الكتاب: مناظرة بين الإسلام والنصرانية   لمناقشة العقيدة الدينية بين مجموعة من رجال الفكر من الديانتين الإسلامية والنصرانية المؤلف: مثل الجانب الإسلامي في المناظرة كل من الشيخ الدكتور محمد جميل غازي والأستاذ إبراهيم خليل أحمد واللواء المهندس أحمد عبد الوهاب الناشر: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض - المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1413 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- مناظرة بين الإسلام والنصرانية مجموعة من المؤلفين الكتاب: مناظرة بين الإسلام والنصرانية   لمناقشة العقيدة الدينية بين مجموعة من رجال الفكر من الديانتين الإسلامية والنصرانية المؤلف: مثل الجانب الإسلامي في المناظرة كل من الشيخ الدكتور محمد جميل غازي والأستاذ إبراهيم خليل أحمد واللواء المهندس أحمد عبد الوهاب الناشر: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض - المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1413 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الناشر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. وبعد: الصراع بين الحق والباطل والكفر والإيمان سيظل قائما ما بقيت السماوات والأرض لا تهدأ معاركه، ولا تخبو جذوته، ولا تنتهي حوادثه، لكن مهما بلغت قوة الباطل وصولته، ومهما كانت دولته وكثرته فإن العاقبة ستكون بإذن الله دائما لأولياء الله المتقين ودعاته المخلصين، فحسب دعاة الحق أنهم يستمدون قوتهم من قوة الله، ويأخذون أدلتهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما دعاة الباطل فليس لهم إلا الحجج الواهية التي ترتكز على ضروب من الجهل والأوهام السخيفة. والكتاب الذي نمهد له خير شاهد على ذلك. فلقد قام نخبة من علماء المسلمين بدعوة من بعض قساوسة نصارى ومبشرين في الفترة من 23 / 1 / 1401هـ إلى 29 / 1 / 1401هـ، الموافق 1 / 12 / 1980م إلى 7 / 12 / 1980م، بالخرطوم. وقد مثل الجانب الإسلامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 كلا من الشيخ الدكتور محمد جميل غازي والأستاذ إبراهيم خليل أحمد واللواء المهندس أحمد عبد الوهاب. وفي الجانب النصراني برئاسة البشير جيمس بخيت سليمان والأستاذ تيخا رمضان، قام هؤلاء باستعراض تفصيلي لحقيقة العقيدة النصرانية المسطرة في كتبهم ومناقشتها على ضوء ما يقرون به من معتقدات التثليث والصلب والفداء والأبوة والبنوة وعن الكتب المقدسة بعهديها القديم والجديد، وأماطوا اللثام عن هذا التعارض والتناقض الذي تحمله هذه الأناجيل. ولا شك أن جدالا كهذا جدير بالاهتمام والاطلاع عليه لما فيه من حقائق عن النصرانية يجهلها كثير من الناس. ولو لم يكن فيه من الفائدة إلا إعلان هؤلاء القساوسة دخولهم في الإسلام والتبرؤ من أفكار النصرانية المضللة بعد نقاش طويل واقتناع تام لكفى نصرا للإسلام والمسلمين. فما أجدر المسلمين أن يقوموا بالدعوة إلى الله ونشر العقيدة الإسلامية في أرجاء العالم، وما أحراهم أن يتمسكوا بدينهم منهجا وسلوكا. ونلفت النظر إلى أنه قد ورد ضمن هذا الكتاب بعض الألفاظ التي تعبر عن رأيِ قائليها مثل " المسيحية " و " المسيحي "، و " إخواننا المسيحيين "، ولا يخفى ما فيها من التجاوز، وقد آثرنا تركها على ما هي عليه لأنها حكاية قول ورد في هذه المناظرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 هذا ويسر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - وهي حاملة لواء الدعوة الإسلامية في هذه البلاد الطيبة - أن تنشر هذا السفر الجليل على نفقتها وتوزعه مجانا مساهمة منها في محاربة الشرك والكفر والإلحاد، وبيانا لمن أراد الله هدايته. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الرياض في 22 / 2 / 1407 هـ. الناشر الرئاسة العامة لإدارات البعوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 تمهيد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم -1- قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} . (3) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . (4) . {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} . (5) . {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} . (6) .   (1) سورة آل عمران، آية 1-2. (2) سورة النساء، آية 1. (3) سورة الأحزاب، الآيتان 70-71. (4) سورة البقرة، آية 21. (5) سورة آل عمران، آية 138. (6) سورة آل عمران، آية 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . (1) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} . (2) . {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} . (3) . {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} . (4) . {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . (5) . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.   (1) سورة النساء، آية 170. (2) سورة النساء، آية 174. (3) سورة النساء، آية 108. (4) سورة الحج، آية 8. (5) سورة آل عمران، آية 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 -2- إن الإسلام دين مفتوح النوافذ على النور والخير. . . . وإن حقائقه واضحة، ومعقولة، وصريحة، وهادية، وإنسانية، وعالمية، وخالدة. . . . ولهذا، فإن الإسلام، وإن الدعاة المسلمين ليرحبون بكل حوار هادئ هادف. . يدعى إليه، أو يقوم بينهم وبين من عداهم من أهل سائر الملل والنحل. . .! إن الدعاة المسلمين يعتبرونها فرصة سانحة لعرض دعوتهم على القلوب والعقول والضمائر. . . وهم يعتقدون اعتقادا صادقا، أن دعوتهم حينما تصادف آذانا واعية، وقلوبا مخلصة، وعقولا فاهمة. . . فإنها ستجد القبول والإيمان والإذعان! وهذا ما حدث ويحدث في هذا الزمان، وفي كل زمان! لقاءات فكرية هنا وهناك، في الشرق والغرب، في الماضي والحاضر. . .! تبدأ في جو من الغموض والشكوك والتوجس يحيط برؤوس الذين لا يعرفون الإسلام ولا يفقهونه. . . ثم تنتهي بالإيمان وتقدير وإعجاب بعد أن يزول الضباب، وتمحى الجهالات، ويظهر الحق لكل ذي عينين. . .! إننا ندعو - بني الإنسان - حيث كانوا من أرض الله أن يقيموا جسورا للتفاهم. . بينهم وبين العقيدة الإسلامية الصحيحة. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وعلى كل صاحب ملة ونحلة ألا يخاف ولا يجبن، فإنه في نهاية (اللقاءات العلمية المخلصة) لن يصح إلا الصحيح. -3- كثيرة هي اللقاءات بين الإسلام والنصرانية، فكم من لقاءات تمت في الماضي، وكم من اللقاءات ينتظر أن تتم في المستقبل. . . ومن لقاءات الماضي نذكر بعضا منها مكتفين بما حدث في الماضي القريب. 1- في شهر رجب سنة 1270هـ - أي منذ حوالي 130 عاما- عقدت مناظرة في مدينة كلكتا بالهند بين نفر من علماء المسلمين ومبشري النصرانية الذين درجوا على الطعن في الإسلام واستدراج الجهلة من عوام الناس. وتحددت لها موضوعات خمسة هي: التحريف. والنسخ. والتثليث. وحقيقة القرآن. ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد استطاع علماء المسلمين - بتوفيق من الله- إظهار الحق بمجرد مناقشة الموضوعين الأولين وهما التحريف والنسخ. وآنذاك لم يملك مناظروهم من علماء النصارى سوى الانسحاب، اعترافا بإخفاقهم. وقد شاع خبر هذه المناظرة في العالم الإسلامي الذي كان أغلبه يئن آنذاك تحت سطوة حكم الدول النصرانية، وطلب كثير من المسلمين الاطلاع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ما دار في تلك المناظرة مما دعا شيخ علماء المسلمين فيها وهو: رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي إلى إصدار كتابه النفيس " إظهار الحق " الذي لا يزال مرجعا فريدا في مجال المناظرة بين المسلمين والنصارى. ب- بناء على الرغبة التي أبداها بعض كبار رجال القانون والفكر في أوروبا عن طريق السفارة السعودية في باريس للاجتماع بالعلماء في المملكة العربية السعودية للتعمق في مفاهيم حقوق الإنسان في الإسلام، فقد نظمت وزارة العدل السعودية ثلاث ندوات لهذا الغرض في الرياض ابتداء من يوم الأربعاء 7 من صفر سنة 1392هـ، الموافق 22 من مارس سنة 1972 م. وعلى أثر ذلك تعاقب خطباء الوفد الأوروبي وفي مقدمتهم السيد " الأستاذ ماك برايد " الأستاذ في جامعة دبلن، ووزير خارجية أيرلندا السابق، والرئيس السابق لاتحاد المجلس الأوروبي، والسكرتير العام سابقا في اللجنة التشريعية الدولية، فقال: " من هنا ومن هذا البلد الإسلامي يجب أن تعلن حقوق الإنسان، لا من غيره من البلدان، وإنه يجب على العلماء المسلمين أن يعلنوا هذه الحقائق المجهولة على الرأي العام العالمي والتي كان الجهل بها سببا لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين والحكم الإسلامي عن طريق إعلاء الإسلام والمسلمين ". ج- في يونيه سنة 1976 م، عقد في جنيف بسويسرا مؤتمر بين المسلمين والنصارى دعا إليه مجلس الكنائس العالمي حول موضوع: " نظرة الأديان السماوية إلى الإنسان وإلى تطلعه نحو السلام ". وفي ذلك المؤتمر أبدى مجلس الكنائس العالمي أسفه الشديد، لأن الواقع أثبت أن إرساليات التبشير النصرانية في ديار المسلمين قد تسببت في إفساد الروابط بين المسلمين والنصارى، كما اعترف بأن تلك الإرساليات كان طابع نشاطاتها في خدمة الدول الأوروبية المستعمرة، وأنها كانت تستخدم التعليم وسيلة لإفساد عقائد المسلمين. وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 تعهد الجانب النصراني في هذا المؤتمر بإيقاف جميع الخدمات التعليمية والصحية التي تستخدم لتنصير المسلمين. د- في عام 1979 م، عقد في قرطبة بإسبانيا المؤتمر الثاني للمناظرة بين المسلمين والنصارى، وقد ألقى كلمة الافتتاح الكاردينال ترانكون رئيس أساقفة إسبانيا، فكان مما قاله: " إني كأسقف أود أن أنصح المؤمنين المسيحيين بنسيان الماضي، كما يريد المجمع البابوي منهم، وأن يعربوا عن احترامهم لنبي الإسلام. . إن هذا شيء هام جدا بالنسبة للمسيحي، إذ كيف يستطيع أن يقدر الإسلام والمسلمين دون تقدير نبيهم والقيم التي بثها ولا يزال يبثها في حياة أتباعه؟ لن أحاول هنا تعداد قيم نبي الإسلام الرئيسية الدينية منها والإنسانية فليست هذه مهمتي، وسوف يلقيها عليكم الإخصائيون واللاهوتيون المسيحيون بالمؤتمر، غير أني أريد أن أبرز جانبين إيجابيين- ضمن جوانب أخرى عديدة - وهما إيمانه بتوحيد الله وانشغاله بالعدالة ". وفي ذلك المؤتمر ألقى الدكتور يبحيل كروث بحثا عن " الجذور الاجتماعية والسياسية للصورة المزيفة التي كونتها المسيحية عن النبي محمد "، وقد جاء فيه قوله: " لا يوجد صاحب دعوة تعرض للتجريح والإهانة ظلما على مدى التاريخ مثل محمد. . ولقد سبق لي أن أكدت في مناسبة سابقة- وأظن أنني قد قررت ذلك عدة مرات- الاستحالة، من الوجهة التاريخية والنفسية، لفكرة النبي المزيف التي تنسب لمحمد ما لم نرفضها بالنسبة لإبراهيم وموسى وأصحاب النبوات الأخرى من العبرانيين، الذين اعتبروا أنبياء. إنه لم يحدث أن قال نبي منهم بصورة بينة وقاطعة أن عالم النبوة قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أغلق. . وفيما يتعلق بالشعب اليهودي فإن عالم النبوة ما يزال مفتوحا، ماداموا ينتظرون المسيح المخلص. أما فيما يتعلق بالحركة المسيحية فإنه لا يوجد أي تأكيد قطعي يدل على انتهاء عالم النبوة ". -4- ثم كان لقاء الخرطوم. . لقاء العائدين إلى الله بعد أن بحثوا عن الحق زمنا طويلًا وساروا في سراديب ودهاليز لا أول لها ولا آخر. . . لعل فيه درسا للمبشرين بالكف عن إفساد عقائد المسلمين فإن الحق دائما غلاب. لماذا كان المؤتمر؟ إن كثرة من أبنائنا العرب يقضون إجازاتهم في العواصم الأوروبية يدفعهم إلى ذلك قبل كل شيء رغبتهم في إتقان اللغات الأوروبية وهم لذلك يلتحقون أول ما يهبطون إلى البلد الذي يقصدونه بالمدارس الليلية والحرة، ويجدون في مكتباتها الكثير عن الإسلام، والكثير من تشويهه والطعن عليه. ثم إن كثيرا من البلاد العربية الإسلامية قد وقعت زمنا طويلا تحت وطأة الاستعمار الصليبي، وما تزال تعتمد عليهم في مختلف مرافقها، وتنظر إليهم نظرة إكبار وتقدير، وتندفع بغير شعور منها، وبشعور أيضا إلى تقليدهم وتصغي باهتمام إلى آرائهم. كل ذلك يمهد الطريق لكتب الغرب وآراء الغرب كي تنتشر بيننا. وشيء آخر ذو أهمية. إن كتب السيرة النبوية، وكتب التاريخ العربي، ما يزال أسلوبها صعبا على طلاب ودارسي الثقافة الإسلامية الناشئين، فقلما نجد من يرجع إلى سيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ابن هشام، أو السيرة الحلبية، أو نهاية الأرب، أو طبقات ابن سعد. . . بله تاريخ الطبري، والذهبي، وابن الأثير ونحوها. فربما وجدوا قراءة ما كتب المستشرقون أيسر وأجدى. وهناك كتب كثيرة عن السيرة النبوية العطرة أخرجها كتاب معاصرون. ولكن كثيرا من الكتب قد اهتم مؤلفوها بسرد حوادث السيرة، وتبسيطها، وقليلا منهم تعرض في مواقف قصيرة لآراء المستشرقين. وأشهر الكتب التي أخرجت في العصر الحاضر عن السيرة النبوية هو كتاب " حياة محمد " للدكتور محمد حسين هيكل. وقد عرض فيه لآراء المستشرقين أو لبعض آرائهم بوجه عام وخص بالذكر والأهمية اميل درمنجم المستشرق الفرنسي. وقد يفهم من كلام الدكتور هيكل أن اميل درمنجم مسالم للإسلام. خطورة الغزو الفكري: إذن فقد عمت الترجمات، وشاع بين أبناء الإسلام ما كنا نحذر أن يشيع وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على مؤشر خطير في الغزو الفكري عن فريق الاستشراق " البحث العلمي "، وعن طريق التبشير (الدعوة الدينية، استشرى مما ضايق الغيورين على الإسلام. فتعاونوا على دفع هذا الهجوم ودحض الافتراءات عن الإسلام ولكنهم قليل مضطهدون. نصيحة مهتد للإسلام إلى بني قومه: وإنه لمن الخير أن نقدم ما كتبه المسلم الفرنسي " ناصر الدين " في كتابه القيم (الشرق كما يراه الغرب) حيث قال: لقد أصاب الدكتور " سنوك هرغرنجه " في قوله: " إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 مقضي عليها بالعقم إذا سخرت لأية نظرية أو رأي سابق ". وهذه حقيقة يجمل بمستشرقي وبمبشري العصر جميعا أن يضعوها نصب أعينهم، فإنها تشفيهم من داء الأحكام السابقة التي تكلفهم من الجهود ما يجاوز حد الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شك خاطئة، فقد يحتاجون في تأييد رأي من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهين، ثم إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا، وهذا أمر لا ريب مستحيل. الرجوع إلى الحق فضيلة: يحتاج المستشرق والمبشر في القرن العشرين إلى معرفة كثير من العوامل الجوهرية، كالزمن والبيئة، والإقليم، والعادات، والحاجات والمطامح والميول والأحقاد. . إلخ. . لا سيما إدراك تلك القوى الباطنة التي لا تقع تحت مقاييس العقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات. وفي نهاية الكتاب الذي ألفه ناصر الدين عن الرسول محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال عن: وثبة الإسلام: قال ش. شرفيس في كتابه " بونابرت والإسلام ". . (عندما رفع الله إليه مؤسس الإسلام العبقري كان هذا الدين القويم قد تم تنظيمه نهائيا، وبكل دقة، حتى في أقل تفاصيله شأنا. . . وكانت جنود الله قد أخضعت بلاد العرب كلها، وبدأت في مهاجمة امبراطورية القياصرة الضخمة بالشام. وقد أثار القلق الطبيعي المؤقت، عقب موت القائد الملهم بعض الفتن العارضة، إلا أن الإسلام كان قد بلغ من تماسك بنائه، ومن حرارة إيمان أهله، ما جعله يبهر العالم بوثبته الهائلة التي لا نظن أن لها في سجلات التاريخ مثيلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ففي أقل من مائة عام، ورغم قلة عددهم، استطاع العرب الأمجاد، وقد اندفعوا- لأول مرة في تاريخهم- خارج حدود جزيرتهم المحرومة من مواهب النعم أن يستولوا على أغلب بقاع العالم المتحضر القديم، من الهند إلى الأندلس ". وقد شغلت -في قوة- هذه القصة المجيدة تفكير أعظم عباقرة عصرنا هذا- أعنى نابليون بونابرت - الذي كان ينظر دائما إلى الإسلام باهتمام ومودة، فيقول عن نفسه في إحدى خطبه المشهورة بمصر، أنه " مسلم موحد ". وقال لاس كازاس في كتابه " مذكرات سانت هيلين "، ج3، صفحة 183: " ويذكر الإسلام في أواخر أيامه، فيرى أننا إذا طرحنا جانبا الظروف العرضية التي تأتي بالعجائب، فلا بد أن يكون في نشأة الإسلام سر لا نعلمه، وأن هناك علة أولى مجهولة، جعلت الإسلام ينتصر بشكل عجيب على النصرانية، وربما كانت هذه العلة المجهولة أن هؤلاء القوم، الذين وثبوا فجأة من أعماق الصحارى قد صهرتهم -قبل ذلك- حروب داخلية عنيفة طويلة، تكونت خلالها أخلاق قوية، ومواهب عبقرية، وحماس لا يقهر أو ريما كانت هذه العلة شيئا آخر من هذا القبيل ". ومن هذا المنطلق كان لقاؤنا بالخرطوم في الفترة من 23 / 1 / 1401هـ، إلى 29 / 1 / 1401هـ، الموافق 1 / 12 / 1980، إلى 7 / 12 / 1980م، مع قادة الفكر النصراني وقادة الفكر الإسلامي وكان رجاؤنا أن يعي كل من المسلمين والمسيحيين على السواء هذه العبر ليضعوا المستشرقين والمبشرين في مكانهم الطبيعي وحجمهم الطبيعي. وإزاء هذا لا ينبغي أن نتجاهل التيارات المعادية للإسلام ومن ورائها الغزو الفكري الصليبي والصهيوني والشيوعي تحت ستار الحضارة الحديثة الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 يتسرب إلينا من خلال حملاتهم الإعلامية والدعائية المشبوهة. إن الواجب المقدس يحتم علينا- ونحن أعلم بحقائق ديننا- أن ندفع شبهات هؤلاء القوم وأن نبين وجه انحرافهم، وسبب هجومهم على الإسلام. والحوار هو أحد الأساليب الناجحة لتنقية الرسالات السابقة من الشوائب في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة. [ أعلام الفكر