَ: {مَالك يَوْم الدَّين} قَالَ الله: مجدني عَبدِي فَذكر الْحَمد وَالثنَاء وَالْمجد، ثمَّ بعد ذَلِك يَقُول: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} إِلَى آخرهَا. هَذَا فِي أول الْقِرَاءَة فِي قيام الصَّلَاة. ثمَّ فِي آخر الْقيام بعد الرُّكُوع يَقُول: رَبنَا وَلَك الْحَمد ملْء السَّمَاء وملء الأَرْض. إِلَى قَوْله: أهل الثَّنَاء وَالْمجد أَحَق مَا قَالَ العَبْد وكلنَا لَك عبد لَا مَانع لما أَعْطَيْت وَلَا معطي لما منعت وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد} . وَقَوله: أَحَق مَا قَالَ العَبْد. خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف: أَي هَذَا الْكَلَام أَحَق مَا قَالَ العَبْد. فَتبين أَن حمد الله وَالثنَاء عَلَيْهِ [وتمجيده] أَحَق مَا قَالَه العَبْد وَفِي ضمنه توحيده، لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَك الْحَمد، أَي لَك لَا لغيرك. وَقَالَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 آخِره: لَا مَانع لما أَعْطَيْت وَلَا معطي لما منعت، وَهَذَا يَقْتَضِي انْفِرَاده بالعطاء وَالْمَنْع فَلَا يستعان إِلَّا بِهِ وَلَا يطْلب إِلَّا مِنْهُ. ثمَّ قَالَ: وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد فَبين أَن الْإِنْسَان وَإِن أعطي الْملك والغنى والرئاسة فَهَذَا لَا ينجيه مِنْك؛ إِنَّمَا ينجيه الْإِيمَان وَالتَّقوى وَهَذَا تَحْقِيق قَوْله: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَكَانَ هَذَا الذّكر آخر الْقيام مناسبا للذّكر أول الْقيام. وَقَوله: أَحَق مَا قَالَ العَبْد، يَقْتَضِي أَن يكون حمد الله أَحَق الْأَقْوَال بِأَن يَقُوله العَبْد؛ وَمَا كَانَ أَحَق الْأَقْوَال كَانَ أفضلهَا وأوجبها على الْإِنْسَان. وَلِهَذَا افْترض الله على عباده فِي كل صَلَاة أَن يفتتحوها بقَوْلهمْ: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} وَأمرهمْ أَيْضا أَن يفتتحوا كل خطْبَة " بِالْحَمْد لله " فَأَمرهمْ أَن يكون الْحَمد لله مقدما على كل كَلَام سَوَاء كَانَ خطابا للخالق أَو خطابا للمخلوق. وَلِهَذَا يقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَمد أَمَام الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة. وَلِهَذَا أمرنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 بِتَقْدِيم الثَّنَاء على الله فِي التَّشَهُّد قبل الدُّعَاء وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أَجْذم} ". وَأول من يدعى إِلَى الْجنَّة الْحَمَّادُونَ الَّذين يحْمَدُونَ الله على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وَقَوله {الرَّحْمَن الرَّحِيم} جعله ثَنَاء. وَقَوله {مَالك يَوْم الدَّين} جعله تمجيدا. وَقَوله: {الْحَمد لله} حمد مُطلق. فَإِن " الْحَمد " اسْم جنس لَهُ كمية وَكَيْفِيَّة؛ فالثناء تثنيته، وتكبيره تَعْظِيم كميته الْمُنْفَصِلَة، و " الْمجد " هُوَ السعَة والعلو فَهُوَ تَعْظِيم كيفيته وَقدره وكميته الْمُتَّصِلَة. وَذَلِكَ أَن هَذَا وصف لَهُ بِالْملكِ، و " الْملك " يتَضَمَّن الْقُدْرَة وَفعل مَا يَشَاء و {الرَّحْمَن الرَّحِيم} وصف بِالرَّحْمَةِ المتضمنة لإحسانه إِلَى الْعباد بمشيئته وَقدرته أَيْضا وَالْخَيْر يحصل بِالْقُدْرَةِ والإرادة الَّتِي تَتَضَمَّن الرَّحْمَة. فَإِذا كَانَ قَدِيرًا مرِيدا للإحسان: حصل كل خير وَإِنَّمَا يَقع النَّقْص لعدم الْقُدْرَة أَو لعدم إِرَادَة الْخَيْر " فالرحمن الرَّحِيم الْملك " قد اتّصف بغاية إِرَادَة الْإِحْسَان وَغَايَة الْقُدْرَة؛ وَذَلِكَ يحصل بِهِ كل خير خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَقَوله: {مَالك يَوْم الدَّين} مَعَ أَنه " ملك الدُّنْيَا " لِأَن يَوْم الدَّين لَا يَدعِي أحد فِيهِ مُنَازعَة وَهُوَ الْيَوْم الْأَعْظَم فَمَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا كَمَا يضع أحدكُم إصبعه فِي اليم فَلْينْظر بِمَ يرجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 و " الدَّين " عَاقِبَة أَفعَال الْعباد وَقد يدل بطرِيق التَّنْبِيه أَو بطرِيق الْعُمُوم عِنْد بَعضهم: على ملك الدُّنْيَا فَيكون لَهُ الْملك وَله الْحَمد كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير} وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنه قَادر على أَن يرحم وَرَحمته وإحسانه وصف لَهُ يحصل بمشيئته وَهُوَ من " الصِّفَات الاختيارية ". وَفِي الصَّحِيح " {أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعلم أَصْحَابه الاستخارة فِي الْأُمُور كلهَا كَمَا يعلمهُمْ السُّورَة من الْقُرْآن يَقُول: إِذا هم أحدكُم بِالْأَمر فليركع رَكْعَتَيْنِ من غير الْفَرِيضَة ثمَّ ليقل: اللَّهُمَّ إِنِّي أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وَأَسْأَلك من فضلك الْعَظِيم فَإنَّك تقدر وَلَا أقدر وَتعلم وَلَا أعلم وَأَنت علام الغيوب اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر - ويسميه باسمه - خيرا لي فِي ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أَمْرِي: فاقدره لي ويسره لي ثمَّ بَارك لي فِيهِ؛ وَإِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر شَرّ لي فِي ديني ومعاشي وعاقبة أَمْرِي فاصرفه عني واصرفني عَنهُ واقدر لي الْخَيْر حَيْثُ كَانَ} ". فَسَأَلَهُ بِعِلْمِهِ وَقدرته وَمن فَضله وفضله يحصل برحمته وَهَذِه الصِّفَات هِيَ جماع صِفَات الْكَمَال لَكِن " الْعلم " لَهُ عُمُوم التَّعَلُّق: يتَعَلَّق بالخالق والمخلوق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وَالْمَوْجُود والمعدوم. وَأما " الْقُدْرَة " فَإِنَّمَا تتَعَلَّق بالممكن، والإرادة إِنَّمَا تتَعَلَّق بالموجود الْمَخْلُوق، وَالرَّحْمَة أخص مِنْهَا فَإِنَّمَا تتَعَلَّق بالمخلوق، وَكَذَلِكَ " الْملك " إِنَّمَا يكون ملكا على الْمَخْلُوقَات. " فالفاتحة " اشْتَمَلت على الْكَمَال فِي " الْإِرَادَة "، وَهُوَ: الرَّحْمَة، وعَلى الْكَمَال فِي " الْقُدْرَة "، وَهُوَ: مَالك يَوْم الدَّين. وَهَذَا وَهَذَا إِنَّمَا يتم " بِالصِّفَاتِ الاختيارية "، كَمَا تقدم. وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 الرسَالَة الثَّانِيَة شرح كَلِمَات من "فتوح الْغَيْب" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 هَذَا كتاب يشْتَمل على شرح كَلِمَات رويت عَن الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم، الناسك الزَّاهِد، عبد الْقَادِر الكيلاني رَحمَه الله تَعَالَى، فِي كِتَابه الْمَعْرُوف " بفتوح الْغَيْب " وَشَرحهَا شيخ الْإِسْلَام، ومفتي الشَّام، الإِمَام الْعَالم الْعَامِل، الزَّاهِد الْوَرع، تَقِيّ الدَّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد، بن عبد الْحَلِيم، بن عبد السَّلَام، بن تَيْمِية الْحَرَّانِي، نفع الله بِهِ، وأثابه الْجنَّة، وَغفر لَهُ وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين، آمين، ومتعه الله بالثناء الْجَمِيل، وَالعطَاء الجزيل. بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، توكلت على الله. قَالَ شَيخنَا الإِمَام الْعَلامَة شيخ الْإِسْلَام، أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد، بن عبد الْحَلِيم، بن عبد السَّلَام، الْعَالم الرباني، وَالْعَامِل النوراني بن تَيْمِية، رَضِي الله عَنهُ وأرضاه. الْحَمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 هادي لَهُ. ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ ونشهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا. قَالَ الجيلاني: لابد لكل مُؤمن من أَمر يمتثله وَنهي يجتنبه وَقدر يرضى بِهِ: فصل قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر الكيلاني فِي كتاب " فتوح الْغَيْب ": لَا بُد لكل مُؤمن فِي سَائِر أَحْوَاله من ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَمر يمتثله. وَنهي يجتنبه. وَقدر يرضى بِهِ. فَأَقل حَالَة لَا يَخْلُو الْمُؤمن فِيهَا من أحد هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة فَيَنْبَغِي لَهُ أَن يلْزم همها قلبه وليحدث بهَا نَفسه وَيَأْخُذ بهَا الْجَوَارِح فِي سَائِر أَحْوَاله ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 تَعْلِيق ابْن تَيْمِية: (قلت) : هَذَا كَلَام شرِيف جَامع يحْتَاج إِلَيْهِ كل أحد، وَهُوَ تَفْصِيل لما يحْتَاج إِلَيْهِ العَبْد، وَهِي مُطَابقَة لقَوْله تَعَالَى {إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} وَلقَوْله تَعَالَى: {وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا} وَلقَوْله تَعَالَى: {وَإِن تصبروا وتتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} . فَإِن " التَّقْوَى " تَتَضَمَّن: فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور و " الصَّبْر " يتَضَمَّن: الصَّبْر على الْمَقْدُور. " فالثلاثة " ترجع إِلَى هذَيْن الْأَصْلَيْنِ، وَالثَّلَاثَة فِي الْحَقِيقَة ترجع إِلَى امْتِثَال الْأَمر وَهُوَ طَاعَة الله وَرَسُوله. فحقيقة الْأَمر أَن كل عبد فَإِنَّهُ مُحْتَاج فِي كل وَقت إِلَى طَاعَة الله وَرَسُوله وَهُوَ: أَن يفعل فِي ذَلِك الْوَقْت مَا أَمر بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت. وَطَاعَة الله وَرَسُوله هِيَ عبَادَة الله الَّتِي خلق لَهَا الْجِنّ وَالْإِنْس. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَقَالَ تَعَالَى: {واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم وَالَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} . وَالرسل كلهم أمروا قَومهمْ أَن يعبدوا الله وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 تَعَالَى: {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت} وَقَالَ تَعَالَى: {واسأل من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا أجعلنا من دون الرَّحْمَن آلِهَة يعْبدُونَ} . الثَّلَاثَة ترجع إِلَى امْتِثَال الْأَمر: وَإِنَّمَا كَانَت " الثَّلَاثَة " ترجع إِلَى امْتِثَال الْأَمر؛ لِأَنَّهُ فِي الْوَقْت الَّذِي يُؤمر فِيهِ بِفعل أُمُور من الْفَرَائِض كالصلوات الْخمس وَالْحج وَنَحْو ذَلِك، يحْتَاج إِلَى فعل ذَلِك الْمَأْمُور. وَفِي الْوَقْت الَّذِي تحدث أَسبَاب الْمعْصِيَة يحْتَاج إِلَى الِامْتِنَاع وَالْكَرَاهَة والإمساك عَن ذَلِك وَهَذَا فعل لما أَمر بِهِ فِي هَذَا الْوَقْت وَأما من لم تخطر لَهُ الْمعْصِيَة ببال فَهَذَا لم يفعل شَيْئا يُؤجر عَلَيْهِ وَلَكِن عدم ذَنبه مُسْتَلْزم لسلامته من عُقُوبَة الذَّنب، والعدم الْمَحْض المستمر لَا يُؤمر بِهِ وَإِنَّمَا يُؤمر بِأَمْر يقدر عَلَيْهِ العَبْد وَذَاكَ لَا يكون إِلَّا حَادِثا: سَوَاء كَانَ إِحْدَاث إِيجَاد أَمر أَو إعدام أَمر. وَأما " الْقدر الَّذِي يرضى بِهِ " فَإِنَّهُ إِذا ابْتُلِيَ بِالْمرضِ أَو الْفقر أَو الْخَوْف فَهُوَ مَأْمُور بِالصبرِ أَمر إِيجَاب، ومأمور بِالرِّضَا إِمَّا أَمر إِيجَاب، وَإِمَّا أَمر اسْتِحْبَاب؛ وللعلماء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي ذَلِك قَولَانِ وَنَفس الصَّبْر وَالرِّضَا بالمصائب هُوَ طَاعَة لله وَرَسُوله فَهُوَ من امْتِثَال الْأَمر وَهُوَ عبَادَة لله. لَكِن هَذِه " الثَّلَاثَة " وَإِن دخلت فِي امْتِثَال الْأَمر عِنْد الْإِطْلَاق فَعِنْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 التَّفْصِيل والاقتران: إِمَّا أَن تخص بِالذكر وَإِمَّا أَن يُقَال يُرَاد بِهَذَا مَا لَا يُرَاد بِهَذَا كَمَا فِي قَوْله: {فاعبده وتوكل عَلَيْهِ} وَقَوله: {فاعبدني وأقم الصَّلَاة لذكري} فَإِن هَذَا دَاخل فِي الْعِبَادَة إِذا أطلق اسْم الْعِبَادَة، وَعند " الاقتران " إِمَّا أَن يُقَال: ذكر عُمُوما وخصوصا، وَإِمَّا أَن يُقَال: ذكره خُصُوصا يُغني عَن دُخُوله فِي الْعَام. وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَقَوله: {وَاذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا} {رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا} {واصبر على مَا يَقُولُونَ واهجرهم هجرا جميلا} وَقد يُقَال: لفظ " التبتل " لَا يتَنَاوَل هَذِه الْأُمُور المعطوفة كَمَا يَتَنَاوَلهَا لفظ الْعِبَادَة وَالطَّاعَة. و" بِالْجُمْلَةِ " فرق مَا بَين مَا يُؤمر بِهِ الْإِنْسَان ابْتِدَاء وَبَين مَا يُؤمر بِهِ عِنْد حَاجته إِلَى جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة أَو عِنْد حب الشَّيْء وبغضه. وَكَلَام الشَّيْخ - قدس الله روحه - يَدُور على هَذَا القطب وَهُوَ أَن يفعل الْمَأْمُور وَيتْرك الْمَحْظُور ويخلو فِيمَا سواهُمَا عَن إِرَادَة؛ لِئَلَّا يكون لَهُ هُوَ مُرَاد غير فعل مَا أمره بِهِ ربه، وَمَا لم يُؤمر بِهِ العَبْد، بل فعله الرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 عز وَجل بِلَا وَاسِطَة العَبْد أَو فعله بِالْعَبدِ بِلَا هوى من العَبْد. فَهَذَا هُوَ الْقدر الَّذِي عَلَيْهِ أَن يرضى بِهِ. وَسَيَأْتِي من كَلَام الشَّيْخ مَا يبين مُرَاده وَأَن العَبْد فِي كل حَال عَلَيْهِ أَن يفعل مَا أَمر بِهِ وَيتْرك مَا نهي عَنهُ. وَأما إِذا لم يكن هُوَ أمرا للْعَبد بِشَيْء من ذَلِك فَمَا فعله الرب كَانَ علينا التَّسْلِيم فِيمَا فعله وَهَذِه هِيَ " الْحَقِيقَة " فِي كَلَام الشَّيْخ وَأَمْثَاله. وتفصيل الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة فِي هَذَا الْمقَام أَن هَذَا " نَوْعَانِ ": (أَحدهمَا) : أَن يكون العَبْد مَأْمُورا فِيمَا فعله الرب. إِمَّا بحب لَهُ وإعانة عَلَيْهِ. وَإِمَّا ببغض لَهُ وَدفع لَهُ. و (الثَّانِي) : أَن لَا يكون العَبْد مَأْمُورا بِوَاحِد مِنْهُمَا. (فَالْأول) مثل الْبر وَالتَّقوى الَّذِي يَفْعَله غَيره فَهُوَ مَأْمُور بحبه وإعانته عَلَيْهِ: كإعانة الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله على الْجِهَاد وإعانة سَائِر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بِحَسب الْإِمْكَان وبمحبة ذَلِك وَالرِّضَا بِهِ وَكَذَلِكَ هُوَ مَأْمُور عِنْد مُصِيبَة الْغَيْر: إِمَّا بنصر مظلوم وَإِمَّا بتعزية مصاب وَإِمَّا بإغناء فَقير وَنَحْو ذَلِك. وَأما مَا هُوَ مَأْمُور ببغضه وَدفعه فَمثل: مَا إِذا أظهر الْكفْر والفسوق والعصيان فَهُوَ مَأْمُور ببغض ذَلِك وَدفعه وإنكاره بِحَسب الْإِمْكَان كَمَا قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح: " من رأى مِنْكُم مُنْكرا فليغيره بِيَدِهِ. فَإِن لم يسْتَطع فبلسانه. فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان ". حكم الْمُبَاحَات وأنواعها: وَأما مَا لَا يُؤمر العَبْد فِيهِ بِوَاحِد مِنْهُمَا: فَمثل مَا يظْهر لَهُ من فعل الْإِنْسَان للمباحات الَّتِي لم يتَبَيَّن لَهُ أَنه يستعان بهَا على طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة. فَهَذِهِ لَا يُؤمر بحبها وَلَا ببغضها وَكَذَلِكَ مباحات نَفسه الْمَحْضَة الَّتِي لم يقْصد الِاسْتِعَانَة بهَا على طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة. مَعَ أَن هَذَا نقص مِنْهُ فَإِن الَّذِي يَنْبَغِي أَنه لَا يفعل من الْمُبَاحَات إِلَّا مَا يَسْتَعِين بِهِ على الطَّاعَة ويقصد الِاسْتِعَانَة بهَا على الطَّاعَة فَهَذَا سَبِيل المقربين السَّابِقين الَّذين تقربُوا إِلَى الله تَعَالَى بالنوافل بعد الْفَرَائِض وَلم يزل أحدهم يتَقرَّب إِلَيْهِ بذلك حَتَّى أحبه فَكَانَ سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ وبصره الَّذِي يبصر بِهِ وَيَده الَّتِي يبطش بهَا وَرجله الَّتِي يمشي بهَا. وَأما من فعل الْمُبَاحَات مَعَ الْغَفْلَة أَو فعل فضول الْمُبَاح الَّتِي لَا يستعان بهَا على طَاعَة مَعَ أَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمَحَارِم بَاطِنا وظاهرا فَهَذَا من الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَاب الْيَمين. وَبِالْجُمْلَةِ الْأَفْعَال الَّتِي يُمكن دُخُولهَا تَحت الْأَمر وَالنَّهْي لَا تكون مستوية من كل وَجه بل إِن فعلت على الْوَجْه المحبوب كَانَ وجودهَا خيرا للْعَبد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وَإِلَّا كَانَ تَركهَا خيرا لَهُ وَإِن لم يُعَاقب عَلَيْهَا ففضول الْمُبَاح الَّتِي لَا تعين على الطَّاعَة عدمهَا خير من وجودهَا إِذا كَانَ مَعَ عدمهَا يشْتَغل بِطَاعَة الله فَإِنَّهَا تكون شاغلة لَهُ عَن ذَلِك وَأما إِذا قدر أَنَّهَا تشغله عَمَّا دونهَا فَهِيَ خير لَهُ مِمَّا دونهَا وَإِن شغلته عَن مَعْصِيّة الله كَانَت رَحْمَة فِي حَقه وَإِن كَانَ اشْتِغَاله بِطَاعَة الله خيرا لَهُ من هَذَا وَهَذَا. وَكَذَلِكَ أَفعَال الْغَفْلَة والشهوة الَّتِي يُمكن الِاسْتِعَانَة بهَا على الطَّاعَة: كالنوم الَّذِي يقْصد بِهِ الِاسْتِعَانَة على الْعِبَادَة؛ وَالْأكل وَالشرب واللباس وَالنِّكَاح الَّذِي يُمكن الِاسْتِعَانَة بِهِ على الْعِبَادَة؛ إِذا لم يقْصد بِهِ ذَلِك كَانَ ذَلِك نقصا من العَبْد وفوات حَسَنَة؛ وَخير يُحِبهُ الله. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أَنه قَالَ لسعد: إِنَّك لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله إِلَّا ازددت بهَا دَرَجَة ورفعة حَتَّى اللُّقْمَة تضعها فِي فِي امْرَأَتك} " وَقَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح: {نَفَقَة الْمُسلم على أَهله يحتسبها صَدَقَة} ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فَمَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْمُبَاحَات أَو يحْتَاج إِلَيْهِ وَلم يَصْحَبهُ إِيمَان يَجعله حَسَنَة فعدمه خير من وجوده إِذا كَانَ مَعَ عَدمه يشْتَغل بِمَا هُوَ خير مِنْهُ. وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {فِي بضع أحدكُم صَدَقَة. قَالُوا: يَا رَسُول الله يَأْتِي أَحَدنَا شَهْوَته وَيكون لَهُ أجر. قَالَ: أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي الْحَرَام أما كَانَ عَلَيْهِ وزر؟ قَالُوا: بلَى قَالَ: فَكَذَلِك إِذا وَضعهَا فِي الْحَلَال كَانَ لَهُ بهَا أجر. فَلم تعتدون بالحرام وَلَا تعتدون بالحلال} ". وَذَلِكَ أَن الْمُؤمن عِنْد شَهْوَة النِّكَاح يقْصد أَن يعدل عَمَّا حرمه الله إِلَى مَا أَبَاحَهُ الله؛ ويقصد فعل الْمُبَاح مُعْتَقدًا أَن الله أَبَاحَهُ " {وَالله يحب أَن يُؤْخَذ بِرُخصِهِ كَمَا يكره أَن تُؤْتى مَعْصِيَته} " كَمَا روى ذَلِك الإِمَام أَحْمد فِي الْمسند وَرَوَاهُ غَيره وَلِهَذَا أحب الْقصر وَالْفطر فِي السّفر، فعدول الْمُؤمن عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 الرهبانية وَالتَّشْدِيد وتعذيب النَّفس الَّذِي لَا يُحِبهُ الله إِلَى مَا يُحِبهُ الله من الرُّخْصَة هُوَ من الْحَسَنَات الَّتِي يثيبه الله عَلَيْهَا وَإِن فعل مُبَاحا لما اقْترن بِهِ من الِاعْتِقَاد وَالْقَصْد الَّذين كِلَاهُمَا طَاعَة لله وَرَسُوله. فَإِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى. وَأَيْضًا فَالْعَبْد هُوَ مَأْمُور بِفعل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْمُبَاحَات هُوَ مَأْمُور بِالْأَكْلِ عِنْد الْجُوع وَالشرب عِنْد الْعَطش وَلِهَذَا يجب على الْمُضْطَر إِلَى الْميتَة أَن يَأْكُل مِنْهَا وَلَو لم يَأْكُل حَتَّى مَاتَ كَانَ مستوجبا للوعيد كَمَا هُوَ قَول جَمَاهِير الْعلمَاء من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم وَكَذَلِكَ هُوَ مَأْمُور بِالْوَطْءِ عِنْد حَاجته إِلَيْهِ بل وَهُوَ مَأْمُور بِنَفس عقد النِّكَاح إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَقدر عَلَيْهِ. فَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {فِي بضع أحدكُم صَدَقَة} " فَإِن المباضعة مَأْمُور بهَا لِحَاجَتِهِ ولحاجة الْمَرْأَة إِلَى ذَلِك فَإِن قَضَاء حَاجَتهَا الَّتِي لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِهِ بِالْوَجْهِ الْمُبَاح صَدَقَة. سلوك الْأَبْرَار وسلوك المقربين: و" السلوك " سلوكان: سلوك الْأَبْرَار أهل الْيَمين وَهُوَ أَدَاء الْوَاجِبَات، وَترك الْمُحرمَات بَاطِنا وظاهرا. و (الثَّانِي) : سلوك المقربين السَّابِقين وَهُوَ فعل الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب بِحَسب الْإِمْكَان وَترك الْمَكْرُوه وَالْمحرم كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {إِذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَاجْتَنبُوهُ. وَإِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم} ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وَكَلَام الشُّيُوخ الْكِبَار: كالشيخ " عبد الْقَادِر " وَغَيره يُشِير إِلَى هَذَا السلوك؛ وَلِهَذَا يأمرون بِمَا هُوَ مُسْتَحبّ غير وَاجِب وَينْهَوْنَ عَمَّا هُوَ مَكْرُوه غير محرم فَإِنَّهُم يسلكون بالخاصة مَسْلَك الْخَاصَّة وبالعامة مَسْلَك الْعَامَّة. وَطَرِيق الْخَاصَّة طَرِيق المقربين أَلا يفعل العَبْد إِلَّا مَا أَمر بِهِ وَلَا يُرِيد إِلَّا مَا أَمر الله وَرَسُوله بإرادته وَهُوَ مَا يُحِبهُ الله ويرضاه ويريده إِرَادَة دينية شَرْعِيَّة وَإِلَّا فالحوادث كلهَا مُرَادة لَهُ خلقا وتكوينا. وَالْوُقُوف مَعَ الْإِرَادَة الخلقية الْقَدَرِيَّة مُطلقًا غير مَقْدُور عقلا وَلَا مَأْمُور شرعا. وَذَلِكَ لِأَن من الْحَوَادِث مَا يجب دَفعه وَلَا تجوز إِرَادَته كمن أَرَادَ تَكْفِير الرجل أَو تَكْفِير أَهله أَو الْفُجُور بِهِ أَو بأَهْله أَو أَرَادَ قتل النَّبِي وَهُوَ قَادر على دَفعه أَو أَرَادَ إضلال الْخلق، وإفساد دينهم ودنياهم فَهَذِهِ الْأُمُور يجب دَفعهَا وكراهتها؛ لَا تجوز إرادتها. وَأما الِامْتِنَاع عقلا؛ فَلِأَن الْإِنْسَان مجبول على حب مَا يلائمه وبغض مَا ينافره فَهُوَ عِنْد الْجُوع يحب مَا يقيته كالطعام وَلَا يحب مَا لَا يقيته كالتراب فَلَا يُمكن أَن تكون إِرَادَته لهذين سَوَاء. وَكَذَلِكَ يحب الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح الَّذِي يَنْفَعهُ وَيبغض الْكفْر والفسوق الَّذِي يضرّهُ بل وَيُحب الله وعبادته وَحده وَيبغض عبَادَة مَا دونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 كَمَا قَالَ الْخَلِيل: {أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ} {أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون} {فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} . وَقَالَ تَعَالَى: {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده} . فقد أمرنَا الله أَن نتأسى بإبراهيم وَالَّذين مَعَه إِذْ تبرءوا من الْمُشْركين وَمِمَّا يعبدونه من دون الله. وَقَالَ الْخَلِيل: {إِنَّنِي برَاء مِمَّا تَعْبدُونَ} {إِلَّا الَّذِي فطرني فَإِنَّهُ سيهدين} والبراءة ضد الْولَايَة وأصل الْبَرَاءَة البغض وأصل الْولَايَة الْحبّ. وَهَذَا لِأَن حَقِيقَة التَّوْحِيد أَلا تحب إِلَّا الله وتحب مَا يُحِبهُ الله لله فَلَا تحب إِلَّا لله وَلَا تبغض إِلَّا لله. قَالَ تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وَالْفرق ثَابت بَين الْحبّ لله وَالْحب مَعَ الله فَأهل التَّوْحِيد وَالْإِخْلَاص يحبونَ غير الله لله وَالْمُشْرِكُونَ يحبونَ غير الله مَعَ الله كحب الْمُشْركين لآلهتهم وَحب النَّصَارَى للمسيح وَحب أهل الْأَهْوَاء رُءُوسهم. فَإِذا عرف أَن العَبْد مفطور على حب مَا يَنْفَعهُ وبغض مَا يضرّهُ. لم يُمكن أَن تستوي إِرَادَته لجَمِيع الْحَوَادِث فطْرَة وخلقا وَلَا هُوَ مَأْمُور من جِهَة الشَّرْع أَن يكون مرِيدا لجَمِيع الْحَوَادِث بل قد أمره الله بِإِرَادَة أُمُور وَكَرَاهَة أُخْرَى. وَالرسل - صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه - بعثوا بتكميل الْفطْرَة وتقريرها لَا بتحويل الْفطْرَة وتغييرها. وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه} " قَالَ تَعَالَى: {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدَّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - " {يَقُول الله تَعَالَى: خلقت عبَادي حنفَاء فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِين وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت لَهُم وأمرتهم أَن يشركوا بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا} ". و " الحنيفية " هِيَ الاسْتقَامَة بإخلاص الدَّين لله وَذَلِكَ يتَضَمَّن حبه تَعَالَى والذل لَهُ لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا لَا فِي الْحبّ وَلَا فِي الذل فَإِن الْعِبَادَة تَتَضَمَّن غَايَة الْحبّ بغاية الذل وَذَلِكَ لَا يسْتَحقّهُ إِلَّا الله وَحده وَكَذَلِكَ الخشية وَالتَّقوى لله وَحده والتوكل على الله وَحده. وَالرَّسُول يطاع وَيُحب فالحلال مَا حلله وَالْحرَام مَا حرمه وَالدّين مَا شَرعه. قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن يطع الله وَرَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون} . وَهَذَا حَقِيقَة دين الْإِسْلَام. وَالرسل بعثوا بذلك كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شرع لكم من الدَّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدَّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم} {وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون} . فَهَذَا هُوَ الأَصْل الَّذِي يجب على كل أحد أَن يعتصم بِهِ فَلَا بُد أَن يكون مرِيدا محبا لما أمره الله بإرادته ومحبته كَارِهًا مبغضا لما أمره الله بكراهته وبغضه. وَالنَّاس فِي هَذَا الْبَاب " أَرْبَعَة أَنْوَاع ": أكملهم الَّذين يحبونَ مَا أحبه الله وَرَسُوله، ويبغضون مَا أبغضه الله وَرَسُوله فيريدون مَا أَمرهم الله وَرَسُوله بإرادته ويكرهون مَا أَمرهم الله وَرَسُوله بكراهته وَلَيْسَ عِنْدهم حب وَلَا بغض لغير ذَلِك. فيأمرون بِمَا أَمر الله وَرَسُوله بِهِ وَلَا يأمرون بِغَيْر ذَلِك، وَينْهَوْنَ عَمَّا نهى الله عَنهُ وَرَسُوله وَلَا ينهون عَن غير ذَلِك. وَهَذِه حَال الخليلين أفضل الْبَريَّة: مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " {إِن الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وَقَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح: " {إِنِّي وَالله لَا أعطي أحدا وَلَا أمنع أحدا وَإِنَّمَا أَنا قَاسم أَضَع حَيْثُ أمرت} ". وَذكر: أَن ربه خَيره بَين أَن يكون نَبيا ملكا؛ وَبَين أَن يكون عبدا رَسُولا فَاخْتَارَ أَن يكون عبدا رَسُولا. فَإِن " النَّبِي الْملك " مثل دَاوُد وَسليمَان. قَالَ تَعَالَى: {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب} قَالُوا: مَعْنَاهُ أعْط من شِئْت وامنع من شِئْت لَا نحاسبك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 " فالنبي الْملك " يُعْطي بإرادته لَا يُعَاقب على ذَلِك كَالَّذي يفعل الْمُبَاحَات بإرادته. وَأما " العَبْد الرَّسُول " فَلَا يُعْطي وَلَا يمْنَع إِلَّا بِأَمْر ربه وَهُوَ محبته وَرضَاهُ وإرادته الدِّينِيَّة وَالسَّابِقُونَ المقربون أَتبَاع العَبْد الرَّسُول والمقتصدون أهل الْيَمين أَتبَاع النَّبِي الْملك. وَقد تكون للْإنْسَان حَال هُوَ فِيهَا خَال عَن الإرادتين: وَهُوَ أَلا تكون لَهُ إِرَادَة فِي عَطاء وَلَا منع، لَا إِرَادَة دينية هُوَ مَأْمُور بهَا وَلَا إِرَادَة نفسانية سَوَاء كَانَ مَنْهِيّا عَنْهَا أَو غير مَنْهِيّ عَنْهَا بل مَا وَقع كَانَ مرَادا لَهُ وَمهما فعل بِهِ كَانَ مرَادا لَهُ من غير أَن يعرف الْمَأْمُور بِهِ شرعا فِي ذَلِك. فَهَذَا بِمَنْزِلَة من لَهُ أَمْوَال يُعْطِيهَا وَلَيْسَ لَهُ إِرَادَة فِي إِعْطَاء معِين لَا إِرَادَة شَرْعِيَّة وَلَا إِرَادَة مذمومة؛ بل يُعْطي كل أحد. فَهَذَا إِذا قدر أَنه قَامَ بِمَا يجب عَلَيْهِ بِحَسب إِمْكَانه وَلكنه خَفِي عَلَيْهِ الْإِرَادَة الشَّرْعِيَّة فِي تَفْصِيل أَفعاله. فَإِنَّهُ لَا يذم على مَا فعل وَلَا يمدح مُطلقًا. بل يمدح لعدم هَوَاهُ وَلَو علم تَفْصِيل الْمَأْمُور بِهِ وأراده إِرَادَة شَرْعِيَّة لَكَانَ أكمل. بل هَذَا مَعَ الْقُدْرَة إِمَّا وَاجِب وَإِمَّا مُسْتَحبّ. وَحَال هَذَا خير من حَال من يُرِيد بِحكم هَوَاهُ وَنَفسه؛ وَإِن كَانَ ذَلِك مُبَاحا لَهُ وَهُوَ دون من يُرِيد بِأَمْر ربه لَا بهواه وَلَا بِالْقدرِ الْمَحْض. النَّاس فِي الْمُبَاحَات على ثَلَاثَة أَقسَام: فمضمون هَذَا الْمقَام أَن النَّاس فِي الْمُبَاحَات من الْملك وَالْمَال وَغير ذَلِك على " ثَلَاثَة أَقسَام ": الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 (قوم لَا يتصرفون فِيهَا إِلَّا بِحكم الْأَمر الشَّرْعِيّ) . وَهُوَ حَال نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَهُوَ حَال العَبْد الرَّسُول وَمن اتبعهُ فِي ذَلِك. و (قوم يتصرفون فِيهَا بِحكم إرادتهم والشهوة الَّتِي لَيست مُحرمَة) . وَهَذَا حَال النَّبِي الْملك. وَهُوَ حَال الْأَبْرَار أهل الْيَمين. و (قوم لَا يتصرفون بِهَذَا وَلَا بِهَذَا) . أما " الأول " فلعدم علمهمْ بِهِ. وَأما " الثَّانِي " فلزهدهم فِيهِ؛ بل يتصرفون فِيهَا بِحكم الْقدر الْمَحْض اتبَاعا لإِرَادَة الله الخلقية الْقَدَرِيَّة حِين تعذر معرفَة الْإِرَادَة الشَّرْعِيَّة الأمرية وَهَذَا كالترجيح بِالْقُرْعَةِ إِذا تعذر التَّرْجِيح بِسَبَب شَرْعِي مَعْلُوم وَقد يتَصَرَّف هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمقَام بإلهام يَقع فِي قُلُوبهم وخطاب. وَكَلَام " الشَّيْخ عبد الْقَادِر " - قدس الله روحه - كثيرا مَا يَقع فِي هَذَا الْمقَام؛ فَإِنَّهُ يَأْمر بالزهد فِي إِرَادَة النَّفس وهواها حَتَّى لَا يتَصَرَّف بِحكم الْإِرَادَة وَالنَّفس وَهَذَا رفع لَهُ عَن حَال الْأَبْرَار أهل الْيَمين وَعَن طَرِيق الْمُلُوك مُطلقًا وَمن حصل هَذَا وَتصرف بِالْأَمر الشَّرْعِيّ المحمدي القرآني فَهُوَ أكمل الْخلق لَكِن هَذَا قد يخفى عَلَيْهِ؛ فَإِن معرفَة هَذَا على التَّفْصِيل قد يتَعَذَّر أَو يتعسر فِي كثير من الْمَوَاضِع. أَلا ترى {أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما حكم سعد بن معَاذ فِي بني قُرَيْظَة فَحكم بقتل مُقَاتلَتهمْ، وبسبي ذَرَارِيهمْ وغنيمة أَمْوَالهم. قَالَ: لقد حكمت فيهم بِحكم الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 من فَوق سَبْعَة أَرقعَة} ". وَذَلِكَ أَن تَخْيِير ولي الْأَمر بَين الْقَتْل والاسترقاق، والمن وَالْفِدَاء لَيْسَ تَخْيِير شَهْوَة بل تَخْيِير رَأْي ومصلحة فَعَلَيهِ أَن يخْتَار الْأَصْلَح، فَإِن اخْتَار ذَلِك فقد وَافق حكم الله وَإِلَّا فَلَا. وَلما كَانَ هَذَا يخفى كثيرا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح لبريدة: " {إِذا حاصرت أهل حصن فسألوك أَن تنزلهم على حكم الله فَلَا تنزلهم على حكم الله فَإنَّك لَا تَدْرِي مَا حكم الله فيهم وَلَكِن أنزلهم على حكمك، وَحكم أَصْحَابك} ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وَالْحَاكِم الَّذِي ينزل أهل الْحصن على حكمه عَلَيْهِ أَن يحكم بِاجْتِهَادِهِ فَلَمَّا أَمر سَعْدا بِمَا هُوَ الأرضى لله والأحب إِلَيْهِ حكم بِحكمِهِ وَلَو حكم بِغَيْر ذَلِك لنفذ حكمه فَإِنَّهُ حكم بِاجْتِهَادِهِ وَإِن لم يكن ذَلِك هُوَ حكم الله فِي الْبَاطِن. حكم الإلهام فِي الشَّرِيعَة: فَفِي مثل هَذِه الْحَال الَّتِي لَا يتَبَيَّن الْأَمر الشَّرْعِيّ فِي الْوَاقِعَة الْمعينَة يَأْمر الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَأَمْثَاله من الشُّيُوخ: " تَارَة " بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأَمر الْبَاطِن والإلهام إِن أمكن ذَلِك و " تَارَة " بِالرُّجُوعِ إِلَى الْقدر الْمَحْض لتعذر الْأَسْبَاب المرجحة من جِهَة الشَّرْع كَمَا يرجح الشَّارِع بِالْقُرْعَةِ. فهم يأمرون أَلا يرجح بِمُجَرَّد إِرَادَته وهواه فَإِن هَذَا إِمَّا محرم وَإِمَّا مَكْرُوه وَإِمَّا منقص، فهم فِي هَذَا النَّهْي كنهيهم عَن فضول الْمُبَاحَات. ثمَّ إِن تبين لَهُم الْأَمر الشَّرْعِيّ وَجب التَّرْجِيح بِهِ وَإِلَّا رجحوا: إِمَّا " بِسَبَب بَاطِن " من الإلهام والذوق وَإِمَّا " بِالْقضَاءِ وَالْقدر " الَّذِي لَا يُضَاف إِلَيْهِم. وَمن يرجح فِي مثل هَذِه الْحَال " باستخارة الله " كَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم أَصْحَابه الاستخارة فِي الْأُمُور كلهَا كَمَا يعلمهُمْ السُّورَة من الْقُرْآن فقد أصَاب. وَهَذَا كَمَا أَنه إِذا تَعَارَضَت أَدِلَّة " الْمَسْأَلَة الشَّرْعِيَّة " عِنْد النَّاظر الْمُجْتَهد وَعند الْمُقَلّد المستفتي فَإِنَّهُ لَا يرجح شَيْئا. بل مَا جرى بِهِ الْقدر أَقروهُ وَلم ينكروه. وَتارَة يرجح أحدهم: إِمَّا بمنام وَإِمَّا بِرَأْي مشير نَاصح وَإِمَّا بِرُؤْيَة الْمصلحَة فِي أحد الْفِعْلَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وَأما التَّرْجِيح بِمُجَرَّد الِاخْتِيَار بِحَيْثُ إِذا تكافأت عِنْده الْأَدِلَّة يرجح بِمُجَرَّد إِرَادَته واختياره. فَهَذَا لَيْسَ قَول أحد من أَئِمَّة الْإِسْلَام وَإِنَّمَا هُوَ قَول طَائِفَة من أهل الْكَلَام وَلَكِن قَالَه طَائِفَة من الْفُقَهَاء فِي الْعَاميّ المستفتي: إِنَّه يُخَيّر بَين الْمُفْتِينَ الْمُخْتَلِفين. وَهَذَا كَمَا أَن طَائِفَة من السالكين إِذا اسْتَوَى عِنْده الْأَمْرَانِ فِي الشَّرِيعَة رجح بِمُجَرَّد ذوقه وإرادته فالترجيح بِمُجَرَّد الْإِرَادَة الَّتِي لَا تستند إِلَى أَمر علمي بَاطِن وَلَا ظَاهر لَا يَقُول بِهِ أحد من أَئِمَّة الْعلم والزهد. فأئمة الْفُقَهَاء والصوفية لَا يَقُولُونَ هَذَا. لَكِن من جوز لمجتهد أَو مقلد التَّرْجِيح بِمُجَرَّد اخْتِيَاره وإرادته فَهُوَ نَظِير من شرع للسالك التَّرْجِيح بِمُجَرَّد إِرَادَته وذوقه. لَكِن قد يُقَال: الْقلب الْمَعْمُور بالتقوى إِذا رجح بإرادته فَهُوَ تَرْجِيح شَرْعِي. وعَلى هَذَا التَّقْدِير لَيْسَ من هَذَا فَمن غلب على قلبه إِرَادَة مَا يُحِبهُ الله وبغض مَا يكرههُ إِذا لم يدر فِي الْأَمر الْمعِين هَل هُوَ مَحْبُوب لله أَو مَكْرُوه وَرَأى قلبه يُحِبهُ أَو يكرههُ كَانَ هَذَا تَرْجِيحا عِنْده. كَمَا لَو أخبرهُ من صدقه أغلب من كذبه فَإِن التَّرْجِيح بِخَبَر هَذَا عِنْد انسداد وُجُوه التَّرْجِيح تَرْجِيح بِدَلِيل شَرْعِي. فَفِي " الْجُمْلَة " مَتى حصل مَا يظنّ مَعَه أَن أحد الْأَمريْنِ أحب إِلَى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وَرَسُوله كَانَ هَذَا تَرْجِيحا بِدَلِيل شَرْعِي وَالَّذين أَنْكَرُوا كَون الإلهام طَرِيقا شَرْعِيًّا على الْإِطْلَاق أخطئوا كَمَا أَخطَأ الَّذين جَعَلُوهُ طَرِيقا شَرْعِيًّا على الْإِطْلَاق. وَلَكِن إِذا اجْتهد السالك فِي الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة الظَّاهِرَة فَلم ير فِيهَا تَرْجِيحا وألهم حِينَئِذٍ رُجْحَان أحد الْفِعْلَيْنِ مَعَ حسن قَصده وعمارته بالتقوى فإلهام مثل هَذَا دَلِيل فِي حَقه؛ قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة؛ وَالْأَحَادِيث الضعيفة والظواهر الضعيفة والاستصحابات الضعيفة الَّتِي يحْتَج بهَا كثير من الخائضين فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وأصول الْفِقْه. وَفِي التِّرْمِذِيّ عَن أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " {اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين} } ". وَقَالَ عمر بن الْخطاب: اقتربوا من أَفْوَاه المطيعين؛ واسمعوا مِنْهُم مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُ تتجلى لَهُم أُمُور صَادِقَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح قَول الله تَعَالَى: {وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِذا أحببته كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ وبصره الَّذِي يبصر بِهِ وَيَده الَّتِي يبطش بهَا وَرجله الَّتِي يمشي بهَا فَبِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي يبطش وَبِي يمشي} . وَفِي مثل هَذَا يُقَال حَدِيث وابصة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " الْبر مَا اطمأنت إِلَيْهِ النَّفس وَسكن إِلَيْهِ الْقلب، وَالْإِثْم مَا حاك فِي نَفسك، وَإِن أفتوك وأفتوك ". وَفِي صَحِيح مُسلم حَدِيث النواس بن سمْعَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " الْبر حسن الْخلق، وَالْإِثْم مَا حاك فِي نَفسك، وكرهت أَن يطلع عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 النَّاس ". وَقَالَ ابْن مَسْعُود: الْإِثْم حَوّاز الْقُلُوب. و (أَيْضا) فَالله - تَعَالَى - فطر عباده على الحنيفية: وَهِي حب الْمَعْرُوف وبغض الْمُنكر فَإِذا لم تستحل الْفطْرَة فالقلوب مفطورة على الْحق فَإِذا كَانَت الْفطْرَة مقومة بِحَقِيقَة الْإِيمَان منورة بِنور الْقُرْآن وخفي عَلَيْهَا دلَالَة الْأَدِلَّة السمعية الظَّاهِرَة وَرَأى قلبه يرجح أحد الْأَمريْنِ كَانَ هَذَا من أقوى الأمارات عِنْد مثله. وَذَلِكَ أَن الله علم الْقُرْآن وَالْإِيمَان. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب} ثمَّ قَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من عبادنَا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وَقَالَ جُنْدُب بن عبد الله، وَعبد الله بن عمر: تعلمنا الْإِيمَان ثمَّ تعلمنا الْقُرْآن فازددنا إِيمَانًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن حُذَيْفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " {إِن الْأَمَانَة نزلت فِي جذر قُلُوب الرِّجَال فَعَلمُوا من الْقُرْآن، وَعَلمُوا من السّنة} ". وَفِي التِّرْمِذِيّ - بِإِسْنَاد جيد - وَغَيره حَدِيث النواس بن سمْعَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " {ضرب الله مثلا صراطا مُسْتَقِيمًا، وعَلى جنبتي الصِّرَاط سوران، وَفِي السورين أَبْوَاب مفتّحة، وعَلى الْأَبْوَاب ستور مرخاة، وداع يَدْعُو على رَأس الصِّرَاط، وداع يَدْعُو من فَوق الصِّرَاط. فالصراط الْمُسْتَقيم هُوَ الْإِسْلَام، والستور حُدُود الله، والأبواب المفتّحة محارم الله، فَإِذا أَرَادَ العَبْد أَن يفتح بَابا من تِلْكَ الْأَبْوَاب ناداه الْمُنَادِي - أَو كَمَا قَالَ -: يَا عبد الله لَا تفتحه، فَإنَّك إِن تفتحه تلجه، والداعي على رَأس الصِّرَاط كتاب الله، والداعي فَوق الصِّرَاط واعظُ الله فِي قلب كل مُؤمن} ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 فقد بَين أَن فِي قلب كل مُؤمن واعظا، والواعظ الْأَمر وَالنَّهْي بترغيب وترهيب؛ فَهَذَا الْأَمر وَالنَّهْي الَّذِي يَقع فِي قلب الْمُؤمن مُطَابق لأمر الْقُرْآن وَنَهْيه وَلِهَذَا يقوى أَحدهمَا بِالْآخرِ. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " {مثل الْمُؤمن الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن كَمثل الأترجة رِيحهَا طيب وطعمها طيب، وَمثل الْمُؤمن الَّذِي لَا يقْرَأ الْقُرْآن كَمثل التمرة لَا ريح لَهَا وطعمها طيب، وَمثل الْمُنَافِق الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن مثل الريحانة رِيحهَا طيب وطعمها مر، وَمثل الْمُنَافِق الَّذِي لَا يقْرَأ الْقُرْآن كَمثل الحنظلة لَيْسَ لَهَا ريح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وطعمها مر} ". وَقد قَالَ بعض السّلف فِي قَوْله: {نور على نور} قَالَ: هُوَ الْمُؤمن ينْطق بالحكمة وَإِن لم يسمع فِيهَا بأثر، فَإِذا سمع بالأثر كَانَ نورا على نور. نور الْإِيمَان الَّذِي فِي قلبه يُطَابق نور الْقُرْآن، كَمَا أَن الْمِيزَان الْعقلِيّ يُطَابق الْكتاب الْمنزل؛ فَإِن الله أنزل الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ. والإلهام فِي الْقلب تَارَة يكون من جنس القَوْل وَالْعلم وَالظَّن والاعتقاد، وَتارَة يكون من جنس الْعَمَل وَالْحب والإرادة والطلب، فقد يَقع فِي قلبه أَن هَذَا القَوْل أرجح وَأظْهر وأصوب، وَقد يمِيل قلبه إِلَى أحد الْأَمريْنِ دون الآخر. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " {قد كَانَ فِي الْأُمَم قبلكُمْ محدَّثون فَإِن يكن فِي أمتِي أحد فعمر مِنْهُم} " والمحدَّث هُوَ الملهم الْمُخَاطب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 و (أَيْضا) فَإِذا كَانَت الْأُمُور الكونية قد تنكشف للْعَبد الْمُؤمن يَقِينا أَو ظنا فالأمور الدِّينِيَّة كَذَلِك بطرِيق الأولى فَإِنَّهُ إِلَى كشفها أحْوج لَكِن هَذَا فِي الْغَالِب لَا بُد أَن يكون كشفا بِدَلِيل وَقد يكون بِدَلِيل ينقدح فِي قلب الْمُؤمن وَلَا يُمكنهُ التَّعْبِير عَنهُ وَهَذَا أحد مَا فسر بِهِ معنى " الِاسْتِحْسَان ". وَقد قَالَ من طعن فِي ذَلِك - كَأبي حَامِد وَأبي مُحَمَّد -: مَا لَا يعبر عَنهُ فَهُوَ هوس وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كل أحد يُمكنهُ إبانة الْمعَانِي الْقَائِمَة بِقَلْبِه، وَكثير من النَّاس يبينها بَيَانا نَاقِصا وَكثير من أهل الْكَشْف يلقى فِي قلبه أَن هَذَا الطَّعَام حرَام أَو أَن هَذَا الرجل كَافِر أَو فَاسق من غير دَلِيل ظَاهر وَبِالْعَكْسِ قد يلقى فِي قلبه محبَّة شخص وَأَنه ولي لله أَو أَن هَذَا المَال حَلَال. وَلَيْسَ الْمَقْصُود هُنَا بَيَان أَن هَذَا وَحده دَلِيل على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة؛ لَكِن إِن مثل هَذَا يكون تَرْجِيحا لطَالب الْحق إِذا تكافأت عِنْده الْأَدِلَّة السمعية الظَّاهِرَة. فالترجيح بهَا خير من التَّسْوِيَة بَين الْأَمريْنِ المتناقضين قطعا فَإِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 التَّسْوِيَة بَينهمَا بَاطِلَة قطعا. كَمَا قُلْنَا: إِن الْعَمَل بِالظَّنِّ النَّاشِئ عَن ظَاهر أَو قِيَاس خير من الْعَمَل بنقيضه إِذا احْتِيجَ إِلَى الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا. وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ السّلف وَالْجُمْهُور أَنه لَا بُد فِي كل حَادِثَة من دَلِيل شَرْعِي فَلَا يجوز تكافؤ الْأَدِلَّة فِي نفس الْأَمر لَكِن قد تَتَكَافَأ عِنْد النَّاظر لعدم ظُهُور التَّرْجِيح لَهُ وَأما من قَالَ: أَنه لَيْسَ فِي نفس الْأَمر حق معِين بل كل مُجْتَهد عَالم بِالْحَقِّ الْبَاطِن فِي الْمَسْأَلَة وَلَيْسَ لأَحَدهمَا على الآخر مزية فِي علم وَلَا عمل فَهَؤُلَاءِ قد يجوزون أَو بَعضهم تكافؤ الْأَدِلَّة ويجعلون الْوَاجِب التَّخْيِير بَين الْقَوْلَيْنِ. وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ لَيْسَ على الظَّن دَلِيل فِي نفس الْأَمر؛ وَإِنَّمَا رُجْحَان أحد الْقَوْلَيْنِ هُوَ من بَاب الرجحان بالميل والإرادة كترجيح النَّفس الغضبية للانتقام وَالنَّفس الحليمة للعفو. وَهَذَا القَوْل خطأ؛ فَإِنَّهُ لَا بُد فِي نفس الْأَمر من حق معِين يُصِيبهُ الْمُسْتَدلّ تَارَة ويخطئه أُخْرَى. كالكعبة فِي حق من اشتبهت عَلَيْهِ الْقبْلَة والمجتهد إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى جِهَة وَسقط عَنهُ الْفَرْض بِالصَّلَاةِ إِلَيْهَا كالمجتهد إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى قَول فَعمل بِمُوجبِه كِلَاهُمَا مُطِيع لله وَهُوَ مُصِيب بِمَعْنى أَنه مُطِيع لله وَله أجر على ذَلِك؛ وَلَيْسَ مصيبا بِمَعْنى أَنه علم الْحق الْمعِين؛ فَإِن ذَلِك لَا يكون إِلَّا وَاحِدًا ومصيبه لَهُ أَجْرَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وَهَذَا فِي كشف الْأَنْوَاع الَّتِي يكون عَلَيْهَا دَلِيل شَرْعِي لَكِن قد يخفى على العَبْد. فَإِن الشَّارِع بَين (الْأَحْكَام الْكُلية) . وَأما (أَحْكَام المعينات) الَّتِي تسمى " تَنْقِيح المناط " مثل كَون الشَّخْص الْمعِين عدلا أَو فَاسِقًا ومؤمنا أَو منافقا أَو وليا لله أَو عدوا لَهُ وَكَون هَذَا الْمعِين عدوا للْمُسلمين يسْتَحق الْقَتْل، وَكَون هَذَا المَال يخَاف عَلَيْهِ من ظلم ظَالِم، فَإِذا زهد فِيهِ الظَّالِم انْتفع بِهِ أَهله. فَهَذِهِ الْأُمُور لَا يجب أَن تعلم بالأدلة الشَّرْعِيَّة الْعَامَّة الْكُلية بل تعلم بأدلة خَاصَّة تدل عَلَيْهَا. وَمن طرق ذَلِك " الإلهام " فقد يلهم الله بعض عباده حَال هَذَا المَال الْمعِين وَحَال هَذَا الشَّخْص الْمعِين وَإِن لم يكن هُنَاكَ دَلِيل ظَاهر يشركهُ فِيهِ غَيره. وقصة الْخضر مَعَ مُوسَى هِيَ من هَذَا الْبَاب لَيْسَ فِيهَا مُخَالفَة لشرع الله؛ فَإِنَّهُ لَا يجوز قطّ لأحد لَا نَبِي وَلَا ولي أَن يُخَالف شرع الله لَكِن فِيهَا علم حَال ذَاك الْمعِين بِسَبَب بَاطِن يُوجب فِيهِ الشَّرْع مَا فعله الْخضر، كمن دخل إِلَى دَار وَأخذ مَا فِيهَا من المَال لعلمه بِأَن صَاحبهَا أذن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 لَهُ وَغَيره لم يعلم، وَمثل من رأى ضَالَّة أَخذهَا وَلم يعرفهَا لعلمه بِأَنَّهُ أَتَى بهَا هَدِيَّة لَهُ وَنَحْو ذَلِك. وَمثل هَذَا كثير عِنْد أهل الإلهام الصَّحِيح. و (النَّوْع الثَّانِي) عكس هَذَا. وَهُوَ أَنهم يتبعُون هواهم لَا أَمر الله؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَفْعَلُونَ وَلَا يأمرون إِلَّا بِمَا يحبونه بهواهم وَلَا يتركون وَينْهَوْنَ إِلَّا عَن مَا يكرهونه بهواهم وَهَؤُلَاء شَرّ الْخلق. قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا} قَالَ الْحسن: هُوَ الْمُنَافِق لَا يهوى شَيْئا إِلَّا رَكبه. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: لَا تكن مِمَّن يتبع الْحق إِذا وَافق هَوَاهُ وَيُخَالِفهُ إِذا خَالف هَوَاهُ فَإِذا أَنْت لَا تثاب على مَا اتبعته من الْحق وتعاقب على مَا خالفته. وَهُوَ كَمَا قَالَ - رَضِي الله عَنهُ - لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِنَّمَا قصد اتِّبَاع هَوَاهُ لم يعْمل لله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 أَلا ترى أَن " أَبَا طَالب " نصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وذب عَنهُ أَكثر من غَيره؛ لَكِن فعل ذَلِك لأجل الْقَرَابَة لَا لأجل الله تَعَالَى فَلم يتَقَبَّل الله ذَلِك مِنْهُ وَلم يثبه على ذَلِك وَأَبُو بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أَعَانَهُ بِنَفسِهِ وَمَاله لله؛ فَقَالَ الله فِيهِ: {وسيجنبها الأتقى} {الَّذِي يُؤْتِي مَاله يتزكى} {وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى} {إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} {ولسوف يرضى} . (الْقسم الثَّالِث) : الَّذِي يُرِيد تَارَة إِرَادَة يُحِبهَا الله؛ وَتارَة إِرَادَة يبغضها الله. وَهَؤُلَاء أَكثر الْمُسلمين فَإِنَّهُم يطيعون الله تَارَة ويريدون مَا أحبه ويعصونه تَارَة فيريدون مَا يهوونه وَإِن كَانَ يكرههُ. و (الْقسم الرَّابِع) : أَن يَخْلُو عَن الإرادتين فَلَا يُرِيد لله وَلَا لهواه وَهَذَا يَقع لكثير من النَّاس فِي بعض الْأَشْيَاء وَيَقَع لكثير من الزهاد والنساك فِي كثير من الْأُمُور. وَأما خلو الْإِنْسَان من الْإِرَادَة مُطلقًا فممتنع فَإِنَّهُ مفطور على إِرَادَة مَا لَا بُد لَهُ مِنْهُ وعَلى كَرَاهَة مَا يضرّهُ ويؤذيه والزاهد الناسك إِذا كَانَ مُسلما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 فَلَا بُد أَن يُرِيد أَشْيَاء يُحِبهَا الله: مثل أَدَاء الْفَرَائِض، وَترك الْمَحَارِم؛ بل وَكَذَلِكَ عُمُوم الْمُؤمنِينَ لَا بُد أَن يُرِيد أحدهم أَشْيَاء يُحِبهَا الله وَإِلَّا فَمن لم يحب الله وَلَا أحب شَيْئا لله فَلم يحب شَيْئا من الطَّاعَات لَا الشَّهَادَتَيْنِ وَلَا غَيرهمَا، وَلَا يُرِيد ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يكون مُؤمنا. فَلَا بُد لكل مُؤمن من أَن تكون لَهُ إِرَادَة لبَعض مَا يُحِبهُ الله؛ وَأما إِرَادَة العَبْد لما يهواه وَلَا يُحِبهُ الله فَهَذَا لَازم لكل من عصى الله فَإِنَّهُ أَرَادَ الْمعْصِيَة وَالله لَا يُحِبهَا وَلَا يرضاها. وَأما الْخُلُو عَن الإرادتين المحمودة والمذمومة فَيَقَع على وَجْهَيْن: (أَحدهمَا) : مَعَ إِعْرَاض العَبْد عَن عبَادَة الله تَعَالَى وطاعته وَإِن علم بهَا فَإِنَّهُ قد يعلم كثيرا من الْأُمُور أَنه مَأْمُور بهَا وَهُوَ لَا يريدها وَلَا يكره من غَيره فعلهَا وَإِذا اقتتل الْمُسلمُونَ وَالْكفَّار لم يكن مرِيدا لانتصار هَؤُلَاءِ الَّذِي يُحِبهُ الله وَلَا لانتصار هَؤُلَاءِ الَّذِي يبغضه الله. و (الْوَجْه الثَّانِي) : يَقع من كثير من الزهاد الْعباد الممتثلين لما يعلمُونَ أَن الله أَمر بِهِ المجتنبين لما يعلمُونَ أَن الله نهى عَنهُ وَأُمُور أُخْرَى لَا يعلمُونَ أَنَّهَا مَأْمُور بهَا وَلَا مَنْهِيّ عَنْهَا فَلَا يريدونها وَلَا يكرهونها لعدم الْعلم وَقد يرضونها من جِهَة كَونهَا مخلوقة مقدرَة وَقد يعاونون عَلَيْهَا ويرون هَذَا مُوَافقَة لله وَأَنَّهُمْ لما خلوا عَن هوى النَّفس كَانُوا مأمورين بِالرِّضَا بِكُل حَادث؛ بل والمعاونة عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وَهَذَا مَوضِع يَقع فِيهِ الْغَلَط فَإِن مَا أحبه الله وَرَسُوله علينا أَن نحب مَا أحبه الله وَرَسُوله وَمَا أبغضه الله وَرَسُوله فعلينا أَن نبغض مَا أبغضه الله وَرَسُوله وَأما مَا لَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَلَا يبغضه الله وَرَسُوله كالأفعال الَّتِي لَا تَكْلِيف فِيهَا مثل أَفعَال النَّائِم وَالْمَجْنُون فَهَذَا إِذا كَانَ الله لَا يُحِبهَا ويرضاها وَلَا يكرهها ويذمها فالمؤمن أَيْضا لَا يَنْبَغِي أَن يُحِبهَا ويرضاها وَلَا يكرهها. الْمُؤمن وَالْقدر: وَأما كَونهَا مقدورة ومخلوقة لله فَذَاك لَا يخْتَص بهَا بل هُوَ شَامِل لجَمِيع الْمَخْلُوقَات وَالله تَعَالَى خلق مَا خلقه لما شَاءَ من حكمته وَقد أحسن كل شَيْء خلقه. وَالرِّضَا بِالْقضَاءِ " ثَلَاثَة أَقسَام ": (أَحدهَا) : الرِّضَا بالطاعات؛ فَهَذَا طَاعَة مَأْمُور بهَا. و (الثَّانِي) : الرِّضَا بالمصائب فَهَذَا مَأْمُور بهَا: إِمَّا مُسْتَحبّ وَإِمَّا وَاجِب. و (الثَّالِث) : الْكفْر والفسوق والعصيان، فَهَذَا لَا يُؤمر بِالرِّضَا بِهِ، بل يُؤمر ببغضه وَسخطه، فَإِن الله لَا يُحِبهُ وَلَا يرضاه. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ يبيتُونَ مَا لَا يرضى من القَوْل} ، وَقَالَ: {وَالله لَا يحب الْفساد} ، وَقَالَ: {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} ، وَقَالَ: {فَإِن الله لَا يحب الْكَافرين} ، وَقَالَ: {إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} ، وَقَالَ: {وَالله لَا يحب المفسدين} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وَهُوَ وَإِن خلقه لما لَهُ فِي ذَلِك من الْحِكْمَة فَلَا يمْتَنع أَن يخلق مَا لَا يُحِبهُ لإفضائه إِلَى الْحِكْمَة الَّتِي يُحِبهَا كَمَا خلق الشَّيَاطِين. فَنحْن راضون عَن الله فِي أَن يخلق مَا يَشَاء وَهُوَ مَحْمُود على ذَلِك. وَأما نفس هَذَا الْفِعْل المذموم وفاعله فَلَا نرضى بِهِ وَلَا نحمده. وَفرق بَين مَا يحب لنَفسِهِ وَمَا يُرَاد لإفضائه إِلَى المحبوب مَعَ كَونه مبغضا من جِهَة أُخْرَى؛ فَإِن الْأَمر الْوَاحِد يُرَاد من وَجه وَيكرهُ من وَجه آخر. كَالْمَرِيضِ الَّذِي يتَنَاوَل الدَّوَاء الكريه؛ فَإِنَّهُ يبغض الدَّوَاء ويكرهه وَهُوَ مَعَ هَذَا يُرِيد اسْتِعْمَاله لإفضائه إِلَى المحبوب لَا لِأَنَّهُ فِي نَفسه مَحْبُوب. وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح: " يَقُول الله تَعَالَى: وَمَا ترددت عَن شَيْء أَنا فَاعله ترددي عَن قبض نفس عَبدِي الْمُؤمن يكره الْمَوْت وأكره مساءته وَلَا بُد لَهُ مِنْهُ ". فَهُوَ سُبْحَانَهُ لما كره مساءة عَبده الْمُؤمن الَّذِي يكره الْمَوْت كَانَ هَذَا مقتضيا أَن يكره إماتته مَعَ أَنه يُرِيد إماتته؛ لما لَهُ فِي ذَلِك من الْحِكْمَة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فالأمور الَّتِي يبغضها الله تَعَالَى وَينْهى عَنْهَا لَا تحب وَلَا ترْضى؛ لَكِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 نرضى بِمَا يرضى الله بِهِ حَيْثُ خلقهَا لما لَهُ فِي ذَلِك من الْحِكْمَة فَكَذَلِك الْأَفْعَال الَّتِي لَا يُحِبهَا وَلَا يبغضها لَا يَنْبَغِي أَن تحب وَلَا ترْضى كَمَا لَا يَنْبَغِي أَن تبغض. وَالرِّضَا الثَّابِت بِالنَّصِّ هُوَ أَن يرضى بِاللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ نَبيا. وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " {من رَضِي بِاللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ نَبيا كَانَ حَقًا على الله أَن يرضيه} ". وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقدر فيرضى عَن الله إِذْ لَهُ الْحَمد على كل حَال ويرضى بِمَا يرضاه من الْحِكْمَة الَّتِي خلق لأَجلهَا مَا خلق وَإِن كُنَّا نبغض مَا يبغضه من الْمَخْلُوقَات فَحَيْثُ انْتَفَى الْأَمر الشَّرْعِيّ أَو خَفِي الْأَمر الشَّرْعِيّ لَا يكون الِامْتِثَال وَالرِّضَا والمحبة كَمَا يكون فِي الْأَمر الشَّرْعِيّ وَإِن كَانَ ذَلِك مَقْدُورًا. وَهَذَا مَوضِع يغلط فِيهِ كثير من خَاصَّة " السالكين " وشيوخهم فضلا عَن عامتهم ويتفاوتون فِي ذَلِك بِحَسب معرفتهم بِالْأَمر الشَّرْعِيّ وطاعتهم لَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 فَمنهمْ من هُوَ أعرف من غَيره بِالْأَمر الشَّرْعِيّ وأطوع لَهُ فَهَذَا تكون حَاله أحسن مِمَّن نقص عَنهُ فِي الْمعرفَة بِالْأَمر الشَّرْعِيّ وَالطَّاعَة لَهُ. وَمِنْهُم من يبعد عَن الْأَمر الشَّرْعِيّ ويسترسل حَتَّى يَنْسَلِخ من الْإِسْلَام بِالْكُلِّيَّةِ وَيبقى وَاقِفًا مَعَ هَوَاهُ وَالْقدر. وَمن هَؤُلَاءِ من يَمُوت كَافِرًا وَمِنْهُم من يَتُوب الله عَلَيْهِ وَمِنْهُم من يَمُوت فَاسِقًا وَمِنْهُم من يَتُوب الله عَلَيْهِ. وَهَؤُلَاء ينظرُونَ إِلَى الْحَقِيقَة الْقَدَرِيَّة معرضين عَن الْأَمر الشَّرْعِيّ وَلَا بُد مَعَ ذَلِك من اتِّبَاع أَمر وَنهي غير الْأَمر الشَّرْعِيّ إِمَّا من أنفسهم وَإِمَّا من غير الله وَرَسُوله إِذْ الاسترسال مَعَ الْقدر مُطلقًا مُمْتَنع لذاته لما تقدم من أَن العَبْد مفطور على محبَّة أَشْيَاء وبغض أَشْيَاء. وَقَول من قَالَ: " إِن العَبْد يكون مَعَ الله كالميت مَعَ الْغَاسِل " لَا يَصح وَلَا يسوغ على الْإِطْلَاق عِنْد أحد من الْمُسلمين وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِك فِي بعض الْمَوَاضِع؛ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا ذَلِك لخفاء أَمر الله عَلَيْهِ وَإِلَّا فَإِذا علم مَا أَمر الله بِهِ وأحبه. فَلَا بُد أَن يحب مَا أحبه الله وَيبغض مَا أبغضه الله. فصل وكما أَن الطَّرِيقَة العلمية بِصِحَّة النّظر فِي الْأَدِلَّة والأسباب هِيَ الْمُوجبَة للْعلم: كتدبر الْقُرْآن والْحَدِيث فالطريقة العملية بِصِحَّة الْإِرَادَة والأسباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 هِيَ الْمُوجبَة للْعَمَل، كعمارة الْبَاطِن بالمراقبة، وَالْخَوْف من الله على كل حَال، وَلِهَذَا يسمون السالك فِي ذَلِك " المريد " كَمَا يُسَمِّيه أُولَئِكَ " الطَّالِب ". و" النّظر " جنس تَحْتَهُ حق وباطل ومحمود ومذموم وَكَذَلِكَ " الْإِرَادَة " فَكَمَا أَن طَرِيق الْعلم لَا بُد فِيهِ من الْعلم النَّبَوِيّ الشَّرْعِيّ بِحَيْثُ يكون معلومك المعلومات الدِّينِيَّة النَّبَوِيَّة وَيكون علمك بهَا مطابقا لما أخْبرت بِهِ الرُّسُل وَإِلَّا فَلَا ينفعك أَي مَعْلُوم عَلمته وَلَا أَي شَيْء اعتقدته فِيمَا أخْبرت بِهِ الرُّسُل بل لَا بُد من الْإِيمَان بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر فَكَذَلِك " الْإِرَادَة " لَا بُد فِيهَا من تعْيين " المُرَاد " وَهُوَ الله و " الطَّرِيق إِلَيْهِ " وَهُوَ مَا أمرت بِهِ الرُّسُل. فَلَا بُد أَن تعبد الله، وَتَكون عبادتك إِيَّاه بِمَا شرع على أَلْسِنَة رسله إِذْ لَا بُد من تَصْدِيق الرَّسُول فِيمَا أخبر علما وَلَا بُد من طَاعَته فِيمَا أَمر عملا. وَلِهَذَا كَانَ " الْإِيمَان " قولا وَعَملا مَعَ مُوَافقَة السّنة فَعلم الْحق مَا وَافق علم الله، والإرادة الصَّالِحَة مَا وَافَقت محبَّة الله وَرضَاهُ وَهُوَ حكمه الشَّرْعِيّ وَالله عليم حَكِيم. فالأمور الخبرية لَا بُد أَن تطابق علم الله وَخَبره؛ والأمور العملية لَا بُد أَن تطابق حب الله وَأمره فَهَذَا حكمه وَذَاكَ علمه. وَأما من جعل حكمه مُجَرّد الْقدر كَمَا فعل صَاحب " منَازِل السائرين " وَجعل مُشَاهدَة الْعَارِف الحكم يمنعهُ أَن يستحسن حَسَنَة أَو يستقبح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 سَيِّئَة فَهَذَا فِيهِ من الْغَلَط الْعَظِيم مَا قد نبهنا عَلَيْهِ فِي غير هَذَا الْموضع. فَلَا ينفع المريد القاصد أَن يعبد أَي معبود كَانَ وَلَا أَن يعبد الله بِأَيّ عبَادَة كَانَت بل هَذِه طَريقَة الْمُشْركين المبتدعين الَّذين لَهُم شُرَكَاء شرعوا لَهُم من الدَّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله كالنصارى وَمن أشبههم من أهل الْبدع الَّذين يعْبدُونَ غير الله بِغَيْر أَمر الله. وَأما أهل الْإِسْلَام وَالسّنة فهم يعْبدُونَ الله وَحده ويعبدونه بِمَا شرع. لَا يعبدونه بالبدع إِلَّا مَا يَقع من أحدهم خطأ. فالسالكون طَرِيق الْإِرَادَة قد يغلطون تَارَة فِي المُرَاد؛ وَتارَة فِي الطَّرِيق إِلَيْهِ وَتارَة يتألهون غير الله بالخوف مِنْهُ والرجاء لَهُ والتعظيم والمحبة لَهُ وسؤاله وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ فَهَذَا حَقِيقَة الشّرك الْمحرم فَإِن حَقِيقَة التَّوْحِيد أَن لَا يعبد إِلَّا الله. و" الْعِبَادَة " تَتَضَمَّن كَمَال الْحبّ وَكَمَال التَّعْظِيم، وَكَمَال الرَّجَاء والخشية والإجلال وَالْإِكْرَام. و " الفناء " فِي هَذَا التَّوْحِيد هُوَ فنَاء الْمُرْسلين وأتباعهم وَهُوَ أَن تفنى بِعِبَادَتِهِ عَن عبَادَة مَا سواهُ وبطاعته عَن طَاعَة مَا سواهُ وبسؤاله عَن سُؤال مَا سواهُ وبخوفه عَن خوف مَا سواهُ وبرجائه عَن رَجَاء مَا سواهُ، وبحبه وَالْحب فِيهِ عَن محبَّة مَا سواهُ وَالْحب فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وَأما الغالطون فِي الطَّرِيق فقد يُرِيدُونَ الله؛ لَكِن لَا يتبعُون الْأَمر الشَّرْعِيّ فِي إِرَادَته. لَكِن " تَارَة " يعبده أحدهم بِمَا يَظُنّهُ يرضيه وَلَا يكون كَذَلِك. و " تَارَة " ينظرُونَ إِلَى الْقدر لكَونه مُرَاده فيفنون فِي الْقدر الَّذِي لَيْسَ لَهُم فِيهِ غَرَض وَأما الفناء الْمُطلق فِيهِ فممتنع. وَهَؤُلَاء يبْقى أحدهم مُتبعا لذوقه ووجده الْمُخَالف لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيّ أَو نَاظرا إِلَى الْقدر. وَهَذَا يبتلى بِهِ كثير من خواصهم. و" الشَّيْخ عبد الْقَادِر " وَنَحْوه من أعظم مَشَايِخ زمانهم، أَمر بِالْتِزَام الشَّرْع: الْأَمر وَالنَّهْي، وتقديمه على الذَّوْق وَالْقدر، وَمن أعظم الْمَشَايِخ أمرا بترك الْهوى والإرادة النفسية. فَإِن الْخَطَأ فِي الْإِرَادَة من حَيْثُ هِيَ إِرَادَة إِنَّمَا تقع من هَذِه الْجِهَة. فَهُوَ يَأْمر السالك أَلا تكون لَهُ إِرَادَة من جِهَة هَوَاهُ أصلا؛ بل يُرِيد مَا يُريدهُ الرب عز وَجل: إِمَّا إِرَادَة شَرْعِيَّة أَن تبين لَهُ ذَلِك؛ وَإِلَّا جرى مَعَ الْإِرَادَة الْقَدَرِيَّة فَهُوَ إِمَّا مَعَ أَمر الرب، وَإِمَّا مَعَ خلقه وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخلق وَالْأَمر. وَهَذِه " طَريقَة شريفة صَحِيحَة " إِنَّمَا يخَاف على صَاحبهَا من ترك إِرَادَة شَرْعِيَّة لَا يعلم أَنَّهَا شَرْعِيَّة أَو من تَقْدِيم إِرَادَة قدرية على الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهُ إِذا لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 يعلم الشَّرْعِيَّة فقد يَتْرُكهَا وَقد يُرِيد ضدها فَيكون ترك مَأْمُورا أَو فعل مَحْظُورًا وَهُوَ لَا يعلم. فَإِن " طَريقَة الْإِرَادَة " يخَاف على صَاحبهَا من ضعف الْعلم؛ وَمَا يقْتَرن بِالْعلمِ من الْعَمَل والوقوع فِي الضلال كَمَا أَن طَريقَة الْعلم يخَاف على صَاحبهَا من ضعف الْعَمَل وَضعف الْعلم الَّذِي يقْتَرن بِالْعَمَلِ. لَكِن لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا من هَذَا وَهَذَا. قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} فَإِذا تفقه السالك وَتعلم الْأَمر وَالنَّهْي بِحَسب اجْتِهَاده وَكَانَ عمله وإرادته بِحَسب ذَاك فَهَذَا مستطاعه. وَإِذا أدّى الطَّالِب مَا أَمر بِهِ وَترك مَا نهي عَنهُ وَكَانَ علمه مطابقا لعمله فَهَذَا مستطاعه. فصل أَمر الجيلاني بالفناء عَن الْخلق والهوى والإرادة: قَالَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر: " افن عَن الْخلق بِحكم الله، وَعَن هَوَاك بأَمْره، وَعَن إرادتك بِفِعْلِهِ، فَحِينَئِذٍ تصلح أَن تكون وعَاء لعلم الله تَعَالَى ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 تَعْلِيق ابْن تَيْمِية: قلت: فَحكمه يتَنَاوَل خلقه وَأمره أَي: افن عَن عبَادَة الْخلق والتوكل عَلَيْهِم بِعبَادة الله والتوكل عَلَيْهِ فَلَا تطعهم فِي مَعْصِيّة الله تَعَالَى وَلَا تتَعَلَّق بهم فِي جلب مَنْفَعَة وَلَا دفع مضرَّة. وَأما الفناء عَن الْهوى بِالْأَمر وَعَن الْإِرَادَة بِالْفِعْلِ بِأَن يكون فعله مُوَافقا لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيّ لَا لهواه وَأَن تكون إِرَادَته لما يخلق تَابِعَة لفعل الله لَا لإِرَادَة نَفسه. فالإرادة تَارَة تتَعَلَّق بِفعل نَفسه وَتارَة بالمخلوقات. " فَالْأول " يكون بِالْأَمر و " الثَّانِي " لَا تكون لَهُ إِرَادَة. وَلَا بُد فِي هَذَا أَن يُقيد بِأَن لَا تكون لَهُ إِرَادَة لم يُؤمر بهَا وَإِلَّا فَإِذا أَمر بِأَن يُرِيد من المقدورات شَيْئا دون شَيْء فليرد مَا أَمر بإرادته سَوَاء كَانَ مُوَافقا للقدر أم لَا. وَهَذَا الْموضع قد يغلط فِيهِ طَائِفَة من السالكين وَالْغَالِب على الصَّادِقين مِنْهُم أَنهم لم يعرفوا الْإِرَادَة الشَّرْعِيَّة فِي ذَلِك الْمعِين وهم لَيْسَ لَهُم إِرَادَة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير الْمَقْدُور. كَلَام الجيلاني عَن عَلَامَات الفناء: قَالَ الشَّيْخ: " فعلامة فنائك عَن خلق الله انقطاعك عَنْهُم، وَعَن التَّرَدُّد إِلَيْهِم، واليأس مِمَّا فِي أَيْديهم ". تَعْلِيق ابْن تَيْمِية: وَهُوَ كَمَا قَالَ. فَإِذا كَانَ الْقلب لَا يرجوهم وَلَا يخافهم لم يتَرَدَّد إِلَيْهِم لطلب شَيْء مِنْهُم وَهَذَا يشبه بِمَا يكون مَأْمُورا بِهِ من الْمَشْي إِلَيْهِم لأمرهم بِمَا أَمر الله بِهِ ونهيهم عَمَّا نَهَاهُم الله عَنهُ كذهاب الرُّسُل وَأَتْبَاع الرُّسُل إِلَى من يبلغون رسالات الله فَإِن التَّوَكُّل إِنَّمَا يَصح مَعَ الْقيام بِمَا أَمر بِهِ العَبْد. ليَكُون عابدا لله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 متوكلا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَمن توكل عَلَيْهِ وَلم يفعل مَا أَمر بِهِ؛ فقد يكون مَا أضاعه من الْأَمر أولى بِهِ مِمَّا قَامَ بِهِ من التَّوَكُّل أَو مثله أَو دونه كَمَا أَن من قَامَ بِأَمْر وَلم يتوكل عَلَيْهِ وَلم يستعن بِهِ فَلم يقم بِالْوَاجِبِ؛ بل قد يكون مَا تَركه من التَّوَكُّل والاستعانة أولى بِهِ مِمَّا فعله من الْأَمر أَو مثله أَو دونه. تَابع كَلَام الجيلاني: قَالَ الشَّيْخ: " وعلامة فنائك عَنْك وَعَن هَوَاك: ترك التكسب، والتعلق بِالسَّبَبِ فِي جلب النَّفْع، وَدفع الضّر فَلَا تتحرك فِيك بك، وَلَا تعتمد عَلَيْك لَك وَلَا تنصر نَفسك وَلَا تذب عَنْك لَكِن تكل ذَلِك كُله إِلَى من تولاه أَولا فيتولاه آخرا. كَمَا كَانَ ذَلِك موكولا إِلَيْهِ فِي حَال كونك مغيبا فِي الرَّحِم وكونك رضيعا طفْلا فِي مهدك ". تَعْلِيق ابْن تَيْمِية: قلت: وَهَذَا لِأَن النَّفس تهوى وجود مَا تحبه وينفعها، وَدفع مَا تبْغضهُ ويضرها فَإِذا فني عَن ذَاك بِالْأَمر فعل مَا يُحِبهُ الله، وَترك مَا يبغضه الله فاعتاض بِفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 مَحْبُوب الله عَن محبوبه وبترك مَا يبغضه الله عَمَّا يبغضه، وَحِينَئِذٍ فَالنَّفْس لَا بُد لَهَا من جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة فَيكون فِي ذَلِك متوكلا على الله. و" الشَّيْخ رَحمَه الله " ذكر هُنَا التَّوَكُّل دون الطَّاعَة؛ لِأَن النَّفس لَا بُد لَهَا من جلب الْمَنْفَعَة، وَدفع الْمضرَّة فَإِن لم تكن متوكلة على الله فِي ذَلِك واثقة بِهِ لم يُمكن أَن تَنْصَرِف عَن ذَلِك فتمتثل الْأَمر مُطلقًا؛ بل لَا بُد أَن تَعْصِي الْأَمر فِي جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة فَلَا تصح الْعِبَادَة لله، وَطَاعَة أمره بِدُونِ التَّوَكُّل عَلَيْهِ كَمَا أَن التَّوَكُّل عَلَيْهِ لَا يَصح بِدُونِ عِبَادَته وطاعته. قَالَ تَعَالَى: {فاعبده وتوكل عَلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا} {وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا} {رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا} . و (الْمَقْصُود) أَن امْتِثَال الْأَمر على الْإِطْلَاق لَا يَصح بِدُونِ التَّوَكُّل والاستعانة وَمن كَانَ واثقا بِاللَّه أَن يجلب لَهُ مَا يَنْفَعهُ وَيدْفَع عَنهُ مَا يضرّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 أمكن أَن يدع هَوَاهُ ويطيع أَمر مَوْلَاهُ وَإِلَّا فنفسه لَا تَدعه يتْرك مَا يَقُول إِنَّه مُحْتَاج فِيهِ إِلَى غَيره. كَلَام آخر للجيلاني عَن عَلامَة فنَاء إِرَادَة العَبْد: قَالَ الشَّيْخ: " وعلامة فنَاء إرادتك بِفعل الله أَنَّك لَا تُرِيدُ مرَادا قطّ فَلَا يكن لَك غَرَض وَلَا تقف لَك حَاجَة وَلَا مرام؛ لِأَنَّك لَا تُرِيدُ مَعَ إِرَادَة الله سواهَا بل يجْرِي فعله فِيك فَتكون أَنْت إِرَادَة الله تَعَالَى وَفعله، سَاكن الْجَوَارِح، مطمئن الْجنان، مشروح الصَّدْر، منور الْوَجْه، عَامر الْبَاطِن، غَنِيا عَن الْأَشْيَاء بخالقها تقلبك يَد الْقُدْرَة، ويدعوك لِسَان الْأَزَل، ويعلمك رب الْملَل ويكسوك نورا مِنْهُ وَالْحلَل، وينزلك منَازِل من سلف من أولي الْعلم الأول فَتكون منكسرا أبدا، فَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 تثبت فِيك شَهْوَة وَلَا إِرَادَة، كالإناء الْمُتَثَلِّم الَّذِي لَا يثبت فِيهِ مَائِع وَلَا كدر، فتنبو عَن أَخْلَاق البشرية فَلَنْ يقبل باطنك شَيْئا غير إِرَادَة الله تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ يُضَاف إِلَيْك التكوين وخرق الْعَادَات، فَيرى ذَلِك مِنْك فِي ظَاهر الْفِعْل وَالْحكم وَهُوَ فعل الله تبَارك وَتَعَالَى حَقًا فِي الْعلم، فَتدخل حِينَئِذٍ فِي زمرة المنكسرة قُلُوبهم الَّذين كسرت إرادتهم البشرية، وأزيلت شهواتهم الطبيعية، واستؤنفت لَهُم إرادات ربانية وشهوات إضافية. كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " حبب إِلَيّ من دنياكم ثَلَاث: النِّسَاء وَالطّيب وَجعلت قُرَّة عَيْني فِي الصَّلَاة " فأضيف ذَلِك إِلَيْهِ بعد أَن خرج مِنْهُ وَزَالَ عَنهُ، تَحْقِيقا لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 أَشرت إِلَيْهِ وَتقدم، قَالَ الله تَعَالَى: " {أَنا عِنْد المنكسرة قُلُوبهم من أَجلي} " وسَاق كَلَامه. وَفِيه: " {وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل} " الحَدِيث. تَعْلِيق ابْن تَيْمِية: قلت: هَذَا الْمقَام هُوَ آخر مَا يُشِير إِلَيْهِ الشَّيْخ عبد الْقَادِر. وَحَقِيقَته أَنه لَا يُرِيد كَون شَيْء إِلَّا أَن يكون مَأْمُورا بإرادته فَقَوله: عَلامَة فنَاء إرادتك بِفعل الله أَنَّك لَا تُرِيدُ مرَادا قطّ. أَي لَا تُرِيدُ مرَادا لم تُؤمر بإرادته فَأَما مَا أَمرك الله وَرَسُوله بإرادتك إِيَّاه فإرادته إِمَّا وَاجِب وَإِمَّا مُسْتَحبّ وَترك إِرَادَة هَذَا إِمَّا مَعْصِيّة وَإِمَّا نقص. وَهَذَا الْموضع يلتبس على كثير من السالكين، فيظنون أَن الطَّرِيقَة الْكَامِلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 أَلا يكون للْعَبد إِرَادَة أصلا وَأَن قَول أبي يزِيد: " أُرِيد أَلا أُرِيد " - لما قيل لَهُ: مَاذَا تُرِيدُ؟ - نقص وتناقض؛ لِأَنَّهُ قد أَرَادَ، ويحملون كَلَام الْمَشَايِخ الَّذين يمدحون بترك الْإِرَادَة على ترك الْإِرَادَة مُطلقًا. وَهَذَا غلط مِنْهُم على الشُّيُوخ المستقيمين وَإِن كَانَ من الشُّيُوخ من يَأْمر بترك الْإِرَادَة مُطلقًا فَإِن هَذَا غلط مِمَّن قَالَه فَإِن ذَلِك لَيْسَ بمقدور وَلَا مَأْمُور. فَإِن الْحَيّ لَا بُد لَهُ من إِرَادَة، فَلَا يكون حَيّ من النَّاس إِلَّا أَن تكون لَهُ إِرَادَة. وَأما الْأَمر فَإِن الْإِرَادَة الَّتِي يُحِبهَا الله وَرَسُوله، وَيَأْمُر بهَا أَمر إِيجَاب أَو أَمر اسْتِحْبَاب، لَا يَدعهَا إِلَّا كَافِر أَو فَاسق أَو عَاص إِن كَانَت وَاجِبَة، وَإِن كَانَت مُسْتَحبَّة كَانَ تاركها تَارِكًا لما هُوَ خير لَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وَالله تَعَالَى قد وصف الْأَنْبِيَاء وَالصديقين بِهَذِهِ " الْإِرَادَة " فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى} {إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله لَا نُرِيد مِنْكُم جَزَاء وَلَا شكُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن كنتن تردن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة فَإِن الله أعد للمحسنات مِنْكُن أجرا عَظِيما} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمن أَرَادَ الْآخِرَة وسعى لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك كَانَ سَعْيهمْ مشكورا} وَقَالَ تَعَالَى: {فاعبد الله مخلصا لَهُ الدَّين} {أَلا لله الدَّين الْخَالِص} وَقَالَ تَعَالَى: {قل الله أعبد مخلصا لَهُ ديني} وَقَالَ تَعَالَى: {واعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} . وَلَا عبَادَة إِلَّا بِإِرَادَة الله وَلما أَمر بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {بلَى من أسلم وَجهه لله وَهُوَ محسن} أَي أخْلص قَصده لله. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدَّين} وإخلاص الدَّين لَهُ هُوَ إِرَادَته وَحده بِالْعبَادَة. وَقَالَ تَعَالَى: {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} وَقَالَ تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} . وكل محب فَهُوَ مُرِيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وَقَالَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام {لَا أحب الآفلين} ثمَّ قَالَ: {إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} . وَمثل هَذَا كثير فِي الْقُرْآن؛ يَأْمر الله بإرادته وَإِرَادَة مَا يَأْمر بِهِ وَينْهى عَن إِرَادَة غَيره وَإِرَادَة مَا نهى عَنهُ وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا أَو امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ} ". فهما " إرادتان ": إِرَادَة يُحِبهَا الله ويرضاها وَإِرَادَة لَا يُحِبهَا وَلَا يرضاها بل إِمَّا نهى عَنْهَا وَإِمَّا لم يَأْمر بهَا وَلَا ينْهَى عَنْهَا. وَالنَّاس فِي الْإِرَادَة " ثَلَاثَة أَقسَام ": قوم يُرِيدُونَ مَا يهوونه فَهَؤُلَاءِ عبيد أنفسهم والشيطان. وَقوم يَزْعمُونَ أَنهم فرغوا من الْإِرَادَة مُطلقًا وَلم يبْق لَهُم مُرَاد إِلَّا مَا يقدره الرب وَأَن هَذَا الْمقَام هُوَ أكمل المقامات. ويزعمون أَن من قَامَ بِهَذَا فقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَهِي الْحَقِيقَة الْقَدَرِيَّة الكونية؛ وَأَنه شهد القيومية الْعَامَّة ويجعلون الفناء فِي شُهُود تَوْحِيد الربوبية هُوَ الْغَايَة؛ وَقد يسمون هَذَا: الْجمع والفناء والاصطلام وَنَحْو ذَلِك. وَكثير من الشُّيُوخ زلقوا فِي هَذَا الْموضع. وَفِي " هَذَا الْمقَام " كَانَ النزاع بَين الْجُنَيْد بن مُحَمَّد وَبَين طَائِفَة من أَصْحَابه الصُّوفِيَّة؛ فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على شُهُود تَوْحِيد الربوبية وَأَن الله خَالق كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 شَيْء وربه ومليكه وَهُوَ شُهُود الْقدر؛ وَسموا هَذَا " مقَام الْجمع " فَإِنَّهُ خرج بِهِ عَن الْفرق الأول وَهُوَ الْفرق الطبيعي بِإِرَادَة هَذَا وَكَرَاهَة هَذَا، ورؤية فعل هَذَا وَترك هَذَا فَإِن الْإِنْسَان قبل أَن يشْهد هَذَا التَّوْحِيد يرى لِلْخلقِ فعلا يتفرق بِهِ قلبه فِي شُهُود أَفعَال الْمَخْلُوقَات؛ وَيكون مُتبعا لهواه فِيمَا يُريدهُ فَإِذا أَرَادَ الْحق خرج بإرادته عَن إِرَادَة الْهوى والطبع ثمَّ يشْهد أَنه خَالق كل شَيْء فَخرج بِشُهُود هَذَا الْجمع عَن ذَاك الْفرق فَلَمَّا اتَّفقُوا على هَذَا ذكر لَهُم الْجُنَيْد بن مُحَمَّد " الْفرق الثَّانِي " وَهُوَ بعد هَذَا الْجمع وَهُوَ الْفرق الشَّرْعِيّ. أَلا ترى أَنَّك تُرِيدُ مَا أمرت بِهِ وَلَا تُرِيدُ مَا نهيت عَنهُ وَتشهد أَن الله هُوَ يسْتَحق الْعِبَادَة دون مَا سواهُ وَأَن عِبَادَته هِيَ بِطَاعَة رسله فَتفرق بَين الْمَأْمُور والمحظور وَبَين أوليائه وأعدائه، وَتشهد تَوْحِيد الألوهية؟ فنازعوه فِي هَذَا " الْفرق " مِنْهُم من أنكرهُ. و (مِنْهُم من لم يفهمهُ. وَمِنْهُم من ادّعى أَن الْمُتَكَلّم فِيهِ لم يصل إِلَيْهِ. ثمَّ إِنَّك تَجِد كثيرا من الشُّيُوخ إِنَّمَا يَنْتَهِي إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 ذَلِك الْجمع وَهُوَ " تَوْحِيد الربوبية " والفناء فِيهِ. كَمَا فِي كَلَام صَاحب " منَازِل السائرين " مَعَ جلالة قدره مَعَ أَنه قطعا كَانَ قَائِما بِالْأَمر وَالنَّهْي المعروفين. لَكِن قد يدعونَ أَن هَذَا لأجل الْعَامَّة. و (مِنْهُم من يتناقض) . و (مِنْهُم من يَقُول: الْوُقُوف مَعَ الْأَمر لأجل مصلحَة الْعَامَّة) وَقد يعبر عَنْهُم بِأَهْل المارستان. و (مِنْهُم من يُسَمِّي ذَلِك مقَام التلبيس) . وَمِنْهُم من يَقُول: إِنَّمَا التَّكْلِيف على الْإِنْسَان مادام عبدا، فَإِذا ترقّى من منزلَة الْعُبُودِيَّة [إِلَى منزلَة] الْحُرِّيَّة سقط عَنهُ التَّكْلِيف، فَلَا يبْقى عَلَيْهِ تَكْلِيف، لِأَن الْحر لَا تَكْلِيف عَلَيْهِ لأحد. و (مِنْهُم من يَقُول: التَّحْقِيق أَن يكون الْجمع فِي قَلْبك مشهودا وَالْفرق على لسَانك مَوْجُودا) فَيشْهد بِقَلْبِه اسْتِوَاء الْمَأْمُور والمحظور مَعَ تفريقه بِلِسَانِهِ بَينهمَا. و (مِنْهُم من يرى أَن هَذِه هِيَ الْحَقِيقَة الَّتِي هِيَ مُنْتَهى سلوك العارفين وَغَايَة منَازِل الْأَوْلِيَاء الصديقين) . و (مِنْهُم من يظنّ أَن الْوُقُوف مَعَ إِرَادَة الْأَمر وَالنَّهْي يكون فِي السلوك والبداية وَأما فِي النِّهَايَة فَلَا تبقى إِلَّا إِرَادَة الْقدر) وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة قَول بِسُقُوط الْعِبَادَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وَالطَّاعَة؛ فَإِن الْعِبَادَة لله وَالطَّاعَة لَهُ وَلِرَسُولِهِ إِنَّمَا تكون فِي امْتِثَال الْأَمر الشَّرْعِيّ لَا فِي الجري مَعَ الْمَقْدُور وَإِن كَانَ كفرا وفسوقا وعصيانا. وَمن هُنَا صَار كثير من السالكين من أعوان الْكفَّار والفجار وخفرائهم حَيْثُ شهدُوا الْقدر مَعَهم؛ وَلم يشْهدُوا الْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين. وَمن هَؤُلَاءِ من يَقُول: من شهد الْقدر سقط عَنهُ الملام. وَيَقُول: إِن الْخضر إِنَّمَا سقط عَنهُ الملام لما شهد الْقدر. وَأَصْحَاب شُهُود الْقدر قد يُؤْتى أحدهم ملكا من جِهَة خرق الْعَادة بالكشف وَالتَّصَرُّف فيظن ذَلِك كمالا فِي الْولَايَة؛ وَتَكون تِلْكَ " الخوارق " إِنَّمَا حصلت بِأَسْبَاب شيطانية وَأَهْوَاء نفسانية؛ وَإِنَّمَا الْكَمَال فِي الْولَايَة أَن يسْتَعْمل خرق الْعَادَات فِي إِقَامَة الْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين مَعَ حصولهما بِفعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور فَإِذا حصلت بِغَيْر الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة فَهِيَ مذمومة وَإِن حصلت بالأسباب الشَّرْعِيَّة لَكِن اسْتعْملت ليتوصل بهَا إِلَى محرم كَانَت مذمومة وَإِن توصل بهَا إِلَى مُبَاح لَا يستعان بهَا على طَاعَة كَانَت للأبرار دون المقربين وَأما إِن حصلت بِالسَّبَبِ الشَّرْعِيّ واستعين بهَا على فعل الْأَمر الشَّرْعِيّ: فَهَذِهِ خوارق المقربين السَّابِقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 فَلَا بُد أَن ينظر فِي " الخوارق " فِي أَسبَابهَا وغاياتها: من أَيْن حصلت وَإِلَى مَاذَا أوصلت - كَمَا ينظر فِي الْأَمْوَال فِي مستخرجها ومصروفها - وَمن استعملها - أَعنِي الخوارق - فِي إِرَادَته الطبيعية كَانَ مذموما. وَمن كَانَ خَالِيا عَن الإرادتين الطبيعية والشرعية فَهَذَا حَسبه أَن يُعْفَى عَنهُ لكَونه لم يعرف الْإِرَادَة الشَّرْعِيَّة. وَأما إِن عرفهَا وَأعْرض عَنْهَا فَإِنَّهُ يكون مذموما مُسْتَحقّا للعقاب إِن لم يعف عَنهُ وَهُوَ يمدح بِكَوْن إِرَادَته لَيست بهواه؛ لَكِن يجب مَعَ ذَلِك أَن تكون مُوَافقَة لأمر الله وَرَسُوله لَا يَكْفِيهِ أَن تكون لَا من هَذَا وَلَا من هَذَا مَعَ أَنه لَا يُمكن خلوه عَن الْإِرَادَة مُطلقًا بل لَا بُد لَهُ من إِرَادَة فَإِن لم يرد مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله أَرَادَ مَا لَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله؛ لَكِن إِذا جَاهد نَفسه على ترك مَا يهواه بَقِي مرِيدا لما يظنّ أَنه مَأْمُور بِهِ فَيكون ضَالًّا. فَإِن هَذَا يشبه حَال الضَّالّين من النَّصَارَى. وَقد قَالَ تَعَالَى: {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} {صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {الْيَهُود مغضوب عَلَيْهِم وَالنَّصَارَى ضالون} ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 فاليهود لَهُم إرادات فَاسِدَة مَنْهِيّ عَنْهَا كَمَا أخبر عَنْهُم: بِأَنَّهُم عصوا وَكَانُوا يعتدون. وهم يعْرفُونَ الْحق وَلَا يعْملُونَ بِهِ فَلهم علم لَكِن لَيْسَ لَهُم عمل بِالْعلمِ وهم فِي الْإِرَادَة المذمومة الْمُحرمَة يتبعُون أهواءهم لَيْسُوا فِي الْإِرَادَة المحمودة الْمَأْمُور بهَا وَهِي إِرَادَة مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله. وَالنَّصَارَى لَهُم قصد وَعبادَة وزهد لكِنهمْ ضلال يعْملُونَ بِغَيْر علم فَلَا يعْرفُونَ الْإِرَادَة الَّتِي يُحِبهَا الله وَرَسُوله بل غَايَة أحدهم تَجْرِيد نَفسه عَن الإرادات فَلَا يبْقى مرِيدا لما أَمر الله بِهِ وَرَسُوله كَمَا لَا يُرِيد كثيرا مِمَّا نهى الله عَنهُ وَرَسُوله. وَهَؤُلَاء ضالون عَن مقصودهم فَإِن مقصودهم إِنَّمَا هُوَ فِي طَاعَة الله وَرَسُوله وَلِهَذَا كَانُوا ملعونين: أَي بعيدين عَن الرَّحْمَة الَّتِي تنَال بِطَاعَة الله عز وَجل. و" الْعَالم الْفَاجِر " يشبه الْيَهُود. و " العابد الْجَاهِل " يشبه النَّصَارَى. وَمن أهل الْعلم من فِيهِ شَيْء من الأول وَمن أهل الْعِبَادَة من فِيهِ شَيْء من الثَّانِي. وَهَذَا الْموضع تفرق فِيهِ بَنو آدم وتباينوا تباينا عَظِيما لَا يُحِيط بِهِ إِلَّا الله. ففيهم من لم يخلق الله خلقا أكْرم عَلَيْهِ مِنْهُ وَهُوَ خير الْبَريَّة. وَمِنْهُم من هُوَ شَرّ الْبَريَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وَأفضل الْأَحْوَال فِيهِ حَال الخليلين: إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد - صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم - وَمُحَمّد سيد ولد آدم وَأفضل الْأَوَّلين والآخرين، وَخَاتم النَّبِيين وإمامهم إِذا اجْتَمعُوا، وخطيبهم إِذا وفدوا وَهُوَ المعروج بِهِ إِلَى مَا فَوق الْأَنْبِيَاء كلهم - إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَغَيرهمَا. وَأفضل الْأَنْبِيَاء بعده " إِبْرَاهِيم " كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {أَن إِبْرَاهِيم خير الْبَريَّة} ". وَقد ثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول فِي خطْبَة يَوْم الْجُمُعَة: " {خير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} ". وَكَذَلِكَ كَانَ عبد الله بن مَسْعُود يخْطب بذلك يَوْم الْخَمِيس كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " {مَا ضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَادِمًا لَهُ وَلَا امْرَأَة وَلَا دَابَّة وَلَا شَيْئا قطّ إِلَّا أَن يُجَاهد فِي سَبِيل الله وَمَا نيل مِنْهُ قطّ شَيْء فانتقم لنَفسِهِ إِلَّا أَن تنتهك محارم الله فَإِذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شَيْء حَتَّى ينْتَقم لله} ". {وَقَالَ أنس: خدمت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشر سِنِين فَمَا قَالَ لي: أُفٍّ قطّ وَمَا قَالَ لي لشَيْء فعلته لم فعلته؟ وَلَا لشَيْء لم أَفعلهُ لم لَا فعلته؟ وَكَانَ بعض أَهله إِذا عتبني على شَيْء قَالَ: دَعوه فَلَو قضي شَيْء لَكَانَ} ". وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أفضل الْخَلَائق وَسيد ولد آدم وَله الْوَسِيلَة فِي المقامات كلهَا وَلم يكن حَاله أَنه لَا يُرِيد شَيْئا وَلَا أَنه يُرِيد كل وَاقع كَمَا أَنه لم يكن حَاله أَنه يتبع الْهوى بل هُوَ منزه عَن هَذَا وَهَذَا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ} وَقَالَ: {وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا} وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} . وَالْمرَاد بِعَبْدِهِ عابده الْمُطِيع لأَمره؛ وَإِلَّا فَجَمِيع المخلوقين عباد بِمَعْنى أَنهم معبدون مخلوقون مدبرون. وَقد قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه: {واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ لم يَجْعَل الله لعمل الْمُؤمن أَََجَلًا دون الْمَوْت. وَقد قَالَ الله تَعَالَى لَهُ: {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} قَالَ ابْن عَبَّاس وَمن وَافقه كَابْن عُيَيْنَة وَأحمد بن حَنْبَل: على دين عَظِيم. و " الدَّين " فعل مَا أَمر بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وَقَالَت عَائِشَة: {كَانَ خلقه الْقُرْآن} " رَوَاهُ مُسلم. وَقد أخْبرت أَنه لم يكن يُعَاقب لنَفسِهِ وَلَا ينْتَقم لنَفسِهِ لَكِن يُعَاقب لله وينتقم لله وَكَذَلِكَ أخبر أنس أَنه كَانَ يعْفُو عَن حظوظه. وَأما حُدُود الله فقد قَالَ: " {وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا} " أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَهَذَا هُوَ كَمَال الْإِرَادَة؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ مَا يُحِبهُ الله ويرضاه من الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح وَأمر بذلك وَكره مَا يبغضه الله من الْكفْر والفسوق والعصيان وَنهى عَن ذَلِك كَمَا وَصفه الله تَعَالَى بقوله: {ورحمتي وسعت كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَالَّذين هم بِآيَاتِنَا يُؤمنُونَ} {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ وعزروه ونصروه وَاتبعُوا النُّور الَّذِي أنزل مَعَه أُولَئِكَ هم المفلحون} . وَأما لحظ نَفسه فَلم يكن يُعَاقب وَلَا ينْتَقم بل يَسْتَوْفِي حق ربه، وَيَعْفُو عَن حَظّ نَفسه وَفِي حَظّ نَفسه ينظر إِلَى الْقدر. فَيَقُول: " {لَو قضي شَيْء لَكَانَ} " وَفِي حق الله يقوم بِالْأَمر فيفعل مَا أَمر الله بِهِ ويجاهد فِي سَبِيل الله أكمل الْجِهَاد الْمُمكن فجاهدهم أَولا بِلِسَانِهِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أنزل عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَو شِئْنَا لبعثنا فِي كل قَرْيَة نذيرا} {فَلَا تُطِع الْكَافرين وجاهدهم بِهِ جهادا كَبِيرا} . ثمَّ لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة وَأذن لَهُ فِي الْقِتَال جاهدهم بِيَدِهِ. وَهَذَا مُطَابق لما أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة وَهُوَ مَعْرُوف أَيْضا من حَدِيث عمر بن الْخطاب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث احتجاج آدم ومُوسَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 لما لَام مُوسَى آدم لكَونه أخرج نَفسه وَذريته من الْجنَّة بالذنب الَّذِي فعله فَأَجَابَهُ آدم بِأَن هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا عَليّ قبل أَن أخلق بِمدَّة طَوِيلَة قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {فحج آدم مُوسَى} ". وَذَلِكَ لِأَن ملام مُوسَى لآدَم لم يكن لحق الله وَإِنَّمَا كَانَ لما لحقه وَغَيره من الْآدَمِيّين من الْمُصِيبَة بِسَبَب ذَلِك الْفِعْل فَذكر لَهُ آدم أَن هَذَا كَانَ أمرا مُقَدرا لَا بُد من كَونه والمصائب الَّتِي تصيب الْعباد يؤمرون فِيهَا بِالصبرِ؛ فَإِن هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفَعهُمْ. وَأما لومهم لمن كَانَ سَببا فِيهَا فَلَا فَائِدَة لَهُم فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ مَا فاتهم من الْأُمُور الَّتِي تنفعهم يؤمرون فِي ذَلِك بِالنّظرِ إِلَى الْقدر وَأما التأسف والحزن فَلَا فَائِدَة فِيهِ فَمَا جرى بِهِ الْقدر من فَوت مَنْفَعَة لَهُم أَو حُصُول مضرَّة لَهُم فلينظروا فِي ذَلِك إِلَى الْقدر وَأما مَا كَانَ بِسَبَب أَعْمَالهم فليجتهدوا فِي التَّوْبَة من الْمَاضِي والإصلاح فِي الْمُسْتَقْبل. فَإِن هَذَا الْأَمر يَنْفَعهُمْ وَهُوَ مَقْدُور لَهُم بمعونة الله لَهُم. وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " {الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف وَفِي كل خير احرص على مَا ينفعك واستعن بِاللَّه وَلَا تعجز. وَإِن أَصَابَك شَيْء فَلَا تقل: لَو أَنِّي فعلت لَكَانَ كَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وَكَذَا؛ وَلَكِن قل: قدر الله وَمَا شَاءَ فعل؛ فَإِن لَو تفتح عمل الشَّيْطَان} ". أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحرص العَبْد على مَا يَنْفَعهُ والاستعانة بِاللَّه وَنَهَاهُ عَن الْعَجز وأنفع مَا للْعَبد طَاعَة الله وَرَسُوله وَهِي عبَادَة الله تَعَالَى. وَهَذَانِ الأصلان هما حَقِيقَة قَوْله تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَنَهَاهُ عَن الْعَجز وَهُوَ الإضاعة والتفريط والتواني. كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث الآخر: " {الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت وَالْعَاجِز من أتبع نَفسه هَواهَا وَتمنى على الله الْأَمَانِي} " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَفِي سنَن أبي دَاوُد: " {أَن رجلَيْنِ تحاكما إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى على أَحدهمَا. فَقَالَ الْمقْضِي عَلَيْهِ: حسبي الله وَنعم الْوَكِيل فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يلوم على الْعَجز وَلَكِن عَلَيْك بالكيس فَإِذا غلبك أَمر فَقل: حسبي الله وَنعم الْوَكِيل} " فالكيس ضد الْعَجز. وَفِي الحَدِيث: " {كل شَيْء بِقدر حَتَّى الْعَجز والكيس} " رَوَاهُ مُسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 وَلَيْسَ المُرَاد بِالْعَجزِ فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يضاد الْقُدْرَة؛ فَإِن من لَا قدرَة لَهُ بِحَال لَا يلام وَلَا يُؤمر بِمَا لَا يقدر عَلَيْهِ بِحَال. ثمَّ لما أمره بِالِاجْتِهَادِ والاستعانة بِاللَّه وَنَهَاهُ عَن الْعَجز أمره إِذا غَلبه أَمر أَن ينظر إِلَى الْقدر، وَيَقُول: قدر الله وَمَا شَاءَ فعل وَلَا يتحسر ويتلهف ويحزن. وَيَقُول: لَو أَنِّي فعلت كَذَا وَكَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَإِن لَو تفتح عمل الشَّيْطَان. وَقد قَالَ بعض النَّاس فِي هَذَا الْمَعْنى: الْأَمر أَمْرَانِ: أَمر فِيهِ حِيلَة وَأمر لَا حِيلَة فِيهِ. فَمَا فِيهِ حِيلَة لَا تعجز عَنهُ وَمَا لَا حِيلَة فِيهِ لَا تجزع مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يذكرهُ أَئِمَّة الدَّين. كَمَا ذكر (الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَغَيره. فَإِنَّهُ لَا بُد من فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور وَالرِّضَا أَو الصَّبْر على الْمَقْدُور. وَقد قَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن يُوسُف: {أَنا يُوسُف وَهَذَا أخي قد من الله علينا إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} " فالتقوى " تَتَضَمَّن فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور. و " الصَّبْر " يتَضَمَّن الصَّبْر على الْمَقْدُور. وَقد قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يألونكم خبالا} - إِلَى قَوْله - {وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 فَبين سُبْحَانَهُ أَنه مَعَ التَّقْوَى وَالصَّبْر لَا يضر الْمُؤمنِينَ كيد أعدائهم الْمُنَافِقين. وَقَالَ تَعَالَى: {بلَى إِن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين} فَبين أَنه مَعَ الصَّبْر وَالتَّقوى يمدهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ. وَيَنْصُرهُمْ على أعدائهم الَّذين يقاتلونهم. وَقَالَ تَعَالَى: {لتبلون فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا وَإِن تصبروا وتتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} فَأخْبرهُم أَن أعداءهم من الْمُشْركين، وَأهل الْكتاب لَا بُد أَن يؤذوهم بألسنتهم وَأخْبر أَنهم إِن يصبروا ويتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور. فالصبر وَالتَّقوى يدْفع شَرّ الْعَدو الْمظهر للعداوة المؤذين بألسنتهم والمؤذين بِأَيْدِيهِم وَشر الْعَدو المبطن للعداوة. وهم المُنَافِقُونَ. وَهَذَا الَّذِي كَانَ خلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهديه هُوَ أكمل الْأُمُور. فَأَما من أَرَادَ مَا يُحِبهُ الله تَارَة وَمَا لَا يُحِبهُ تَارَة أَو لم يرد لَا هَذَا وَلَا هَذَا فكلاهما دون خلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن لم يكن على وَاحِد مِنْهُمَا إِثْم كَالَّذي يُرِيد مَا أُبِيح لَهُ من نيل الشَّهْوَة الْمُبَاحَة وَالْغَضَب والانتقام الْمُبَاح كَمَا هُوَ خلق بعض الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ فَهُوَ وَإِن كَانَ جَائِزا لَا إِثْم فِيهِ فخلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكمل مِنْهُ. وَكَذَلِكَ من لم يرد الشَّهَوَات الْمُبَاحَة وَإِن كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 يستعان بهَا على أَمر مُسْتَحبّ وَلم يرد أَن يغْضب وينتقم ويجاهد إِذا جَازَ الْعَفو وَإِن كَانَ الانتقام لله أرْضى لله. كَمَا هُوَ أَيْضا خلق بعض الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا وَإِن كَانَ جَائِزا لَا إِثْم فِيهِ فخلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكمل مِنْهُ. وَهَذَا وَالَّذِي قبله إِذا كَانَ شَرِيعَة لنَبِيّ فَلَا عيب على نَبِي فِيمَا شرع الله لَهُ. لَكِن قد فضل الله بعض النَّبِيين على بعض، وَفضل بعض الرُّسُل على بعض. والشريعة الَّتِي بُعث بهَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الشَّرَائِع؛ إِذْ كَانَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَأمته خير أمة أخرجت للنَّاس. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فِي قَوْله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} كُنْتُم خير النَّاس للنَّاس تأتون بهم فِي الأقياد والسلاسل حَتَّى تدخلوهم الْجنَّة. يبذلون أَمْوَالهم وأنفسهم فِي الْجِهَاد لنفع النَّاس فهم خير الْأُمَم لِلْخلقِ. والخلق عِيَال الله فأحبهم إِلَى الله أنفعهم لِعِيَالِهِ، وَأما غير الْأَنْبِيَاء فَمنهمْ من يكون ذَلِك شرعة لاتباعه لذَلِك النَّبِي وَأما من كَانَ من أهل شَرِيعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومنهاجه فَإِن كَانَ مَا تَركه وَاجِبا عَلَيْهِ وَمَا فعله محرما عَلَيْهِ كَانَ مُسْتَحقّا للذم وَالْعِقَاب إِلَّا أَن يكون متأولا مخطئا فَالله قد وضع عَن هَذِه الْأمة الْخَطَأ وَالنِّسْيَان، وذنب أحدهم قد يعْفُو الله عَنهُ بِأَسْبَاب مُتعَدِّدَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وَمن أَسبَاب هَذَا الانحراف أَن من النَّاس من تغلب عَلَيْهِ " طَريقَة الزّهْد " فِي إِرَادَة نَفسه فيزهد فِي مُوجب الشَّهْوَة وَالْغَضَب كَمَا يفعل ذَلِك من يَفْعَله من عباد الْمُشْركين وَأهل الْكتاب كالرهبان وأشباههم وَهَؤُلَاء يرَوْنَ الْجِهَاد نقصا لما فِيهِ من قتل النُّفُوس وَسبي الذُّرِّيَّة وَأخذ الْأَمْوَال ويرون أَن الله لم يَجْعَل عمَارَة بَيت الْمُقَدّس على يَد دَاوُد لِأَنَّهُ جرى على يَدَيْهِ سفك الدِّمَاء. وَمِنْهُم من لَا يرى ذبح شَيْء من الْحَيَوَان كَمَا عَلَيْهِ البراهمة وَمِنْهُم من لَا يحرم ذَلِك لكنه هُوَ يتَقرَّب إِلَى الله بِأَنَّهُ لَا يذبح حَيَوَانا وَلَا يَأْكُل لَحْمه بل وَلَا ينْكح النِّسَاء وَيَقُول فِي ممادحه: فلَان مَا نكح وَلَا ذبح. وَقد أنكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على هَؤُلَاءِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس: " {أَن نَفرا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلُوا أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عمله فِي السِّرّ فَقَالَ بَعضهم: لَا أَتزوّج النِّسَاء، وَقَالَ بَعضهم: لَا آكل اللَّحْم، وَقَالَ بَعضهم: لَا أَنَام على فرَاش. فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بَال أَقوام قَالُوا: كَذَا وَكَذَا لكني أُصَلِّي وأنام وَأَصُوم وَأفْطر وأتزوج النِّسَاء وآكل اللَّحْم فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني} ". وَقد قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} نزلت فِي عُثْمَان بن مَظْعُون وَطَائِفَة مَعَه كَانُوا قد عزموا على التبتل وَنَوع من الترهب. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَن سعد قَالَ رد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على عُثْمَان بن مَظْعُون التبتل وَلَو أذن لَهُ لاختصينا} . و" الزّهْد " النافع الْمَشْرُوع الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله هُوَ الزّهْد فِيمَا لَا ينفع فِي الْآخِرَة فَأَما مَا ينفع فِي الْآخِرَة وَمَا يستعان بِهِ على ذَلِك فالزهد فِيهِ زهد فِي نوع من عبَادَة الله وطاعته والزهد إِنَّمَا يُرَاد لِأَنَّهُ زهد فِيمَا يضر أَو زهد فِيمَا لَا ينفع فَأَما الزّهْد فِي النافع فجهل وضلال كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {احرص على مَا ينفعك واستعن بِاللَّه وَلَا تعجز} ". والنافع للْعَبد هُوَ عبَادَة الله وطاعته وَطَاعَة رَسُوله وَكلما صده عَن ذَلِك فَإِنَّهُ ضار لَا نَافِع ثمَّ الأنفع لَهُ أَن تكون كل أَعماله عبَادَة لله وَطَاعَة لَهُ وَإِن أدّى الْفَرَائِض وَفعل مُبَاحا لَا يُعينهُ على الطَّاعَة فقد فعل مَا يَنْفَعهُ وَمَا لَا يَنْفَعهُ وَلَا يضرّهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وَكَذَلِكَ " الْوَرع " الْمَشْرُوع هُوَ الْوَرع عَمَّا قد تخَاف عاقبته وَهُوَ مَا يعلم تَحْرِيمه وَمَا يشك فِي تَحْرِيمه وَلَيْسَ فِي تَركه مفْسدَة أعظم من فعله - مثل فعل محرم يتَعَيَّن - مثل من يتْرك أَخذ الشُّبْهَة ورعا مَعَ حَاجته إِلَيْهَا وَيَأْخُذ بدل ذَلِك محرما بَينا تَحْرِيمه أَو يتْرك وَاجِبا تَركه أعظم فَسَادًا من فعله مَعَ الشُّبْهَة كمن يكون على أَبِيه أَو عَلَيْهِ دُيُون هُوَ مطَالب بهَا وَلَيْسَ لَهُ وَفَاء إِلَّا من مَال فِيهِ شُبْهَة فيتورع عَنْهَا ويدع ذمَّته أَو ذمَّة أَبِيه مرتهنة. وَكَذَلِكَ من " الْوَرع " الِاحْتِيَاط بِفعل مَا يشك فِي وُجُوبه لَكِن على هَذَا الْوَجْه. وَتَمام " الْوَرع " أَن يعم الْإِنْسَان خير الخيرين وَشر الشرين، وَيعلم أَن الشَّرِيعَة مبناها على تَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها وَإِلَّا فَمن لم يوازن مَا فِي الْفِعْل وَالتّرْك من الْمصلحَة الشَّرْعِيَّة والمفسدة الشَّرْعِيَّة فقد يدع وَاجِبَات وَيفْعل مُحرمَات. وَيرى ذَلِك من الْوَرع كمن يدع الْجِهَاد مَعَ الْأُمَرَاء الظلمَة وَيرى ذَلِك ورعا ويدع الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة خلف الْأَئِمَّة الَّذين فيهم بِدعَة أَو فجور وَيرى ذَلِك من الْوَرع وَيمْتَنع عَن قبُول شَهَادَة الصَّادِق وَأخذ علم الْعَالم لما فِي صَاحبه من بِدعَة خُفْيَة وَيرى ترك قبُول سَماع هَذَا الْحق الَّذِي يجب سَمَاعه من الْوَرع. وَكَذَلِكَ " الزّهْد وَالرَّغْبَة " من لم يراع مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله من الرَّغْبَة والزهد وَمَا يكرههُ من ذَلِك؛ وَإِلَّا فقد يدع وَاجِبَات وَيفْعل مُحرمَات مثل من يدع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْأكل أَو أكل الدسم حَتَّى يفْسد عقله أَو تضعف قوته عَمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 يجب عَلَيْهِ من حُقُوق الله تَعَالَى وَحُقُوق عباده أَو يدع الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله لما فِي فعل ذَلِك من أَذَى بعض النَّاس والانتقام مِنْهُم حَتَّى يستولي الْكفَّار والفجار على الصَّالِحين الْأَبْرَار فَلَا ينظر الْمصلحَة الراجحة فِي ذَلِك. وَقد قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ قل قتال فِيهِ كَبِير وَصد عَن سَبِيل الله وَكفر بِهِ وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَإِخْرَاج أَهله مِنْهُ أكبر عِنْد الله والفتنة أكبر من الْقَتْل} . يَقُول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِن كَانَ قتل النُّفُوس فِيهِ شَرّ فالفتنة الْحَاصِلَة بالْكفْر، وَظُهُور أَهله أعظم من ذَلِك فَيدْفَع أعظم الفسادين بِالْتِزَام أدناهما. وَكَذَلِكَ الَّذِي يدع ذبح الْحَيَوَان أَو يرى أَن فِي ذبحه ظلما لَهُ هُوَ جَاهِل فَإِن هَذَا الْحَيَوَان لَا بُد أَن يَمُوت فَإِذا قتل لمَنْفَعَة الْآدَمِيّين وحاجتهم كَانَ خيرا من أَن يَمُوت موتا لَا ينْتَفع بِهِ أحد والآدمي أكمل مِنْهُ وَلَا تتمّ مصْلحَته إِلَّا بِاسْتِعْمَال الْحَيَوَان فِي الْأكل وَالرُّكُوب وَنَحْو ذَلِك؛ لَكِن مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ من تعذيبه نهى الله عَنهُ كصبر الْبَهَائِم وذبحها فِي غير الْحلق واللبة مَعَ الْقُدْرَة على ذَلِك وَأوجب الله الْإِحْسَان بِحَسب الْإِمْكَان فِيمَا أَبَاحَهُ من الْقَتْل وَالذّبْح. كَمَا فِي صَحِيح مُسلم عَن شَدَّاد بن أَوْس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " {إِن الله كتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الْإِحْسَان على كل شَيْء: فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة وليحد أحدكُم شفرته وليرح ذَبِيحَته} ". وَهَؤُلَاء الَّذين زهدوا فِي " الإرادات " حَتَّى فِيمَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله من الإرادات بإزائهم " طَائِفَتَانِ ": (طَائِفَة رغبت فِيمَا كره الله وَرَسُوله والرَّغْبَة فِيهِ من الْكفْر والفسوق والعصيان) . و (طَائِفَة رغبت فِيمَا أَمر الله وَرَسُوله لَكِن لهوى أنفسهم لَا لعبادة الله تَعَالَى) وَهَؤُلَاء الَّذين يأْتونَ بصور الطَّاعَات مَعَ فَسَاد النيات كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {أَنه قيل لَهُ: يَا رَسُول الله الرجل يُقَاتل شجاعة وَيُقَاتل حمية وَيُقَاتل رِيَاء فَأَي ذَلِك فِي سَبِيل الله؟ فَقَالَ: من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله} ". قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الْمُنَافِقين يخادعون الله وَهُوَ خادعهم وَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى يراءون النَّاس وَلَا يذكرُونَ الله إِلَّا قَلِيلا} وَهَؤُلَاء أهل إرادات فَاسِدَة مذمومة فهم مَعَ تَركهم الْوَاجِب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 فعلوا الْمحرم. وهم يشبهون الْيَهُود كَمَا يشبه أُولَئِكَ النَّصَارَى. قَالَ تَعَالَى: {ضربت عَلَيْهِم الذلة أَيْنَمَا ثقفوا إِلَّا بِحَبل من الله وحبل من النَّاس وباءوا بغضب من الله وَضربت عَلَيْهِم المسكنة ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون} . وَقَالَ تَعَالَى: {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا وَإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا} . وَقَالَ تَعَالَى: {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين} {وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض وَاتبع هَوَاهُ فَمثله كَمثل الْكَلْب إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث ذَلِك مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فاقصص الْقَصَص لَعَلَّهُم يتفكرون} . فَهَؤُلَاءِ يتبعُون أهواءهم غيا مَعَ الْعلم بِالْحَقِّ وَأُولَئِكَ يتبعُون أهواءهم مَعَ الضلال وَالْجهل بِالْحَقِّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل} وكلا الطَّائِفَتَيْنِ تاركة مَا أَمر الله وَرَسُوله بِهِ من الإرادات والأعمال الصَّالِحَة مرتكبة لما نهى الله وَرَسُوله عَنهُ من الإرادات والأعمال الْفَاسِدَة. فصل فَأمر الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَشَيْخه حَمَّاد الدبّاس وَغَيرهمَا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 الْمَشَايِخ أهل الاسْتقَامَة - رَضِي الله عَنْهُم -: بِأَنَّهُ لَا يُرِيد السالك مرَادا قطّ وَأَنه لَا يُرِيد مَعَ إِرَادَة الله عز وَجل سواهَا بل يجْرِي فعله فِيهِ فَيكون هُوَ مُرَاد الْحق. إِنَّمَا قصدُوا بِهِ فِيمَا لم يعلم العَبْد أَمر الله وَرَسُوله فِيهِ فَأَما مَا علم أَن الله أَمر بِهِ فَعَلَيهِ أَن يُريدهُ وَيعْمل بِهِ وَقد صَرَّحُوا بذلك فِي غير مَوضِع. وَإِن كَانَ غَيرهم من الغالطين يرى الْقيام بالإرادة الخلقية هُوَ الْكَمَال وَهُوَ " الفناء فِي تَوْحِيد الربوبية " وَأَن السلوك إِذا انْتهى إِلَى هَذَا الْحَد فصاحبه إِذا قَامَ بِالْأَمر فلأجل غَيره أَو أَنه لَا يحْتَاج أَن يقوم بِالْأَمر فَتلك أَقْوَال وطرائق فَاسِدَة قد تكلم عَلَيْهَا فِي غير هَذَا الْموضع. فَأَما المستقيمون من السالكين كجمهور مَشَايِخ السّلف: مثل الفضيل بن عِيَاض وَإِبْرَاهِيم بن أدهم وَأبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي ومعروف الْكَرْخِي وَالسري السَّقطِي والجنيد بن مُحَمَّد وَغَيرهم من الْمُتَقَدِّمين، وَمثل الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَالشَّيْخ حَمَّاد وَالشَّيْخ أبي الْبَيَان وَغَيرهم من الْمُتَأَخِّرين. فهم لَا يسوغون للسالك وَلَو طَار فِي الْهَوَاء أَو مَشى على المَاء أَن يخرج عَن الْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين بل عَلَيْهِ أَن يفعل الْمَأْمُور ويدع الْمَحْظُور إِلَى أَن يَمُوت وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع السّلف. تَابع كَلَام الجيلاني: وَهَذَا كثير فِي كَلَامهم: كَقَوْل الشَّيْخ عبد الْقَادِر فِي كتاب " فتوح الْغَيْب ": " اخْرُج من نَفسك وتنح عَنْهَا وانعزل عَن ملكك. وَسلم الْكل إِلَى الله - تبَارك وَتَعَالَى - وَكن بوابه على بَاب قَلْبك، وامتثل أمره - تبَارك وَتَعَالَى - فِي إِدْخَال من يَأْمُرك بإدخاله وانته نَهْيه فِي صد من يَأْمُرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 بصده. فَلَا تدخل الْهوى قَلْبك بعد أَن خرج مِنْهُ فإخراج الْهوى من الْقلب بمخالفته، وَترك مُتَابَعَته فِي الْأَحْوَال كلهَا وإدخاله فِي الْقلب بمتابعته وموافقته فَلَا ترد إِرَادَة غير إِرَادَته - تبَارك وَتَعَالَى - وَغير ذَلِك مِنْك تمن وَهُوَ وَادي الحمقى وَفِيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه - تبَارك وَتَعَالَى - وحجابك عَنهُ. احفظ أبدا أمره وانته أبدا نَهْيه وَسلم إِلَيْهِ أبدا مقدوره وَلَا تشركه بِشَيْء من خلقه فإرادتك وهواك وشهواتك كلهَا خلقه فَلَا ترد وَلَا تهو وَلَا تشته كَيْلا تكون مُشْركًا. قَالَ الله تَعَالَى: {فَمن كَانَ يرجوا لِقَاء ربه فليعمل عملا صَالحا وَلَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدا} لَيْسَ الشّرك عبَادَة الْأَصْنَام فَحسب؛ بل هُوَ أَيْضا متابعتك لهواك وَأَن تخْتَار مَعَ رَبك شَيْئا سواهُ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَالْآخِرَة وَمَا فِيهَا فَمَا سواهُ - تبَارك وَتَعَالَى - غَيره فَإِذا ركنت إِلَى غَيره فقد أشركت بِهِ عز وَجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 غَيره فاحذر وَلَا تركن وخف وَلَا تأمن وفتش وَلَا تغفل فتطمئن وَلَا تضف إِلَى نَفسك حَالا وَلَا مقَاما وَلَا تدع شَيْئا من ذَلِك ". وَقَالَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَيْضا: " إِنَّمَا هُوَ الله ونفسك وَأَنت الْمُخَاطب وَالنَّفس ضد الله وعدوته؛ والأشياء كلهَا تَابِعَة لله فَإِذا وَافَقت الْحق فِي مُخَالفَة النَّفس وعداوتها فَكنت خصما لَهُ على نَفسك ". إِلَى أَن قَالَ: " فالعبادة فِي مخالفتك نَفسك وهواك قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله} ". إِلَى أَن قَالَ: " والحكاية الْمَشْهُورَة عَن أبي يزِيد البسطامي - رَحمَه الله - لما رأى رب الْعِزَّة فِي الْمَنَام فَقَالَ لَهُ: كَيفَ الطَّرِيق إِلَيْك يَا بارخُذَاه؟ فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 اترك نَفسك وتعال قَالَ أَبُو يزِيد: فانسلخت من نَفسِي كَمَا تنسلخ الْحَيَّة من جلدهَا. فَإِذا ثَبت أَن الْخَيْر كُله فِي معاداتها فِي الْجُمْلَة فِي الْأَحْوَال كلهَا فَإِن كنت فِي حَال التَّقْوَى فَخَالف النَّفس بِأَن تخرج من حرَام الْخلق وشبههم ومننهم والاتكال عَلَيْهِم والثقة بهم وَالْخَوْف مِنْهُم؛ والرجاء لَهُم والطمع فِيمَا عِنْدهم من حطام الدُّنْيَا فَلَا ترج عطاءهم على طَرِيق الْهَدِيَّة أَو الزَّكَاة أَو الصَّدَقَة أَو الْكَفَّارَة أَو النّذر فاقطع همك مِنْهُم من سَائِر الْوُجُوه والأسباب فَاخْرُج من الْخلق جدا واجعلهم كالباب يُرد وَيفتح وكالشجرة يُوجد فِيهَا ثَمَرَة تَارَة ونخيل أُخْرَى كل ذَلِك بِفعل فَاعل وتدبير مُدبر، وَهُوَ الله تبَارك وَتَعَالَى. فَإِذا اصح لَك هَذَا كنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 موحدا لَهُ - تبَارك وَتَعَالَى - وَلَا تنس مَعَ ذَلِك كسبهم لتتخلص من مَذْهَب الجبرية وأعتقد أَن الْأَفْعَال لَا تتمّ لَهُم دون الله - تبَارك وَتَعَالَى - لكيلا تعبدهم وتنسى الله تَعَالَى وَلَا تقل فعلهم دون الله فتكفر وَتَكون قدريا. لَكِن قل: هِيَ لله خلقا وللعباد كسبا. كَمَا جَاءَت بِهِ الْآثَار لبَيَان مَوضِع الْجَزَاء من الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وامتثل أَمر الله فيهم وخلص قسمك مِنْهُم بأَمْره وَلَا تجاوزه فَحكمه قَائِم يحكم عَلَيْك وَعَلَيْهِم فَلَا تكن أَنْت الْحَاكِم وكونك مَعَهم قدر وَالْقدر ظلمَة فَادْخُلْ فِي الظلمَة بِالْمِصْبَاحِ وَهُوَ " الحكم ": كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تخرج عَنْهُمَا. فَإِن خطر خاطر أَو وجد إلهام فاعرضهما على الْكتاب وَالسّنة فَإِن وجدت فيهمَا تَحْرِيم ذَلِك مثل أَن تلهم بِالزِّنَا أَو الرِّبَا أَو مُخَالطَة أهل الفسوق والفجور وَغير ذَلِك من الْمعاصِي فادفعه عَنْك واهجره وَلَا تقبله وَلَا تعْمل بِهِ واقطع بِأَنَّهُ من الشَّيْطَان اللعين وَإِن وجدت فيهمَا إِبَاحَته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 كالشهوات الْمُبَاحَة من الْأكل وَالشرب واللبس وَالنِّكَاح فاهجره أَيْضا وَلَا تقبله وَاعْلَم أَنه من إلهام النَّفس وشهواتها وَقد أمرت بمخالفتها وعداوتها ". قلت: وَمرَاده بهجر الْمُبَاح إِذا لم يكن مَأْمُورا بِهِ كَمَا قد بَين مُرَاده فِي غير هَذَا الْموضع. فَإِن الْمُبَاح الْمَأْمُور بِهِ إِذا فعله بِحكم الْأَمر كَانَ ذَلِك من أعظم نعم الله عَلَيْهِ وَكَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ وَقد قدمت أَنه يَدْعُو إِلَى طَريقَة السَّابِقين المقربين؛ لَا يقف عِنْد طَريقَة الْأَبْرَار أَصْحَاب الْيَمين. قَالَ: " وَإِن لم تَجِد فِي الْكتاب وَالسّنة تَحْرِيمه وَلَا إِبَاحَته بل هُوَ أَمر لَا تعقله مثل أَن يُقَال لَك ائْتِ مَوضِع كَذَا وَكَذَا الق فلَانا الصَّالح؛ وَلَا حَاجَة لَك هُنَاكَ وَلَا فِي الصَّالح؛ لاستغنائك عَنهُ بِمَا أولاك الله تَعَالَى من نعمه من الْعلم والمعرفة فتوقف فِي ذَلِك وَلَا تبادر إِلَيْهِ. فَتَقول: هَل هَذَا إلهام إِلَّا من الْحق فاعمل بِهِ؟ بل انْتظر الْخَيْر فِي ذَلِك وَفعل الْحق بِأَن يتَكَرَّر ذَلِك الإلهام، وتؤمر بالسعي أَو عَلامَة تظهر لأهل الْعلم بِاللَّه تبَارك وَتَعَالَى يَعْقِلهَا الْعُقَلَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 من أَوْلِيَاء الله والمؤيدون من الأبدال. وَإِنَّمَا لم تبادر إِلَى ذَلِك لِأَنَّك لَا تعلم عاقبته وَمَا يؤول الْأَمر إِلَيْهِ وَرُبمَا كَانَ فِيهِ فتْنَة وهلاك ومكر من الله وامتحان فاصبر حَتَّى يكون هُوَ عز وَجل الْفَاعِل فِيك فَإِذا تجرد الْفِعْل وحملت إِلَى هُنَاكَ واستقبلتك فتْنَة كنت مَحْمُولا مَحْفُوظًا مِنْهَا؛ لِأَن الله تَعَالَى لَا يعاقبك على فعله وَإِنَّمَا تتطرق الْعقُوبَة نَحْوك لكونك فِي الشَّيْء ". تَعْلِيق ابْن تَيْمِية: قلت: فقد أَمر - رَحمَه الله - بِأَن مَا كَانَ مَحْظُورًا فِي الشَّرْع يجب تَركه وَلَا بُد وَمَا كَانَ مَعْلُوما أَنه مُبَاح بِعَيْنِه لكَونه يفعل بِحكم الْهوى لَا بِأَمْر الشَّارِع فَيتْرك أَيْضا وَأما مَا لم يعلم هَل هُوَ بِعَيْنِه مُبَاح لَا مضرَّة فِيهِ أَو فِيهِ مضرَّة مثل السّفر إِلَى مَكَان معِين أَو شخص معِين والذهاب إِلَى مَكَان معِين أَو شخص معِين فَإِن جنس هَذَا الْعَمَل لَيْسَ محرما وَلَا كل أَفْرَاده مُبَاحَة؛ بل يحرم على الْإِنْسَان أَن يذهب إِلَى حَيْثُ يحصل لَهُ ضَرَر فِي دينه فَأمره بالكف عَن الذّهاب حَتَّى يُقهر أَو يتَبَيَّن لَهُ فِي الْبَاطِن أَن هَذَا مصلحَة؛ لِأَنَّهُ إِذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 لم يتَبَيَّن لَهُ أَن الذّهاب وَاجِب أَو مُسْتَحبّ لم يَنْبغ لَهُ فعله وَإِذا خَافَ الضَّرَر انبغى لَهُ تَركه فَإِذا أكره على الذّهاب لم يكن عَلَيْهِ حرج فَلَا يُؤَاخذ بِالْفِعْلِ. بِخِلَاف مَا إِذا فعله بِاخْتِيَارِهِ وشهوته؛ وَإِذا تبين لَهُ أَنه مصلحَة راجحة كَانَ حسنا. وَقد جَاءَت شَوَاهِد السّنة: بِأَن من ابْتُلِيَ بِغَيْر تعرض مِنْهُ أعين، وَمن تعرض للبلاء خيف عَلَيْهِ. مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة " {لَا تسْأَل الْإِمَارَة فَإنَّك إِن أعطيتهَا عَن مَسْأَلَة وكلت إِلَيْهَا وَإِن أعطيتهَا عَن غير مَسْأَلَة أعنت عَلَيْهَا} ". وَمِنْه قَوْله: " {لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدو واسألوا الله الْعَافِيَة فَإِذا لقيتموهم فَاصْبِرُوا} ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وَفِي السّنَن " {من سَأَلَ الْقَضَاء واستعان عَلَيْهِ وكل إِلَيْهِ وَمن لم يسْأَل الْقَضَاء وَلم يستعن عَلَيْهِ أنزل الله عَلَيْهِ ملكا يسدده} - وَفِي رِوَايَة - وَإِن أكره عَلَيْهِ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الطَّاعُون: " {إِذا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْض فَلَا تقدمُوا عَلَيْهِ؛ وَإِذا وَقع بِأَرْض وَأَنْتُم بهَا فَلَا تخْرجُوا فِرَارًا مِنْهُ} ". وَمِنْه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {نهى عَن النّذر} ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وَمِنْه قَوْله: " {ذروني مَا تركْتُم فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ. فَإِذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَاجْتَنبُوهُ. وَإِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم} " فصل تَابع كَلَام الجيلاني: قَالَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر: " وَإِن كنت فِي حَالَة الْحَقِيقَة وَهِي حَالَة الْولَايَة: فَخَالف هَوَاك، وَاتبع الْأَمر فِي الْجُمْلَة وَاتِّبَاع الْأَمر على " قسمَيْنِ ": (أَحدهمَا) : أَن تَأْخُذ من الدُّنْيَا الْقُوت الَّذِي هُوَ حق النَّفس وتترك الْحَظ، وَتُؤَدِّي الْفَرْض وتشتغل بترك الذُّنُوب مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن. و (الْقسم الثَّانِي) : مَا كَانَ بِأَمْر بَاطِن وَهُوَ أَمر الْحق تبَارك وَتَعَالَى يَأْمر عَبده وينهاه وَإِنَّمَا يتَحَقَّق هَذَا الْأَمر فِي الْمُبَاح الَّذِي لَيْسَ حكما فِي الشَّرْع على معنى أَنه لَيْسَ من قبيل النَّهْي وَلَا من قبيل الْأَمر الْوَاجِب بل هُوَ مهمل ترك العَبْد يتَصَرَّف فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ فَسُمي مُبَاحا فَلَا يحدث العَبْد فِيهِ شَيْئا من عِنْده بل ينْتَظر الْأَمر فِيهِ فَإِذا أَمر امتثل فَتَصِير جَمِيع حركاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وسكناته بِاللَّه تَعَالَى مَا فِي الشَّرْع حكمه فبالشرع وَمَا لَيْسَ لَهُ حكم فِي الشَّرْع فبالأمر الْبَاطِن فَحِينَئِذٍ يصير محقًّا من أهل الْحَقِيقَة وَمَا لَيْسَ فِيهِ أَمر بَاطِن فَهُوَ مُجَرّد الْفِعْل حَالَة التَّسْلِيم. وَإِن كنت فِي حَالَة حق الْحق وَهِي حَالَة المحو والفناء وَهِي حَالَة الأبدال المنكسري الْقُلُوب لأجل الْحق، الْمُوَحِّدين العارفين أَرْبَاب الْعُلُوم وَالْفِعْل، السَّادة الْأُمَرَاء الشِّحْن الخفراء لِلْخلقِ، خلفاء الرَّحْمَن وأخلائه وأعيانه وأحبابه عَلَيْهِم السَّلَام، فاتباع الْأَمر فِيهَا بمخالفتك إياك، بالتبري من الْحول وَالْقُوَّة، وَأَن لَا يكون لَك إِرَادَة وهمة فِي شَيْء أَلْبَتَّة، دنيا وَأُخْرَى، عبد الملِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 لَا عبد المُلك، وَعبد الْأَمر لَا عبد الْهوى، كالطفل مَعَ الظِّئْر، وَالْمَيِّت الغسيل مَعَ الْغَاسِل، وَالْمَرِيض المغلوب على جنبه مَعَ الطَّبِيب فِيمَا سوى الْأَمر وَالنَّهْي ". وَقَالَ أَيْضا: " اتبع الشَّرْع فِي جَمِيع مَا ينزل بك إِن كنت فِي حَالَة التَّقْوَى، الَّتِي هِيَ الْقدَم الأولى، وَاتبع الْأَمر فِي حَالَة الْولَايَة وخمود وجود الْهوى وَلَا تتجاوزه، وَهِي الْقدَم الثَّانِيَة، وَارْضَ بِالْفِعْلِ، وَوَافَقَ، وافن فِي حَالَة الْبَدَلِيَّة والغوثية والقطبية والصديقية، وَهِي الْمُنْتَهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 تَنَح عَن الطَّرِيق الْقدر خل عَن سَبيله رد نَفسك وهواك كف لسَانك عَن الشكوى فَإِذا فعلت ذَلِك إِن كَانَ خيرا زادك الْمولى طيبَة وَلَذَّة وسرورا، وَإِن كَانَ شرا حفظك فِي طَاعَته فِيهِ وأزال عَنْك الْمَلَامَة وأفقدك فِيهِ حَتَّى يتَجَاوَز ويرحل عِنْد انْقِضَاء أَجله كَمَا يَنْقَضِي اللَّيْل فيسفر عَن النَّهَار، وَالْبرد فِي الشتَاء فيسفر عَن الصَّيف. ذَلِك أنموذج عنْدك فَاعْتبر بِهِ. ثمَّ ذنُوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع الْمعاصِي والخطيّات وَلَا يصلح لمجالسة الْكَرِيم إِلَّا طَاهِر عَن أنجاس الذُّنُوب والزلات، وَلَا يقبل على سدته إِلَّا طيب من دون الدَّعْوَى والهواشات كَمَا لَا يصلح لمجالسة الْمُلُوك إِلَّا الطَّاهِر من الأنجاس وأنواع النتن والأوساخ فالبلايا مكفرات مطهرات. قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {حمى يَوْم كَفَّارَة سنة} ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 تَعْلِيق ابْن تَيْمِية: قلت: فقد بَين الشَّيْخ عبد الْقَادِر - رَضِي الله عَنهُ - أَن لُزُوم الْأَمر وَالنَّهْي لَا بُد مِنْهُ فِي كل مقَام، وَذكر الْأَحْوَال الثَّلَاث الَّتِي جعلهَا: حَال صَاحب التَّقْوَى وَحَال الْحَقِيقَة، وَحَال حق الْحق وَقد فسر مَقْصُوده بِأَنَّهُ لَا بُد للْعَبد فِي كل حَال من أَن يُرِيد فعل مَا أَمر بِهِ فِي الشَّرْع، وَترك مَا نهي عَنهُ فِي الشَّرْع وَأَنه إِذا أَمر العَبْد بترك إِرَادَته فَهُوَ فِيمَا لم يُؤمر بِهِ وَلم ينْه عَنهُ وَهَذَا حق. فَإِنَّهُ لم يُؤمر بِهِ فَتكون لَهُ إِرَادَة فِي وجوده وَلَا نهي عَنهُ فَتكون لَهُ إِرَادَة فِي عَدمه فيخلو فِي مثل هَذَا عَن إِرَادَة النقيضين. وَقد بَين أَن صَاحب الْحَقِيقَة عَلَيْهِ أَن يلْزم الْأَمر دَائِما الْأَمر الشَّرْعِيّ الظَّاهِر إِن عرفه أَو الْأَمر الْبَاطِن، وَبَين أَن الْأَمر الْبَاطِن إِنَّمَا يكون فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِب فِي الشَّرْع وَلَا محرم وَأَن مثل هَذَا ينْتَظر فِيهِ الْأَمر الْخَاص حَتَّى يَفْعَله بِحكم الْأَمر. فَإِن قلت: فَمَا الْفرق بَين هَذَا وَبَين صَاحب التَّقْوَى الَّذِي قبله؟ وَصَاحب الْحق الَّذِي بعده؟ قيل: أما الَّذِي بعده الَّذين سماهم " الأبدال " فهم الَّذين لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا بِأَمْر الْحق، وَلَا يَفْعَلُونَ إِلَّا بِهِ فَلَا يشْهدُونَ لأَنْفُسِهِمْ فعلا فِيمَا فَعَلُوهُ من الطَّاعَة؛ بل يشْهدُونَ أَنه هُوَ الْفَاعِل بهم مَا قَامَ بهم من طَاعَة أمره. وَلِهَذَا قَالَ: " فاتباع الْأَمر فِيهَا بمخالفتك إياك بالتبري من الْحول وَالْقُوَّة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 فَهَؤُلَاءِ يشْهدُونَ تَوْحِيد الربوبية مَعَ تَوْحِيد الإلهية فَيَشْهَدُونَ أَن الله هُوَ الَّذِي خلق مَا قَامَ بهم من أَفعَال الْبر وَالْخَيْر فَلَا يرَوْنَ لأَنْفُسِهِمْ حمدا وَلَا منَّة على أحد، ويرون أَن الله خَالق أَفعَال الْعباد فَلَا يرَوْنَ أحدا مسيئا إِلَيْهِم وَلَا يرَوْنَ لَهُم حَقًا على أحد إِذْ قد شهدُوا أَن الله خَالق كل شَيْء من أَفعَال الْعباد وَغَيرهَا وهم يعلمُونَ أَن الْعباد لَا يسْتَحقُّونَ من أنفسهم وَلَا بِأَنْفسِهِم على الله شَيْئا بل هُوَ الَّذِي كتب على نَفسه الرَّحْمَة. وَيشْهدُونَ أَنه يسْتَحق أَن يُعبد لَا يُشْرك بِهِ شَيْء، وَأَنه يسْتَحق أَن يتقى حق تُقَاته، وَحقّ تُقَاته أَن يطاع فَلَا يعْصى، وَيذكر فَلَا ينسى، ويشكر فَلَا يكفر فيرون أَن مَا قَامَ بهم من الْعَمَل الصَّالح فَهُوَ بفضله وجوده وَكَرمه لَهُ الْحَمد فِي ذَلِك. وَيشْهدُونَ: أَنه لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. وَأما مَا قَامَ بالعباد من أذاهم فَالله خالقه وَهُوَ من عدله، وَمَا تَركه النَّاس من حُقُوقهم الَّتِي يستحقونها على النَّاس فَهُوَ الَّذِي لم يخلقه وَله الْحَمد على كل حَال على مَا فعل وَمَا لم يفعل. وَلِهَذَا كَانُوا منكسرة قُلُوبهم؛ لشهودهم وجوده الْكَامِل، وعدمهم الْمَحْض، وَلَا أعظم انكسارا مِمَّن لم ير لنَفسِهِ إِلَّا الْعَدَم لَا يرى لَهُ شَيْئا وَلَا يرى بِهِ شَيْئا. وَصَاحب الْحَقِيقَة الَّذِي هُوَ دون هَذَا قد شَاركهُ فِي إخلاص الدَّين لله وَأَنه لَا يفعل إِلَّا مَا أَمر بِهِ فَلَا يفعل إِلَّا لله لَكِن قصر عَنهُ فِي شُهُود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 تَوْحِيد الربوبية ورؤيته وَأَنه لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَأَنه لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَة شَيْء. بل الرب هُوَ الْخَالِق الْفَاعِل لكل مَا قَامَ بِهِ وَأَن كَمَال هَذَا الشُّهُود لَا يبقي شَيْئا من الْعجب وَلَا الْكبر وَنَحْو ذَلِك. فكلاهما قَائِم بِالْأَمر مُطِيع لله لَكِن هَذَا يشْهد أَن الله هُوَ الَّذِي جعله مُسلما مُصَليا وَأَنه فِي الْحَقِيقَة لم يحدث شَيْئا، وَذَاكَ وَإِن كَانَ يُؤمن بِهَذَا وَيصدق بِهِ إِذْ كَانَ مقرا بِأَن الله خَالق أَفعَال الْعباد؛ لَكِن قد لَا يشهده شُهُودًا يَجعله فِيهِ بِمَنْزِلَة الْمَعْدُوم. وَأَيْضًا بَينهمَا فرق من جِهَة ثَانِيَة: وَهِي أَن الأول تكون لَهُ إِرَادَة وهمة فِي أُمُور فيتركها فَهُوَ يُمَيّز فِي مراداته بَين مَا يُؤمر بِهِ وَمَا ينْهَى عَنهُ وَمَا لَا يُؤمر بِهِ وَلَا ينْهَى عَنهُ؛ وَلِهَذَا لم يبْق لَهُ مُرَاد أصلا إِلَّا مَا أَرَادَهُ الرب إِمَّا أمرا بِهِ فيمتثله هُوَ بِاللَّه وَإِمَّا فعلا فِيهِ فيفعله الله بِهِ وَلِهَذَا شبهه بالطفل مَعَ الظِّئْر فِي غير الْأَمر وَالنَّهْي. وَأما (الأول) : الَّذِي هُوَ فِي مقَام التَّقْوَى الْعَامَّة فَإِن لَهُ شهوات للمحرمات وَله الْتِفَات إِلَى الْخلق وَله رُؤْيَة نَفسه فَيحْتَاج إِلَى المجاهدة بالتقوى بِأَن يكف عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الْمُحرمَات وَعَن تنَاول الشَّهَوَات بِغَيْر الْأَمر فَهَذَا يحْتَاج أَن يُمَيّز بَين مَا يَفْعَله وَمَا لَا يَفْعَله وَهُوَ التَّقْوَى. وَصَاحب الْحَقِيقَة لم يبْق لَهُ مَا يَفْعَله إِلَّا مَا يُؤمر بِهِ فَقَط فَلَا يفعل إِلَّا مَا أَمر بِهِ فِي الشَّرْع وَمَا كَانَ مُبَاحا لم يفعل إِلَّا مَا أَمر بِهِ بَاطِنا. وَأما (الثَّالِث) : فقد تمّ شُهُوده فِي أَنه لَا يفعل إِلَّا لله وَبِاللَّهِ. فَلَا يفعل إِلَّا مَا أَمر الله بِهِ لله وَيشْهد أَن الله هُوَ الَّذِي فعل ذَاك فِي الْحَقِيقَة وَلَا تكون لَهُ همة إِرَادَة أَن يفعل لنَفسِهِ وَلَا لغير الله وَلَا يفعل بِنَفسِهِ وَلَا بِغَيْر الله. و (الثَّلَاثَة) مشتركون فِي الطَّرِيق فِي أَن كلا مِنْهُم لَا يفعل إِلَّا الطَّاعَة لَكِن يتفاوتون بِكَمَال الْمعرفَة وَالشَّهَادَة وبصفاء النِّيَّة والإرادة. وَالله أعلم. فَإِن قيل: كَلَام الشَّيْخ كُله يَدُور على أَنه يتبع الْأَمر مهما أمكن مَعْرفَته بَاطِنا وظاهرا وَمَا لَيْسَ فِيهِ أَمر بَاطِن وَلَا ظَاهر يكون فِيهِ مُسلما لفعل الرب بِحَيْثُ لَا يكون لَهُ اخْتِيَار لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا بل إِن عرف الْأَمر كَانَ مَعَه وَإِن لم يعرفهُ كَانَ مَعَ الْقدر فَهُوَ مَعَ أَمر الرب إِن عرف وَإِلَّا فَمَعَ خلقه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخلق وَالْأَمر وَهَذَا يَقْتَضِي أَن من الْحَوَادِث مَا لَيْسَ فِيهِ أَمر وَلَا نهي فَلَا يكون لله فِيهِ حكم لَا باستحباب وَلَا كَرَاهَة. وَقد صرح بذلك هُوَ وَالشَّيْخ حَمَّاد الدباس، وَإِن السالك يصل إِلَى أُمُور لَا يكون فِيهَا حكم شَرْعِي بِأَمْر وَلَا نهي بل يقف العَبْد مَعَ الْقدر. وَهَذَا الْموضع هُوَ الَّذِي يكون السالك فِيهِ عِنْدهم مَعَ " الْحَقِيقَة الْقَدَرِيَّة " الْمَحْضَة إِذْ لَيْسَ هُنَا حَقِيقَة شَرْعِيَّة. وَهَذَا مِمَّا ينازعهم فِيهِ أهل الْعلم بالشريعة. وَيَقُولُونَ: إِن " الْفِعْل " إِمَّا أَن يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْع وجوده راجحا على عَدمه وَهُوَ الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب. وَإِمَّا أَن يكون عَدمه راجحا على وجوده. وَهُوَ الْمحرم وَالْمَكْرُوه. وَإِمَّا أَن يَسْتَوِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمُبَاح. وَهَذَا التَّقْسِيم بِحَسب الْأَمر الْمُطلق. ثمَّ " الْفِعْل الْمعِين " الَّذِي يُقَال هُوَ مُبَاح إِمَّا أَن تكون مصْلحَته راجحة للْعَبد لاستعانته بِهِ على طَاعَة ولحسن نِيَّته فَهَذَا يصير أَيْضا محبوبا رَاجِح الْوُجُود بِهَذَا الِاعْتِبَار وَإِمَّا أَن يكون مفوتا للْعَبد مَا هُوَ أفضل لَهُ كالمباح الَّذِي يشْغلهُ عَن مُسْتَحبّ فَهَذَا عَدمه خير لَهُ. والسالك المتقرب إِلَى الله بالنوافل بعد الْفَرَائِض لَا يكون الْمُبَاح الْمعِين فِي حَقه مستوي الطَّرفَيْنِ فَإِنَّهُ إِذا لم يستعن بِهِ على طَاعَة كَانَ تَركه وَفعل طَاعَة مَكَانَهُ خيرا لَهُ وَإِنَّمَا قدر وجوده وَعَدَمه سَوَاء إِذا كَانَ مَعَ عَدمه يشْتَغل بمباح مثله. فَيُقَال: لَا فرق بَين هَذَا وَهَذَا، فَهَذَا يصلح للأبرار أهل الْيَمين الَّذين يَتَقَرَّبُون إِلَى الله بالفرائض: أَدَاء الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات، ويشتغلون مَعَ ذَلِك بمباحات. فَهَؤُلَاءِ قد يكون الْمُبَاح الْمعِين يَسْتَوِي وجوده وَعَدَمه فِي حَقهم إِذا كَانُوا عِنْد عَدمه يشتغلون بمباح آخر وَلَا سَبِيل إِلَى أَن تتْرك النَّفس فعلا إِن لم تشتغل بِفعل آخر يضاد الأول؛ إِذْ لَا تكون معطلة عَن جَمِيع الحركات والسكنات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وَمن هُنَا أنكر الكعبي " الْمُبَاح " فِي الشَّرِيعَة لِأَن كل مُبَاح فَهُوَ يشْتَغل بِهِ عَن محرم، وَترك الْمحرم وَاجِب وَلَا يُمكنهُ تَركه إِلَّا أَن يشْتَغل بضده وَهَذَا الْمُبَاح ضِدّه، وَالْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه، وَالنَّهْي عَنهُ أَمر بضده الْمعِين إِن لم يكن لَهُ إِلَّا ضد وَاحِد وَإِلَّا فَهُوَ أَمر بِأحد أضداده فَأَي ضد تلبس بِهِ كَانَ وَاجِبا من بَاب الْوَاجِب الْمُخَير. وسؤال الكعبي هَذَا أشكل على كثير من النظار فَمنهمْ من اعْترف بِالْعَجزِ عَن جَوَابه: كَأبي الْحسن الْآمِدِيّ، وَقواهُ طَائِفَة بِنَاء على أَن النَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بضده كَأبي الْمَعَالِي. وَمِنْهُم من قَالَ: هَذَا فِيمَا كَانَت أضداده محصورة فَأَما مَا لَيست أضداده محصورة فَلَا يكون النَّهْي عَنهُ أمرا بِأَحَدِهِمَا كَمَا يفرق بَين الْوَاجِب الْمُطلق، وَالْوَاجِب الْمُخَير. فَيُقَال فِي الْمُخَير: هُوَ أَمر بِأحد الثَّلَاثَة وَيُقَال فِي الْمُطلق هُوَ أَمر بِالْقدرِ الْمُشْتَرك. وجدي أَبُو البركات يمِيل إِلَى هَذَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وَقد ألزموا " الكعبي " إِذا ترك الْحَرَام بِحرَام آخر وَهُوَ قد يَقُول: عَلَيْهِ ترك الْمُحرمَات كلهَا إِلَى مَا لَيْسَ بِمحرم بل إِمَّا مُبَاح وَإِمَّا مُسْتَحبّ وَإِمَّا وَاجِب. و" تَحْقِيق الْأَمر " أَن قَوْلنَا: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه. وأضداده وَالنَّهْي عَنهُ أَمر بضده أَو بِأحد أضداده من جنس قَوْلنَا: الْأَمر بالشَّيْء أَمر بلوازمه وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء نهي عَمَّا لَا يتم اجتنابه إِلَّا بِهِ. فَإِن وجود الْمَأْمُور بِهِ يسْتَلْزم وجود لوازمه وَانْتِفَاء أضداده، بل وجود كل شَيْء هُوَ كَذَلِك يسْتَلْزم وجوده وَانْتِفَاء أضداده وَعدم الْمنْهِي عَنهُ؛ بل وَعدم كل شَيْء يسْتَلْزم عدم ملزوماته وَإِذا كَانَ لَا يعْدم إِلَّا بضد يخلفه كالأكوان فَلَا بُد عِنْد عَدمه من وجود بعض أضداده. فَهَذَا حق فِي نَفسه؛ لَكِن هَذِه اللوازم جَاءَت من ضَرُورَة الْوُجُود وَإِن لم تكن مَقْصُوده لِلْأَمْرِ. وَالْفرق ثَابت بَين مَا يُؤمر بِهِ قصدا مَا يلْزمه فِي الْوُجُود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 (فَالْأول) هُوَ الَّذِي يذم ويعاقب على تَركه بِخِلَاف (الثَّانِي) فَإِن من أَمر بِالْحَجِّ أَو الْجُمُعَة وَكَانَ مَكَانَهُ بَعيدا فَعَلَيهِ أَن يسْعَى من الْمَكَان الْبعيد، والقريب يسْعَى من الْمَكَان الْقَرِيب فَقطع تِلْكَ المسافات من لَوَازِم الْمَأْمُور بِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِذا ترك هَذَانِ الْجُمُعَة وَالْحج لم تكن عُقُوبَة الْبعيد أعظم من عُقُوبَة الْقَرِيب بل ذَاك بِالْعَكْسِ أولى مَعَ أَن ثَوَاب الْبعيد أعظم فَلَو كَانَت اللوازم مَقْصُودَة لِلْأَمْرِ لَكَانَ يُعَاقب بِتَرْكِهَا فَكَأَن تكون عُقُوبَة الْبعيد أعظم وَهَذَا بَاطِل قطعا. وَهَكَذَا إِذا فعل الْمَأْمُور بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُد من ترك أضداده، لَكِن ترك الأضداد هُوَ من لَوَازِم فعل الْمَأْمُور بِهِ لَيْسَ مَقْصُودا لِلْأَمْرِ بِحَيْثُ إِنَّه إِذا ترك الْمَأْمُور بِهِ عُوقِبَ على تَركه لَا على فعل الأضداد الَّتِي اشْتغل بهَا وَكَذَلِكَ الْمنْهِي عَنهُ مَقْصُود الناهي عَدمه؛ لَيْسَ مَقْصُوده فعل شَيْء من أضداده وَإِذا تَركه متلبسا بضد لَهُ كَانَ ذَلِك من ضَرُورَة التّرْك. وعَلى هَذَا إِذا ترك حَرَامًا بِحرَام آخر فَإِنَّهُ يُعَاقب على الثَّانِي وَلَا يُقَال فعل وَاجِبا وَهُوَ ترك الأول؛ لِأَن الْمَقْصُود عدم الأول، فالمباح الَّذِي اشْتغل بِهِ عَن محرم لم يُؤمر بِهِ وَلَا بأمثاله [كَانَ] أمرا مَقْصُودا؛ لَكِن نهي عَن الْحَرَام وَمن ضَرُورَة ترك الْمنْهِي عَنهُ الِاشْتِغَال بضد من أضداده فَذَاك يَقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 لَازِما لترك الْمنْهِي عَنهُ فَلَيْسَ هُوَ الْوَاجِب الْمَحْدُود بقولنَا " الْوَاجِب مَا يذم تَاركه ويعاقب تَاركه " أَو " يكون تَركه سَببا للذم وَالْعِقَاب ". فقولنا: " مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب " أَو " يجب التَّوَصُّل إِلَى الْوَاجِب بِمَا لَيْسَ بِوَاجِب " يتَضَمَّن إِيجَاب اللوازم. وَالْفرق ثَابت بَين الْوَاجِب " الأول " و " الثَّانِي ". فَإِن الأول يذم تَاركه ويعاقب، وَالثَّانِي وَاجِب وقوعا أَي لَا يحصل الأول إِلَّا بِهِ وَيُؤمر بِهِ أمرا بالوسائل ويثاب عَلَيْهِ لَكِن الْعقُوبَة لَيست على تَركه. وَمن هَذَا الْبَاب إِذا اشتبهت الْميتَة بالمذكى فَإِن الْمحرم الَّذِي يُعَاقب على فعله أَحدهمَا بِحَيْثُ إِذا أكلهما جَمِيعًا لم يُعَاقب عُقُوبَة من أكل ميتتين بل عُقُوبَة من أكل ميتَة وَاحِدَة، وَالْأُخْرَى وَجب تَركهَا وجوب الْوَسَائِل. فَقَوْل من قَالَ: كِلَاهُمَا محرم صَحِيح بِهَذَا الِاعْتِبَار؛ وَقَول من قَالَ: الْمحرم فِي نفس الْأَمر أَحدهمَا صَحِيح أَيْضا بذلك الِاعْتِبَار وَهَذَا نَظِير قَول من قَالَ: يجب التَّوَصُّل إِلَى الْوَاجِب بِمَا لَيْسَ بِوَاجِب. وإنكار أبي حَامِد الْغَزالِيّ وَأبي مُحَمَّد الْمَقْدِسِي على من قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 هَذَا وَمن قَالَ الْمحرم أَحدهمَا لَا يُنَاسب طَريقَة الْفُقَهَاء، وَحَاصِله يرجع إِلَى " نزاع لَفْظِي ". فَإِن الْوُجُوب وَالْحُرْمَة الثَّابِتَة لأَحَدهمَا لَيست ثَابِتَة للْآخر بل هِيَ نوع آخر حَتَّى لَو اشتبهت مملوكته بأجنبية بِاللَّيْلِ وَوَطئهَا يعْتَقد حل وَطْء إِحْدَاهمَا وَتَحْرِيم وَطْء الْأُخْرَى كَانَ وَلَده من مملوكته ثَابتا نسبه بِخِلَاف الْأُخْرَى وَلَو قَدرنَا أَنه اشتبهت أُخْته بأجنبية وَتزَوج إِحْدَاهمَا فحد مثلا ثمَّ تزوج الْأُخْرَى لم يحد حَدَّيْنِ مَعَ أَنه لَا حد فِي ذَلِك لجَوَاز أَن تكون الْمَنْكُوحَة هِيَ الْأَجْنَبِيَّة. وَبِهَذَا تنْحَل " شُبْهَة الكعبي ". فَإِن الْمحرم تَركه مَقْصُود، وَأما الِاشْتِغَال بضد من أضداده فَهُوَ وَسِيلَة. فَإِذا قيل: الْمُبَاح وَاجِب بِمَعْنى وجوب الْوَسَائِل أَي قد يتوسل بِهِ إِلَى فعل وَاجِب وَترك محرم فَهَذَا حق. ثمَّ إِن هَذَا يعْتَبر فِيهِ الْقَصْد؛ فَإِن كَانَ الْإِنْسَان يقْصد أَن يشْتَغل بالمباح ليترك الْمحرم مثل من يشْتَغل بِالنّظرِ إِلَى امْرَأَته وَوَطئهَا ليَدع بذلك النّظر إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 الْأَجْنَبِيَّة وَوَطئهَا أَو يَأْكُل طَعَاما حَلَالا ليشتغل بِهِ عَن الطَّعَام الْحَرَام فَهَذَا يُثَاب على هَذِه النِّيَّة وَالْفِعْل. كَمَا بَين ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: " {وَفِي بضع أحدكُم صَدَقَة. قَالُوا: يَا رَسُول الله؛ أَيَأتِي أَحَدنَا شَهْوَته وَيكون لَهُ أجر قَالَ: أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي حرَام أما كَانَ عَلَيْهِ وزر؟ قَالُوا: بلَى. قَالَ: فَلم تعتدّون بالحرام وَلَا تعتدّون بالحلال؟} ". وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " {إِن الله يحب أَن تُؤْخَذ بِرُخصِهِ كَمَا يكره أَن تُؤْتى مَعْصِيَته} " رَوَاهُ أَحْمد وَابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه. وَقد يُقَال: الْمُبَاح يصير وَاجِبا بِهَذَا الِاعْتِبَار وَإِن تعين طَرِيقا صَار وَاجِبا معينا وَإِلَّا كَانَ وَاجِبا مُخَيّرا لَكِن مَعَ هَذَا الْقَصْد وَأما مَعَ الذهول عَن ذَلِك فَلَا يكون وَاجِبا أصلا إِلَّا وجوب الْوَسَائِل إِلَى التّرْك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وَترك الْمحرم لَا يشْتَرط فِيهِ الْقَصْد. فَكَذَلِك مَا يتوسل بِهِ إِلَيْهِ فَإِذا قيل هُوَ مُبَاح من جِهَة نَفسه وَأَنه قد يجب وجوب المخيرات من جِهَة الْوَسِيلَة لم يمْنَع ذَلِك. فالنزاع فِي هَذَا الْبَاب نزاع لَفْظِي اعتباري. وَإِلَّا فالمعاني الصَّحِيحَة لَا يُنَازع فِيهَا من فهمها. و (الْمَقْصُود هُنَا) : أَن الْأَبْرَار وَأَصْحَاب الْيَمين قد يشتغلون عَن مُبَاح بمباح آخر فَيكون كل من المباحين يَسْتَوِي وجوده وَعَدَمه فِي حَقهم. أما السَّابِقُونَ المقربون فهم إِنَّمَا يستعملون الْمُبَاحَات إِذا كَانَت طَاعَة لحسن الْقَصْد فِيهَا؛ والاستعانة على طَاعَة الله. وَحِينَئِذٍ فمباحاتهم طاعات. وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم تكن الْأَفْعَال فِي حَقهم إِلَّا مَا يتَرَجَّح وجوده فيؤمرون بِهِ شرعا أَمر اسْتِحْبَاب أَو مَا يتَرَجَّح عَدمه فَالْأَفْضَل لَهُم أَلا يفعلوه وَإِن لم يكن فِيهِ إِثْم. والشريعة قد بيّنت أَحْكَام الْأَفْعَال كلهَا فَهَذَا " سُؤال ". و " سُؤال ثَان " وَهُوَ أَنه إِذا قدر أَن من الْأَفْعَال مَا لَيْسَ فِيهِ أَمر وَلَا نهي كَمَا فِي حق الْأَبْرَار فَهَذَا الْفِعْل لَا يحمد وَلَا يذم وَلَا يحب وَلَا يبغض وَلَا ينظر فِيهِ إِلَى وجود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الْقدر وَعَدَمه؛ بل إِن فَعَلُوهُ لم يحْمَدُوا وَإِن لم يفعلوه لم يحْمَدُوا، فَلَا يَجْعَل مِمَّا يحْمَدُونَ عَلَيْهِ أَنهم يكونُونَ فِي هَذَا الْفِعْل كالميت بَين يَدي الْغَاسِل مَعَ كَون هَذَا الْفِعْل صدر باختيارهم وإرادتهم. إِذْ الْكَلَام فِي ذَلِك. وَأما غير " الْأَفْعَال الاختيارية ": وَهُوَ مَا فعل بالإنسان بِغَيْر اخْتِيَاره، كَمَا يحمل الْإِنْسَان وَهُوَ لَا يَسْتَطِيع الِامْتِنَاع، فَهَذَا خَارج عَن التَّكْلِيف مَعَ أَن العَبْد مَأْمُور فِي مثل هَذَا أَن يُحِبهُ إِن كَانَ حَسَنَة ويبغضه إِن كَانَ سَيِّئَة ويخلو عَنْهُمَا إِن لم يكن حَسَنَة وَلَا سَيِّئَة، فَمن جعل الْإِنْسَان فِيمَا يَسْتَعْمِلهُ فِيهِ الْقدر من الْأَفْعَال الاختيارية - كالميت بَين يَدي الْغَاسِل - فقد رفع الْأَمر وَالنَّهْي عَنهُ فِي الْأَفْعَال الاختيارية وَهَذَا بَاطِل. و" سُؤال ثَالِث ": وَهُوَ أَن حَقِيقَة هَذَا القَوْل طي بِسَاط الْأَمر وَالنَّهْي عَن العَبْد فِي هَذِه الْأَحْوَال مَعَ كَون أَفعاله اختيارية، وهب أَنه لَيْسَ لَهُ هوى فَلَيْسَ كل مَا لَا هوى فِيهِ يسْقط عَنهُ فِيهِ الْأَمر وَالنَّهْي بل عَلَيْهِ أَن يحب مَا أحبه الله وَرَسُوله وَيبغض مَا أبغضه الله وَرَسُوله. قيل: هَذِه الأسولة أسولة صَحِيحَة. وَفصل الْخطاب أَن السالك قد يخفى عَلَيْهِ الْأَمر وَالنَّهْي بِحَيْثُ لَا يدْرِي هَل ذَلِك الْفِعْل مَأْمُور بِهِ شرعا أَو مَنْهِيّ عَنهُ شرعا؛ فَيبقى هَوَاهُ لِئَلَّا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 لَهُ هوى فِيهِ ثمَّ يسلم فِيهِ للقدر، وَهُوَ فعل الرب لعدم مَعْرفَته بِرِضا الرب وَأمره وحبه فِي ذَلِك الْفِعْل. وَهَذَا يعرض لكثير من أَئِمَّة الْعباد وأئمة الْعلمَاء فَإِنَّهُ قد تكون عِنْدهم أَفعَال وأقوال لَا يعْرفُونَ حكم الله الشَّرْعِيّ فِيهَا بل قد تَعَارَضَت عِنْدهم فِيهَا الْأَدِلَّة أَو خفيت الْأَدِلَّة بِالْكُلِّيَّةِ فيكونون معذورين لخفاء الشَّرْع عَلَيْهِم. وَحكم الشَّرْع إِنَّمَا يثبت فِي حق العَبْد إِذا تمكن من مَعْرفَته فَأَما مَا لم يبلغهُ وَلم يتَمَكَّن من مَعْرفَته فَلَا يُطَالب بِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَن يَتَّقِي الله مَا اسْتَطَاعَ. وَهَذَا خطأ فِي الْعلم وَلَيْسَ خطأ فِي الْعَمَل وَهُوَ كالمجتهد الْمُخطئ لَهُ أجر على قَصده واجتهاده، وخطؤه مَرْفُوع عَنهُ. فَإِن قيل: فَإِذا كَانَ الْأَمر هَكَذَا. فَالْوَاجِب على العَبْد أَن يتَوَقَّف فِي مثل هَذِه الْحَال إِذا لم يتَبَيَّن لَهُ أَن ذَلِك الْفِعْل مَأْمُور بِهِ أَو مَنْهِيّ عَنهُ وَهُوَ لَا يُرِيد أَن يفعل شَيْئا لَا مدح فِيهِ وَلَا ذمّ فيقف لَا يستسلم للقدر وَيصير محلا لما يسْتَعْمل فِيهِ من الْأَفْعَال اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا فعل غَيره فعلا فَهُوَ لَا يمدحه وَلَا يذمه وَلَا يرضاه وَلَا يسخطه؛ إِذا لم يتَبَيَّن لَهُ حكمه. فَأَما كَونه هُوَ من أَفعاله الاختيارية يصير مستسلما لما يَسْتَعْمِلهُ الْقدر فِيهِ: كالطفل مَعَ الظِّئْر وَالْمَيِّت مَعَ الْغَاسِل فَهَذَا مَا لم يَأْمر الله بِهِ وَلَا رَسُوله بل هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 محرم، وَإِن عفى عَن صَاحبه وَحسب صَاحبه أَن يعفي عَنهُ؛ لاجتهاده وَحسن قَصده. أما كَونه يحمد على ذَلِك وَيجْعَل هَذَا أفضل المقامات فَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، وَكَونه مُجَردا عَن هَوَاهُ لَيْسَ مسوغا لَهُ أَن يستسلم لكل مَا يفعل بِهِ. ثمَّ يُقَال الْأُمُور مَعَ هَذَا نَوْعَانِ: (أَحدهمَا) : أَن يفعل بِهِ بِغَيْر اخْتِيَاره كَمَا يحمل الْإِنْسَان وَلَا يُمكنهُ الِامْتِنَاع، وكما تضجع الْمَرْأَة قهرا وتوطأ فَهَذَا لَا إِثْم فِيهِ بِاتِّفَاق الْعلمَاء. وَإِمَّا أَن يكره بِالْإِكْرَاهِ الشَّرْعِيّ حَتَّى يفعل، فَهَذَا أَيْضا مَعْفُو عَنهُ فِي الْأَفْعَال عِنْد الْجُمْهُور، وَهُوَ أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد لقَوْله تَعَالَى {وَمن يُكْرهن فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم} . وَأما إِذا لم يكره الْإِكْرَاه الشَّرْعِيّ فاستسلامه للْفِعْل الْمُطلق الَّذِي لَا يعرف أخير هُوَ أم شَرّ، لَيْسَ هُوَ مَأْمُورا بِهِ وَإِن جرى على يَده خرق عَادَة أَو لم يجر فَلَيْسَ هُوَ مَأْمُورا أَن يفعل إِلَّا مَا هُوَ خير عِنْد الله وَرَسُوله. قيل: هَذَا السُّؤَال صَحِيح وَحَقِيقَة الْأَمر أَن السالكين إِذا وصلوا إِلَى هَذَا الْمقَام فبحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم لرَبهم وطلبهم مِنْهُ أَن يخْتَار لَهُم مَا هُوَ الْأَصْلَح إِذا استعملوا فِي أَمر وهم لَا يعْرفُونَ حكمه فِي الشَّرْع رجوا أَن يكون خيرا؛ لِأَن معرفتهم بِحكمِهِ قد تتعذر عَلَيْهِم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وَالْإِنْسَان غير عَالم فِي كل حَال بِمَا هُوَ الْأَصْلَح لَهُ فِي دينه وَبِمَا هُوَ رضَا الله وَرَسُوله فَيبقى حَالهم حَال المستخير لله فِيمَا لم يعلم عاقبته إِذا قَالَ: " {اللَّهُمَّ إِنِّي أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وَأَسْأَلك من فضلك الْعَظِيم؛ فَإنَّك تقدر وَلَا أقدر؛ وَتعلم وَلَا أعلم؛ وَأَنت علام الغيوب. اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر خير لي فِي ديني ومعاشي وعاقبة أَمْرِي فاقدره لي ويسره لي ثمَّ بَارك لي فِيهِ. وَإِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر شَرّ لي فِي ديني ومعاشي وعاقبة أَمْرِي فأصرفه عني واصرفني عَنهُ واقدر لي الْخَيْر حَيْثُ كَانَ ثمَّ رضني بِهِ} ". فَإِذا استخار الله كَانَ مَا شرح لَهُ صَدره وتيسر لَهُ من الْأُمُور هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الله لَهُ. إِذْ لم يكن مَعَه دَلِيل شَرْعِي على أَن عين هَذَا الْفِعْل هُوَ مَأْمُور بِهِ فِي هَذِه الْحَال فَإِن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا تَأمر بِأَمْر مُطلق عَام لَا بِعَين كل فعل من كل فَاعل إِذْ كَانَ هَذَا مُمْتَنعا؛ وَإِن كَانَ ذَلِك الْمعِين يُمكن إدراجه تَحت بعض خطاب الشَّارِع الْعَام؛ إِذا كَانَت الْأَفْرَاد الْمعينَة دَاخِلَة تَحت الْأَمر الْعَام الْكُلِّي؛ لَكِن لَا يقدر كل أحد على استحضار هَذَا وَلَا على استحضار أَنْوَاع الْخطاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاء يعدلُونَ إِلَى الْقيَاس عِنْد خَفَاء ذَلِك عَلَيْهِم. ثمَّ " الْقيَاس أَيْضا قد لَا يحصل فِي كل وَاقعَة فقد يخفى على الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان دُخُول الْوَاقِعَة الْمعينَة تَحت خطاب عَام أَو اعْتِبَارهَا بنظير لَهَا فَلَا يعرف لَهَا أصل وَلَا نَظِير. هَذَا مَعَ كَثْرَة نظرهم فِي خطاب الشَّارِع وَمَعْرِفَة مَعَانِيه ودلالته على الْأَحْكَام. فَكيف بِمن لم يكن كَذَلِك؟ ثمَّ السالك لَيْسَ قَصده معرفَة الْحَلَال من الْحَرَام؛ بل مَقْصُوده أَن هَذَا الْفِعْل الْمعِين خير من هَذَا وَهَذَا خير من هَذَا وَأيهمَا أحب إِلَى الله فِي حَقه فِي تِلْكَ الْحَال. وَهَذَا بَاب وَاسع لَا يُحِيط بِهِ إِلَّا الله وَلكُل سالك حَال تخصه قد يُؤمر فِيهَا بِمَا ينْهَى عَنهُ غَيره وَيُؤمر فِي حَال بِمَا ينْهَى عَنهُ فِي حَال آخر. فَقَالُوا: نَحن نَفْعل الْخَيْر بِحَسب الْإِمْكَان وَهُوَ فعل مَا علمنَا أَنا أمرنَا بِهِ ونترك أصل الشَّرّ وَهُوَ هوى النَّفس ونلجأ إِلَى الله فِيمَا سوى ذَلِك أَن يوفقنا لما هُوَ أحب إِلَيْهِ وأرضى لَهُ؛ فَمَا استعملنا فِيهِ رجونا أَن يكون من هَذَا الْبَاب؛ ثمَّ إِن أصبْنَا فلنا أَجْرَانِ وَإِلَّا فلنا أجر وخطؤنا محطوط عَنَّا فَهَذَا هَذَا. وَحِينَئِذٍ فَمن قدر أَنه علم الْمَشْرُوع وَفعله فَهُوَ أفضل من هَذَا، وَلَكِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 كثير مِمَّن يعلم الْمَشْرُوع لَا يَفْعَله وَلَا يقْصد أحب الْأُمُور إِلَى الله، وَكثير مِنْهُم يَفْعَله بشوب من الْهوى فَيبقى هَذَا يفعل الْمَشْرُوع بهوى، وَهَذَا يتْرك مَا لم يعلم أَنه مَشْرُوع بِلَا هوى. فَهَذَا نقص فِي الْعلم، وَذَاكَ نقص فِي الْعَمَل؛ إِذْ الْعَمَل بهوى النَّفس نقص فِي الْعَمَل وَلَو كَانَ الْمَفْعُول وَاجِبا. فَيُقَال: إِن تَابَ صَاحب الْهوى من هَوَاهُ كَانَ أرفع بِعِلْمِهِ وَإِن لم يتب فَلهُ نصيب من عَالم السوء. وَلِهَذَا تشاجر رجلَانِ من الْمُتَقَدِّمين عَام الْحكمَيْنِ فِي مثل هَذَا. فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: إِنَّمَا مثلك مثل الْكَلْب؛ إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث. وَقَالَ الآخر: أَنْت كالحمار يحمل أسفارا؛ فَهَذَا أحسن قصدا وَأقوى علما. وَلِهَذَا تَجِد أَصْحَاب حسن الْقَصْد إِنَّمَا يعيبون على هَؤُلَاءِ اتِّبَاع الْهوى وَحب الدُّنْيَا والرئاسة، وَأهل الْعلم يعيبون على أُولَئِكَ نقص علمهمْ بِالشَّرْعِ، وعدولهم عَن الْأَمر وَالنَّهْي فَهَذَا هَذَا. وَالله هُوَ الْمَسْئُول أَن يهدينا إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَقد قَالَ بعض (أهل الْفِقْه والزهد) : من النَّاس من سلك " الشَّرِيعَة " وَمِنْهُم من سلك " الْحَقِيقَة ". وَلَعَلَّه أَرَادَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء؛ فَإِن هَؤُلَاءِ يرجحون بِمَا ييسره الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 مَعَ حسن الْقَصْد وَاتِّبَاع الْأَمر وَالنَّهْي الْمَعْلُوم لَهُم مَعَ خَفَاء الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة فِي ذَلِك المتيسر لَهُم وَهَؤُلَاء يرجحون بالأدلة الشَّرْعِيَّة من الظَّوَاهِر والأقيسة وأخبار الْآحَاد وأقوال الْعلمَاء مَعَ خَفَاء الْأَمر المتيسر لَهُم. و (أَيْضا فَهَؤُلَاءِ) قد يشْهدُونَ مَا فِي ذَلِك الْفِعْل الْمَقْدُور من الْمصلحَة وَالْخَيْر فيرجحونه بِحكم الْإِيمَان وَإِن لم يعرفوا دَلِيلا من النَّص على حسنه وَأُولَئِكَ إِنَّمَا يرجحون بالنصوص وَمَا استنبط مِنْهَا. فَهَؤُلَاءِ لَهُم الْقُرْآن وَهَؤُلَاء لَهُم الْإِيمَان. وَسبب هَذَا أَن كلا من الطَّائِفَتَيْنِ خَفِي عَلَيْهِ مَا مَعَ الْأُخْرَى من الْحق، وكل من الطَّائِفَتَيْنِ فِي طريقها حق وباطل. فَأَما المدعون للْحَقِيقَة بِدُونِ مُرَاعَاة الْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين فهم ضالون؛ كَالَّذِين يعْرفُونَ الْأَمر وَالنَّهْي وَلَا يَفْعَلُونَ إِلَّا مَا يهوونه من الْكَبَائِر فَإِنَّهُم فساق. وَهَؤُلَاء وَهَؤُلَاء الَّذين قيل فيهم: " احْذَرُوا فتْنَة الْعَالم الْفَاجِر وَالْعَابِد الْجَاهِل فَإِن فتنتهما فتْنَة لكل مفتون ". و" الْحَقِيقَة " قد تكون قدرية وَقد تكون ذوقية وَقد تكون شَرْعِيَّة وَلَفظ " الشَّرْع " يتَنَاوَل الْمُبدل والمؤول والمنزل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 و (الْمَقْصُود هُنَا) ذكر أهل الاسْتقَامَة من الطَّائِفَتَيْنِ، وَالْكَلَام على حَال أهل الْعِبَادَة والإرادة الَّذين خَرجُوا عَن الْهوى وَهُوَ الْفرق الطبعي وَقَامُوا بِمَا علموه من الْفرق الشَّرْعِيّ. وَبَقِي " قسم ثَالِث " لَيْسَ لَهُم فِيهِ فرق طبعي وَلَا عِنْدهم فِيهِ فرق شَرْعِي فَهُوَ الَّذِي جروا فِيهِ مَعَ الْفِعْل وَالْقدر. وَأما من جرى مَعَ الْفرق الطبعي إِمَّا عَالما بِأَنَّهُ عَاص وَهُوَ الْعَالم الْفَاجِر أَو محتجا بِالْقدرِ أَو بذوقه ووجده معرضًا عَن الْكتاب وَالسّنة وَهُوَ العابد الْجَاهِل فَهَذَا خَارج عَن الصِّرَاط الْمُسْتَقيم. وَهَذَا مِمَّا يبين حَال كَمَال حَال الصَّحَابَة وَأَنَّهُمْ خير قُرُون هَذِه الْأمة؛ إِذْ كَانُوا فِي خلَافَة النُّبُوَّة يقومُونَ بالفروق الشَّرْعِيَّة فِي جليل الْأُمُور ودقيقها مَعَ اتساع الْأَمر وَالْوَاحد من الْمُتَأَخِّرين قد يعجز عَن معرفَة الفروق الشَّرْعِيَّة فِيمَا يَخُصُّهُ كَمَا أَن الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ يتبع هَوَاهُ فِي أَمر قَلِيل. فَأُولَئِك مَعَ عَظِيم مَا دخلُوا فِيهِ من الْأَمر وَالنَّهْي لَهُم الْعلم الَّذِي يميزون بِهِ بَين الْحَسَنَات والسيئات وَلَهُم الْقَصْد الْحسن الَّذِي يَفْعَلُونَ بِهِ الْحَسَنَات. وَالْكثير من الْمُتَأَخِّرين الْعَالمين والعابدين يفوت أحدهم الْعلم فِي كثير من الْحَسَنَات والسيئات حَتَّى يظنّ السَّيئَة حَسَنَة وَبِالْعَكْسِ، أَو يفوتهُ الْقَصْد فِي كثير من الْأَعْمَال حَتَّى يتبع هَوَاهُ فِيمَا وضح لَهُ من الْأَمر وَالنَّهْي. فنسأل الله أَن يهدينا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 هَذَا لعمري إِذا كَانَ عِنْد الْعَالم مَا هُوَ أَمر الشَّارِع وَنَهْيه حَقِيقَة وَعند العابد حسن الْقَصْد الْخَالِي عَن الْهوى حَقِيقَة فَأَما من خلط الشَّرْع الْمنزل بالمبدل والمؤول، وخلط الْقَصْد الْحسن بِاتِّبَاع الْهوى فَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء مخلطون فِي علمهمْ وعملهم. وتخليط هَؤُلَاءِ فِي الْعلم سوى تخليطهم وتخليط غَيرهم فِي الْقَصْد، وتخليط هَؤُلَاءِ فِي الْقَصْد سوى تخليطهم وتخليط غَيرهم فِي الْعلم فَإِنَّهُ من عمل بِمَا علم وَرثهُ الله علم مَا لم يعلم. و " حسن الْقَصْد " من أعون الْأَشْيَاء على نيل الْعلم ودركه. و " الْعلم الشَّرْعِيّ " من أعون الْأَشْيَاء على حسن الْقَصْد وَالْعَمَل الصَّالح فَإِن الْعلم قَائِد وَالْعَمَل سائق، وَالنَّفس حرون فَإِن ونى قائدها لم تستقم لسائقها وَإِن ونى سائقها لم تستقم لقائدها فَإِذا ضعف الْعلم حَار السالك وَلم يدر أَيْن يسْلك فغايته أَن يستطرح للقدر وَإِذا ترك الْعَمَل حاد السالك عَن الطَّرِيق فسلك غَيره مَعَ علمه أَنه تَركه فَهَذَا حائر لَا يدْرِي أَيْن يسْلك مَعَ كَثْرَة سيره وَهَذَا حائد عَن الطَّرِيق زائغ عَنهُ مَعَ علمه بِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} . هَذَا جَاهِل وَهَذَا ظَالِم. قَالَ تَعَالَى: {وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا} . مَعَ أَن الْجَهْل وَالظُّلم متقاربان لَكِن الْجَاهِل لَا يدْرِي أَنه ظَالِم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 والظالم جهل الْحَقِيقَة الْمَانِعَة لَهُ من الْعلم. قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَة على الله للَّذين يعْملُونَ السوء بِجَهَالَة ثمَّ يتوبون من قريب} . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: سَأَلت أَصْحَاب مُحَمَّد فَقَالُوا: كل من عصى الله فَهُوَ جَاهِل وكل من تَابَ قبل الْمَوْت فقد تَابَ من قريب. وَقد روى الْخلال عَن أبي حَيَّان التَّيْمِيّ قَالَ: " الْعلمَاء ثَلَاثَة " فعالم بِاللَّه لَيْسَ عَالما بِأَمْر الله، وعالم بِأَمْر الله لَيْسَ عَالما بِاللَّه، وعالم بِاللَّه وبأمر الله. فالعالم بِاللَّه الَّذِي يخشاه والعالم بِأَمْر الله الَّذِي يعرف أمره وَنَهْيه. قلت: والخشية تمنع اتِّبَاع الْهوى، قَالَ تَعَالَى: {وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى} {فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} . والكمال فِي عدم الْهوى وَفِي الْعلم، وَذَلِكَ هُوَ لخاتم الرُّسُل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي قَالَ فِيهِ: {والنجم إِذا هوى} {مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى} {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فنفى عَنهُ الضلال والغي وَوَصفه بِأَنَّهُ مَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى فنفى الْهوى وَأثبت الْعلم الْكَامِل وَهُوَ الْوَحْي فَهَذَا كَمَال الْعلم وَذَاكَ كَمَال الْقَصْد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وَوصف أعداءه بضد هذَيْن فَقَالَ تَعَالَى: {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى} فالكمال الْمُطلق للْإنْسَان هُوَ تَكْمِيل الْعُبُودِيَّة لله علما وقصدا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ} . وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَن إِبْلِيس: {قَالَ فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ} {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} . وَقَالَ: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} وَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على الَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانه على الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون} . و " عِبَادَته " تَعَالَى هِيَ طَاعَة أمره، وَأمره لنا مَا بلغه الرَّسُول عَنهُ؛ فالكمال فِي كَمَال طَاعَة الله وَرَسُوله بَاطِنا وظاهرا وَمن كَانَ لم يعرف مَا أَمر الله بِهِ فَترك هَوَاهُ واستسلم للقدر أَو اجْتهد فِي الطَّاعَة فَأَخْطَأَ، فعل الْمَأْمُور بِهِ إِلَى مَا اعتقده مَأْمُورا بِهِ أَو تَعَارَضَت عِنْده الْأَدِلَّة فتوقف عَمَّا هُوَ طَاعَة فِي نفس الْأَمر، فَهَؤُلَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 مطيعون لله يثابون على مَا أحسنوه من الْقَصْد لله واستفرغوه من وسعهم فِي طَاعَة الله وَمَا عجزوا عَن علمه فأخطئوه إِلَى غَيره فمغفور لَهُم. وَهَذَا من أَسبَاب فتن تقع بَين الْأمة فَإِن أَقْوَامًا يَقُولُونَ ويفعلون أمورا هم مجتهدون فِيهَا وَقد أخطئوا فتبلغ أَقْوَامًا يظنون أَنهم تعمدوا فِيهَا الذَّنب أَو يظنون أَنهم لَا يعذرُونَ بالْخَطَأ وهم أَيْضا مجتهدون مخطئون فَيكون هَذَا مُجْتَهدا مخطئا فِي فعله وَهَذَا مُجْتَهدا مخطئا فِي إِنْكَاره وَالْكل مغْفُور لَهُم. وَقد يكون أَحدهمَا مذنبا كَمَا قد يكونَانِ جَمِيعًا مذنبين. وَخير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشر الْأُمُور محدثاتها وكل بِدعَة ضَلَالَة. وَالْوَاحد من هَؤُلَاءِ قد يعْطى تَصرفا بِالْأَمر وَالنَّهْي. فيولي ويعزل وَيُعْطِي وَيمْنَع فيظن الظَّان أَن هَذَا كَمَال وَإِنَّمَا يكون كمالا إِذا كَانَ مُوَافقا لِلْأَمْرِ فَيكون طَاعَة لله وَإِلَّا فَهُوَ من جنس الْملك وأفعال الْملك: إِمَّا ذَنْب وَإِمَّا عَفْو وَإِمَّا طَاعَة. فالخلفاء الراشدون أفعالهم طَاعَة وَعبادَة وهم أَتبَاع العَبْد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي طَرِيق السَّابِقين المقربين. وَأما طَرِيق الْمُلُوك العادلين فإمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 طَاعَة وَإِمَّا عَفْو؛ وَهِي طَريقَة الْأَنْبِيَاء الْمُلُوك؛ وَطَرِيقَة الْأَبْرَار أَصْحَاب الْيَمين. وَأما طَريقَة الْمُلُوك الظَّالِمين: فتتضمن الْمعاصِي؛ وَهِي طَريقَة الظَّالِمين لأَنْفُسِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق بالخيرات بِإِذن الله ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير} فَلَا يخرج الْوَاحِد من الْمُؤمنِينَ عَن أَن يكون من أحد هَذِه الْأَصْنَاف: إِمَّا ظَالِم لنَفسِهِ وَإِمَّا مقتصد وَإِمَّا سَابق بالخيرات. و" خوارق الْعَادَات " إِمَّا مكاشفة وَهِي من جنس الْعلم الخارق وَإِمَّا تصرف وَهِي من جنس الْقُدْرَة الخارقة؛ وأصحابها لَا يخرجُون عَن الْأَقْسَام الثَّلَاثَة. فصل وَقد تفرّق النَّاس فِي هَذَا الْمقَام الَّذِي هُوَ غَايَة مطَالب الْعباد، فطائفة من الفلاسفة وَنَحْوهم يظنون أَن كَمَال النَّفس فِي مُجَرّد الْعلم، ويجعلون الْعلم الَّذِي بِهِ يكمل مَا يعرفونه هم من علم مَا بعد الطبيعة، ويجعلون الْعِبَادَات رياضة لأخلاق النَّفس حَتَّى تستعد للْعلم فَتَصِير النَّفس عَالما معقولا موازيا للْعَالم الْمَوْجُود. الفلاسفة ضالون كافرون من وُجُوه: وَهَؤُلَاء ضالون، بل كافرون من وُجُوه: مِنْهَا: الأول : أَنهم اعتقدوا الْكَمَال فِي مُجَرّد الْعلم، كَمَا اعْتقد جهم، والصالحي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 والأشعري فِي الْمَشْهُور من قَوْله، وَأكْثر أَتْبَاعه: أَن الْإِيمَان مُجَرّد الْعلم. لَكِن المتفلسفة أَسْوَأ حَالا من الْجَهْمِية، فَإِن الْجَهْمِية يجْعَلُونَ الْإِيمَان هُوَ الْعلم بِاللَّه، وَأُولَئِكَ يجْعَلُونَ كَمَال النَّفس فِي أَن تعلم الْوُجُود الْمُطلق من حَيْثُ هُوَ وجود، وَالْمُطلق بِشَرْط الْإِطْلَاق إِنَّمَا يكون فِي الأذهان لَا فِي الْأَعْيَان، وَالْمُطلق لَا بِشَرْط لَا يُوجد أَيْضا فِي الْخَارِج إِلَّا معينا، وَإِن علمُوا الْوُجُود الْكُلِّي المنقسم إِلَى وَاجِب وممكن، فَلَيْسَ لمعلوم علمهمْ وجود فِي الْخَارِج. وَهَكَذَا من تصوف وتألَّه على طريقتهم كَابْن عَرَبِيّ وَابْن سبعين وَنَحْوهمَا. وَأَيْضًا فَإِن الْجَهْمِية مقرُّون بالرسل وَبِمَا جاؤوا بِهِ من حَيْثُ الْجُمْلَة، مقرّون بِأَن الله خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام، وَغير ذَلِك مِمَّا جَاءَت بِهِ الرُّسُل، بِخِلَاف المتفلسفة. وَبِالْجُمْلَةِ فكمال النَّفس لَيْسَ فِي مُجَرّد الْعلم، بل لَا بُد مَعَ الْعلم بِاللَّه من محبته وعبادته والإنابة إِلَيْهِ، فَهَذَا عمل النَّفس وإرادتها، وَذَاكَ علمهَا ومعرفتها. الثَّانِي: الْوَجْه الثَّانِي: أَنهم ظنُّوا أَن الْعلم الَّذِي تكمل بِهِ النَّفس هُوَ علمهمْ، وَكثير مِنْهُ جهل لَا علم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 الثَّالِث: الثَّالِث: أَنهم لم يعرفوا الْعلم الإلهي الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُل، وَهُوَ الْعلم الْأَعْلَى الَّذِي تكمل بِهِ النَّفس، مَعَ الْعَمَل بِمُوجبِه. الرَّابِع: الرَّابِع: أَنهم يرَوْنَ أَنه إِذا حصل لَهُم ذَاك الْعلم سَقَطت عَنْهُم وَاجِبَات الشَّرْع وأبيحت لَهُم محرماته، وَهَذِه طَريقَة الباطنية من الإسماعيلية وَغَيرهم، مثل أبي يَعْقُوب السجسْتانِي صَاحب " الأقاليد الملكوتية " وَأَمْثَاله، وَطَرِيقَة من وافقهم من ملاحدة الصُّوفِيَّة الَّذين يتأوّلون قَوْله: {واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} إِنَّك تعْمل حَتَّى يحصل لَك الْعلم، فَإِذا حصل الْعلم سقط عَنْك الْعَمَل. وَقد قيل للجنيد: إِن قوما يَقُولُونَ: إِنَّهُم يصلونَ من طَرِيق الْبر إِلَى أَن تسْقط عَنْهُم الْفَرَائِض وتباح لَهُم الْمَحَارِم، أَو نَحْو هَذَا الْكَلَام. فَقَالَ: الَّذِي يَزْنِي وَيسْرق وَيشْرب الْخمر أحسن حَالا من هَذَا. وَمن هَؤُلَاءِ من يكون طلبه للمكاشفة وَنَحْوهَا من الْعلم أعظم من طلبه لما فرض الله عَلَيْهِ، وَيَقُول فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك الْعِصْمَة فِي الحركات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 والسكنات، والخطرات والإرادات والكلمات، من الشكوك والظنون والأوهام الساترة للقلوب عَن مطالعة الغيوب. وأصل المتفلسفة أَن الفلسفة الَّتِي هِيَ الْكَمَال عِنْدهم هِيَ التَّشَبُّه بالإله على قدر الطَّاقَة، وهم يَقُولُونَ: إِن حركات الأفلاك لأجل التَّشَبُّه بِالْأولِ. وعَلى هَذَا بنى أَبُو حَامِد كِتَابه فِي " شرح الْأَسْمَاء الْحسنى "، وتخلق العَبْد بأخلاق الله، وَأنكر ذَلِك عَلَيْهِ الْمَازرِيّ وَغَيره، وَقَالُوا: لَيْسَ لله خلق يتخلق بِهِ العَبْد. وَعدل أَبُو الحكم بن برجان عَن لفظ التخلق إِلَى لفظ التَّعَبُّد. وعَلى هَذَا الأَصْل الفلسفي بنى ابْن عَرَبِيّ معنى ولي الله، وَأَنه المتشبّه بِهِ المتخلّق بأخلاقه، كَمَا يُفَسر أَبُو حَامِد التَّقَرُّب من الله بالتشبه بِهِ، وَابْن عَرَبِيّ وَنَحْوه يجْعَلُونَ الْوَلِيّ أفضل من النَّبِي بِنَاء على أصُولهم الفلسفيّة الاتحادية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وَطَائِفَة أُخْرَى عِنْدهم أَن الْكَمَال فِي الْقُدْرَة وَالسُّلْطَان وَالتَّصَرُّف فِي الْوُجُود، بنفاذ الْأَمر وَالنَّهْي، إِمَّا بِالْملكِ وَالْولَايَة الظَّاهِرَة، وَإِمَّا بالباطن، وَتَكون عِبَادَتهم ومجاهدتهم كَذَلِك. وَكثير من هَؤُلَاءِ يدْخل فِي الشّرك وَالسحر، فيعبد الْكَوَاكِب والأصنام لتعينه الشَّيَاطِين على مقاصده، وَهَؤُلَاء أضلّ وأجهل من الَّذين قبلهم. وَعَامة من يعبد الله لطلب خوارق الْعَادَات يكون فِيهِ نصيبٌ من هَذَا. وَلِهَذَا كَانَ مِنْهُم من يَمُوت فَاسِقًا أَو مسلوبًا، وَكلهمْ ضلاَّل جهال. وَطَائِفَة تجْعَل الْكَمَال فِي مَجْمُوع الْأَمريْنِ، فَيدْخلُونَ فِي أَقْوَال وأعمال من الشّرك وَالسحر، ليستعينوا بالشياطين على مَا يطلبونه من الْإِخْبَار بالأمور الغائبة، وعَلى مَا ينفذ بِهِ تصرفهم فِي الْعَالم. وَأما الْحق الْمُبين فَهُوَ أَن كَمَال الْإِنْسَان فِي أَن يعبد الله علما وَعَملا، كَمَا أمره ربه. وهؤلاءِ هم عبادُ الله، وهم الْمُؤْمِنُونَ والمسلمون، وهم أَوْلِيَاء الله المتقون، وحزب الله المفلحون، وجند الله الغالبون، وهم أهل الْعلم النافع، وَالْعَمَل الصَّالح، وهم الَّذين زكُّوا نُفُوسهم وكمَّلوها. كملوا القوَّة النظرية العلمية، وَالْقُوَّة الإرادية العملية. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وَقَالَ تَعَالَى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} . وَقَالَ تَعَالَى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . هَذَا مَا وجد فِي الأَصْل. وَصلى الله على مُحَمَّد النَّبِي وَآله وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا. كتبه مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ الْخَطِيب بقرية بييلا فِي ثَانِي عشر جُمَادَى الأول سنة أَربع وَسَبْعمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 الرسَالَة الثَّالِثَة قَاعِدَة فِي الْمحبَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 فصل فِي الْحبّ والبغض لأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم على الله توكلي الْحَمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ ونشهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وحبيبه وخليله وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا أما بعد فَهَذِهِ قَاعِدَة عَظِيمَة فِي الْمحبَّة وَمَا يتَعَلَّق بهَا من جمع الإِمَام الْعَلامَة شيخ الْإِسْلَام بركَة الْأَنَام بَقِيَّة السّلف الْكِرَام أَبى الْعَبَّاس أَحْمد بن الشَّيْخ شهَاب الدَّين عبد الْحَلِيم بن الشيح مجد الدَّين أَبى البركات عبد السَّلَام ابْن تيميه رَضِي الله عَنهُ وأرضاه الْحبّ والإرادة أصل كل فعل وحركة فِي الْعَالم والبغض وَالْكَرَاهَة أصل كل ترك فِيهِ قَالَ رَضِي الله عَنهُ فصل فِي الْحبّ والبغض والمحمود من ذَلِك والمذموم وأصل كل فعل وحركة فِي الْعَالم من الْحبّ والإرادة فَهُوَ أصل كل فعل ومبدؤه كَمَا أَن البغض وَالْكَرَاهَة مَانع وصاد لكل مَا انْعَقَد بِسَبَبِهِ ومادته فَهُوَ أصل كل ترك إِذا فسر التّرْك بِالْأَمر الوجودي كَمَا يفسره بذلك أَكثر أهل النّظر وَإِذا عني بِالتّرْكِ مُجَرّد عدم الْفِعْل فَعدم الْفِعْل تَارَة يكون لعدم مقتضيه من الْمحبَّة والإرادة ولوازمهما وَقد يكون لوُجُود مانعه من البغض وَالْكَرَاهَة وَغَيرهمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 فَأَما وجود الْفِعْل فَلَا يكون إِلَّا عَن محبَّة وَإِرَادَة حَتَّى دَفعه للأمور الَّتِي يكرهها ويبغضها هُوَ لما فِي ذَلِك من المحبوب أَو اللَّذَّة يجدهَا بِالدفع فَيُقَال شفى صَدره وَقَلبه والشفاء والعافية بمحبوب والمحبة والإرادة تكون إِمَّا بِوَاسِطَة وَإِمَّا بِغَيْر وَاسِطَة مثل فعله للأشياء الَّتِي يكرهها كشرب الدَّوَاء وَالْمَكْرُوه وَفعل الْأَشْيَاء الْمُخَالفَة لهواه وَصَبره وَنَحْو ذَلِك فَإِن هَذِه الْأُمُور وَإِن كَانَت مَكْرُوهَة من بعض الْوُجُوه فَإِنَّمَا يفعل أَيْضا لمحبة وَإِرَادَة وَإِن لم تكن الْمحبَّة لنَفسهَا بل الْمحبَّة لملازمها فَإِنَّهُ يحب الْعَافِيَة وَالصِّحَّة المستلزمة لإِرَادَة شرب الدَّوَاء وَيُحب رَحْمَة الله ونجاته من عَذَابه المستلزم لإِرَادَة ترك مَا يهواه كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِمَّا من خَافَ مقَام ربه وَنهي النَّفس عَن الْهَوِي فَلَا يتْرك الْحَيّ مَا يُحِبهُ ويهواه إِلَّا لما يُحِبهُ ويهواه لَكِن يتْرك أضعفهما محبَّة لأقواهما محبَّة كَمَا يفعل مَا يكرههُ لما محبته أقوي من كَرَاهَة ذَلِك وكما يتْرك مَا يُحِبهُ لما كَرَاهَته أقوي من محبَّة ذَلِك وَلِهَذَا كَانَت الْمحبَّة والإرادة أصلا للبغض وَالْكَرَاهَة وَعلة لَهَا ولازما مستلزما لَهَا من غير عِلّة وَفعل البغض فِي الْعَالم إِنَّمَا هُوَ لمنافاة المحبوب وَلَوْلَا وجود المحبوب لم يكن البغض بِخِلَاف الْحبّ للشَّيْء فَإِنَّهُ قد يكون لنَفسِهِ لَا لأجل منافاته للبغض وبغض الْإِنْسَان وغضبه مِمَّا يضاد وجود محبوبه ومانع ومستلزم لَا يكره عَلَيْهِ ونجد قُوَّة البغض للنافي أَشد وأحوط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وَلِهَذَا كَانَ رَأس الْإِيمَان الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله وَكَانَ من احب لله وَأبْغض لله وَأعْطِي لله وَمنع لله فقد اسْتكْمل الْإِيمَان فالمحبة والإرادة أصل فِي وجود البغض وَالْكَرَاهَة وَالْأَصْل فِي زَوَال البغيض الْمَكْرُوه فَلَا يُوجد البغض إِلَّا لمحبة وَلَا يَزُول البغيض إِلَّا لمحبة فالمحبة أصل كل أَمر مَوْجُود وأصل دفع كل مَا يطْلب الْوُجُود وَدفع مَا يطْلب الْوُجُود أَمر مَوْجُود لكنه مَانع من وجود ضِدّه فَهُوَ أصل كل مَوْجُود من بغيض ومانع ولوازمهما وَهَذَا الْقدر الَّذِي ذَكرْنَاهُ من أَن الْمحبَّة والإرادة اصل كل حَرَكَة فِي الْعَالم فقد بَينا فِي الْقَوَاعِد وَغَيرهَا أَن هَذَا ينْدَرج فِيهِ كل حَرَكَة وَعمل فَإِن مَا فِي الْأَجْسَام من حركه طبعية فَإِنَّمَا أَصْلهَا السّكُون فَإِنَّهُ إِذا خرجت عَن مستقرها كَانَت بطبعها تطلب مستقرها وَمَا فِيهَا من حَرَكَة قسرية فأصلها من القاسر القاهر فَلم تبْق حَرَكَة اختيارية إِلَّا عَن الْإِرَادَة والحركات إِمَّا إرادية وَإِمَّا طبعية وَإِمَّا قسرية لِأَن الْفَاعِل المتحرك إِن كَانَ لَهُ شُعُور بهَا فَهِيَ الإرادية وَإِن لم يكن لَهُ شُعُور فَإِن كَانَت على وفْق طبع المتحرك فَهِيَ الطبعية وَإِن كَانَت على خلاف ذَلِك فَهِيَ القسرية وَبينا أَن مَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا من حَرَكَة الأفلاك وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وحركة الرِّيَاح والسحاب والمطر والنبات وَغير ذَلِك فَإِنَّمَا هُوَ بملائكة الله تَعَالَى الموكلة بالسموات وَالْأَرْض الَّذين لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 كَمَا قَالَ تَعَالَى فالمدبرات أمرا فَالْمُقَسِّمَات أمرا وكما دلّ الْكتاب وَالسّنة على أَصْنَاف الْمَلَائِكَة وتوكلهم بأصناف الْمَخْلُوقَات وَلَفظ الْملك يشْعر بِأَنَّهُ رَسُول منفذ لأمر غَيره فَلَيْسَ لَهُم من الْأَمر شئ بل كم من ملك فِي السَّمَوَات لَا تغني شفاعتهم شَيْئا إِلَّا من بعد أَن يَأْذَن الله لمن يَشَاء ويرضى ووَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا وَمَا بَين ذَلِك وَمَا كَانَ رَبك نسيا رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فاعبده واصطبر لعبادته هَل تعلم لَهُ سميا وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَجَمِيع تِلْكَ المحبات والإرادات وَالْأَفْعَال والحركات هِيَ عبَادَة لله رب الأَرْض وَالسَّمَوَات كَمَا قد بَيناهُ فِي غير هَذَا الْموضع الْمحبَّة الَّتِي أَمر الله بهَا هِيَ عِبَادَته وَحده لَا شريك لَهُ وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَأصل الْمحبَّة المحمودة الَّتِي أَمر الله بهَا وَخلق خلقه لأَجلهَا هِيَ مَا فِي عِبَادَته وَحده لَا شريك لَهُ إِذْ الْعِبَادَة متضمنة لغاية الْحبّ بغاية الذل والمحبة لما كَانَت جِنْسا لأنواع مُتَفَاوِتَة فِي الْقدر وَالْوَصْف كَانَ أغلب مَا يذكر مِنْهَا فِي حق الله مَا يخْتَص بِهِ ويليق بِهِ مثل الْعِبَادَة والإنابة وَنَحْوهمَا فَإِن الْعِبَادَة لَا تصلح إِلَّا لله وَحده وَكَذَلِكَ الْإِنَابَة وَقد تذكر الْمحبَّة الْمُطلقَة لَكِن تقع فِيهَا الشّركَة كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْحبّ أعظم الْأَقْسَام المذمومة فِي الْمحبَّة كَمَا أَن حب الله أعظم الْأَنْوَاع المحمودة بل عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ هِيَ أصل السَّعَادَة ورأسها الَّتِي لَا ينجو أحد من الْعَذَاب إِلَّا بهَا وَعبادَة إِلَه آخر من دونه هُوَ أصل الشَّقَاء وَرَأسه الَّذِي لَا يبقي فِي الْعَذَاب إِلَّا أَهله فَأهل التَّوْحِيد الَّذين أَحبُّوا الله وعبدوه وَحده لَا شريك لَهُ لَا يبقي مِنْهُم فِي الْعَذَاب أحد وَالَّذين اتَّخذُوا من دونه أندادا يحبونهم كحبه وعبدوا غَيره هم أهل الشّرك الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم أَن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وجماع الْقُرْآن هُوَ الْأَمر بِتِلْكَ الْمحبَّة ولوازمها وَالنَّهْي عَن هَذِه المحبات ولوازمها وَضرب الْأَمْثَال والمقاييس للنوعين وَذكر قصَص أهل النَّوْعَيْنِ وأصل دَعْوَة جَمِيع الْمُرْسلين 0 قَوْلهم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره وعَلى ذَلِك قَاتل من قَاتل مِنْهُم الْمُشْركين كَمَا قَالَ خَاتم الرُّسُل أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لاإله إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وحسابهم على الله قَالَ الله تَعَالَى شرع لكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 من الدَّين مَا وَصِيّ بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَهِيمُ ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدَّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ ثَلَاث من كن فِيهِ وجد حلاوة الْإِيمَان وَفِي رِوَايَة فِي الصَّحِيح لَا يجد طعم الْإِيمَان إِلَّا من كَانَ فِيهِ ثَلَاث أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله وَأَن يكره أَن يرجع فِي الْكفْر بعد إِذْ أنقذه الله كَمَا يكره أَن يلقِي فِي النَّار وَفِي الصَّحِيح عَن أنس أَيْضا عَن النَّبِي قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن عمر قَالَ يَا رَسُول الله وَالله لأَنْت أحب إِلَى من كل شئ إِلَّا من نَفسِي فَقَالَ لَا يَا عمر حَتَّى أكون أحب إِلَيْك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 نَفسك قَالَ فوالذي بَعثك بِالْحَقِّ لأَنْت أحب إِلَى من نَفسِي قَالَ الْآن يَا عمر وَلِهَذَا ورد فِي فضل هَذِه الْكَلِمَة شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله من الدَّلَائِل مَا يضيق هَذَا الْموضع عَن ذكره وهى أفضل الْكَلَام وَمَا فِيهَا من الْعلم والمحبة أفضل الْعُلُوم والمحبات كالحديث الَّذِي فِي السّنَن أفضل الذّكر لَا إِلَه أَلا الله وَالْآيَة المتضمنة لَهَا أعظم آيَة فِي الْقُرْآن كَمَا فِي صَحِيح مُسلم أَن النَّبِي قَالَ لأبى بن كَعْب يَا أَبَا الْمُنْذر أَتَدْرِي أَي آيَة فِي كتاب الله أعظم قَالَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم قَالَ فَضرب بِيَدِهِ صَدْرِي وَقَالَ لِيَهنك الْعلم أَبَا الْمُنْذر وَإِذا كَانَت كل حَرَكَة فأصلها الْحبّ والإرادة من مَحْبُوب مُرَاد لنَفسِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 لَا يحب لغيره إِذْ لَو كَانَ كل شئ محبوبا لغيره لزم الدّور أَو التسلسل وَالشَّيْء قد يحب من وَجه دون وَجه وَلَيْسَ شَيْء يحب لذاته من كل وَجه إِلَّا الله وَحده وَلَا تصلح الإلهية إِلَّا لَهُ وَلَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا والإلهية الْمَذْكُورَة فِي كتاب الله هِيَ الْعِبَادَة والتأله وَمن لَوَازِم ذَلِك أَن يكون هُوَ الرب الْخَالِق وَأما مَا يَظُنّهُ طوائف من أهل الْكَلَام أَن الألوهية هِيَ نفس الربوبية وَأَن مَا ذكر فِي الْقُرْآن من نفي إِلَه آخر والأمثال المضروبة الْبَيِّنَة فالمقصود بِهِ نفي رب يشركهُ فِي خلق الْعَالم كَمَا هُوَ عَادَتهم فِي كتب الْكَلَام فَهَذَا قُصُور وتقصير مِنْهُم فِي فهم الْقُرْآن وَمَا فِيهِ من الْحجَج والأمثال أَتَوا فِيهِ من جِهَة أَن مبلغ علمهمْ هُوَ مَا سلكوه من الطَّرِيقَة الكلامية فاعتقدوا أَن المقصودين وَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِك بل الْقُرْآن يَنْفِي أَن يعبد غير الله أَو أَن يَتَّخِذهُ إِلَهًا فَيُحِبهُ ويخضع لَهُ محبَّة الْإِلَه وخضوعه كَمَا بيّنت ذَلِك عَامَّة آيَات الْقُرْآن مثل قَوْله تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيل لَا أحب الآفلين وَمن الْمَعْلُوم أَن كل حَيّ فَلهُ إِرَادَة وَعمل بِحَسبِهِ وكل متحرك فَأصل حركته الْمحبَّة والإرادة وَلَا صَلَاح للموجودات إِلَّا أَن يكون كَمَال محبتها وحركتها لله تَعَالَى كَمَا لَا وجود لَهَا إِلَّا أَن يبدعها الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا وَلم يقل لعدمتا إِذْ هُوَ قَادر على أَن يبقيها على وجهة الْفساد لَكِن لَا يُمكن أَن تكون صَالِحَة إِلَّا أَن يعبد الله وَحده لَا شريك لَهُ فَإِن صَلَاح الْحَيّ إِنَّمَا هُوَ صَلَاح مَقْصُوده وَمرَاده وَصَلَاح الْأَعْمَال والحركات بصلاح إرادتها ونياتها وَلِهَذَا كَانَ من أجمع الْكَلَام وأبلغه قَوْله إِنَّمَا الإعمال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوي وَهَذَا يعم كل عمل وكل نِيَّة فَكل عمل فِي الْعَالم هُوَ بِحَسب نِيَّة صَاحبه وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ إِلَّا مَا نَوَاه وقصده وأحبه وأراده بِعَمَلِهِ لَيْسَ فِي ذَلِك تَخْصِيص وَلَا تَقْيِيد