الإسلامي المشاركون في هذا اللقاء الكبير ] ولقد شارك في هذا اللقاء الكبير الخطير ثلاثة من أعلام الفكر الإسلامي- هم: أولا: الدكتور محمد جميل غازي ، الذي قام بإدارة الحوار والمشاركة فيه. - من مواليد يناير 1936- بكفر الجرايدة - كفر الشيخ. - عالمية الأزهر الشريف من كلية اللغة العربية. - دكتوراه في النقد الأدبي. - رئيس المركز الإسلامي العام لدعاة التوحيد والسنة بالقاهرة. - نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية. - له كتابات في التفسير وعلوم الدين، مثل: - من مفردات القرآن: 3 أجزاء. - أصدق الحديث (في التفسير أيضا) صدرت منه بعض أجزاء. - الصوفية الوجه الآخر. - دموع قديمة. - أسماء القرآن في القرآن - وغيرها. - وله أعمال كثيرة في تحقيق التراث، وبخاصة تراث ابن تيمية وابن القيم. - وقد حصل على الدكتوراه في تحقيقه لكتاب: (الأوائل لأبي هلال العسكري) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 - له نشاطه في الدعوة الإسلامية- عن طريق المحاضرات والندوات والمناقشات- في مصر وغيرها من بلاد العالم الإسلامي. ثانيا: الأستاذ إبراهيم خليل أحمد . نشأ نشأة مسيحية. ولد بمدينة الإسكندرية في 13 يناير عام 1919 م، واسمه إبراهيم خليل فيلبس، تدرج في مدارج العلم بمعاهد الإرسالية الأمريكية وحصل على دبلوم كلية أسيوط الثانوية عام 1942 م، وهو معادل للتوجيهية، ثم حصل على دبلوم كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة عام 1948 م، وعين قسا راعيا بكنيسة بافور الإنجيلية / محافظة أسيوط، وفي عام 1952 م، انتدب بالإضافة إلى عمله بالكنيسة قسا بكلية اللاهوت الإنجيلية الكندية بأسيوط، ثم رقي إلى قسيس مبشر بالإرسالية السويسرية الألمانية بأسوان. وشغل مراكز: عضو مجمع مشيخة أسيوط، وعضو سنودس النيل، وزميل للمرسلين الأمريكيين وضالع في المخطط التبشيري بين المسلمين مع المراسلين الأمريكيين والأوروبيين. والأستاذ إبراهيم خليل أحمد لم يكن من رجال الأكليروس يتزيا بزي كهنوتي، بل كان يلبس الزي الإفرنجي المألوف الذي تسمح به طبيعة عمله بين المسلمين، فينجح ويأتي بثمار تبشيره. لكن الله جلت حكمته ألقى به بين يدي قوله تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} ، فثاب إلى رشده وأخذ في دراسة مقارنة من عام 1955 م، حتى 25 ديسمبر عام 1959 م، حتى أتاه اليقين فأعلن إسلامه وجاهد في سبيل الله، وله مؤلفات متداولة منها: - محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم - في التوراة والإنجيل والقرآن. - المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 - إسرائيل فتنة الأجيال " العصور القديمة ". - إسرائيل فتنة الأجيال " العصور الحديثة ". - إسرائيل والتلمود " دراسة تحليلية ". - الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية. - هذا إلى جانب مؤلفات أخرى تحت الطبع، وهي: - يسوع المسيح كلمة الله. - العلم يهدي إلى الإيمان. - مواجهة الإسلام لتحديات الاستشراق والتبشير. - مواجهة الإسلام للتحدي الحضاري الحديث الفكري. - آيات الله تتجلى في عصر العلم. - حدود الله: التوارة والإنجيل والقرآن. - الإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن. - المسيح في التوراة والإنجيل والقرآن. فقبل الله عمله ونفع به أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وأما الرجل الثالث: فهو السيد اللواء مهندس أحمد عبد الوهاب علي . - ولد في مدينة فاقوس - محافظة الشرقية في أول يونيو (حزيران) عام 1930 م. - حصل على بكالوريوس هندسة كهربائية، شعبة الاتصالات من جامعة القاهرة عام 1954 م. - التحق بالقوات المسلحة وتدرج في مختلف الرتب حتى رتبة اللواء. - شغل بمقارنة الأديان منذ أكثر من 25 عاما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وهذه هي مؤلفات سيادته: أولا: سلسلة دراسة في الأديان: - الوحي والملائكة في اليهودية والمسيحية والإسلام. - النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام. - المسيح: في مصادر العقائد المسيحية. ثانيا: دراسات أخرى: - العلوم الذرية الحديثة في التراث الإسلامي. - إعجاز النظام القرآني. - حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر. لقد بدأ اللقاء بإخلاص وحب ورغبة أكيدة في الوصول إلى الهدى والرشاد. . وانتهى- بإحقاق ما هو حق، وإبطال ما هو باطل. . .! لقد آمن جميع المسيحيون المناظرون، ودخلوا في دين الله عن إيمان وإذعان. . .! وقال قائلهم- كلمة عمر - رضي الله عنه: والله لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان. . .! ثم استمروا في طريقهم. . يؤدون دورهم في الدعوة إلى الله،. . . فبلغ حتى الآن عدد الذين أسلموا بإسلامهم خمسمائة!! . وما زالت الوفود تتوالى. . . وصدق الله العظيم إذ يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} . (1) . وإذ يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} . (2) .   (1) سورة التوبة، آية 23 - الصف، آية 9. (2) سورة الإسراء، آية 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 كلمات الافتتاح للمشاركين كلمة فضيلة الشيخ: طاهر أحمد طالبي الملحق الديني بسفارة المملكة العربية السعودية بالخرطوم. كلمة فضيلة الشيخ: عوض الله صالح رئيس هيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان. كلمة تمهيدية للأستاذ: الدكتور محمد جميل غازي. كلمات القس: جيمس بخيت، والسيد: تيخا رمضان. كلمة افتتاحية للأستاذ الدكتور: محمد جميل غازي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 كلمة الشيخ: طاهر أحمد طالبي الملحق الديني بسفارة المملكة العربية السعودية بالخرطوم بسم الله الرحمن الرحيم. وبحمده نستفتح، وصلاة وسلاما على خيرته من خلقه محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين وبعد: إخوتي الأفاضل، مستمعين الأعزاء، إنه ليسعدني ويسعدكم أيضا مثل هذا اللقاء الإسلامي- النصراني الذي تم بناء على طلب مقدم من القس: جيمس بخيت سليمان، موجه لرئيس وأعضاء هيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان وللملحق الديني بسفارة المملكة العربية السعودية بالخرطوم أيضا. وإنه ليسعدنا جميعا أن يكون مثل هذا اللقاء على الإخاء والمحبة لنعرف الحقيقة ولنعرف الحق من الباطل. والله نسأل أن يوفقنا للحق أينما كان، وحيثما كان، وأن يرزقنا اتباعه، كما نرجو أن تتكور مثل هذه اللقاءات في كل مكان وفي كل زمان، كما نرجو أن تثمر ويكون لها أثر ففال حتى يهدينا الله إلى طريق الحق والخير والسلام. وبعد: فإنه ليسرني ويسركم أن يفتتح هذا اللقاء الأستاذ الفاضل والشيخ الكبير: عوض الله صالح الرئيس العام لهيئة إحياء النشاط الإسلامي في السودان، ومفتي جمهورية السودان سابقا، والعضو الحالي والمشارك في رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، فليتفضل جزاه الله خيرا عن الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 كلمة فضيلة الشيخ: عوض الله صالح رئيس هيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى جميع إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. أما بعد: فإني سعيد بهذا اللقاء وأرحب بكم في هذه الدار نيابة عن الإخوة أعضاء هيئة إحياء النشاط الإسلامي. ولقد حضرت قبل خمس سنوات حوارا يشبه هذه المناظرة في طرابلس بليبيا، ولقد كان أول ما يلاحظ على تلك الندوة أنها بعدت عن كل كلمة نابية، بل لم يذكر نبي من قبل المسلمين غير محمد صلوات الله عليه وسلامه: إلا ذكر بكلمات تعظيم وتقدير، ولم يذكر من المسيحيين غير عيسى - عليه السلام - أي نبي: إلا وكانت تحف كل كلمة حوله مظاهر التبجيل والإكرام، ولقد كانت تلك الندوة بحق ندوة بحث عن حقيقة. إن في العالم أخطاء كثيرة. . . إن بعض أفهام خاطئة عن الإسلام شائعة. . . وينبغي أن تصحح باللقاءات الهادفة والمناقشات الهادئة، وان بعض الأخطاء والانحرافات موجودة في تصورات من ينتمون إلى الإسلام وسلوكهم. . . والدارس المنصف يقرر أن الإسلام شيء والمنتمين إليه شيء آخر. . . فالإسلام- ككل ملة ونحلة- إنما يراجع في نقوله المقررة والمتفق عليها. . . وما يقال عن الإسلام يقال عن المسيحية التي كانت أبعد عهدا من الإسلام. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والدراسة المنصفة والنية الخالصة والرغبة الأكيدة في الوصول إلى الصراط المستقيم. . كل أولئك قادر على تصحيح الأخطاء وكشف الشبهات وتوضيح الغموض وإعادة الدين وجوهره إلى نقائه وصفاته. إن كلمتي هذه ليست مشاركة في هذه الندوة، وإنما هي ترحيب فقط. . باسمي. . وباسم إخوتي أعضاء هيئة إحياء النشاط الإسلامي. . ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أذكر لكم لمحة عن ندوة سابقة أعجبتني. . وأنا على يقين أن هذه الندوة ستكون على مستواها من الموضوعية والإخلاص والالتزام. . لقد اتفق المتحاورون من مسلمين ومسيحيين أن يقفوا بدعواتهم عند مناطقهم إسلامية كانت أو مسيحية. أنا لا أعرف ماذا جرى من المسيحيين بعد هذا الاتفاق الذي فات عليه الآن أكثر من ست سنوات. ولكني أؤكد- وفي هذا البلد بالذات- أننا التزمنا من جانبنا بأننا لا نعمل إلا في جو المسلمين وأطفال المسلمين لنحتفظ بهم وبإسلامهم حتى لا ينجرفوا انجرافا لا يعجب الإسلام ولا المسيحية على السواء. وإني أرجو أن يكون من نتائج ذلك أيضا أن لا تذهب المسيحية إلى مواطن المسلمين لإغرائهم، وأكثر ما يغري الناس: الفقر والضعف الفكري، فيتحولون من عقيدة إلى عقيدة. أخشى أن أكون قد أطلت عليكم، وأرحب بكم جميعا، وأتمنى أن تزيل هذه المناظرة اللثام عن الحق في مسألة من أهم المسائل المتعلقة بحياة الإنسان بل هي أعظمها؛ وهي الطريق القويم لعبادة الله العبادة الحقة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 كلمة تمهيدية للأستاذ الدكتور: محمد جميل غازي بسم الله الرحمن الرحيم {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (1) . وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. في الأول نقدم لكم الأخ: جيمس بخيت ليتحدث معكم وقبل أن أقدمه إليكم لي رجاء أن أرى الابتسامة على وجوهكم. فأرجو أن نكون جميعا على تفاؤل كامل لأننا مقبلون ولله الحمد على عمل طيب وصالح. ونسأل الله أن يكون موفقا، لا عداء بيننا ولا كراهية وإنما هو الحب الذي جمعنا والحب هو الذي جعل كل واحد منا يتحدث إلى صاحبه. بالحب كله وبالتقدير كله فإنني أقدم إليكم الأخ جيمس بخيت، أو من يقدمه إليكم، وأرجو من خلال حديثه أن يشير إلى هذه الأسئلة التي قدمها إلى فضيلة الأخ الشيخ طاهر أحمد طالبي لتكون هي مجال المناظرة في هذه الندوة أو في هذا اللقاء الإسلامي النصراني والذي بدأ انعقاده هذه الليلة ولا يعلم إلا الله وحده كم يستمر من ليال وكم يستغرق من ساعات.   (1) سورة النمل، آية 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 كلمة السيد جيمس بخيت وكلمة السيد تيخا رمضان قال السيد جيمس بخيت: أيها السادة: مساء الخير. يتحدث نيابة عني الأخ: تيخا رمضان. ثم قال السيد: تيخا رمضان: السادة أعضاء هيئة إحياء النشاط الإسلامي. السيد فضيلة الملحق الديني السعودي بالخرطوم. السلام عليكم ورحمة الله. إنها بحق إِرادة الله الذي مهد لنا هذا الاجتماع الروحي لا للانتقاد أو الإدانة وإنما للاستفسار وتوضيح بعض المواضيع الدينية في الإسلام والمسيحية بالأدلة والبراهين، كما أنزله الله على رسله بعيدين عن أي تعصب ديني. آملين أن يهدينا الله جميعا لما فيه خير أمتنا. السادة الكرام: نحن القادة المسيحيون في العاصمة المثلثة وجبال النوبة كنا مسلمين بالوراثة ولكننا لم نتعمق في تعلم الإسلام، وتعلمنا أيضا شيئا من الديانة المسيحية نتيجة للتبشير المكثف الذي تقوم به الطوائف المسيحية بالسودان. سادتي: لقد أحدث هذا خلطا بين العقيدتين وشكوكا في نفوسنا مما أدى بنا إلى اللجوء إلى البشير: جيمس بخيت، بعد عودته من " الولايات المتحدة الأمريكية وكندا " بدعوة من إحدى الطوائف المسيحية هناك آملين أن نجد لديه المساعدة في هذا الشأن لإيجاد مخرج لنا، فإما آمنا بالإسلام أو بالمسيحية بعد معرفة الحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 هذا وكان السبب الذي دعانا إلى اللجوء إلى البشير: جيمس، ما لمسناه من اقتداره في الناحية الدينية وإيمانا منه بحرية العبادة مع ملاحظة أنه رفض كل الطوائف المسيحية في السودان، ويسعى الآن لتأسيس طائفة مسيحية يقوم بإدارتها إخوة سودانيون. لقد كان رد البشير: جيمس لنا أنه كما كفلت الثورة حرية العبادة للجمع فيجب علينا أيضا أن نساعد في تنفيذ هذا المبدأ مسلمين كنا أو مسيحيين على السواء، ونبعد التعصب الديني من أنفسنا، ونعطي كل فرد حريته في اختيار المذهب الذي يريده. وقد نصحنا البشير: جيمس، بعدم الانضمام لأي مذهب ديني حتى طائفته، رفض أيضا أن ننضم إليها إذا لم يكن ذلك بالاقتناع التام. وقد قام باختيار منازل بعض الإخوة كمراكز لتجمعات روحية فكان من نتاج تحركه واهتمامه بهذه المشكلة مولد اجتماع اليوم. ولا يفوتنا أيضا أن نخص بالشكر الأستاذ: جويعد النفيعي الملحق الثقافي السعودي بالخرطوم لما بذله من جهود عظيمة لتحقًيق رغبة الإخوة للالتقاء بهيئة إحياء النشاط الإسلامي وفضيلة الشيخ طاهر أحمد طالبي الملحق الديني السعودي بالخرطوم. وفي الختام أيها السادة نسأل الله الكريم أن يساعدنا ويهدينا إلى الطريق القويم ويظللنا ببركاته ويقوينا ويعطينا المقدرة لإتمام رسالته من أجل الخلاص الروحي. والسلام عليكم ورحمة الله وركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الأسئلة التي تقدم بها الجانب المسيحي برئاسة البشير: جيمس بخيت لتكون موضوعا للمناظرة الإسلامية النصرانية. بعد كلمة السيد: تيخا رمضان، وقف البشير: جيمس بخيت ليقرأ الأسئلة المقدمة لتكون موضوعا للمناظرة الإسلامية النصرانية وهي ذات شقين، يدور الأول منها حول الديانة المسيحية، ويدور الثاني حول الديانة الإسلامية. وهذه الأسئلة هي: 1- الديانة المسيحية 1- هل يؤيد القرآن المسيح والإنجيل؟ 2- النسخ والتحريف في الإنجيل كيف تم كما يزعم المسلمون؟ وهل يحتفظ المسلمون بأصل الإنجيل؟ 3- الخمر محرم في القرآن ولكنه غير محرم في الإنجيل فكيف تفسرون ذلك؟ وهل هناك آية في القرآن الكريم تحرم الخمر؟ 4- هل يؤمن المسلمون برسل المسيح الذين اختارهم وأوكل إليهم مهمة التبشير لجميع الأمم كما ذكر في الإنجيل؟ 5- هل يؤيد القرآن الكريم الروح القدس؟ 6- حسب ما جاء في الإنجيل أن المسيح - عليه الصلاة والسلام - صلب ومات ودفن ثم قام من بين الأموات في اليوم الثالث. فماذا جاء في القرآن فيما يختص بهذا القول؟ 7- ورد في الإنجيل أن المسيح ابن الله. فما رأي القرآن؟ 8- هل يؤيد القرآن الكريم الأقانيم الثلاثة: الأب والابن والروح القدس حسب ما جاء في الإنجيل؟ 9- ما هي مكانة مريم العذراء لدى المسلمين كأم المسيح عليه الصلاة والسلام؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 2- الدين الإسلامي 1- محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم - كيف كانت حياته ونزول القرآن عليه؟ 2- كيف نقنع المتشككين بأنه خاتم الأنبياء كما جاء في القرآن فقط؟ 3- هل استعمل السيف في فجر الإسلام لإخضاع الكفار للدخول في الإسلام؟ وهل كان ذلك في عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم - أم في عهد الخلفاء الراشدين؟ 4- ما رأي المسلمين في إخوتهم العلماء الذين قاموا بتفسير القرآن حسب آرائهم مما أدى ذلك إلى تكوين طوائف مختلفة، وما حقيقة هذه الطوائف؟ 5- يتزوج المسلمون بأكثر من امرأة. فهل هناك آية في القرآن توضح ذلك، وما هي الأسباب التي دعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم - يتزوج بأكثر من أربع؟ 6- لماذا يحرم القرآن لحم الخنزير؟ وهل هناك آية تحرم ذلك؟ 7- هل يقلد القرآن أن المسيح عليه السلام مرسل لبني إسرائيل فقط؟ 8- نلاحظ في القرآن أن هناك آيات تنسخ آيات، مثل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (1) . في حين أن هناك آية أخرى تقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) . فما رأي المسلمين في هذا التناقض؟ 9- ما هي نظرة المسلم لغير المسلم فيما يختص بالمعاملات الاجتماعية المختلفة؟ 10- لماذا تمنع السلطات السعودية دخول المسيحيين في الأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية؟   (1) سورة الكافرون، الآيات 1-6. (2) سورة المائدة، آية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 كلمة افتتاحية للأستاذ الدكتور: محمد جميل غازي إذا كان من المقرر أن ألقي كلمة في أول هذا الاجتماع وفي افتتاحه فإن خير ما يمكن أن أقول هو أن أقرأ عليكم بعض آيات من القرآن الكريم. يقول الله سبحانه وتعالى. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } {تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . (1) . أتمنى أن أدير حديثي لا مع هؤلاء الأفاضل الطيبين ولكن معكم أنتم أيها المسلمون. بماذا تردون على هذه الكلمات الطيبة التي ألقاها في وجوهكم هذا الأخ الطيب حينما أعلنكم بهذه الحقائق المرة؟ هل فكرتم أنكم الجناة الحقيقيون؟ هل فكرتم أنكم ستدانون بين يدي الله لأنكم قصرتم في تبليغ كلمة الله، لم تعلنوها ولم تنطقوا بها؟ لقد استمرأتم الحياة الدنيا ورفاهيتها، وعشتم في أحضان الدعة والهدوء والاستقرار، وآثرتم الطريق الآمن والأسهل في الوقت الذي كان الأجانب يأتون فيه من آخر الدنيا يدكون حصونكم ويدقون أبوابكم دقا عنيفا، ويسرقون أولادكم وفلذات أكبادكم؟ هل فكرتم في هذه الكلمات الطيبة التي قالها الأخ الطيب ومزق بها كبدي؟ أرجو أن تعلموا أنها لكم. لا بد أنها تهز مضاجعكم حتى لا تهنأوا بمنام وحتى لا تستقر جنوبكم على الأرض فلا نامت أعين الجبناء. وإنما عليكم أن تحرسوا بناء محمد ودعوة الأنبياء جميعا. أما الأسئلة التي قرأها عليكم الأستاذ: جيمس، فلقد رأيت أن أعيد وضع خريطة لها لتكون هي الخريطة التي تؤدي بنا إلى مجموعة من الدراسات لأننا لسنا في حاجة إلى مواعظ، ولسنا في حاجة إلى خطب رنانة، وعلى جيوش الخطباء   (1) سورة البقرة، الآيات 127-141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أن يوفروا جهودهم. إننا في حاجة إلى دراسة علمية موضوعية هادئة وهادفة نعرف فيها الحق ونعرف فيها الطريق المستقيم حتى نسلكه جميعا صفا واحدا. ولقد رأيت أن أعيد تنظيم الخريطة وأن أوزعها على الإخوة الأساتذة الذين سيتولون الحديث معكم لا في هذه الليلة فحسب، بل وفي ليال تالية إن شاء الله. وعليكم أن تصبروا علينا لأن جهالات عصور كاملة ينبغي أن تمحى، وهي ليست متعة صيد أو فسحة، وإنما هي دراسة ديانات كاملة والديانات لا تدرس في رحلة ولا تدرس في جلسة واحدة، وإنما تدرس دراسات متأنية عبر النصوص المقدسة عند الطرفين. ولسوف يكون تنظيم خريطة العمل على الوجه التالي: في هذه الليلة سوف يحدثكم الأخ الأستاذ: أحمد عبد الوهاب، حول قضية قانونية الأناجيل، ولقد جاء حولها أسئلة، منها السؤال القائل بالنسخ والتحريف في الإنجيل كيف تم كما يزعم المسلمون؟ وهل يحتفظ المسلمون بأصل الإنجيل؟ وقبل أن أقدم لكم الأستاذ: أحمد، أود أن أشير إلى نقطتين، الأولى: أن نبدأ بالإجابة على الأسئلة النصرانية أولا، لأن دراسة النصرانية يجب أن تسبق دراسة الإسلام. وأما الثانية: فهي ألا يكتفي الأستاذ: أحمد بالإجابة على هذين السؤالين الخاصين بالنسخ والتحريف، وإنما هناك موضوعات أخرى مرتبطة بهما يجب الاهتمام بها، كقصة كتابة الأناجيل، وكيف قبل بعضها وصار قانونيا مثل الأناجيل الأربعة، وكيف رفض أكثريتها ولماذا؟ رما هي موضوعات التآلف أو الاختلافات بين هذه الأناجيل القانونية؟ ثم ما هو موقف بقية أسفار العهد الجديد وقيمتها العقائدية، وكيف تكون العهد الجديد القانوني؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 كل هذا وما يرتبط به وهو كثير وكثير أرجو أن نتلقى فيه إجابات واضحة محددة من الأخ الأستاذ: أحمد عبد الوهاب. والله أسأل أن يهدينا إلى الحق فإنه لا يهدي إلى الحق إلا هو وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا. الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه. وأترككم الآن مع الأستاذ: أحمد عبد الوهاب ليبدأ حديثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 [ الجلسة الأولى المحاضر للجلسة الأولى اللواء أحمد عبد الوهاب علي ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 1- إنجيل مرقس : 1- يقول بابياس (حوالي عام 135 م) : " في الواقع أن مرقس الذي كان ترجمانا لبطرس قد كتب بالقدر الكافي من الدقة التي سمحت بها ذاكرته ما قيل عن أعمال يسوع وأقواله ولكن دون مراعاة للنظام. (ونلاحظ أن مرقس هذا هو كاتب أقدم الأناجيل الذي اعتمد عليه كل من متى ولوقا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولقد حدث ذلك لأن مرقس لم يكن قد سمع يسوع ولا كان تابعا شخصيا له، لكنه في مرحلة متأخرة كما قلت أنا (بابياس) من قبل قد تبع بطرس ". ويتفق مع قول بابياس هذا ما اقتبسه أيرنيوس في قوله: " بعد موت بطرس ويولس فإن مرقس تلميذ بطرس وترجمانه سلم إلينا كتابة ما صرح به بطرس " (1) . 2- " لم يوجد أحد بهذا الاسم (مرقس) عرف أنه كان على صلة وثيقة وعلاقة خاصة (بيسوع) أو كانت له شهرة خاصة في الكنيسة الأولى. . ومن غير المؤكد صحة القول المأثور الذي يحدد مرقس كاتب الإنجيل بأنه يوحنا مرقس المذكور في (أعمال الرسل 12: 12، 25- أو أنه مرقس المذكور في رسالة بطرس الأولى، 5: 13 أو أنه مرقس المذكور في رسائل بولس: كولوسي 4: 10، (2) تيموثاوس 4: 11، فليمون 24) . لقد كان من عادة الكنيسة الأولى أن تفترض أن جميع الأحداث التي ترتبط باسم فرد ورد ذكره في العهد الجديد إنما ترجع جميعها إلى شخص واحد له هذا الاسم، ولكن عندما نتذكر أن اسم مرقس كان أكثر الأسماء اللاتينية شيوعا في الإمبراطورية الرومانية فعندئذ نتحقق من مقدار الشك في تحديد الشخصية في هذه الحالة (2) . 3- وبالنسبة لتاريخ كتابة هذا الإنجيل: " فإنه غالبا ما يحدد في الجزء المبكر من الفترة 65-67 م، وغالبا في عام 65 م، أو عام 66 م. . ويعتقد   (1) فريدريك جرانت: ص73، 74. (2) دنيس نينهام: ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 كثير من العلماء أن ما كتبه مرقس في (الإصحاح 13) قد سطر بعد عام 70 م ". وأما عن مكان الكتابة: " فإن إنما المأثورات المسيحية الأولى لا تسعفنا. . إن كليمنت السكندري وأوريجين يقولان روما، بينما يقول آخرون مصر. وفي غياب أي تحديد واضح تمدنا به هذه المأثورات لمعرفة مكان الكتابة فقد بحث العلماء داخل الإنجيل نفسه عما يمكن أن يمدنا به، وعلى هذا الأساس طرحت بعض الأماكن المقترحة مثل أنطاكية، لكن روما كانت هي الأكثر قبولا " (1) . ومن ذلك يتضح أن أحدا لا يعرف بالضبط من هو مرقس كاتب الإنجيل، كذلك فإن أحدا لا يعرف بالضبط من أين جاء هذا الإنجيل. مشاكل إنجيل مرقس: إن من مشاكل إنجيل مرقس: اختلاف النسخ على مر السنين، ولقد أدى ذلك إلى قول علماء المسيحية إنه قد " زحفت تغييرات تعذر اجتنابها، وهذه حدثت بقصد أو بدون قصد. ومن بين مئات المخطوطات- أي النسخ التي عملت باليد- لإنجيل مرقس والتي عاشت إلى الآن فإننا لا نجد أي نسختين تتفقان تماما ". كذلك من مشاكل إنجيل مرقس خاتمة هذا الإنجيل، ذلك أن الأعداد من 9 إلى 20 (التي تتحدث عن ظهور المسيح ودعوته التلاميذ لتبشير العالم بالإنجيل) هذه تعتبر إلحاقية، أي أنها أضيفت فيما بعد بحوالي 110 من   (1) دنيس نينهام: ص42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 السنين، فلم تظهر لأول مرة إلا حوالي سنة 180 م (1) . 2- إنجيل متى : " لا يزال من الواضح أن كلًا من بولس الهلليني ومتى المبشر اليهودي له وجهة نظر تخالف الآخر تماما فيما يتعلق بأعمال يسوع وتعاليمه " (2) . وأما بالنسبة لتاريخ كتابة هذا الإنجيل فيمكن القول بأنه " كتب في حوالي الفترة من 85 إلى 105 م، وعلى أية حال فيمكن القول بأنه كتب في الربع الأخير من القرن الأول أو في السنوات الأولى من القرن الثاني " (3) . وفيما يتعلق بمكان تأليفه: " فإن شواهد قوية تشير إلى أنطاكية باعتبارها موطنه الأصلي. ولما كان من الصعب ربط الإنجيل بمدينة محددة (مثل أنطاكية) فمن المناسب إذن القول بأنه يأتي من مكان ما في المنطقة المحيطة بها أو أي مكان ما يقع شمال فلسطين " (4) . مشاكل إنجيل متى: 1- توقع نهاية العالم سريعا: ولو أن هذه الفكرة قد سيطرت على تفكير مؤلفي أسفار العهد الجديد، إلا أن متى كان أكثرهم حرصا على تأكيد   (1) دنيس نينهام: ص11. (2) فريدرلك جرانت: ص 141. (3) جون فنتون: ص 11. (4) فريدريك جرانت: ص 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ذلك. فهو قد يتوقع أن تأتي نهاية العالم في أيام المسيح: قبل أن يكون رسله قد أكملوا التبشير في مدن إسرائيل (10: 23) ، وقبل أن يدرك الموت بعض معاصري المسيح والذين استمعوا إلى تعاليمه (16: 28) وقبل أن يكون ذلك الجيل الذي عاصر المسيح وتلاميذه قد فني (24: 34) . ومن الواضح كما يقول جون فنتون في ص 21- " أن شيئا من هذا لم يحدث كما توقعه متى ". 2- ثم تأتي خاتمة الإنجيل التي يشك فيها العلماء ويعتبرونها دخيلة. فهي تنسب للمسيح قوله لتلاميذه: " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس (28: 19) ". ويرجع هذا الشك- كما يقول أدولف هرنك - وهو من أكبر علماء التاريخ الكنسي، إلى الآتي: أ- " لم يرد إلا في الأطوار المتأخرة من التعاليم المسيحية ما يتكلم عن المسيح وهو يلقي مواعظ ويعطي تعليمات بعد أن أقيم من الأموات، وأن بولس لا يعلم شيئا عن هذا ". ب- " إن صيغة التثليث هذه غريب ذكرها على لسان المسيح، ولم يكن لها نفوذ في عصر الرسل، وهو الشيء الذي كانت تبقى جديرة به، لو أنها صدرت عن المسيح شخصيا " (1) . 3- إنجيل لوقا : يبدأ بمقدمة ألقت كثيرا من الضوء على ما كان يحدث في صدر المسيحية، وخاصة فيما يتعلق بتأليف الأناجيل، فهو يقول:   (1) أدولف هرنك: ج1- ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 " إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخذاما للكلمة. رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس. لتعرف صحة الكلام الذي علمت به " (1: 1-4) . ومن هذه المقدمة يتضح جملة أمور لا بد من التسليم بها: 1- أن لوقا يكتب رسالة شخصية إلى ثاوفيلس، وأن هذه الرسالة تكتب على التوالي حسبما تتوفر لها إمكانيات الكتابة من وقت ومعلومات. 2- وأن هذا العمل قام به لوقا بدافع شخصي بحت بغية أن تصل المعلومات التي علم بها إلى صديقه. ولم يدع الرجل في رسالته أنه كتبها بإلهام أو مسوقا من الروح القدس، بل إنه يقرر صراحة أن معلوماته جاءت نتيجة لاجتهاده الشخصي لأنه تتبع كل شيء من الأول بتدقيق. 3- كذلك يقرر لوقا أن كثيرين قد أخذوا في تأليف أناجيل. 4- وأخيرا يعترف لوقا بأنه لم ير المسيح ولم يكن من تلاميذه، لكنه كتب رسالته بناء على المعلومات التي تسلمها من الذين عاينوا المسيح وكانوا في خدمته. ومن المعلوم أن سفر أعمال الرسل- وهو أطول أسفار العهد الجديد- هو الجزء الثاني من رسالة لوقا إلى ثاوفيلس. ولقد حاول العلماء معرفة ثاوفيلس هذا، لكن جهودهم لم تصل إلى نتيجة محددة. يقول فريدريك جرانت: " لم نخطر بمن يكون ثاوفيلس هذا، قد يمكن افتراضه موظفا رومانيا. . كذلك لم نخطر بمن أولئك الكثيرين الذين أخذوا في تأليف قصص مماثلة. . ورغم أن الموضوع لا يتعدى مجرد احتمالات غير مؤكدة فليس من المتعذر أن يكون مؤلف إنجيل لوقا قد جمع مادته في فلسطين أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 سوريا مبكرا في الفترة 70- 80 م، ثم ربطه بالجزء الأكبر من إنجيل مرقس في وقت ما من السبعينات ثم أصدر إنجيله حوالي عام 80 أو 85 م. وبعد ذلك بحوالي خمس سنوات فإنه ذيل كتابه الأصلي برسالة ثانية نعرفها الآن باسم أعمال الرسل. . ثم نشر مصنفه في حوالي عام 95 م " (1) . ومن أقوال العلماء في كتابات لوقا: " إن سفر أعمال الرسل يوجد به كثير من النقاط التي تتعارض تعارضا تاما مع التعاليم المذكورة في رسائل بولس، ومن غير المعقول إذن أن تكون هذه قد سطرها شخص له معرفة مباشرة ببولس ورحلاته التبشيرية (التي تحدث عنها تفصيلا سفر أعمال الرسل حتى أن هذا السفر يسمى أحيانا سفر أعمال بولس. .) . ومن النادر ذكر لوقا كشخصية بارزة في سجلات التاريخ للقرن الأول من المسيحية " (2) . مشاكل إنجيل لوقا: 1- " يعاني نص إنجيل لوقا من التغييرات التي تعاني منها الكتب الأخرى للعهد الجديد، إلا أن النص الغربي للإنجيل وسفر أعمال الرسل يعاني من اختلافات كثيرة بالإضافة أو الحذف عما في النصوص الأخرى لذات الإنجيل، مثل النص السكندري والنص البيزنطي " (3) . 2- " ثم هناك المشكلة الحادة التي نتجت عن اختلاف نسب المسيح كما   (1) فريدريك جرانت: ص 121، 127، 128. (2) جورج كيرد: ص 15، 16، 17. (3) جورج كيرد: ص 32-33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ذكره لوقا عما جاء في نظيره في إنجيل متى وفي أسفار العهد القديم ". وهذه واحدة من مشاكل الأناجيل التي سوف نبحثها فيما بعد. 4- إنجيل يوحنا : " لقد كان من المعتقد لفترة طويلة أن يوحنا كان على بينة من وجود الأناجيل الثلاثة المتشابهة، وأنه قد كتب ليكملهم أو ليصحههم في حالة أو حالتين. فقد جرى القول بأن حادثة تطهير الهيكل- على سبيل المثال- قد وضعها يوحنا عمدا في بداية دعوة يسوع، لأنه حسبما تذكرها يوحنا الذي تقدمت به السنون كان ذلك موضعها. كذلك فإنه صحح تاريخ الصلب، حيث وضعه عشية الفصح في اليوم الذي تذبح فيه خراف الفصح. ومن ناحية أخرى فإن لقب: ابن الإنسان (الذي كان يطلقه المسيح على نفسه ويفضله كثيرا على الألقاب الأخرى) والي لم يستخدمه بولس قط، قد أبقى عليه يوحنا. . لقد كان يوحنا مسيحيا ولجانب ذلك فإنه كان هللينيا، ومن المحتمل ألا يكون يهوديا ولكنه شرقي أو إغريقي. . ومن المحتمل أن يكون إنجيل يوحنا قد كتب في أنطاكية أو أفسس أو الإسكندرية أو حتى روما، فإن كلا من هذه المدن كانت مركزا عالميا للدعاية العقائدية في القرنين الأول والثاني من الميلاد، كما كانت على اتصال ببعضها " (1) . ويقول جون مارش في مقدمته لتفسير إنجيل يوحنا تحت عنوان: " استحالة التوكيد ": " حين نأتي لمناقشة المشاكل الهامة والمعقدة التي تتعلق بالإنجيل الرابع   (1) فريدريك جرانت: ص 156، 166، 174، 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وإنجيله، نجد أنه من المناسب والمفيد أن نعترف مقدما بأنه لا توجد مشكلة للتعريف (بالإنجيل وكاتبه) يمكن إيجاد حل لها. من كان يوحنا هذا الذي قيل إنه المؤلف؟ أين عاش؟ لمن من الجمهور كان يكتب إنجيله؟ أي المصادر كان يعتمد عليها؟ متى كتب مصنفه؟ . . حول كل هذه الأسئلة وحول كثير غيرها توجد أحكام متباينة، أحيانا تقرر تأكيدات قوية ومع ذلك فإن أيا منها لا يرقى إلى مرتبة اليقين. . . (ثم يختتم جون مارش مقدمته بقوله) : وبعد أن نفرغ كل ما في جعبتنا نجد أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل تحقيق أي شيء أكثر من الاحتمال حول مشاكل إنجيل يوحنا. ويعتقد كاتب هذه السطور (جون مارش) أنه ليس من المستحيل الاعتقاد أنه خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن الأول الميلادي قام شخص يدعى يوحنا، من الممكن أن يكون يوحنا مرقس، وقد تجمعت لديه معلومات وفيرة عن يسوع، ومن المحتمل أنه كان على دراية بواحد أو أكثر من الأناجيل المتشابهة، فقام عندئذ بتسجيل شكل جديد لقصة يسوع اختص بها طائفته التي كانت تعتبر نفسها عالمية، كما كانت متأثرة بوجود تلاميذ يوحنا المعمدان " (1) . مشاكل إنجيل يوحنا: تقول دائرة المعارف الأمريكية: " يوجد ذلك التضارب الصارخ بينه وبين الأناجيل المتشابهة، فهذه الأخيرة تسير حسب رواية مرقس للتسلسل التاريخي للأحداث فتجعل منطقة الجليل هي المحل الرئيسي لرسالة يسوع، بينما يقرر إنجيل يوحنا أن ولاية اليهودية كانت المركز الرئيسي.   (1) جون مارش: ص20، 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وهناك مشكلة الإصحاح الأخير (رقم 21) من الإنجيل: إن القارئ العادي يستطيع أن يرى أن الإنجيل ينتهي بانسجام تام بانتهاء الإصحاح العشرين الذي يقول: وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله. . إن هذا الإعلان يبين بوضوح الغرض الذي كتب من أجله هذا الكتاب. بعد ذلك يأتي الإصحاح الأخير (رقم 21) الذي يخبرنا أن يسوع ظهر كرب أقيم من الأموات لخمسة تلاميذ. . وأنه قال لبطرس: ارع خرافي. . وكذلك تعليق مبهم يقول: هذا هو التلميذ الذي جاء عن طريق الجماعة التي تشير إلى نفسها بكلمة: نحن (نعلم) . . وفي حقيقة الأمر فإن هؤلاء يصعب تحديدهم " (1) . ولقد ظهر شيء من التآلف بين إنجيلي لوقا ويوحنا مما ساعد على ظهور نظرية تقول بأن يوحنا استخدم إنجيل لوقا كأحد مصادره. إلا أن هذه النظرية تجد معارضة بسبب الاختلاف الواضح بين الإنجيلين في المواضع المشتركة بينهما: " فكلا الإنجيلين يتحدث عن بطرس وصيد السمك بمعجزة، لكن أحدهما (لوقا) يضع القصة مبكرا في رسالة يسوع في الجليل، أما الآخر (يوحنا) فيضعها بعد قيامه من الأموات " (لوقا 5: 1- 11، يوحنا 21: 1-14) . وكلاهما يتحدث بلغة مشتركة عن كيفية مسح يسوع (بالطيب) من امرأة. لكنها في أحدهما (لوقا) كانت زانية في بيت فريسي، بينما هي في   (1) دائرة المعارف الأمريكية: ج16- ص 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الآخر (يوحنا) كانت امرأة صديقة ليسوع، وأن ذلك حدث في بيتها. (لوقا 7: 36- 38، يوحنا 12: 1- 8) (1) . أما بعد. . فإن النتيجة التي لا مفر من التسليم بها كما بينتها هذه الخلاصة لأبحاث علماء النصرانية تقول بحق: إِن الأناجيل القانونية ما هي إلا كتب مؤلفة- بكل معنى الكلمة- وهي تبعا لذلك معرضة للصواب والخطأ. ولا يمكن الادعاء ولو للحظة واحدة أنها كتبت بإلهام. لقد كتبها أناس مجهولون، في أماكن غير معلومة، وفي تواريخ غير مؤكدة. والشيء المؤكد- الذي يلحظه القارئ البسيط كما يلحظه القارئ المدقق- أن هذه الأناجيل مختلفة غير متآلفة، بل إنها متناقضة مع نفسها ومع حقائق العالم الخارجي (حيث فشلت التنبؤات بنهاية العالم) كما رأينا وكما سنرى فيما بعد. إن هذا القول قد يضايق النصراني العادي، بل إنه قد يصدمه ولكن بالنسبة للعالم النصراني المدقق فقد أصبح القول بوجود أخطاء في أسفار الكتاب المقدس حقيقة مسلما بها. إن الكنيسة الكاثوليكية كانت تتمسك بشدة بعقيدة الإلهام، كما يقول موريس بوكاي التي تأكد القول بها في مجمع الفاتيكان الذي عقد عام 69- 1870 م، والذي تقرر فيه " أن الكتب القانونية لكل من العهدين القديم والجديد قد كتبت بإلهام من الروح القدس وأعطيت هكذا للكنيسة ". لكنها عادت الآن- بعد نحو قرن من الزمان- لتواجه الحقائق وتعترف بها. فلقد بحث المجمع المسكوني الثاني للفاتيكان (62- 1965 م) المشكلة   (1) جورج كيرد: ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 التي تتعلق بوجود أخطاء في بعض نصوص أسفار العهد القديم، وقدمت له خمس صيغ مقترحة استغرق بحثها ثلاث سنوات من الجدل والمناقشة. وأخيرا تم قبول صيغة حظيت بالأغلبية الساحقة، إذ صوت إلى جانبها 2344 ضد 6، وقد أدرجت في الوثيقة المسكونية الرابعة عن التنزيل فقرة تختص بالعهد القديم (الفصل الرابع، ص 53) تقول: " بالنظر إلى الوضع الإنساني السابق على الخلاص الذي وضعه المسيح تسمح أسفار العهد القديم للكل بمعرفة من هو الله ومن هو الإنسان. . غير أن هذه الكتب تحتوي على شوائب وشيء من البطلان ". (نقلا عن الطبيب الفرنسي الكاثوليكي (1) موريس بوكاي من كتابه: La Biblie، Le Coran et la Science. وقد نشرت دار المعارف بالقاهرة ترجمته العربية تحت عنوان: " دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ". وهذه الفقرة منقولة عن الطبعة الأولى (2) . إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كم من المؤمنين بقداسة هذه الأسفار واعتبارها تعليما إلهيا موحى به من الله، يعلم هذا الذي قررته الكنيسة بشأنها، وما تحتويه من شوائب وبطلان؟ وما لنا نذهب بعيدا ولدينا الكتاب المقدس- طبعة الكاثوليك 1960 م- وهو يقدم لأسفار موسى الخمسة (التوراة) بقوله: " كثير من علامات التقدم تظهر في روايات هذا الكتاب وشرائعه مما حمل المفسرين كاثوليك وغيرهم على التنقيب عن أصل هذه الأسفار الأدبي. فما من عالم كاثوليكي في عصرنا   (1) يوم أن كان كاثوليكيا ولكنه أسلم. (2) ص59-60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 يعتقد أن موسى ذاته قد كتب كل البانتاتيك (الأسفار الخمسة) منذ قصة الخلق إلى قصة موته. كما أنه لا يكفي أن يقال إن موسى أشرف على وضع النص الملهم الذي دونه كتبة عديدون في غضون أربعين سنة. كذلك يقول الكتاب المقدس في تقديمه لسفر راعوث: " من المحتمل أن يكون الكاتب قد استعان في البدء بذكريات تقليدية غير واضحة الظروف تماما، ثم أضاف إليها عددا من التفاصيل ليجعل الرواية أكثر حياة ويعطيها قيمة أدبية "!! وها هي كتب التبشير التي تورع هنا بين المسلمين تعترف بتسرب أخطاء خطيرة إلى أسفار العهد الجديد. لقد جاء في كتاب: " هل الكتاب المقدس حقا كلمة الله؟ " في ص 160، ما يلي: " بمقارنة أعداد كبيرة من المخطوطات القديمة باعتناء يتمكن العلماء من اقتلاع أية أخطاء ربما تسللت إليها. مثالا على ذلك الإدخال الزائف في رسالة يوحنا الأولى، الإصحاح الخامس. فالجزء الأخير من العدد 7، والجزء الأول من العدد 8، يقول حسب الترجمة البروتستنتية العربية، طبع الأمريكان في بيروت- ونقرأ في الترجمة اليسوعية العربية شيئا مماثلًا: في السماء. . . الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة (الروح والماء والدم وهؤلاء الثلاثة في واحد) . ولكن طوال القرون الثلاثة عشر الأولى للميلاد لم تشتمل أية مخطوطات يونانية على هذه الكلمات. وترجمة " حريصا " العربية تحذف هذه الكلمات كليا من المتن. والترجمة البروتستنتية العربية ذات الشواهد تضعها بين هلالين موضحة في المقدمة أنه ليس لها وجود في أقدم النسخ وأصحها ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أعتقد أن أبسط تعليق هو التذكرة فقط بأن هذا النص الخطير الذي أدخل ابتداء من القرن الثالث عشر، والذي يقتبس منه فكرة التثليث، لم يكن له وجود طوال القرون السابقة. وهذا شيء لا يمكن اعتباره تحريفا بسيطا، بل إنه تحريف خطير، لأنه يمس أساس العقيدة. وهكذا نجد أن نصوصا وأفكارا تتسرب إلى الكتابات التي اعتبرت مقدسة عبر القرون، فكل ما يتعلق بتثليث أو ثالوث، ما من شك في أنه دخيل على مسيحية المسيح الحقة التي لا تزال لها بقايا في الأناجيل الموجودة حاليا. ويكفي أنه عندما يأتي العلماء لتفسير صلاة المسيح الأخيرة في إنجيل (يوحنا 17: 3) التي يقول فيها: " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته ". فإنهم يقولون: إن هذا توحيد لاشك فيه. وطبعا هذا الكلام معناه باللغة العربية المتداولة: لا إله إلا الله، المسيح رسول الله. ومن هذه النقاط يمكن أن تلتقي النصرانية مع الإسلام. وفي فقرات أخرى وفي لقاءات أخرى مع الإسرائيليين كان قوله: " اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد) (إنجيل مرقس 12: 29) . وهذه الفقرة تشير إلى ما في أسفار العهد القديم. (سفر التثنية 6: 4) وعندما تقدم إليه إسرائيلي ليسأله: " أيها المعلم الصالح، ماذا أفعل لأرث الحياة الأبدية؟) (إنجيل لوقا 18: 18) . ماذا قال المسيح؟ لم يقل له افعل كذا أو كذا. . لكنه أولا نفى الصلاح عن نفسه فقال: " كيف تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله ". . بعد ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 بدأ المسيح يعلمه ما جاء في أسفار العهد القديم وما دعا إليه وهو التوحيد في العقيدة والتمسك بشريعة موسى والحفاظ عليها. أعتقد أنه بهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن أسفار العهد الجديد. بعد ذلك ندخل للحديث عن " نظرة في أسفار العهد الجديد " بحيث يستطيع كل واحد مهما كان حظه من الثقافة والعلم أن يتأكد من صحة هذا الكلام. نظرة في أسفار العهد الجديد 1- مشكلة الاختلاف الكثير : يوجد اختلاف كثير بين الأناجيل: الواحد عن الآخر، واختلاف داخل الإنجيل نفسه. ومن الطبيعي أنه في أي دراسة سواء كانت دراسة دينية أو أي دراسة وخاصة ما يتعلق بالوحي والتنزيل والكتب المقدسة فإنه تحكمنا القاعدة الأساسية التي لا بد أن يقبلها الكل، وهي أنه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1) . (1) - اختلاف متى ولوقا في نسب المسيح: لقد جرت التقاليد المسيحية في نسبة المسيح ليوسف النجار خطيب مريم (2)   (1) سورة النساء، آية 82. (2) اتهام مخزي، نسبوه إلى هذا النبي الكريم وهو برئ منه أشد البراءة، واتهام لأمه مريم البتول العفة الحصان. وقد قص الله تعالى علينا أمرها وابنها في سورة مريم، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) الآيات 16- 21، وقال سبحانه عنها في سورة التحريم: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) الآية 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فها هو لوقا يقول: " ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يظن أنه ابن يوسف (النجار) بن هالي بن. . . . . . " (3: 23) . ولقد اختلف متى مع لوقا في تسلسل نسب المسيح هذا، إذ جعله متى يأتي من نسل سليمان بن داود، بينما جعله لوقا يأتي من نسل ابن آخر لداود هو ناثان. ويتضح الموقف بعمل جدول يبين الأنساب التي ذكرها كل من متى ولوقا مقارنة بأنساب الآباء التي وردت في أسفار العهد القديم وخاصة سفر أخبار الأيام وذلك كالآتي: إنجيل لوقا سفر أخبار الأيام الأول إنجيل متى مسلسل إنجيل لوقا سفر أخبار الأيام الأول إنجيل متى مسلسل اليعازر يوسي عير المودام قصم أدي ملكي نيزي شألتيئيل زربابل ريسا يوحنا يهوذا يوسف حزقيا منسي آمون يوشيا يهوياقيم يكنيا شألتيئيل فدايا زربابل حنتيا حزقيا منسي آمون يوشيا - يكنيا شألتيئيل - زربابل أبيهود الياقيم عازور صادوق أخيم 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 داود ناثان متاثا مينان مليا الياقيم يونان يوسف يهوذا شمعون لاوي متثات يوريم داود سليمان ناثان رحبعام أبيا آسا يهوشافاط يورام اخزيا يوآش أمصيا عزريا يوثام آحاز داود سليمان رحبعام أبيا آسا يهوشافاط يورام عزيا - يوثام آحاز 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 إنجيل لوقا سفر أخبار الأيام الأول إنجيل متى مسلسل إنجيل لوقا سفر أخبار الأيام الأول إنجيل متى مسلسل يوسف ينا ملكي لاوي فتثاث هالي يوسف 36 37 38 39 40 41 42 شمعي متاثيا مآث نجاي حسلي ناحوم عاموص متاثيا اليود اليعاذر متان يعقوب يوسف 28 29 30 31 32 33 34 35 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 يلاحظ في هذا الجدول- أنه تبسيطا للدراسة- فقد اكتفينا بتتبع نسب سليمان بن داود كما جاء في سفر أخبار الأيام حتى المسلسل رقم (23) فقط وصرفنا النظر عن تتبع نسب ناثان بن داود. كما أن الأنساب التي وضع مكانها (-) تحت إنجيل متى إنما تعني أسماء آباء سقطت خطأ من القائمة التي كتبها متى. إن الجدول السابق يكشف عن عدد من الملاحظات التي لا تخفى على أحد. ولقد تحدث مفسرو الأناجيل في هذه الملاحظات فكان مما قالوه الأتي: يقول جون فنتن: " من المحتمل أن يكون متى قد استمر في الاعتماد على (سفر أخبار الأيام الأول 3: 5 10- 16) إلا أنه حذف ثلاثة أجيال بين يورام ويوثام، كما حذف يوهاقيم بعد يوشيا. أما تسلسل النسب في لوقا فإنه يسير خلال ابن آخر لداود وهو ناثان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ولقد استطاع متى أن يأخذ الأسماء الثلاثة: يكنيا، وشألتيثيل، وزربابل، من (أخبار الأيام الأول 3: 16) وما يليها، أما بالنسبة لبقية الأسماء المذكورة في قائمته فلم يكن لديه أي مصدر مكتوب حسبما نعلم. كذلك فإن لوقا أورد في قائمته: شألتيئيل وزربابل، لكنه لم يذكر أحدا من الآخرين (المذكورين في متى) . ويشير متى إلى أنه في كل من العصور الثلاثة يوجد أربعة عشر جيلا، رغم أنه في الحقيقة لم يذكر سوى ثلاثة عشر اسما في الجيل الأخير ابتداء من 1: 12-16 " (1) . ويقول جورج كيرد: " في منتصف قائمة لوقا نجد هذه الأسماء الثلاثة: يوحنا بن ريسا بن زربابل - لكن يوحنا هي صيغة أخرى لاسم حننيا الذي كان ابنا لزربابل. إن هذا الشخص ريسا لم يذكر البتة في (سفر أخبار الأيام الأول 3: 19) ، لكن ريسا هي كلمة آرامية تعني أمير، ولا بد أنها ملحقة في القائمة الأصلية كلقب يسبق زربابل، وهو الرجل الوحيد الذي كان يمكن الإشارة إليه بهذا اللقب بعد عام 586 ق. م (عام السبي البابلي) . إن الخطأ الذي لحق بقائمة لوقا يمكن إرجاعه إلى أن القائمة الأصلية (التي نقل عنها) كانت مصنفة بترتيب عكس هذا: زربابل الأمير ولد يوحنا " (2) . وخلاصة القول في نسب المسيح أننا إذا اعتبرنا سفر أخبار الأيام الأول هو المرجع الرئيسي لأنساب الآباء نجد الآتي: 1- أخطأ متى في سلسة نسب المسيح حين أسقط منها خمسة أسماء (المسلسلات أرقام 9، 10، 11، 18، 21) .   (1) تفسير إنجيل متى: ص39، 40. (2) تفسير إنجيل لوقا: ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 2- أخطأ لوقا حين أضاف ريسا (المسلسل رقم 24) بين زربابل ويوحنا. 3- اختلف لوقا مع متى اختلافا جوهريا حين جعل يوسف زوج مريم ينحدر من نسل ناثان بن داود، بينما جعله متى ينحدر من نسل سليمان بن داود. ومنذ قرون مضت بذل نفر من المدافعين عن الأناجيل- باعتبارها وحيا من الله- محاولات مضنية للتوفيق بين لوقا ومتى اعتمادا على التقاليد الإسرائيلية، لكن محاولاتهم باءت جميعها بالفشل. ويكفي التسليم بالخطأ الذي لحق بقَائمة متى عند مقارنتها بما في سفر أخبار الأيام الأول- إذ أنه أسقط منها يوآش، وأمصيا، وعزريا، ويهوياقيم، وهو أمر واضح لا يحتمل الجدل- حتى يكفي التسليم تبعا لذلك باختلاف لوقا مع متى وهو الشيء الذي قرره علماء المسيحية. (ب) - اختلاف الأناجيل في أسماء التلاميذ: يقول متى في إنجيله: " أما أسماء الاثني عشر رسولا فهي هذه. الأول سمعان الذي يقال له بطرس، وأندراوس أخوه. يعقوب بن زبدي. ويوحنا أخوه. فيلبس، وبرثولماوس. توما ومتى العشار. يعقوب بن حلفي، ولباوس الملقب تداوس. سمعان القانوني، ويهوذا الإسخريوطي (10: 2- 4) . لكن لوقا يقول: " لما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر الذين سماهم أيضا رسلا. سمعان الذي سماه أيضا بطرس، وأندراوس أخاه. يعقوب، يوحنا. فيلبس وبرثولماوس. متى وتوما. يعقوب بن حلفي، وسمعان الذي يدعى الغيور. يهوذا أخا يعقوب، ويهوذا الإسخريوطي - 6: 13-16 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ويذكر يوحنا أسماء بعض التلاميذ من بينهم يهوذا آخر غير الخائن وهو الذي يقول عنه: " يهوذا ليس الإسخريوطي " (14: 22) . من الواضح أن هناك اختلافا بين ما ذكره متى ومرقس من جانب وبين لوقا ويوحنا من جانب آخر، ولهذا يقول جورج كيرد: " عندما كتبت الأناجيل لم يكن هناك مجرد التحقق من شخصية التلاميذ. أن يهوذا بن يعقوب لا يظهر في القائمة المذكورة في كل من متى ومرقس، بينما شغل مكانه لباوس المقلب تداوس ". وهنا لا بد أن نلفت النظر إلى أن محمدا ظهر تحت شمس التاريخ وقد بلغ صحابته مائة ألف أو يزيدون، وقد عرفت أسماؤهم وأخبارهم. فكيف بكتبة الأناجيل يعجزون عن التحقق من الاثني عشر تلميذا. . . .؟ (جـ) - اختلاف متى ومرقس في قصة تطهير الهيكل وشجرة التين: يقول إنجيل متى: " دخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل. . وقال لهم مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص. . . ثم تركهم وخرج خارج المدينة إلى بيت عنيا وبات هناك. وفي الصباح إذ كان راجعا إلى المدينة جاع. فنظر إلى شجرة تين على الطريق وجاء إليها فلم يجد فيها شيئا إلا ورقا فقط فقال لها: لا يكن منك ثمر بعد إلى الأبد. فيبست التينة في الحال. فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين كيف يبست التينة في الحال. . فأجاب يسوع وقال لهم: الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان ولا تشكون. . إن قلتم لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون (متى 21: 12- 21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 لكن إنجيل مرقس يقول في هذا الحادث: " في الغد لما خرجوا من بيت عنيا جاع. فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق وجاء لعله يجد فيها شيئا فلما جاء إليها لم يجد شيئا إلا ورقا. لأنه لم يكن وقت التين. فأجاب يسوع وقال لها: لا يأكل أحد منك ثمرا بعد إلى الأبد. وكان تلاميذه يسمعون. وجاءوا إلى أورشليم. ولما دخل يسوع الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام. . وكان يعلم قائلا لهم أليس مكتوبا بيتي بيت صلاة يدعى. . وأنتم جعلتموه مغارة لصوص. . ولما صار المساء خرج إلى خارج المدينة وفي الصباح إذ كانوا مجتازين رأوا التينة قد يبست من الأصول. فتذكر بطرس وقال له يا سيدي: انظر التينة التي لعنتها قد يبست. فأجاب يسوع وقال لهم. . من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر ولا يشك في قلبه. . فمهما قال يكون له (مرقس 11: 12-24) . ومن الواضح أن هناك اختلافا بين الروايتين يمكن تلخيصه في الآتي: 1- بينما يذكر إنجيِل متى أن تطهير يسوع للهيكل من الباعة والصيارفة قد حدث قبل أن يمر بشجرة التين ثم يلعنها، نجد عكس ذلك في إنجيل مرقس الذي يذكر حادث شجرة التين قبل تطهير الهيكل. 2- كذلك فإن تفصيلات حادث شجرة التين مختلفة في كل منهما. ويشير جون فنتون إلى نقط الخلاف بينهما فيقول: " نجد في إنجيل مرقس أن يسوع يبحث عن ثمر في الشجرة ويلعنها في نفس اليوم ثم يلفت بطرس نظر يسوع إلى جفافها في اليوم التالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ولكن نتيجة لما قام به متى من إعادة ترتيب الرواية فإن جميع أحداثها تقع في نفس اليوم " (1) . . تعليق الدكتور محمد جميل غازي: وقد علق الدكتور محمد جميل غازي على قصة شجرة التين بقوله: إن إحدى الروايات تقول إن الوقت لم يكن وقت تين، وهذا يعني أن معلومات المسيح الذي قيل إنه الله أو إنه ابن الله لم تصل إلى مستوى معلومات الفلاح العادي الذي يعلم إن كان الوقت وقت تين أم لا، ولم يعلم إن كانت الشجرة التي يراها على مد البصر بها تين أم لا. وتقول الروايتان إن هذا الإله الجائع ذهب إلى الشجرة ولما لم يجد بها تينا فإنه لعنها. 2- مشكلة التنبؤات التي استحال تحقيقها : بعد ذلك نأتي لموضوع خطير هو مشكلة التنبؤات التي استحال تحقيقها. إن المتفق عليه بين علماء الديانات وخاصة ديانات الكتب المقدسة يعني بذلك عند أهلها هو أن أحد تعاريف النبي بأنه الشخص المرسل من عند الله سبحانه وتعالى أو الذي يتكلم بوحي من خالقه ولا يدخل الخلف في أخباره. فمن المؤكد أن النبي الذي يصدقك فيما حدث في الدنيا، لا بد أن يصدقك ما وعد به في الآخرة. لكن عندما تنسب نبوءة لنبي ما، بل وأكثر من نبوءة نثبت أن الحياة الدنيا التي نعيشها قد انتهت، فماذا يكون   (1) تفسير إنجيل متى: ص336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 المصير بالنسبة لتنبؤات الحياة الأخرى؟ من المؤكد أن ما وعد به لن يتحقق أيضا. أعتقد أن هذه قاعدة متفق عليها. وبالنسبة لموضوع التنبؤات في الأناجيل نجد الآتي: (1) التنبؤ بأن نهاية العالم تحدث في القرن الأول الميلادي: تقول الأناجيل إن السيد المسيح " دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا على أرواح نجسة حتى يخرجوها ويشفوا كل مرض. . وأوصاهم قائلًا. . ها أنا أرسلكم كغنم وسط ذئاب فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام. . ومتى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى. فإني الحق أقول لكم لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان (المسيح) " (متى 10: 1- 23) . أي أن عودة المسيح ثانية إلى الأرض تحدث قبل أن يكمل تلاميذه التبشير في مدن إسرائيل. وهي كذلك تحدث قبل أن يكون معاصري المسيح الذين عاشوا في النصف الأول من القرن الأول الميلادي- قد ماتوا: " إن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازى كل واحد حسب عمله. الحق أقول لكم إن من القيام هاهنا قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيا في ملكوته " (متى 16: 27-28) . وبصورة أخرى تؤكد ما سبق فإن نهاية العالم وعودة المسيح ثانية إلى الأرض لا بد أن تحدث قبل أن يفنى ذلك الجيل الذي عاش في القرن الأول من الميلاد: " بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماء تتزعزع. وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 السماء. . ويبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. . الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله " (متى 24: 29- 34) . ويتفق كل من إنجيلي (مرقس 13: 24- 30) و (لوقا 21: 25-32) مع ذلك التقرير الخطير الذي قرره متى. هذا ومن الواضح- كما يقول جون فنتون -: " إن شيئا من هذا لم يحدث كما توقعه متى " (1) . وعلى ذلك تكون التنبؤات التي نسبتها الأناجيل للمسيح عن حدوث نهاية العالم في القرن الأول الميلادي استحال تحقيقها ولا يمكن لأحد الدفاع عنها. (ب) التنبؤ باصطحاب يهوذا الخائن للمسيح في العالم الآخر: في حوار جرى بين المسيح وتلاميذه عمن تكون له النجاة في العالم الآخر، سأل بطرس معلمه عن أجر المؤمنين به فقال: " ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا؟ " فأجابه المسيح: " متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضا على اثني عشر كرسيا، تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر " (2) . لقد كان يهوذا الإسخريوطي أحد التلاميذ الاثني عشر الذين قيلت لهم هذه النبوءة وبعد خيانته أصبح يعرف (بابن الهلاك) لأنه طرد من صحبة المسيح في الدنيا والآخرة. وبهذا استحال تحقيق هذه النبوءة. وإذا رجعنا إلى نظير هذه الفقرة في إنجيل لوقا لوجدنا- كما يقول جون   (1) تفسير إنجيل متى: ص21. (2) (متى 19: 27- 29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فنتون - " أنه حذف العدد الاثني عشر، ولعل ذلك يرجع إلى أنه كان يفكر في يهوذا الإسخريوطي " (1) . (جـ) التنبؤ بدفن المسيح في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال: حاول قوم من اليهود تعجيز المسيح فقالوا له: يا معلم نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال يكون هكذا ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال (متى 12: 38- 40) . إن هذا القول شائع في الأناجيل وتكرر ذكره في أغلبها وفي أكثر من موضع. وقد ذكر في إنجيل (مرقس في 8: 31، 9، 31، 10: 34) . وذكر في إنجيل لوقا مع اختلاف هام يلحظه القارئ، وذلك في قوله: " هذا الجيل شرير يطلب آية ولا تعطى له إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضا لهذا الجيل (11: 29- 30) . وذكرت الأيام الثلاثة في إنجيل (يوحنا 2: 19) . ونقرأ في سفر يونان (يونس) ما حدث له فقد " أعد (الرب) حوتا عظيما ليبتلع يونان. فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال. . فصلى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت. . وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر- (1: 17، 2: 1- 10) . ومن الواضح إذن أنه لكي تتحقق هذه النبوءة فيجب أن يبقى المصلوب في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. ولكن إذا رجعنا إلى ما تذكره الأناجيل عن أحداث الصلب والقيامة   (1) تفسير إنجيل متى: ص317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 لوجدنا أن المصلوب أنزل من على الصليب مساء الجمعة (يوم الصلب) : " ولما كان المساء إذ كان الاستعداد أي ما قبل السبت جاء يوسف الذي من الرامة. . ودخل إلى بيلاطس (الحاكم) وطلب جسد يسوع. . فدعا قائد المائة وسأله هل له زمان قد مات. ولما عرف من قائد المائة وهب الجسد ليوسف. فاشترى كتانا فأنزله وكفنه بالكتان ووضعه في قبر كان منحوتا في صخرة ودحرج حجرا على باب القبر (مرقس 15: 42-46) . ولقد اكتشف تلاميذ المسيح وتابعيه أن ذلك القبر كان خاليا من الميت في الساعات الأولى من فجر يوم الأحد. وفي هذا يقول إنجيل متى: " وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر. . فأجاب الملاك وقال للمرأتين. . ليس هو هاهنا لأنه قام كما قال (28: 1- 6) . كذلك يقول إنجيل يوحنا: " في أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكرا والظلام باق فنظرت الحجر مرفوعا عن القبر (20: 1) . وبعملية حسابية بسيطة نجد أن: عدد الأيام التي قضاها الميت في بطن الأرض (في القبر) = 1 يوما (يوم السبت) . عدد الليالي التي قضاها الميت في بطن الأرض (في القبر) = 2 ليلة (ليلة السبت وجزء من ليلة الأحد على أحسن الفروض) . وبذلك استحال تحقيق هذه النبوءة التي قالت ببقاء الميت في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قضيّة الصَّلب ننتقل الآن لمناقشة قضية هامة وخطيرة هي قضية الصلب . . . وأقولها الآن- بأمانة- إن من أكبر معجزات القرآن أنه نفى نفيا قاطعا القول بصلب المسيح. لقد قالها في آية واحدة، هي الآية رقم 157 (1) من سورة النساء. لكن قضايا أخرى مثل القول بأن الله هو المسيح أو أن المسيح ابن الله، ذكرها القرآن في مواضع كثيرة وتكفل بالرد عليها باعتبارها كفرا صريحا. ولقد استغرق الحديث عن قضية التوحيد وما يرتبط بها نحو ثلث الكتاب الكريم. ومن المعلوم أن سورة الإخلاص التي تقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . - تعدل ثلث القرآن. ويحق لنا أن نقول: لو أن القرآن كان من عند غير الله وأن بشرا من الأرض قد افتراه كذبا على الله وادعى أنه أوحي إليه، أما كان الأولى به والأيسر لرواج دعوته أن يقول بصلب المسيح، باعتبار ذلك شائعا ومعروفا بين الناس. وفي تلك الحال فإنه يستميل النصارى إليه ويقلل من المشاكل والعقبات التي تعترض قبولهم الإسلام. إن الشواهد القريبة تبين أن تحول المسيحي من طائفة مسيحية إلى أخرى يمكن أن يحدث دون ضجة، وذلك لاشتراك تلك الطوائف في أصول عقائدية كثيرة. لقد بينت الشواهد البعيدة- في الزمن- أن تحول أصحاب العقائد التي شاعت في العالم الروماني الوثني إلى المسيحية كان يرجع بالدرجة الأولى إلى التشابه الكبير بين أصول تلك العقائد والعقيدة المسيحية التي شاركتها فكرة   (1) الآية من سورة النساء وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الإله المتجسد وأفكارا وطقوسا أخرى سوف نتحدث عنها بشيء من التفصيل فيما بعد. أما تحول المسيحي إلى الإسلام فإنه يعتبر انقلابا في حياته ومعتقداته لأنه غير مفاهيم وعقائد كثيرة ترسبت في عقله ووجدانه. لكن القرآن- كتاب الإسلام- لم يجار النصارى على معتقداتهم وما تعارفوا عليه، لكنه حدد المواقف تحديدا واضحا فجعل القول بأن " الله هو المسيح " أو أن " المسيح ابن الله " كفرا لا يقبل المغفرة. حتى إذا جاء الحديث عن قتل المسيح - وكم قتل اليهود من أنبياء قبله- نجد القرآن ينفي قتل المسيح وينفي صلبه نفيا قاطعا لا لشيء إلا لأن ذلك ما حدث فعلًا. فالقرآن لا يقول إلا الحق بصرف النظر عما إذا كان ذلك الحق يتفق وما شاع بين الناس وصار من المسلمات بينهم أم أنه جاء مخالفا لما توارثوه عبر قرون عديدة. وبما أن الصلب قضية، وما نناقشه هنا عبارة عن مجموعة من القضايا، فالأولى بنا أن نذكر بقاعدة بسيطة متفق عليها تحكم أحكام الناس في مختلف القضايا على مختلف المستويات- وهذه القاعدة تقول: كل ما تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. فحين تختلف شهادة شاهدين أمام قاض في محكمة، فإن ما تفرضه عدالة المحكمة هو عدم الاعتداد بأي من الشهادتين إلى أن يأتي شاهد ثالث يؤيد شهادة أحد الشاهدين، وإلا امتنع صدور حكم عادل. والآن نذهب لمناقشة قضية الصلب كما تعرضها الأناجيل، وهي التي تبدأ بمجموعة من الأحداث الخاصة بمحاولة قتل المسيح إلى أن تنتهي بتعليق شخص يصرخ يائسا على الصليب، وما أعقب ذلك من تكفينه ودفنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 1- مسح جسد المسيح بالطيب: لقد اختلفت الأناجيل في هذه الحادثة البسيطة التي تعتبر مقدمة لأحداث الصلب. يقول إنجيل مرقس " كان الفصح وأيام الفطير بعد يومين وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه. . وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص وهو متكئ جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن فكسرت القارورة وسكبته على رأسه. وكان قوم مغتاظين في أنفسهم فقالوا لماذا كان تلف الطيب هذا. لأنه كان يمكن أن يباع هذا بأكثر من ثلاثمائة دينار ويعطى للفقراء وكانوا يؤنبونها (14: 1-005) . وقد ذكر متى هذه الحادثة في (26: 6-9) ، ولوقا في (7: 36- 39) ، ويوحنا في (12: 1-6) مع اختلافات بينهم في توقيتاتها وعناصرها الرئيسية. يقول نينهام في هذه القصة: " نجد القديس يوحنا يذكرها مبكرا عما أورده القديس مرقس ببضعة أيام، وكذلك يضعها القديس لوقا في موقع مختلف تماما من سيرة يسوع. . فبينما نجدها في إنجيل مرقس قد حدثت في منزل سمعان الأبرص من قرية بيت عنيا. . نجدها في إنجيل يوحنا قد حدثت في بيت مريم ومرثا ولعازر " (1) ويمكن تلخيص اختلاف الأناجيل في هذه القصة كالآتي: مكان الحادث: في بيت سمعان الأبرص (مرقس ومتى) - (في بيت فريسي (لوقا) - في بيت الإخوة لعازر ومريم ومرثا (يوحنا) .   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 شخصية المرأة: مجهولة (مرقس ومتى) - خاطئة (لوقا) - امرأة صديقة هي مريم أخت لعازر (يوحنا) . ماذا فعلت: دهنت رأس يسوع بالطيب (مرقس ومتى) - دهنت رجليه بالطيب (لوقا ويوحنا) . رد الفعل عند المشاهدين: اغتاظ قوم لإسرافها (مرقس) - اغتاظ التلاميذ (متى) - كان تساؤل الفريسي مع نفسه حول معرفة يسوع لشخصية المرأة (لوقا) - اغتاظ يهوذا الإسخريوطي لإسرافها (يوحنا) . 2- التحضير للعشاء الأخير: يقول مرقس: " وفي اليوم الأول من الفطير حين كانوا يذبحون الفصح قال له تلاميذه أين تريد أن نمضي ونعد لتأكل الفصح. فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما اذهبا إلى المدينة فيلاقيكما إنسان حامل جرة ماء اتبعاه. وحيثما يدخل فقولا لرب البيت إن المعلم يقول أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي فهو يريكما علية كبيرة مفروشة معدة. هناك أعدا لنا. فخرج تلميذاه وأتيا إلى المدينة ووجدا كما قال لهما. فأعدا الفصح. ولما كان المساء جاء مع الاثني عشر " (14: 12-17) . ويقول نينهام: (إن أغلب المفسرين يعتقدون أن هذه الفقرة بأعدادها من رقم (12 إلى 16) إنما كانت في الواقع إضافة أدخلت فيما بعد إلى الرواية التي يتبعها القديس مرقس في هذا الجزء من إنجيله. ومن بين الأسباب لذلك الاعتقاد ما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 1- وصف اليوم الذي قيل: إن القصة حدثت فيه بأسلوب لا يستخدمه اليهودي العادي الذي كان معاصرا لها. 2- وصف أتباع يسوع في كل فقرة من هذا الإصحاح (الرابع عشر) بأنهم تلاميذه بينما أشير إليهم بإصرار في هذه الفقرة بأنهم الاثنا عشر. 3- أن كاتب العدد 17 (الذي يقول: " ولما كان المساء جاء مع الاثني عشر) لا يعلم شيئا عن رحلة التلميذين التي ذكرت في العدد 13، فلو كان كاتب العدد 17 يعلم محتويات تلك الفقرة لكان عليه أن يتحدث عن: (العشرة وليس الاثني عشر، أي أن العدد 17 كان يجب أن يقرأ هكذا: ولما كان المساء جاء مع العشرة) . . " (1) . ويختلف متى مع مرقس في قصة الإعداد للعشاء، إذ أنه يجعل التلاميذ جميعا- كما يقول جون فنتون في ص 414 من تفسيره- يشتركون في هذا الإعداد، فهو يقول: " قال يسوع لتلاميذه اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له. المعلم يقول إن وقتي قريب. عندك أصنع الفصح مع تلاميذي. ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع وأعدوا الفصح " (26: 18- 19) . 3- توقيت العشاء الأخير وأثره على قضية الصلب: يقول جون فنتون: " يتفق متى مع مرقس (وكذلك لوقا 22: 8) في أن العشاء الأخير كان هو الفصح. وعلى العكس من ذلك نجد الإنجيل الرابع يجعل الفصح يؤكل في المساء بعد موت يسوع " (2) .   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص376. (2) يوحنا 18: 28، كما يقول جون فنتون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ويرى أغلب العلماء أن توقيت كل من متى ومرقس (ولوقا) ، صحيح وأن يوحنا قد غير ذلك لأسباب عقائدية " (1) . ذلك أن يوحنا يقرر أن العشاء الأخير الذي حضره يسوع مع تلاميذه كان قبل الفصح؛ فهو يقول: " أما يسوع قبل عيد الفصح. . فحين كان العشاء. . قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة واتزر بها، ثم صب ماء في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ " (13: 1- 5) . وكذلك يقرر يوحنا أنهم قبضوا على يسوع في مساء اليوم السابق لأكل الفصح، وذلك في قوله: " ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية، وكان صبح، ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية لكي لا يتنجسوا فيأكلون الفصح " (18: 28) . إن اختلاف الأناجيل في العشاء الأخير وتوقيته ترتب عليه اختلافهم في نقطة جوهرية تعتبر واحدة من أهم عناصر قضية الصلب، ألا وهي تحديد يوم الصلب. فإذا أخذنا برواية مرقس ومتى ولوقا لكان يسوع قد أكل الفصح مع تلاميذه مساء الخميس، ثم كان القبض بعد ذلك بقليل في مساء الخميس ذاته، ولذلك يكون الصلب قد حدث يوم الجمعة. أما الأخذ برواية يوحنا فإنه يعني أن القبض كان مساء الأربعاء، وأن الصلب حدث يوم الخميس. هل حدث الصلب يوم الخميس أم يوم الجمعة؟ !! 4- العشاء الأخير والتلميذ الخائن: يقول مرقس: " ولما كان المساء جاء مع الاثني عشر، وفيما هم متكئون   (1) تفسير إنجيل متى: ص415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يأكلون قال يسوع الحق أقول لكم إن واحدا منكم يسلمني الأكل معي فابتدأوا يحزنون ويقولون له واحدا فواحدا، هل أنا؟ وآخر، هل أنا؟ فأجاب وقال لهم. هو واحد من الاثني عشر الذي يغمس معي في الصحفة. إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان. كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد " (14: 17- 21) . ولقد أدخل متى بعض التغييرات على رواية مرقس. ويقول لوقا: " فدخل الشيطان في يهوذا الذي يدعى الإسخريوطي وهو من جملة الاثني عثر. فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم. . وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم خلوا من جمع. ولما كانت الساعة اتكأوا الاثني عشر رسولا معه. . وقال لهم شهوة اشتهيت أن آكل الفصح معكم. . ولكن هو ذا يد الذي يسلمني هي معي على المائدة. . فابتدأوا يتساءلون فيما بينهم من ترى منهم هو المزمع أن يفعل هذا " (22: 22-23) . أما رواية يوحنا ففيها اختلاف يسهل ملاحظته- عما روته الأناجيل الثلاثة الأخر، فهو يقول: " لما قال يسوع: هذا اضطرب بالروح وشهد وقال الحق الحق أقول لكم إن واحدا منكم سيسلمني. فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون من قال عنه. . أجاب يسوع هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه. . فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي. فبعد اللقمة دخله الشيطان. فقال له يسوع: ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة. فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت وكان ليلا " (13: 21-30) . وبصرف النظر عن اختلاف الأناجيل في إجابة المسيح لتلاميذه عمن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الخائن، إذ قال إنجيل لوقا: " الذي يغمس في الصحفة " بينما قال إنجيل يوحنا: " الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه " - لكن النقطة الهامة التي تتعلق بخيانة يهوذا هي اختلاف الأناجيل في حادثة دخول الشيطان فيه. فها هو يقرر أن الشيطان دخل يهوذا قبل العشاء الأخير بيوم على الأقل (لوقا 22: 3-7) ، بينما يقرر يوحنا أن الشيطان دخل يهوذا بعد أن أعطاه يسوع اللقمة (يوحنا 13: 27) أثناء العشاء الأخير. هذا- ونكتفي بهذا القدر الذي عرضنا فيه بعض عناصر قضية الصلب وهي: مسح جسد المسح بالطيب- ثم التحضير للعشاء الأخير- ثم توقيت العشاء الأخير وأثره على قضية الصلب- وأخيرا ما قيل عن العشاء الأخير والتلميذ الخائن. ونستأنف في الغد- إن شاء الله تعالى- استكمال بحث قضية الصلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الجلسة الثانية قضية الصلب (بقية) . نهاية يهوذا الخائن. تنبؤات المسيح بآلامه. تنبؤات المسيح بنجاته من القتل. الخلاص الحق لا علاقة له بالصلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الجلسة الثانية [ كلمة افتتاحية الجلسة الثانية للدكتور محمد جميل غازي ] افتتح الدكتور: محمد جميل غازي هذه الجلسة بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} . وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. يقول الله سبحانه وتعالى {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وبعد، فبهذه الآيات الكريمة نعلن افتتاح هذه الدورة الثانية من المناظرة بين الإسلام والنصرانية التي نظمت لتكون مناقشة لأفكار أو لعقائد الديانة النصرانية، ولبعض الشكوك والشبهات التي تثار حول الديانة الإسلامية. ولكني أولا أقدم إليكم جيمس بخيت ليحدثكم عن وجهة نظره أو أسلوبه مع إخوته في إدارة المناقشة فليتفضل. كلمة جيمس بخيت : أيها السادة الكرام: نشكر الله على مساعدتنا لمواصلة ما بدأناه من نقاش روحي هادف فيما يختص بالأمور المسيحية والإسلامية أملًا لإزالة الشكوك من نفوس الاخوة الذين تقدموا للالتقاء بسيادتكم. ولا شك أنكم تتوقعون الإجابة أي الرد على ما جاء في النقاش السابق، ولكن نسبة لظروف خارجة عن إرادتنا فلم نحضر أي رد، وسيوضح الأخ فضيلة الملحق الديني السعودي بالخرطوم هذه الظروف وشكرا. كلمة الشيخ: طاهر أحمد طالبي الملحق الديني السعودي: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ونصلي ونسلم على أنبيائه ورسله وعلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه. كان من الطبيعي أن يدرس جيمس وزملاؤه النقاش الذي دار في الليلة الماضية، ثم يحفضروا هذه الليلة وجهات نظرهم حيال ما دار في النقاش. ولكنه لظروف خارجة عن إرادة الجميع فقد اتفقنا معه هذه الليلة أن يستمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 النقاش يوميا ريثما تنتهي الإجابة على جميع الأسئلة التي أوردها في خطابه والتي سجلت على الأشرطة. وبعد ذلك تتاح لهم جميعا الفرصة لدراسة جميع الحلقات والرد عليها متى شاءوا. هذا ما تم الاتفاق عليه، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع وأن يهدينا سواء السبيل إنه على ذلك قدير وعلى الله وسلم على سيدنا محمد. ثم تحدث الدكتور: محمد جميل غازي قائلًا: في الدورة الأولى تحدث اللواء مهندس أحمد عبد الوهاب عن (قانونية الأناجيل) ولقيت هناك بعض الأسئلة التي وإن كان قد ألم بها سيادة اللواء ولكننا نريد أن نعيد هذه الأسئلة مرة ثانية. هذه الأسئلة التي سبق أن طرحناها تدور حول: هل يمكن للباحث العلمي أن يقطع أن هناك الآن إنجيلًا ينسب إلى المسيح؟ ولقد تفضل سيادته بالإجابة فوضح أن هذه المتناقضات الموجودة في الأناجيل على رغم قلة حجمها لأن الأناجيل قليلة جدا في الحجم، فهذا هو حجم الأناجيل كلها. - ولوح سيادته بأسفار العهد الجديد- فإذا ثبت أن هذه الأناجيل تحتوي على بعض التناقضات ولو تناقضا واحدا- لا مائة تناقض (1) - فإن ذلك يبطل كونها وحيا من عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في القرآن الذي نزل على رسول أمي وعلى أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . يعني لو أن القرآن كان من عند غير اللُه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. ولذلك فإن كل مسلم يعلن صراحة: أخرجوا لنا تناقضا واحدا من القرآن   (1) يراجع في تناقضات العهدين القديم والجديد كتاب (إظهار الحق) لرحمة الله الهندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الكريم بآياته التي بلغت 6236 آية. إن أحدا لا يجرؤ أن يقول إن في القرآن تناقضا واحدا، ونحن بين أيديكم نستطيع أن نواجه أي اتهام أو شك أو ريب يثبت أن في القرآن تناقضا واحدا. أما الأناجيل فقد رأيتم أنه على قلة حجمها فهي متناقضة، بل إن هناك تناقضا في الصفحة الواحدة. وأضرب لكم مثلًا لشيء من هذا التناقض في صفحة واحدة. في إنجيل متى مثلًا نجد عشرات من هذه التناقضات ويمكن أن نشير إلى بعض منها من غير تحيز. يقول السيد المسيح لبطرس: " وأنا أقول لك أيضا أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقدر عليها وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحله في الأرض يكون محلولا في السماء. إذن- بطرس قال له المسيح: أنت صخرة، وأنت قوي، وأن الشياطين لا تستطيع أن تدخل في خلالك ولا أبواب الجحيم، وأن عليك أبني كنيستي، ثم أعطاه وعدا أو عهدا عجيبا أن " ما حللته في الأرض أحله في السماء، وما ربطته في الأرض أربطه في السماء ". ما تفعله أنا أفعله وما تريده أنا أريده. أي أن إرادة الله تابعة لإرادة بطرس. وهذا هو الذي جاء في القرآن الكريم حيث قال الله سبحانه وتعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} . «فقال عدي بن حاتم الطائي وكان نصرانيا وأسلم، يا رسول الله ما كنا نعبدهم. على أساس فهمه أن العبادة تعني الركوع على رجليه أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الصلاة له. فقال له الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم -: " ألم يكونوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بكلامهم "؟ قال بلى، قال: " فتلك عبادتهم من دون الله» (1) . إذن- أن يكون هناك حق التحليل والتحريم لغير الله وحده فهذا هو الشرك. ولذلك نجد الإسلام ينفي أن تكون سلطة التحليل والتحريم إلا لله. فلا تكون حتى للرسول محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم - فالرسول لا يملك حق التحليل والتحريم إلا بوحي من الله، والله عتب عليه حينما حرم على نفسه شيئا فقال له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} . (2) في هذا النص الإنجيلي الذي قرأته عليكم نجد مكانة بطرس عالية. ولكن انظر في آخر الصفحة ماذا يقول؟ في أول الصفحة نجد بطرس - كما يقول الإنجيل على لسان المسيح - هو الصخرة التي سيقيم عليها المسيح بناء دعوته، ويشدها إليه، وهو صخرة راسخة لا تنال أبواب الجحيم منها، وأن بيده مفاتيح ملكوت السماوات. ثم لا تكاد العين تتملى هذه الصورة العظيمة لبطرس حتى تلقاها صورة أخرى مضادة تماما تمسخ هذا الحواري مسخا وتحيله من إنسان إلهي إلى شيطان مريد. هكذا فجأة. . وأين ذلك؟ . . في إنجيل متى نفسه وفي نفس الإصحاح رقم 16 وبعد عددين اثنين- أي حوالي سطرين فقط- من كلمات السيد المسيح المبشرة له. يقول متى: " من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي   (1) هذا جزء من حديث طويل، أخرجه الترمذي في كتاب التفسير 4 / 342، وابن جرير الطبري في تفسيره 14 / 209-210، وعزاه ابن كثير في تفسيره 2 / 349 إلى أحمد في المسند. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن سلام بن حرب، وغطيف بن أعين: ليس بمعروف في الحديث آخر كلامه. المحقق. (2) سورة التحريم، آية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 اليوم الثالث يقوم. فأخذه بطرس إليه وابتداء ينتهره قائلًا حاشاك يا رب. لا يكون لك هذا. فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس " (16: 21-23) . فانظر كيف كان بطرس في أول الصفحة يقول له المسيح: ما حللته في الأرض أحله في السماء. . ثم في آخر الصفحة يقول له: أنت شيطان. إن التناقضات كثيرة جدا في الأناجيل. . . . والآن أقدم الأستاذ: إبراهيم خليل أحمد لبضع دقائق ليحدثنا عن بعض المتناقضات. كلمة الأستاذ إبراهيم خليل أحمد : وهنا قال الأستاذ إبراهيم: يا أستاذ جيمس. . أريد أن أتحدث في هذه الفرصة باعتبار ما كنت قسيسا وأستاذ العقيدة واللاهوت في كلية اللاهوت. الحقيقة أن عملنا-كمبشرين- كان يستند إلى سند جاء في رسالة بطرس الثانية لنؤكد أن التوراة والإنجيل كُتبٌ موحى بها من الله. فكنا نقول: " لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس ". طبعا هذا النص الذي جاء على لسان بطرس كما جاء في رسالته الثانية، سوف يوهم هذا النص أن الكتاب المقدس الموجود حاليا كتاب موحى به من الله. كذلك يتناول القسيس في عمله بين المسلمين آية من آيات القرآن الكريم. في سورة آل عمران تقول: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 إن القرآن دقيق كل الدقة فهو لم يذكر العهد الجديد ولا العهد القديم ولكنه ذكر التوراة والإنجيل. ولما جاء القرآن ليذكر العهد القديم والعهد الجديد بالكتاب ماذا قال؟ . . . قال في سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} . إذن عندما ذكر الكتاب كله بدأ القرآن يوجه التوجيه السليم والصحيح. وكذلك في سورة النساء، يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} . وجاء في سورة المائدة أيضا عن أهل الكتاب يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} . إذن- لما جاءت الإشارة إلى الكتاب، جاءت الإشارة بالتنويه إلى التصحيح. لكن لما جاءت الإشارة إلى التوراة والإنجيل جاءت الإشارة بالتصديق دون أن يذكر لا العهد القديم ولا العهد الجديد. نخرج من هذا إلى الأناجيل ذاتها، ولنتدبر إنجيل لوقا ذاته، هل كان موحى به من الله؟ أم كان تحت تأثير وحي الله سبحانه وتعالى؟ . يقول لوقا: " إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا. كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة. رأيت أنا أيضا إذ قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به ". فهو قال: كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء. ولم يقل موحى بها من الروح القدس. إن لوقا لم يكن من الاثني عشر تلميذا الذين كانوا مع المسيح، وهذه نقطة لها وزنها في تقييم الموقف. ثم عندما نأتي لشاول الذي أصبح يعرف ببولس فيما بعد نجد في (الإصحاح 7 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس) يقول في (العدد 8) : " أقول لغير المتزوجين وللأرامل إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا ". فهذا الكلام من بولس شخصيا، وهو يريد الناس أن يبقوا مثله بلا زواج. ثم يقول: أأما المتزوجون فأوصيهم لا أنا بل الرب ألا تفارق المرأة رجلها " وهذا هو الانفصال دون الطلاق. وعندما تتقدم قليلًا نجده يقول: " وأما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب " فهو مرة يقول ربنا قال ومرة يقول أنا أقول. فكأنه على مستوى الله- سبحانه وتعالى- في الكتاب. وأكثر من هذا فإنه يجعل المرأة المؤمنة لا مانع من أن تتزوج مشركا، وهذا خطر كبير على الحياة الزوجية بين امرأة مؤمنة ورجل مشرك. فهو يقول: " والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهو يرتضي أن يسكن معها فلا تتركه ". هذا كلام بولس. هل كان هذا الإنسان متيقظا عندما جاء ليصحح الوضع؟ لكنه عندما أفاق نجده يقول: " لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين لأنه أية خلطة للبر والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال، وأي نصيب للمؤمن من غير المؤمن، وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان، لأنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلها وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 يكونون لي شعبا. لذلك أخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب " لقد جاء هذا الكلام في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس وجاء في (الإصحاح 6: 14-18) إذن هو في الرسالة الأولى يقول: والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهي ترتضي أن يسكن معها فلا تتركه. أما في الرسالة الثانية فإنه يقول: اعتزلوا. هذا ولا شك ذبذبة في الكلام في كتب مقدسة من المفروض تصديقها تصديقا مطلقا؟ نأتي إلى بولس والعذارى فنجده يقول أيضا في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس: " وأما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن ولكنني أعطي رأيا كمن رحمه الرب أن يكون أمينا. فأظن أن هذا حسن بسبب الضيق الحادث أنه حسن للإنسان أن يكون هكذا ". وأعتقد أن الظنية في الكتب المقدسة شيء رهيب جدا لا يمكن لإنسان الاعتماد عليها. وأكثر من هذا فإن الزواج في النصرانية لا انفصام له إلا بالموت، فإذا حدث أن تزوجت امرأة برجل وكرهت الرجل وأرادت أن تتخلص منه بأي كيفية من الكيفيات الشريفة، تقول: لما يموت تستطيع أن تتزوج. فالإنسانة تبقى منتظرة ساعة الوفاة حتى تتخلص من الرجل الشؤم الذي كان كابوسا على حياتها. فماذا يقول بولس: " المرأة مرتبطة بالناموس ما دام رجلها حيا ولكن إن مات رجلها فهي حرة لكي تتزوج بمن تريد في الرب فقط، ولكنها أكثر دقة إن لبثت هكذا بحسب رأيي. وأظن أني أنا أيضا عندي روح الله. فهو لا يصدق نفسه إن كان عنده روح الله أم لا. عندما يصدر كلام كهذا من رجل مثل بولس فإنه يعطينا تشككا رهيبا فيما جاء في العهد الجديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وعندما نأتي إلى العهد القديم ونرى الألاعيب التي حدثت فِي العهد الجديد، نجد أن التوراة وهي الأسفار الخمسة الأولى التي أعطاها موسى للاويين نجد الآتي: " فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلًا خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إليكم ليكون هناك شاهدا عليكم لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هو ذا وأنا بعد حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحرى بعد موتي " (تثنية 34: 24، 27) . فهذا سيدنا موسى يؤكد للأجيال أن اليهود شعب متمرد ليس على موسى فقط ولكنه متمرد على الله خالق شعب إسرائيل. ففي سفر التثنية قبل الختام نجد كلاما غريبا يقول في (الإصحاح 34) : " فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب ودفنه في الجواء في أرض موآب ". هل يستطيع الميت أن يكتب؟ إذا كان موسى قد مات فكيف يستطيع أن يكتب هذه الأسفار ويقول أنا مت وحدث كذا وكذا. . إذن هذا الكلام ولا شك أنه قد زيد وأن التوراة قد كتبت في غير أيام موسى وحدث لها ما حدث. هذا بالإضافة إلى أنه بدراسة التوراة والإنجيل دراسة تاريخية سنطمئن كل الاطمئنان إلى أن التوراة عموما قد أبيدت. وفي تاريخ إسرائيل نجد أن نبوخذنصر دخل بجيشه إلى الهيكل ودمره وأخذ كل المقتنيات ومن ضمنها الكتب المقدسة والأواني وذهب بها إلى بابل. إذن ثابت تاريخيا أن التوراة التي كتبها موسى قد فقدت نهائيا. فلما أمر كورش ملك الفرس بإرجاع بني إسرائيل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فلسطين أخذ عزرا ونحميا بإعادة تدوين التوراة من ذاكرتهما. إننا لا نسطيع أن نصدق التوراة والإنجيل كلها، ولا نستطيع أن نكذبها كلها، لأن العامل الإنساني موجود في هذه الكتب. لكني كإنسان هداني الله للإسلام، فلقد كنت قسيسا ولم أهتد إلى الإسلام بسهولة، فلا بد أن يكون لدي حجة قوية، وأن الكتب من موسى إلى عيسى تنبأت بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونجد في سورة النساء الآية 82 يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . ليس المفروض أن يكون كل الناس علماء وأن يفرغوا وقتهم للدراسة والمقارنة، ولكني أعتقد أن ما قرأته على مسامعكم من رسائل بولس إلى أهل كورنثوس يبين وجود العنصر البشري في العهد الجديد. هذا ونجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم - يقول: إنما أنا بشر، ولم يقل أنا إله. فالقرآن يقول: ] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . ويتحدى القرآن كل المخلوقات فيقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . تعقيب للدكتور محمد جميل غازي : وهنا وجه الدكتور محمد جميل غازي قوله إلى الأستاذ إبراهيم خليل أحمد قائلًا: إذن نستطيع أن نقطع بأن إنجيل المسيح غير موجود؟ فقال الأستاذ إبراهيم خليل: هذا مؤكد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وهنا سأل الدكتور جميل: فكيف يقول القرآن الكريم: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} ؟ ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} . وبقول الله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . فأي توراة يقصد وأي إنجيل؟ أجاب الأستاذ إبراهيم خليل أحمد: بأن التوراة الموجودة مدبجة بكلام ينسب لموسى وليس كل ما فيها كلام موسى. وكذلك الإنجيل مدبج بكلام ينسب للمسيح ولكن ليس كل ما فيه كلام المسيح. تعقيب آخر للدكتور محمد جميل غازي: وقال الدكتور جميل: نستطيع أن نجمل الإجابة في أن الله سبحانه وتعالى لما قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} وقال: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} . بينَّ ربنا سبحانه وتعالى في قوله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} . إذن المرجع الوحيد لما صح من الإنجيل، ولما صح من التوراة، ولما رضيه الله، هو القرآن الكريم، فما أثبته القرآن وأقره فهو حق، وما نسخه القرآن فقد انتسخ، وما رد عليه القرآن الكريم فهو باطل. بعد ذلك قال الدكتور محمد جميل غازي: والآن نقدم اللواء أحمد عبد الوهاب ليحدثنا عن الصلب والقيامة والفداء، وهي من الموضوعات الأساسية، بل وأخطر الموضوعات في الديانة النصرانية على الإطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 [ آلام السيد المسيح ] بسم الله الرحمن الرحيم نبدأ في هذه الجلسة باستكمال عناصر قضية الصلب. وكنا قد انتهينا. بالأمس عند مناقشة تهمة الخيانة، ورأينا أن الشيطان دخل يهوذا قبل العشاء الأخير حسب رواية لوقا - لكنه حسب رواية يوحنا دخل يهوذا بعد أن أعطاه المسيح اللقمة أثناء العشاء الأخير فخرج ليتآمر عليه. ونبدأ الآن بعنصر معروف تحت عنوان: المعاناة في الحديقة أو آلام المسيح ومتاعبه في الحديقة. وسوف نقرأ النص، ودائما أبدأ بإنجيل مرقس باعتباره أقدم الأناجيل، ولكن أرجو أن نركز ونحن نسمع النص الذي يصف هذه الفترة الهامة والحاسمة من حياة المسيح، عما إذا كانت الصورة التي رسمها كتبة الأناجيل للمسيح هنا تبين أنه جاء ليبذل دمه فدية عن كثيرين، ومن ثم كان الصلب وسفك دمه هدفا رئيسيا لرسالته، كما يقولون، أم أن المسيح فوجئ بقوة الظلم تكاد تطبق عليه، وأن حياته باتت مهددة بالخطر بشكل لم يكن يتوقعه، ولذلك أصابته حالة من الرعب القاتل كان يود في كل لحظة من لحظاتها أن ينجو من الخطر وينقذ نفسه من الموت. 5- آلام المسيح (1) : ويقول مرقس: " وجاءوا إلى ضيعة اسمها جثسيماني، فقال لتلاميذه: اجلسوا هاهنا حتى أصلي. ثم أخذ معه بطرس ويعقوب وابتدأ يدهش ويكتئب. وقال لهم: نفسي حزينة جدا حتى الموت. امكثوا هاهنا واسهروا. ثم تقدم قليلا وخر على الأرض وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن   (1) هذا الرقم (5) تابع للموضوعات الأربعة التي سبقت في الجلسة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 أمكن وقال يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك. فاجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت. ثم جاء ووجدهم نياما. فقال لبطرس يا سمعان أنت نائم. أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف. ومضى أيضا وصلى قائلًا ذلك الكلام بعينه. ثم رجع ووجدهم نياما إذ كانت أعينهم ثقيلة فلم يعلموا بماذا يجيبونه. ثم جاء ثالثة وقال لهم: الآن استريحوا، يكفي، قد أتت الساعة، هو ذا ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة، قوموا لنذهب، هو ذا الذي يسلمني قد اقترب " (14-32-42) . إن أبسط تعليق على هذا الكلام هو أنه واضح تماما أن المسيح لم يكن يتوقع هذه المفاجأة المذهلة وهي أن أعداءه سيقتنصونه، وطبعا هو يعلم أنهم عندما يمسكونه فلسوف يقتلونه. ولذلك كان يصلي في كل وقت لكي تعبر عنه هذه الساعة أو هذه المحنة أو هذه الكأس، حتى ينجو. إذن نستطيع أن نقرر- مبدئيا- بأن أي قول يقول أنه جاء ليبذل نفسه فدية عن كثيرين، أو أن سفك دمه كان ضروريا للتكفير عن خطيئة آدم أو خطايا البشر، كل ذلك لا يمكن قبوله. وإذا كان عصيان آدم، يكون تكفيره بقتل ابن الإله غصبا عن ابن الإله نفسه، فهذه كارثة أكبر؟ لأن الخطيئة تتضاعف تماما بهذه الصورة. بعد ذلك نذهب لمعرفة آراء العلماء ومفسرو الأناجيل. يقول دنيس نينهام: " لقد انقسمت الآراء بعنف حول القيمة التاريخية لهذا الجزء وجرى تساؤل عما إذا كان يعتبر في الحقيقة جزءا من المصدر الذي روى عنه القديس مرقس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ويؤكد آخرون أنه لم يكن في مقدور أحد أن يكون شاهدا لأغلب الحوادث المذكورة هنا، كما لم يكن في مقدوره أن يعلم ماهية الصلاة التي صلاها يسوع وحيدا. ولذلك فإنهم يعتبرون أن الصلاة النموذجية (في العدد 36) وتكرارها ثلاث مرات إنما هي شيء مصطنع مثل القول بإنكار بطرس ثلاث مرات. إن القرار الموثوق منه (حول حقيقة ما جرى في الحديقة) مستحيل (1) . أما رواية لوقا عن آلام المسيح فنجد فيها ما يجعلنا نعرضها- إذ أنها تقول: " وخرج ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون وتبعه أيضا تلاميذه، ولما صار إلى المكان قال لهم صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة. وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى قائلًا: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك. وظهر له ملاك من السماء يقويه. وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه فوجدهم نياما من الحزن، فقال لهم: لماذا أنتم نيام قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة " (22: 39-46) . ويقول جورج كيرد في تفسيره لهذه الفقرات: " حسب رواية مرقس (الذي كان مصدرا للوقا) نجد أن يسوع بدأ يكتنفه الآن الفزع والذهول وقد تحدث إلى تلاميذه عن الحزن الذي صحب استنزاف حياته وتلاشيها. ولما كان غير قادر على رفقة أعز أصحابه (تلاميذه) فإنه قضى الليل في تشنجات متتالية من صلاة المكروب. ولكن رواية لوقا المختصرة (بالنسبة لرواية مرقس) تعطينا بقدر الإمكان انطباعا أقوى من حالة الاضطراب التي حلت بيسوع. فلقد أخبرنا أن   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص389-390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يسوع هو الذي انتزع نفسه بعيدا عن أصحابه، وأنه كان في ألم مبرح، وأن عرقه صار مثل قطرات الدم. وعندما نتذكر الشجاعة والثبات التي واجه بها الموت رجال آخرون شجعان بكل أشكاله البربرية وما كان يصحب ذلك من تعذيب مفرط، فلا يسعنا إلا أن نتساءل عن ماهية الكأس التي كان يسوع يرجو الله- في صلاته- أن يجيزها عنه. إن صلاة يسوع ترينا أن عذاب الشك كان أحد عناصر محنته المعقدة. فلكم تنبأ بآلامه لكنه الآن عشية حدوثها نجده ينكص على عقبيه. هذا- ولما كانت بعض المراجع القديمة تحذف العددين 43، 44 اللذين يقولان: (وظهر له ملاك من السماء يقويه. وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض) ، ورغم وجودهما في أغلب النسخ وإلمام علماء المسيحية في القرن الثاني بهما " فإن هذا الحذف يمكن إرجاع سببه (كما يقول جورج كيرد) إلى فهم أحد الكتبة بأن صورة يسوع هنا، وقد اكتنفها الضعف البشري، كان يتضارب مع اعتقاده في الابن الإلهي الذي شارك أباه في قدرته القاهرة " (1) . فإذا سلمنا بأن هذا هو حقيقة ما حدث للمسيح في الحديقة فإن هذا يعني بوضوح أنه لم يكن يتوقع القتل إطلاقا. وبالنسبة لعذاب الشك الذي أصابه فيمكن إرجاعه إلى أنه لا بد وقد اطمأن مسبقا إلى أن أعداءه لن يتمكنوا من اصطياده- وهو ما سوف نعود إلى الحديث عنه بشيء من التفصيل تحت عنوان: " تنبؤات المسيح بنجاته من القتل " - أما وقد رأى أعداءه على وشك اصطياده، فهناك أصابه عذاب الشك فيما إذا كان سينجو حقا أم أنهم سيقضون عليه.   (1) تفسير إنجيل لوقا: ص243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 6- القبض : يقول مرقس: " وللوقت فيما هو يتكلم أقبل يهوذا واحد من الاثني عشر ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ. وكان مسلمه (يهوذا) قد أعطاهم علامة قائلًا الذي أقبله هو، هو، أمسكوه وامضوا به بحرص. فجاء للوقت وتقدم إليه قائلًا يا سيدي يا سيدي. وقبله. فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه. فاستل واحد من الحاضرين السيف وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فأجاب يسوع وقال لهم كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني، ولكن لكي تكمل الكتب، فتركه الجميع وهربوا، وتبعه شاب لابسا إزارا على عريه فأمسكه الشبان، فترك الإزار وهرب منهم عريانا " (14: 43-52) . لقد كانت القبُلة هي بداية عملية القبض، ونجد هذا قد اتفق فيه متى ولوقا مع مرقس، مع خلاف يسير. أما عند يوحنا فلا مكان للقبُلة، كما أنه يعطي صورة مختلفة تماما عما روته الأناجيل الثلاثة المتشابهة- فهو يقول: " أخذ يهوذا الجند وخداما من عند رؤساء الكهنة والفريسيين، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح. فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال: من تطلبون؟ أجابوه يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مسلمه أيضا واقفا معهم. فلما قال لهم: إني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض. فسألهم من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون " (18: 3-8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 لقد اتفقت الأناجيل الأربعة على شيء هام وهو أنه ابتداء من ذلك الوقت الذي كان في ظلمة الليل- لأنهم جاءوا بمشاعل ومصابيح- فقد تركه التلاميذ كلهم وهربوا. أين شك التلاميذ؟ لقد سبق أن ذكرت الأناجيل على لسان المسيح قوله لتلاميذه: " كلكم تشكون في، في هذه الليلة ". ونحن هنا أمام احتمالين: أحدهما- أن يكون المسيح قد تنبأ لتلاميذه بأن مؤامرة ستدبر ضده، ورغم أنها ستسبب له ألما ومعاناة، إلا أنها ستفشل وينقذه الله من القتل الذي ينتظره على أيدي مدبريها. ثانيهما- أن يكون المسيح قد تنبأ لتلاميذه بأن مؤامرة ستدبر ضده وتسبب له ألما ومعاناة وتنتهي بقتله. فإن كانت الحالة الأولى، ورأى التلاميذ- حسبما ترويه الأناجيل بكل وضوح- أن المسيح قبض عليه في تلك الليلة، واستطاعت قوى الظلم أن تنتصر عليه وتحقق ما تريد، فعندئذ لا بد وأن يشك التلاميذ في معلمهم الذي تنبأ لهم بنجاته، ثم أظهرت الحوادث أمام أعينهم بعد ذلك أنه لم يحدث. هنا فقط يحدث الشك والزلل والارتداد عن العقيدة. ومن المعلوم أن الشك غير الإنكار، ذلك أن اللص الذي يقبض عليه، قد ينكر السرقة، لكنه في الوقت نفسه أول من يعلم يقينا أنه سرق، فهو لا يشك في السرقة رغم أنه ينكر ذلك. ولما كانت الأناجيل قد أظهرت جميعا أن التلاميذ لم يشكوا في المسيح في تَلك الليلة- وإنما تحدثت عن إنكار بطرس أنه من تلاميذه- فإن هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 يعني أن الأحداث سارت حسبما جاء في تلك الحالة التي تنتهي بنجاة المسيح من القبض والقتل. أما إن كانت الحالة الثانية وهي أن المسيح تنبأ لتلاميذه بالقبض عليه وقتله، فإن ما شاهده التلاميذ- حسب رواية الأناجيل أيضا- هو أن ذلك ما حدث، ولا محل للشك- إذن- في هذه الحالة. ولا ريب في أن نفي الشك عن التلاميذ في تلك الليلة، يترتب عليه بالضرورة إلحاق تنبؤات خاطئة بالمسيح، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يصدر عنه، وهو أمر ننكره ونستنكره. مما سبق نجد أن الأناجيل الأربعة اختلفت في قصة القبض وملابساتها: فقد روى كل من مرقس ومتى أن يهوذا قبَّل المسيح، وروى لوقا أن يهوذا كان على وشك أن يقبِّله، بينما لا يعرف يوحنا شيئا عن القبُلة. ويذكر كل من مرقس ومتى أن تحية وكلاما جرى بين يهوذا والمسيح، ويصمت لوقا عن تلك التحية، بينما لا يذكر يوحنا شيئا عن يهوذا سوى الصمت التام بعد أن قاد القوة للقبض عليه في البستان. وإذا صرفنا النظر عما جاء في روايتِي الاثني عشر جيشا من الملائكة، والشاب الذي هرب عريانا- لبقيت ثلاث نقاط أساسية لا بد من استيعابها تماما للوقوف عندها وهي: 1- أن القبُلة كانت الوسيلة الوحيدة لتعريف أفراد القوة بشخصية المسيح (حسب مرقس ومتى ولوقا) ، بينما تم ذلك في يوحنا بعد أن أظهر المسيح ذاته إليهم بطريقة تنم عن التحدي والثبات الذي يتحلى به المجاهدون من أصحاب العقائد والرسالات. 2- وأن حادثا غير عادي قد وقع في تلك اللحظة، مما أذهل أفراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 القوة وجعلهم يرجعون إلى الوراء ويسقطون على الأرض. 3- وأن التلاميذ - حسبما يرويه كتبة الأناجيل- لم يشكوا في المسيح ولو للحظة واحدة من تلك الليلة التي حدث فيها القبض. ولما كانت قصة المسيح بكل تفاصيلها، ترد دائما إلى تنبؤات العهد القديم وخاصة سفر المزامير، فإن المزمور 91 الذي يستشهد به كثيرا- يقول: " لأنك قلت يا رب ملجاي. جعلت العلى مسكنك ". لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضرلة من خيمتك. لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك. أرفعه لأنه عرف اسمي، يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق. أنقذه وأمجده، من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي " (91: 9- 16) . أليس من حق القائل أن يقول إن ملائكة الله قد حملت المسيح على أيديها في تلك اللحظة التي كادت تزفي فيها قلوب المؤمنين، بعد أن رأى المسيح وتلاميذه أن سلطان الظلمة على وشك أن يبتلعهم؟ وإذا قيل: أين ذهب المسيح بعد ذلك؟ نقول: وأين ذهب إيليا (إلياس) الذي رفع إلى السماء؟ وفي هذا تقول أسفار العهد القديم: " وفيما هما (إيليا وتلميذه اليشع) يسيران ويتكلمان، إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء. وكان اليشع يرى وهو يصرخ يا أبي يا أبي مركبة إسرائيل وفرسانها. ولم يره بعد " - (الملوك الثاني 2: 11- 12) وكما سبق أن رفع أخنوخ (إدريس) إلى السماء، كما تقول الأسفار: " وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه. (تكوين 5: 24) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الحق أنه من رحمة الله -سبحانه وتعالى- بالناس، أن كل ما فعله المسيح من معجزات له سابقة فعلها الأنبياء قبله. فإذا كان قد أحيا أمواتا لا يزيد عددهم حسبما ترويه الأناجيل عن ثلاثة- فقد أحيا واحد من الأنبياء. قبله جيشا عظيما من الموتى، كما أحيا غيره أفرادا ماتوا حديثا أو بعد أن انقضى على موتهم مدة طويلة. وبالنسبة للمباركة وتكثير الطعام التي مارسها المسيح، فإنها حدثت كذلك مع الأنبياء قبله. وبالمثل كانت عملية شفاء المرضى التي مارسها الأنبياء السابقون. إن هذا كله رحمة من الله بخلقه، حتى لا يضلوا في المسيح ويفتنوا به فيتخذونه إلها. 7- المحاكمة : لم تتفق الأناجيل على عدد المحاكمات، ونظرا لضيق الوقت فسوف نكتفي بالحديث عن محاكمتين فقط. أ- المحاكمة الأولى: أمام مجمع اليهود: يقول مرقس: " مضوا بيسوع إلى رئيس الكهنة فاجتمع ومعه جميع رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة. وكان بطرس قد تبعه من بعيد إلى داخل دار رئيس الكهنة وكان جالسا بين الخدام يستدفئ عند النار. وكان رؤساء الكهنة والمجمع كله يطلبون شهادة على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا. لأن كثيرين شهدوا عليه زورا ولم تتفق شهاداتهم. . ثم قام قوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وشهدوا عليه زورا قائلين نحن سمعناه يقول إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأياد. ولا بهذا كانت شهاداتهم تتفق. فقام رئيس الكهنة في الوسط وسأل يسوع قائلًا: أما تجيب بشيء. . ماذا يشهد به هؤلاء عليك. أما هو فكان ساكتا ولم يجب بشيء. فسأله رئيس الكهنة أيضا وقال له: أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع: أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء. فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال: ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ وقد سمعتم التجاديف. ما رأيكم؟ . فالجميع حكموا عليه أنه مستوجب الموت. فابتدأ قوم يبصقون عليه ويغطون وجهه ويلكمونه ولقولون له: تنبأ. وكان الخدام يلطمون " (53: 14-65) . يقول نينهام: " ليس من السهل أن نتبين كيف نشأ هذا الجزء. ولقد كان السؤال حول قيمته التاريخية- ولا يزال- موضوعا يتعرض لمناقشات حيوية. ومن الواجب أن نعرض الأسباب الرئيسية للشك في قيمته التاريخية، ونناقشها باختصار كما يلي: 1- يصف القديس مرقس المحاكمة على أنها حدثت أمام المجمع- أي السهندرين- وهو هيئة رسمية تتكون من واحد وسبعين عضوا يرأسها رئيس الكهنة وتمثل السلطة الشرعية العليا في إسرائيل. ولما كانت لائحة السهندرين المذكورة في المشنا، تبين الخطوات التفصيلية التي يجب اتخاذها أمام تلك الهيئة، فإن المقارنة بين تلك الإجراءات وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ما يذكره القديس مرقس عن محاكمة يسوع، تكشف عن عدد من المتناقضات أغلبها جدير بالاعتبار. 2- ولكن، هل كان من الممكن أن يجتمع أعضاء السهندرين، ولو حتى لعمل مثل تلك الإجراءات القضائية الرسمية التي تسبق المحاكمة في منتصف ليلة عيد الفصح، أو إذا اعتبرنا أن تقويم القديس مرقس لأسبوع الأحداث غير دقيق، فهل كان يمكن أن يجتمعوا في منتصف الليلة السابقة لعيد الفصح؟ إن محاكمة رسمية في مثل ذلك الوقت تبدو شيئا لا يمكن تصديقه، كما يشك أغلب العلماء تماما في عقد جلسة في مثل ذلك الوقت، ولو لعمل تحقيقات مبدئية " (1) . المحاكمة الثانية أمام بيلاطس: يقول مرقس: " وللوقت في الصباح الباكر تشاور رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله وأوثقوا يسوع ومضوا به وأسلموه إلى بيلاطس. فسأله بيلاطس: أنت ملك اليهود؟ فأجاب وقال له: أنت تقول؟ وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيرا. فسأله بيلاطس أيضا قائلًا أما تجيب بشيء؟ انظر كم يشهدون عليك. فلم يجب يسوع أيضا بشيء حتى تعجب بيلاطس. وكان يطلق لهم في كل عيد أسيرا واحدا، من طلبوه. وكان المسمى باراباس موثقا مع رفقائه في الفتنة، الذين في الفتنة فعلوا قتلًا. فصرخ الجميع وابتدأوا يطلبون أن يفعل كما كان دائما يفعل لهم. فأجابهم بيلاطس قائلًا: أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ لأنه عرف أن   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص398-401. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسدا. فهيج رؤساء الكهنة الجميع لكي يطلق لهم بالحري باراباس. فأجاب بيلاطس أيضا وقال لهم: فماذا تريدون أن أفعل بالذي تدعونه ملك اليهود؟ فصرخوا أيضا: اصلبه. فقال لهم بيلاطس: وأي شر عمل؟ فازدادوا جدا صراخا: اصلبه. فبيلاطس إذ كان يريد أن يعمل للجميع ما يرضيهم أطلق لهم باراباس وأسلم يسوع بعد ما جلده ليصلب " (15: 1-15) . يقول نينهام " " رغم أن المحاكمة تعرض لنا باعتبارها وقعت في العراء- فإن رواية القديس مرقس لا يمكن اعتبارها بأية حال تقريرا لشاهد عيان، وفي الواقع إنها ليست تقريرا على الإطلاق. إننا لم نخطر كيف علم بيلاطس بالتهمة (وفي العدد 2 نجده قد عرفها من قبل) ولماذا لم يرد ذكر لحكم رسمي (على عكس لوقا الذي يقول: فحكم بيلاطس أن تكون طلبتهم-23: 24) . وبالنسبة لما قيل عن عادة إطلاق أحد المسجونين- فإن وجهة نظر أغلب العلماء تقرر أنه: لا يعرف شيئا عن مثل هذه العادة كما وصفت هنا. إن القول بأن عادة الحكام الرومان جرت على إطلاق أحد المسجونين في عيد الفصح، وأن الجماهير هي التي كانت تحدد اسمه بصرف النظر عن جريمته، إنما هو قول لا يسنده أي دليل على الإطلاق، بل إنه يخالف ما نعلمه عن روح الحكم الروماني لفلسطين وأسلوبه في معاملة أهلها. على أن محتويات الحوار بين بيلاطس والجمهور تعتبر من المشاكل أيضا، فيبدو منها أن بيلاطس قد وُوجِه مقدما بالاختيار بين مجرمين أدينا، بحيث إذا أطلق سراح أحدهما لوجب عليه إعدام الآخر، وفي نهاية الفقرة التالية (الأعداد 2- 5) نجد أن يسوع لم يدن. وحسبما تذكره القصة لا نجد مبررا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 يمنع بيلاطس من تبرئة يسوع إذا كان قد اعتقد في براءته وإصدار عفو كذلك عن باراباس. ونجد في رواية القديس متى لهذه القصة أن اسم ذلك المتمرد قد ذكر مرتين (في 27: 16، 17) في أغلب النسخ على أنه: يسوع باراباس، والاعتقاد الشائع أن ذلك كان القراءة الأصلية. إن حذف كلمة يسوع من النسخ المتداولة بيننا يمكن شرحه ببساطة على أساس أنه بالرغم من أن اسم يسوع كان شائعا في أيام المسيح. . فلم يلبث المسيحيون أن اعتبروه اسما مقدسا يرقي عن الاستخدام العادي، وأن اطلاقه على أحد المجرمين يعتبر مهينا " (1) . ولقد أضاف متى إلى رواية مرقس قصتين: إحداهما تحكي نهاية يهوذا، وهذا الموضوع سوف نتعرض له في حينه، وأما الأخرى فهي الحديث عن حلم زوجة بيلاطس. كذلك بين متى أن بيلاطس أعلن براءته من دم المصلوب بطريقة قاطعة فهو يقول: " فقال الوالي وأي شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخا ليصلب. فلما رأى بيلاطس أن لا ينفع شيئا بل بالحرى يحدث شغب أخذ ماء وغسل يديه قدام الجميع قائلًا إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم. فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا. حينئذ أطلق لهم باراباس. وأما يسوع فجلده وأسلمه ليصلب " (27: 23- 26) . لكن العلماء يشكون في حادث غسل يد بيلاطس - كما يقول جون فنتون - باعتبار أن " عملية غسل اليد لتكون دليلًا على البراءة إنما هي عادة يهودية أكثر منها رومانية، إذ يقول سفر التثنية: يغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من المدينة أيديهم، ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم.   