كَمَا يَظُنّهُ طوائف من النَّاس حَيْثُ يحسبون أَن النِّيَّة المُرَاد بِهِ النِّيَّة الشَّرْعِيَّة الْمَأْمُور بهَا فيحتاجون أَن يحصروا الْأَعْمَال بِالْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّة فَإِن النِّيَّة مَوْجُودَة لكل متحرك كَمَا قَالَ النَّبِي فِي الحَدِيث الصَّحِيح أصدق الْأَسْمَاء الْحَارِث وَهَمَّام فالحارث هُوَ الْعَامِل الكاسب والهمام هُوَ القاصد المريد وكل إِنْسَان متحرك بإرادته حَارِث همام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 كَمَا بَينا أَن الْمحبَّة والإرادة أصل كل عمل فَكل عمل فِي الْعَالم فَعَن إِرَادَة ومحبة صدر وَلِهَذَا كَانَت الْمحبَّة والإرادة منقسمة إِلَى مَحْبُوب لله وَغير مَحْبُوب كَمَا أَن الْعَمَل وَالْحَرَكَة منقسم كَذَلِك وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالمحبة لَهَا آثَار وتوابع سَوَاء كَانَت صَالِحَة محمودة نافعة أَو كَانَت غير ذَلِك لَهَا وجد وحلاوة وذوق ووصال وصدود وَلها سرُور وحزن وبكاء والمحبة المحمودة هِيَ الْمحبَّة النافعة وَهِي الَّتِي تجلب لصَاحِبهَا مَا يَنْفَعهُ وَهُوَ السَّعَادَة والضارة هِيَ الَّتِي تجلب لصَاحِبهَا مَا يضرّهُ وَهُوَ الشَّقَاء وَمَعْلُوم أَن الْحَيّ الْعَالم لَا يخْتَار أَن يحب مَا يضرّهُ لَكِن يكون ذَلِك عَن جهل وظلم فَإِن النَّفس قد تهوي مَا يَضرهَا وَلَا ينفعها وَذَلِكَ ظلم مِنْهَا لَهَا وَقد تكون جاهلة بِحَالِهَا بِهِ بِأَن تهوي الشَّيْء وتحبه بِلَا علم مِنْهَا بِمَا فِي محبته من الْمَنْفَعَة والمضرة وتتبع هَواهَا وَهَذَا حَال من اتبع هَوَاهُ بِغَيْر علم وَقد يكون عَن اعْتِقَاد فَاسد وَهُوَ حَال من اتبع الظَّن وَمَا تهوي نَفسه وكل ذَلِك من أُمُور الْجَاهِلِيَّة وَإِن كَانَ كل من جهلها وظلمها لَا يكَاد يَخْلُو عَن شُبْهَة يشْتَبه بهَا الْحق وشهوه هِيَ فِي الأَصْل محمودة إِذا وضعت فِي محلهَا كَحال الَّذِي يحب لِقَاء قَرِيبه فَإِن هَذَا مَحْمُود وَهُوَ أصل صلَة الرَّحِم الَّتِي هِيَ شجنة من الرَّحْمَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 لَكِن إِذا اتبع هَوَاهُ حَتَّى خرج عَن الْعدْل بَين ذَوي الْقُرْبَى وَغَيرهم كَانَ هَذَا ظلما كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذا قُلْتُمْ فاعدلوا ولوكان ذَا قربي وَقَالَ تَعَالَى كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله وَلَو على أَنفسكُم أَو الْوَالِدين والأقربين وَكَذَلِكَ الَّذِي يحب الطَّعَام وَالشرَاب وَالنِّسَاء فَإِن هَذَا مَحْمُود وَبِه يصلح حَال بني آدم وَلَوْلَا ذَلِك لما استقامت نفس الْأَنْسَاب وَلَا وجدت الذُّرِّيَّة وَلَكِن يجب الْعدْل وَالْقَصْد فِي ذَلِك كَمَا قَالَ تَعَالَى وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا وكما قَالَ تَعَالَى إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين فَمن ابْتغِي وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون فَإِذا تجَاوز حد الْعدْل وَهُوَ الْمَشْرُوع صَار ظَالِما عاديا بِحَسب ظلمه وعدوانه وَقد ذكرنَا فِي مَوَاضِع أَن الْمَشْرُوع والنافع والصالح وَالْعدْل وَالْحق وَالْحسن أَسمَاء متكافئة مسماها وَاحِد بِالذَّاتِ وَإِن تنوعت صِفَاته بِمَنْزِلَة أَسمَاء الله الحسني فأسماؤه تَعَالَى وَأَسْمَاء كِتَابه وَدينه وَنبيه مسمي كل صنف من ذَلِك وَاحِد وَإِن تنوعت صِفَاته فَكل عمل صَالح هُوَ نَافِع لصَاحبه وَبِالْعَكْسِ وكل نَافِع صَالح فَهُوَ مَشْرُوع وَبِالْعَكْسِ وكل مَا كَانَ صَالحا مَشْرُوعا فَهُوَ حق وَعدل وَبِالْعَكْسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وَلَكِن النَّاس قد يدركون أحد النعتين فيستدلون بِهِ على وجود الآخر مثل أَن يعلم أَن الله أَمر بِهَذَا الْفِعْل وشرعه فَيعلم من هَذَا وجوب كَونه طَاعَة لله وَرَسُوله وَذَلِكَ الْفِعْل بِعَيْنِه يجب أَن يكون عملا صَالحا وَهُوَ النافع وَأَن يكون حَقًا وعدلا وَهَذَا اسْتِدْلَال بِالنَّصِّ وَقد يعلم كَون الشَّيْء صَالحا أَو عدلا أَو حسنا ثمَّ يسْتَدلّ بذلك على كَونه مَشْرُوعا وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بالاسصلاح وَالِاسْتِحْسَان وَالْقِيَاس على كَون مَشْرُوعا وَهَذِه الطَّرِيقَة فِيهَا خطر عَظِيم والغلط فِيهَا كثير ولخفاء صِفَات الْأَعْمَال وَأَحْوَالهَا عَنْهَا وَأَن الْعَالم بذلك كَمَا يَنْبَغِي لَيْسَ هُوَ إِلَّا رَسُول الله فالاستدلال بالمصالح الَّتِي قد يُقَال لَهَا الْمصَالح الْمُرْسلَة هُوَ الَّذِي يري الشَّيْء مصلحَة وَلَيْسَ فِي الشَّرْع مَا يَنْفِيه فيستدل بِالْمَصْلَحَةِ على أَنه من الشَّرِيعَة وَالِاسْتِحْسَان أَن يري الشَّيْء حسنا فيستدل بحسنه على أَنه من الشَّرْع وَالْعدْل أَن يري للشَّيْء نظيرا وشبيها فيستدل على حكمه بِحكم نَظِيره وشبيهه وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع الْكَلَام فِي ذَلِك لَكِن أعلم النَّاس من كَانَ رَأْيه واستصلاحه واستحسانه وَقِيَاسه مُوَافقا للنصوص كَمَا قَالَ مُجَاهِد أفضل الْعِبَادَة الرَّأْي الْحسن وَهُوَ اتِّبَاع السّنة وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى ويري الَّذين أُوتُوا الْعلم الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وَلِهَذَا كَانَ السّلف يسمون أهل الآراء الْمُخَالفَة للسّنة والشريعة فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد الخبرية ومسائل الْأَحْكَام العملية أهل الْأَهْوَاء لِأَن الرَّأْي الْمُخَالف للسّنة جهل لَا علم فصاحبه مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر علم وَلِهَذَا يذكر الله فِي الْقُرْآن من يتبع هَوَاهُ بِغَيْر علم ويذم من يتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدي من الله كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدي من الله وَقَالَ تَعَالَى وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم إِن رَبك هُوَ أعلم بالمعتدين وكل من اتبع هَوَاهُ اتبعهُ بِغَيْر علم إِذْ لَا علم بذلك إِلَّا بِهَدي الله الَّذِي بعث الله بِهِ رسله كَمَا قَالَ تَعَالَى فَأَما يَأْتينكُمْ مني هدي فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقي وَمن أعرض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكا ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمي وَلِهَذَا ذمّ الله الْهوى فِي مَوَاضِع من كِتَابه وَاتِّبَاع الْهوى يكون فِي الْحبّ والبغض كَقَوْلِه تَعَالَى يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب فَهُنَا يكون اتِّبَاع الْهوى هُوَ مَا يُخَالف الْحق فِي الحكم قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله وَلَو على أَنفسكُم أَو الْوَالِدين والأقربين إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا فَالله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 أولى بهما فَلَا تتبعوا الْهوى أَن تعدلوا وَإِن تلووا أَو تعرضوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا فَهُنَا يكون اتِّبَاع الْهوى فِيمَا يُخَالف الْقسْط من الشَّهَادَة وَغَيرهَا وَالْحق هُوَ الْعدْل وَاتِّبَاع الْهوى فِي خلاف ذَلِك هُوَ من الظُّلم وَقد نهى رَسُول الله عَن اتِّبَاع أهواء الْخلق وَقَالَ تَعَالَى وَلنْ ترضي عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم قل إِن هدي الله هُوَ الْهدى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَالك من الله من ولي وَلَا نصير فَنَهَاهُ عَن اتِّبَاع أهواء الَّذين أُوتُوا الْكتاب بعد مَا جَاءَهُ من الْعلم وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَة الْأُخْرَى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد مَا جَاءَك من الْعلم وَقَالَ تَعَالَى فاحكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهوائهم واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل إِلَيْك فَإِن توَلّوا فَاعْلَم إِنَّمَا يُرِيد الله أَن يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم وَقَالَ تَعَالَى قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم وَلَا تتبع أهواء الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وهم برَبهمْ يعدلُونَ فقد نَهَاهُ عَن اتِّبَاع أهواء الْمُشْركين وَاتِّبَاع أهواء أهل الْكتاب وحذره أَن يفتنوه عَمَّا أنزل الله إِلَيْهِ من الْحق وَذَلِكَ يتَضَمَّن النَّهْي عَن اتِّبَاع أهواء أحد فِي خلاف شَرِيعَته وسنته وَكَذَا أهل الْأَهْوَاء من هَذِه الْأمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وَقد بَين ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالله ولي الْمُتَّقِينَ فقد أمره فِي هَذِه الْآيَة بِاتِّبَاع الشَّرِيعَة الَّتِي جعله عَلَيْهَا وَنَهَاهُ عَن اتِّبَاع مَا يُخَالِفهَا وَهِي أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ وَلِهَذَا كَانَ كل من خرج عَن الشَّرِيعَة وَالسّنة من أهل الْأَهْوَاء كَمَا سماهم السّلف وَقَالَ تَعَالَى وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَقَالَ تَعَالَى يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل وَقَالَ تَعَالَى وَمَا لكم أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم وَقَالَ تَعَالَى قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مثل مَا أُوتِيَ مُوسَى من قبل إِلَى قَوْله فَأتوا بِكِتَاب من عِنْد الله هُوَ أهدي مِنْهُمَا أتبعه إِن كُنْتُم صَادِقين فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدي من الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وَقَالَ تَعَالَى وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك حَتَّى إِذا خَرجُوا من عنْدك قَالُوا للَّذين أُوتُوا الْعلم مَاذَا قَالَ آنِفا أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم وَاتبعُوا أهوائهم وَالَّذين اهتدوا زادهم هدي وآتاهم تقواهم فَذكر الَّذين أُوتُوا الْعلم وهم الَّذين يعلمُونَ أَن مَا أنزل إِلَيْهِ من ربه الْحق ويفقهون مَا جَاءَ بِهِ وَذكر المطبوع على قُلُوبهم فَلَا يفقهُونَ إِلَّا قَلِيلا الَّذين اتبعُوا أهوائهم يَسْأَلُونَهُمْ مَاذَا قَالَ الرَّسُول آنِفا وَهَذِه حَال من لم يفقه الْكتاب وَالسّنة بل يسْتَشْكل ذَلِك فَلَا يفقهه أَو قَرَأَهُ متعارضا متناقضا وَهِي صفة الْمُنَافِقين ثمَّ ذكر صفة الْمُؤمنِينَ فَقَالَ تَعَالَى وَالَّذين اهتدوا زادهم زِيَادَة الْهَدْي وَهُوَ ضد الطَّبْع على قُلُوب أُولَئِكَ وآتاهم تقواهم وَهُوَ ضد اتِّبَاع أُولَئِكَ الْأَهْوَاء فَصَاحب التَّقْوَى ضد صَاحب الْأَهْوَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهي النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى وَقَالَ تَعَالَى إِذْ جعل الَّذين كفرُوا فِي قُلُوبهم الحمية حمية الْجَاهِلِيَّة فَأنْزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ وألزمهم كلمة التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا وَلما كَانَت كل حَرَكَة وَعمل فِي الْعَالم فأصلها الْمحبَّة والإرادة وكل محبَّة وَإِرَادَة لَا يكون أَصْلهَا محبَّة الله وَإِرَادَة وَجهه فَهِيَ بَاطِلَة فَاسِدَة كَانَ كل عمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 لَا يُرَاد بِهِ وَجهه بَاطِلا فأعمال الثقلَيْن الْجِنّ وَالْإِنْس منقسمة مِنْهُم من يعبد الله وَمِنْهُم من لَا يعبده بل قد يَجْعَل مَعَه إِلَهًا آخر وَأما الْمَلَائِكَة فهم عَابِدُونَ لله وَجَمِيع الحركات الْخَارِجَة عَن مَقْدُور بني آدم وَالْجِنّ والبهائم فَهِيَ من عمل الْمَلَائِكَة وتحريكها لما فِي السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فَجَمِيع تِلْكَ الحركات والأعمال عبادات لله متضمنة لمحبته وإرادته وقصده وَجَمِيع الْمَخْلُوقَات عابدة لخالقها إِلَّا مَا كَانَ من مَرَدَة الثقلَيْن وَلَيْسَت عبادتها إِيَّاه قبُولهَا لتدبيره وتصريفه وخلقه فَإِن هَذَا عَام لجَمِيع الْمَخْلُوقَات حَتَّى كفار بني آدم فَلَا يخرج أحد عَن مَشِيئَته وتدبيره وَذَلِكَ بِكَلِمَات الله الَّتِي كَانَ النَّبِي يستعيذ بهَا فَيَقُول أعوذ بِكَلِمَات الله التامات الَّتِي لَا يجاوزهن بر وَلَا فَاجر وَهَذَا من عُمُوم ربو بَيته وَملكه وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الَّذِي أدْركهُ كثير من أهل النّظر وَالْكَلَام حَتَّى فسروا مَا فِي الْقُرْآن والْحَدِيث من عبَادَة الْأَشْيَاء وسجودها وتسبيحها بذلك وهم غالطون فِي هَذَا التَّخْصِيص شرعا وعقلا أَيْضا فَإِن الْمَعْقُول الَّذِي لَهُم يعرفهُمْ أَن كل شَيْء وكل متحرك وَأَن كَانَ لَهُ مبدأ فَلَا بُد لَهُ من غَايَة ومنتهى كَمَا يَقُولُونَ لَهَا عِلَّتَانِ فاعلية وغائية وَالَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 ذَكرُوهُ إِنَّمَا هُوَ من جِهَة الْعلَّة الفاعلية وَبَعض المخلوقين كَذَلِك يجعلونه من جِهَة الْعلَّة الغائية وَهَذَا غلط فَلَا يصلح أَن يكون شَيْء من الْمَخْلُوقَات عِلّة فاعلية وَلَا غائية إِذْ لَا يسْتَقلّ مَخْلُوق بِأَن يكون عِلّة تَامَّة قطّ وَلِهَذَا لم يصدر عَن مَخْلُوق وَاحِد شَيْء قطّ وَلَا يصدر شَيْء فِي الْآثَار إِلَّا عَن اثْنَيْنِ من الْمَخْلُوقَات كَمَا قد بَينا هَذَا فِي غير هَذَا الْمَوْضُوع وَكَذَلِكَ لَا يصلح شَيْء من الْمَخْلُوقَات أَن يكون عِلّة غائية تَامَّة إِذْ لَيْسَ فِي شَيْء من الْمَخْلُوقَات كَمَال مَقْصُود حَتَّى من الْأَحْيَاء فالمخلوقات بأسرها يجْتَمع فِيهَا هَذَانِ النُّقْصَان أَحدهمَا أَنه لَا يصلح شَيْء مِنْهَا أَن تكون عِلّة تَامَّة لَا فاعلية وَلَا غائية وَالثَّانِي أَن مَا كَانَ فِيهَا عِلّة فَلهُ عِلّة سَوَاء كَانَ عِلّة فاعلية أَو غائية فَالله سُبْحَانَهُ رب كل شَيْء ومليكه وَهُوَ رب الْعَالمين لَا رب لشَيْء من الْأَشْيَاء إِلَّا هُوَ وَهُوَ إِلَه كل شَيْء وَهُوَ فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه وَهُوَ الله فِي السَّمَوَات وَفِي الأَرْض لَو كَانَ فيهمَا إلهة إِلَّا الله لفسدتا وَمَا من إِلَه إِلَّا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا فعبادة الْمَخْلُوقَات وتسبيحها هُوَ من جِهَة إلاهيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الْغَايَة الْمَقْصُودَة مِنْهَا وَلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وَأما فِي الشَّرْع فَإِن الله فصل بَين هَذَا وَبَين هَذَا فَقَالَ تَعَالَى ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَكثير من النَّاس وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب وَمن يهن الله فَمَا لَهُ من مكرم إِن الله يفعل مَا يَشَاء فَهَذَا السُّجُود الَّذِي فصل بَين كثير من النَّاس الَّذِي يَفْعَلُونَهُ وَكثير من النَّاس الَّذين لَا يَفْعَلُونَهُ طَوْعًا وهم الَّذين حق عَلَيْهِم الْعَذَاب لَيْسَ هُوَ مَا يشْتَرك فِيهِ جَمِيع النَّاس من خلق الله وربوبيه الله تَعَالَى إيَّاهُم وتدبيرهم وَكَذَلِكَ فصل بَين الصِّنْفَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى أفغير دين الله يَبْغُونَ وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وَإِلَيْهِ يرجعُونَ وَكَذَلِكَ فِي قَوْله وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذكر فِي الْآيَة الْأُخْرَى سُجُود الْمَخْلُوقَات إِلَّا الْكثير من النَّاس لِأَنَّهُ ذكر الطوع فَقَط كَمَا ذكر فِي الَّتِي قبلهَا أَدْيَان النَّاس فَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَالَّذين أشركوا إِن الله يفصل بَينهم يَوْم الْقِيَامَة إِن الله على كل شَيْء شَهِيد فتضمنت هَذِه الْآيَة حَال الْمَخْلُوقَات إِلَّا الْجِنّ فَإِنَّهُم لم يذكرُوا بِاللَّفْظِ الْخَاص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 لكِنهمْ يندرجون فِي الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ فَإِنَّهُم كَمَا قَالُوا منا الصالحون وَمنا دون ذَلِك كُنَّا طرائق قددا وَقد ذكر طَائِفَة من أهل الْعَرَبيَّة أَنهم يدْخلُونَ فِي لفظ النَّاس أَيْضا وَقَالَ سُبْحَانَهُ أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيئوا ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل سجدا لله وهم داخرون وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة وَالْمَلَائِكَة وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم ويفعلون مَا يؤمرون وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث أبي ذَر فِي سُجُود الشَّمْس تَحت الْعَرْش إِذا غَابَتْ وَقَالَ تَعَالَى ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه وَالله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ وَقَالَ تَعَالَى سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 الْعَزِيز الْحَكِيم يسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض الْملك القدوس الْعَزِيز الْحَكِيم يسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم قَالَ تَعَالَى وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته وَلَا هم يستحسرون يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين عِنْد رَبك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَمن آيَاته اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ فَإِن استكبروا فَالَّذِينَ عِنْد رَبك يسبحون لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وهم لَا يسأمون وَقَالَ تَعَالَى لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَما الَّذين آمنُوا بِاللَّه واعتصموا بِهِ فسيدخلهم فِي رَحْمَة مِنْهُ وَفضل ويهديهم إِلَيْهِ صراطا مُسْتَقِيمًا وَقَالَ تَعَالَى وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا إِن كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وَكلهمْ آتيه يَوْم الْقِيَامَة فَردا وَقَالَ تَعَالَى وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضي وهم من خَشيته مشفقون وَمن يقل مِنْهُم إِنِّي إِلَه من دونه فَذَلِك نجزيه جَهَنَّم كَذَلِك نجزي الظَّالِمين وَقَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا وينشئ السَّحَاب الثقال ويسبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة من خيفته وَيُرْسل الصَّوَاعِق فَيُصِيب بهَا من يَشَاء وهم يجادلون فِي الله وَهُوَ شَدِيد الْمحَال وَقَالَت الْمَلَائِكَة أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك قَالَ إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق وَالطير محشورة كل لَهُ أواب أهل الطَّبْع المتفلسفة لَا يشْهدُونَ الْحِكْمَة الغائية من الْمَخْلُوقَات فَأَما كثير من النَّاس وَأهل الطَّبْع المتفلسفة وَغَيرهم فيعلمون ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَأْخُذُونَ بِظَاهِر من القَوْل يرَوْنَ ظَاهر الحركات والأعمال الَّتِي للموجودات ويرون بعض أَسبَابهَا الْقَرِيبَة وَبَعض حكمهَا وغاياتها الْقَرِيبَة أَن ذَلِك هُوَ الْعلَّة لَهَا فَاعِلا وَغَايَة كَمَا يذكرُونَهُ فِي تشريح الْإِنْسَان وأعضائه وحركاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة وَمَا يذكرُونَهُ من الْقوي الَّتِي فِي الْأَجْسَام الَّتِي هِيَ تكون بهَا الْحَرَكَة وَمَا يذكرُونَهُ من كل شَيْء وَمن ذَلِك ذكرهم الطبيعة الَّتِي فِي الْإِنْسَان وَالْقُوَّة الجاذبة والهاضمة الغاذية والدافعة والمولدة وَغير ذَلِك وَأَن الرئة تروح على الْقلب لفرط حرارته وَأَن الدِّمَاغ أبرد من الْقلب إِلَى غير ذَلِك من الْأَسْبَاب وَالْحكم الَّتِي فِيهَا من شُهُود مَا فِي مخلوقات الله من الْأَسْبَاب وَالْحكم مَا هُوَ عِبْرَة لأولي الْأَبْصَار لَكِن يَقع الْغَلَط من إِضَافَة هَذِه الْآثَار الْعَظِيمَة إِلَى مُجَرّد قُوَّة فِي جسم وَلَا يشْهدُونَ الْحِكْمَة الغائية من هَذِه الْمَخْلُوقَات وَأَن ذَلِك هُوَ عبَادَة رَبهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهل الْكَلَام يُنكرُونَ طبائع الموجودات وَمَا فِيهَا من الْقوي والأسباب وَقد يعارضهم كلهم طوائف من أهل الْكَلَام فينكرون طبائع الموجودات وَمَا فِيهَا من الْقوي والأسباب ويدفعون مَا أرى الله عباده من آيَاته فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم مِمَّا شهد بِهِ فِي كِتَابه من أَنه خلق هَذَا بِهَذَا كَقَوْلِه فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات وَقَوله فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا وكلا الطَّائِفَتَيْنِ قد لَا يعلمُونَ مَا فِيهَا من الْحِكْمَة الَّتِي هِيَ عبَادَة رَبهَا وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُود الَّذِي بعث الله بِهِ الرُّسُل وَانْزِلْ بِهِ الْكتب بل إِنَّمَا يتنازعون فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 فَاعل هَذِه الْأُمُور وَمَا يتَعَلَّق بتوحيد الربوبية كَمَا قدمْنَاهُ وَأما شَهَادَة غَايَة هَذِه الْأُمُور وَمَا يتَعَلَّق بتوحيد الإلهية فقد لَا يَهْتَدُونَ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ فِي طرقهم من الضلالات والجهالات مَا هُوَ مُخَالف لصحيح الْمَنْقُول وصريح الْمَعْقُول لَكِن أهل الْعلم فِي إِضَافَة جَمِيع الْحَوَادِث إِلَى خلق الله ومشيئته وربوبيته أصح عقلا ودينا وَمن أَدخل فِي ذَلِك كل شَيْء حَتَّى أَفعَال الْحَيَوَان فَهُوَ الْمُصِيب الْمُوَافق للسّنة وَالْعقل وهم متكلمة أهل الْإِثْبَات الَّذين يقررون أَن الله خَالق كل شَيْء وربه ومليكه بِخِلَاف الْقَدَرِيَّة الَّذين أخرجُوا عَن ذَلِك أَفعَال الْحَيَوَان وَبِخِلَاف أهل الطَّبْع والفلسفة الَّذين يخرجُون عَن ذَلِك عَامَّة الكائنات من الْعِلَل المولدات وَكِلَاهُمَا بَاطِل كَمَا بَين فِي غير هَذَا الْموضع وَلِهَذَا تَجِد هَؤُلَاءِ إِذا تكلمُوا فِي الحركات الَّتِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض مثل حَرَكَة الرِّيَاح والسحاب والمطر وحدوث الْمَطَر من الْهَوَاء الَّذِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض تَارَة وَمن البخار المتصاعد من الأَرْض تَارَة كَمَا ذكر ذَلِك أَيْضا غير وَاحِد من السّلف وَهُوَ حق مشهود بالأبصار كَمَا يخلق الْوَلَد فِي بطن أمه من الْمَنِيّ وكما يخلق الشّجر من الْحبّ والنوى فَشَهِدُوا بعض الْأَسْبَاب المرئية وجهلوا أَكثر الْأَسْبَاب وأعرضوا عَن الْخَالِق الْمُسَبّب لذَلِك كُله وَعَما جَاءَ فِي ذَلِك من عِبَادَته وتسبيحه وَالسُّجُود لَهُ الَّذِي هُوَ غَايَة حكمته فَإِن خلق الله سُبْحَانَهُ للسحاب بِمَا فِيهِ من الْمَطَر من هَذَا الْبَحْر وبخار الأَرْض كخلقه للحيوان والنبات والمعدن من هَذِه الْأُمُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وَمَعْلُوم أَن الْمَنِيّ جسم صَغِير مشابه لهَذَا الَّذِي فِي الْحَيَوَان من الْأَعْضَاء المكسوة والمتنوعة فِي أقدارها وصفاتها وَحكمهَا وغاياتها هَل يَقُول عَاقل إِن هَذَا مُضَاف إِلَى عرض وَصفَة حَال فِي جسم صَغِير أَو يُضَاف هَذَا إِلَى ذَلِك الْجِسْم الصَّغِير هَذَا من أفسد الْأُمُور فِي بديهة الْعقل وَمَعْلُوم أَنه لَا نِسْبَة إِلَى خلق هَذَا من هَذَا وَإِلَى مَا يصنعه بَنو آدم من الصُّور الَّتِي يصنعونها من المداد مثل الْكِتَابَة بالمداد ونسيج الثِّيَاب من الْغَزل وصنعة الْأَطْعِمَة والبنيان من موادها وهم مَعَ ذَلِك لم يخلقوا الْموَاد وَلَا يفنونها وَإِنَّمَا غايتهم حَرَكَة خَاصَّة تعين على تِلْكَ الصُّورَة ثمَّ لَو أضَاف مضيف هَذِه الْكِتَابَة إِلَى المداد لَكَانَ النَّاس جَمِيعًا يستجهلونه ويستحمقونه فَالَّذِي يضيف خلق الْحَيَوَان والنبات إِلَى مادتها أَو مَا فِي مادتها من الطَّبْع أَلَيْسَ هُوَ أَحمَق وأجهل وأظلم وأكفر وَكَذَلِكَ خلق السَّحَاب والمطر من الْهَوَاء والبخار هُوَ كَذَلِك إِضَافَة الزلزلة إِلَى احتقان البخار وَإِضَافَة حَرَكَة الرَّعْد إِلَى مُجَرّد اصطكاك أجرام السَّحَاب إِلَى غير ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي ضلوا فِيهَا ضلالا مُبينًا حَيْثُ جعلوها هِيَ الْعلَّة التَّامَّة فَاعِلا وَلم يعرفوا الْغَايَة فجهلوا الوضعين ونازعهم طوائف من النَّاس فِيمَا يُوجد من الْأَسْبَاب وَالْقَوِي الَّتِي فِي الطباع وَذَلِكَ أَيْضا جهل وَإِذا كَانَت الْمحبَّة والإرادة أصل كل عمل وحركة وَأَعْظَمهَا فِي الْحق محبَّة الله وإرادته بِعِبَادَتِهِ وَحده لَا شريك لَهُ وَأَعْظَمهَا فِي الْبَاطِل أَن يتَّخذ النَّاس من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 الْمحبَّة والإرادة أصل كل دين دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ويجعلون لَهُ عدلا وشريكا علم أَن الْمحبَّة والإرادة أصل كل دين سَوَاء كَانَ دينا صَالحا أَو دينا فَاسِدا فَإِن الدَّين هُوَ من الْأَعْمَال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة والمحبة والإرادة أصل ذَلِك كُله وَالدّين هُوَ الطَّاعَة وَالْعِبَادَة والخلق فَهُوَ الطَّاعَة الدائمة اللَّازِمَة الَّتِي قد مَعَاني كلمة الدَّين صَارَت عَادَة وخلقا بِخِلَاف الطَّاعَة مرّة وَاحِدَة وَلِهَذَا فسر الدَّين بِالْعَادَةِ والخلق ويفسر الْخلق بِالدّينِ أَيْضا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم قَالَ ابْن عَبَّاس على دين عَظِيم وَذكره عَنهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَخذه الإِمَام أَحْمد عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَبِذَلِك فسراه وَكَذَلِكَ يُفَسر بِالْعَادَةِ كَمَا قَالَ الشَّاعِر أَهَذا دينه أبدا وديني وَمِنْه الديدن يُقَال هَذَا ديدنه أَي عَادَته اللَّازِمَة فَإِن ديدن من دَان بِمَنْزِلَة صلصل من صل وكبكب من كب هُوَ تَضْعِيف لَهُ والمضعف قد يكون مشددا وَقد يكون حرف لين وهم يعاقبون فِي كَلَامهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 كثيرا بَين الْحَرْف المشدد وحرف الْمثل كَمَا يُقَال تقضي الْبَازِي وتقضض وَيُقَال تسرر وتسري ودان يكون من الْأَعْلَى القاهر وَيكون من الْمُطِيع يُقَال دنته فدان أَي قهرته فذل كَمَا قَالَ هُوَ دَان الربَاب إِذْ كَرهُوا الديـ ... ـن دراكا بعزة وصيال وَيُقَال فِي الْأَعْلَى كَمَا تدين تدان وَأما دين الْمُطِيع فيستعمل مُتَعَدِّيا ودائما ولازما يُقَال دنت الله وَدنت لله وَيُقَال فلَان لَا يدين الله دينا وَلَا يدين لله لِأَن فِيهِ معنى الطَّاعَة وَالْعِبَادَة وَمعنى الذل فَإِذا قيل دَان الله فَهُوَ قَوْلك أطَاع الله وأحبه وَإِذا قيل دَان لله فَهُوَ كَقَوْلِك ذل لله وخشع لله وَقد ذكرت أَن أسم الْعِبَادَة يتَنَاوَل غَايَة الْحبّ بغاية الذل وَهَكَذَا الدَّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الَّذِي يدين بِهِ النَّاس فِي الْبَاطِن وَالظَّاهِر لَا بُد فِيهِ من الْحبّ والخضوع بِخِلَاف طاعتهم للملوك وَنَحْوهم فَإِنَّهَا قد تكون خضوعا ظَاهرا فَقَط وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمي يَوْم الْقِيَامَة يَوْم الدَّين كَمَا قَالَ مَالك يَوْم الدَّين وَهُوَ كَمَا روى عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره من السّلف يَوْم يدين الله الْعباد بأعمالهم إِن خيرا فخيرا وَإِن شرا فشرا وَذَلِكَ يتَضَمَّن جزاءهم وحسابهم فَلهَذَا من قَالَ هُوَ يَوْم الْحساب وَيَوْم الْجَزَاء فقد ذكر بعض صِفَات الدَّين قَالَ تَعَالَى كلا بل تكذبون بِالدّينِ وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم يصلونها يَوْم الدَّين وَمَا هم عَنْهَا بغائبين وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدَّين ثمَّ مَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدَّين يَوْم لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله وَقَالَ تَعَالَى فلولا إِن كُنْتُم غير مدينين ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين أَي مقهورين ومدبرين ومجزيين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 لَا بُد لكل طَائِفَة من بني آدم من دين يجمعهُمْ وَإِذا كَانَ كل عمل عَن محبَّة وَإِرَادَة وَالتّرْك يكون عَن بغض وَكَرَاهَة وكل أحد همام حَارِث لَهُ حب وبغض لَا يَخْلُو الْحَيّ عَنْهُمَا وَعَمله يتبع حبه وبغضه ثمَّ قد يكون ذَلِك فِي أُمُور هِيَ لَهُ عَادَة وَخلق وَقد يكون فِي أُمُور عارضة لَازِمَة علم أَن كل طَائِفَة من بني آدم لَا بُد لَهُم من دين يجمعهُمْ إِذْ لَا غَنِي لبَعْضهِم عَن بعض وأحدهم لَا يسْتَقلّ بجلب منفعَته وَدفع مضرته فَلَا بُد من اجْتِمَاعهم وَإِذا اجْتَمعُوا فَلَا بُد أَن يشتركوا فِي اجتلاب مَا يَنْفَعهُمْ كلهم مثل طلب نزُول الْمَطَر وَذَلِكَ محبتهم لَهُ وَفِي دفع مَا يضرهم مثل عدوهم وَذَلِكَ بغضهم لَهُ فَصَارَ وَلَا بُد أَن يشتركوا فِي محبَّة شَيْء عَام وبغض شَيْء عَام وَهَذَا هُوَ دينهم الْمُشْتَرك الْعَام وَإِمَّا اخْتِصَاص كل مِنْهُم بمحبة مَا يَأْكُلهُ ويشربه وينكحه وَطلب مَا يستره باللباس فَهَذَا يشتركون فِي نَوعه لَا فِي شخصه بل كل مِنْهُم يحب نَظِير مَا يُحِبهُ الآخر لَا عينه بل كل مِنْهُم لَا ينْتَفع فِي أكله وشربه ونكاحه ولباسه بِعَين مَا ينْتَفع بِهِ الآخر بل بنظيره وَهَكَذَا هِيَ الْأُمُور السماوية فِي الْحَقِيقَة فَإِن عين الْمَطَر الَّذِي ينزل فِي أَرض هَذَا لَيْسَ هُوَ عين الَّذِي ينزل فِي أَرض هَذَا وَلَكِن نَظِيره وَلَا عين الْهَوَاء الْبَارِد الَّذِي يُصِيب جَسَد أحدهم قد لَا يكون نفس عين الْهَوَاء الْبَارِد الَّذِي يُصِيب جَسَد الآخر بل نَظِيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 لَكِن الْأُمُور السماوية تقع مُشْتَركَة عَامه وَلِهَذَا تعلق حبهم وبغضهم بهَا عَامَّة مُشْتَركَة بِخِلَاف الْأُمُور الَّتِي تتَعَلَّق بأفعالهم كالطعام واللباس فقد تقع مُخْتَصَّة وَقد تقع مُشْتَركَة الدَّين هُوَ التعاهد والتعاقد وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالأمور الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا يَحْتَاجُونَ أَن يوجبوها على أنفسهم والأمور الَّتِي تَضُرهُمْ يَحْتَاجُونَ أَن يحرموها على نُفُوسهم وَذَلِكَ دينهم وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا باتفاقهم على ذَلِك وَهُوَ التعاهد والتعاقد وَلِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيث لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ فَهَذَا هُوَ من الدَّين الْمُشْتَرك بَين جَمِيع بني آدم من الْتِزَام وَاجِبَات ومحرمات وَهُوَ الْوَفَاء والعهد وَهَذَا قد يكون بَاطِلا فَاسِدا إِذا كَانَ فِيهِ مضرَّة لَهُم راجحة على منفعَته وَقد يكون دين حق إِذا كَانَت مَنْفَعَة خَاصَّة أَو راجحة كَمَا قَالَ تَعَالَى قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ لَا أعبد مَا تَعْبدُونَ وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد وَلَا أَنا عَابِد مَا عَبدْتُمْ وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد لكم دينكُمْ ولي دين وَقَالَ تَعَالَى مَا كَانَ ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وَقَالَ تَعَالَى قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله وَلَا يدينون دين الْحق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب الدَّين الْحق هُوَ طَاعَة الله وعبادته وَالدّين الْحق هُوَ طَاعَة الله وعبادته كَمَا بَينا أَن الدَّين هُوَ الطَّاعَة الْمُعْتَادَة الَّتِي صَارَت خلقا وَبِذَلِك يكون المطاع محبوبا مرَادا إِذْ أصل ذَلِك الْمحبَّة والإرادة وَلَا يسْتَحق أحد أَن يعبد ويطاع على الْإِطْلَاق إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَرُسُله وأولو الْأَمر أطِيعُوا لأَنهم يأمرون بِطَاعَة الله كَمَا قَالَ النَّبِي فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله وَمن أطَاع أَمِيري فقد أَطَاعَنِي وَمن عَصَانِي فقد عصي الله وَمن عصي أَمِيري فقد عَصَانِي وَأما الْعِبَادَة فَللَّه وَحده لَيْسَ فِيهَا وَاسِطَة فَلَا يعبد العَبْد إِلَّا الله وَحده كَمَا قد بَينا ذَلِك فِي مَوَاضِع وَبينا أَن كل عمل لَا يكون غَايَته إِرَادَة الله وعبادته فَهُوَ عمل فَاسد غير صَالح بَاطِل غير حق أَي لاينفع صَاحبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ وَمَا أمروا إِلَّا ليعيدوا الله مُخلصين لَهُ الدَّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة وَقَالَ تَعَالَى وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدَّين لله وَقَالَ تَعَالَى ذَلِك الدَّين الْقيم فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم وَقَالَ تَعَالَى قل إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دينا قيمًا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين وَقَالَ تَعَالَى فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدَّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي انه قَالَ من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدَّين وَقَالَ تَعَالَى وَلَا يزالون يقاتلونكم حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَهُوَ الدَّين الْحق الَّذِي هُوَ عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ وطاعته وَطَاعَة رَسُوله هُوَ الْإِسْلَام الْعَام الَّذِي لَا يقبل الله دينا غَيره كَمَا قَالَ تَعَالَى إِن الدَّين عِنْد الله الْإِسْلَام وَقَالَ تَعَالَى وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين وَقَالَ تَعَالَى أفغير دين الله يَبْغُونَ وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وَإِلَيْهِ يرجعُونَ وَقَالَ تَعَالَى شرع لكم من الدَّين مَا وَصِيّ بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وعيسي أَن أقِيمُوا الدَّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء كل دين سوي الْإِسْلَام بَاطِل فَإِذا كَانَ لَا بُد لكل آدَمِيّ من اجْتِمَاع وَلَا بُد فِي كل اجْتِمَاع من طَاعَة وَدين وكل دين وَطَاعَة لَا يكون لله فَهُوَ بَاطِل فَكل دين سوي الْإِسْلَام فَهُوَ بَاطِل وَأَيْضًا فَلَا بُد لكل حَيّ من مَحْبُوب هُوَ مُنْتَهى محبته وإرادته وَإِلَيْهِ تكون حَرَكَة بَاطِنه وَظَاهره وَذَلِكَ هُوَ إلهه وَلَا يصلح ذَلِك إِلَّا لله وَحده لَا شريك لَهُ فَكل مَا سوي الْإِسْلَام فَهُوَ بَاطِل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 والمتفرقون أَيْضا فِيهِ الَّذين أَخذ كل مِنْهُم بِبَعْضِه وَترك بعضه وافترقت أهواؤهم قد بَرِيء الله وَرَسُوله مِنْهُم لَا بُد فِي كل دين من شَيْئَيْنِ العقيدة والشريعة أَو المعبود وَالْعِبَادَة وَلَا بُد فِي كل دين وَطَاعَة ومحبة من شَيْئَيْنِ أَحدهمَا الدَّين المحبوب المطاع وَهُوَ الْمَقْصُود المُرَاد وَالثَّانِي نفس صُورَة الْعَمَل الَّتِي تطاع ويعبد بهَا وَهُوَ السَّبِيل وَالطَّرِيق والشريعة والمنهاج والوسيلة كَمَا قَالَ الفضيل بن عِيَاض فِي قَوْله تَعَالَى ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا قَالَ أخلصه وأصوبه قَالُوا يَا أَبَا عَليّ مَا أخلصه وأصوبه قَالَ إِن الْعَمَل إِذا كَانَ خَالِصا وَلم يكن صَوَابا لم يقبل وَإِذا كَانَ صَوَابا وَلم يكن خَالِصا لم يقبل حَتَّى يكون خَالِصا صَوَابا والخالص أَن يكون لله وَالصَّوَاب أَن يكون على السّنة فَهَكَذَا كَانَ الدَّين يجمع هذَيْن الْأَمريْنِ المعبود وَالْعِبَادَة والمعبود اله وَاحِد وَالْعِبَادَة طَاعَته وَطَاعَة رَسُوله فَهَذَا هُوَ دين الله الَّذِي ارْتَضَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا وَهُوَ دين الْمُؤمنِينَ من الْأَوَّلين والآخرين وَهُوَ الدَّين الَّذِي لَا يقبل الله من أحد غَيره لِأَنَّهُ دين فَاسد بَاطِل كمن عبد من لَا تصلح عِبَادَته أَو عبد بِمَا لَا يصلح أَن يعبد بِهِ تنوع النَّاس فِي المعبود وَفِي الْعِبَادَة ثمَّ مَعَ اشْتِرَاك الْأَوَّلين والآخرين فِي هَذَا الدَّين فيتنازعون فِي كل مِنْهُمَا فَإِن الله سُبْحَانَهُ لَهُ الْأَسْمَاء الحسني وَله الْمثل الْأَعْلَى فقد تعرف هَذِه الْأمة من أَسْمَائِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وَصِفَاته مَا لَا تعرف بِهِ الْأمة الْأُخْرَى فهم مشتركون فِي عبَادَة نَفسه وَإِن تنوعوا فِيمَا عرفوه وعبدوه بِهِ من أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وَقد رفع الله بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات فَهَذَا تنوعهم فِي المعبود وَكَذَلِكَ حَالهم فِي معرفَة الْيَوْم الآخر وَأما تنوعهم فِي الْعِبَادَة وَالطَّاعَة من الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال فَإِنَّهُم متنوعون فِي ذَلِك أَيْضا وَقد قَالَ تَعَالَى لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا وَقَالَ تَعَالَى ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ وَقَالَ تَعَالَى لكل أمة جعلنَا منسكا هم ناسكوه فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر وَقَالَ تَعَالَى وَلكُل أمة جعلنَا منسكا لِيذكرُوا اسْم الله على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام وَقَالَ تَعَالَى وَلكُل وجهة هُوَ موليها وَهَذَانِ الأصلان قد جَاءَت شريعتنا فيهمَا بأنواع فَجَاءَت فِي أَسمَاء الله وَصِفَاته بأنواع وَجَاءَت فِي صِفَات الْعِبَادَات بأنواع وَالْأَصْل الأول يَنْضَم إِلَيْهِ الْيَوْم الآخر وَمَا جَاءَ فِي نَعته من الْأَسْمَاء وَالصِّفَات والوعد والوعيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وَهَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة وَهِي الْإِيمَان بِاللَّه وباليوم الآخر وَالْعَمَل الصَّالح هِيَ الْمُوجبَة للسعادة فِي كل مِلَّة كَمَا قَالَ تَعَالَى إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ وَالشَّرْع مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَهُوَ الأَصْل الرَّابِع ذمّ الله التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف فِي الْكتاب وَالسّنة فَإِن هَذِه الْأُصُول الْأَرْبَعَة متلازمة والتفرق فِي ذَلِك بِالْأَمر فِي بعضه وَالنَّهْي عَن بعض هُوَ من التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف الَّذِي ذمه الْكتاب وَالسّنة من الْمُخْتَلِفين وَقَالَ تَعَالَى وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِي الْكتاب لفي شقَاق بعيد وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات وَلِهَذَا غضب النَّبِي لما اخْتلفُوا فِي الْقِرَاءَة وَقَالَ كِلَاهُمَا محسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وَقَالَ إِن الْقُرْآن نزل على سَبْعَة أحرف فاقرؤوا مِنْهُ مَا تيَسّر وَكَذَلِكَ غضب لما تنازعوا فِي الْقدر وَأخذُوا يعارضون بَين الْآيَات مُعَارضَة تُفْضِي إِلَى الْإِيمَان بِبَعْض دون بعض وَهَذَا التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف يُوجب الشّرك وينافي حَقِيقَة التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ إخلاص الدَّين كُله لله كَمَا قَالَ تَعَالَى فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين من الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ فإقامة وجهة الدَّين حَنِيفا وَعبادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ وَذَلِكَ يجمع الْإِيمَان بِكُل مَا أَمر الله بِهِ وَأخْبر بِهِ أَن يكون الدَّين كُله لله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين من الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا وَذَلِكَ أَنه إِذا كَانَ الدَّين كُله لله حصل الْإِيمَان وَالطَّاعَة لكل مَا أنزلهُ وَأرْسل بِهِ رسله وَهَذَا يجمع كل حق وَيجمع عَلَيْهِ كل حق وَإِذا لم يكن كَذَلِك فَلَا بُد أَن يكون لكل قَول مَا يمتازون بِهِ مثل مُعظم مُطَاع أَو معبود لم يَأْمر الله بِعِبَادَتِهِ وطاعته وَمثل قَول وَدين ابتدعوه لم يَأْذَن الله بِهِ وَلم يشرعه فَيكون كل من الْفَرِيقَيْنِ مُشْركًا من هَذَا الْوَجْه وَأَيْضًا فَفِي قُلُوب بني آدم محبَّة وَإِرَادَة لما يتألهونه ويعبدونه وَذَلِكَ هُوَ قوام قُلُوبهم وَصَلَاح نُفُوسهم كَمَا أَن فيهم محبَّة وَإِرَادَة لما يطعمونه وينكحونه وَبِذَلِك تصلح حياتهم ويدوم شملهم وحاجتهم إِلَى التأله أعظم من حَاجتهم إِلَى الْغذَاء فَإِن الْغذَاء إِذا فقد يفْسد الْجِسْم وبفقد التأله تفْسد النَّفس وَلنْ يصلحهم إِلَّا تأله الله وعبادته وَحده لَا شريك لَهُ وَهِي الْفطْرَة الَّتِي فطروا عَلَيْهَا كَمَا قَالَ النَّبِي فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عِيَاض بن حمَار عَن النَّبِي فِيمَا يروي عَن ربه أَنه قَالَ إِنَّنِي خلقت عبَادي حنفَاء فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِين وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت لَهُم وأمرتهم أَن يشركوا بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا لَكِن أَكثر الشّرك فِي بني آدم بإيجاد إِلَه آخر مَعَ الله ودان بذلك كثير مِنْهُم فِي أَنْوَاع كَثِيرَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 فَصَارَ كل طَائِفَة من بني آدم لَا بُد لَهُم من دين لهذين الْأَمريْنِ لحَاجَة نُفُوسهم إِلَى الْإِلَه الَّذِي هُوَ مَحْبُوب مَطْلُوب لذاته وَلِأَنَّهُ ينفع ويضر ولحاجتهم إِلَى الْتِزَام مَا يحبونه من الْحَاجَات ويدفعونه من المضرات وهم مشركون فِي الْمحبَّة للأمور الْمنزلَة أعيانها وأنواعها فهم مشركون فِي محبَّة الْإِلَه الَّذِي يعبدونه وتعظيمه ومحبة من يبلغ عَنهُ مَا يخْتَص بِهِ ومحبة أوامره ونواهيه مُشْرِكين فِي محبَّة غير ذَلِك ومشركون أَيْضا فِي محبَّة جنس مَا التزموه من الْوَاجِبَات والمحرمات الْعَامَّة الَّتِي هِيَ جلب الْمَنْفَعَة لَهُم جَمِيعًا وَدفع الْمضرَّة عَنْهُم جَمِيعًا فَهَذِهِ الْمحبَّة هِيَ الْمحبَّة الدِّينِيَّة كحب الدَّين الَّذِي هم عَلَيْهِ حَقًا كَانَ أَو بَاطِلا وَكَذَلِكَ محبَّة مَا يعين على ذَلِك ويوصل إِلَيْهِ لأجل ذَلِك فَهِيَ أَيْضا محبَّة دينية يَقُول بعض المتفلسفة إِن الْمَقْصُود بِالدّينِ مُجَرّد الْمصلحَة الدُّنْيَوِيَّة وَلَيْسَ الْمَقْصُود بِالدّينِ الْحق مُجَرّد الْمصلحَة الدُّنْيَوِيَّة من إِقَامَة الْعدْل بَين النَّاس فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة كَمَا يَقُوله طوائف من المتفلسفة فِي مَقْصُود النواميس والنبوات أَن المُرَاد بهَا مُجَرّد وضع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ معاشهم فِي الدُّنْيَا من القانون العدلي الَّذِي يَنْتَظِم بِهِ معاشهم لَكِن هَذَا قد يكون الْمَقْصُود فِي أَدْيَان من لم يُؤمن بِاللَّه وَرَسُوله من اتِّبَاع الْمُلُوك المتفلسفة وَنَحْوهم مثل قوم نوح ونمرود وجنكيزخان وَغَيرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فَإِن كل طَائِفَة من بني آدم محتاجون إِلَى الْتِزَام وَاجِبَات وَترك مُحرمَات يقوم بهَا معاشهم وحياتهم الدُّنْيَوِيَّة وَرُبمَا جعلُوا مَعَ ذَلِك مَا بِهِ يستولون بِهِ على غَيرهم من الْأَصْنَاف ويقهرونه كَفعل الْمُلُوك الظَّالِمين مثل جنكيزخان فَإِذا لم يكن مَقْصُود الدَّين والناموس الْمَوْضُوع إِلَّا جلب الْمَنْفَعَة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَدفع الْمضرَّة فِيهَا فَلَيْسَ لهَؤُلَاء فِي الْآخِرَة من خلاق ثمَّ إِن كَانَ مَعَ ذَلِك جَعَلُوهُ ليستولوا بِهِ على غَيرهم من بني آدم ويقهرونهم كَفعل فِرْعَوْن وجنكيزخان وَنَحْوهمَا فَهَؤُلَاءِ من أعظم النَّاس عذَابا فِي الْآخِرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى نتلوا عَلَيْك من نبأ مُوسَى وَفرْعَوْن بِالْحَقِّ لقوم يُؤمنُونَ إِن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض وَجعل أَهلهَا شيعًا يستضعف طَائِفَة مِنْهُم يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحيي نِسَاءَهُمْ إِنَّه كَانَ من المفسدين وَقد قصّ الله سُبْحَانَهُ قصَّة فِرْعَوْن فِي غير مَوضِع من الْقُرْآن وَكَانَ هُوَ وَقَومه على دين لَهُم من دين الْمُلُوك كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قصَّة يُوسُف مَا كَانَ ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك إِلَّا أَن يَشَاء الله وَهَذَا الْملك كَانَ فِرْعَوْن يُوسُف وَكَانَ قبل فِرْعَوْن مُوسَى وَفرْعَوْن اسْم لمن يملك مصر من القبط وَهُوَ اسْم جنس كقيصر وكسري وَالنَّجَاشِي وَنَحْو ذَلِك وَهَؤُلَاء المتفلسفة الصابئة المبتدعة من الْمَشَّائِينَ وَمن سلك مسلكهم من المنتسبين إِلَى الْملَل فِي الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى يجْعَلُونَ الشَّرَائِع والنواميس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 والديانات من هَذَا الْجِنْس لوضع قانون تتمّ بِهِ مصلحَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلِهَذَا لَا يأمرون فِيهَا بِالتَّوْحِيدِ وَهُوَ عبَادَة الله وَحده وَلَا بِالْعَمَلِ للدَّار الْآخِرَة وَلَا ينهون فِيهَا عَن الشّرك بل يأمرون فِيهَا بِالْعَدْلِ والصدق وَالْوَفَاء بالعهد وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور الَّتِي لَا تتمّ مصلحَة الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا بهَا ويشرعون التأله للمخلصين وَالْمُشْرِكين وَقد تَكَلَّمت على أَقسَام الديانَات فِي غير هَذَا الْموضع وبينت الطبعي والملي والشرعي وَإِنَّمَا جَاءَ ذكر هَذَا هُنَا مطردا وَلِهَذَا يُقِيمُونَ النواميس بأنواع من الْحِيَل وَالسحر والطلسمات كَمَا وضعوه فِي كتب ذَلِك وَيَقُولُونَ فِي بعض الطيالسم هَذَا يصلح لوضع النواميس كَمَا تواصت القرامطة والباطنية وكما كَانَ يَفْعَله سحرة فِرْعَوْن وَغَيرهم وآثارهم مَوْجُودَة بذلك إِلَى الْيَوْم وكما يَفْعَله الْمُشْركُونَ من التّرْك والهند فِي بِلَادهمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 والمتفلسفة الصابئة تجْعَل ذَلِك جِنْسا لما بعثت بِهِ الرُّسُل من الْآيَات ويجعلون مُوسَى والسحرة وَالَّذين عارضوه من جنس وَاحِد وَهَؤُلَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى فيهم وَلَقَد علمُوا لمن اشْتَرَاهُ مَاله فِي الْآخِرَة من خلاق هم مقرون بِأَن مَنْفَعَة ذَلِك لَا تكون فِي الْآخِرَة وَإِنَّمَا يرجون منفعَته فِي الدُّنْيَا وَإِن كَانَ فِيهِ بُلُوغ بعض الْأَعْرَاض من رئاسة أَو شَهْوَة فَهُوَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ إِذْ مَا فِيهِ من الْمضرَّة يَرْبُو على مَا فِيهِ من الْخَيْر قَالَ الله تَعَالَى وَلَو أَنهم آمنُوا وَاتَّقوا لمثوبة من عِنْد الله خير لَو كَانُوا يعلمُونَ وَلِهَذَا كَانَ مَا نهي عَنهُ من هَذَا الْجِنْس إِنَّمَا هُوَ لكَون الضَّرَر فِيهِ أغلب من الْمَنْفَعَة فَأَما مَا ينفع النَّاس فَلم ينْه الله عَنهُ وَلِهَذَا لما عرض على النَّبِي الرقى قَالَ من اسْتَطَاعَ أَن ينفع أَخَاهُ فَلْيفْعَل وَقَالَ لَا بَأْس بالرقى مَا لم يكن فِيهِ شرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وَذكر البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِي اسْتِخْرَاج السحر عَن قَتَادَة قَالَ قلت لسَعِيد بن الْمسيب رجل بِهِ طب أَو يُؤْخَذ عَن امْرَأَته أَيحلُّ عَنهُ أَو ينشر قَالَ لَا بَأْس بِهِ إِنَّمَا يُرِيدُونَ الْإِصْلَاح فَأَما مَا ينفع النَّاس فَلم ينْه عَنهُ فصل الْحبّ أصل كل عمل والتصديق بالمحبة هُوَ أصل الْإِيمَان وَإِذا كَانَ الْحبّ أصل كل عمل من حق وباطل وَهُوَ أصل الْأَعْمَال الدِّينِيَّة وَغَيرهَا وأصل الْأَعْمَال الدِّينِيَّة حب الله وَرَسُوله كَمَا ان اصل الْأَقْوَال الدِّينِيَّة تَصْدِيق الله وَرَسُوله فالتصديق بالمحبة هُوَ أصل الْإِيمَان وَهُوَ قَول وَعمل كَمَا قد بَين فِي غير هَذَا الْموضع وَمَعْلُوم أَن قُوَّة الْمحبَّة لكل مَحْبُوب يتَفَاوَت النَّاس فِيهَا تَفَاوتا عَظِيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 ويتفاوت حَال الشَّخْص الْوَاحِد فِي محبَّة الشَّيْء الْوَاحِد بِحَيْثُ يُقَوي الْحبّ تَارَة ويضعف تَارَة بل قد يتبدل أقوي الْحبّ بأقوى البغض وَبِالْعَكْسِ قَالَ تَعَالَى لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة وَقد كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق إِلَى قَوْله قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا برءاؤا مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده وَإِبْرَاهِيم هُوَ إِمَام الحنفاء الَّذين يُحِبهُمْ الله وَيُحِبُّونَهُ وَهُوَ خَلِيل الله وَقَالَ تَعَالَى أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين وَقَالَ تَعَالَى أَيْضا لَا أحب الأفلين وَقَالَ بعد ذَلِك إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين وَقد قَالَ تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله وَلَا ريب أَن محبَّة الْمُؤمنِينَ لرَبهم أعظم المحبات وَكَذَلِكَ محبَّة الله لَهُم هِيَ محبَّة عَظِيمَة جدا كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي قَالَ يَقُول الله تَعَالَى من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَمَا تقرب إِلَيّ عَبدِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 بِمثل أَدَاء مَا افترضت عَلَيْهِ وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِذا أحببته كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ وبصره الَّذِي يبصر بِهِ وَيَده الَّتِي يبطش بهَا وَرجله الَّتِي يمشي بهَا فَبِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي يبطش وَبِي يمشي وَلَئِن سَأَلَني لأعطينه وَلَئِن استعاذني لأعيذنه وَمَا ترددت عَن شَيْء أَنا فَاعله ترددي عَن قبض نفس عَبدِي الْمُؤمن يكره الْمَوْت واكره مساءته وَلَا بُد لَهُ مِنْهُ تَأْوِيل طوائف من الْمُسلمين للمحبة تأويلات خاطئة وَقد تَأَول الْجَهْمِية وَمن اتبعهم من أهل الْكَلَام محبَّة الله لعَبْدِهِ على أَنَّهَا الْإِحْسَان إِلَيْهِ فَتكون من الْأَفْعَال وَطَائِفَة أخري من الصفاتية قَالُوا هِيَ إِرَادَة الْإِحْسَان وَرُبمَا قَالَ كلا من الْقَوْلَيْنِ بعض المنتسبين إِلَى السّنة من أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد وَغَيرهم وَسلف الْأمة وأئمة السّنة على إِقْرَار الْمحبَّة على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ محبَّة العَبْد لرَبه يُفَسِّرهَا كثير من هَؤُلَاءِ بِأَنَّهَا إِرَادَة الْعِبَادَة لَهُ وَإِرَادَة التَّقَرُّب إِلَيْهِ لَا يثبتون أَن العَبْد يحب الله وَسلف الْأمة وأئمة السّنة ومشايخ الْمعرفَة وَعَامة أهل الْإِيمَان متفقون على خلاف قَول هَؤُلَاءِ المعطلة لأصل الدَّين بل هم متفقون على أَنه لَا يكون شَيْء من أَنْوَاع الْمحبَّة أعظم من محبَّة العَبْد ربه كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 تَعَالَى فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَقَالَ تَعَالَى قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره فَلم يرض إِلَّا بِأَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِم من الأهلين وَالْأَمْوَال حَتَّى يكون الْجِهَاد فِي سَبِيل الله الَّذِي هُوَ من كَمَال الْإِيمَان قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون وَلِهَذَا وصف الله المحبين لَهُ الَّذين يُحِبهُمْ هُوَ بِالْجِهَادِ فَقَالَ تَعَالَى من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم تنَازع النَّاس فِي لفظ الْعِشْق واما تنَازع النَّاس فِي لفظ الْعِشْق فَمن النَّاس من أهل التصوف وَالْكَلَام وَغَيرهم من أطلق هَذَا اللَّفْظ فِي حق الله كَمَا روى عبد الْوَاحِد بن زيد فِيمَا يؤثره عَن أحد أَنْبيَاء الله أَنه قَالَ عشقني وعشقته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْعِشْق هُوَ الْمحبَّة الْكَامِلَة التَّامَّة وأولي النَّاس بذلك هُوَ الله فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يجب أَن يحب أكمل محبَّة وَكَذَلِكَ هُوَ يحب عَبده محبَّة كَامِلَة وَلَو قيل أَن الْعِشْق هُوَ مُنْتَهى الْمحبَّة أَو أقصاها أَو نَحْو ذَلِك فَهَذَا الْمَعْنى حق من العَبْد فَإِنَّهُ يحب ربه منتهي الْمحبَّة وأقصاها وَالله يحب عَبده مثل إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد صلي الله عَلَيْهَا وَسلم تَسْلِيمًا أقصي محبَّة تكون لِعِبَادِهِ ومنتهاها وهما خَلِيلًا الله كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي انه قَالَ إِن الله قد اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا وَقَالَ لَو كنت متخذا من أهل الأَرْض خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا وَلَكِن صَاحبكُم خَلِيل الله وَذهب طوائف من أهل الْعلم وَالدّين إِلَى إِنْكَار ذَلِك فِي حق الله وَلَا ريب أَن هَذَا اللَّفْظ لَيْسَ مأثورا عَن أَئِمَّة السّلف منكرو لفظ الْعِشْق لَهُم من جِهَة اللَّفْظ مأخذان وَمن جِهَة الْمَعْنى مأخذان وَالَّذين أنكروه لَهُم من جِهَة اللَّفْظ مأخذان وَمن جِهَة الْمَعْنى مأخذان المأخذ الأول من جِهَة اللَّفْظ أما من جِهَة اللَّفْظ فَإِن هَذَا اللَّفْظ لَيْسَ مأثورا عَن السّلف وَبَاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات يتبع فِيهَا الْأَلْفَاظ الشَّرْعِيَّة فَلَا نطلق إِلَّا مَا يرد بِهِ الْأَثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 والأولون يستدلون بِمثل قَول عبد الْوَاحِد بن زيد وَنَحْوه وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ هَذَا من الْإسْرَائِيلِيات الَّتِي لَا يجوز الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا فِي شرعنا فَإِن ثُبُوت مثل هَذَا الْكَلَام عَن الله لَا يعلم إِلَّا من جِهَة نَبينَا صلي الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ غير مأثور عَنهُ وَنحن لَا نصدق بِمَا ينْقل عَن الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين إِلَّا أَن يكون عندنَا مَا يصدقهُ كَمَا لَا نكذب إِلَّا بِمَا نعلم أَنه كذب وَقد قَالَ النَّبِي إِذا حَدثكُمْ أهل الْكتاب فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم فإمَّا أَن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وَإِمَّا يحدثوكم بِحَق فتكذبوه وَهَذَا الْوَجْه يَقْتَضِي الِامْتِنَاع من الْإِطْلَاق إِلَّا عِنْد الْجَزْم بِتَحْرِيمِهِ فِي جَمِيع الشَّرَائِع المأخذ الثَّانِي المأخذ الثَّانِي أَن الْمَعْرُوف من اسْتِعْمَال هَذَا اللَّفْظ فِي اللُّغَة إِنَّمَا هُوَ فِي محبَّة جنس النِّكَاح مثل حب الْإِنْسَان الْآدَمِيّ مثله مِمَّن يسْتَمْتع بِهِ من امْرَأَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 أَو صبي فَلَا يكَاد يسْتَعْمل هَذَا اللَّفْظ فِي محبَّة الْإِنْسَان لوَلَده وأقاربه ووطنه وَمَاله وَدينه وَغير ذَلِك وَلَا فِي محبته لآدَمِيّ لغير صورته مثل محبَّة الْآدَمِيّ لعلمه وَدينه وشجاعته وَكَرمه وإحسانه وَنَحْو ذَلِك بل الْمَشْهُور من لفظ الْعِشْق هُوَ محبَّة النِّكَاح ومقدماته فالعاشق يُرِيد الِاسْتِمْتَاع بِالنّظرِ إِلَى المعشوق وَسَمَاع كَلَامه أَو مُبَاشَرَته بالقبلة والحس والمعانقة أَو الْوَطْء وَإِن كَانَ كثير من العشاق لَا يخْتَار الْوَطْء بل يحب تَقْبِيل ومعانقة موطوءته فَهُوَ يحب مُقَدمَات الْوَطْء وَكم مِمَّن اشْتغل بالوسيلة عَن الْمَقْصُود ثمَّ لفظ الْعِشْق قد يسْتَعْمل فِي غير ذَلِك إِمَّا على سَبِيل التواطؤ فَيكون حَقِيقَة فِي الْقدر الْمُشْتَرك وَإِمَّا على سَبِيل الْمجَاز لَكِن اسْتِعْمَاله فِي محبَّة الله إِمَّا أَن يفهم أَو يُوهم الْمَعْنى الْفَاسِد وَهُوَ أَن الله يحب وَيُحب كَمَا تحب صور الْآدَمِيّين الَّتِي نستمتع بمعاشرتها وَوَطئهَا وكما تحب الْحور الْعين الَّتِي فِي الْجنَّة وَهَذَا الْمَعْنى من أعظم الْكفْر وَإِن كَانَ قد بلغ إِلَى هَذَا الْكفْر الاتحادية الَّذين يَقُولُونَ إِنَّه عين الموجودات وَيَقُولُونَ مَا نكح سوي نَفسه وَهُوَ الناكح والمنكوح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وَكَذَلِكَ الَّذين يَقُولُونَ بالحلول الْعَام وَالَّذين يَقُولُونَ بالاتحاد فِي صور مُعينَة أَو بحلوله فِيهَا كَمَا يَقُوله الغالية من النَّصَارَى والرافضة وغالية النساك فَإِن هَؤُلَاءِ يصفونه بِمَا يُوصف بِهِ الْبشر من النِّكَاح تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا هُوَ الْأَحَد الصَّمد الَّذِي لم يلد وَلم يُولد وَلَو يكن لَهُ كفوا أحد وَمن هَؤُلَاءِ من يعشق الصُّور الجميلة وَيَزْعُم أَنه يتجلي فِيهَا وَأَنه إِنَّمَا يحب مظَاهر جماله وَقد بسطنا الْكَلَام فِي كفرهم وضلالهم فِي غير هَذَا الْموضع فَمن زعم أَن الله يحب أَو يعشق وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى فَهُوَ أعظم كفرا من الْيَهُود وَالنَّصَارَى المأخذ الْمَعْنَوِيّ قيل إِن الْعِشْق فَسَاد فِي الْحبّ والإرادة وَأما المأخذ الْمَعْنَوِيّ فَهُوَ أَن الْعِشْق هَل هُوَ فَسَاد فِي الْحبّ والإرادة أَو فَسَاد فِي الْإِدْرَاك والمعرفة قيل إِن الْعِشْق هُوَ الإفراط فِي الْحبّ حَتَّى يزِيد على الْقَصْد الْوَاجِب فَإِذا أفرط كَانَ مذموما فَاسِدا مُفْسِدا للقلب والجسم كَمَا قَالَ تَعَالَى فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض فَمن صَار مفرطا صَار مَرِيضا كالإفراط فِي الْغَضَب والإفراط فِي الْفَرح وَفِي الْحزن وَهَذَا الإفراط قد يكون فِي محبَّة الْإِنْسَان لصورته وَقد يكون فِي محبته لغير ذَلِك كالإفراط فِي حب الْأَهْل وَالْمَال والإفراط فِي الْأكل وَالشرب وَسَائِر أَحْوَال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 الْإِنْسَان وَهَذَا الْمَعْنى مُمْتَنع فِي حق الله من الْجِهَتَيْنِ فَإِن الله لَا يحب محبَّة زِيَادَة على الْعدْل ومحبة عبَادَة الْمُؤمنِينَ لَهُ لَيْسَ لَهَا حد تَنْتَهِي إِلَيْهِ حَتَّى تكون الزِّيَادَة إفراطا وإسرافا ومجاوزة للقصد بل الْوَاجِب أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي أَنه قَالَ ثَلَاث من كن فِيهِ وجد حلاوة الْإِيمَان من كَانَ الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا وَمن كَانَ يجب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله وَمن كَانَ يكره أَن يرجع فِي الْكفْر بعد إِذْ أنقذه مِنْهُ كَمَا يكره أَن يلقِي فِي النَّار وَفِي رِوَايَة فِي الصَّحِيح لَا يجد عبد حلاوة الْإِيمَان حَتَّى يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا إِلَى آخِره وَقَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَالِده وَولده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ وَفِي الصَّحِيح أَن عمر قَالَ لَهُ يَا رَسُول الله وَالله لأَنْت أحب إِلَيّ من كل شَيْء إِلَّا من نَفسِي فَقَالَ لَا يَا عمر حَتَّى أكون أحب إِلَيْك من نَفسك قَالَ فلأنت أحب إِلَيّ من نَفسِي قَالَ الْآن يَا عمر وَقد تقدم دلَالَة الْقُرْآن على هَذَا الأَصْل بقوله تَعَالَى قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره وَقيل إِن الْعِشْق فَسَاد فِي الْإِدْرَاك والتخيل والمعرفة وَقيل أَن الْعِشْق هُوَ فَسَاد فِي الْإِدْرَاك والتخيل والمعرفة فَإِن العاشق يخيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 لَهُ المعشوق على خلاف مَا هُوَ بِهِ حَتَّى يُصِيبهُ مَا يُصِيبهُ من دَاء الْعِشْق وَلَو أدْركهُ على الْوَجْه الصَّحِيح لم يبلغ إِلَى حد الْعِشْق وَإِن حصل لَهُ محبَّة وعلاقة وَلِهَذَا يَقُول الْأَطِبَّاء الْعِشْق مرض وسواسي شَبيه بالمالنخوليا فيجعلونه من الْأَمْرَاض الدماغية الَّتِي تفْسد التخيل كَمَا يُفْسِدهُ المالنخوليا وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك امْتنع فِي حق الله من الْجَانِبَيْنِ فَإِن الله بِكُل شَيْء عليم وَهُوَ سميع بَصِير مقدس منزه عَن نقص أَو خلل فِي سَمعه وبصره وَعلمه والمحبون لَهُ عباده الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِهِ وعرفوه بِمَا تعرف بِهِ إِلَيْهِم من أَسْمَائِهِ وآياته وَمَا قذفه فِي قُلُوبهم من أنوار مَعْرفَته فَلَيْسَتْ محبتهم إِيَّاه عَن اعْتِقَاد فَاسد لَكِن قد يُقَال إِن كثيرا مِمَّن يكون فِيهِ نوع محبَّة الله قد يكون مَعهَا اعْتِقَاد فَاسد إِذْ الْحبّ يستتبع الشُّعُور لَا يسْتَلْزم صَرِيح الْمعرفَة لَا سِيمَا من كَانَ من عقلاء المجانين الَّذين عِنْدهم محبَّة لله وتأله وَفِيهِمْ فَسَاد عقل فَهَؤُلَاءِ قد يُصِيب أحدهم مَا يُصِيب العشاق فِي حق الله وَمَعَهُمْ حب شَدِيد وَنَوع من الِاعْتِقَاد الْفَاسِد وَكَثِيرًا مَا يعتري أهل الْمحبَّة من السكر والفناء أعظم مَا يُصِيب السَّكْرَان بِالْخمرِ والسكران بالصور كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قوم لوط إِنَّهُم لفي سكرتهم يعمهون فالحب لَهُ سكر أعظم من سكر الشَّرَاب كَمَا قيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 سَكرَان سكر هوى وسكر مدامة ... وَمَتى إفاقة من بِهِ سَكرَان وَمَعْلُوم أَنه فِي حَال السكر والفناء تنقص الْمعرفَة وَالتَّمَيُّز ويضطرب الْعقل وَالْعلم فَيحصل فِي ضمن ذَلِك من الاعتقادات والتخيلات الْفَاسِدَة مَا هُوَ من جنس الْعِشْق الَّذِي فِيهِ فَسَاد الِاعْتِقَاد وَهَؤُلَاء محمودون على مَا مَعَهم من محبَّة الله والأعمال الصَّالِحَة وَالْإِيمَان بِهِ وَأما مَا مَعَهم من اعْتِقَاد فَاسد وَعمل فَاسد لم يشرعه الله وَرَسُوله فَلَا يحْمَدُونَ على ذَلِك لَكِن إِن كَانُوا مغلوبين على ذَلِك بِغَيْر تَفْرِيط مِنْهُم وَلَا عدوان كَانُوا معذورين وَإِن كَانَ ذَلِك لتفريطهم فِيمَا أمروا بِهِ وتعديهم حُدُود الله فهم مذنبون فِي ذَلِك مثل مَا يُصِيب كثيرا مِمَّن يهيج حبه عِنْد سَماع المكاء والتصدية والأشعار الغزلية فتتولد لَهُم أَنْوَاع من الاعتقادات والإرادات الَّتِي فِيهَا الْحق وَالْبَاطِل وَقد يغلب هَذَا تَارَة وَهَذَا تَارَة فباب محبَّة الله ضل فِيهِ فريقان من النَّاس فريق من أهل النّظر وَالْكَلَام والمنتسبين إِلَى الْعلم جحدوها وكذبوا بحقيقتها وفريق من أهل التَّعَبُّد والتصوف والزهد أدخلُوا فِيهَا من الاعتقادات والإرادات الْفَاسِدَة مَا ضاهوا بهَا الْمُشْركين فالأولون يشبهون المستكبرين وَهَؤُلَاء يشبهون الْمُشْركين وَلِهَذَا يكون الأول فِي أشباه الْيَهُود وَيكون الثَّانِي فِي أشباه النَّصَارَى وَقد أمرنَا الله تَعَالَى أَن نقُول اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 فصل كل محبَّة وبغضة يتبعهَا لَذَّة وألم وَمن الْمَعْلُوم أَن كل محبَّة وبغضة فَإِنَّهُ يتبعهَا لَذَّة وألم فَفِي نيل المحبوب لَذَّة وفراقه يكون فِيهِ ألم وَفِي نيل الْمَكْرُوه ألم وَفِي الْعَافِيَة مِنْهُ تكون فِيهِ لَذَّة فاللذة تكون بعد إِدْرَاك المشتهى والمحبة تَدْعُو إِلَى إِدْرَاكه فالمحبة الْعلَّة الفاعلة لإدراك الملائم المحبوب المشتهي واللذة وَالسُّرُور هِيَ الْغَايَة اللَّذَّات ثَلَاثَة أَجنَاس: الأول: اللَّذَّة الحسية وَاللَّذَّات الْمَوْجُودَة فِي الدُّنْيَا ثَلَاثَة أَجنَاس فجنس بالجسد تَارَة كَالْأَكْلِ وَالنِّكَاح وَنَحْوهمَا مِمَّا يكون بإحساس الْجَسَد فَإِن أَنْوَاع الْمَأْكُول والملبوس يُبَاشِرهَا الْجَسَد الثَّانِي: اللَّذَّة الوهمية وجنس يكون مِمَّا يتخيله ويتوهمه بِنَفسِهِ وَنَفس غَيره كالمدح لَهُ والتعظيم لَهُ وَالطَّاعَة لَهُ فَإِن ذَلِك لذيذ مَحْبُوب لَهُ كَمَا أَن فَوَات الْأكل وَالشرب يؤلمه وَأكل مَا يضرّهُ يؤلمه وَكَذَلِكَ فَوَات الْكَرَامَة بِحَيْثُ لَا يكون لَهُ قدر عِنْد أحد وَلَا منزلَة يؤلمه كَمَا يؤلمه ترك الْأكل وَالشرب ويؤلمه الذَّم والإهانة كَمَا يؤلمه الْأكل وَالشرب الَّذِي يضرّهُ فالمأكول والمنكوح هِيَ أجساد تنَال بالجسد يتلذذ بوجودها ويتألم بفقدها ولحصول مَا يضر مِنْهَا وَأما الْكَرَامَة فَهِيَ فِي النُّفُوس إِذا كَانَت النُّفُوس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 ملائمة لَهُ وموافقة لَهُ بِأَن يعْتَقد فِيهِ مَا يسره وَيُوَافِقهُ بالمحبة والتعظيم كَانَ ذَلِك مِمَّا يُوجب لذته ولذته بإدراكه ذَلِك الملائم من النَّاس ومدحهم الْمظهر لاعتقادهم وَمن طاعتهم وموافقتهم المظهرة لمحبتهم وتعظيمهم الثَّالِث: اللَّذَّة الْعَقْلِيَّة وَالْجِنْس الثَّالِث أَن يكون مَا يُعلمهُ بِقَلْبِه وروحه وبعقله كَذَلِك كالتذاذه بِذكر الله ومعرفته وَمَعْرِفَة الْحق وتألمه بِالْجَهْلِ إِمَّا الْبَسِيط وَهُوَ عدم الْكَلَام وَالذكر وَإِمَّا الْمركب وَهُوَ اعْتِقَاد الْبَاطِل كَمَا يتألم الْجَسَد بِعَدَمِ غذائه تَارَة وبالتغذي بالمضار أخري كَذَلِك النَّفس تتألم بِعَدَمِ غذائها وَهُوَ مُوَافقَة النَّاس وإكرامهم تَارَة وبالتغذي بالضد وَهُوَ مخالفتهم وإهانتهم فَكَذَلِك الْقلب يتألم بِعَدَمِ غذائه وَهُوَ الْعلم الْحق وَذكر الله تَارَة والتغذي بالضد وَهُوَ ذكر الْبَاطِل واعتقاده أخري قَالَ النَّبِي إِن كل أحد يحب أَن تؤتي مأدبته وَإِن مأدبة الله هِيَ الْقُرْآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وَهَذِه اللَّذَّات الثَّلَاث اللَّذَّات الحسية والوهمية والعقلية وَقد علمت أَن كل مَا خلقه الله فِي الْحَيّ من قوي الْإِدْرَاك وَالْحَرَكَة فَإِنَّمَا خلقه لحكمة وَفِي ذَلِك من جلب الْمَنْفَعَة للحي وَدفع الْمضرَّة عَنهُ مَا هُوَ من عَظِيم نعم الله عَلَيْهِ وَالله سُبْحَانَهُ بعث الرُّسُل لتكميل الْفطْرَة وتقريرها لَا بتحويلها وتغييرها وَأنزل مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ وَالله شرع من الدَّين مَا فِيهِ اسْتِعْمَال هَذِه الْقوي على وَجه الْعدْل والاعتدال الَّذِي فِيهِ صَلَاح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن الْمَعْلُوم أَن قوي الْحَرَكَة فِي الْجَسَد الَّتِي هِيَ حركات طبعية متي لم تكن على وَجه الِاعْتِدَال وَإِلَّا فسد الْجَسَد وَكَذَلِكَ قوي الْإِدْرَاك وَالْحَرَكَة الَّتِي فِيهِ وَفِي النَّفس متي لم تكن على وَجه الِاعْتِدَال وَإِلَّا فسد الْجَسَد وَالْحَرَكَة الطبعية لَيْسَ فِيهَا حس وَلَا إِرَادَة وَهَذِه لَا تكون عَن حَرَكَة إرادية كَمَا تقدم لَكِن لَا يكون ذَلِك فِي نفس المتحرك بطبعه كحركة الْغذَاء قبل أَن يصرفهُ الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ وَغير ذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 شرع الله من اللَّذَّات مَا فِيهِ صَلَاح حَال الْإِنْسَان وَجعل اللَّذَّة التَّامَّة فِي الْآخِرَة وَالله سُبْحَانَهُ قد شرع من هَذِه اللَّذَّات مَا فِيهِ صَلَاح حَال الْإِنْسَان فِي الدُّنْيَا وَجعل اللَّذَّة التَّامَّة بذلك فِي الدَّار الْآخِرَة كَمَا أخبر الله بذلك على ألسن رسله بِأَنَّهَا هِيَ دَار الْقَرار وإليها تَنْتَهِي حَرَكَة الْعباد واللذة هِيَ الْغَايَة من الحركات الإرادية فَتكون الْغَايَة من اللَّذَّات عِنْد الْغَايَة من الحركات وَلَا يُخَالف مَا يُوجد فِي الْوَسِيلَة وَالطَّرِيق فَإِن الْمَوْجُود فِيهَا من اللَّذَّات بِقدر مَا يعين على الْوُصُول إِلَى الْمَقْصُود التَّام وكل لَذَّة وَإِن جلت هِيَ فِي نَفسهَا مَقْصُودَة لنَفسهَا إِذْ الْمَقْصُود لنَفسِهِ هُوَ اللَّذَّة لَكِن من اللَّذَّات مَا يكون عونا على مَا هُوَ أَكثر مِنْهُ أَيْضا فَيكون مَقْصُودا لنَفسِهِ بِقَدرِهِ وَيكون مَقْصُودا لغيره بِقدر ذَلِك الْغَيْر وَهَذَا من تَمام نعْمَة الله على عباده وكل مَا يتنعمون بِهِ إِذا استعملوه على وَجه الْعدْل الَّذِي شَرعه أوصلهم بِهِ إِلَى مَا هُوَ أعظم نعْمَة مِنْهُ ولذات الْجنَّة أَيْضا تتضاعف وتتزايد كَمَا يَشَاء الله تَعَالَى فَإِن الله يَقُول كَمَا ذكره النَّبِي فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَلِهَذَا بعث الله الرُّسُل مبشرين ومنذرين مبشرين بِنِعْمَة الله التَّامَّة فِي جنته لمن أطاعهم فَاتبع الذّكر الَّذِي أنزل عَلَيْهِم وَاسْتعْمل الْقسْط الَّذِي بعثوا بِهِ ومنذرين بتعظيمهم عِقَاب الله لمن أعرض عَن ذَلِك وعصاهم فَكَانَ من الظَّالِمين قَالَ تَعَالَى اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضكُم لبَعض عَدو فَأَما يَأْتينكُمْ مني هدي فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقي وَمن أعرض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكا ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمي وَقَالَ تَعَالَى فَمن تبع هُدَايَ فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ غلط المتفلسفة وَمن اتبعهم فِي أَمر هَذِه اللَّذَّات وَقد غَلطت المتفلسفة من الصابئة وَالْمُشْرِكين وَنَحْوهم وَمن حذا حذوهم مِمَّن صنف فِي أَصْنَاف هَذِه اللَّذَّات كالرازي وَغَيره فِي أَمر هَذِه اللَّذَّات فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة حَتَّى جرهم ذَلِك الْغَلَط إِلَى الدَّين الْفَاسِد فِي الدُّنْيَا بالاعتقادات الْفَاسِدَة والعبادات والزهادات الْفَاسِدَة وَإِلَى التَّكْذِيب بِحَقِيقَة مَا أخبر الله بِهِ على ألسن رسله من وعده ووعيده فصاروا تاركين لما يَنْفَعهُمْ من لذات الدُّنْيَا معرضين عَمَّا خلقُوا لَهُ من لذات الْآخِرَة ومعتاضين عَن ذَلِك بِأخذ مَا يضرهم مِمَّا يظنون أَنه لَذَّة فِي الدُّنْيَا أَو موصل للذة فِي الدُّنْيَا وهم فِي ذَلِك إِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوي الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهَدْي فجهلوا الْمَقَاصِد والوسائل فَكَانُوا ضَالِّينَ يقصدون مَا يَنْفَعهُمْ ويلذهم وهم لَا يعْرفُونَ عين مقصودهم وَلَا الطَّرِيق إِلَيْهِ وَصَارَ عامتهم غواة منهمكين فِي اللَّذَّات الَّتِي تَضُرهُمْ ضل النَّصَارَى كَذَلِك فِي أَمر اللَّذَّات وَالنَّصَارَى ضارعوهم فِي بعض ذَلِك حِين كذبُوا بِكَثِير مِمَّا وعدوا بِهِ فِي الْآخِرَة من اللَّذَّات وَضَلُّوا بِمَا ابتدعوه من الْعِبَادَات فَكَانُوا ضَالِّينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل وَلِهَذَا يغلب على عوامهم الغي وَاتِّبَاع شهوات الغي إِذْ لم يحرموا عَلَيْهِم شَيْئا من المطاعم والمشارب الْيَهُود أعلم لكِنهمْ غواة قساة وَأما الْيَهُود فهم أعلم بِالْمَقْصُودِ وَطَرِيقه لكِنهمْ غواة قساة مغضوب عَلَيْهِم ويتبين ذَلِك بأصلين أَحدهمَا أَنهم اعتقدوا أَن اللَّذَّات الحسية والوهمية لَيست لذات فِي الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا هِيَ دفع آلام وَرُبمَا حسنوا الْعبارَة فَقَالُوا لَيْسَ الْمَقْصُود بهَا التنعم وَإِنَّمَا الْمَقْصُود بهَا دفع الْأَلَم بِخِلَاف اللَّذَّات الْعَقْلِيَّة الروحانية فَإِنَّهَا هِيَ اللَّذَّات فَقَط وَهِي الْمَقْصُودَة لذاتها فَقَط وَعَن هَذَا يدْفَعُونَ أَن تكون للنفوس بعد مُفَارقَة الدُّنْيَا لذات حسية أَو وهمية وَإِنَّمَا يكون لَهَا لذات روحانية فَقَط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 تَفْصِيل مقَالَة الفلاسفة فِي اللَّذَّة ثمَّ إِن من دخل مَعَ أهل الْملَل مِنْهُم وَافق الْمُؤمنِينَ بإظهاره للإقرار بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَقَالَ إِن مَا أخْبرت بِهِ الرُّسُل من الْوَعْد والوعيد إِنَّمَا هُوَ أَمْثَال مَضْرُوبَة لتفهم الْعَامَّة الْمعَاد الروحاني وَمَا فِيهِ من اللَّذَّة والألم الروحانيين وَرُبمَا يغرب بَعضهم فَأثْبت اللَّذَّات الخيالية بِنَاء على أَن النُّفُوس يُمكن أَن يحصل لَهَا من إشراق الأفلاك عَلَيْهَا مَا يحصل لَهَا بِهِ من اللَّذَّة مَا هُوَ من أعظم اللَّذَّات الخيالية الَّتِي قد يَقُولُونَ هِيَ أعظم من الحسية الأَصْل الثَّانِي أَن اللَّذَّات الْعَقْلِيَّة الَّتِي أقرُّوا بهَا لم تحصل لَهُم وَلم يعرفوا الطَّرِيق إِلَيْهَا بل ظنُّوا أَن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ إِدْرَاك الْوُجُود الْمُطلق بأنواعه وَأَحْكَامه وطلبوا اللَّذَّة الْعَقْلِيَّة فِي الدُّنْيَا بِمَا هُوَ من هَذَا النمط من الْأُمُور الْعَقْلِيَّة وَتَكَلَّمُوا فِي الإلهيات بِكَلَام حَقه قَلِيل وباطله كثير فَكَانُوا طَالِبين للذة الْعَقْلِيَّة الَّتِي أثبتوها بالأغذية الْفَاسِدَة الَّتِي تضر وتؤلم أَكثر من طلبَهَا بالأغذية النافعة بل كَانُوا فاقدين لغذائها الَّذِي لَا صَلَاح لَهَا إِلَّا بِهِ وَهُوَ إخلاص الدَّين لله بِعِبَادَتِهِ وَحده لَا شريك لَهُ فَإِن هَذَا هُوَ خَاصَّة النَّفس الَّتِي خلقت لَهُ لَا تصلح إِلَّا بِهِ وَلَا تفْسد فَسَادًا مُطلقًا مَعَ وجوده قطّ بل من بَات وَهُوَ يعلم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلي الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من وُجُوه مُتعَدِّدَة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 حَدِيث عُثْمَان بن عَفَّان وَأبي ذَر ومعاذ بن جبل وَأبي هُرَيْرَة وعتبان بن مَالك وَعبادَة بن الصَّامِت وَغَيرهم وَلَا يخلد فِي النَّار من أهل التَّوْحِيد أحد بل يخرج من النَّار من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال دِينَار من إِيمَان أَو مِثْقَال شعيرَة من إِيمَان أَو مِثْقَال ذرة من إِيمَان وَقد تَكَلَّمت على رِسَالَة المبدأ والمعاد الَّتِي صنفها أَبُو عَليّ بن سينا وَزعم أَن فِيهَا من الْأَسْرَار المخزونة من فلسفتهم بِمَا يُنَاسب هَذَا مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وبينت مَا دخل عَلَيْهِم من الْجَهْل وَالْكفْر فِي ذَلِك من وُجُوه بَيِّنَة من لغاتهم ومعارفهم الَّتِي يفقهُونَ بهَا ويعلمون صِحَة مَا عَلَيْهِ أهل الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله وَبطلَان مَا هم عَلَيْهِ مِمَّا يُخَالف ذَلِك من الْحَقِيقَة وَإِن زَعَمُوا أَنهم موافقون لأهل الْإِيمَان نعم هم مُؤمنُونَ بِبَعْض وكافرون بِبَعْض كَمَا قد بيّنت أَيْضا مَرَاتِب مَا مَعَهم وَمَعَ غَيرهم من الْكفْر وَالْإِيمَان فِي غير هَذَا الْموضع وَذكرت مَا كفرُوا بِهِ مِمَّا خالفوا بِهِ الرُّسُل وَمَا آمنُوا بِهِ مِمَّا وافقوهم فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 فَأن الله أمرنَا بِالْعَدْلِ وأمرنا أَن نعدل بَين الْأُمَم كَمَا قَالَ تَعَالَى لرَسُوله وَأمرت لأعدل بَيْنكُم وَقَالَ تَعَالَى كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى وأنزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ فصل حب الله أصل التَّوْحِيد العملي وَإِذا كَانَ أصل الْإِيمَان العملي هُوَ حب الله تَعَالَى وَرَسُوله وَحب الله أصل التَّوْحِيد العملي وَهُوَ أصل التأليه الَّذِي هُوَ عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ فَإِن الْعِبَادَة أَصْلهَا أكمل أَنْوَاع الْمحبَّة مَعَ أكمل أَنْوَاع الخضوع وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَام وَأعظم الذُّنُوب عِنْد الله الشّرك بِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء والشرك مِنْهُ جليل ودقيق وخفي وجلي كَمَا فِي الحَدِيث الشّرك فِي هَذِه الْأمة أُخْفِي من دَبِيب النَّمْل فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يَا رَسُول الله إِذا كَانَ أُخْفِي من دَبِيب النَّمْل فَكيف نصْنَع بِهِ أَو كَمَا قَالَ فَقَالَ أَلا أعلمك كلمة إِذا قلتهَا نجوت من قَلِيله وَكَثِيره قل اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك أَن أشرك بك وَأَنا أعلم وأستغفرك لما لَا أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 أصل الْإِشْرَاك العملي بِاللَّه الْإِشْرَاك فِي الْمحبَّة فمعلوم أَن أصل الْإِشْرَاك العملي بِاللَّه الْإِشْرَاك فِي الْمحبَّة قَالَ تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله فَأخْبر أَن من النَّاس من يُشْرك بِاللَّه فيتخذ أندادا يحبونهم كَمَا يحبونَ الله وَأخْبر أَن الَّذين آمنُوا أَشد حبا لله من هَؤُلَاءِ والمؤمنون أَشد حبا لله من هَؤُلَاءِ لأندادهم وَللَّه فَإِن هَؤُلَاءِ أشركوا بِاللَّه فِي الْمحبَّة فَجعل الْمحبَّة مُشْتَركَة بَينه وَبَين الأنداد والمؤمنون أَخْلصُوا دينهم لله الَّذِي أَصله الْمحبَّة لله فَلم يجْعَلُوا لله عدلا فِي الْمحبَّة بل كَانَ الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِم مِمَّا سواهُمَا ومحبة الرَّسُول هِيَ من محبَّة الله وَكَذَلِكَ كل حب فِي الله وَهُوَ الْحبّ لله الْمُؤْمِنُونَ يحبونَ لله ويبغضون لله كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي انه قَالَ ثَلَاث من كن فِيهِ وجد حلاوة الْإِيمَان وَفِي رِوَايَة فِي الصَّحِيح لَا يجد حلاوة الْإِيمَان إِلَّا من كَانَ فِيهِ ثَلَاث خِصَال أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله وَأَن يكره أَن يرجع فِي الْكفْر بعد إِذْ أنقذه الله مِنْهُ كَمَا يكره أَن يلقِي فِي النَّار وَلِهَذَا فِي الحَدِيث من أحب لله وَأبْغض لله وَأعْطِي لله وَمنع لله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 فقد اسْتكْمل الْإِيمَان وَفِي الْأَثر مَا تحاب رجلَانِ فِي الله إِلَّا كَانَ أفضلهما أشدهما حبا لصَاحبه لِأَن هَذِه الْمحبَّة من محبَّة الله وكل من كَانَت محبته لله أَشد كَانَ أفضل وَخير الْخلق مُحَمَّد رَسُول الله وَخير الْبَريَّة بعده إِبْرَاهِيم كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الحَدِيث الصَّحِيح وكل مِنْهُمَا خَلِيل الله والخلة تَتَضَمَّن كَمَال الْمحبَّة ونهايتها وَلِهَذَا لم يصلح لله شريك فِي الْخلَّة بل قَالَ صلي الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح لَو كنت متخذا من أهل الأَرْض خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا وَلَكِن صَاحبكُم خَلِيل الله وَفِي لفظ أَنا أَبْرَأ إِلَى كل خَلِيل من خلته فمحبة مَا يُحِبهُ الله لله من الْأَعْيَان والأعمال من تَمام محبَّة الله وَهُوَ الْحبّ فِي الله وَللَّه وَإِن كَانَ كثير من النَّاس يغلط فِي معرفَة كثير من ذَلِك أَو وجوده فيظن فِي أَنْوَاع من الْمحبَّة أَنَّهَا محبَّة الله وَلَا تكون لله ويظن وجود الْمحبَّة لله فِي أُمُور وَلَا تكون الْمحبَّة لله مَوْجُودَة بل قد يعْتَقد وجود الْمحبَّة لله وَتَكون مَعْدُومَة وَقد يعْتَقد فِي بعض الْحبّ أَنه لله وَلَا يكون لله كَمَا يعْتَقد وجود الْعلم أَو الْعِبَادَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 أَو غير ذَلِك من الصِّفَات فِي بعض الْأَشْخَاص وَالْأَحْوَال وَلَا يكون ثَابتا وَقد يعْتَقد فِي كثير من الْأَعْمَال أَنه مَعْمُول لله وَلَا يكون لله فمحبة مَا يُحِبهُ الله من الْأَعْمَال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة وَهِي الْوَاجِبَات والمستحبات إِذا أَحْبَبْت لله كَانَ ذَلِك من محبَّة الله وَلِهَذَا يُوجب ذَلِك محبَّة الله لعَبْدِهِ وكما فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن الله تَعَالَى من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَمَا تقرب إِلَيّ عَبدِي بِمثل أَدَاء مَا افترضته عَلَيْهِ وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِذا أحببته كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ وبصره الَّذِي يبصر بِهِ وَيَده الَّتِي يبطش بهَا وَرجله الَّتِي يمشي بهَا فَبِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي يبطش وَبِي يمشي وَلَئِن سَأَلَني لأعطينه وَلَئِن استعاذني لأعيذنه وَمَا ترددت عَن شَيْء أَنا فَاعله ترددي عَن قبض نفس عَبدِي الْمُؤمن يكره الْمَوْت وأكره مساءته وَلَا بُد لَهُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ محبَّة كَلَام الله وأسمائه وَصِفَاته كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح فِي الَّذِي كَانَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ فَيقْرَأ قل هُوَ الله أحد إِمَّا أَن يَقْرَأها وَحدهَا أَو يقْرَأ بهَا مَعَ سُورَة أخري فَأخْبرُوا بذلك النَّبِي صلي الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ سلوه لم يفعل ذَلِك فَقَالَ لِأَنِّي أحبها فَقَالَ أَن حبك إِيَّاهَا أدْخلك الْجنَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وَكَذَلِكَ محبَّة مَلَائِكَة الله وأنبيائه وعباده الصَّالِحين كَمَا كَانَ عبد الله بن عمر يَدْعُو بالمواقف فِي حجه فَيَقُول اللَّهُمَّ اجْعَلنِي أحبك وَأحب ملائكتك وأنبياءك وعبادك الصَّالِحين اللَّهُمَّ حببني إِلَيْك وَإِلَى ملائكتك وأنبيائك وعبادك الصَّالِحين محبَّة الله مستلزمة لمحبة مَا يُحِبهُ من الْوَاجِبَات بل محبَّة الله مستلزمة لمحبة مَا يُحِبهُ من الْوَاجِبَات كَمَا قَالَ تَعَالَى قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله وَيغْفر لكم ذنوبكم فَإِن اتِّبَاع رَسُوله هُوَ من أعظم مَا أوجبه الله تَعَالَى على عباده وأحبه وَهُوَ سُبْحَانَهُ أعظم شَيْء بغضا لمن لم يتبع رَسُوله فَمن كَانَ صَادِقا فِي دَعْوَى محبَّة الله اتبع رَسُوله لَا محَالة وَكَانَ الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا الذُّنُوب تنقص من محبَّة الله والذنُوب تنقص من محبَّة الله تَعَالَى بِقدر ذَلِك لَكِن لَا تزيل الْمحبَّة لله وَرَسُوله إِذا كَانَت ثَابِتَة فِي الْقلب وَلم تكن الذُّنُوب عَن نفاق كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عمر بن الْخطاب حَدِيث حمَار الَّذِي كَانَ يشرب الْخمر وَكَانَ النَّبِي يُقيم عَلَيْهِ الْحَد فَلَمَّا كثر ذَلِك مِنْهُ لَعنه رجل فَقَالَ النَّبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 لَا تلعنه فَإِنَّهُ يجب الله وَرَسُوله وَفِيه دلَالَة على أَنا منهيون عَن لعنة أحد بِعَيْنِه وَإِن كَانَ مذنبا إِذا كَانَ يحب الله وَرَسُوله فَكَمَا أَن الْمحبَّة الْوَاجِبَة تَسْتَلْزِم لفعل الْوَاجِبَات وَكَمَال الْمحبَّة المستحبة تَسْتَلْزِم لكَمَال فعل المستحبات والمعاصي تنقض الْمحبَّة وَهَذَا معنى قَول الشبلى لما سُئِلَ عَن الْمحبَّة فَقَالَ مَا غنت بِهِ جَارِيَة فلَان تَعْصِي الْإِلَه وَأَنت تزْعم حبه ... هَذَا محَال فِي الْقيَاس شنيع لَو كَانَ حبك صَادِقا لأطعته ... إِن الْمُحب لمن أحب مُطِيع وَهَذَا كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حَيْثُ يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن وَقد تكلمنا على هَذَا فِي غير هَذَا الْموضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وَالْمَقْصُود هُنَا أَن نفرق بَين الْحبّ فِي الله وَللَّه الَّذِي هُوَ دَاخل فِي محبَّة الله وَهُوَ من محبته وَبَين الْحبّ لغير الله الَّذِي فِيهِ شرك فِي الْمحبَّة لله كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فَإِن هَؤُلَاءِ يشركُونَ برَبهمْ فِي الْحبّ عادلون بِهِ جاعلون لَهُ أندادا وَأُولَئِكَ أَخْلصُوا دينهم لله فَكَانَ حبهم الَّذِي هُوَ أصل دينهم كُله لله وَهَذَا هُوَ الَّذِي بعث بِاللَّه الرُّسُل وَأنزل بِهِ الْكتب وَأمر بِالْجِهَادِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدَّين لله وَقَالَ تَعَالَى قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا وَقد علم أَن محبَّة الْمُؤمنِينَ لرَبهم أَشد من محبَّة هَؤُلَاءِ الْمُشْركين لرَبهم ولأندادهم ثمَّ إِن اتِّخَاذ الأنداد هُوَ من أعظم الذُّنُوب كَمَا فِي الصَّحِيح عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ قلت يَا رَسُول الله أَي الذَّنب أعظم قَالَ أَن تجْعَل لله ندا وَهُوَ خلقك قلت ثمَّ أَي قَالَ ثمَّ أَن تقتل ولدك خشيَة أَن يطعم مَعَك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 قلت ثمَّ أَي قَالَ ثمَّ أَن تَزني بحليلة جَارك فَأنْزل الله تَصْدِيق ذَلِك وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون فدعاء إِلَه آخر مَعَ الله هُوَ اتِّخَاذ ند من دون الله يُحِبهُ كحب الله إِذْ أصل الْعِبَادَة الْمحبَّة والمحبة وَإِن كَانَت جِنْسا تَحْتَهُ أَنْوَاع فالمحبوبات المعظمة لغير الله قد أثبت الشَّارِع فِيهَا اسْم التَّعَبُّد كَقَوْلِه فِي الحَدِيث الصَّحِيح تعس عبد الدِّرْهَم تعس عبد الدِّينَار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وَإِذا شيك فَلَا انتقش إِن أعطي رَضِي وَإِن منع سخط فَسُمي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة الَّذين إِن أعْطوا رَضوا وَإِن منعُوا سخطوا لِأَنَّهَا محبتهم ومرادهم عبادا لَهَا حَيْثُ قَالَ عبد الدِّرْهَم وَعبد الدِّينَار وَعبد القطيفة وَعبد الخميصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 مَرَاتِب الْعِشْق فَإِذا كَانَ الْإِنْسَان مشغوفا بمحبة بعض الْمَخْلُوقَات لغير الله الَّذِي يرضيه وجوده ويسخطه عَدمه كَانَ فِيهِ من التَّعَبُّد بِقدر ذَلِك وَلِهَذَا يجْعَلُونَ الْعِشْق مَرَاتِب مثل العلاقة ثمَّ الصبابة ثمَّ الغرام ويجعلون آخِره التتيم والتتيم التَّعَبُّد وتيم الله هُوَ عبد الله فَيصير العاشق لبَعض الصُّور عبدا لمعشوقه ذكر الله الْعِشْق فِي الْقُرْآن عَن الْمُشْركين وَالله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ذكر هَذَا الْعِشْق فِي الْقُرْآن عَن الْمُشْركين فَإِن الْعَزِيز وَامْرَأَته وَأهل مصر كَانُوا مُشْرِكين كَمَا قَالَ لَهُم يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة والسَّلَام إِنِّي تركت مِلَّة قوم لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وهم بِالآخِرَة هم كافرون وَاتَّبَعت مِلَّة آبَائِي إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب مَا كَانَ لنا أَن نشْرك بِاللَّه من شَيْء ذَلِك من فضل الله علينا وعَلى النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون يَا صَاحِبي السجْن أأرباب متفرقون خير أم الله الْوَاحِد القهار مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن الحكم إِلَّا لله أَمر أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه ذَلِك الدَّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن يبْعَث الله من بعده رَسُولا كَذَلِك يضل الله من هُوَ مُسْرِف مرتاب الَّذين يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم كبر مقتا عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار وَقَالَ تَعَالَى وَقَالَ نسْوَة فِي الْمَدِينَة امْرَأَة الْعَزِيز تراود فتاها عَن نَفسه قد شغفها حبا إِنَّا لنراها فِي ضلال مُبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وَأما يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن الله ذكر أَنه عصمه بإخلاصه الدَّين لله وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا لَوْلَا أَن رَأْي برهَان ربه كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه صرف عَنهُ السوء والفحشاء وَمن السوء عَشِقَهَا ومحبتها وَمن الْفَحْشَاء الزِّنَا وَقد يَزْنِي بفرجه من لَا يكون عَاشِقًا وَقد يعشق من لَا يَزْنِي بفرجه وَالزِّنَا بالفرج أعظم من الْإِلْمَام بصغيرة كنظرة وقبلة وَأما الْإِصْرَار على الْعِشْق ولوازمه من النّظر وَنَحْوه فقد يكون أعظم من الزِّنَا الْوَاحِد بِشَيْء كثير والمخلصون يصرف الله عَنْهُم السوء والفحشاء ويوسف عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ من المخلصين حَيْثُ كَانَ يعبد الله لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا وَحَيْثُ توكل على الله واستعان بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم وَهَذَا تَحْقِيق قَوْله تَعَالَى فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على الَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانه على الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون المتولون للشَّيْطَان هم الَّذين يحبونَ مَا يُحِبهُ فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن المتوكلين على الله لَيْسَ للشَّيْطَان عَلَيْهِم سُلْطَان وَإِنَّمَا سُلْطَانه على المتولين لَهُ وَالْمُتوَلِّيّ من الْولَايَة وَأَصله الْمحبَّة والموافقة كَمَا أَن الْعَدَاوَة أَصْلهَا البغض والمخالفة فالمتولون لَهُ هم الَّذين يحبونه مَا يُحِبهُ الشَّيْطَان وَيُوَافِقهُ فهم مشركون بِهِ حَيْثُ أطاعوه وعبدوه بامتثال أمره كَمَا قَالَ تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 ألم أَعهد إِلَيْكُم يَا بني آدم أَلا تعبدوا الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين وَأَن اعبدوني هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم وَالشَّيَاطِين شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْعِبَادَة فِيهَا الرَّغْبَة والرهبة قَالَ تَعَالَى مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي أستكبرت أم كنت من العالين قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين قَالَ فَاخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم وَإِن عَلَيْك لَعْنَتِي إِلَيّ يَوْم الدَّين قَالَ رب فأنظرنى إِلَيّ يَوْم يبعثون قَالَ فَإنَّك من المنظرين إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم قَالَ فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين قَالَ فَالْحق وَالْحق أَقُول لأملأن جَهَنَّم مِنْك وَمِمَّنْ تبعك مِنْهُم أَجْمَعِينَ فأقسم الشَّيْطَان لأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين وَقد أخبر الله أَنه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على هَؤُلَاءِ فَقَالَ فِي الْحجر فَاخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم وَإِن عَلَيْك اللَّعْنَة إِلَى يَوْم الدَّين قَالَ رب بِمَا أغويتني لأزينن لَهُم فِي الأَرْض ولأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين قَالَ تَعَالَى إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين وَقَوله إِلَّا من اتبعك من الغاوين اسْتثِْنَاء مُنْقَطع فِي أقوي الْقَوْلَيْنِ إِذْ الْعباد هم العابدون لَا المعبودون كَمَا قَالَ تَعَالَى وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وَقَالَ تَعَالَى عينا يشرب بهَا عباد الله يفجرونها تفجيرا وَقَالَ تَعَالَى الإخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عباد لَا خوف عَلَيْكُم الْيَوْم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ الَّذين آمنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسلمين وَقَالَ تَعَالَى وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ وَقَالَ تَعَالَى سُبْحَانَ الَّذِي أسرِي بِعَبْدِهِ لَيْلًا وَقَالَ تَعَالَى وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب أولي الْأَيْدِي والأبصار عباد الله المخلصون لَيْسَ للشَّيْطَان عَلَيْهِم سُلْطَان وَإِذا كَانَ عباد الله المخلصون لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِم سُلْطَان وَأَن سُلْطَانه على الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون وَقد أقسم أَن يغويهم إِلَّا عباد الله المخلصين وَأخْبر الله أَن سُلْطَانه لَيْسَ على عباد الله بل على من اتبعهُ من الغاوين والغي اتِّبَاع الْأَهْوَاء والشهوات وأصل ذَلِك أَن الْحبّ لغير الله كحب الأنداد وَذَلِكَ هُوَ الشّرك قَالَ الله تَعَالَى فِيهِ إِنَّمَا سُلْطَانه على الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون فَبين أَن صَاحب الْإِخْلَاص مادام صَادِقا فِي إخلاصه فَإِنَّهُ يعتصم من هَذَا الغي وَهَذَا الشّرك وَإِن الغي هُوَ يضعف الْإِخْلَاص وَيُقَوِّي هَوَاهُ الشّرك فأصحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 العشاق يتولون الشَّيْطَان ويشركون بِهِ الْعِشْق الَّذِي يُحِبهُ الشَّيْطَان فيهم من تولي الشَّيْطَان والإشراك بِهِ بِقدر ذَلِك لما فاتهم من إخلاص الْمحبَّة لله والإشراك بَينه وَبَين غَيره فِي الْمحبَّة حَتَّى يكون فِيهِ نصيب من اتِّخَاذ الأنداد وَحَتَّى يصيروا عبيدا لذَلِك المعشوق فيفنون فِيهِ ويصرحون بِأَنا عبيد لَهُ فيوجد فِي هَذَا الْحبّ والهوي واقتراف مَا يبغضه الله وَمَا حرمه من الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن يشركوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن يَقُولُوا على الله مَا لَا يعلمُونَ فيوجد فِيهِ من الشّرك الْأَكْبَر والأصغر وَمن قتل النُّفُوس بِغَيْر حق وَمن الزِّنَا وَمن الْكَذِب وَمن أكل المَال بِالْبَاطِلِ إِلَى غير ذَلِك مَا يَنْتَظِم هَذِه الْأَصْنَاف الَّتِي يكرمها الله تَعَالَى لِأَن أَصله أَن يكون حبه كحب الله وَهُوَ من ترك إخلاص الْمحبَّة وَمن الْإِشْرَاك بَينه وَبَين غَيره أَو من جعل الْمحبَّة لغير الله فَإِذا عمل مُوجب ذَلِك كَانَ ذَلِك هُوَ اتِّبَاع الْهَوِي بِغَيْر هدي من الله وَفِي الْأَثر مَا تَحت أَدِيم السَّمَاء إِلَه يعبد أعظم عِنْد الله من هوي مُتبع قَالَ تَعَالَى أَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا وَلِهَذَا لَا يَبْتَلِي بِهَذَا الْعِشْق أَلا من فِيهِ نوع شرك فِي الدَّين وَضعف إخلاص لله وَسبب هَذَا مَا ذكره بَعضهم فَقَالَ إِنَّه لَيْسَ شَيْء من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 المحبوبات يستوعب محبَّة الْقلب إِلَّا محبَّة الله أَو محبَّة بشر مثلك أما محبَّة الله فَهِيَ الَّتِي خلق لَهَا الْعباد وَهِي سعادتهم وَقد تكلمنا عَلَيْهَا فِي غير هَذَا الْموضع وَأما الْبشر المتماثل من ذكر أَو أنثي فَإِن فِيهِ من المشاكلة والمناسبة مَا يُوجب أَن يكون لكل شَيْء من الْحبّ نصيب من المحبوب يستوعبه حبه وَلِهَذَا لَا يعرف لشَيْء من المحبوبات الَّتِي تحب لغير الله من الِاسْتِيعَاب مَا يعرف لذَلِك حَتَّى يزِيل الْعقل ويفقد الْإِدْرَاك وَيُوجب انْقِطَاع الْإِرَادَة لغير ذَلِك المحبوب وَيُوجب مرض الْمَوْت وَإِنَّمَا يعرض هَذَا كُله لضعف مَا فِي الْقلب من حب الله وإخلاص الدَّين لَهُ عبَادَة واستعانة فَيكون فِيهِ من الشّرك مَا يُسَلط الشَّيْطَان عَلَيْهِ حَتَّى يغويه هَذَا بِهَذَا الغي الَّذِي فِيهِ من تولي الشَّيْطَان والإشراك بِهِ مَا يتسلط بِهِ الشَّيْطَان وَلِهَذَا قد يُطِيع هَذَا الْمُحب لغير الله محبوبه أَكثر مِمَّا يُطِيع الله حَتَّى يطْلب الْقَتْل فِي سَبيله كَمَا يخْتَار الْمُؤمن الْقَتْل فِي سَبِيل الله وَإِذا كَانَ محبوبه مطيعه من وَجه وعبدا لَهُ فَهُوَ أولي بِأَن يكون هُوَ مطيعه وعبدا لَهُ من وَجه آخر وَإِذا كَانَ النَّبِي قَالَ شَارِب الْخمر كعابد وثن وَمر عَليّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 رَضِي الله عَنهُ بِقوم يَلْعَبُونَ بالشطرنج فَقَالَ مَا هَذِه التماثيل الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون وَأَظنهُ قلب الرقعة وَذَلِكَ أَن الله جمع بَين الْخمر وَالْميسر وَبَين الأنصاب والأزلام فِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر ويصدكم عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ مَعَ أَن الْخمر إِذا سكر بهَا الشَّارِب كَانَ سكره يَوْمًا أَو قَرِيبا من يَوْم أَو بعض يَوْم وَأما سكر الشَّهْوَة والمحبة الْفَاسِدَة من الْعِشْق وَنَحْوه فسكره قوي دَائِم قَالَ تَعَالَى فِي قوم لوط لعمرك إِنَّهُم لفي سكرتهم يعمهون فَكيف إِذا خرج عَن حد السكر إِلَى حد الْجُنُون بل كَانَ الْجُنُون المطبق لَا الْحمق كَمَا أنْشد مُحَمَّد بن جَعْفَر فِي كتاب اعتلال الْقُلُوب قَالَ أَنْشدني الصيدلاني قَالَت جننت على رَأْسِي فَقلت لَهَا ... الْعِشْق أعظم مِمَّا بالمجانين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 الْعِشْق لَيْسَ يفِيق الدَّهْر صَاحبه ... وَإِنَّمَا يصرع الْمَجْنُون فِي الْحِين وَقَالَ الآخر سَكرَان سكر هوى وسكر مدامة ... وَمَتى إفاقة من بِهِ سَكرَان فصاحبه أَحَق بِأَن يشبه بعابد الوثن والعاكفين على التماثيل يعملونها على صُورَة آدَمِيّ وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَالَ نسْوَة فِي الْمَدِينَة امْرَأَة الْعَزِيز تراود فتاها عَن نَفسه قد شغفها حبا أَي شغفها حبه أَي وصل حبه إِلَى شغَاف الْقلب وَهِي جلدَة فِي دَاخله فَهَذَا يكون قد اتخذ ندا يُحِبهُ كحب الله يُوقع الشَّيْطَان الْعَدَاوَة والبغضاء بَين الْمُؤمنِينَ بالعشق وَإِذا كَانَ الشَّيْطَان يُرِيد أَن يُوقع بَين الْمُؤمنِينَ الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر ويصدهم عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة فالعداوة والبغضاء الَّتِي يُرِيد أَن يوقعها بالعشق وصده عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة بذلك أَضْعَاف غَيره كَمَا قد تكلمنا عَلَيْهِ فِي غير هَذَا الْموضع وَبينا أَن جَمِيع الْمعاصِي يجْتَمع فِيهَا هَذَانِ الوصفان وَأَن ذكر ذَلِك فِي الْخمر وَالْميسر اللَّذين هما من أَوَاخِر الْمُحرمَات يُنَبه على مَا فِي غَيرهمَا من ذَلِك مِمَّا حرم قبلهمَا كَقَتل النُّفُوس بِغَيْر حق وَالْفَوَاحِش وَنَحْو ذَلِك وَمِمَّا يبين هَذَا أَن الْفَوَاحِش الَّتِي أَصْلهَا الْمحبَّة لغير الله سَوَاء كَانَ الْمَطْلُوب الْمُشَاهدَة أَو الْمُبَاشرَة أَو الْإِنْزَال أَو غير ذَلِك هِيَ فِي الْمُشْركين أَكثر مِنْهَا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 المخلصين وَيُوجد فيهم مَا لَا يُوجد فِي المخلصين لله قَالَ الله تَعَالَى يَا بني آدم لَا يفتننكم الشَّيْطَان كَمَا أخرج أبويكم من الْجنَّة ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوءاتهما إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم إِنَّا جعلنَا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء للَّذين لَا يُؤمنُونَ وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد وادعوه مُخلصين لَهُ الدَّين كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ فريقا هدي وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة فاخبر سُبْحَانَهُ أَنه جعل الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء للَّذين لَا يُؤمنُونَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى افتتخذونه وَذريته أَوْلِيَاء من دوني وهم لكم عَدو بئس للظالمين بَدَلا وَقَالَ تَعَالَى إِنَّمَا سُلْطَانه على الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون وَإِذا كَانَ سُلْطَانه على أوليائه الَّذين تولوه وَالَّذين هم بِهِ مشركون وهم الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَقَالَ تَعَالَى إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين فَيكون هَؤُلَاءِ هم الغاوين وهم الَّذين قَالَ الشَّيْطَان لأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين وَلِهَذَا أخبر سُبْحَانَهُ عَن أوليائه أَنهم وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ فَأخْبر عَن أَوْلِيَاء الشَّيْطَان وهم الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون أَنهم إِذا فعلوا فَاحِشَة احْتَجُّوا بالتقليد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 لأسلافهم وَزَعَمُوا مَعَ ذَلِك أَن الله أَمرهم بهَا فيتبعون الظَّن فِي قَوْلهم إِن الله أَمرهم بهَا وَمَا تهوي الْأَنْفس فِي تَقْلِيد أسلافهم وأتباعهم وَهَذَا الْوَصْف فِيهِ بسط كثير لكثير من المنتسبين إِلَى الْقبْلَة من الصُّوفِيَّة والعباد والأمراء والأجناد والمتكلمة والمتفلسفة والعامة وَغَيرهم يسْتَحلُّونَ من الْفَوَاحِش مَا حرمه الله وَرَسُوله وَأَصله الْعِشْق الَّذِي يبغضه الله وَكثير مِنْهُم يَجْعَل ذَلِك دينا ويري أَنه يتَقرَّب بذلك إِلَى الله إِمَّا لزعمه أَنه يُزكي النَّفس ويهديها وَإِمَّا لزعمه أَنه يجمع بذلك قلبه على آدَمِيّ ثمَّ ينْتَقل إِلَى عبَادَة الله وَحده وَإِمَّا لزعمه أَن الصُّور الجميلة مظَاهر الْحق ومشاهده وَرُبمَا اعْتقد حُلُول الرب فِيهَا واتحاده بهَا وَمِنْهُم من يخص ذَلِك بهَا وَمِنْهُم من يَقُول بِإِطْلَاق وَهَؤُلَاء إِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا وكل هَؤُلَاءِ فيهم من الْإِشْرَاك بِقدر ذَلِك وَلِهَذَا يظْهر الافتتان بالصور وعشقها فِيمَن فيهم شرك كالنصارى والرهبان والمتشبهين بهم من هَذِه الْأمة من كثير من المتفلسفة والمتصوفة الَّذين يفتنون بالأحداث وَغَيرهم فتجد فيهم قسطا عَظِيما من اتِّخَاذ الأنداد من دون الله يحبونهم كحب الله إِمَّا تدينا وَإِمَّا شَهْوَة وَإِمَّا جمعا بَين الْأَمريْنِ وَلِهَذَا تَجِد بَين أغنيائهم وفقرائهم وَبَين مُلُوكهمْ وأمرائهم تحَالفا على اتِّخَاذ أنداد من دون الله من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَلِهَذَا تجدهم كثيرا مَا يَجْتَمعُونَ على سَماع الشّعْر والأصوات الَّتِي تهيج الْحبّ الْمُشْتَرك الَّذِي يجْتَمع فِيهِ محب الرَّحْمَن ومحب الْأَوْثَان ومحب الصلبان ومحب الأخوان ومحب الأوطان ومحب المردان ومحب النسوان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 وَهَذَا السماع هُوَ سَماع الْمُشْركين كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية وَسبب مَا ذكرنَا أَن الله خلق عباده لعبادته الَّتِي تجمع محبته وتعظيمه فَإِذا كَانَ فِي الْقلب مَا يجد حلاوته من الْإِيمَان والتوحيد لَهُ احْتَاجَ إِلَى أَن يسْتَبْدل بذلك مَا يهواه فيتخذ إلهه هَوَاهُ فيتخذ الشَّيْطَان وَذريته أَوْلِيَاء من دون الله وهم لَهُم عَدو بئس للظالمين بَدَلا وَلِهَذَا كَانَ هَذَا وَنَحْوه من تَبْدِيل الدَّين وتغيير فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا قَالَ تَعَالَى فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدَّين الْقيم وَقَالَ تَعَالَى وَمن يُشْرك بِاللَّه فقد ضل ضلالا بَعيدا إِن يدعونَ من دونه إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يدعونَ إِلَّا شَيْطَانا مرِيدا لَعنه الله وَقَالَ لأتخذن من عِبَادك نَصِيبا مَفْرُوضًا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الْأَنْعَام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله قَالَ تَعَالَى لَا تَبْدِيل لخلق الله وَنَفس مَا خلقه الله لَا تَبْدِيل لَهُ لَا يُمكن أَن تُوجد الْمَخْلُوقَات على غير مَا يخلقه الله عَلَيْهَا وَلَا أَن تخلق على غير الْفطْرَة الَّتِي خلقهَا الله عَلَيْهَا لَكِن بعض الْخلق قد يُغير بَعْضهَا كَمَا قَالَ النَّبِي كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة جَمْعَاء هَل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 أصل الْعِبَادَة الْمحبَّة والشرك فِيهَا أصل الشّرك وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن أصل الْعِبَادَة هِيَ الْمحبَّة وَأَن الشّرك فِيهَا أصل الشّرك كَمَا ذكره الله فِي قصَّة إِمَام الحنفاء إِبْرَاهِيم الْخَلِيل حَيْثُ قَالَ فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل رَأْي كوكبا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين وَقَالَ فِي الْقَمَر لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين فَلَمَّا أفلت الشَّمْس قَالَ يَا قوم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين وَلِهَذَا تَبرأ إِبْرَاهِيم من الْمُشْركين وَمِمَّنْ أشركوا بِاللَّه قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون فأنهم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين وَقَالَ تَعَالَى قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا برءاء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده وَمِمَّا يُوضح ذَلِك أَنه قَالَ تَعَالَى وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدَّين لله فَإِن انْتَهوا فَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين وَقَالَ تَعَالَى وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدَّين كُله لله فَإِن انْتَهوا فَإِن الله بِمَا يعْملُونَ بَصِير فَأمر بِالْجِهَادِ حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَحَتَّى يكون الدَّين كُله لله فَجعل الْمَقْصُود عدم كَون الْفِتْنَة وَوُجُود كَون الدَّين كُله لله وناقض بَينهمَا فكون الْفِتْنَة يُنَافِي كَون الدَّين لله وَكَون الدَّين لله يُنَافِي كَون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 الْفِتْنَة والفتنة قد فسرت بالشرك فَمَا حصلت بِهِ فتْنَة الْقُلُوب فَفِيهِ شرك وَهُوَ يُنَافِي كَون الدَّين كُله لله الْفِتْنَة جنس تَحْتَهُ أَنْوَاع من الشُّبُهَات والشهوات والفتنة جنس تَحْتَهُ أَنْوَاع من الشُّبُهَات والشهوات وفتنة الَّذين يتخذون من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله من أعظم الْفِتَن وَمِنْه فتْنَة أَصْحَاب الْعجل كَمَا قَالَ تَعَالَى قَالَ فَإنَّا قد فتنا قَوْمك من بعْدك وأضلهم السامري قَالَ مُوسَى إِن هِيَ إِلَّا فتنك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء وَقَالَ تَعَالَى وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم قيل لِسُفْيَان بن عيينه إِن أهل الْأَهْوَاء يحبونَ مَا ابتدعوه من أهوائهم حبا شَدِيدا فَقَالَ أنسيت قَوْله تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَقَوله تَعَالَى وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وكل مَا أحب لغير الله فقد يحصل بِهِ من الْفِتْنَة مَا يمْنَع أَن يكون الدَّين لله وعشق الصُّور من أعظم الْفِتَن وَقد قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ آلم أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون وَلَقَد فتنا الَّذين من قبلهم فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن رجلا قَالَ للنَّبِي مَا شَاءَ الله وشئت فَقَالَ أجعلتني لله ندا بل مَا شَاءَ الله وَحده فَأنْكر عَلَيْهِ أَن جعله ندا لله فِي هَذِه الْكَلِمَة الَّتِي جمع فِيهَا بَينه وَبَين الله فِي الْمَشِيئَة إِذْ مَشِيئَة العَبْد تَابِعَة لمشيئة الله فَلَا يكون شَرِيكه لما يعلم أَن كَون الشَّيْء ندا لله قد يكون بِدُونِ أَن يعبد الْعِبَادَة التَّامَّة فَإِن ذَلِك الرجل مَا كَانَ يعبد رَسُول الله تِلْكَ الْعِبَادَة فصل محبَّة الله توجب المجاهدة فِي سَبيله وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن محبَّة الله توجب المجاهدة فِي سَبيله قطعا فَإِن من أحب الله وأحبه الله أحب مَا يُحِبهُ الله وَأبْغض مَا يبغضه الله ووالي من يواليه الله وعادي من يعاديه الله لَا تكون محبَّة قطّ إِلَّا وفيهَا ذَلِك بِحَسب قوتها وضعفها فَإِن الْمحبَّة توجب الدنو من المحبوب والبعد عَن مكروهاته ومتي كَانَ مَعَ الْمحبَّة نبذ مَا يبغضه المحبوب فَإِنَّهَا تكون تَامَّة موادة عَدو الله تنَافِي الْمحبَّة وَأما موادة عدوه فَإِنَّهَا تنَافِي الْمحبَّة قَالَ تَعَالَى لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ فَأخْبر أَن الْمُؤمن الَّذِي لَا بُد أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا كَمَا فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ لَا تَجدهُ موادا لمن حاد الله وَرَسُوله فَإِن هَذَا جمع بَين الضدين لَا يَجْتَمِعَانِ ومحبوب الله ومحبوب معاديه لَا يَجْتَمِعَانِ فالمحب لَهُ لَو كَانَ موادا لمحاده لَكَانَ محبا لِاجْتِمَاع مُرَاد المتحادين المتعاديين وَذَلِكَ مُمْتَنع وَلِهَذَا لم تصلح هَذِه الْحَالة إِلَّا لله وَرَسُوله فَإِنَّهُ يجب على العَبْد أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا وَلَا يكون مُؤمنا إِلَّا بذلك وَلَا تكون هَذِه الْمحبَّة مَعَ محبَّة من يحاد الله وَرَسُوله ويعاديه أبدا فَلَا وَلَاء لله إِلَّا بِالْبَرَاءَةِ من عَدو الله وَرَسُوله وَأما الْمُؤْمِنُونَ الَّذين قد يُقَاتل بَعضهم بَعْضًا فَأُولَئِك لَيْسُوا متحادين من كل وَجه فَإِن مَعَ كل مِنْهُمَا من الْإِيمَان مَا يحب عَلَيْهِ الآخر وَإِن كَانَ يبغضه أَيْضا فيجتمع فيهمَا الْمحبَّة والبغضة وَكَذَلِكَ كل مِنْهُمَا لَا يجب أَن تكون جَمِيع أَفعاله مُوَافقَة لمحبة الله وَجَمِيع أَفعَال الآخر مُوَافقَة لِبُغْض الله بل لَا بُد أَن يفعل أَحدهمَا مَا لَا يُحِبهُ الله وَإِن لم يبغضه وَلَا بُد أَن يكون فِي الآخر أَيْضا مَا يُحِبهُ الله إِذْ هُوَ مُؤمن فَيجب أَن يُعْطي كل وَاحِد من الْمحبَّة بِقدر إيمَانه وَلَا يجب أَن يحب من أَحدهمَا مَا لَا يُحِبهُ وَإِن كَانَ لَا يبغضه بل وَلَا يحب من واحدهما مَا كَانَ خطأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 أَو ذَنبا مغفورا وَإِن كَانَ لَا يبغض على ذَلِك فَلَا يحب إِلَّا مَا أحبه الله وَرَسُوله فيحب مَا كَانَ من اجْتِهَاده من عمل صَالح وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَمر يجده الأنسان من نَفسه ويحسه أَنه إِذا أحب الشَّيْء لم يحب ضِدّه بل يبغضه فَلَا يتَصَوَّر اجْتِمَاع إرادتين تامتين للضدين لَكِن قد يكون فِي الْقلب نوع محبَّة وَإِرَادَة لشَيْء وَنَوع محبَّة وَإِرَادَة لضده فَهَذَا كثير بل هُوَ غَالب على بني آدم لَكِن لَا يكون وَاحِد مِنْهُمَا تَاما فَإِن الْمحبَّة والإرادة التَّامَّة توجب وجود المحبوب المُرَاد مَعَ الْقُدْرَة فَإِذا كَانَت الْقُدْرَة حَاصِلَة وَلم يُوجد المحبوب المُرَاد لم يكن الْحبّ والإرادة تَامَّة وَكَذَلِكَ البغض التَّام يمْنَع وجود البغيض مَعَ الْقُدْرَة فمتي وجد مَعَ إِمْكَان الِامْتِنَاع لم يكن البغض تَاما وَمن هُنَا يعرف أَن قَول النَّبِي لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن على بَابه لَو كَانَ بغضه لما أبغضه الله من هَذِه الْأَفْعَال تَاما لما فعلهَا فَإِذا فعلهَا فإمَّا أَن يكون تَصْدِيقه بِأَن الله يبغضها فِيهِ ضعف أَو نفس بغضه لما يبغضه الله فِيهِ ضعف وَكِلَاهُمَا يمْنَع تَمام الْإِيمَان الْوَاجِب محبَّة الله وَرَسُوله على دَرَجَتَيْنِ: وَاجِبَة ومستحبة ومحبة الله وَرَسُوله على دَرَجَتَيْنِ وَاجِبَة وَهِي دَرَجَة الْمُقْتَصِدِينَ ومستحبة وَهِي دَرَجَة السَّابِقين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 الْمحبَّة الْوَاجِبَة وَهِي محبَّة الْمُقْتَصِدِينَ فالأولي تَقْتَضِي أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا بِحَيْثُ لَا يحب شَيْئا يبغضه كَمَا قَالَ تَعَالَى لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَذَلِكَ يَقْتَضِي محبَّة جَمِيع مَا أوجبه الله تَعَالَى وبغض مَا حرمه الله تَعَالَى وَذَلِكَ وَاجِب فَإِن إِرَادَة الْوَاجِبَات إِرَادَة تَامَّة تَقْتَضِي وجود مَا أوجبه كَمَا تَقْتَضِي عدم الْأَشْيَاء الَّتِي نهي الله عَنْهَا وَذَلِكَ مُسْتَلْزم لبغضها التَّام فَيجب على كل مُؤمن أَن يحب مَا أحبه الله وَيبغض مَا أبغضه الله قَالَ تَعَالَى ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم وَقَالَ تَعَالَى وَإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وَقَالَ تَعَالَى وَالَّذين آتينهم الْكتاب يفرحون بِمَا أنزل إِلَيْك وَمن الْأَحْزَاب من يُنكر بعضه الْمحبَّة المستحبة وَهِي محبَّة السَّابِقين وَأما محبَّة السَّابِقين بِأَن يحب مَا أحبه الله من النَّوَافِل والفضائل محبَّة تَامَّة وَهَذِه حَال المقربين الَّذين قربهم الله إِلَيْهِ فَإِذا كَانَت محبَّة الله وَرَسُوله الْوَاجِبَة تَقْتَضِي بغض مَا أبغضه الله وَرَسُوله كَمَا فِي سَائِر أَنْوَاع الْمحبَّة فَإِنَّهَا توجب بغض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 الضِّدّ علم أَن الْجِهَاد من مُوجب محبَّة الله وَرَسُوله فَإِن مَقْصُود الْجِهَاد تَحْصِيل مَا أحبه الله وَدفع مَا أبغضه الله ترك الْجِهَاد لعدم الْمحبَّة التَّامَّة وَهُوَ دَلِيل النِّفَاق فَمن لم يكن فِيهِ دَاع إِلَى الْجِهَاد فَلم يَأْتِ بالمحبة الْوَاجِبَة قطعا كَانَ فِيهِ نفاق كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ من مَاتَ وَلم يغز وَلم يحدث نَفسه بالغزو مَاتَ على شُعْبَة من نفاق وَكَذَلِكَ جمع بَينهمَا فِي قَوْله تَعَالَى أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله لَا يستوون عِنْد الله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله وَأُولَئِكَ هم الفائزون يبشرهم رَبهم برحمة مِنْهُ ورضوان وجنات لَهُم فِيهَا نعيم مُقيم خَالِدين فِيهَا أبدا إِن الله عِنْده أجر عَظِيم فقرنه بالمحبة فِي الْآيَتَيْنِ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 قَوْله قل إِن كَانَ أباؤكم وابناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره وَفِي قَوْله تَعَالَى فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم فَأخْبر أَن الْقَوْم الَّذين يُحِبهُمْ الله وَرَسُوله هم أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَة الْأُخْرَى أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم فوصفهم بالذلة وَالرَّحْمَة لأوليائه إخْوَانهمْ والعزة والشدة على أعدائه أعدائهم وانهم يجاهدون فِي سَبِيل الله وَالْجهَاد من الْجهد وَهُوَ الطَّاقَة وَهُوَ أعظم من الْجهد الَّذِي هُوَ الْمَشَقَّة فَإِن الضَّم أقوي من الْفَتْح وَكلما كَانَت الْحُرُوف أَو الحركات أقوي كَانَ الْمَعْنى أقوي وَلِهَذَا كَانَ الْجرْح أقوي من الْجرْح فَإِن الْجرْح هُوَ الْمَجْرُوح نَفسه وَهُوَ غير الْجرْح مصدر وَهُوَ فعل وَكَذَلِكَ الكره وَالْمَكْرُوه وَالْمكْره كَمَا قَالَ تَعَالَى كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم وَقَالَ تَعَالَى وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها فالجهد نِهَايَة الطَّاقَة وَالْقُدْرَة قَالَ تَعَالَى وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 وَفِي الحَدِيث أفضل الصَّدَقَة جهد من مقل يسره إِلَى فَقير وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي الْجِهَاد سَنَام الْعَمَل فَإِنَّهُ أَعلَى الإرادات فِي نِهَايَة الْقُدْرَة وَهَذَا هُوَ أَعلَى مَا يكون من الْإِيمَان كالسنام الَّذِي هُوَ أَعلَى مَا فِي الْبَعِير وَقد يكون بِمَشَقَّة وَقد لَا يكون وَأما الْجهد فَهُوَ الْمَشَقَّة وَإِن لم يكن تَمام الْقُدْرَة فالجهاد فِي سَبِيل الله تَعَالَى من الْجهد وَهِي المغالبة فِي سَبِيل الله بِكَمَال الْقُدْرَة والطاقة فيتضمن شَيْئَيْنِ أَحدهمَا استفراغ الوسع والطاقة وَالثَّانِي أَن يكون ذَلِك فِي تَحْصِيل محبوبات الله وَدفع مكروهاته وَالْقُدْرَة والإرادة بهما يتم الْأَمر انقسام النَّاس إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام: وَهنا انقسم النَّاس أَرْبَعَة أَقسَام فقوم لَهُم قدرَة وَلَهُم إِرَادَة ومحبة غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 1- قوم لَهُم قدرَة وَإِرَادَة ومحبة غير مَأْمُور بهَا مَأْمُور بهَا فهم يجاهدون ويستعملون جهدهمْ وطاقتهم لَكِن لَا فِي سَبِيل الله بل فِي سَبِيل آخر إِمَّا مُحرمَة كالفواحش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا وبطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق والإشراك بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَالْقَوْل على الله بِغَيْر علم الْحق وَإِمَّا فِي سَبِيل لَا ينفع عِنْد الله مِمَّا جنسه مُبَاح لَا ثَوَاب فِيهِ لَكِن الْغَالِب أَن مثل هَذَا كثيرا مَا يقْتَرن بِهِ من الشّبَه مَا يَجعله فِي سَبِيل الله أَو فِي سَبِيل الشَّيْطَان 2- قوم لَهُم إِرَادَة صَالِحَة ومحبة كَامِلَة لله وقدرة كَامِلَة وَقوم لَهُم إِرَادَة صَالِحَة ومحبة كَامِلَة لله وَلَهُم أَيْضا قدرَة كَامِلَة فَهَؤُلَاءِ سادة المحبين المحبوبين الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله لَا يخَافُونَ لومة لائم كالسابقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الْقِيَامَة 3- قوم فيهم إِرَادَة صَالِحَة ومحبة قَوِيَّة لَكِن قدرتهم نَاقِصَة وَالْقسم الثَّالِث قوم فيهم إِرَادَة صَالِحَة ومحبة لله قَوِيَّة تَامَّة لَكِن قدرتهم نَاقِصَة فهم يأْتونَ بمحبوبات الْحق من مقدورهم وَلَا يتركون مِمَّا يقوون عَلَيْهِ شَيْئا لَكِن قدرتهم قَاصِرَة ومحبتهم كَامِلَة فَهُوَ مَعَ الْقسم الَّذِي قبله وَمَا زَالَ فِي الْمُؤمنِينَ على عهد النَّبِي وَبعده من هَؤُلَاءِ خلق كثير وَفِي مثل هَؤُلَاءِ قَالَ النَّبِي أَن بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مسيرًا وَلَا سلكتم وَاديا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 إِلَّا كَانُوا مَعكُمْ قَالُوا وهم بِالْمَدِينَةِ قَالَ وهم بِالْمَدِينَةِ حَبسهم الْعذر وَقَالَ لَهُ سعد بن أبي وَقاص يَا رَسُول الله الرجل يكون حامية الْقَوْم يُسهم لَهُ مِثْلَمَا يُسهم لأضعفهم فَقَالَ يَا سعد وَهل تنْصرُونَ إِلَّا بضعفائكم بدعائهم وصلواتهم واستغفارهم وَرُوِيَ أَن النَّبِي كَانَ يستفتح بصعاليك الْمُهَاجِرين وَقَالَ رب أَشْعَث أغبر ذِي طمرين مَدْفُوع بالأبواب لَا يؤبه لَهُ لَو أقسم على الله لَأَبَره وَهَذَا كثير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 4- من قدرته وإرادته للحق قَاصِرَة وَفِيه إِرَادَة للباطل وَالْقسم الرَّابِع من قدرته قَاصِرَة وإرادته للحق قَاصِرَة وَفِيه من إِرَادَة الْبَاطِل مَا الله بِهِ عليم فَهَؤُلَاءِ ضعفاء الْمُجْرمين وَلَكِن قد يكون لَهُم من التَّأْثِير بقلوبهم نصيب وحظ مَعَ أهل باطلهم كَمَا يُوجد فِي الْعلمَاء والعباد والزاهدين من الْمُشْركين وَأهل الْكتاب ومنافقي هَذِه الْأمة مَا فِيهِ مضاهاة لعلماء الْمُؤمنِينَ وعبادهم وَذَلِكَ أَن الشَّيْطَان جعل لكل شَيْء من الْخلق نظيرا فِي الْبَاطِل فَإِن أصل الشَّرّ هُوَ الْإِشْرَاك بِاللَّه كَمَا أَن أصل الْخَيْر هُوَ الْإِخْلَاص لله فَإِن الله سُبْحَانَهُ خلق الْخلق ليعبدوه وَحده لَا يشركوا بِهِ شَيْئا وَبِذَلِك أرسل الرُّسُل وَبِه أنزل الْكتب كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول إِلَّا نوحي إِلَيْهِ أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدون وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن أعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت الْعِبَادَة تجمع كَمَال الْمحبَّة وَكَمَال الذل وَالْعِبَادَة تجمع كَمَال الْمحبَّة وَكَمَال الذل فالعابد محب خاضع بِخِلَاف من يحب من لَا يخضع لَهُ بل يُحِبهُ ليتوسل بِهِ إِلَى مَحْبُوب آخر وَبِخِلَاف من يخضع لمن لَا يُحِبهُ كَمَا يخضع للظالم فَإِن كلا من هذَيْن لَيْسَ عبَادَة مَحْضَة وَإِن كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 مَحْبُوب لغير الله ومعظم لغير الله فَفِيهِ شوب من الْعِبَادَة كَمَا قَالَ النَّبِي فِي الحَدِيث الصَّحِيح تعس عبد الدِّرْهَم تعس عبد الدِّينَار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وَإِذا شيك فَلَا انتقش وَذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث إِن الشّرك فِي هَذِه الْأمة أُخْفِي من دَبِيب النَّمْل مَعَ أَنه لَيْسَ فِي الْأُمَم أعظم تَحْقِيقا للتوحيد من هَذِه الْأمة وَلِهَذَا كَانَ شَدَّاد بن أَوْس يَقُول يَا نعايا الْعَرَب يَا نعايا الْعَرَب إِن أخوف مَا أخوف عَلَيْكُم الرِّيَاء والشهوة الْخفية قَالَ أَبُو دَاوُد الشَّهْوَة الْخفية حب الرياسة وَفِي حَدِيث الترمذى عَن كَعْب بن مَالك أَن النَّبِي قَالَ مَا ذئبان جائعان أرسلا فِي غنم بأفسد لَهَا من حرص الْمَرْء على المَال والشرف لدينِهِ قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن صَحِيح والحرص يكون على قدر قُوَّة الْحبّ والبغض وَقد قَالَ الله تَعَالَى وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون وَرُوِيَ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ قَالَ للنَّبِي إِذا كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 الشّرك أُخْفِي من دَبِيب النَّمْل فَكيف نتجنبه فَقَالَ النَّبِي أَلا أعلمك كلمة إِذا قلتهَا نجوت من قَلِيله وَكَثِيره قل اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك أَن أشرك بك وَأَنا أعلم وأستغفرك لما لَا أعلم فَأمره مَعَ الِاسْتِعَاذَة من الشّرك الْمَعْلُوم بالاستغفار فَإِن الاسْتِغْفَار والتوحيد بهما يكمل الدَّين كَمَا قَالَ تَعَالَى فَاعْلَم انه لاإله إِلَّا الله واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَقَالَ تَعَالَى كتاب أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت من لدن حَكِيم خَبِير أَلا تعبدوا إِلَّا الله إِنَّنِي لكم مِنْهُ نَذِير وَبشير وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ وَفِي الحَدِيث إِن الشَّيْطَان قَالَ أهلكت بني آدم بِالذنُوبِ وأهلكوني بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَالِاسْتِغْفَار فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك بثثت فيهم الْأَهْوَاء فهم يذنبون وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ لأَنهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا وَهَذَا كَذَلِك فَإِن من اتخذ إلهه هَوَاهُ صَار يعبد من يهواه وَقد زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا قَالَ تَعَالَى أفحسب الَّذين كفرُوا أَن يتخذوا عبَادي من دوني أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ نزلا قل هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا وَقَالَ تَعَالَى وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله وَصد عَن السَّبِيل وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وَقَالَ تَعَالَى وَإِذا زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس وَإِنِّي جَار لكم فَلَمَّا تراءت الفئتان نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم إِنِّي أرِي مَا لَا ترَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله وَالله شَدِيد الْعقَاب إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض غر هَؤُلَاءِ دينهم وَمن يتوكل على الله فَإِن الله عَزِيز حَكِيم وَقَالَ تَعَالَى وَكَذَلِكَ زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عَلَيْهِم دينهم وَكَمَال الدَّين هُوَ أَدَاء الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات وَالْفِعْل وَالتّرْك أَصلهمَا الْحبّ والبغض فَإِذا ترك مَأْمُورا أَو فعل مَحْظُورًا فَإِنَّمَا هُوَ لنَقص الْإِيمَان الَّذِي هُوَ التَّصْدِيق وَحب مَا يُحِبهُ الله وبغض مَا يبغضه الله والمحبوبات على قسمَيْنِ قسم يحب لنَفسِهِ وَقسم يحب لغيره إِذْ لَا بُد من مَحْبُوب يحب لنَفسِهِ وَلَيْسَ شَيْء شرع أَن يحب لذاته إِلَّا الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ التَّعْظِيم لذاته تَارَة يعظم الشَّيْء لنَفسِهِ وَتارَة يعظم لغيره وَلَيْسَ شَيْء يسْتَحق التَّعْظِيم لذاته إِلَّا الله تَعَالَى وكل مَا أَمر الله أَن يحب ويعظم فَإِنَّمَا محبته لله وتعظيمه عبَادَة لله فَالله هُوَ المحبوب الْمُعظم فِي الْمحبَّة والتعظيم الْمَقْصُود المستقر الَّذِي إِلَيْهِ المنتهي وَأما مَا سوي ذَلِك فيحب لأجل الله أَي لأجل محبَّة العَبْد لله يحب مَا أحبه الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 فَمن تَمام محبَّة الشَّيْء محبَّة مَحْبُوب المحبوب وبغض بغيضه وَيشْهد لهَذَا الحَدِيث أوثق عري الْإِيمَان الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله وَفِي السّنَن من أحب لله وَأبْغض لله وَأعْطِي لله وَمنع لله فقد اسْتكْمل الْإِيمَان فَمن أحب شَيْئا لذاته أَو عظمه لذاته غير الله فَذَاك شرك بِهِ وَإِن أحبه ليتوصل بِهِ إِلَى مَحْبُوب آخر وتعظيم آخر سوي الله فَهُوَ من فروع هَذَا وَالله سُبْحَانَهُ لم يشرع أَن يعبد الْإِنْسَان شَيْئا من دونه أَو يتَّخذ إِلَهًا ليتوصل بِعِبَادَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى واسأل من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا أجعلنا من دون الرَّحْمَن آلِهَة يعْبدُونَ وَقَالَ تَعَالَى سنلقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب بِمَا أشركوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا ومأواهم النَّار وَبئسَ مثوى الظَّالِمين من أحب شَيْئا كَمَا يحب الله أَو عظمه كَمَا يعظم الله فقد أشرك فَمن أحب شَيْئا كَمَا يحب الله أَو عظمه كَمَا يعظم الله فقد جعله لله ندا وَإِن كَانَ يَقُول إِنَّمَا نعبدهم ليقربونا إِلَى الله زلفي وَأَنَّهُمْ شفعاؤنا عِنْد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 قَالَ تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله أَي يحبونهم كَمَا يحبونَ الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله مِنْهُم لأَنهم أَخْلصُوا لله فَلم يجْعَلُوا الْمحبَّة مُشْتَركَة بَينه وَبَين غَيره فَإِن الِاشْتِرَاك فِيهَا يُوجب نَقصهَا وَالله لَا يتَقَبَّل ذَلِك كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح يَقُول الله تَعَالَى أَنا أُغني الشُّرَكَاء عَن الشّرك فَمن عمل عملا أشرك فِيهِ غَيْرِي فَأَنا مِنْهُ بَرِيء وَهُوَ كُله للَّذي أشرك فالمؤمن الَّذِي يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا لَا بُد أَن يكون مَا أحبه الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا لم يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَأَن يبغض مَا يبغضه الله وَرَسُوله فَلَا يكون ذَلِك البغيض أحب إِلَيْهِ من مَحْبُوب الله وَرَسُوله وَالْحب التَّام منا مُسْتَلْزم للإرادة التَّامَّة الْمُوجبَة للْفِعْل مَعَ الْقُدْرَة والبغض التَّام منا مُسْتَلْزم للكراهة التَّامَّة الْمَانِعَة للقدرة فَإِذا كَانَ العَبْد قَادِرًا على محبات الْحق وَلَا يَفْعَلهَا فلضعف محبتها فِي قلبه أَو وجود مَا يُعَارض الْحق مثل محبته لأَهله وَمَاله فَإِن ذَلِك قد يمنعهُ عَن فعل مَحْبُوب الْحق كَمَا قَالَ تَعَالَى قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا وَقَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ وَقَالَ لَهُ عمر وَالله يَا رَسُول الله لأَنْت أحب إِلَيّ من كل شَيْء إِلَّا من نَفسِي فَقَالَ لَا يَا عمر حَتَّى أكون أحب إِلَيْك من نَفسك قَالَ فَأَنت أحب إِلَيّ من نَفسِي قَالَ الْآن يَا عمر وَهَذَانِ الحديثان فِي الصَّحِيح فَإِن كَانَت وَاجِبَات نقص من دَرَجَة الْمُقْتَصِدِينَ من أَصْحَاب الْيَمين حَتَّى يَتُوب أَو يمحوها بِشَيْء آخر وَإِن كَانَت نوافل فَإِنَّهَا من الْقرب بِحَسب ذَلِك الْإِنْسَان لَا يفعل الْحَرَام إِلَّا لضعف إيمَانه ومحبته وَإِذا فعل مكروهات الْحق فلضعف بَعْضهَا فِي قلبه أَو لقُوَّة محبتها الَّتِي تغلب بَعْضهَا فالإنسان لَا يَأْتِي شَيْئا من الْمُحرمَات كالفواحش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق والشرك بِاللَّه مالم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَالْقَوْل على الله بِغَيْر علم إِلَّا لضعف الْإِيمَان فِي أَصله أَو كَمَاله أَو ضعف الْعلم والتصديق وَإِمَّا ضعف الْمحبَّة والبغض لَكِن إِذا كَانَ أصل الْإِيمَان صَحِيحا وَهُوَ التَّصْدِيق فَإِن هَذِه الْمُحرمَات يَفْعَلهَا الْمُؤمن مَعَ كَرَاهَته وبغضه لَهَا فَهُوَ إِذا فعلهَا لغَلَبَة الشَّهْوَة عَلَيْهِ فَلَا بُد أَن يكون مَعَ فعلهَا فِيهِ بغض لَهَا وَفِيه خوف من عِقَاب الله عَلَيْهَا وَفِيه رَجَاء لِأَن يخلص من عقابها إِمَّا بتوبة وَإِمَّا حَسَنَات وَإِمَّا عَفْو وَإِمَّا دون ذَلِك وَإِلَّا فَإِذا لم يبغضها وَلم يخف الله فِيهَا وَلم يرج رَحمته فَهَذَا لَا يكون مُؤمنا بِحَال بل هُوَ كَافِر أَو مُنَافِق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 فَكل سَيِّئَة يَفْعَلهَا الْمُؤمن لَا بُد أَن تقترن بهَا حَسَنَات لَهُ لَكِن قُوَّة شَهْوَته للسيئة وَمَا زين لَهُ فِيهَا حتي ظن أَنَّهَا مصلحَة لَهُ أوجب وُقُوعهَا وَهُوَ اتِّبَاع الظَّن وَمَا تهوي الْأَنْفس وَهَذَا الْقدر عَارض بعض إيمَانه فترجح عَلَيْهِ حتي مَا هُوَ ضد لبَعض الْإِيمَان فَلم يبْق مُؤمنا الْإِيمَان الْوَاجِب كَمَا قَالَ النَّبِي لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن وَهُوَ فِيمَا يَفْعَله مُتبع للشَّيْطَان فِيمَا زينه لَهُ حَتَّى رَآهُ حسنا وَفِيمَا أمره بِهِ فأطاعه وَهَذَا من الشّرك بالشيطان كَمَا قَالَ تَعَالَى أفتتخذونه وَذريته أَوْلِيَاء من دوني وهم لكم عَدو بئس للظالمين بَدَلا وَقَالَ تَعَالَى ألم أَعهد إِلَيْكُم يَا بني آدم أَلا تعبدوا الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين وَأَن اعبدوني هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم وَلِهَذَا لم يخلص من الشَّيْطَان إِلَّا المخلصون لله كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن ابليس ولأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين وَقَالَ تَعَالَى إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين وَقَالَ تَعَالَى إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على الَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانه على الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون فَإِذا كَانَ الشَّيْطَان لَيْسَ لَهُ سُلْطَان إِلَّا على من أشرك بِهِ فَكل من أطَاع الشَّيْطَان فِي مَعْصِيّة الله فقد تسلط الشَّيْطَان عَلَيْهِ وَصَارَ فِيهِ من الشّرك بالشيطان بِقدر ذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 والشيطان يوالي الْإِنْسَان بِحَسب عدم إيمَانه كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّا جعلنَا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء للَّذين لَا يُؤمنُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن السَّبِيل وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون حَتَّى إِذا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين وَيشْهد لهَذَا مَا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر عَن النَّبِي إِن الشَّيْطَان ينْتَصب عَرْشه على الْبَحْر وَيبْعَث سراياه فَجَمِيع مَا نهي الله عَنهُ هُوَ من شعب الْكفْر وفروعه كَمَا أَن كل مَا أَمر الله بِهِ هُوَ من الْإِيمَان وَالْإِخْلَاص لدين الله وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدَّين كُله لله لَكِن قد يكون ذَلِك شركا أكبر وَقد يكون شركا أَصْغَر بِحَسب مَا يقْتَرن بِهِ من الْإِيمَان فمتي اقْترن بِمَا نهي الله عَنهُ الْإِيمَان لتحريمه وبغضه وَخَوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 الْعقَاب ورجاء الرَّحْمَة لم يكن شركا أكبر وَأما إِن اتخذ الْإِنْسَان مَا يهواه إِلَهًا من دون الله وأحبه كحب الله فَهَذَا شرك اكبر والدرجات فِي ذَلِك مُتَفَاوِتَة وَكثير من النَّاس يكون مَعَه من الْإِيمَان بِاللَّه وتوحيده مَا ينجيه من عَذَاب الله وَهُوَ يَقع فِي كثير من هَذِه الْأَنْوَاع وَلَا يعلم أَنَّهَا شرك بل لَا يعلم أَن الله حرمهَا وَلم تبلغه فِي ذَلِك رِسَالَة من عِنْد الله وَالله تَعَالَى يَقُول وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا فَهَؤُلَاءِ يكثرون جدا فِي الْأَمْكِنَة والأزمنة الَّتِي تظهر فِيهَا فَتْرَة الرسَالَة بقلة القائمين بِحجَّة الله فَهَؤُلَاءِ قد يكون مَعَهم من الْإِيمَان مَا يرحمون بِهِ وَقد لَا يُعَذبُونَ بِكَثِير مِمَّا يعذب بِهِ غَيرهم مِمَّن كَانَت عَلَيْهِ حجَّة الرسَالَة فَيَنْبَغِي أَن يعرف أَن اسْتِحْقَاق الْعباد للعذاب بالشرك فَمَا دونه مَشْرُوط ببلاغ الرسَالَة فِي أصل الدَّين وفروعه وَلِهَذَا لما كثر الْجَهْل وانتشر تَزْيِين الشَّيْطَان لكثير من النَّاس أنواعا من الْحَرَام ضاهوا بهَا الْحَلَال زين الشَّيْطَان لكثير من النَّاس نواعا من الْمُحرمَات ضاهوا بهَا حَلَال وَقد لَا يعلمُونَ أَنَّهَا مُحرمَة بغيضة إِلَى الله بل قد يظنون أَن ذَلِك مَحْبُوب لله مَأْمُور بِهِ وَقد يظنون أَن فِيهَا هَذَا وَهَذَا وهم فِي ذَلِك يتبعُون الظَّن وَمَا تهوي الْأَنْفس وَقد يعلمُونَ تَحْرِيم ذَلِك ويظهرون عدم الْوَجْه الْمحرم خداعا ونفاقا فَهَؤُلَاءِ غير الْمُؤمن الَّذِي يحب الله وَرَسُوله وَيَأْتِي بالمحرم مُعْتَقدًا أَنه محرم وَهُوَ مبغض لَهُ خَائِف راج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وَهَذِه الْأُمُور تُوجد فِي الْأَقْسَام الثَّلَاثَة وَنحن نذْكر أَمْثِلَة ذَلِك فِي الْمُحرمَات الَّتِي ذكرهَا الله فِي قَوْله تَعَالَى قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ فَالله سُبْحَانَهُ قد حرم الْفَوَاحِش كَمَا ذكر وَقد قَالَ تَعَالَى وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين فَلم تبح إِلَّا الْمَرْأَة الَّتِي هِيَ زوج أَو ملك يَمِين وَقد ذكر مَا اشْتَرَطَهُ فِي الْحَلَال بقوله غير مسافحات وَلَا متخذات اخدان وَقَوله غير مسافحين وَلَا متخذي اخدان كَمَا فِي الصَّحِيح عَن عَائِشَة قَالَت كَانَ النِّكَاح فِي الْجَاهِلِيَّة على أَرْبَعَة أنحاء وَذكرت أَصْحَاب الرَّايَات وَهن المسافحات وَأَن إِلْحَاق النّسَب فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وطئهن كَانَ بالقافة وَذكرت الَّتِي يَطَأهَا جمَاعَة محصورة وَأَن الْإِلْحَاق كَانَ بِتَعْيِين الْمَرْأَة وَذكرت نِكَاح الاستبضاع وَهُوَ غير نِكَاح ذَوَات الأخدان وَذكرت النِّكَاح الرَّابِع وَهُوَ النِّكَاح الْمَعْرُوف الَّذِي أحله الله فالشيطان جعل من الْحَرَام مَا فِيهِ مضاهاة من للْحَلَال وان سمي باسم آخر لَكِن الْمَعْنى فِيهِ اشْتِرَاك فَالله أَبَاحَ للرجل امْرَأَته ومملوكته وكل من الرجل وَالْمَرْأَة زوج الآخر فذوات الأخدان بَينهُنَّ وَبَين أخدانهن نوع ازدواج واقتران كَذَلِك وَلِهَذَا ميز الله بَين هَذَا وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وأخفي من ذَلِك مؤاخاة كثير من الرِّجَال لكثير من النِّسَاء أَو لكثير من الصّبيان وَقَوْلهمْ إِن هَذِه مؤاخاة لله إِذا لم تكن المؤاخاة على فعل الْفَاحِشَة كذوات الأخدان فَهَذَا الَّذِي يظهرونه للنَّاس الَّذين يوافقونهم ويقرونهم على ذَلِك ويرون كلهم أَن من أحب صَبيا أَو امْرَأَة لصورته وَحسنه من غير فعل فَاحِشَة فَإِن هَذَا محبَّة لله فَهَذَا من الضلال والغي وتَبْدِيل الدَّين حَيْثُ جعل مَا كرهه الله محبوبا لله وَهُوَ نوع من الشّرك والمحبوب الْمُعظم بذلك طاغوت وَذَلِكَ أَن اعْتِقَاد أَن التَّمَتُّع بالمحبة وَالنَّظَر أَو نوع من الْمُبَاشرَة إِلَى الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة وَالصبيان هُوَ لله وَهُوَ حب فِي الله كفر وشرك كاعتقاد أَن محبَّة الأنداد حب لله وَأَن الِاجْتِمَاع على الْفَاحِشَة تعاون على الْبر وَالتَّقوى وَأَن الْإِقَامَة على ذَلِك بِالْعبَادَة هِيَ عبَادَة لله وَنَحْو ذَلِك فاعتقاد أَن هَذِه الْأُمُور الَّتِي حرمهَا الله وَرَسُوله تَحْرِيمًا ظَاهرا أَنَّهَا دين الله ومحبة الله نوع من الشّرك وَالْكفْر ثمَّ قد يكون مِنْهَا من خفيها أَشْيَاء تروج على من لم يبلغهُ الْعلم كَمَا اشْتبهَ على كثير من الْعلمَاء والعباد أَن اسْتِمَاع أصوات الملاهي تكون عبَادَة لله واشتبه على من هُوَ أَضْعَف علما وإيمانا أَن التَّمَتُّع بمشاهدة هَذِه الصُّور يكون عبَادَة لله ثمَّ بعد هَذَا الضلال وَمَا فِيهِ من الغي هم أَرْبَعَة أَقسَام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 قوم يَعْتَقِدُونَ أَن هَذَا لله ويقتصرون عَلَيْهِ كَمَا يُوجد مثل ذَلِك فِي كثير من الأجناد والمتنسكة والعامة وَقوم يعلمُونَ أَن هَذَا لَيْسَ لله وَإِنَّمَا يظهرون هَذَا الْكَلَام نفَاقًا وخداعا لِئَلَّا يُنكر عَلَيْهِم وَهَؤُلَاء من وَجه أمثل لما يرجي لَهُم من التَّوْبَة وَمن جِهَة أَخبث لأَنهم يعلمُونَ التَّحْرِيم ويأتون الْمحرم وَقوم مقصودهم مَا وَرَاء ذَلِك من الْفَاحِشَة الْكُبْرَى فَتَارَة يكونُونَ من أُولَئِكَ الظَّالِمين الَّذين يَعْتَقِدُونَ أَن هَذِه الْمحبَّة الَّتِي لَا وَطْء فِيهَا لله فيفعلون شَيْئا لله ويفعلون هَذَا لغير الله وَتارَة يكونُونَ من أُولَئِكَ الغاوين الْمُنَافِقين الَّذين يظهرون أَن هَذِه الْمحبَّة لله وهم يعلمُونَ أَنَّهَا للشَّيْطَان فَيجمع هَؤُلَاءِ بَين هَذَا الْكَذِب وَبَين الْفَاحِشَة الْكُبْرَى وَهَؤُلَاء فِي هَذِه المخادنة والمؤاخاة يضاهون النِّكَاح فَإِنَّهُ يحصل بَين هذَيْن من الاقتران والازدواج مَا يشبه اقتران الزَّوْجَيْنِ وَيزِيد عَلَيْهِ تَارَة وَينْقص عَنهُ تَارَة وَمَا يشبه اقتران المتحابين فِي الله والمتآخين فِي الله لَكِن الَّذين آمنُوا أَشد حبا لله فالمتحابان فِي الله يعظم تحابهما وَيُقَوِّي وَيثبت بِخِلَاف هَذِه المؤاخاة الشيطانية فَإِنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهَا أَنْوَاع من الْفساد ثمَّ هَذَا قد يظْهر وينتشر حَتَّى قد يسمونه زواجا وَيَقُولُونَ تزوج هَذَا بِهَذَا كَمَا يفعل ذَلِك بعض الْمُسْتَهْزِئِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 بآيَات الله من فجار الْفُسَّاق وَالْمُنَافِقِينَ ويقره الْحَاضِرُونَ على ذَلِك وَيضْحَكُونَ وَرُبمَا أعجبهم مثل هَذَا المزاح كَمَا أَن اعْتِقَاد أَن هَذِه الْمحبَّة لله أوجب لمن كَانَ من فجار الْفُسَّاق وَالْمُنَافِقِينَ أَن يَقُول لَهُم الْأَمْرَد حبيب الله والملتحي عَدو الله وَذَلِكَ يعجبهم وَيضْحَكُونَ مِنْهُ وَحَتَّى اعْتقد كثير من المردان أَن هَذَا حق وَهُوَ دَاخل فِي قَول النَّبِي إِذا أحب الله العَبْد نَادِي فِي السَّمَاء يَا جِبْرِيل إِنِّي أحب فلَانا فَيصير يُعجبهُ أَن يحب ويعتقد الغاوي أَنه مَحْبُوب وَذَلِكَ أَن من فُقَهَاء الْكُوفَة من لَا يُوجب فِي اللوطية الْحَد بل التَّعْزِير إِلَّا إِذا أسرف فِيهِ فَإِنَّهُ يُبِيح قَتله سياسة وَمن الْفُقَهَاء من يُوجب فِيهِ حد الزني كأشهر قولي الشَّافِعِي وإحدي الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَقَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَأكْثر فُقَهَاء الْحجاز وَأهل الحَدِيث يوجبون قَتلهمَا جَمِيعًا كمذهب مَالك وَظَاهر مَذْهَب أَحْمد وَزعم بعض الْفُقَهَاء أَن فجور الرجل بمملوكه شُبْهَة فِي دَرْء الْحَد وَهُوَ مُوجب للتعزير كَمَا هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ فِي وَطْء أمته الْمُحرمَة عَلَيْهِ برضاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 أَو محرمته وَأَيْضًا فالعقوبة بِالْقَتْلِ إِنَّمَا تكون فِي حق الْبَالِغ وَأما الصَّبِي وَأَمْثَاله فَيجوز قَتله إِذا قَاتل مَعَ الْكفَّار فَأَما بِمُجَرَّد فعله هُوَ بِنَفسِهِ فَلَا يقتل بل يُعَاقب بِمَا يزجره وَكَذَلِكَ النَّوْع الثَّانِي من الْحَلَال وَهُوَ ملك الْيَمين فَإِن الْمَرْأَة قد تملك الرجل وَالرجل قد يملك الصَّبِي وَقد يكون فِي هَذَا الْملك نوع من ملك الرجل الْأمة فَرُبمَا استمتعت الْمَرْأَة بمملوكها بمقدمات النِّكَاح أَو بِالنِّكَاحِ مضاهاة لاستمتاع الرجل بمملوكته وَرُبمَا تأولت الْقُرْآن على ذَلِك واعتقدت أَن ذَلِك دَاخل فِي قَوْله تَعَالَى أَو مَا ملكت أَيْمَانهم كَمَا رفع إِلَى عمر ابْن الْخطاب امْرَأَة تزوجت عَبدهَا وتأولت هَذِه الْآيَة فَفرق بَينهمَا وأدبه وَقَالَ وَيحك إِنَّمَا هَذِه للرِّجَال لَا للنِّسَاء وَكَذَلِكَ كثير من جهال التّرْك وَغَيرهم قد يملك من الذكران من يُحِبهُمْ ويستمتع بهم وَقد يتَأَوَّل بَعضهم على ذَلِك إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم وَمن الْمَعْلُوم أَن هَذَا كفر بِإِجْمَاع الْمُسلمين فالاعتقاد بِأَن الذكران حَلَال بِملك أَو غير ملك بَاطِل وَكفر بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَغَيرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 ثمَّ من هَؤُلَاءِ من يتَأَوَّل هَذِه الْآيَة وَمِنْهُم من يتَأَوَّل ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك وَلَا يفرق بَين المنكوح والناكح كَمَا سَأَلَني مرّة بعض النَّاس عَن هَذِه الْآيَة وَكَانَ مِمَّن يقْرَأ الْقُرْآن وَيطْلب الْعلم وَقد ظن أَن مَعْنَاهَا إِبَاحَة ذكران الْمُؤمنِينَ وَآخَرُونَ قد يجْتَمع بهم من يَقُول لَهُم إِن فِي هَذِه الْمَسْأَلَة خلافًا ويكذب أَئِمَّة الْمُسلمين الَّذين لَا تكون مذاهبهم ظَاهِرَة فِي بِلَاده مثل من يكون بِأَرْض الرّوم فيكذب على مَذْهَب مَالك وَيَقُول هُوَ مُبَاح فِي مَذْهَب مَالك وَمِنْهُم من يَقُول هَذَا مُبَاح للضَّرُورَة مثل أَن يبقي الرجل أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَى أَمْثَال هَذِه الْأُمُور الَّتِي خاطبني فِيهَا وسألني عَنْهَا طوائف من الْجند والعامة والفقراء وَكَانَ عِنْدهم من هَذِه الاعتقادات الْفَاسِدَة ألوان مُخْتَلفَة قد صدتهم عَن سَبِيل الله وَمِنْهُم من قد بلغه خلاف بعض الْعلمَاء فِي وجوب الْحَد فِي بعض الصُّور فيظن أَن ذَلِك خلاف فِي التَّحْرِيم فَرُبمَا قَالَ ذَلِك أَو اعتقده وَلَا يفرق بَين الْخلاف على الْحَد الْمُقدر وَالتَّحْرِيم وَأَن الشَّيْء قد يكون من أعظم الْمُحرمَات كَالدَّمِ وَالْميتَة وَلحم الْخِنْزِير وَلَيْسَ فِيهِ حد مُقَدّر ثمَّ ذَلِك الْخلاف قد يكون قولا ضَعِيفا فيتولد من ذَلِك القَوْل الضَّعِيف الَّذِي هُوَ خطأ بعض الْمُجْتَهدين وَهَذَا الظَّن الْفَاسِد الَّذِي هُوَ خطأ بعض الْجَاهِلين وَمن الْكَذِب الَّذِي هُوَ فِرْيَة بعض الظَّالِمين تَبْدِيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 الدَّين وَطَاعَة الشَّيَاطِين وَسخط رب الْعَالمين حَتَّى نقل أَن كثيرا من المماليك يتمدح بِأَنَّهُ لَا يعرف إِلَّا سَيّده كَمَا تتمدح الْأمة بِأَنَّهَا لَا تعرف إِلَّا سَيِّدهَا وَزوجهَا وَكَذَلِكَ كثير من المردان الْأَحْدَاث يتمدح بِأَنَّهُ لَا يعرف إِلَّا خدينه وَصديقه ومؤاخيه كَمَا تتمدح الْمَرْأَة بِأَنَّهَا لَا تعرف إِلَّا زَوجهَا وَكَذَلِكَ كثير من الزناة بالمماليك والأحداث من الصّبيان قد يتمدح بِأَنَّهُ عفيف عَمَّا سوي خدنه الَّذِي هُوَ قرينه كَالزَّوْجَةِ أَو عَمَّا سوي مَمْلُوكه الَّذِي هُوَ قرينه كَمَا يتمدح الْمُؤمن بِأَنَّهُ عفيف إِلَّا عَن زَوجته أَو مَا ملكت يَمِينه وَلَا ريب أَن الْكفْر والفسوق والعصيان دَرَجَات كَمَا أَن الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح دَرَجَات هم دَرَجَات عِنْد الله وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ وَقد قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر وَقَالَ تَعَالَى فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وَقَالَ تَعَالَى فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم كَمَا قَالَ تَعَالَى يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت وَقَالَ وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يفرحون بِمَا أنزل فالمتخذ خدنا من الرجل وَالنِّسَاء أقل شرا من المسافح لِأَن الْفساد فِي ذَلِك أقل والمستخفي بِمَا يَأْتِيهِ أقل إِثْمًا من المجاهر المستعلن كَمَا فِي الحَدِيث عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 النَّبِي أَنه قَالَ من ابْتُلِيَ من هَذِه القاذورات بِشَيْء فليستتر بستر الله فَإِنَّهُ من يبد لنا صفحته نقم عَلَيْهِ كتاب الله وَقد قَالَ من ستر مُسلما ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَفِي الحَدِيث إِن الْخَطِيئَة إِذا أخفيت لم تضر إِلَّا صَاحبهَا وَلَكِن إِذا أعلنت فَلم تنكر ضرت الْجَمَاعَة وَفِي الحَدِيث عَن النَّبِي أَنه قَالَ كل أمتِي معافى إِلَّا المجاهرين وَإِن من المجاهرة أَن يبيت الرجل على الذَّنب وَقد ستره الله فَيُصْبِح فيتحدث بِذَنبِهِ وَيَقُول يَا فلَان فعلت اللَّيْلَة كَيْت وَكَيْت أَو كَمَا قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 فالإقلال والاستخفاء خير من هَذِه الْوُجُوه وَلَكِن قد يقْتَرن بهَا مَا يكون أعظم من بعض المسافحة والمجاهرة وَهِي الْمحبَّة والتعظيم الَّتِي توجب محبَّة مَا يُحِبهُ الخدن وتعظيم مَا يعظمه وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه والاستسرار بذلك والنفاق فِيهِ فقد تكون فِي هَذِه الْمُوَالَاة والمعاداة والنفاق من الْعدوان وَالضَّرَر على الْمُسلمين أعظم مِمَّا فِي المجاهرة والمسافحة وَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة الْكَافِر الْمُعْلن كفره وَهَذَا بِمَنْزِلَة الْمُنَافِق فَأَما إِذا لم يكن عدوان على النَّاس وتضييع لحقوقهم لانْتِفَاء الْمحبَّة أَو لغير ذَلِك فَالْأول أَخبث وأفحش وتفاوت الشرور فِي الْقدر وَالصّفة كثير كَمَا يتفاضل الْخَيْر أَيْضا فِي الْقدر وَالْوَصْف وَالْوَاجِب اسْتِعْمَال الْكتاب وَالسّنة فِي جَمِيع الْأُمُور وَلَا ريب أَن هَذِه المخادنة وَملك الْيَمين وَنَحْو ذَلِك مِمَّا فِيهِ اشْتِرَاك فِي محرم مضاد للْحَلَال لَا بُد أَن يتَضَمَّن من الْمُبَاح مَا يصير فِيهِ من الشّبَه بالحلال وَمن التَّمْيِيز عَن الْحَرَام مَا يكون فِيهِ رواج لَهُ إِذْ الْحَرَام الْمَحْض الْمَحْض من كل وَجه لَا يشْتَبه بالحلال الْمَحْض من كل وَجه بل بقتني الرجل الْمَمْلُوك لنَوْع من الِاسْتِخْدَام وَيضم إِلَى ذَلِك الِاسْتِمْتَاع وَقد يكون هَذَا أغلب فِي نَفسه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الآخر وَقد يكون بِالْعَكْسِ وَذَلِكَ الِاسْتِخْدَام قد يكون مُبَاحا فِي الشَّرِيعَة وَقد يكون فِيهِ نوع من الظُّلم والعدوان إِمَّا باسترقاق الْأَحْرَار وَإِمَّا باشتراء المماليك لنَفسِهِ بِالْمَالِ الْمَغْصُوب من بَيت المَال أَو غَيره وَإِمَّا فِي استخدامهم على وَجه الْكِبْرِيَاء والعلو فِي الأَرْض بإذلاله لَهُم فِي غير طَاعَة الله وإذلال النَّاس بهم فِي غير طَاعَة الله إِلَى أَمْثَال ذَلِك من الْوُجُوه الَّتِي يكون فِيهَا من الظُّلم والعدوان أُمُور عَظِيمَة وينضم إِلَى ذَلِك الْفَاحِشَة وَكَذَلِكَ فِي المخادنة الَّتِي صورتهَا مؤاخاة قد تكون لأجل الِاسْتِئْجَار لصناعة وَنَحْوهَا وَقد تكون لتعلم صناعَة أَو كِتَابَة أَو قِرَاءَة أَو علم أَو تَأْدِيب وتنوير وَغير ذَلِك من الْأُمُور الْمُبَاحَة والمستحبة والواجبة فِي الدَّين وَقد تكون لكفالة وتربية إِمَّا ليتم ذَلِك الصَّبِي أَو غربته أَو لقرابة بَينهمَا أَو غير ذَلِك وَقد يكون اشتراكا مَحْضا فِي صناعَة أَو تِجَارَة أَو بِحمْل مَال أَو مجاورة وصلَة أَو تعلم أَو تأدب أَو غير ذَلِك مِمَّا يشْتَرك النَّاس فِيهِ لغير فَاحِشَة بشركة مُبَاحَة أَو مَأْمُور بهَا أَو مَنْهِيّ عَنْهَا وَيكون بَينهم فِي ذَلِك من التعاقد والتحالف مَا يكون بَين المشتركين فِي الْأُمُور وَقد يُسَمِّي ذَلِك صديقا ورفيقا وَسمي بالتركية خوشداشا وَغير ذَلِك وَهُوَ من قسم التَّحَالُف فَيكون بَين المشتركين فِي الْحَلَال وَالْحرَام من الْمُعَاوضَة والمشاركة إِمَّا على غير فَاحِشَة وَإِمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 مُعَاوضَة بِتِلْكَ فَتكون شُبْهَة مَعَ الشَّهْوَة فغالب وُقُوع الْمُحرمَات من هَذَا الْبَاب وَقد لبس فبه الْحق بِالْبَاطِلِ وأشرك فِيهِ الْحق بِالْبَاطِلِ موقف الْمُؤمن من الشرور والخيرات وَمَا يجب عَلَيْهِ حيالها وَالْمُؤمن يَنْبَغِي لَهُ أَن يعرف الشرور الْوَاقِعَة ومراتبها فِي الْكتاب وَالسّنة كَمَا يعرف الْخيرَات الْوَاقِعَة ومراتبها فِي الْكتاب وَالسّنة فَيُفَرق بَين أَحْكَام الْأُمُور الْوَاقِعَة الكائنة وَالَّتِي يُرَاد إيقاعها فِي الْكتاب وَالسّنة ليقدم مَا هُوَ أَكثر خيرا وَأَقل شرا على مَا هُوَ دونه وَيدْفَع أعظم الشرين بِاحْتِمَال أدناهما ويجتلب أعظم الخيرين بِفَوَات أدناهما فَإِن من لم يعرف الْوَاقِع فِي الْخلق وَالْوَاجِب فِي الدَّين لم يعرف أَحْكَام الله فِي عباده وَإِذا لم يعرف ذَلِك كَانَ قَوْله وَعَمله بِجَهْل وَمن عبد الله بِغَيْر علم كَانَ مَا يفْسد أَكثر مِمَّا يصلح وَإِذا عرف ذَلِك فَلَا بُد أَن يقْتَرن بِعِلْمِهِ الْعَمَل الَّذِي أَصله محبته لما يُحِبهُ الله وَرَسُوله وبغضه لما يبغضه الله وَرَسُوله وَمَا اجْتمع فِيهِ الحبيب والبغيض الْمَأْمُور بِهِ والمنهي عَنهُ أَو الْحَلَال والمحظور أعطي كل ذِي حق حَقه ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ فَإِن الله بذلك أنزل الْكتاب وَأرْسل الرُّسُل فالعلم بِالْعَدْلِ قبل فعل الْعدْل فَإِذا علم وَأحب كَانَ من تَمَامه الْجِهَاد عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد وَمَنَافع للنَّاس وَالْعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 هُوَ طَرِيق إِلَى الْعَمَل وَسبب كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى وَآتَيْنَاهُ من كل شَيْء سَببا أَي علما فالعلم بِالْخَيرِ سَبَب إِلَى فعله وَالْعلم بِالشَّرِّ سَبَب إِلَى مَنعه هَذَا مَعَ حسن النِّيَّة وَإِلَّا فَالنَّفْس الأمارة بالسوء قد يكون علمهَا بالسوء سَبَب لفعله وبالخير سَبَب لمَنعه وَكَذَلِكَ الْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق مثل الْخمر الَّذِي اتخذ مِنْهُ أَنْوَاع من المسكرات وَقيل إِنَّهَا حَلَال وَسميت بِغَيْر أَسمَاء الْخمر وَهِي من الْخمر وَكَذَلِكَ ظلم الْعباد فِي النُّفُوس وَالْأَمْوَال والأعراض فِيهِ مَا قد سمي حَقًا وعدلا وَشرعا وسياسة وجهادا فِي سَبِيل الله وَهُوَ من الْكفْر والفسوق والعصيان مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله وَكَذَلِكَ الْإِشْرَاك بِاللَّه بِغَيْر حق وَالْقَوْل بِمَا لَا يعلم مثل أَنْوَاع الغلو فِي الدَّين واتخاذ الْعلمَاء والعباد أَرْبَابًا من دون الله وَالْقَوْل بِتَحْرِيم الْحَلَال وَتَحْلِيل الْحَرَام وأنواع الْإِشْرَاك بالمخلوقات عبَادَة لَهَا واستعانة بهَا وغلوا فِيهَا وقولا على الله فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وَأَحْكَامه مَا قد دخل فِي ذَلِك من الْبَاطِل الَّذِي سمي بأسماء محمودة أَو غير مذمومة كالعبادة والزهادة وَالتَّحْقِيق وأصول الدَّين وَالْفِقْه وَالْعلم والتوحيد وَالْكَلَام والفقر والتصوف مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يعرف أَن كل تَبْدِيل يَقع فِي الْأَدْيَان بل كل اجْتِمَاع فِي الْعَالم لَا بُد فِيهِ من التَّحَالُف وَهُوَ الِاتِّفَاق والتعاقد على ذَلِك من اثْنَيْنِ فَصَاعِدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 بَنو آدم لَا يُمكن عيشهم إِلَّا بالتعاقد والتحالف فَأن بني آدم لَا يُمكن عيشهم إِلَّا بِمَا يشتركون فِيهِ من جلب منفعتهم وَدفع مضرتهم فاتفاقهم على ذَلِك هُوَ التعاقد والتحالف وَلِهَذَا كَانَ الْوَفَاء بالعهود من الْأُمُور الَّتِي اتّفق أهل الأَرْض على إِيجَابهَا لبَعْضهِم على بعض وَإِن كَانَ مِنْهُم الْقَادِر الَّذِي لَا يُوفي بذلك كَمَا اتَّفقُوا فِي إِيجَاب الْعدْل والصدق فَإِذا اتَّفقُوا وتعاقدوا على اجتلاب الْأَمر الَّذِي يحبونه وَدفع الْأَمر الَّذِي يكرهونه أعَان بَعضهم بَعْضًا على اجتلاب المحبوب وَنصر بَعضهم بَعْضًا على دفع الْمَكْرُوه وَلَو لم يتعاقدوا بالْكلَام فَنَفْس اشتراكهم فِي أَمر يُوجب عَلَيْهِم اجتلاب مَا يصلح ذَلِك الْأَمر الْمُشْتَرك وَدفع مَا يضرّهُ كَأَهل النّسَب الْوَاحِد وَأهل الْبَلَد الْوَاحِد فَإِن التناسب والتجاور يُوجب التعاون على جلب الْمَنْفَعَة الْمُشْتَركَة وَدفع الضَّرَر الْمُشْتَرك فَصَارَ الِاشْتِرَاك بَينهم تَارَة يثبت بفعلهم وَهُوَ التعاقد على مَا فِيهِ خَيرهمْ وَتارَة يثبت بِفعل الله تَعَالَى وَقد جمع الله عز وجلّ هذَيْن الْأَصْلَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام وَذكر فِي هَذِه السُّورَة الْأُمُور الَّتِي بَينهم من جِهَة الْخلق وَهِي من جِهَة الْعُقُود كَمَا قَالَ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء بشرا فَجعله نسبا وصهرا وَقَالَ تَعَالَى الَّذين يُوفونَ بِعَهْد الله وَلَا ينقضون الْمِيثَاق وَالَّذين يصلونَ مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 وَقَالَ تَعَالَى وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين الَّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل وَإِذا كَانَ لَا بُد فِي كل مَا يشتركون فِيهِ من تحالف وَغير تحالف من التعاون على جلب المحبوب والتناصر لدفع الْمَكْرُوه فالمحبوب هُوَ الموَالِي وَالْمَكْرُوه هُوَ المعادي فَلَا بُد لكل بني آدم من ولَايَة وعداوة وَلِهَذَا جَمِيعهم يتمادحون بالشجاعة والسماحة فَإِن السماحة إِعَانَة على وجود المحبوب بالأموال وَالْمَنَافِع وَغير ذَلِك والشجاعة نصر لدفع الْمَكْرُوه بِالْقِتَالِ وَغَيره وَلَا قوام لشَيْء من أُمُور بني آدم إِلَّا بذلك ومبني ذَلِك بَينهم على الْعدْل فِي المشاركات والمعاوضات فَظهر أَن جَمِيع أُمُور بني آدم لَا بُد فِيهَا من تعاون بَينهم وَدفع وَمنع لغَيرهم فَلَا بُد لَهُم من عقد وقدرة وَالْعقد أَصله الْإِرَادَة كَمَا قَالَ تَعَالَى وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ أى يتعاهدون ويتعاقدون وَالْقُدْرَة الْقُدْرَة وَمَعْلُوم أَنه لَا بُد فِي كل فعل من إِرَادَة وقدرة والمشتركون لَا بُد من اتِّفَاقهم فِي إِرَادَة وَفِي قدرَة فَالَّذِي يَنَالهُ بَعضهم من جلب مَحْبُوب وَدفع مَكْرُوه من بعض هُوَ بالإرادة والطوع وَالَّذِي ينالونه من غَيرهم من جلب مَحْبُوب وَدفع مَكْرُوه وَهُوَ بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك الْعَدو الْمَكْرُوه مِنْهُ كَمَا أَن الْوَطْء بِملك النِّكَاح الَّذِي هُوَ عقد أَصله الْإِرَادَة والطوع وبملك الْيَمين الَّذِي هُوَ قهر بِالْقُدْرَةِ على سَبِيل الكره واشتراكهم فِي الجلب وَالدَّفْع إِمَّا أَن يكون تبعا لتعاقدهم وَإِمَّا أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 يكون بِأَمْر آمُر مُطَاع فيهم فَالْأول هُوَ التَّحَالُف وَالثَّانِي مَا يطاع بِغَيْر تحالف سَوَاء كَانَت طَاعَته بِحَق أَو بِغَيْر حق فَالَّذِي بِحَق مَا أَمر الله بِطَاعَتِهِ من أنبياءه وأولي الْأَمر من الْمُؤمنِينَ وَطَاعَة الْوَالِدين وَنَحْو ذَلِك وَمَا يُجَاب بِهِ بَعضهم إِلَى مُرَاد بعض بِحَق فَإِن ذَلِك هُوَ معنى الطَّاعَة إِذْ الْمَقْصُود بهَا مُوَافقَة الْمَطْلُوب وَأما بِغَيْر حق فكطاعة الطواغيت وَهُوَ كل مَا عظم بباطل التَّحَالُف يكون وفقا الشَّرِيعَة منزلَة أَو شَرِيعَة غير منزلَة أَو سياسة وكل قوم لَا تجمعهم طَاعَة مُطَاع فِي جَمِيع أُمُورهم فَلَا بُد لَهُم من التعاقد والتحالف فِيمَا لم يَأْمُرهُم بِهِ المطاع وَلِهَذَا كَانَت الشَّرِيعَة الْمنزلَة من عِنْد الله الْأَفْعَال فِيهَا الَّتِي تجب لله وَتجب لبَعض النَّاس على بعض تَارَة تجب بِإِيجَاب الله وَتارَة تجب بِالْعقدِ كالنذر وكعقود المفاوضات والمشاركات فَلَا وَاجِب فِي الشَّرِيعَة إِلَّا بشرع أَو عقد وَإِذا لم يَكُونُوا على شَرِيعَة منزلَة من عِنْد الله فإمَّا أَن يَكُونُوا على شَرِيعَة غير منزلَة أَو سياسة وَضعهَا بعض المعظمين فيهم بِنَوْع قدرَة وَعلم وَنَحْو ذَلِك وَمَا بقدرة من هَذِه الْأُمُور الجامعة أوجب التَّحَالُف بَينهم فَإِنَّهُ لَا يَنْتَظِم لَهُم أَمر إِلَّا بِطَاعَة آمُر متحالفون عَلَيْهِ أَو يَأْمُرهُم بِهِ من يطيعونه وَلِهَذَا أنكر التَّحَالُف فِي الْأُمَم الْخَارِجَة عَن الشَّرِيعَة وَفِي الخارجين عَنْهَا وَفِي الْأُمُور الَّتِي لَا ترد إِلَى الشَّرِيعَة وَإِنَّمَا يظْهر ذَلِك حَيْثُ تدرس آثَار النُّبُوَّة المطاعة فيتحالف قوم على طَاعَة ملك أَو شيخ أَو طَاعَة بَعضهم لبَعض فِي أُمُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 يتفقون عَلَيْهَا ويتحالفون كَمَا كَانَ الْعَرَب فِي جاهليتهم يتحالفون وَمِنْه الحليف الَّذِي يكون فِي الْقَبِيلَة فَيصير مِنْهُم قَالَ الله تَعَالَى وَالَّذين عقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم إِن الله كَانَ على كل شَيْء شَهِيدا وَقَالَ تَعَالَى وأوفوا بِعَهْد الله إِذا عاهدتم وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها وَقد جعلتم الله عَلَيْكُم كَفِيلا إِن الله يعلم مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم أَن تكون أمة هِيَ أربي من أمة إِنَّمَا يبلوكم الله بِهِ وليبينن لكم يَوْم الْقِيَامَة مَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون وَكَذَلِكَ مَا يُوجد من التَّحَالُف بالتآخي وَغير التآخي للملوك والمشايخ وَأهل الفتوة ورماة البندق وَسَائِر المتفقين على بعض الْأُمُور هُوَ دَاخل فِي هَذَا وأيمان التعاقد والتحالف عَام لبني آدم وهم فِي جاهليتهم تَارَة يتحالفون تحَالفا يُحِبهُ الله كَمَا قَالَ النَّبِي لقد شهِدت حلفا مَعَ عمومتي فِي دَار عبد الله بن جدعَان مَا يسرني بِمثلِهِ حمر النعم أَو قَالَ مَا يسرني حمر النعم وَأَن أنقضه وَلَو دعيت إِلَى مثله فِي الْإِسْلَام لَأَجَبْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وفى مثل هَذَا مَا رَوَاهُ مُسلم عَن جُبَير بن مطعم عَن النبى أَنه قَالَ لَا حلف فى الْإِسْلَام وَمَا كَانَ من حلف فِي الْجَاهِلِيَّة فَلم يزده الْإِسْلَام إِلَّا شدَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وَهَذَا الْحلف يُسَمِّي حلف المطيبين كَانَ يقدم إِلَى مَكَّة من يَظْلمه بعض أكابرها فيستصرخ فَلَا ينصره أحد حَتَّى أنْشد بعض القادمين يَا آل مَكَّة مظلوم بضاعته ... بِبَطن مَكَّة بَين الرُّكْن وَالْحجر وَكَانَ عبد الله بن جدعَان من خيارهم فاجتمعت قبائل من قُرَيْش فِي بَيته على التَّحَالُف للتعاون على الْعدْل وَنصر الْمَظْلُوم وَوَضَعُوا أَيْديهم فِي قَصْعَة فِيهَا طيب فَسمى حلف المطيبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 فَأَما إِذا كَانَ القَوْل على الشَّرِيعَة الَّتِى بعث الله بهَا رَسُوله فى دينهم ودنياهم فَإِن ذَلِك يغنيهم عَن التَّحَالُف إِلَّا عَلَيْهَا فعلَيْهَا يكون تحالفهم وتعاقدهم وتعاونهم وتناصرهم كَمَا وصف الله بِهِ المحبين المحبوبين فِي قَوْله تَعَالَى فَسَوف يأتى الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم وعَلى ذَلِك يُبَايع المطاعون فيهم من الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء وَغَيرهم كَمَا قَالَ أَبُو بكر الصّديق فِي خطبَته للْمُسلمين أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت الله وَرَسُوله فَإِذا عصيت الله وَرَسُوله فَلَا طَاعَة لى عَلَيْكُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وَبِذَلِك أَمر الله وَرَسُوله فِي طَاعَة أولى الْأَمر فَقَالَ النبى على الْمَرْء الْمُسلم السّمع وَالطَّاعَة فِي عسره ويسره ومنشطه ومكرهه مَا لم يُؤمر بِمَعْصِيَة الله فَإِذا أَمر بِمَعْصِيَة الله فَلَا سمع وَلَا طَاعَة وَقَالَ النبى إِنَّمَا الطَّاعَة فِي الْمَعْرُوف ولَا طَاعَة لمخلوق فى مَعْصِيّة الْخَالِق وفى الصَّحِيح أَن عبد الله بن عمر كتب بيعَته إِلَى عبد الْملك بن مَرْوَان لما اجْتمع النَّاس عَلَيْهِ لعبد الله عبد الْملك أَمِير الْمُؤمنِينَ إنى قد أَقرَرت لَك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة على سنة الله وَسنة رَسُوله فِيمَا اسْتَطَعْت وَقد أقرّ بنى لما أَقرَرت بِهِ فَأخْبرهُ أَنه يعاقده على مَا أَمر الله بِهِ من الطَّاعَة لَهُ فِي طَاعَة الله بِحَسب قدرته وَهَذَا وَاجِب عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 فَهُوَ تعاقد على مَا أَمر الله بِمَنْزِلَة نفس الدُّخُول فى الْإِسْلَام وبيعة النبى كَمَا بَايعه الْأَنْصَار وكما بَايعه الْمُسلمُونَ تَحت الشَّجَرَة وكما كَانَ يُبَايع الْمُسلمين على السّمع وَالطَّاعَة ويلقنهم فِيمَا اسْتَطَعْتُم وَطَاعَة الرَّسُول وَاجِبَة على الْخلق بِإِيجَاب الله بمعاقدتهم على ذَلِك معاقدة على طَاعَة الله كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه قَالَ أأقررتم وأخذتم على ذَلِكُم إصرى قَالُوا أقررنا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعكُمْ من الشَّاهِدين لَكِن هَذَا إِنَّمَا كَانَ ظَاهرا فى أَيَّام الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وبعدهم كثرت الْعُقُود الْمُوَافقَة للشريعة تَارَة والمخالفة لَهَا أخري فَلَا جرم كَانَ الحكم الْعَام فِي جَمِيع هَذِه الْعُقُود أَنه يجب الْوَفَاء فِيهَا بِمَا كَانَ طَاعَة لله وَلَا يجوز الْوَفَاء فِيهَا بِمَا كَانَ مَعْصِيّة لله كَمَا قَالَ النَّبِي فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مَا بَال أَقوام يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله مَا كَانَ من شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل وَإِن كَانَ مائَة شَرط كتاب الله أَحَق وَشرط الله أوثق وَقَالَ من نذر أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يعْصى الله فَلَا يَعْصِهِ وَفِي السّنَن الْمُسلمُونَ على شرطهم إِلَّا شرطا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا فَأَما أَمر الدَّين وَمَا يُحِبهُ الله وَيقرب إِلَيْهِ فَلَيْسَ لعقود بنى آدم فِيهِ أثر بل الْمرجع فِي ذَلِك إِلَى أَمر الله وَرَسُوله فَلَا دين إِلَّا مَا أَمر الله بِهِ وَمن اتبع فِي ذَلِك عُقُود بنى آدم فهم الَّذين اتبعُوا شركاءهم الَّذين شرعوا لَهُم من الدَّين مَا لم يَأْذَن الله بِهِ وَهَذِه حَال جَمِيع مَا ابتدع من الدَّين فَإِن الَّذِي ابتدعه وَافقه عَلَيْهِ غَيره وحالفه فاتخذوه دينا فتدين هَذَا فِيهِ يظْهر حَال جَمِيع أهل الْبدع الْمُخَالفَة للْكتاب وَالسّنة وَأَن الْمُوَافقَة عَلَيْهَا هى من هَذَا الْبَاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وَأكْثر مَا ينْفق بَين الْمُسلمين مَا فِيهِ حق وباطل إِذْ الْبَاطِل الْمَحْض لَا يبْقى بَينهم وَذَلِكَ يتَضَمَّن التَّحَالُف على غير مَا أَمر الله بِهِ والتبديل لدين الله بِمَا لبس من الْحق بِالْبَاطِلِ وَهَذِه حَال الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر أهل الضلال فَإِنَّهُم عدلوا عَمَّا أَمرهم الله باتباعه فلبسوه بباطل ابتدعوه بدلُوا بِهِ دين الله وتحالفوا على ذَلِك الذى ابتدعوه وَأما الْمُعَامَلَات فِي الدُّنْيَا فَالْأَصْل فِيهَا أَنه لَا يحرم مِنْهَا إِلَّا مَا حرمه الله وَرَسُوله فَلَا حرَام إِلَّا مَا حرم الله وَلَا دين إِلَّا مَا شَرعه وَإِذا لم يحرم إِلَّا مَا حرمه الله وَرَسُوله فَكَأَن مَا كَانَ بدله بِدُونِ التعاقد يجب بالتعاقد فَإِن العقد يُوجب على كل وَاحِد من المتعاوضين والمتشاركين مَا أوجبه الآخر على نَفسه لَهُ الْمُسلمُونَ على شروطهم إِلَّا شرطا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي الْمُسلمُونَ على شروطهم إِلَّا شرطا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا وَهَذَا الْموضع كثر فِيهِ غلط كثير من الْفُقَهَاء بِتَحْرِيم عُقُود وشروط لم يحرمها الله كَمَا كثر فى الأول غلط كثير من الْعباد وَالْعُلَمَاء بابتداع دين لم يشرعه الله وإيجابه بالتعاقد عَلَيْهِ حَتَّى يوجبون طَاعَة شخص معِين ميت أَو حى من الْعلمَاء فِي كل شئ ويحرمون طَاعَة غَيره فِي كل شئ نازعه فِيهِ لمُجَرّد عقد العامى الَّذِي انتسب إِلَى هَذَا دون هَذَا وَكَذَلِكَ فِي الْمَشَايِخ حَتَّى قد يأمرونه بمخالفه مَا تبين لَهُ من الشَّرِيعَة لأجل العقد الذى الْتَزمهُ للْمَذْهَب والطريقة فيشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله ويأمرون بِطَاعَة الْمَخْلُوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق وَأكْثر ذَلِك يدْخلهُ نوع من الِاجْتِهَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 الظَّاهِر الَّذِي فِيهِ نوع من اتِّبَاع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى وَالْوَاجِب فِي جَمِيع هَذِه الْأُمُور أَن مَا يتَبَيَّن أَنه طَاعَة لله وَرَسُوله وَجب اتِّبَاعه وَمَا اشْتبهَ على الْإِنْسَان حَاله سلك فِيهِ مَسْلَك الِاجْتِهَاد بِحَسب قدرته وَلَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا واجتهاد الْعَامَّة هُوَ طَلَبهمْ للْعلم من الْعلمَاء بالسؤال والاستفتاء بِحَسب إمكانهم فَإِذا كَانَ جَمِيع مَا عَلَيْهِ بَنو آدم لابد فِيهِ من تعاون وتناصر وَفِيه مَا هُوَ شرك بِاللَّه وَفِيه مَا هُوَ قَول على الله بِغَيْر علم وَفِيه مَا هُوَ إِثْم وبغى وَفِيه مَا هُوَ من الْفَوَاحِش علم أَنه لابد فِي الْإِيمَان من التعاون والتناصر على فعل مَا يُحِبهُ الله تَعَالَى وَدفع مَا يبغضه الله تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْجِهَاد فِي سَبيله وَأَن أَمر الْإِيمَان لَا يتم بِدُونِ ذَلِك كَمَا لَا يتم غير الْإِيمَان إِلَّا بِمَا هُوَ من نوع ذَلِك فَكل المتعاونين المتناصرين يجاهدون وَلَكِن فِي سَبِيل الله تَارَة وَفِي سَبِيل غير الله تَارَة وَلَا صَلَاح لبنى آدم إِلَّا بِأَن يكون الدَّين كُله لله وَتَكون كلمة الله هى الْعليا قَالَ تَعَالَى وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدَّين كُله لله وَهَؤُلَاء الَّذين توَلّوا الله فتولاهم الله وَالَّذين يدينون لغير الله هم ظَالِمُونَ بتولى بَعضهم بَعْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالله ولى الْمُتَّقِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 وَلَا يتم لمُؤْمِن ذَلِك إِلَّا بِأَن يجمع بَين مَا جمع الله بَينه وَيفرق بَين مَا فرق الله بَينه وَهَذِه حَقِيقَة الْمُوَالَاة والمعاداة الَّتِي مبناها على الْمحبَّة والبغضة فالموالاة تقتضى التحاب وَالْجمع والمعاداة تقتضى التباغض والتفرق وَالله سُبْحَانَهُ قد ذكر الْمُوَالَاة وَالْجمع بَين الْمُؤمنِينَ فقولة تَعَالَى إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ وَذكر الْعَدَاوَة بَينهم وَبَين الْكفَّار فَقَالَ يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدى الْقَوْم الظَّالِمين ثمَّ ذكر حَال المستنصرين بهم فَإِن الْمُوَالَاة مُوجبهَا التعاون والتناصر فَلَا يفرق بَين الْمُؤمنِينَ لأجل مَا يتَمَيَّز بِهِ بَعضهم عَن بعض مثل الْأَنْسَاب والبلدان والتحالف على الْمذَاهب والطرائق والمسالك والصداقات وَغير ذَلِك بل يعْطى كل من ذَلِك حَقه كَمَا أَمر الله وَرَسُوله وَلَا يجمع بَينهم وَبَين الْكفَّار الَّذين قطع الله الْمُوَالَاة بَينهم وَبَينه فَإِن دين الله هُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا وَالله سُبْحَانَهُ أرسل رسله بِالْبَيِّنَاتِ وَأنزل مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ فَيحْتَاج الْمُؤمن إِلَى معرفَة الْعدْل وَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَإِلَى الْعَمَل بِهِ وَإِلَّا وَقع إِمَّا فِي جهل وَإِمَّا فِي ظلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وَذَلِكَ إِنَّمَا وَقع من التبديل والعقود الْفَاسِدَة كَمَا ذكرنَا من لبس الْحق بِالْبَاطِلِ حَيْثُ صَارَت الْمُحرمَات من الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق والإشراك بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَالْقَوْل على الله بِغَيْر علم قد لبس بهَا من الْحق الْمَأْذُون فِيهِ مَا صَارَت بِسَبَبِهِ شَبيهَة للحق الْحسن وَإِن كَانَت مُشْتَمِلَة مَعَ ذَلِك على الْبَاطِل السَّيئ وَإِن صَار أَصْحَابهَا بَين عمل صَالح وَآخر سيئ فقوم يُنكرُونَ ذَلِك كُله لما علمُوا فِيهِ من الْمُنكر البغيض وأقوام يقرونَ ذَلِك كُله لما فِيهِ من المحبوب وَهَذِه الْقَاعِدَة قد ذَكرنَاهَا غير مرّة وَهِي اجْتِمَاع الْحَسَنَات والسيئات وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي حق الشَّخْص الْوَاحِد كَمَا عَلَيْهِ أهل جمَاعَة الْمُسلمين من جَمِيع الطوائف إِلَّا من شَذَّ عَنْهُم من الْخَوَارِج والوعيدية من الْمُعْتَزلَة وَنَحْوهم وغالب المرجئة فَإِن هَؤُلَاءِ لَيْسَ للشَّخْص عِنْدهم إِلَّا أَن يُثَاب أَو يُعَاقب مَحْمُود من كل وَجه أَو مَذْمُوم من كل وَجه وَقد بَينا فَسَاد هَذَا فِي غير هَذَا الْموضع بدلائل كَثِيرَة من الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة وَذكرنَا أَيْضا الْكَلَام فِي الْفِعْل الْوَاحِد نوعا وشخصا وَالْغَرَض هُنَا أَن هَؤُلَاءِ الَّذين لبسوا الْحق وَالْبَاطِل حصل فِي مقابلتهم من أعرض عَن الْحق وَالْبَاطِل جَمِيعًا فَصَارَ هَؤُلَاءِ مذمومين على فعل السَّيِّئَات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 محمودين على فعل الْحَسَنَات وَأُولَئِكَ يذمون على ترك الْحَسَنَات الْوَاجِبَات ويمدحون على مَا قصدُوا تَركه لله من السَّيِّئَات وَسبب ذَلِك أَن الْإِنْسَان فِيهِ ظلم وَجَهل فَإِذا غلب عَلَيْهِ رأى أَو خلق اسْتَعْملهُ فِي الْحق وَالْبَاطِل جَمِيعًا لم يحفظ حُدُود الله وَلِهَذَا يَأْمر الله بِحِفْظ حُدُوده مِثَال ذَلِك أَن من النَّاس من يكون فِي خلقه سماحة ولين ومحبة فيسمح بمحبته وبتعظيمه ونفعه وَمَاله لِلْحسنِ الَّذِي يُحِبهُ الله وَيَأْمُر بِهِ كمحبة الله وَرَسُوله وأوليائه الْمُؤمنِينَ والإنفاق فِي سَبيله وَنَحْو ذَلِك ويسمح أَيْضا بمحبة الْفَوَاحِش والإنفاق فِيهَا فتجده يحب الْحق وَالْبَاطِل جَمِيعًا وَيصدق بهما ويعين عَلَيْهِمَا وَمِنْهُم من يكون فِي خلقه قُوَّة فَيمْتَنع من فعل الْفَوَاحِش ويبغضها وَيمْتَنع مَعَ ذَلِك من محبَّة نفع النَّاس وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم والحلم عَن سيئاتهم فتجده يبغض الْحق وَالْبَاطِل جَمِيعًا ويكذب بهما وَلَا يعين على وَاحِد مِنْهُمَا بل رُبمَا صد عَنْهُمَا وَذَلِكَ لِأَن النَّفس أَمارَة بالسوء والشيطان يزين للمرء سوء عمله فيراه حسنا وَهُوَ مُتبع هَواهَا وَمَا فِيهَا من الْعلم وَالْإِيمَان يَدعُوهُ إِلَى الْخَيْر حَتَّى تذْهب الْحَسَنَات بالسيئات وَإِنَّمَا يفعل من الْحَسَنَات مَا أَقبلت عَلَيْهِ إِرَادَته ومحبته دون مَا أبغضته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وَفِي الْإِنْسَان قوتان قُوَّة الْحبّ وَقُوَّة البغض وَإِنَّمَا خلق ذَلِك فِيهِ لَيُحِب الْحق الَّذِي يُحِبهُ الله وَيبغض الْبَاطِل الَّذِي يبغضه الله وَهَؤُلَاء هم الَّذين يُحِبهُمْ الله وَيُحِبُّونَهُ وَالنَّفس تميل إِلَى الْإِشْرَاك بِحَسب الْإِمْكَان فَإِذا غلب على النُّفُوس قُوَّة الْمحبَّة لما يُنَاسِبهَا فأحبت الْحق فقد تنجذب بِسَبَب ذَلِك إِلَى محبَّة مَا يقارنه من الْبَاطِل وَمن هُنَا مَال كثير من النساك إِلَى محبَّة الْأَصْوَات والصور وَغير ذَلِك بِسَبَب مَا فيهم من الْمحبَّة الَّتِي فِيهَا مَا هُوَ لله لَكِن لبسوا فِيهَا الْحق بِالْبَاطِلِ وَكَذَلِكَ قد يكون الشَّخْص بالمحبة يمِيل إِلَى شهوات الغي فِي بَطْنه وفرجه وإنفاق الْأَمْوَال فِيهَا ثمَّ إِنَّه بِسَبَب مَا فِيهِ من الْحبّ وَالدّين يحب الْحق وَأَهله ويعظمهم فتجد كثيرا من أهل الشَّهَوَات وَفِيهِمْ من الْمحبَّة لله وَرَسُوله مَا لَا يُوجد فِي كثير من النساك كَمَا قَالَ النَّبِي فِي خمار الَّذِي كَانَ يشرب الْخمر كثيرا لَا تلعنه فَإِنَّهُ يحب الله وَرَسُوله والْحَدِيث فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَغَيره فصل الْمَقْصُود الأول من كل عمل هُوَ التنعم واللذة وَإِذا كَانَ كل عمل أَصله الْمحبَّة والإرادة وَالْمَقْصُود مِنْهُ التنعم بالمراد المحبوب فَكل حى إِنَّمَا يعْمل لما فِيهِ تنعمه ولذته فالتنعم هُوَ الْمَقْصُود الأول من كل قصد كَمَا أَن التعذب والتألم هُوَ الْمَكْرُوه أَولا وَهُوَ سَبَب كل بغض وكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 حَرَكَة امْتنَاع لَكِن وَقع الْجَهْل وَالظُّلم فِي بنى آدم فعمدوا إِلَى الدَّين الْفَاسِد وَالدُّنْيَا الْفَاجِرَة طلبُوا بهما النَّعيم وَفِي الْحَقِيقَة فَإِنَّمَا فيهمَا ضِدّه وَبَيَان ذَلِك أَن الْأَعْمَال الَّتِي يعملها جَمِيع بني آدم إِمَّا أَن يتخذونها دينا أَو لَا يتخذونها دينا وَالَّذين يتخذونها دينا إِمَّا أَن يكون الدَّين بهَا دين حق أَو دين بَاطِل فَنَقُول النَّعيم التَّام هُوَ فِي الدَّين الْحق النَّعيم التَّام هُوَ فِي الدَّين الْحق فَأهل الدَّين الْحق هم الَّذين لَهُم النَّعيم الْكَامِل كَمَا أخبر الله بذلك فِي كِتَابه فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين وَقَوله عَن الْمُتَّقِينَ المهتدين أُولَئِكَ على هدى من رَبهم وَأُولَئِكَ هم المفلحون وَقَوله تَعَالَى فَأَما يَأْتينكُمْ منى هدى فَمن اتبع هداى فَلَا يضل وَلَا يشقى وَمن أعرض عَن ذكرى فَإِن لَهُ معيشة ضنكا ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمي قَالَ رب لم حشرتنى أعمى وَقد كنت بَصيرًا قَالَ كَذَلِك أتتك آيَاتنَا فنسيتها وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى وَقَوله تَعَالَى فَمن تبع هداى فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وَقَوله تَعَالَى إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم ووعد أهل الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح بالنعيم التَّام فِي الدَّار الْآخِرَة ووعد الْكفَّار بِالْعَذَابِ التَّام فِي الدَّار الْآخِرَة أعظم من أَن يذكر هُنَا وَهَذَا مِمَّا لم يُنَازع فِيهِ أحد من أهل الْإِسْلَام من الْخَطَأ الظَّن بِأَن نعيم الدُّنْيَا لَا يكون إِلَّا لأهل الْكفْر والفجور وَلَكِن تذكر هُنَا نُكْتَة نافعة وَهُوَ أَن الْإِنْسَان قد يسمع وَيرى مَا يُصِيب كثيرا من أهل الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فِي الدُّنْيَا من المصائب وَمَا يُصِيب كثيرا من الْكفَّار والفجار فِي الدُّنْيَا من الرياسة وَالْمَال وَغير ذَلِك فيعتقد أَن النَّعيم فِي الدُّنْيَا لَا يكون إِلَّا لأهل الْكفْر والفجور وَأَن الْمُؤمنِينَ لَيْسَ لَهُم فِي الدُّنْيَا مَا يتنعمون بِهِ إِلَّا قَلِيلا وَكَذَلِكَ قد يعْتَقد أَن الْعِزَّة والنصرة قد تَسْتَقِر للْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ على الْمُؤمنِينَ وَإِذا سمع مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من أَن الْعِزَّة لله وَرَسُوله وَلِلْمُؤْمنِينَ وَأَن الْعَاقِبَة للتقوى وَقَول الله تَعَالَى وَإِن جندنا لَهُم الغالبون وَهُوَ مِمَّن يصدق بِالْقُرْآنِ حمل هَذِه الْآيَات على الدَّار الْآخِرَة فَقَط وَقَالَ أما الدُّنْيَا فَمَا نري بأعيننا إِلَّا أَن الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ فِيهَا يظهرون ويغلبون الْمُؤمنِينَ وَلَهُم الْعِزَّة والنصرة وَالْقُرْآن لَا يرد بِخِلَاف المحسوس ويعتمد على هَذَا فِيمَا إِذا أديل أديل عَلَيْهِ عَدو من جنس الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ أَو الظَّالِمين وَهُوَ عِنْد نَفسه من أهل الْإِيمَان وَالتَّقوى فَيرى أَن صَاحب الْبَاطِل قد علا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 على صَاحب الْحق فَيَقُول أَنا على الْحق وَأَنا مغلوب وَإِذا ذكره إِنْسَان بِمَا وعده الله من حسن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين قَالَ هَذَا فِي الْآخِرَة فَقَط وَإِذا قيل لَهُ كَيفَ يفعل الله بأوليائه مثل هَذِه الْأُمُور قَالَ يفعل مَا يَشَاء وَرُبمَا قَالَ بِقَلْبِه أَو لِسَانه أَو كَانَ حَاله يقتضى أَن هَذَا نوع من الظُّلم وَرُبمَا ذكر قَول بَعضهم مَا على الْخلق أضرّ من الْخَالِق لَكِن يَقُول يفعل الله مَا يَشَاء وَإِذا ذكر برحمة الله وحكمته لم يقل إِلَّا أَنه يفعل مَا يَشَاء فَلَا يَعْتَقِدُونَ أَن صَاحب الْحق وَالتَّقوى مَنْصُور مؤيد بل يَعْتَقِدُونَ أَن الله يفعل مَا يَشَاء وَهَذِه الْأَقْوَال مَبْنِيَّة على مقدمتين إِحْدَاهمَا حسن ظَنّه بدين نَفسه نوعا أَو شخصا واعتقاد أَنه قَائِم بِمَا يجب عَلَيْهِ وتارك مَا نهي عَنهُ فِي الدَّين الْحق واعتقاده فِي خَصمه وَنَظِيره خلاف ذَلِك أَن دينه بَاطِل نوعا أَو شخصا لِأَنَّهُ ترك الْمَأْمُور وَفعل الْمَحْظُور والمقدمة الثَّانِيَة أَن الله قد لَا يُؤَيّد صَاحب الدَّين الْحق وينصره وَقد لَا يَجْعَل لَهُ الْعَاقِبَة فِي الدُّنْيَا فَلَا ينبغى الاغترار بِهَذَا الْمُؤمن يطْلب نعيم الدُّنْيَا وَالنَّعِيم التَّام فِي الْآخِرَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وَمن الْمَعْلُوم أَن العَبْد وَإِن أقرّ بِالآخِرَة فَهُوَ يطْلب حسن عَاقِبَة الدُّنْيَا فقد يطْلب مَا لَا بُد مِنْهُ من دفع الضَّرَر وجلب الْمَنْفَعَة وَقد يطْلب من زِيَادَة النَّفْع وَدفع الضَّرَر مَا يظنّ أَنه مُبَاح فَإِذا اعْتقد أَن الدَّين الْحق قد يُنَافِي ذَلِك لزم من ذَلِك إِعْرَاض الْقلب عَن الرَّغْبَة فِي كَمَال الدَّين الْحق وَفِي حَال السَّابِقين والمقربين بل قد يعرض عَن حَال الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَاب الْيَمين فَيدْخل مَعَ الظَّالِمين بل قد يكفر وَيصير من الْمُرْتَدين الْمُنَافِقين أَو المعلنين بالْكفْر وَإِن لم يكن هَذَا فِي أصل الدَّين كَانَ فِي كثير من أُصُوله وفروعه كَمَا قَالَ النبى يصبح الرجل مُؤمنا ويمسى كَافِرًا أَو يمسى مُؤمنا وَيُصْبِح كَافِرًا يَبِيع دينه بِعرْض من الدُّنْيَا وَذَلِكَ إِذا اعْتقد أَن الدَّين لَا يحصل إِلَّا بِفساد دُنْيَاهُ وَلذَلِك فَإِنَّهُ يفرح بِحُصُول الضَّرَر لَهُ ويرجو ثَوَاب ضيَاع مَا لَا بُد لَهُ من الْمَنْفَعَة وَهَذِه الْفِتْنَة الَّتِى صدت أَكثر بنى آدم عَن تَحْقِيق الدَّين وَأَصلهَا الْجَهْل بِحَقِيقَة الدَّين وبحقيقة النَّعيم الَّذِي هُوَ مَطْلُوب النُّفُوس فِي كل وَقت إِذْ قد ذكرنَا أَن كل عمل فَلَا بُد فِيهِ من إِرَادَة بِهِ لطلب مَا ينعم فهناك عمل يطْلب بِهِ النَّعيم وَلَا بُد أَن يكون الْمَرْء عَارِفًا بِالْعَمَلِ الذى يعمله وبالنعيم الَّذِي يَطْلُبهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 ثمَّ إِذا علم هذَيْن الْأَصْلَيْنِ فلابد أَن تكون فِيهِ إِرَادَة جازمة على الْعَمَل بذلك وَإِلَّا فالعلم بالمطلوب وبطريقه لَا يحصلان الْمَقْصُود إِلَّا مَعَ الْإِرَادَة الجازمة والارادةالجازمة لَا تكون إِلَّا مَعَ الصَّبْر وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفى خسر إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَقَالَ تَعَالَى وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون فاليقين هُوَ الْعلم الثَّابِت المستقر وَالصَّبْر لابد مِنْهُ لتحقيق الْإِرَادَة الجازمة والمقدمتان اللَّتَان الَّتِي بنيت عَلَيْهِمَا هَذِه البلية مبناهما على الْجَهْل بِأَمْر الله وَنَهْيه وبوعده ووعيده فَإِن صَاحبهمَا إِذا اعْتقد أَنه قَائِم بِالدّينِ الْحق فقد اعْتقد أَنه فَاعل للْمَأْمُور تَارِك للمحظور وَهُوَ على الْعَكْس من ذَلِك وَهَذَا يكون من جَهله بِالدّينِ الْحق من الْخَطَأ الِاعْتِقَاد أَن الله ينصر الْكفَّار فِي الدُّنْيَا وَلَا ينصر الْمُؤمنِينَ وَإِذا اعْتقد أَن صَاحب الْحق لَا ينصره الله فِي الدُّنْيَا بل قد تكون الْعَاقِبَة فِي الدُّنْيَا للْكفَّار على الْمُؤمنِينَ وَلأَهل الْفُجُور على أهل الْبر فَهَذَا من جَهله بوعد الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 أما الأول فَمَا أَكثر من يتْرك وَاجِبَات لَا يعلم بهَا وَلَا بِوُجُوبِهَا وَمَا أَكثر من يفعل مُحرمَات لَا يعلم بتحريمها بل مَا أَكثر من يعبد الله بِمَا حرم وَيتْرك مَا أوجب وَمَا أَكثر من يعْتَقد أَنه هُوَ الْمَظْلُوم المحق من كل وَجه وَأَنه خَصمه هُوَ الظَّالِم الْمُبْطل من كل وَجه وَلَا يكون الْأَمر كَذَلِك بل يكون مَعَه نوع من الْبَاطِل وَالظُّلم وَمَعَ خَصمه نوع من الْحق وَالْعدْل وحبك الشَّيْء يعمي ويصم وَالْإِنْسَان مجبول على محبَّة نَفسه فَهُوَ لَا يرى إِلَّا محاسنها ومبغض لخصمه فَلَا يرى إِلَّا مساوئه وَهَذَا الْجَهْل غالبه مقرون بالهوى وَالظُّلم فَإِن الْإِنْسَان ظلوم جهول وَأكْثر ديانات الْخلق إِنَّمَا هِيَ عادات أخذوها عَن آبَائِهِم وأسلافهم وتقليدهم فِي التَّصْدِيق والتكذيب وَالْحب والبغض والموالاة والمعاداة كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أولو كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم إِلَى عَذَاب السعير وَقَالَ تَعَالَى يَوْم تقلب وُجُوههم فِي النَّار يَقُولُونَ يَا ليتنا أَطعْنَا الله وأطعنا الرسولا وَقَالُوا رَبنَا إِنَّا أَطعْنَا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا وَقَالَ تَعَالَى وَمَا تفَرقُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك إِلَى أجل مُسَمّى لقضى بَينهم وَإِن الَّذين أورثوا الْكتاب من بعدهمْ لفى شكّ مِنْهُ مريب وَأما الثَّانِي فَمَا أَكثر من يظنّ أَن أهل الدَّين الْحق فِي الدُّنْيَا يكونُونَ أذلاء معذبين بِمَا فِيهِ بِخِلَاف من فارقهم إِلَى طَاعَة أخري وسبيل آخر ويكذب بوعد الله بنصرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وَالله سُبْحَانَهُ قد بَين بكتابه كلا المقدمتين فَقَالَ تَعَالَى إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين إِنَّهُم لَهُم المنصورون وَإِن جندنا لَهُم الغالبون وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه إِن الَّذين يحادون الله وَرَسُوله كبتوا كَمَا كبت الَّذين من قبلهم وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين يحادون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ فِي الأذلين كتب الله لأغلبن أَنا ورسلى إِن الله قوى عَزِيز وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون وذم من يطْلب النُّصْرَة بولاء غير هَؤُلَاءِ فَقَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود والنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين فتري الَّذين فِي قُلُوبهم مرض يُسَارِعُونَ فيهم يَقُولُونَ نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو أَمر من عِنْده فيصبحوا على مَا أَسرُّوا فِي أنفسهم نادمين وَيَقُول الَّذين آمنُوا أهولاء الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم إِنَّهُم لمعكم حبطت أَعْمَالهم فَأَصْبحُوا خاسرين وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه بشر الْمُنَافِقين بِأَن لَهُم عذَابا أَلِيمًا الَّذين يتخذون الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ أيبتغون عِنْدهم الْعِزَّة فَإِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه يَقُولُونَ لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ وَالَّذين يمكرون السَّيِّئَات لَهُم عَذَاب شَدِيد ومكر أُولَئِكَ هُوَ يبور وَقَالَ فِي كِتَابه هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدَّين كُله وَكفى بِاللَّه شَهِيدا وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا هَل أدلكم على تِجَارَة تنجيكم من عَذَاب أَلِيم تؤمنون بِاللَّه وَرَسُوله وتجاهدون فِي سَبِيل الله بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ يغْفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنَّات تجرى من تحتهَا الْأَنْهَار ومساكن طيبَة فِي جنَّات عدن ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم وأخري تحبونها نصر من الله وَفتح قريب وَبشر الْمُؤمنِينَ يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا أنصار الله كَمَا قَالَ عيسي ابْن مَرْيَم للحواريين من أنصارى إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله فآمنت طَائِفَة من بنى إِسْرَائِيل وكفرت طَائِفَة فأيدنا الَّذين آمنُوا على عدوهم فَأَصْبحُوا ظَاهِرين وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه يَا عِيسَى إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ ومطهرك من الَّذين كفرُوا وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه وَلَو قاتلكم الَّذين كفرُوا لولوا الأدبار ثمَّ لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا سنة الله الَّتِي قد خلت من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه هُوَ الَّذِي أخرج الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من دِيَارهمْ لأوّل الْحَشْر إِلَى قَوْله تَعَالَى ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يشاق الله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تهنوا وَلَا تحزنوا وَأَنْتُم الأعلون إِن كُنْتُم مُؤمنين وَقَالَ تَعَالَى لما قصّ قصَّة نوح وهى نصْرَة على قومه فِي الدُّنْيَا فَقَالَ تَعَالَى تِلْكَ من أنباء الْغَيْب نوحيها إِلَيْك مَا كنت تعلمهَا أَنْت وَلَا قَوْمك من قبل هَذَا فاصبر إِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين وَقَالَ تَعَالَى وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ واصطبر عَلَيْهَا لَا نَسْأَلك رزقا نَحن نرزقك وَالْعَاقبَة للتقوى وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يألونكم خبالا إِلَى قَوْله وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا إِن الله بِمَا يعْملُونَ مُحِيط وَقَالَ تَعَالَى إِن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين وَقَالَ يُوسُف وَقد نَصره الله فِي الدُّنْيَا لما دخل عَلَيْهِ إخْوَته قَالُوا أئنك لأَنْت يُوسُف قَالَ أَنا يُوسُف وَهَذَا أخى قد من الله علينا إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم وَقَالَ تَعَالَى وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه إِن الله بَالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدرا وَقد رُوِيَ عَن أَبى ذَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ لَو عمل النَّاس كلهم بِهَذِهِ الْآيَة لوسعتهم رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَغَيره وَأخْبر أَن مَا يحصل لَهُ من مُصِيبَة انتصار الْعَدو وَغَيرهَا إِنَّمَا هُوَ بِذُنُوبِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى فِي يَوْم أحد أَو لما أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قد أصبْتُم مثليها قُلْتُمْ أَنى هَذَا قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين توَلّوا مِنْكُم يَوْم التقى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا استزلهم الشَّيْطَان بِبَعْض مَا كسبوا وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم وَقَالَ تَعَالَى وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم ويعفوا عَن كثير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وَقَالَ تَعَالَى مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك وَقَالَ تَعَالَى وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم وَقَالَ تَعَالَى أَو يوبقهن بِمَا كسبوا وذم فِي كِتَابه من لَا يَثِق بوعده لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ وَذكر مَا يُصِيب الرُّسُل وَالْمُؤمنِينَ فَقَالَ تَعَالَى إِذْ جاؤوكم من فَوْقكُم وَمن أَسْفَل مِنْكُم وَإِذ زاغت الْأَبْصَار وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر وتظنون بِاللَّه الظنونا هُنَالك ابتلى الْمُؤْمِنُونَ وزلزلوا زلزالا شَدِيدا وَإِذ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض مَا وعدنا الله وَرَسُوله إِلَّا غرُورًا واذ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم يَا أهل يثرب لَا مقَام لكم فَارْجِعُوا ويستأذن فريق مِنْهُم النَّبِي يَقُولُونَ إِن بُيُوتنَا عَورَة وَمَا هِيَ بعوره إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَو دخلت عَلَيْهِم من أقطارها ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها وَمَا تلبثوا بهَا إِلَّا يَسِيرا وَقَالَ تَعَالَى أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ مستهم البأساء وَالضَّرَّاء وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله أَلا إِن نصر الله قريب وَقَالَ تَعَالَى وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحى إِلَيْهِم من أهل الْقرى أفلم يَسِيرُوا فى الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم ولدار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون حَتَّى إِذا استيئس الرُّسُل وظنوا أَنهم قد كذبُوا جَاءَهُم نصرنَا فنجى من نشَاء وَلَا يرد بأسنا عَن الْقَوْم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الْمُجْرمين لقد كَانَ فى قصصهم عِبْرَة لأولى الْأَلْبَاب مَا كَانَ حَدِيثا يفترى وَلَكِن تَصْدِيق الذى بَين يَدَيْهِ وتفصيل كل شئ وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ وَلِهَذَا أَمر الله رَسُوله وَالْمُؤمنِينَ بِاتِّبَاع مَا أنزل إِلَيْهِم وَهُوَ طَاعَته وَهُوَ الْمُقدمَة الأولى وَأمرهمْ بانتظار وعده وهى الْمُقدمَة الثَّانِيَة وأمرنا بالاستغفار وَالصَّبْر لأَنهم لابد أَن يحصل لَهُم تَقْصِير وذنوب فيزيله الاسْتِغْفَار ولابد مَعَ انْتِظَار الْوَعْد من الصَّبْر فبالاستغفار تتمّ الطَّاعَة وبالصبر يتم الْيَقِين بالوعد إِن كَانَ هَذَا كُله يدْخل فى مُسَمّى الطَّاعَة وَالْإِيمَان قَالَ تَعَالَى وَاتبع مَا يُوحى إِلَيْك واصبر حَتَّى يحكم الله وَهُوَ خير الْحَاكِمين وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد كذبت رسل من قبلك فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا حَتَّى أَتَاهُم نصرنَا وَلَا مبدل لكلمات الله وَلَقَد جَاءَك من نبأ الْمُرْسلين وَقَالَ تَعَالَى فاصبر إِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين وَأمرهمْ أَيْضا بِالصبرِ إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِذُنُوبِهِمْ مثل ظُهُور الْعَدو وكما قَالَ تَعَالَى فى قصَّة أحد وَلَا تهنوا وَلَا تحزنوا وَأَنْتُم الأعلون إِن كُنْتُم مُؤمنين إِن يمسسكم قرح فقد مس الْقَوْم قرح مثله وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس وليعلم الله الَّذين آمنُوا ويتخذ مِنْكُم شُهَدَاء وَالله لَا يحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 الظَّالِمين وليمحص الله الَّذين آمنُوا ويمحق الْكَافرين وَأَيْضًا فقد قصّ سُبْحَانَهُ فى كِتَابه نَصره لرسله ولعباده الْمُؤمنِينَ على الْكفَّار فى قصَّة نوح وَهود وَصَالح وَشُعَيْب وَلُوط وَفرْعَوْن وَغير ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى لقد كَانَ فى قصصهم عِبْرَة لأولى الْأَلْبَاب وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْكُم آيَات مبينات ومثلا من الَّذين خلوا من قبلكُمْ مَا سبق يتَبَيَّن بأصلين: الأَصْل الأول: حُصُول النَّصْر وَغَيره من أنوع النَّعيم لَا يُنَافِي وُقُوع الْقَتْل أَو الْأَذَى وَهَذَا يتَبَيَّن بأصلين أَحدهمَا أَن حُصُول النَّصْر وَغَيره من أَنْوَاع النَّعيم لطائفة أَو شخص لَا يُنَافِي مَا يَقع فِي خلال ذَلِك من قتل بَعضهم وجرحه وَمن أَنْوَاع الْأَذَى وَذَلِكَ أَن الْخلق كلهم يموتون فَلَيْسَ فِي قتل الشُّهَدَاء مُصِيبَة زَائِدَة على مَا هُوَ مُعْتَاد لبنى آدم فَمن عد الْقَتْل فِي سَبِيل الله مُصِيبَة مُخْتَصَّة بِالْجِهَادِ كَانَ من أَجْهَل النَّاس بل الْفِتَن الَّتِي تكون بَين الْكفَّار وَتَكون بَين الْمُخْتَلِفين من أهل القبله لَيْسَ مِمَّا يخْتَص بِالْقِتَالِ فَإِن الْمَوْت يعرض لبني آدم بِأَسْبَاب عَامَّة وَهِي المصائب الَّتِي تعرض لبني آدم من مرض بطاعون وَغَيره وَمن جوع وَغَيره وبأسباب خَاصَّة فَالَّذِينَ يعتادون الْقِتَال لَا يصيبهم أَكثر مِمَّا يُصِيب من لَا يُقَاتل بل الْأَمر بِالْعَكْسِ كَمَا قد جربه النَّاس ثمَّ موت الشَّهِيد من أيسر الميتات وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قل لن ينفعكم الْفِرَار إِن فررتم من الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا قل من ذَا الَّذِي يعصمكم من الله إِن أَرَادَ بكم سوءا أَو أَرَادَ بكم رَحْمَة وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن الْفِرَار من الْقَتْل أَو الْمَوْت لَا ينفع فَلَا فَائِدَة فِيهِ وَأَنه لَو نفع لم ينفع إِلَّا قَلِيلا إِذْ لَا بُد من الْمَوْت وَأخْبر أَن العَبْد لَا يعصمه من الله أحد إِن أَرَادَ بِهِ سوءا أَو أَرَادَ بِهِ رَحْمَة وَلَيْسَ لَهُ من دون الله ولي وَلَا نصير فَأَيْنَ نفر من أمره وَحكمه وَلَا ملْجأ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى فَفرُّوا إِلَى الله إِنِّي لكم مِنْهُ نَذِير مُبين وَهَذَا أَمر يعرفهُ النَّاس من أهل طَاعَة الله وَأهل مَعْصِيَته كَمَا قَالَ أَبُو حَازِم الْحَكِيم لما يلقِي الَّذِي لَا يَتَّقِي الله من معالجه الْخلق أعظم مِمَّا يلقاه الَّذِي يَتَّقِي الله من معالجة التَّقْوَى وَالله تَعَالَى قد جعل أكمل الْمُؤمنِينَ إِيمَانًا أعظمهم بلَاء كَمَا قيل للنَّبِي أَي النَّاس أَشد بلَاء قَالَ الْأَنْبِيَاء ثمَّ الصالحون ثمَّ الأمثل فالأمثل يَبْتَلِي الرجل على حسب دينه فَإِن كَانَ فِي دينه صلابة زيد فِي بلائه وَإِن كَانَ فِي دينه رقة خفف عَنهُ وَلَا يزَال الْبلَاء بِالْمُؤمنِ حَتَّى يمشي على الأَرْض وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَة وَمن هَذَا أَن الله شرع من عَذَاب الْكفَّار بعد نزُول التَّوْرَاة بأيدي الْمُؤمنِينَ فِي الْجِهَاد مَا لم يكن قبل ذَلِك حَتَّى إِنَّه قيل لم ينزل بعد التَّوْرَاة عَذَاب عَام من السَّمَاء للأمم كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب من بعد مَا أهلكنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 الْقُرُون الأولى بصائر للنَّاس وَهدى وَرَحْمَة لَعَلَّهُم يتذكرون فَإِنَّهُ قبل ذَلِك قد أهلك قوم فِرْعَوْن وَشُعَيْب لوط وَعَاد وَثَمُود وَغَيرهم وَلم يهْلك الْكفَّار بجهاد الْمُؤمنِينَ وَلما كَانَ مُوسَى أفضل من هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ مُحَمَّد وهما الرسولان المبعوثان بالكتابين العظيمين كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا وَقَالَ تَعَالَى قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مثل مَا أُوتِيَ مُوسَى أولم يكفروا بِمَا أُوتى مُوسَى من قبل إِلَى قَوْله قل فَأتوا بِكِتَاب من عِنْد الله هُوَ أهْدى مِنْهُمَا اتبعهُ وَأمر الله هذَيْن الرسولين بِالْجِهَادِ على الدَّين وَشَرِيعَة مُحَمَّد أكمل فَلهَذَا كَانَ الْجِهَاد فِي أمته أعظم مِنْهُ فِي غَيرهم قَالَ تَعَالَى كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لكم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَلَو يَشَاء الله لانتصر مِنْهُم وَلَكِن ليبلوا بَعْضكُم بِبَعْض وَقَالَ تَعَالَى لِلْمُنَافِقين وَنحن نتربص بكم أَن يُصِيبكُم الله بِعَذَاب من عِنْده أَو بِأَيْدِينَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 فالجهاد للْكفَّار أصلح من هلاكهم بِعَذَاب سَمَاء من وُجُوه أَحدهَا أَن ذَلِك أعظم فِي ثَوَاب الْمُؤمنِينَ وأجرهم وعلو درجاتهم لما يَفْعَلُونَهُ من الْجِهَاد فِي سَبِيل الله لِأَن تكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَيكون الدَّين كُله لله الثَّانِي أَن ذَلِك أَنْفَع للْكفَّار أَيْضا فَإِنَّهُم قد يُؤمنُونَ من الْخَوْف وَمن أسر مِنْهُم وسيم من الصغار يسلم أَيْضا وَهَذَا من معنى قَوْله تَعَالَى كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس قَالَ أَبُو هُرَيْرَة وكنتم خير النَّاس للنَّاس تأتون بهم فِي الأقياد والسلاسل حَتَّى تدخلوهم الْجنَّة فَصَارَت الْأمة بذلك خير أمة أخرجت للنَّاس وأفلح بذلك الْمُقَاتِلُونَ وَهَذَا هُوَ مَقْصُود الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر وَهَذَا من معنى كَون مُحَمَّد مَا أرسل إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين فَهُوَ رَحْمَة فِي حق كل أحد بِحَسبِهِ حَتَّى المكذبين لَهُ هُوَ فِي حَقهم رَحْمَة أعظم مِمَّا كَانَ غَيره وَلِهَذَا لما أرسل الله إِلَيْهِ ملك الْجبَال وَعرض عَلَيْهِ أَن يقلب عَلَيْهِم الأخشبين قَالَ لَا استأني بهم لَعَلَّ الله أَن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وَحده لَا شريك لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الْوَجْه الثَّالِث أَن ذَلِك أعظم عزة للْإيمَان وَأَهله واكثر لَهُم فَهُوَ يُوجب من علو الْإِيمَان وَكَثْرَة أَهله مَا لَا يحصل بِدُونِ ذَلِك وَأمر الْمُنَافِقين والفجار بِالْمَعْرُوفِ ونهيهم عَن الْمُنكر هُوَ من تَمام الْجِهَاد وَكَذَلِكَ إِقَامَة الْحُدُود وَمَعْلُوم أَن فِي الْجِهَاد وَإِقَامَة الْحُدُود من إِتْلَاف النُّفُوس والأطراف وَالْأَمْوَال مَا فِيهِ فَلَو بلغت هَذِه النُّفُوس النَّصْر بِالدُّعَاءِ وَنَحْوه من غير جِهَاد لَكَانَ ذَلِك من جنس نصر الله للأنبياء الْمُتَقَدِّمين من أممهم لما أهلك نُفُوسهم وَأَمْوَالهمْ وَأما النَّصْر بِالْجِهَادِ وَإِقَامَة الْحُدُود فَذَلِك من جنس نصر الله لما يخْتَص بِهِ رَسُوله وَإِن كَانَ مُحَمَّد وَأمته منصورين بالنوعين جَمِيعًا لَكِن يشرع فِي الْجِهَاد بِالْيَدِ مَا لَا يشرع فِي الدُّعَاء الأَصْل الثَّانِي: التنعم إِمَّا بالأمور الدُّنْيَوِيَّة وَإِمَّا بالأمور الدِّينِيَّة: وَأما الأَصْل الثَّانِي فَإِن التنعم إِمَّا بالأمور الدُّنْيَوِيَّة وَإِمَّا بالأمور الدِّينِيَّة 1- الدُّنْيَوِيَّة فَأَما الدُّنْيَوِيَّة فَهِيَ الحسية مثل الْأكل وَالشرب وَالنِّكَاح واللباس وَمَا يتبع ذَلِك والنفسية وَهِي الرياسة وَالسُّلْطَان فَأَما الأولي فالمؤمن وَالْكَافِر وَالْمُنَافِق مشتركون فِي جِنْسهَا ثمَّ يعلم أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 التَّنْعِيم بهَا لَيْسَ هُوَ حَقِيقَة وَاحِدَة مستوية فِي بنى آدم بل هم متفاوتون فِي قدرهَا ووصفها تَفَاوتا عَظِيما فَإِن من النَّاس من يتنعم بِنَوْع من الْأَطْعِمَة والأشربة الَّذِي يتأذي بهَا غَيره إِمَّا لاعتياده بِبَلَدِهِ وَإِمَّا لموافقته مزاجه وَإِمَّا لغير ذَلِك وَمن النَّاس من يتنعم بِنَوْع من المناكح لَا يُحِبهَا غَيره كمن سكن الْبِلَاد الجنوبية فَإِنَّهُ يتنعم بِنِكَاح السمر وَمن سكن الْبِلَاد الشمالية فَإِنَّهُ يتنعم بِنِكَاح الْبيض وَكَذَلِكَ اللبَاس والمساكن فَإِن أَقْوَامًا يتنعمون من الْبرد بِمَا يتأذي بِهِ غَيرهم وأقواما يتنعمون من المساكن بِمَا يتأذي بِهِ غَيرهم بِحَسب الْعَادة والطباع وَكَذَلِكَ الْأَزْمِنَة فَإِنَّهُ فِي الشتَاء يتنعم الْإِنْسَان بِالْحرِّ وَفِي الصَّيف يتنعم بالبرد وأصل ذَلِك أَن التنعم فِي الدُّنْيَا بِحَسب الْحَاجة إِلَيْهَا وَالِانْتِفَاع بهَا فَكل مَا كَانَت الْحَاجة أقوي وَالْمَنْفَعَة أَكثر كَانَ التنعم واللذة أكمل وَالله قد أَبَاحَ للْمُؤْمِنين الطَّيِّبَات فَالَّذِينَ يقتصدون فِي المآكل نعيمهم بهَا أَكثر من نعيم المسرفين فِيهَا فَإِن أُولَئِكَ إِذا أدمنوها وألفوها لَا يبقي لهَذَا عِنْدهم كَبِير لَذَّة مَعَ أَنهم قد لَا يصبرون عَنْهَا وتكثر أمراضهم بِسَبَبِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 2- الدِّينِيَّة وَأما الدَّين فجماعه شَيْئَانِ تَصْدِيق الْخَبَر وَطَاعَة الْأَمر وَمَعْلُوم أَن التنعم بالْخبر بِحَسب شرفه وَصدقه وَالْمُؤمن مَعَه من الْخَبَر الصَّادِق عَن الله وَعَن مخلوقاته مَا لَيْسَ مَعَ غَيره فَهُوَ من أعظم النَّاس نعيما بذلك بِخِلَاف من يكثر فِي أخبارهم الْكَذِب وَأما طَاعَة الْأَمر فَإِن من كَانَ مَا يُؤمر بِهِ صلاحا وعدلا ونافعا يكون تنعمه بِهِ أعظم من تنعم من يُؤمر بِمَا لَيْسَ بصلاح وَلَا عدل وَلَا نَافِع وَهَذَا من الْفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل فَإِن الله سُبْحَانَهُ يَقُول فِي كِتَابه الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله أضلّ أَعْمَالهم وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وآمنوا بِمَا نزل على مُحَمَّد وَهُوَ الْحق من رَبهم كفر عَنْهُم سيئاتهم وَأصْلح بالهم ذَلِك بِأَن الَّذين كفرُوا اتبعُوا الْبَاطِل وَأَن الَّذين آمنُوا اتبعُوا الْحق من رَبهم كَذَلِك يضْرب الله للنَّاس أمثالهم وَقَالَ وَالَّذين كفرُوا أَعْمَالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عِنْده فوفاه حسابه وَالله سريع الْحساب وتفصيل ذَلِك أَن الْحق نَوْعَانِ حق مَوْجُود وَحقّ مَقْصُود وكل مِنْهُمَا ملازم للْآخر فَالْحق الْمَوْجُود هُوَ الثَّابِت فِي نَفسه فَيكون الْعلم بِهِ حَقًا وَالْخَبَر عَنهُ حَقًا وَالْحق الْمَقْصُود هُوَ النافع الَّذِي إِذا قَصده الْحَيّ انْتفع بِهِ وَحصل لَهُ النَّعيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 فصل وَمِمَّا يظْهر الْأَمر مَا ابتلى الله بِهِ عباده فِي الدُّنْيَا من السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَقَالَ سُبْحَانَهُ فَأَما الْإِنْسَان إِذا مَا ابتلاه ربه فَأكْرمه ونعمه فَيَقُول رَبِّي أكبر من وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه فَيَقُول رَبِّي أهانن كلا يَقُول الله سُبْحَانَهُ لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك لَيْسَ إِذا مَا ابتلاه فَأكْرمه ونعمه يكون ذَلِك إِكْرَاما مُطلقًا وَلَيْسَ إِذا مَا قدر عَلَيْهِ رزقه يكون ذَلِك إهانة بل هُوَ ابتلاء فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ الاختبار والامتحان فَإِن شكر الله على الرخَاء وصبر على الشدَّة كَانَ كل وَاحِد من الْحَالين خيرا لَهُ كَمَا قَالَ النَّبِي لَا يقْضى الله لِلْمُؤمنِ قَضَاء إِلَّا كَانَ خيرا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِك لأحد إِلَّا لِلْمُؤمنِ إِن أَصَابَته سراء فَشكر كَانَ خيرا لَهُ وَإِن أَصَابَته ضراء فَصَبر كَانَ خيرا لَهُ وَإِن لم يشْكر وَلم يصبر كَانَ كل وَاحِد من الْحَالين شرا لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 تنَازع النَّاس فِيمَا ينَال الْكَافِر فِي الدُّنْيَا من التنعم هَل هُوَ نعْمَة فِي حَقه أم لَا؟ وَقد تنَازع النَّاس فِيمَا ينَال الْكَافِر فِي الدُّنْيَا من التنعم هَل هُوَ نعْمَة فِي حَقه أم لَا على قَوْلَيْنِ وَكَانَ أصل النزاع بَينهم هُوَ النزاع فِي الْقُدْرَة والقدرية الَّذين يَقُولُونَ لم يرد الله لكل أحد إِلَّا خيرا لَهُ بخلقه وَأمره وَإِنَّمَا العَبْد هُوَ الَّذِي أَرَادَ لنَفسِهِ الشَّرّ بمعصيته وبترك طَاعَته الَّتِي يستعملها بِدُونِ مَشِيئَة الله وَقدرته أَرَادَ لنَفسِهِ الشَّرّ وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ مَا نعم بِهِ الْكَافِر فَهُوَ نعْمَة تَامَّة كَمَا نعم بِهِ الْمُؤمن سَوَاء إِذْ عِنْدهم لَيْسَ لله نعْمَة خص بهَا الْمُؤمن دون الْكَافِر أصلا بل هما فِي النعم الدينيه سَوَاء وَهُوَ مَا بَينه من أَدِلَّة الشَّرْع وَالْعقل وَمَا خلقه من الْقُدْرَة والألطاف وَلَكِن أَحدهمَا اهتدي بِنَفسِهِ بِغَيْر نعْمَة أخري خَاصَّة من الله وَالْآخر ضل بِنَفسِهِ من غير خذلان يَخُصُّهُ من الله وَكَذَلِكَ النعم الدُّنْيَوِيَّة هِيَ فِي حَقّهمَا على السوَاء وَالَّذين ناظروا هَؤُلَاءِ من أهل الْإِثْبَات رُبمَا زادوا فِي المناظرة نوعا من الْبَاطِل وَإِن كَانُوا فِي الْأَكْثَر على الْحق فكثيرا مَا يرد مناظر المبتدع بَاطِلا عَظِيما بباطل دونه وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّة السّنة ينهون عَن ذَلِك ويأمرون بالاقتصاد وَلُزُوم السّنة الْمَحْضَة وَأَن لَا يرد بَاطِل بباطل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 فَقَالَ كثير من هَؤُلَاءِ لَيْسَ لله على الْكَافِر نعْمَة دنيوية كَمَا لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ نعْمَة دينية تخصه إِذْ اللَّذَّة المستعقبة ألما أعظم مِنْهَا لَيست بِنِعْمَة كالطعام المسموم وَكَمن أعطي غَيره أَمْوَالًا لِيَطمَئِن ثمَّ يقْتله أَو يعذبه قَالُوا وَالْكَافِر كَانَت هَذِه النعم سَببا فِي عَذَابه وعقابه كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا نملى لَهُم ليزدادوا إِثْمًا وَقَالَ تَعَالَى أيحسبون أَنما نمدهم بِهِ من مَال وبنين نسارع لَهُم فِي الْخيرَات بل لَا يَشْعُرُونَ وَقَالَ تَعَالَى فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء حَتَّى إِذا فرحوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَة فَإِذا هم مبلسون وَقَالَ تَعَالَى فذرني وَمن يكذب بِهَذَا الحَدِيث سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ وأملى لَهُم إِن كيدي متين وَخَالفهُم آخَرُونَ من أهل الْإِثْبَات للقدر أَيْضا فَقَالُوا بل لله على الْكَافِر نعم دنيوية وَالْقَوْلَان فِي عَامَّة أهل الْإِثْبَات من أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد وَغَيرهم قَالَ هَؤُلَاءِ وَالْقُرْآن قد دلّ على امتنانه على الْكفَّار بنعمه ومطالبته إيَّاهُم بشكرها فَكيف يُقَال لَيست نعما قَالَ تَعَالَى ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 نعْمَة الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها إِلَى قَوْله الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأنزل من السَّمَاء مَاء فَأخْرج بِهِ من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الْفلك لتجرى فِي الْبَحْر بأَمْره وسخر لكم الْأَنْهَار إِلَى قَوْله وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها إِن الْإِنْسَان لظلوم كفار وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا وَكَيف يكون كفورا من لم ينعم عَلَيْهِ بنعمه فَالْمُرَاد لَازم قَول هَؤُلَاءِ أَن الْكفَّار لم يحب عَلَيْهِم شكر الله إِذْ لم يكن قد أنعم عَلَيْهِم عِنْدهم وَهَذَا القَوْل يعلم فَسَاده بالاضطرار من دين الْإِسْلَام فَإِن الله ذمّ الْإِنْسَان بِكَوْنِهِ كفورا غير شكور إِذْ يَقُول إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود وَقَالَ تَعَالَى وَلَئِن أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة ثمَّ نزعناها مِنْهُ إِنَّه ليؤوس كفور وَلَئِن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عَنى إِنَّه لفرح فخور وَقد قَالَ صَالح عَلَيْهِ السَّلَام لِقَوْمِهِ واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد عَاد وبوأكم فِي الأَرْض تَتَّخِذُونَ من سهولها قصورا وتنحتون الْجبَال بُيُوتًا فاذكروا آلَاء الله وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين وَقَالَ تَعَالَى ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا وَقَالَ تَعَالَى وَضرب الله مثلا قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنة يَأْتِيهَا رزقها رغدا من كل مَكَان فكفرت بأنعم الله وَقَالَ الْأَولونَ قد قَالَ تَعَالَى صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وَالْكفَّار لم يدخلُوا فِي هَذَا الْعُمُوم فَعلم أَنهم خارجون عَن النِّعْمَة وَقَالَ تَعَالَى فِي خطابه للْمُؤْمِنين كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم وَقَالَ تَعَالَى واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُم أَعدَاء واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم وميثاقه الَّذِي واثقكم بِهِ وَقَالَ تَعَالَى كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا لله وَأما الْكفَّار فَخُوطِبُوا بهَا من جِهَة مَا هِيَ تنعم وَلَذَّة وسرور وَلم تسم فِي حَقهم نعْمَة على الْخُصُوص وَإِنَّمَا تسمي نعْمَة بِاعْتِبَار أَنَّهَا نعْمَة فِي حق عُمُوم بني آدم لِأَن الْمُؤمن سعد بهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَالْكَافِر ينعم بهَا فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ أَن كفر الْكَافِر نعْمَة فِي حق الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ لَوْلَا وجود الْكفْر والفسوق والعصيان لم يحصل جِهَاد الْمُؤمنِينَ للْكفَّار وَأمرهمْ الْفُسَّاق والعصاة بِالْمَعْرُوفِ ونهيهم إيَّاهُم عَن الْمُنكر وَلَوْلَا وجود شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ لم يحصل للْمُؤْمِنين من بعض هَذِه الْأُمُور ومعاداتها ومجاهداتها وَمُخَالفَة الْهوى فِيهَا مَا ينالون بِهِ أَعلَى الدَّرَجَات وَأعظم الثَّوَاب والأنسان فِيهِ قُوَّة الْحبّ والبغض وسعادته فِي أَن يحب مَا يُحِبهُ الله وَيبغض مَا يبغضه الله فَإِن لم يكن فِي الْعَالم مَا يبغضه ويجاهد أَصْحَابه لم يتم إيمَانه وجهاده وَقد قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 قَالُوا وَلَو كَانَت هَذِه اللَّذَّات نعما مُطلقَة لكَانَتْ نعْمَة الله على أعدائه فِي الدُّنْيَا أعظم من نعْمَته على أوليائه قَالُوا ونعمة الله الَّتِي بدلوها كفرا هِيَ إِنْزَال الْكتاب وإرسال الرَّسُول حَيْثُ كفرُوا بهَا وجحدوا أَنَّهَا حق كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَلا لَا فَخر إِنِّي من قُرَيْش وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَضرب الله مثلا قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنة يَأْتِيهَا رزقها رغدا من كل مَكَان فكفرت بأنعم الله هم الَّذين كفرُوا بِمَا أنزل الله من الْكتاب وَالرسل وَتلك نعْمَة الله المعظمة وَقَالَ تَعَالَى أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم على أعقابكم وَمن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ فَلَنْ يضر الله شَيْئا وسيجزى الله الشَّاكِرِينَ رَأْي ابْن تَيْمِية وَحَقِيقَة الْأَمر أَن هَذِه الْأَمر فِيهَا من التنعم باللذة وَالسُّرُور فِي الدُّنْيَا مَا لَا نزاع فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تمرحون وَقَالَ تَعَالَى أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بهَا وَقَالَ تَعَالَى وذرني والمكذبين أولى النِّعْمَة ومهلهم قَلِيلا وَقَالَ تَعَالَى ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا ويلههم الأمل وَقَالَ تَعَالَى وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور وَهَذَا أَمر محسوس لَكِن الْكَلَام فِي أَمريْن أَحدهمَا هَل هِيَ نعْمَة أم لَا وَالثَّانِي أَن جنس تنعم الْمُؤمن فِي الدُّنْيَا بِالْإِيمَان وَمَا يتبعهُ هَل هُوَ مثل تنعم الْكَافِر أَو دونه أَو فَوْقه وَهَذِه هِيَ الْمَسْأَلَة الْمُقدمَة فَأَما الأول فَيُقَال اللَّذَّات فِي أَنْفسهَا لَيست نفس فعل العَبْد بل قد تحدث عَن فعله مَعَ سَبَب آخر كَسَائِر المتولدات الَّتِي يخلقها الله تَعَالَى بِأَسْبَاب مِنْهَا فعل العَبْد لَكِن اللَّذَّات تَارَة تكون بِمَعْصِيَة من ترك مَأْمُور أَو فعل مَحْظُور كاللذة الْحَاصِلَة بِالزِّنَا وبموافقة الْفُسَّاق وبظلم النَّاس وبالشرك وَالْقَوْل على الله بِغَيْر علم فَهُنَا الْمعْصِيَة هِيَ سَبَب للعذاب الزَّائِد على لَذَّة الْفِعْل لَكِن ألم الْعَذَاب قد يتَقَدَّم وَقد يتَأَخَّر وَهِي تشبه أكل الطَّعَام الطّيب الَّذِي فِيهِ من السمُوم مَا يمرض أَو يقتل ثمَّ ذَلِك الْعَذَاب يُمكن دَفعه بِالتَّوْبَةِ وَفعل حَسَنَات أخر لَكِن يُقَال تِلْكَ اللَّذَّة الْحَاصِلَة بالمعصية لَا تكون معادلة لَهَا مَا فِي التَّوْبَة عَنْهَا والأعمال الصَّالِحَة من الْمَشَقَّة والألم وَلِهَذَا قيل ترك الذَّنب أَمر من التمَاس التَّوْبَة وَقيل رب شَهْوَة سَاعَة أورثت حزنا طَويلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 لَكِن فعل التَّوْبَة والحسنات الماحية قد يُوجب من الثَّوَاب أعظم من ثَوَاب ترك الذَّنب أَولا فَيكون ألم التائب أَشد من التارك إِذا اسْتَويَا من جَمِيع الْوُجُوه وثوابه أَكثر وَكَذَلِكَ لما يكفر الله بِهِ الْخَطَايَا من المصائب مرَارَة تزيد على حلاوة المعاصى وَتارَة تكون اللَّذَّات بِغَيْر مَعْصِيّة من العَبْد لَكِن عَلَيْهِ أَن يُطِيع الله فِيهَا فيتجنب فِيهَا ترك مأموره وَفعل محظوره كَمَا يؤتاه العَبْد من المَال وَالسُّلْطَان وَمن المآكل والمناكح الَّتِى لَيست بمحرمة وَالله سُبْحَانَهُ أَمر مَعَ أكل الطَّيِّبَات بالشكر فَقَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا لله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ وَفِي صَحِيح مُسلم عَن النَّبِي أَنه قَالَ إِن الله ليرضى عَن العَبْد أَن يَأْكُل الْأكلَة فيحمده عَلَيْهَا وَيشْرب الشربة فيحمده عَلَيْهَا وَفِي الْأَثر الطاعم الشاكر كالصائم الصابر رَوَاهُ ابْن ماجة عَن النَّبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وَقد قَالَ تَعَالَى ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم وَلما ضاف النَّبِي أَبَا الْهَيْثَم بن التيهَان وجلسوا فِي الظل وأطعمهم فَاكِهَة وَلَحْمًا وسقاهم مَاء بَارِدًا قَالَ هَذَا من النَّعيم الَّذِي تسْأَلُون عَنهُ وَالسُّؤَال عَنهُ لطلب شكره لَا لإثم فِيهِ فَالله تَعَالَى يطْلب من عباده شكر نعمه وَعَلِيهِ أَن لَا يَسْتَعِين بِطَاعَتِهِ على مَعْصِيَته فَإِذا ترك مَا وَجب عَلَيْهِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 نعْمَته من حق واستعان بهَا على محرم صَار فعله بهَا وَتَركه لما فِيهَا سَببا للعذاب أَيْضا فالعذاب أستحقه بترك الْمَأْمُور وَفعل الْمَحْظُور على النِّعْمَة الَّتِي هِيَ من فعل الله تَعَالَى وَإِن كَانَ فعله وَتَركه بِقَضَاء الله وَقدره بِعِلْمِهِ ومشيئته وَقدرته وخلقه فَأن حَقِيقَة الْأَمر أَنه نعم العَبْد تنعيما وَكَانَ ذَلِك التَّنْعِيم سَببا لتعذيبه أَيْضا فقد اجْتمع فِي حَقه تنعيم وتعذيب وَلَكِن التعذيب إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب مَعْصِيَته حَيْثُ لم يؤد حق النِّعْمَة وَلم يتق الله فِيهَا وعَلى هَذَا فَهَذِهِ التنعمات هِيَ نعْمَة من وَجه دون وَجه فَلَيْسَتْ من النعم الْمُطلقَة وَلَا هِيَ خَارِجَة عَن جنس النعم مُطلقهَا ومقيدها فباعتبار مَا فِيهَا من التنعم يصلح أَن يطْلب حَقّهَا من الشُّكْر وَغَيرهَا وَينْهى عَن اسْتِعْمَالهَا فِي الْمعْصِيَة فَتكون نعْمَة فِي بَاب الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد وَبِاعْتِبَار أَن صَاحبهَا يتْرك فِيهَا الْمَأْمُور وَيفْعل فِيهَا الْمَحْظُور الَّذِي يزِيد عَذَابه على نعمها كَانَت وبالا عَلَيْهِ وَكَانَ أَن لَا يكون ذَلِك من حَقه خيرا لَهُ من أَن يكون فَلَيْسَتْ نعْمَة فِي حَقه فِي بَاب الْقَضَاء وَالْقدر والخلق والمشيئة الْعَامَّة وَإِن كَانَ يكون نعْمَة فِي حق عُمُوم الْخلق وَالْمُؤمنِينَ وعَلى هَذَا يظْهر مَا تقدم من خيرات الله فَإِن ذَلِك اسْتِدْرَاج ومكر وإملاء وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من ثُبُوت الإنعام بهَا من وَجه وسلبه من وَجه آخر مثل مَا ذكر الله فِي قَوْله تَعَالَى فَأَما الْإِنْسَان إِذا مَا ابتلاه ربه فَأكْرمه ونعمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 فَيَقُول ربى أكرمن وَأما إِذا مَا آبتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه فَيَقُول رَبِّي أهانن كلا فَإِنَّهُ قد أخبر أَنه أكْرمه وَأنكر قَول الْمُبْتَلى رَبِّي أكرمن وَاللَّفْظ الَّذِي أخبر الله بِهِ مثل اللَّفْظ الَّذِي أنكرهُ الله من كَلَام الْمُبْتَلى لَكِن الْمَعْنى مُخْتَلف فَإِن المبتلي اعْتقد أَن هَذِه كَرَامَة مُطلقَة وَهِي النِّعْمَة الَّتِي يقْصد بهَا أَن النعم إكرام لَهُ والإنعام بِنِعْمَة لَا يكون سَببا لعذاب أعظم مِنْهَا وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل الله تَعَالَى ابتلاه بهَا ابتلاء ليتبين هَل يطيعه فِيهَا أم يعصيه مَعَ علمه بِمَا سَيكون من الْأَمريْنِ لَكِن الْعلم بِمَا سَيكون شَيْء وَكَون الشَّيْء وَالْعلم بِهِ شَيْء وَأما قَوْله تَعَالَى فَأكْرمه ونعمه فَإِنَّهُ تكريم بِمَا فِيهِ من اللَّذَّات وَلِهَذَا قرنه بقوله ونعمه وَلِهَذَا كَانَت خوارق الْعَادَات الَّتِي تسميها الْعَامَّة كَرَامَة لَيست عِنْد أهل التَّحْقِيق كَرَامَة مُطلقًا بل فِي الْحَقِيقَة الْكَرَامَة هِيَ لُزُوم الاسْتقَامَة وهى طَاعَة الله وَإِنَّمَا هِيَ مِمَّا يَبْتَلِي الله بِهِ عَبده فَإِن أطاعه بهَا رَفعه وَإِن عَصَاهُ بهَا خفضه وَإِن كَانَت من آثَار طَاعَة أخري كَمَا قَالَ تَعَالَى وألو استقاموا على الطَّرِيقَة لأسقيناهم مَاء غدقا لنفتنهم فِيهِ وَمن يعرض عَن ذكر ربه يسلكه عذَابا صعدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وَإِذا كَانَ فِي النِّعْمَة والكرامة هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَهِيَ من بَاب الْأَمر وَالشَّرْع نعْمَة يجب الشُّكْر عَلَيْهَا وَفِي بَاب الْحَقِيقَة الْقَدَرِيَّة لم تكن لهَذَا الْفَاجِر بهَا إِلَّا فتْنَة ومحنة اسْتوْجبَ بِمَعْصِيَة الله فِيهَا الْعَذَاب وَهِي فِي ظَاهر الْأَمر أَن يعرف حَقِيقَة الْبَاطِن ابتلاء وامتحان يُمكن أَن تكون من أَسبَاب سعادته وَيُمكن أَن تكون من أَسبَاب شقاوته وَظهر بهَا جَانب الِابْتِلَاء بالمر فَإِن الله يَبْتَلِي بالحلو والمر كَمَا قَالَ تَعَالَى ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة وإلينا ترجعون وَقَالَ وبلوناهم بِالْحَسَنَاتِ والسيئات لَعَلَّهُم يرجعُونَ فَمن ابتلاه الله بالمر بالبأساء وَالضَّرَّاء والبأس وَقدر عَلَيْهِ رزقه فَلَيْسَ ذَلِك إهانة لَهُ بل هُوَ ابتلاء فَإِن أطَاع الله فِي ذَلِك كَانَ سعيدا وَإِن عَصَاهُ فِي ذَلِك كَانَ شقيا كَمَا كَانَ مثل ذَلِك سَببا للسعادة فِي حق الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ وَكَانَ شقاء وسببا للشقاء فِي حق الْكفَّار والفجار وَقَالَ تَعَالَى وَالصَّابِرِينَ فِي البأساء وَالضَّرَّاء وَحين الْبَأْس وَقَالَ تَعَالَى أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ مستهم البأساء وَالضَّرَّاء وزلزلوا وَقَالَ تَعَالَى وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 النِّفَاق لَا تعلهم نَحن تعلمهمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ ثمَّ يردون إِلَى عَذَاب عَظِيم وَقَالَ تَعَالَى ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر لَعَلَّهُم يرجعُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ وكما أَن الْحَسَنَات وَهِي المسار الظَّاهِرَة الَّتِي يَبْتَلِي بهَا العَبْد تكون عَن طاعات فعلهَا العَبْد فَكَذَلِك السَّيِّئَات وَهِي المكاره الَّتِي يَبْتَلِي بهَا العَبْد تكون عَن معاصي فعلهَا العَبْد كَمَا قَالَ تَعَالَى مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك وَقَالَ تَعَالَى أولما أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قد أصبْتُم مثليها قُلْتُمْ أَنِّي هَذَا قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم وَقَالَ تَعَالَى وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير وَقَالَ تَعَالَى فَكيف إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم ثمَّ جاءوك يحلفُونَ بِاللَّه وَقَالَ تَعَالَى وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم فَإِن الْإِنْسَان كفور ثمَّ تِلْكَ المسار الَّتِي هِيَ من ثَوَاب طَاعَته إِذا عصي الله فِيهَا كَانَت سَببا لعذابه والمكاره الَّتِي هِيَ عُقُوبَة مَعْصِيَته إِذا أطَاع الله فِيهَا كَانَت سَببا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 لسعادته فَتدبر هَذَا لتعلم أَن الْأَعْمَال بخواتيمها وَأَن مَا ظَاهره نعْمَة هُوَ لَذَّة عاجلة قد تكون سَببا للعذاب وَمَا ظَاهره عَذَاب وَهُوَ ألم عَاجل قد يكون سَببا للنعيم وَمَا هُوَ طاعه فِيمَا يري النَّاس قد يكون سَببا لهلاك العَبْد بِرُجُوعِهِ عَن الطَّاعَة إِذا ابْتُلِيَ فِي هَذِه الطَّاعَة وَمَا هُوَ مَعْصِيّة فِيمَا يري النَّاس قد يكون سَببا لسعادة العَبْد بتوبته مِنْهُ وتصبره على الْمُصِيبَة الَّتِي هِيَ عُقُوبَة ذَلِك الذَّنب فَالْأَمْر وَالنَّهْي يتَعَلَّق بالشَّيْء الْحَاصِل فَيُؤْمَر العَبْد بِالطَّاعَةِ مُطلقًا وَيُنْهِي عَن الْمعْصِيَة مُطلقًا وَيُؤمر بالشكر على كل مَا يتنعم بِهِ وَأما الْقَضَاء وَالْقدر وَهُوَ علم الله وَكتابه وَمَا طابق ذَلِك من مَشِيئَته وخلقه فَهُوَ بِاعْتِبَار الْحَقِيقَة الآجلة فالأعمال بخواتيمها والمنعم عَلَيْهِم فِي الْحَقِيقَة هم الَّذين يموتون على الْإِيمَان وَقد يذكر تنَازع النَّاس فِي هَذَا الْبَاب فالمثبتة للْقَضَاء وَالْقدر من متكلمه أهل الْإِثْبَات وَغَيرهم يلاحظون الْقدر من علم الله وَكتابه ومشيئته وخلقه وَقد يعرضون عَمَّا جَاءَ بِهِ الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد وَعَن الْحِكْمَة الْعَامَّة وَمَا فِي تَفْصِيل ذَلِك من الحكم الْخَاصَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 وَأما من لم يُلَاحظ إِلَّا الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد فَقَط من الْقَدَرِيَّة وَمن ضاهاهم فِي حَاله فقد كفر بِمَا وَجب عَلَيْهِ الْإِيمَان بِهِ من خلق الله وَكتابه ومشيئته وتدبيره لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ الَّذين سبقت لَهُم مِنْهُ الْحجَّة بتدبير خَاص وَمن قَضَائِهِ على الْكفَّار بِمَا هُوَ فِيهِ عدل سُبْحَانَهُ كَمَا فِي الحَدِيث الْمَرْفُوع مَاض فِينَا أَمرك عدل فِينَا قضاؤك وَلَا يظلم رَبك أحدا وَإِذا عرف أَن كل وَاحِد من الِابْتِلَاء بالسراء وَالضَّرَّاء قد يكون فِي بَاطِن الْأَمر مصلحَة للْعَبد أَو مفْسدَة لَهُ وَأَنه إِن أطَاع الله بذلك كَانَ مصلحَة لَهُ وَإِن عَصَاهُ كَانَ مفْسدَة لَهُ تبين أَن النَّاس أَرْبَعَة أَقسَام مِنْهُم من يكون صَلَاحه على السَّرَّاء وَمِنْهُم من يكون صَلَاحه على الضراء وَمِنْهُم من يصلح على هَذَا وَهَذَا وَمِنْهُم من لَا يصلح على وَاحِد مِنْهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وَالْإِنْسَان الْوَاحِد قد تَجْتَمِع لَهُ هَذِه الْأَحْوَال الْأَرْبَعَة فِي أَوْقَات مُتعَدِّدَة أَو فِي وَقت وَاحِد باعتبارها أَنْوَاع يَبْتَلِي بهَا وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث الْمَرْفُوع أَن من عبَادي من لَا يصلحه إِلَّا الْغَنِيّ وَلَو أفقرته لأفسده ذَلِك وَإِن من عبَادي من لَا يصلحه إِلَّا الْفقر وَلَو أغنيته لأفسده ذَلِك وَإِن من عبَادي من لَا يصلحه إِلَّا السقم وَلَو أصححته لأفسده ذَلِك وَذَلِكَ أَنِّي أدبر عبَادي إِنِّي بهم خَبِير بَصِير فَكَمَا أَن التنعم العاجل لَيْسَ بِنِعْمَة قي الْحَقِيقَة قد يكون فِي الْحَقِيقَة بلَاء وشرا بِاعْتِبَار الْمعْصِيَة فِيهِ وَالطَّاعَة الْمُتَقَدّمَة قد تكون حابطة وسببا للشر بِاعْتِبَار مَا يعقبها من ردة وفتنة فَكَذَلِك التألم العاجل قد يكون فِي الْحَقِيقَة خيرا ونعمة وَالْمَعْصِيَة الْمُتَقَدّمَة قد تكون سَببا للخير بِاعْتِبَار التَّوْبَة وَالصَّبْر على مَا تعقبه من مُصِيبَة لَكِن تتبدل الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَهَذَا يَقْتَضِي أَن العَبْد مُحْتَاج فِي كل وَقت إِلَى الِاسْتِعَانَة بِاللَّه على طَاعَته وتثبيت قلبه وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 حَال الْإِنْسَان عِنْد السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان هُوَ كَمَا وَصفه الله بقوله تَعَالَى وَلَئِن أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة ثمَّ نزعناها مِنْهُ إِنَّه ليؤؤس كفور وَلَئِن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عني إِنَّه لفرح فخور وَقَالَ تَعَالَى إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير فَأخْبر أَنه عِنْد الضراء بعد السَّرَّاء ييأس من زَوَالهَا فِي الْمُسْتَقْبل وَيكفر بِمَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ قبلهَا وَعند النعماء بعد الضراء يَأْمَن من عود الضراء فِي الْمُسْتَقْبل وَيُنْسِي مَا كَانَ فِيهِ بقوله ذهب السَّيِّئَات عني إِنَّه لفرح فخور على غَيره يفخر عَلَيْهِم بِنِعْمَة الله عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا فَأخْبر أَنه جزوع عِنْد الشَّرّ لَا يصبر عَلَيْهِ منوع عِنْد الْخَيْر يبخل بِهِ وَقَالَ تَعَالَى إِن الْإِنْسَان لظلوم كفار وَقَالَ تَعَالَى إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود وَقَالَ تَعَالَى إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا وَقَالَ تَعَالَى وَكَانَ الْإِنْسَان قتورا وَقَالَ وَإِن مَسّه الشَّرّ فيؤوس قنوط وَقَالَ تَعَالَى فَلَمَّا نجاكم إِلَى الْبر أعرضتم وَكَانَ الْإِنْسَان كفورا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 حَال الْمُؤمن عِنْدهمَا وَقد وصف الْمُؤمنِينَ بِأَنَّهُم صَابِرُونَ فِي البأساء وَالضَّرَّاء وَحين الْبَأْس والصابرون فِي النعماء أَيْضا بقوله تَعَالَى إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَالصَّبْر فِي السَّرَّاء قد يكون أَشد وَلِهَذَا قَالَ من قَالَ من الصَّحَابَة ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فَلم نصبر وَكَانَ النَّبِي يستعيذ بِاللَّه من فتْنَة الْقَبْر وَشر فتْنَة الْغَنِيّ وَقَالَ لأَصْحَابه وَالله مَا الْفقر أخشي عَلَيْكُم وَلَكِن أَخَاف أَن تبسط عَلَيْكُم الدُّنْيَا كَمَا بسطت على من كَانَ قبلكُمْ فتتنافسوا فِيهَا كَمَا تنافسوا فِيهَا وتهلككم كم أهلكتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 فَمن لم يَتَّصِف بِحَقِيقَة الْإِيمَان هُوَ إِمَّا قَادر وَإِمَّا عَاجز فَإِن كَانَ قَادِرًا أظهر مَا فِي نَفسه بِحَسب قدرته من الْفَوَاحِش وَالْإِثْم وَالْبَغي والإشراك بِاللَّه وَالْقَوْل عَلَيْهِ بِغَيْر علم وَمن ترك الْقسْط وَترك إِقَامَة الْوَجْه عِنْد كل مَسْجِد وَدُعَاء الله مخلصا لَهُ الدَّين ثمَّ يكون شرهم بِحَسب كل مِنْهُم من حَيْثُ نُفُوسهم وقدرتهم فَإِن العَبْد لَا يفعل إِلَّا بقدرة وَإِرَادَة فَمن كَانَ أقدر وأفجر كَانَ أمره أَشد كفرعون وَأَمْثَاله من الجبارين المتكبرين لَا يصبرون عَن أهوائهم وَلَا يَتَّقُونَ الله وَأما الْمُؤمن فَإِنَّهُ مَعَ قدرته يفعل مَا أَمر الله بِهِ من الْبر وَالتَّقوى دون مَا نهي عَنهُ من الْإِثْم والعدوان ثمَّ أُولَئِكَ الَّذين لم يتصفوا بِحَقِيقَة الْإِيمَان بل فيهم من الْفُجُور كفر أَو نفاق أَو فسوق مَا فيهم إِذا كَانُوا عاجزين عَن إرادتهم لَا يقدرُونَ على أهوائهم بِنَوْع من أَنْوَاع الْقُدْرَة تجدهم أذلّ النَّاس وأطوع النَّاس لمن يستعملهم فِي أغراضهم وأجزع النَّاس لما أَصَابَهُم ذَلِك أَنه لَيْسَ فِي قُلُوبهم من الْإِيمَان مَا يعتاضون بِهِ وتستغني بِهِ نُفُوسهم ويصبرون بِهِ عَمَّا لَا يصلح لَهُم وَهَذِه حَال الْأُمَم الْبَعِيدَة عَن الْعلم وَالْإِيمَان كالترك التتار وَالْعرب فِي جاهليتهم فَإِنَّهُم أعز النَّاس إِذا قدرُوا وأذل النَّاس إِذا قهروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وَأما الْمُؤْمِنُونَ فَكَمَا قَالَ تَعَالَى لَهُم وَقد غلبوا وَلَا تهنوا وَلَا تحزنوا وَأَنْتُم الأعلون إِن كُنْتُم مُؤمنين فهم الأعلون إِذا كَانُوا مُؤمنين وَلَو غلبوا وَقَالَ كَعْب بن زُهَيْر فِي صفة الصَّحَابَة لَيْسُوا مفاريح إِن نَالَتْ رماحهم ... يَوْمًا وَلَيْسوا مجازيعا إِذا نيلوا وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْرُوع فِي حق كل ذِي إِرَادَة فَاسِدَة من الْفَوَاحِش وَالظُّلم والشرك وَالْقَوْل بِلَا علم أحد أَمريْن إِمَّا إصْلَاح إِرَادَته وَإِمَّا منع قدرته فَإِنَّهُ إِذا اجْتمعت الْقُدْرَة مَعَ إِرَادَته الْفَاسِدَة حصل الشَّرّ وَأما ذُو الْإِرَادَة الصَّالِحَة فتؤيد قدرته حَتَّى يتَمَكَّن من فعل الصَّالِحَات وَذُو الْقُدْرَة الَّذِي لَا يُمكن سلب قدرته يسعي فِي إصْلَاح إِرَادَته بِحَسب الْإِمْكَان فالمقصود تَقْوِيَة الْإِرَادَة الصَّالِحَة وَالْقُدْرَة عَلَيْهَا بِحَسب الْإِمْكَان وتضعيف الْإِرَادَة الْفَاسِدَة وَالْقُدْرَة مَعهَا بِحَسب الْإِمْكَان وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْمُؤمن أرجح فِي النَّعيم واللذة من الْكَافِر فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة وَإِن كَانَت الدُّنْيَا سجن الْمُؤمن وجنة الْكَافِر وَهَذَا مِمَّا يظْهر بِهِ حسن حَال الْمُؤمن وترجحه فِي النَّعيم واللذة على الْكَافِر فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة وَإِن كَانَت الدُّنْيَا سجن الْمُؤمن وجنة الْكَافِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 فَأَما مَا وعد بِهِ الْمُؤمن بعد الْمَوْت من كَرَامَة الله فَإِنَّهُ تكون الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سجنا وَمَا للْكَافِرِ بعد الْمَوْت من عَذَاب الله فَإِنَّهُ تكون الدُّنْيَا جنَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك وَذَلِكَ أَن الْكَافِر صَاحب الْإِرَادَة الْفَاسِدَة إِمَّا عَاجز وَإِمَّا قَادر فَإِن كَانَ عَاجِزا تَعَارَضَت إِرَادَته وَقدرته حَتَّى لَا يُمكنهُ الْجمع بَينهمَا وَإِن كَانَ قَادِرًا أقبل على الشَّهَوَات وأسرف فِي التذاذه بهَا وَلَا يُمكنهُ تَركهَا وَلِهَذَا تَجِد الْقَوْم من الظَّالِمين أعظم النَّاس فجورا وَفَسَادًا وطلبا لما يروحون بِهِ أنفسهم من مسموع ومنظور ومشموم ومأكول ومشروب وَمَعَ هَذَا فَلَا تطمئِن قُلُوبهم بِشَيْء من ذَلِك هَذَا فِيمَا ينالونه من اللَّذَّة وَأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 مَا يخافونه من الْأَعْدَاء فَهُوَ أعظم النَّاس خوفًا وَلَا عيشة لخائف وَأما الْعَاجِز مِنْهُم فَهُوَ فِي عَذَاب عَظِيم لَا يزَال فِي أَسف على مَا فَاتَهُ وعَلى مَا أَصَابَهُ وَأما الْمُؤمن فَهُوَ مَعَ مقدرته لَهُ من الْإِرَادَة الصَّالِحَة والعلوم النافعة مَا يُوجب طمأنينة قلبه وانشراح صَدره بِمَا يَفْعَله من الْأَعْمَال الصَّالِحَة وَله من الطُّمَأْنِينَة وقرة الْعين مَا لَا يُمكن وَصفه وَهُوَ مَعَ عَجزه أَيْضا لَهُ من أَنْوَاع الإرادات الصَّالِحَة والعلوم النافعة الَّتِي يتنعم بهَا مَا لَا يُمكن وَصفه لذات أهل الْبر أعظم من لذات أهل الْفُجُور وكل هَذَا محسوس مجرب وَإِنَّمَا يَقع غلط أَكثر النَّاس أَنه قد أحس بِظَاهِر من لذات أهل الْفُجُور وذاقها وَلم يذقْ لذات أهل الْبر وَلم يخبرها وَلَكِن أَكثر النَّاس جهال كَمَا لَا يسمعُونَ وَلَا يعْقلُونَ وَهَذَا الْجَهْل لعدم شُهُود حَقِيقَة الْإِيمَان وَوُجُود حلاوته وذوق طعمه انْضَمَّ إِلَيْهِ أَيْضا جهل كثير من الْمُتَكَلِّمين فِي الْعلم بِحَقِيقَة مَا فِي أَمر الله من الْمصلحَة وَالْمَنْفَعَة وَمَا فِي خلقه أَيْضا لعَبْدِهِ الْمُؤمن من الْمَنْفَعَة والمصلحة فَاجْتمع الْجَهْل بِمَا أخبر الله بِهِ من خلقه وَأمره وَمَا أشهده عباده من حَقِيقَة الْإِيمَان وَوُجُود حلاوته مَعَ مَا فِي النُّفُوس من الظُّلم مَانِعا للنفوس من عَظِيم نعْمَة الله وكرامته ورضوانه موقعا لَهَا فِي بأسه وعذابه وَسخطه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 لما خَاضَ النَّاس فِي مسَائِل الْقدر ابتدع طوائف مِنْهُم مقالات مُخَالفَة للْكتاب وَالسّنة: وَذَلِكَ أَن النَّاس لما خَاضُوا فِي مسَائِل الْقدر وَلم يخلق الله وَيَأْمُر وَنَحْو ذَلِك بِغَيْر هدي من الله فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا بدع الْقَدَرِيَّة فَزعم فريق أَنه لَا يخلق أحدا من الْأَشْخَاص إِلَّا لأجل مصلحَة الْمَخْلُوق وَلَا يَأْمُرهُ إِلَّا لِأَن أمره مصلحَة لَهُ أَيْضا وَإِنَّمَا العَبْد هُوَ الَّذِي صرف عَن نَفسه الْمصلحَة وَفعل الْمفْسدَة بِغَيْر قدرَة الرب وَبِغير مَشِيئَته وهم إِنَّمَا قصدُوا بهَا تَنْزِيه الرب عَن الظُّلم وَالْعَيْب وَوَصفه بالحكمة وَالْعدْل وَالْإِحْسَان لَكِن سلبوه علمه وَقدرته وكتابته وخلقه وَنَفَوْا مَشِيئَته وعمومها فَقَالَ قوم مِنْهُم إِنَّه لَا يعلم وَلَا يكْتب مَا يكون من الْعباد حَتَّى يفعلوه وَقَالَ آخَرُونَ بل علم ذَلِك وَعلم أَنهم لَا يطيعونه وَلَا يَفْعَلُونَ إِلَّا مَا يضرهم وَمَعَ هَذَا فقصد تعريفهم بالخلق وَالْأَمر للمنفعة الْخَالِصَة الدائمة فَقَالَ لَهُم النَّاس من علم أَن مَقْصُوده من الْخَيْر لَا يكون وَقد سعي فِي حُصُوله بمنتهى قدرته كَانَ من أَجْهَل الفاعلين وأسفههم فنزهوه عَن قَلِيل من السَّفه بِالْتِزَام مَا هُوَ أَكثر مِنْهُ وَزَعَمُوا أَنه لَا يقدر إِلَّا على مَا فعل بهم فسلبوه قدرته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 بدع طَائِفَة من أهل الْإِثْبَات فَرد على هَؤُلَاءِ من أهل الْإِثْبَات فأثبتوا عُمُوم قدرته وَعُمُوم مَشِيئَته وخلقه وَعلمه الْقَدِيم وكل هَذَا حسن مُوَافق للْكتاب وَالسّنة وَهُوَ مَعَ تَمام الْإِيمَان الْقدر بِعلم الله الْقَدِيم ومشيئته وخلقه وَقدرته على كل شَيْء لَكِن ضمُّوا إِلَى ذَلِك أَشْيَاء لَيست من السّنة فَإِنَّهُ من السّنة أَن يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد وَألا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون وَأَنه يَأْمر الْعباد بِطَاعَتِهِ وَمَعَ هَذَا يهدي من يَشَاء ويضل من يَشَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالله يدعوا إِلَى دَار السَّلَام وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم فزعموا مَعَ ذَلِك أَنه يخلق الْخلق لَا لحكمة فِي خلقهمْ وَلَا لِرَحْمَتِهِ لَهُم بل قد يكون خلقهمْ ليضرهم كلهم وَهَذَا عِنْدهم حِكْمَة فَلم ينزهوه عَمَّا نزه عَنهُ نَفسه من الظُّلم حَيْثُ أخبر أَنه إِنَّمَا يَجْزِي النَّاس بأعمالهم وَأَنه لَا يزر وَازِرَة وزر أخري وَأَنه من يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما بل زعما أَن كل مَقْدُور عَلَيْهِ فَلَيْسَ بظُلْم مثل تَعْذِيب الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وتكريم الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَغير ذَلِك مِمَّا نزه الله نَفسه عَنهُ فَلم يكن الظُّلم الَّذِي نزه الله نَفسه عَنهُ حَقِيقَة عِنْد هَؤُلَاءِ إِذْ كل مَا يُمكن وَيقدر عَلَيْهِ فَلَيْسَ بظُلْم فَقَوله تَعَالَى وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد عِنْدهم لَا يُرِيد مَا لَا يكون مُمكنا مَقْدُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدهم لَا يقدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 على الظُّلم حتي يكون تَارِكًا لَهُ وَزَعَمُوا أَنه قد يَأْمر الْعباد بِمَا لَا يكون مصلحَة لَهُم وَلَا لوَاحِد مِنْهُم لَا يكون الْأَمر مصلحَة وَلَا يكون فعل الْمَأْمُور بِهِ مصلحَة بل قد يَأْمُرهُم بِمَا إِن فَعَلُوهُ كَانَ مضرَّة لَهُم وَإِن لم يفعلوه عاقبهم بِهِ فَيكون العَبْد فِيمَا يَأْمُرهُ بِهِ بَين ضررين ضَرَر إِن أطَاع وضرر إِن عصي وَمن كَانَ كَذَلِك كَانَ أمره للعباد مضرَّة لَهُم لَا مصلحَة لَهُم وَقَالُوا يَأْمر بِمَا يَشَاء وأنكروا أَن يكون فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من الْعِلَل الْمُنَاسبَة للْأَحْكَام من جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار مَا تبقي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مُمكنَة بِهِ حتي كَانَ مِنْهُم من دفع علل الْأَحْكَام بِالْكُلِّيَّةِ وَمِنْهُم من قَالَ الْعِلَل مُجَرّد عَلَامَات ودلالات على الحكم لِأَنَّهَا أُمُور تناسب الحكم وتلائمه وَهُوَ يجوزون مَعَ هَذَا أَلا يكون للْعَبد ثَوَاب وَمَنْفَعَة فِي فعل الْمَأْمُور بِهِ لَكِن لما جَاءَت الشَّرِيعَة بالوعد قَالُوا هُوَ مَوْعُود بالثواب الَّذِي وعد بِهِ وَرُبمَا قَالُوا إِنَّه فِي الْآخِرَة فَقَط فَإِن الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ قد لَا يكون فِيهِ مصلحَة للعباد وَلَا مَنْفَعَة لَهُم بِحَال وَلَا يكون فِيهِ تنعم لَهُم وَلَا لَذَّة بِحَال بل قد يكون مضرَّة لَهُم ومفسدة فِي حظهم لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفَعهُمْ وَمَعْلُوم أَنه إِذا اعْتقد الْمَرْء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 أَن طَاعَة الله وَرَسُوله فِيهَا أمراه بِهِ قد لَا يكون فِيهَا مصلحَة لَهُ وَلَا مَنْفَعَة وَلَا فِيهَا تنعم وَلَا لَذَّة وَلَا رَاحَة بل يكون فِيهَا مفْسدَة لَهُ ومضرة عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا ألمه وعذابه كَانَ هَذَا من أعظم الصوارف لَهُ عَن فعل مَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله ثمَّ إِن كَانَ ضَعِيف الْإِيمَان بالوعيد والوعد ترك الدَّين بِالْكُلِّيَّةِ وَإِن كَانَ مُؤمنا بالوعيد صَارَت دواعيه مترددة بَين هَذَا الْعَذَاب وَذَلِكَ الْعَذَاب وَإِن كَانَ مُؤمنا بوعد الْآخِرَة فَقَط اعْتقد أَنه لَا تكون لَهُ فِي الدُّنْيَا مصلحَة وَلَا مَنْفَعَة بل لَا تكون الْمصلحَة وَالْمَنْفَعَة فِي الدُّنْيَا إِلَّا لمن كفر أَو فسق وعصي الرَّد عَلَيْهِم وَهَذَا أَيْضا وَإِن كَانَ هُوَ غَايَة حَال هَؤُلَاءِ فَهُوَ مِمَّا يصرف النُّفُوس عَن طَاعَة الله وَرَسُوله ويبقي العَبْد الْمُؤمن مُتَرَدّد الدَّوَاعِي بَين هَذَا وَهَذَا وَهُوَ لَا يَخْلُو من أَمريْن إِمَّا أَن يرجح جَانب الطَّاعَة الَّتِي يستشعر أَنه لَيْسَ فِيهَا طول عمره لَهُ مصلحَة وَلَا مَنْفَعَة وَلَا لَذَّة بل عَذَاب وألم بل مفْسدَة ومضرة وَهَذَا لَا يكَاد يصبر عَلَيْهِ أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 وَإِمَّا أَن يرجح جَانب الْمعْصِيَة تَارَة أَو تارات أَو غَالِبا ثمَّ إِن أحسن أَحْوَاله مَعَ ذَلِك أَن يَنْوِي التَّوْبَة قبيل مَوته وَلَا ريب إِن كَانَ مَا قَالَه هَؤُلَاءِ حَقًا فَصَاحب هَذِه الْحَال أَكيس وأعقل مِمَّن مَحْض طَاعَة الله طول عمره إِذْ أَن هَذَا سلم من عَذَاب ذَلِك الْمُطِيع فِي الدُّنْيَا ثمَّ إِنَّه بِالتَّوْبَةِ أحبط عَنهُ الْعقَاب وأبدل الله سيئاته بِالْحَسَنَاتِ فَصَارَت جَمِيع سيئاته حَسَنَات فَصَارَ ثَوَابه فِي الْآخِرَة قد يكون أعظم وَأعظم من ثَوَاب ذَلِك الْمُطِيع الَّذِي مَحْض الطَّاعَة وَلَو كَانَ ثَوَابه دون ثَوَاب ذَلِك لم يكن التَّفَاضُل بَينهم إِلَّا كتفاضل أهل الدَّرَجَات فِي الْجنَّة وَهَذَا مِمَّا يختاره أَكثر النَّاس على مكابدة الْعَذَاب والشقاء وَالْبَلَاء بطول الْعُمر إِذْ هُوَ أَمر لَا يصبر عَلَيْهِ أحد فَإِن مصابرة الْعَذَاب سِتِّينَ أَو سبعين سنة بِلَا مصلحَة وَلَا مَنْفَعَة وَلَا لَذَّة لَيْسَ هُوَ من جبلة الْأَحْيَاء إِذا جوزوا أَن لَا يكون فِي شَيْء من طَاعَة الله مصلحَة وَلَا مَنْفَعَة طول عمره وَهَؤُلَاء يجْعَلُونَ الْعباد مَعَ الله بِمَنْزِلَة الأجراء مَعَ المستأجرين كَأَن الله أستأجرهم طول مقامهم فِي الدُّنْيَا ليعملوا مَا لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا فِيهِ لرَبهم مَنْفَعَة ليعوضهم مَعَ ذَلِك بعد الْمَوْت بأجرتهم وَفِي هَذَا من تَشْبِيه الله بالعاجز الْجَاهِل السَّفِيه مَا يجب تَنْزِيه الله عَنهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الْمقَالة الصَّحِيحَة لأهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَالْحق الَّذِي يجب اعْتِقَاده أَن الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أرسل رَسُوله رَحْمَة للْعَالمين وان إرْسَال الرُّسُل وإنزال الْكتب رَحْمَة عَامَّة لِلْخلقِ أعظم من إِنْزَال الْمَطَر وإطلاع الْبذر وَإِن يحصل بِهَذِهِ الرَّحْمَة ضَرَر لبَعض النُّفُوس ثمَّ إِنَّه سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ قَتَادَة وَغَيره من السّلف لم يَأْمر الْعباد بِمَا أَمرهم بِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَلَا نَهَاهُم عَمَّا نَهَاهُم عَنهُ بخلا مِنْهُ بل أَمرهم بِمَا فِيهِ صَلَاحهمْ ونهاهم عَمَّا فِيهِ فسادهم وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح حَدِيث أبي ذَر عَن النَّبِي يَا عبَادي إِنِّي حرمت الظُّلم على نَفسِي وَجَعَلته بَيْنكُم محرما فَلَا تظالموا يَا عبَادي كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته فاستطعموني أطْعمكُم يَا عبَادي كلكُمْ ضال إِلَّا من هديته فاستهدوني أهدكم يَا عبَادي إِنَّكُم لن تبلغوا ضري فتضروني وَلنْ تبلغوا نفعي فتنفعوني يَا عبَادي لَو أَن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كَانُوا على أتقي قلب رجل وَاحِد مِنْكُم مَا زَاد ذَلِك فِي ملكي شَيْئا يَا عبَادي لَو أَن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كَانُوا على أفجر قلب رجل وَاحِد مِنْكُم مَا نقص ذَلِك من ملكي شَيْئا يَا عبَادي لَو أَن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجْتَمعُوا فِي صَعِيد وَاحِد يَسْأَلُونِي فَأعْطيت كل إِنْسَان مِنْهُم مَسْأَلته مَا نقص ذَلِك من ملكي شَيْئا إِلَّا كَمَا ينقص الْبَحْر إِذا غمس فِيهِ الْمخيط غمسة وَاحِدَة يَا عبَادي إِنَّمَا هِيَ أَعمالكُم ترد عَلَيْكُم فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد غير ذَلِك فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 رفع الله الْحَرج عَن الْمُؤمنِينَ وَقَالَ تَعَالَى فِي وصف النَّبِي الْأُمِّي يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم وَقَالَ تَعَالَى لما ذكر الْوضُوء مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون فَأخْبر أَنه لَا يُرِيد أَن يَجْعَل علينا من حرج فِيمَا أمرنَا بِهِ وَهَذِه نكرَة مُؤَكدَة بِحرف من فَهِيَ تَنْفِي كل حرج وَأخْبر أَنه إِنَّمَا يُرِيد تطهيرنا وإتمام نعْمَته علينا وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَة الْأُخْرَى وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده هُوَ اجتباكم وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدَّين من حرج مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم فقد أخبر أَنه مَا جعل علينا فِي الدَّين من حرج نفيا عَاما مؤكدا فَمن اعْتقد أَن فِيمَا أَمر الله بِهِ مِثْقَال ذرة من حرج فقد كذب الله وَرَسُوله فَكيف بِمن اعْتقد أَن الْمَأْمُور بِهِ قد يكون فَسَادًا وضررا لَا مَنْفَعَة فِيهِ وَلَا مصلحَة لنا وَلِهَذَا لما لم يكن فِيمَا أَمر الله وَرَسُوله حرج علينا لم يكن الْحَرج من ذَلِك إِلَّا من النِّفَاق كَمَا قَالَ تَعَالَى فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وَقَالَ الله تَعَالَى فِيمَا أَمر بِهِ من الصّيام يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر فَإِذا كَانَ لَا يُرِيد فِيمَا أمرنَا بِهِ مَا يعسر علينا فَكيف يُرِيد مَا يكون ضَرَرا وَفَسَادًا لنا بِمَا أمرنَا بِهِ إِذا أطعناه فِيهِ الْإِيمَان وَالطَّاعَة خير من الْكفْر وَالْمَعْصِيَة للْعَبد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ثمَّ إِنَّه يكون قد أخبر أَن الْإِيمَان وَالطَّاعَة خير من الْكفْر وَالْمَعْصِيَة للْعَبد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِن كَانَ لجهله يظنّ أَن ذَلِك خير لَهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَقُوله هَؤُلَاءِ الَّذين فيهم جهل ونفاق الَّذين قد يَقُولُونَ إِن الْمَأْمُور بِهِ قد لَا يكون فِيهِ للْعَبد مصلحَة وَلَا مَنْفَعَة طول عمره بل يكون ذَلِك فِي الْمنْهِي عَنهُ فَقَالَ تَعَالَى كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم وعسي أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وعسي أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لكم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ وَقَالَ تَعَالَى عَن الَّذين اتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان إِلَى قَوْله من خلاق ولبئس مَا شروا بِهِ أنفسهم لَو كَانُوا يعلمُونَ فَأخْبر أَنهم يعلمُونَ أَن هَذِه الْأُمُور لَا تَنْفَع بعد الْمَوْت بل لَا يكون لصَاحِبهَا نصيب فِي الْآخِرَة وَإِنَّمَا طلبُوا بهَا مَنْفَعَة الدُّنْيَا وَقد يسمون ذَلِك الْعقل المعيشي أَي الْعقل الَّذِي يعِيش بِهِ الْإِنْسَان فِي الدُّنْيَا عيشة طيبَة فَقَالَ تَعَالَى وَلَو أَنهم آمنُوا وَاتَّقوا لمثوبة من عِنْد الله خير لَو كَانُوا يعلمُونَ فاخبر أَن أولياءه الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ينبههم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 أَن فِي ذَلِك مَا هُوَ خير لَهُم مِمَّا طلبوه فِي الدُّنْيَا لَو كَانُوا يعلمُونَ فَيحصل لَهُم فِي الْآخِرَة من الْخَيْر الَّذِي هُوَ الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة مَا هُوَ أعظم مِمَّا يحصلوه بذلك من خير الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الأَرْض يتبوأ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نصيب برحمتنا من نشَاء وَلَا نضيع أجر الْمُحْسِنِينَ ثمَّ قَالَ ولأجر الْآخِرَة خير للَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَمَا كَانَ قَوْلهم إِلَّا أَن قَالُوا رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا وإسرافنا فِي أمرنَا وَثَبت أقدامنا وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ وَقَالَ عَن إِبْرَاهِيم وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين وَقد قَالَ تَعَالَى مَا يبين بِهِ أَن فعل الْمَكْرُوه من الْمَأْمُور خير من تَركه فِي الدُّنْيَا أَيْضا قَالَ تَعَالَى وَلَو أَنا كتبنَا عَلَيْهِم أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُم وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا وَإِذا لآتيناهم من لدنا أجرا عَظِيما ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وَهَذَا فِي سِيَاق حَال الَّذين يَزْعمُونَ أَنهم آمنُوا بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقد أمروا أَن يكفروا بِهِ وَيُرِيد الشَّيْطَان أَن يضلهم ضلالا بَعيدا وَهَؤُلَاء مُنَافِقُونَ من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكُونَ حَالهم أَيْضا شَبيه بِحَال الَّذين نبذوا كتاب الله وَرَاءَهُمْ ظهريا كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان فَإِن أُولَئِكَ عدلوا عَمَّا فِي كتاب الله إِلَى اتِّبَاع الجبت والطاغوت وَالسحر والشيطان وَهَذِه حَال الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب الَّذين يُؤمنُونَ بالجبت والطاغوت وَحَال الَّذين يتحاكمون إِلَى الطاغوت من المظهرين للْإيمَان بِاللَّه وَرُسُله فِيهَا من حَال هَؤُلَاءِ والطاغوت كل مُعظم ومتعظم بِغَيْر طَاعَة الله وَرَسُوله من إِنْسَان أَو شَيْطَان أَو شَيْء من الْأَوْثَان وَهَذِه حَال كثير مِمَّن يشبه الْيَهُود من المتفقهه والمتكلمة وَغَيرهم مِمَّن فِيهِ نوع نفاق من هَذِه الْأمة الَّذين يُؤمنُونَ بِمَا خَالف كتاب الله وَسنة رَسُوله من أَنْوَاع الجبت والطاغوت وَالَّذين يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى غير كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله وَقَالَ تَعَالَى وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا فَكيف إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 ثمَّ جاءوك يحلفُونَ بِاللَّه إِن أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا أَي هَؤُلَاءِ لم يقصدوا مَا فَعَلُوهُ من الْعدْل عَن طَاعَة الله وَرَسُوله إِلَى اتِّبَاع مَا اتَّبعُوهُ من الطاغوت إِلَّا لما ظنوه من جلب مَنْفَعَة لَهُم وَدفع مضرَّة عَنْهُم مثل طلب علم وَتَحْقِيق كَمَا يُوجد فِي صنف المتكلمة وَمثل طلب أذواق ومواجيد كَمَا يُوجد فِي صنف المتعبدة وَمثل طلب شهوات ظَاهِرَة وباطنة كَمَا يُوجد فِي صنف الَّذين يُرِيدُونَ الْعُلُوّ وَالَّذين يتبعُون شهوات الغي قَالَ تَعَالَى وَيُرِيد الشَّيْطَان أَن يضلهم ضلالا بَعيدا أَي ضلوا عَن مطلوبهم الَّذِي هُوَ جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة فَإِن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ فِي طَاعَة الله وَرَسُوله دون اتِّبَاع الطاغوت فَإِذا عاقبهم الله بنقيض مقصودهم فِي الدُّنْيَا فَأَصَابَتْهُمْ مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم قَالُوا مَا أردنَا بِمَا فَعَلْنَاهُ إِلَّا إحسانا أَي أردنَا الْإِحْسَان إِلَى نفوسنا لَا ظلمها وتوفيقا أَو جمعا بَين هَذَا وَهَذَا لتجتمع الْحَقَائِق والمصالح قَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذين يعلم الله مَا فِي قُلُوبهم من الاعتقادات الْفَاسِدَة والإرادات الْفَاسِدَة الظَّن وَمَا تهوي الْأَنْفس فَأَعْرض عَنْهُم وعظهم وَقل لَهُم فِي أنفسهم قولا بليغا ثمَّ قَالَ تَعَالَى وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا ليطاع بِإِذن الله وَلَو أَنهم إِذْ ظلمُوا انفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لَهُم الرَّسُول لوجدوا الله تَوَّابًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 رحِيما فَدَعَاهُمْ سُبْحَانَهُ بعد مَا فَعَلُوهُ من النِّفَاق إِلَى التَّوْبَة وَهَذَا من كَمَال رَحمته بعباده يَأْمُرهُم قبل الْمعْصِيَة بِالطَّاعَةِ وَبعد الْمعْصِيَة بالاستغفار وَهُوَ رَحِيم بهم فِي كلا الْأَمريْنِ بأَمْره لَهُم بِالطَّاعَةِ أَولا برحمته وَأمرهمْ بالاستغفار من رَحمته فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَحِيم بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذين أطاعوه أَولا وَالَّذين استغفروه ثَانِيًا فَإِذا كَانَ رحِيما بِمن يطيعه وَالرَّحْمَة توجب إِيصَال مَا يَنْفَعهُمْ إِلَيْهِم وَدفع مَا يضرهم عَنْهُم فَكيف يكون الْمَأْمُور بِهِ مُشْتَمِلًا على ضررهم دون منفعتهم معنى الْمَجِيء إِلَى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مماته وَقَوله فجاؤوك الْمَجِيء إِلَيْهِ فِي حُضُوره مَعْلُوم كالدعاء إِلَيْهِ وَأما فِي مغيبه ومماته فالمجيء إِلَيْهِ كالدعاء إِلَيْهِ وَالرَّدّ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول وَقَالَ تَعَالَى فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول وَهُوَ الرَّد والمجيء إِلَى مَا بعث بِهِ من الْكتاب وَالْحكمَة وَكَذَلِكَ الْمَجِيء إِلَيْهِ لمن ظلم نَفسه هُوَ الرُّجُوع إِلَى مَا أمره بِهِ فَإِذا رَجَعَ إِلَى مَا أمره بِهِ فَإِن الجائي إِلَى الشَّيْء فِي حَيَاته مِمَّن ظلم نَفسه يَجِيء إِلَيْهِ دَاخِلا فِي طَاعَته رَاجعا عَن مَعْصِيَته كَذَلِك فِي مغيبه ومماته واستغفار الله مَوْجُود فِي كل مَكَان وزمان وَأما اسْتِغْفَار الرَّسُول فَإِنَّهُ أَيْضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 يتَنَاوَل النَّاس فِي مغيبه وبعد مماته فَإِنَّهُ أَمر بِأَن يسْتَغْفر للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات وَهُوَ مُطِيع لله فِيمَا أمره بِهِ والتائب دَاخل فِي الْإِيمَان إِذْ الْمعْصِيَة تنقص الْإِيمَان وَالتَّوْبَة من الْمعْصِيَة تزيد فِي الْإِيمَان بِقَدرِهَا فَيكون لَهُ من اسْتِغْفَار النَّبِي بِقدر ذَلِك فَأَما مَجِيء الْإِنْسَان إِلَى الرَّسُول عِنْد قَبره وَقَوله اسْتغْفر لي أَو سل لي رَبك أَو ادعو لي أَو قَوْله فِي مغيبه يَا رَسُول الله ادْع لي أَو اسْتغْفر لي أَو سل لي رَبك كَذَا وَكَذَا فَهَذَا لَا أصل لَهُ وَلم يَأْمر الله بذلك وَلَا فعله وَاحِد من سلف الْأمة المعروفين فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة وَلَا كَانَ ذَلِك مَعْرُوفا بَينهم وَلَو كَانَ هَذَا مِمَّا يسْتَحبّ لَكَانَ السّلف يَفْعَلُونَ ذَلِك ولكان ذَلِك مَعْرُوفا فيهم بل مَشْهُورا بَينهم ومنقولا عَنْهُم فَإِن مثل هَذَا إِذا كَانَ طَرِيقا إِلَى غفران السَّيِّئَات وَقَضَاء الْحَاجَات لَكَانَ مِمَّا تتوفر الهمم والدواعي على فعله وعَلى نَقله لَا سِيمَا فِيمَن كَانُوا أحرص النَّاس على الْخَيْر فَإِذا لم يعرف أَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك وَلَا نَقله أحد عَنْهُم علم أَنه لم يكن مِمَّا يسْتَحبّ وَيُؤمر بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 بل الْمَنْقُول الثَّابِت عَنهُ مَا أَمر الله بِهِ النَّبِي من نَهْيه عَن اتِّخَاذ قَبره عيدا ووثنا وَعَن اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد وَأما مَا ذكره بعض الْفُقَهَاء من حِكَايَة الْعُتْبِي عَن الْأَعرَابِي الَّذِي أُتِي قبر النَّبِي وَقَالَ يَا خير الْبَريَّة إِن الله يَقُول وَلَو أَنهم إِذْ ظلمُوا أنفسهم وَإِنِّي قد جِئْت وَأَنه رَأْي النَّبِي فِي الْمَنَام وَأمره أَن يبشر الْأَعرَابِي فَهَذِهِ الْحِكَايَة وَنَحْوهَا مِمَّا يذكر فِي قبر النَّبِي وقبر غَيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 من الصَّالِحين فَيَقَع مثلهمَا لمن فِي إيمَانه ضعف وَهُوَ جَاهِل بِقدر الرَّسُول وَبِمَا امْر بِهِ فَإِن لم يعف عَن مثل هَذَا لِحَاجَتِهِ وَإِلَّا اضْطربَ إيمَانه وَعظم نفَاقه فَيكون فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة الْمُؤَلّفَة بالعطاء فِي حَيَاة النَّبِي كَمَا قَالَ إِنِّي لأتألف رجَالًا بِمَا فِي قُلُوبهم من الْهَلَع والجزع وَأكل رجَالًا إِلَى مَا جعل الله فِي قُلُوبهم من الْغَنِيّ وَالْخَيْر مَعَ أَن أَخذ ذَلِك المَال مَكْرُوه لَهُم فَهَذِهِ أَيْضا مثل هَذِه الْحَاجَات وَأما الْمَشْرُوع الَّذِي وَردت بِهِ سنته فَهُوَ دُعَاء الْمُسلم ربه متوسلا بِهِ لَا دعاؤه فِي مماته ومغيبه وَهُوَ أَن يفعل كَمَا فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ أَن النَّبِي علم رجلا أَن يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك وأتوسل إِلَيْك بنبيك مُحَمَّد نَبِي الرَّحْمَة يَا مُحَمَّد يَا نَبِي الله إِنِّي أتوسل بك إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 ليقضيها اللَّهُمَّ شفعه فِي وَذَلِكَ أَن الله يَقُول من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ وَقَالَ تَعَالَى مَا لكم من دونه من ولي وَلَا شَفِيع ثمَّ قَالَ تَعَالَى فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حتي يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا فأقسم بِنَفسِهِ على أَنه نفى إِيمَان من لم يجمع أَمريْن تحكيمه فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ أَن لَا يجد فِي نَفسه حرجا وَهَذَا يُوجب أَنه لَيْسَ فِي أمره وَنَهْيه مَا يُوجب الْحَرج لمن امتثل ذَلِك فَإِن حكمه لَا بُد فِيهِ من أَمر وَنهي وَإِن كَانَ فِيهِ إِبَاحَة أَيْضا فَلَو كَانَ الْمَأْمُور بِهِ والمنهي عَنهُ مضرَّة للْعَبد ومفسدة وألما بِلَا لَذَّة راجحة لم يكن العَبْد ملوما على وجود الْحَرج فِيمَا هُوَ مضرَّة لَهُ ومفسدة على الْمُؤمن أَن يحب مَا أحب الله وَيبغض مَا أبغضه الله ويرضى بِمَا قدره الله وَلِهَذَا لم يتنازع الْعلمَاء أَن الرِّضَا بِمَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله وَاجِب محبب لَا يجوز كَرَاهَة ذَلِك وَسخطه وَأَن محبَّة ذَلِك وَاجِبَة بِحَيْثُ يبغض مَا أبغضه الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 ويسخط مَا أسخطه الله من الْمَحْظُور وَيُحب مَا أحبه ويرضى مَا رضيه الله من الْمَأْمُور وَإِنَّمَا تنازعوا فِي الرِّضَا بِمَا يقدره الْحق من الْأَلَم بِالْمرضِ والفقر فَقيل هُوَ وَاجِب وَقيل هُوَ مُسْتَحبّ وَهُوَ أرجح وَالْقَوْلَان فِي أَصْحَاب الإِمَام احْمَد وَغَيرهم وَأما الصَّبْر على ذَلِك فَلَا نزاع أَنه وَاجِب وَقد قَالَ تَعَالَى فِي الأول وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا إِذا هم يسخطون وَلَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون فَجعل من الْمُنَافِقين من سخط فِيمَا مَنعه الله إِيَّاه وَرَسُوله وحضهم بِأَن يرْضوا بِمَا آتَاهُم الله وَرَسُوله وَالَّذِي آتَاهُ الله وَرَسُوله يتَنَاوَل مَا أَبَاحَهُ دون مَا حظره وَيدخل فِي الْمُبَاح الْعَام مَا أوجبه وَمَا أحبه وَإِذا كَانَ الصَّبْر على الضراء وَنَحْو ذَلِك مِمَّا أوجبه الله واحبه كَمَا أوجب الشُّكْر على النعماء وأحبه كَانَ كل من الصَّبْر وَالشُّكْر مِمَّا يجب محبته وَعَمله فَيكون مَا قدر لِلْمُؤمنِ من سراء مَعهَا شكر وضراء مَعهَا صبرا خيرا لَهُ كَمَا قَالَ النَّبِي لَا يقْضِي الله لِلْمُؤمنِ قَضَاء إِلَّا كَانَ خيرا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِك لأحد إِلَّا لِلْمُؤمنِ أَن أَصَابَته سراء فَشكر كَانَ خيرا لَهُ وَإِن أَصَابَته ضراء فَصَبر كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 خيرا وإِذا لَهُ وَإِذا كَانَ خيرا فالخير هُوَ الْمَنْفَعَة والمصلحة الَّذِي فِيهِ النيعم وَال كَمَا تقدم فَيكون كل مَقْدُور قدر للْعَبد إِذا عمل فِيهِ بِطَاعَة الله وَرَسُوله خيرا لَهُ وَإِنَّمَا يكون شرا لمن عمل بِمَعْصِيَة الله وَرَسُوله وَمثل ذَلِك فَهُوَ بِحَسبِهِ وَنِيَّته بلَاء قد يعْمل فِيهِ بِطَاعَة الله وَقد يعْمل فِيهِ بِمَعْصِيَة الله فَلَا يُوصف بِوَاحِد من الْأَمريْنِ فصل جَمِيع الحركات ناشئة عَن الْإِرَادَة وَالِاخْتِيَار وَإِذا كَانَ كل حَرَكَة فِي الْوُجُود فَلَا تَخْلُو من أَن تكون إرادية أَو طبعية أَو قسرية وَتبين أَن الطبيعة والقسرية فرع وَتبع للإرادية فَثَبت أَن جَمِيع الحركات ناشئة عَن الْإِرَادَة وَالِاخْتِيَار وَذَلِكَ يبطل أَن يُضَاف خلق شَيْء من الْمَخْلُوقَات إِلَى الطَّبْع الَّذِي فِي الْأَجْسَام مثل أَن يكون الْخَالِق للأجنة فِي الْأَرْحَام هُوَ طبع أَو الْخَالِق للنبات هُوَ طبع لِأَن الطَّبْع لَا يكون مبدءا لحركة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 الْجِسْم وانتقال أَصله إِلَّا إِذا أخرج عَن طبعه بِغَيْر طبعه كَمَا يجمع بَين الْأَجْسَام بالمزج والخلط فتنتقل عَن مراكزها ومحالها الْمُخَالف لمقتضي طبعها وَعند التَّحْقِيق يعود الطَّبْع إِلَى أَنه لَيْسَ فِيهَا سَبَب للحركة عَن حَالهَا وسكونها فَيكون الطَّبْع بِمَنْزِلَة السّكُون وَعدم الْحَرَكَة أَو أمرا وجوديا منافيا للحركة فالحركة الْوَارِدَة عَلَيْهَا مُخَالفَة لَهُ والطبع جمود وَهِي تنْتَقل عَن إِرَادَة وحركة فَعلم بطلَان إِصَابَة شَيْء من الْحَوَادِث العرضية عَن مُجَرّد الطَّبْع الَّذِي فِي الْموَات فَكيف بالحوادث الجوهرية والإرادة وَالِاخْتِيَار مستلزمة للحياة وَالْعلم كَمَا أَن الْحَيَاة أَيْضا مستلزمة للْعلم وللإرادة بل وللإرادة وَالْحَرَكَة كَمَا قرر ذَلِك عُثْمَان بن سعيد وَغَيره من أَئِمَّة السّنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 وكما أَن الْحَرَكَة مستلزمة للإرادة والحياة فالحياة أَيْضا مستلزمة للحركة والإرادة وَلِهَذَا كَانَ أعظم آيَة فِي الْقُرْآن الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم فالاسم الْحَيّ مُسْتَلْزم لصفاته وأفعاله وَهُوَ من أعظم الْبَرَاهِين الْعَقْلِيَّة على ثُبُوت صِفَات الْكَمَال والمصحح لَهَا والمستلزم ثُبُوتهَا وَنفي نقيضها كَالْعلمِ وَالْكَلَام والسمع وَالْبَصَر وَغير ذَلِك كَمَا هُوَ مُبين فِي مَوْضِعه فصل قَالَ الله تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود والنصاري أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين فتري الَّذين فِي قُلُوبهم مرض يُسَارِعُونَ فيهم يَقُولُونَ نخشي أَن تصيبنا دَائِرَة فعسي الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو أَمر من عِنْده فيصبحوا على مَا أَسرُّوا فِي أنفسهم نادمين وَيَقُول الَّذين آمنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم إِنَّهُم لمعكم حبطت أَعْمَالهم فَأَصْبحُوا خاسرين يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون أصل الْمُوَالَاة الْحبّ وأصل المعاداة البغض وأصل الْمُوَالَاة هِيَ الْمحبَّة كَمَا أَن أصل المعاداة البغض فَإِن التحاب يُوجب التقارب والاتفاق والتباغض يُوجب التباعد وَالِاخْتِلَاف وَقد قيل الْمولي من الْوَلِيّ وَهُوَ الْقرب وَهَذَا يَلِي هَذَا أَي هُوَ يقرب مِنْهُ والعدو من العدواء وَهُوَ الْبعد وَمِنْه العدوة وَالشَّيْء إِذا ولي الشَّيْء ودنا مِنْهُ وَقرب إِلَيْهِ اتَّصل بِهِ كَمَا أَنه إِذا عدي عَنهُ ونأي عَنهُ وَبعد مِنْهُ كَانَ مَاضِيا عَنهُ فأولياء الله ضد أعدائه يقربهُمْ مِنْهُ ويدنيهم إِلَيْهِ ويتولاهم ويتولونه ويحبهم ويرحمهم وَيكون عَلَيْهِم مِنْهُ صَلَاة وأعداؤه يبعدهم ويلعنهم وَهُوَ إبعاد مِنْهُ وَمن رَحمته ويبغضهم ويغضب عَلَيْهِم وَهَذَا شَأْن المتوالين والمتعادين فَالصَّلَاة ضد اللَّعْنَة وَالرَّحْمَة والرضوان ضد الْغَضَب والسخط وَالْعَذَاب ضد النَّعيم قَالَ تَعَالَى فِي حق الصابرين أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هم المهتدون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 وَقَالَ تَعَالَى فِي حق الْمُنَافِقين عَلَيْهِم دَائِرَة السوء وَغَضب الله عَلَيْهِم ولعنهم وَأعد لَهُم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا وَقَالَ تَعَالَى فِي حق الْمُجَاهدين يبشرهم رَبهم برحمة مِنْهُ ورضوان وجنات لَهُم فِيهَا نعيم مُقيم وَقَالَ تَعَالَى فِي قَاتل الْمُؤمن مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما والمتلاعنان يَقُول الرجل فِي الْخَامِسَة أَن لعنة الله عَلَيْهِ إِن كَانَ من الْكَاذِبين وَذَلِكَ يكون قَاذِفا وَقد قَالَ تَعَالَى إِن الَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات لعنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَهُم عَذَاب عَظِيم وَتقول الْمَرْأَة فِي الْخَامِسَة أَن غضب الله عَلَيْهَا إِن كَانَ من الصَّادِقين لِأَنَّهُ إِذا كَانَ صَادِقا كَانَت زَانِيَة فاستحقت الْغَضَب الَّذِي هُوَ ضد الرَّحْمَة وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فنهي عَن الرأفة بهما فِي دين الله وَالْمُؤمن يغار وَالله يغار وغيرة الله أعظم كَمَا قد استفاض عَن النَّبِي فِي الصَّحِيح من غير وَجه أَنه قَالَ لَا أحد أغير من الله من أجل ذَلِك حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وَفِي بعض الْأَحَادِيث الصِّحَاح لَا أحد أغير من الله أَن يَزْنِي عَبده أَو تَزني أمته وَفِي بَعْضهَا إِن الله يغار وغيرته أَن يَأْتِي العَبْد مَا حرم عَلَيْهِ والغيرة فِيهَا من البغض وَالْغَضَب مَا يدْفع بِهِ الْإِنْسَان مَا غَار مِنْهُ فالزنا وَإِن كَانَ صادرا عَن الشَّهْوَة والمحبة مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا فَإِن ذَلِك مُقَابل بضرورة التَّنَزُّه عَن الْفَوَاحِش والتورع عَن الْمُحرمَات فَأمر الله أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 لَا تأخذنا بهما رأفة فِي دين الله فنهانا عَن أَن تكون منا رأفة تدفع الْعَذَاب عَنْهُمَا فضلا عَن أَن يكون محبَّة لذَلِك الْفِعْل وَلِهَذَا أخبرنَا بِهِ بِأَنَّهُ لَا يحب ذَلِك أصلا فَقَالَ تَعَالَى إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء وَمَا لَا يَأْمر بِهِ لَا أَمر إِيجَاب وَلَا أَمر اسْتِحْبَاب لَا يُحِبهُ قَالَ لوط عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لعملكم من القالين والقلي بغضه وهجره والأنبياء أَوْلِيَاء الله يحبونَ مَا يحب الله ويبغضون مَا يبغض وَرُبمَا قيل القلي أَشد البغض فَالله سُبْحَانَهُ يبغض ذَلِك وَهُوَ سُبْحَانَهُ يبغض كل مَا نهي عَنهُ كَمَا أَنه يحب كل مَا أَمر بِهِ بل الْغيرَة مستلزمة لقُوَّة البغض إِذْ كل من يغار يبغض مَا غَار مِنْهُ وَلَيْسَ كل من يبغض شَيْئا يغار مِنْهُ فالغيرة أحض وأقوي وَلَا ريب أَن الْمَرْأَة الْمُزَوجَة الزَّانِيَة اسْتحقَّت الْغَضَب لشيئين لأجل مَا فِي الزِّنَا من التَّحْرِيم وَلِأَنَّهَا اعْتدت فِيهِ على الزَّوْج فأفسدت فراشة وَلِهَذَا كَانَ للزَّوْج إِذا قذف امْرَأَته وَلم يَأْتِ بأَرْبعَة شُهَدَاء أَن يلاعنها لما لَهُ فِي ذَلِك من الْحق وَلِأَنَّهُ مظلوم إِذا كَانَ صَادِقا وَعَلِيهِ فِي زنَاهَا من الضَّرَر مَا يحْتَاج إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 دَفعه بِمَا شَرعه الله كالمقذوف الَّذِي لَهُ أَن يَسْتَوْفِي حد الْقَذْف من الْقَاذِف الَّذِي ظلمه فِي عرضه فَكَذَلِك الزَّوْج لَهُ أَن يَسْتَوْفِي حد الْفَاحِشَة من الْبَغي الظالمة لَهُ المعتدية عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِي ص فِي حق الرجل على امْرَأَته وَأَن لَا يوطئن فرشكم من تكرهونه فَلهَذَا كَانَ لَهُ أَن يقذفها ابْتِدَاء وقذفها إِمَّا مُبَاح لَهُ وَأما وَاجِب عَلَيْهِ إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ لنفي النّسَب ويضطرها بذلك إِلَى أحد أَمريْن إِمَّا أَن تعترف فيقام عَلَيْهَا الْحَد فَيكون قد استوفي حَقه وتطهرت هِيَ أَيْضا من الْجَزَاء لَهَا والنكال فِي الْآخِرَة بِمَا حصل وَإِمَّا أَن تبوء بغضب الله عَلَيْهَا وعقابه فِي الْآخِرَة الَّذِي هُوَ أعظم من عِقَاب الدُّنْيَا فَإِن الزَّوْج مظلوم مَعهَا والمظلوم لَهُ اسْتِيفَاء حَقه إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَة قَالَ الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إِلَّا من ظلم بِخِلَاف غير الزَّوْج فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حق الافتراش فَلَيْسَ لَهُ قَذفهَا وَلَا أَن يُلَاعن إِذا قَذفهَا لِأَنَّهُ غير مُحْتَاج إِلَى ذَلِك مثل الزَّوْج وَلَا هُوَ مظلموم فِي فراشها لَكِن يحصل بالفاحشة من ظلم غير الزَّوْج مَا لَا يحْتَاج إِلَى اللّعان فَإِن فِي الْفَاحِشَة إِلْحَاق عَار بالأهل والعار يحصل بمقدمات الْفَاحِشَة فَإِذا لم تكن الْفَاحِشَة مَعْلُومَة بِإِقْرَار وَلَا بَيِّنَة كَانَ عُقُوبَة مَا ظهر مِنْهَا كَافِيا فِي اسْتِيفَاء الْحق مثل الْخلْوَة وَالنَّظَر وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي نهي الله عَنْهَا وَهَذَا من محَاسِن الشَّرِيعَة وَكَذَلِكَ كثيرا مَا يقْتَرن بالفواحش من ظلم غير الزَّانِيَيْنِ فَإِن إِذا حصل بَينهمَا محبَّة ومودة فَاحِشَة كَانَ ذَلِك مُوجبا لتعونهما على أغراضهما فَيبقى كل مِنْهُمَا يعين الآخر على أغراضه الَّتِي يكون فِيهَا ظلم النَّاس فَيحصل الْعدوان وَالظُّلم للنَّاس بِسَبَب اشتراكهما فِي الْقَبِيح وتعاونهما بذلك على الظُّلم كَمَا جرت الْعَادة فِي الْبَغي من النِّسَاء وَالصبيان أَن خدنه أَو المسافح بِهِ يحصل لَهُ مِنْهُ من الْإِكْرَام وَالعطَاء والنصر والمعاونة مَا يُوجب استطالة ذَلِك الْفَاجِر بترك حُقُوق الْخلق والعدوان عَلَيْهِم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 وَأَيْضًا فَإِن محبته لَهُ قد تحمل الطَّالِب الرَّاغِب على أَخذ أَمْوَال النَّاس بِغَيْر حق ليعطيه ذَلِك وتحمله أَيْضا على ترك حُقُوق النَّاس وَقَطِيعَة رَحمَه لأجل ذَلِك الشَّخْص فَإِنَّهُ لَا يُمكن الْجمع بَين الْأَمريْنِ ويحمله أَيْضا على الِانْتِصَار لَهُ بالعدوان فَفِي الْجُمْلَة الْمحبَّة توجب مُوَافقَة الْمُحب للمحبوب فَإِذا كَانَت الْمحبَّة فَاسِدَة لَا يُحِبهَا الله وَلَا يرضاها إِذا لم يَتَعَدَّ ضررها للاثنين تكون الْعقُوبَة لَهما حَقًا لله لَكِن هِيَ فِي الْغَالِب بل فِي اللَّازِم يتَعَدَّى ضررها إِلَى النَّاس فَإِن كل وَاحِد من الشخصين عَلَيْهِ حُقُوق للنَّاس وَهُوَ ينْهَى عَن الْعدوان عَلَيْهِم فَإِذا تحابا وتعاونا لم يتَمَكَّن كل مِنْهُمَا من الْقيام بِحُقُوق النَّاس وَاحْتَاجَ إِلَى أَن يعتدي عَلَيْهِم وَلَا يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يعْتَبر بِظَاهِر مَا يُقَال إِن الْإِنْسَان إِذا فعل فَاحِشَة فَإِن الْإِثْم عَلَيْهِ خَاصَّة وَلَيْسَ ذَلِك بظُلْم للْغَيْر فَإِن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ فِي الْفَاحِشَة الْمَحْضَة مثل الزِّنَا الْمَحْض الَّذِي لم يتَعَلَّق بِهِ حق الْغَيْر فإمَّا زنا الزَّوْجَة فَفِيهِ ظلم بالِاتِّفَاقِ كَمَا بَيناهُ وَكَذَلِكَ الْمحبَّة والعشق الْفَاسِد فَإِن هَذَا أعظم ضَرَرا من الزِّنَا مرّة وَاحِدَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 فَإِن الرجل إِذا زنا مرّة أَو مرَّتَيْنِ حصل غَرَضه وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة ثمَّ إِنَّه قد يكون بعوض من أَحدهمَا للْآخر وَقد لَا يكون فَرُبمَا كَانَ فِيهِ ظلم للْغَيْر وَأما الْمحبَّة والعشق فَإِن ذَلِك مُسْتَلْزم للعدوان على غَيرهمَا فِي الْعَادة فَإِن الْمحبَّة توجب أَن يُعْطي المحبوب من الْمَنَافِع وَالْأَمْوَال مَا يُوجب حرمَان الْغَيْر والعدوان عَلَيْهِ وَيُوجب من الِانْتِصَار للمحبوب وَالدَّفْع عَنهُ مَا فِيهِ أَيْضا ترك حق الْغَيْر والعدوان عَلَيْهِ أَلا تري أَن الرجل إِذا أحب غير امْرَأَته أَو الْمَرْأَة إِذا أحبت غير زَوجهَا قصر كل مِنْهُمَا فِي حُقُوق الآخر واعتدي عَلَيْهِ بل إِذا أحب الرجل امْرَأَة أَو صَبيا قصر فِي حُقُوق أَهله وأصدقائه مِمَّن لَهُ عَلَيْهِ حق بل وظلمهم أَيْضا كَمَا يظلم غَيرهم لأَجله وَهَذَا سوى مَا فِي ذَلِك من حق الله الَّذِي يُوجب غليظ عِقَابه وَإِن كَانَ الرجل الْعَاقِل قد يقوم من الْحُقُوق بِمَا يُمكن ويدع الظُّلم بِحَسب الْإِمْكَان إِلَّا أَن هَذَا مَظَنَّة وَسبب لذَلِك وَهَذَا مِمَّا يُوجب تحير الرجل وتردده وتلومه إِلَى الْحق تَارَة وَإِلَى الْبَاطِل أُخْرَى وَهَذَا مرض عَظِيم كَمَا ذكر الله تَعَالَى ذَلِك فِي قَوْله فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض وَأما مَا فِي ذَلِك من ظلم كل مِنْهُمَا لنَفسِهِ ولخدنه فَذَاك ظَاهر لكنهما ظلما أَنفسهمَا فهما الظالمان المظلومان وَأما الْغَيْر فظلماه بِغَيْر رِضَاهُ وَلَا اخْتِيَاره وَكَذَلِكَ مَا تُفْضِي إِلَيْهِ هَذِه الْمحبَّة الْبَاطِلَة من ظلم كل مِنْهُمَا للْآخر إِمَّا بقتْله وَإِمَّا بتعذيبه بِغَيْر الْحق وَإِمَّا مَنعه من الِاتِّصَال بِالنَّاسِ وَفعل مَا يخْتَار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 من مصلحَة وَغَيرهَا فَفِيهَا هَذِه الْمَفَاسِد كلهَا وأكبر مِنْهَا لَكِن ذَلِك ظلم مِنْهُمَا لأنفسهما مبدؤه المحبه الْفَاسِدَة وَلِهَذَا أَمر سُبْحَانَهُ أَن لَا تأخذنا بهما رأفه فِي دين الله فَإِن الرأفة وَالرَّحْمَة توجب أَن توصل للمرحوم مَا يَنْفَعهُ وتدفع عَنهُ مَا يضرّهُ وَإِذا رأف بهما أحد لأجل مَا فِي قلوبهما من الشَّهْوَة والمحبة وَغير ذَلِك وَترك عذابهما كَانَ ذَلِك جالبا لما يضرهما ودافعا لما ينفعهما فَإِن ذَلِك مرض فِي قلوبهما وَالْمَرِيض الَّذِي يَشْتَهِي مَا يضرّهُ لَيْسَ دواؤه إعطاءه المشتهي الضار بل دواؤه الحمية وَإِن آلمته وإعطاؤه مَا يَنْفَعهُ وتعويضه عَن ذَلِك الضار بِمَا أَمر مِمَّا لَا يضر فَهَكَذَا أهل الشَّهَوَات الْفَاسِدَة وَإِن أضرمت قُلُوبهم نَار الشَّهْوَة لَيْسَ رحمتهم والرأفة بهم تمكينهم من ذَلِك أَو ترك عَذَابهمْ فَإِن ذَلِك يزِيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 بلاءهم وعذابهم والحرارة الَّتِي فِي قُلُوبهم مثل حرارة المحموم متي مكن المحموم مِمَّا يضرّهُ ازْدَادَ مَرضه أَو انْتقل إِلَى مرض شَرّ مِنْهُ فَهَذِهِ حَال أهل الشَّهَوَات بل تدفع تِلْكَ الشَّهْوَة الحلوة بضدها وَالْمَنْع من موجباتها ومقابلتها بالضد من الْعَذَاب المؤلم وَنَحْوه الَّذِي يخرج الْمحبَّة من الْقلب كَمَا قيل فَإِنِّي رَأَيْت الْحبّ فِي الْقلب والأذى ... إِذا اجْتمعَا لم يلبث الْحبّ يذهب فَإِذا كَانَ يحصل بالمحبة ونيل الشَّهْوَة أَمر مِمَّا يزِيد ألمه على لذتها انكفت النَّفس وَكَذَلِكَ إِذا حصل بدله أَمر لذيذ أطيب مِنْهُ اغتاظت النَّفس فاللذيذ يتْرك لما يرجح عَلَيْهِ من لذيذ وأليم كَمَا أَن الْأَلِيم مُحْتَمل لما يرجح عَلَيْهِ من لذيذ وأليم وَإِذا تكافئا تقابلا فَلم يغلب أَحدهمَا الآخر بل تبقي الْأُمُور على مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذا اسْتَوَت الدَّوَاعِي والصوارف وَاحْتِمَال الْأَلِيم وفوت اللذيذ وَإِن كَانَ فِيهِ مرَارَة فَذَلِك يدْفع بِهِ مَا هُوَ أَمر مِنْهُ ويجلب بِهِ مَا هُوَ أرجح مِنْهُ من الحلو وَلَكِن هَذَا من محبَّة بني آدم وفتنتهم الَّتِي لَا بُد مِنْهَا وَهِي محالفة الْأَهْوَاء فَلَا تقوم مصلحَة أحد من بني آدم بِدُونِ ذَلِك أبدا لَا مصلحَة دُنْيَاهُ وَلَا مصلحَة دينه كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ أجمع عقلاء كل أمة على أَن النَّعيم لَا يدْرك بالنعيم وَلَا بُد من الصَّبْر فِي جَمِيع الْأُمُور قَالَ تَعَالَى وَالْعصر إِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 الْإِنْسَان لفي خسر إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ فَلَا بُد من التواصي بِالْحَقِّ وَالصَّبْر إِذْ أَن أهل الْفساد وَالْبَاطِل لَا يقوم باطلهم إِلَّا بصبر عَلَيْهِ أَيْضا لَكِن الْمُؤْمِنُونَ يتواصون بِالْحَقِّ وَالصَّبْر وَأُولَئِكَ يتواصون بِالصبرِ على باطلهم كَمَا قَالَ قَائِلهمْ أَن امشوا واصبروا على آلِهَتكُم إِن هَذَا لشَيْء يُرَاد فالتواصي بِالْحَقِّ بِدُونِ الصَّبْر كَمَا يَفْعَله الَّذين يَقُولُونَ آمنا بِاللَّه فَإِذا أوذي أحدهم فِي الله جعل فتْنَة النَّاس كعذاب الله وَالَّذين يعْبدُونَ الله على حرف فَإِن أصَاب أحدهم خير اطْمَأَن بِهِ وَإِن أَصَابَته فتْنَة انْقَلب على وَجهه خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والتواصي بِالصبرِ بِدُونِ الْحق كَقَوْل الَّذين قَالُوا أَن امشوا واصبروا على آلِهَتكُم كِلَاهُمَا مُوجب للخسران وَإِنَّمَا نجا من الخسران الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَهَذَا مَوْجُود فِي كل من خرج عَن هَؤُلَاءِ من أهل الشَّهَوَات الْفَاسِدَة وَأهل الشُّبُهَات الْفَاسِدَة أهل الْفُجُور وَأهل الْبدع وَمَا ذَكرْنَاهُ من أَن الْمحبَّة الْفَاسِدَة توجب ظلم المتحابين لأنفسهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 ولغيرهما مَوْجُود فِي كل محبَّة يبغضها الله كمحبة الأنداد والشركاء من دونه قَالَ تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله وَقَالَ تَعَالَى وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم وكمحبة أهل الشَّهَوَات لجنس الْفَوَاحِش ومحبة أهل الظُّلم والقائلين على الله مَا لَا يعلمُونَ فَإِن الْمحبَّة توجب تعاون المتحابين واتفاقهما فَلَا بُد أَن يبغضا ويعاديا من يبغض ذَلِك مِنْهُمَا ويخالفهم فِيهِ وَمَعْلُوم أَن كل مُؤمن فَإِنَّهُ يبغض مَا يبغضه الله وَيُحب مَا يُحِبهُ الله فَلَا بُد أَن يكون التحاب الَّذِي يبغضه الله مُوجبا لنَوْع بغض الْمُؤمنِينَ بِحَسبِهِ فصل تَقْسِيم الْعلم إِلَى فعلي وانفعالي قد كتبت فِي غير هَذَا الْموضع أَن النَّاس وَإِن تنازعوا فِي الْعلم هَل هُوَ صفة إنفعالية تَابِعَة للمعلوم كَمَا قد يُطلقهُ كثير من أهل الْكَلَام أَو هُوَ صفة فعلية مُؤثرَة فِي الْمَعْلُوم كَمَا يَقُوله طوائف من المتفلسفة فَإِن الصَّوَاب أَنه يَنْقَسِم إِلَى النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا فَمِنْهُ مَا هُوَ تَابع للمعلوم غير مُؤثر فِيهِ بِحَال وَهُوَ الْعلم النظري القولي الخبري الْمَحْض كعلمنا بِمَا لَا تَأْثِير لنا فِي وجوده كَالْعلمِ بالخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَلَائِكَته وَكتبه وأنبيائه وَسَائِر مخلوقاته وَمِنْه مَا هُوَ فعلي لَهُ تَأْثِير فِي الْمَعْلُوم كعلمنا بأفعالنا الاختيارية وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من حُصُول مَنْفَعَة وَدفع مضرَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 وَهَذَا التَّقْسِيم ثَابت فِي علم الله تَعَالَى فَإِنَّهُ يعلم نَفسه وَيعلم مخلوقاته أَيْضا وَالْأول علم بموجود وَالثَّانِي علم بمقصود لَكِن الْعلم بالموجود المستغني عَن أفعالنا يتبع الْعلم بِهِ حبه تَارَة وبغضه أخري فَيكون الْعلم بِهِ سَببا لأفعال لنا مُتَعَلقَة بِهِ فَيكون هَذَا الْعلم الانفعالي فعليا مؤثرا من هَذَا الْوَجْه وَعلمنَا بِالْحَسَنَاتِ والسيئات الَّتِي فِي أَفعَال غَيرنَا من هَذَا الْوَجْه علم الرب بِأَفْعَال عباده الصَّالِحَة والسيئة يسْتَلْزم حبه للحسنات وبغضه للسيئات وَعلم الرب سُبْحَانَهُ بِأَفْعَال عباده الصَّالِحَة والسيئة مُسْتَلْزم أَيْضا حبه للحسنات وبغضه للسيئات وَالْعلم بِالْمَقْصُودِ من أفعالنا وَإِن كَانَ مؤثرا فِي الْمَعْلُوم وَهُوَ سَبَب فِي حُصُوله فَلَا يكون إِلَّا بعد علم بِأُمُور مَوْجُودَة أوجب قصدا أَو اخْتِيَارا لتِلْك الْأَفْعَال فَإِن الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ يتبع الْإِرَادَة والإرادة تتبع المُرَاد فَلَا بُد أَن يتَصَوَّر الْفَاعِل المُرَاد قبل قصد الْفِعْل الَّذِي هُوَ سَبَب إِلَيْهِ كَمَا يُقَال آخر الفكرة أول الْعَمَل وتسمي الْعلَّة الغائية فَلَا بُد من تصور ذَلِك المُرَاد وَأَن يكون مَا يَتَرَتَّب على الْفِعْل من لَذَّة تجلب مَنْفَعَة وتدفع مضرَّة فاللذة مَشْرُوطَة بالإحساس باللذيذ وَالْإِنْسَان لَا يفعل ابْتِدَاء لطلب لذيذ إِلَّا أَن يكون قد أحسه قبل ذَلِك فَأَحبهُ واشتهاه واشتاق إِلَيْهِ وَذَلِكَ علم بِأَمْر مَوْجُود تَابع للمعلوم تبعه علم بِأَمْر مَقْصُود تَابع للْعلم وَإِن كَانَت اللَّذَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 قد تحصل ابْتِدَاء لَا عَن شوق كمن يَذُوق الشَّيْء الطّيب الَّذِي لم يكن يعرفهُ فَيُحِبهُ بعد ذَلِك لَكِن هَذَا لم يتَقَدَّم مِنْهُ طلب وَفعل فِي حُصُول هَذَا المحبوب بِخِلَاف من ذاقه ابْتِدَاء فَأَحبهُ ثمَّ سعي فِي تَحْصِيل نَظَائِر مَا حصل لَهُ ابْتِدَاء فقد تبين أَن كلا العلمين الْفعْلِيّ والانفعالي مُسْتَلْزم للْآخر وَكَذَلِكَ علم الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِنَفسِهِ مُسْتَلْزم لعلمه بصفاته وافعاله ومفعولاته وَهُوَ سُبْحَانَهُ يحمد نَفسه ويثني عَلَيْهَا فَلَا نحصي ثَنَاء عَلَيْهِ بل هُوَ كَمَا أثني على نَفسه وَعلمه بأفعاله ومفعولا ته مُسْتَلْزم لعلمه بِنَفسِهِ وَعلمه بالمخلوقات وأفعالها يتبعهُ حبه وبغضه وَأمره وَنَهْيه وَعلمه بِمَا يَفْعَله بعباده من ثَوَاب وعقاب وَغير ذَلِك تَابع لعلمه بِمَا هِيَ عَلَيْهِ وَقد تكلمنا على نَحْو هَذَا فِي غير هَذَا الْموضع وَإِنَّمَا الْمَقْصُود فِي هَذَا الْمَكَان أَن هَذَا التَّقْسِيم الْوَارِد فِي الْعلم يرد نَحوه فِي الْإِرَادَة والمحبة وَنَحْو ذَلِك الْإِرَادَة والمحبة ينقسمان أَيْضا إِلَى فعليتين وانفعاليتين فَإِن الْإِرَادَة والمحبة تَنْقَسِم أَيْضا إِلَى فعلية مُؤثرَة فِي المُرَاد المحبوب وَهِي إِرَادَة الْفِعْل وحبه وَإِن كَانَ المُرَاد المحبوب تَابعا مَفْعُولا مَعْدُوما وَقد ظن بعض النَّاس أَن الْإِرَادَة والمحبة لَيست إِلَّا هَذَا النَّوْع حتي قَالَ لَا تتَعَلَّق الْإِرَادَة والمحبة إِلَّا بالمعدوم دون الْمَوْجُود وبالمحدث دون الْقَدِيم وَهَذَا قَول طوائف من أهل الْكَلَام وَأكْثر هَؤُلَاءِ هم أَكثر الْقَائِلين بِأَن الْعلم لَا يكون إِلَّا انفعاليا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 فيجعلون الْعلم لَا يتَعَلَّق فِي الْحَقِيقَة إِلَّا بِمَعْلُوم متبوع كالموجود ويجعلون الْإِرَادَة لاتتعلق إِلَّا بِمُرَاد تَابع كالمفعول الْمَعْدُوم وتنقسم إِلَى انفعاليه تَابعه للمراد المحبوب لَيست مُؤثرَة فِي وجوده أصلا بل يكون المحبوب المُرَاد مَوْجُودا بِدُونِ الْإِرَادَة وَإِنَّمَا يحب الْمُحب ذَلِك الْمَوْجُود ويريده وَيُقَال فِي كثير من أَنْوَاع ذَلِك يهواه ويعشقه وَنَحْو ذَلِك من الْعبارَات وَهَذَا الْقسم فِي الْحَقِيقَة هُوَ الأَصْل فِي الْقسم الأول كَمَا قد تكلمنا عَلَيْهِ فِي بعض الْقَوَاعِد الْمُتَقَدّمَة من سِنِين وَذكرنَا أَن الْعلم والإرادة إِنَّمَا يتَعَلَّق أَولا بالموجود وَأَن تعلقه بالمعدوم تَابع لتَعَلُّقه بالموجود وَذكرنَا أَن الْإِنْسَان لَا يحب الشَّيْء ويريده حَتَّى يكون لَهُ بِهِ شُعُور أَو إحساس أَو معرفَة وَنَحْو ذَلِك وَيكون مَعَ ذَلِك بِنَفسِهِ إِلَيْهِ ميل وفيهَا لَهُ حب وكل وَاحِد من هَاتين الْفرْقَتَيْنِ فِي فطرته وجبلته الْمعرفَة والمحبة وَلِهَذَا كَانَ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فطْرَة الْإِسْلَام وَهِي عبَادَة الله وَحده وأصل ذَلِك مَعْرفَته ومحبته وَالنَّفس لَا تحس الْعَدَم الْمَحْض وَإِنَّمَا تعرف الْعَدَم بِنَوْع من الْقيَاس الْمُقدر على الْوُجُود كَمَا يقدر فِي نَفسه جبل ياقوت وبحر زئبق فَنزل ذَلِك مِمَّا علمه من الْجَبَل وَمن الْيَاقُوت ثمَّ يَنْفِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 ذَلِك الْمُقدر فِي ذهنه أَن يكون مَوْجُودا فِي الْخَارِج وَهُوَ لم يحكم على نَفْيه حَتَّى صَار مَوْجُودا فِي نَفسه وجودا تقديريا الْحبّ يتبع الإحساس والإحساس يكون بموجود لَا بمعدوم فَإِذا كَانَ الْحبّ يتبع الإحساس والإحساس لَا يكون إِلَّا بموجود مَا فَإِن مَا يحب لَا يكون إِلَّا بموجود وَأَيْضًا فَإِن الإحساس لَا يكون أَولا إِلَّا لموجود فَكَذَلِك الْحبّ فِي نَفسه لَا يكون إِلَّا لموجود أَو مَحْبُوب وَإِن كَانَ يحب وجود الْمَعْدُوم فَهُوَ لاشيء وَمَا لَيْسَ بِشَيْء لَا يكون محبوبا وَإِن كَانَ يحب وجود الْمَعْدُوم ويريده فَلَا بُد أَن يكون قبل ذَلِك قد ذاقه والتذ بِهِ مَوْجُودا حَتَّى أحبه بعد ذَلِك أَو ذاق والتذ بنظيره أَو بِمَا يُشبههُ كَمَا ذَلِك فِي الْعلم وَهَذَا مَذْكُور فِي غير هَذَا الْموضع وَلَا يرد على هَذَا مَا يُوجد من بكاء الصَّبِي حِين يُولد قبل أَن يَذُوق طعم اللَّبن فَإِذا ذاق اللَّبن التذ بِهِ وَسكن فَإِن الصَّبِي قبل ذوقه اللَّبن لم يكن يُحِبهُ ويشتهيه وَلَكِن يجد ألم الْجُوع فيبكي من ذَلِك الْأَلَم فَلَمَّا ذاق اللَّبن وَوجد لذته وَأَنه أذهب ألم الْجُوع أحبه من حِينَئِذٍ صَار يشتهيه وَيُحِبهُ وَهَكَذَا كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 من جَاع فَإِنَّهُ لَا يَشْتَهِي شَيْئا معينا إِلَّا أَن يكون ذاقه قبل ذَلِك وَلَكِن يجد طلبا لما يزِيل بِهِ ألم الْجُوع وَلِهَذَا إِذا حضر عِنْده ماقد ذاقه قبل ذَلِك ومالم يذقه قبل ذَلِك اشتاق إِلَى الأول وأحبه وَكَانَ شوقه إِلَى الثَّانِي ومحبته إِيَّاه مَشْرُوطًا بذوقه إِيَّاه وَسَمَاع وَصفه مِمَّن يُخبرهُ فَإِن سَماع الْوَصْف يُورث الْمحبَّة والشوق كَمَا يُورث الْعلم كَمَا قيل وَالْأُذن تعشق قبل الْعين أَحْيَانًا لكَون النَّفس ذاقت طعم الْحبّ لما هُوَ من نَظِير لذَلِك أَو شَبيه بِهِ وَلَو من وَجه بعيد فَكَمَا أَن الشَّيْء لَا يتَصَوَّر إِلَّا بعد الْحس بِهِ أَو بِمَا فِيهِ شبه بِهِ من بعض الْوُجُوه فَكَذَلِك لَا يحب كَذَلِك الْأُمُور الغائبة لَا تعرف وَلَا تحب وَتبْغض إِلَّا بِنَوْع من الْقيَاس والتمثيل وَلِهَذَا ضربت الْأَمْثَال للتعريف وَالتَّرْغِيب والترهيب فَإِن الْأُمُور الغائبة عَن الْمُشَاهدَة والإحساس لَا تعرف وتحب وَتبْغض إِلَّا بِنَوْع من التَّمْثِيل وَالْقِيَاس سَوَاء كَانَ الْغَائِب أكمل فِي الصِّفَات الْمَطْلُوبَة الْمُشْتَركَة كالموعود بِهِ من أَمر الْجنَّة وَالنَّار وكما يصف بِهِ الرب نَفسه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَو مَا كَانَ دون ذَلِك كَمَا مثل من الْأُمُور بِمَا هُوَ أكمل مِنْهُ وَمن هُنَا ضل من ضل من الصابئة المتفلسفة وَمن أضلوه من أهل الْملَل حَيْثُ ظنُّوا أَن مَا وصف الله بِهِ من الْجنَّة وَالنَّار إِنَّمَا هِيَ أَمْثَال مَضْرُوبَة لتفهيم الْمعَاد الروحاني من غير أَن تكون حقائق وضل من رد عَلَيْهِم من نفاة أهل الْكَلَام كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 أصَاب الْفَرِيقَيْنِ مثل ذَلِك فِي أَمر النَّفس الناطقة حَيْثُ تقابلوا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَات وَحَيْثُ اتّفق الْفَرِيقَانِ على مثل هَذَا الضلال فِي صِفَات ذِي الْجلَال فخاضوا فِي بَاب الْإِيمَان بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر خوضا لَيْسَ هَذَا مَوضِع بسط الْكَلَام فِيهِ وَإِن كَانَ كل ذِي مقَالَة فَلَا بُد أَن تكون فِي مقَالَته شُبْهَة من الْحق وَلَوْلَا ذَلِك لما راجت واشتبهت وَإِن كَانَت الْإِرَادَة والمحبة تَنْقَسِم إِلَى متبوعة للمراد تكون لَهُ كالسبب الْفَاعِل وَإِلَى تَابِعَة للمراد يكون هُوَ لَهَا كالسبب الْفَاعِل وَتَكون عَنهُ كالمسبب الْمَفْعُول وَهَذَا هُوَ الأَصْل وَإِذا علم أَن جَمِيع حركات الْعَالم صادرة عَن محبَّة وَإِرَادَة وَلَا بُد للمحبة والإرادة من سَبَب فَاعل يكون هُوَ المحبوب المُرَاد علم بذلك أَنه لَا بُد لجَمِيع الحركات من إِلَه يكون المعبود الْمَقْصُود المُرَاد المحبوب لَهَا وَأَنَّهَا دَالَّة على الْإِلَه الْحق من هَذَا الْوَجْه وَأَنه لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا وَهَذَا غير هَذَا الْوَجْه الَّذِي دلّت مِنْهُ على ربوبيته وَقد بسطنا الْكَلَام على ذَلِك فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة إِذْ هُوَ أجل الْعلم الإلاهي وأشرفه وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُود هُنَا التَّنْبِيه على أَن الْإِرَادَة نَوْعَانِ كَالْعلمِ وَالله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401