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص411-416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ومن المستبعد جدا أن يكون بيلاطس قد عمل شيئا كهذا " (1) . نكتفي بهذا القدر بالنسبة لبعض ما يقال في المحاكمات والثغرات الموجودة فيها ثم نمر بعد ذلك على عدد من العناصر التي تتعلق بقضية الصلب ، وهي لا تحتاج كثيرا للاستشهاد بأقوال العلماء، إذ أن اختلاف الأناجيل فيها واضح لا يحتاج إلى تعليق. 8 - الصلب: 1 - حامل الصليب: يقول مرقس: " ثم خرجوا به ليصلبوه. فسخروا رجلا مجتازا كان أتيا من الحقل وهو سمعان القيرواني أبو الكسندرس وروفس ليحمل صليبه وجاءوا به إلى موضع جلجثه الذي تفسيره موضع جمجمة " (15: 20 -22) . ويتفق متى ولوقا مع مرقس في أن حامل الصليب كان المدعو سمعان القيراوني لكن يوحنا يقرر شيئا آخر فهو يقول: " حينئذ أسلمه إليهم ليصلب فأخذوا يسوع ومضوا به. فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة ويقال له بالعبرانية جلجثة) (19: 16 -17) . يقول نينهام: " لقد كان المعتاد أن يقوم الذين حكم عليهم بالصلب، بحمل صلبانهم بأنفسهم. . ويقرر يوحنا أن هذا كان ما حدث فعلا في حالة يسوع، ولكن على العكس من ذلك نجد حسب رواية (مرقس ومتى ولوقا) أن شخصا مجهولا يدعى سمعان القيرواني هو الذي سخره الرومان لحمل الصليب بدلا من يسوع.   (1) تفسير إنجيل متى: ص436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وبالنسبة لموضع جلجثة فإن التقاليد التي تقول إنه يقع داخل كنيسة القبر المقدس لا يمكن إرجاعها لأبعد من القرن الرابع، كما أنها لا تزال موضع جدل. ولقد اقترحت أماكن أخرى في عصرنا الحاضر، إلا أن القطع بواحد منها لا يزال بعيدا عن التحقيق " (1) . أي أن الحديث عن القبر المقدس الذي يقول المسيحيون إن المسيح دفن فيه، وكان سببا من الأسباب الظاهرة للحروب الصليبية التي ادعى مشعلوها أنها قامت لتخليص ذلك القبر المقدس من أيدي الكفرة والتي استمرت أكثر من 280 عاما، وقتل فيها من المسيحيين والمسلمين عشرات الألوف، ودمر فيها الكثير من المدن وأسيلت فيها دماء الكثير من الأبرياء - كل هذا قام على غير أساس. ب - شراب المصلوب: يقول مرقس: " أعطوه خمرا ممزوجة بمر ليشرب فلم يقبل " (15: 23) . ويقول متى: " أعطوه خلًا ممزوجا بمرارة ليشرب، ولما ذاق لم يرد أن يشرب " (27: 34) . - علة المصلوب: يقول مرقس: " وكان عنوان علته مكتوبا: ملك اليهود " (15: 26) . ويقول متى: " وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة: هذا هو يسوع ملك اليهود " (27: 37) .   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص422. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ويقول يوحنا: " وكتب بيلاطس عنوانا ووضعه على الصليب، وكان مكتوبا يسوع الناصري ملك اليهود " (19: 12) . يقول نينهام: القد اختلفت الآراء بشدة حول صحة ما كتب عن علته، فيرى بعض العلماء أن الصيغة الدقيقة قد عرفت عن طريق شهود عيان، بينما يعتقد آخرون أنه من غير المحتمل أن يكون الرومان قد استخدموا مثل تلك الصيغة الجافة، وأن ما ذكره القديس مرقس بوجه خاص عن علته، إنما يرجع مرة أخرى لبيان أن يسوع قد أعدم باعتباره المسيا " (1) . إن اختلاف الأناجيل في عنوان علة المصلوب - وهو ما لا يزيد عن بضع كلمات بسيطة كتبت على لوحة قرأها المشاهدون - إنما هي مقياس لدرجة الدقة لما ترويه الأناجيل. وطالما كان هناك اختلاف - ولو في الشكل كما في هذه الحالة - فإن درجة الدقة لا يمكن أن تصل إلى الكمال بأي حال من الأحوال. وقياسا على ذلك نستطيع تقييم درجة الدقة لما تذكره الأناجيل من ألقاب المسيح، وخاصة عندما ينسب إنجيل إلى أحد المؤمنين به قوله: كان هذا الإنسان بارا، بينما يقول إنجيل آخر في نفس الوقت: كان هذا الإنسان ابن الله. أو عندما يقول أحد الأناجيل على لسان تلميذ للمسيح: يا معلم، ويقول إنجيل آخر: يا سيد، بينما يقول ثالث: يا رب. إن الحقيقة تبقى هنا دائما محل خلاف. د - اللصان والمصلوب: يقول مرقس: " وصلبوا معه واحدا عن يمينه وآخر عن يساره. . واللذان صلبا معه كانا يعيرانه " (15: 27 -32) .   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ويتفق متى مع مرقس في أن للصين كانا يعيرانه ويستهزئان به. لكن لوقا يقول: " وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا. فأجاب الآخر وانتهره قائلا: أولا أنت تخاف الله إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه. أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلناه، وأما هذا فلم يفعل شيئا ليس في محله. ثم قال ليسوع: اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك. فقال له يسوع: الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس " (23: 39 - 43) . لقد اختلفت الأناجيل في موقف اللصين من المصلوب. . هـ - وقت الصلب: يقول مرقس: " وكانت الساعة الثالثة فصلبوه " (15: 25) . لكن يوحنا يقول: إن ذلك حدث بعد الساعة السادسة: " وكان استعداد الفصح ونحو الساعة السادسة. فقال (بيلاطس) لليهود هو ذا ملككم فصرخوا خذه خذه اصلبه. فحينئذ أسلمه إليهم ليصلب " (19: 14 -16) . يقول نينهام: " منذ اللحظة التي روى فيها القديس مرقس إنكار الناس ليسوع نجد أن الوقت قد خطط بعناية بحيث تكون الفترة ثلاثية الأحداث أو التوقيتات مثل: (إنكار بطرس ثلاث مرات 14: 68، 72 وقت الصلب الساعة الثالثة 15: 25 - وقت الظلمة من السادسة إلى التاسعة 15: 33، 34) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وفي هذا المثل على الأقل فإن الحساب يبدو مصطنعا، إذ أنه من الصعب أن كل ما روت الأعداد (15: 1 - 24) (منذ بدء جلسة الصباح حتى وقت الصلب) يمكن حدوثه في فترة الثلاث ساعات. ويبين إنجيل يوحنا (19: 14) بوضوح أن ذلك لم يحدث ". (1) . وصلاة المصلوب: يقول لوقا: " ولما مضوا به إلى الموضع الذي يدعى جمجمة صلبوه هناك مع المذنبين واحدا عن يمينه والآخر عن يساره. فقال يسوع: يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون " (23: 33 - 34) . لقد انفرد لوقا بذكر هذه الصلاة التي حذفتها الأناجيل الأخرى، بل وبعض النسخ الهامة التي تنسب للوقا أيضا. ويقول جورج كيرد: " لقد قيل إن هذه الصلاة ربما تكون قد محيت من إحدى النسخ الأولى لإنجيل (لوقا) بواسطة أحد كتبة القرن الثاني، الذي ظن أنه شيء لا يمكن تصديقه أن يغفر الله لليهود. ولملاحظة ما حدث من تدمير مزدوج لأورشليم في عامي 70، 135 صار من المؤكد أن الله لن يغفر لهم " (2) . ز - صرخة اليأس على الصليب: يقول مرقس: " ولما كانت الساعة السادسة كانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة. وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: " الوي الوي لما شبقتني "، الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني " (15: 32 - 34) .   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص424. (2) تفسير إنجيل لوقا: ص250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لكن لوقا يقول: " نادى يسوع بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك أستودع روحي " (23: 46) . بينما يقول يوحنا: " لما أخذ يسوع الخل قال قد أكمل " (19: 30) . إن صرخة اليأس على الصليب تثير عددا من المشاكل التي كانت ولا تزال موضع جدل بين العلماء، فالبعض يقول: " يبدو أن القديسين لوقا ويوحنا قد رأيا في كلماتهما غموضا واحتمالا لسوء الفهم ولذلك حذفاها، ثم استبدلها أحدهما بقوله: يا أبتاه في يديك أستودع روحي، بينما قال الآخر: قد أكمل. . وعلى العكس من ذلك فإن مثل هذا الرأي يفترض الراوية الذي كان شاغله الأول أن يذكر الحقيقة التاريخية، ويسجل بأمانة للأجيال القائمة كلاما مزعجا يتعذر تفسيره. . ولهذا فإن أغلب العلماء المحدثين يقرون تأويلًا مختلفا تماما، يقوم على حقيقة أن هذه الكلمات (اليائسة) إنما هي اقتباس من (المزمور 22: 1) . وإذا أخذنا هذا المزمور ككل، فإنه لا يمكن أن يكون صرخة يأس بأي حال من الأحوال، إنما هو صلاة لعبد بار يعاني آلاما، إلا أنه يثق تماما في حب الله وحفظه من الشر، وهو مطمئن تماما إلى حمايته " (1) . ح - في أعقاب الصلب: يقول مرقس: " انشق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل، ولما رأى قائد المائة الواقف مقابله أنه صرخ هكذا وأسلم الروح قال حقا كان هذا الإنسان ابن الله " (15: 38 - 39) . ويقول متى: " وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص427 -428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين " (27: 51 -53) . ويقول لوقا: " أظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه. فلما رأى قائد المائة ما كان، مجد الله قائلًا: بالحقيقة كان هذا الإنسان بارا " (22: 45 - 47) . أما يوحنا فإنه لا يعلم شيئا عن ذلك. يقول جورج كيرد: " إن حدوث كسوف للشمس (حسب رواية لوقا) بينما يكون القمر بدرا، كما كان وقت الصلب، إنما هو ظاهرة فلكية مستحيلة الحدوث. . ولقد كان الشائع قديما أن الأحداث الكبيرة المفجعة يصحبها نذر سوء، وكأن الطبيعة تواسي الإنسان (1) بسبب تعاسته " (2) . ويقول نينهام: " لقد قيل إن مثل تلك النذر لوحظت عند موت بعض الأحبار الكبار وبعض الشخصيات العظيمة في العصور القدمية الوثنية وخاصة عند موت يوليوس قيصر " (3) . ويقول جون فنتون: " لقد أضاف متى إلى ما ذكره مرقس حدوث الزلزلة وتفتح القبور وقيامة القديسين من الأموات وظهورهم لكثيرين في أورشليم بعد قيامة يسوع، وكان قصده من إضافة هذه الأحداث أن يبين أن موت يسوع كان عملًا من صنع الله " (4) . الحق الذي لا مرية فيه أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت صغير أو كبير.   (1) يلاحظ أن هذا الكلام كلام «جورج» ، ولا يُقر عليه. الناشر. (2) تفسير إنجيل لوقا: ص253. (3) تفسير إنجيل مرقس: ص427. (4) تفسير إنجيل متى: ص444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 تعليق الدكتور محمد جميل غازي: لقد رأينا أكثر من ثلاثين تناقضا في موضوع الصلب، ومعي الآن كتاب " قاموس الكتاب المقدس " الصادر عن مجمع الكنائس في الشرق الأدنى. ومن العجيب أن هناك خلافا في شكل الصليب الذي استخدم، فهذا القاموس يذكر أن هناك الصليب (x) والصليب (T) والصليب (+) ، والصليب المستخدم كرمز للمسيحية هو (+) لكن هذا القاموس يقول إن الصليب الذي استخدم كان على شكل (T) وهذا هو نص ما يقوله قاموس الكتاب المقدس. " وللصلبان نماذج رئيسية ثلاثة، أحدها المدعو صليب القديس أندراوس وهو على شكل (X) وثانيها بشكل (+) وثالثها بشكل السيف (T) وهو المعروف بالصليب اللاتيني. ولعل صليب المسيح كان من الشكل الأخير (T) كما يعتقد الفنانون، الأمر الذي كان يسهل وضع اسم الضحية وعنوان علتها على القسم الأعلى منه ". فإذا كان شكل الصليب مختلفا فيه، إذن قوله تعالى {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} يبين لنا بوضوح أن كل ما تعلق بالصلب اشتبه أمره عليهم وغابت عنهم الحقيقة، فهم لا يزالون مختلفين في كل ما يتعلق بقضية الصلب مثل: حامل الصليب وعلة المصلوب، واللصان والمصلوب، ووقت الصلب، وصلاة المصلوب، وصرخة اليأس على الصليب، وما حدث في أعقاب الصلب. . وأما بخصوص الجملة التي ختم بها السيد اللواء حديثه فإنها تختص بإبراهيم ابن النبي والتي تعطي الدليل - لكل ذي عقل سليم - على صدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم، وأنه لا يجمع خرافات أو أوهاما، إنما يريد أن يحق الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فالذي حدث هو أنه لما مات ابنه إبراهيم حدثت ظاهرة فلكية وهي كسوف الشمس، وهذا شيء طبيعي حدوثه. لكن بعض الناس قالوا: كسفت الشمس لموت إبراهيم. لقد مات إبراهيم، وكسفت الشمس في نفس اليوم، وربط الناس بين الحدثين، فلو كان الرسول يريد التأييد ولو عن طريق الأكاذيب، لصمت عن ذلك. لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم -برأه الله - يرفض كل أكذوبة من كل لون لتأييده، ولهذا صعد المنبر غاضبا وقال: «أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد أو لحياته. فإذا رأيتم شيئا من ذلك، فادعوا الله وصلوا» . ط - شهود الصلب: لعل هذه واحدة من أهم عناصر قضية الصلب، وإنها لترينا أن شهود الصلب كن نساء وقفن ينظرن من بعيد ذلك الذي علق على الصليب، ولم تكن هناك فرصة للتحقق والمعاينة عن قرب. يقول مرقس: " وكانت أيضا نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي وسالومة. اللواتي أيضا تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل. وأخر كثيرات صعدن معه إلى أورشليم " (15: 40 -41) . وكذلك يقول متى في (27: 55 -56) . ويقول لوقا: " وكان جميع معارفه ونساء كن تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظن ذلك " (23: 49) . ويقول يوحنا: " وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية " (19: 25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ويقول جون فنتون: " لقد هرب التلاميذ عند القبض على يسوع، ورغم أن بطرس قد تبعه من بعيد إلى فناء دار رئيس الكهنة، فإننا لا نسمع عنه شيئا أكثر من هذا، بعد إنكاره ليسوع. إن مرقس ومتى ولوقا يخبروننا أن شهود الصلب كن نساء تبعن يسوع من الجليل إلى أورشليم، وقد رأين دفنه، واكتشفن القبر خاليا صباح الأحد، وقابلن يسوع (بعد قيامته) (1) . ويعلق العلماء على ما قاله يوحنا عن وجود مريم أم المسيح عند الصليب بقولهم: " إنه من غير المحتمل أساسا أن يكون قد سمح بوقوف أقارب يسوع وأصدقائه بالقرب من الصليب " (2) . كذلك تقول دائرة المعارف البريطانية تعليقا على اختلاف الأناجيل في شهود الصلب: " نجد في الأناجيل (الثلاثة) المتشابهة أن النساء فقط تبعن يسوع، وأن القائمة التي كتبت بعناية واستفاضة لا تضم والدته - وأنهن كن ينظرن من بعيد " (مرقس 15: 40) . ولكن في يوحنا نجد أن والدته مريم تقف مع مريمين أخريين والتلميذ المحبوب تحت الصليب، ومن تلك الساعة أخذها التلميذ المحبوب إلى خاصته. هذا بينما لا تظهر والدته في أورشليم - حسبما ذكرته المؤلفات القديمة - إلا قبيل عيد العنصرة وفي رفقة إخوته (أعمال الرسل 1: 14) (3) . من ذلك نتبين أن شهود الأحداث الرئيسية التي قامت عليها العقائد المسيحية وهي الصلب، والقيامة، والظهور، إنما كن - على أحسن الفروض - نساء شاهدن ما شاهدن من بعيد، ثم قمن بعد ذلك بالرواية والتبليغ. . .   (1) تفسير إنجيل متى: ص455. (2) تفسير إنجيل مرقس: ص431. (3) ج13، ص99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 التعليق على أحداث الصلب: والآن يحق لنا التعليق على أحداث الصلب فنقول: إن اعتماد كتاب أحد الأناجيل على ما رواه كاتب إنجيل آخر، كان أولى به أن يوجد تآلفا بين الأناجيل، ويمنع التناقض والاختلاف بينها. ولكن ما حدث كان على النقيض من ذلك. وإذا أخذنا بما ترويه الأناجيل عن الصلب وأحداثه، لوجدناها قد اختلفت فيه من الألف إلى الياء. ويكفي أن يراجع القارئ ما ذكرته الأناجيل عن حادث القبض وملابساته - المحاكمات - توقيت الصلب (اليوم والساعة) - صرخة اليأس على الصليب - شهود الصلب، كل ذلك وغيره كثير يكفي للقول بأن الأناجيل اختلفت فيما بينها اختلافا بعيدا. وهو اختلاف يكفي لرفضه ما يذكره أحد الأناجيل - على الأقل - إذا أخذنا برواية الإنجيل الآخر. فأيهما نأخذ به، وأيهما نرفضه؟ رب قارئ درج على الإيمان التقليدي بما ترويه الأناجيل، لا يجد مفرا الآن من أن يقول: " إنما العلم عند الله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 نهاية يهوذا الخائن لقد انفرد إنجيل متى -دون بقية الأناجيل - بالحديث عن نهاية يهوذا، كذلك تحدث سفر أعمال الرسل الذي سطره لوقا عن كيفية هلاكه. ولنرجع الآن إلى هذين المصدرين لنرى كيف هلك يهوذا، وما إذا كانا قد اتفقا في الحديث عن هذا الجزء الخطير، والذي له علاقة مؤكدة بقضية الصلب أم أنهما اختلفا كالعادة. يقول متى: " حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دِينَ ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلًا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا فقالوا ماذا علينا، أنت أبصر. فطرح الفضة في الهيكل وانصرف. ثم مضى وخنق نفسه. فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم. فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. لهذا سمي هذا الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم. حينئذ تم ما قيل بارميا النبي القائل: وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن الذي ثمنوه من بني إسرائيل وأعطوها عن حقل الفخاري كما أمرني الرب - 27: 3 - 10) . ويقول جون فنتون: " إن متى يستخدم الفترة ما بين قرار السهندرين والمحاكمة أمام بيلاطس، في أخبار قرائه عن نهاية يهوذا. وعند هذه النقطة نجد أن متى لا يتبع مرقس الذي لم يورد أي ذكر ليهوذا بعد القبض على يسوع. ويذكر متى أن يهوذا غير رأيه بعد أن رأى يسوع قد دينَ، فأرجع النقود إلى أعضاء السهندرين واعترف لهم بجرمه. . ثم هو يضع النقود في خزينة الهيكل، ويمضي ليخنق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ويقول رؤساء الكهنة إنه طالما كانت تلك النقود ثمنا لحياة، فلا يحل وضعها في خزينة الهيكل، ولهذا يشترون بها قطعة من الأرض مقبرة للغرباء. وهذا يحقق نبوءة يرجعها متى إلى أرميا (خطأ) ولكنها في الواقع من كتاب زكريا الذي لعب من قبل دورا هاما في رواية متى. ولقد سجل لوقا موت يهوذا في (أعمال الرسل 1: 18) ، وتتفق روايته مع رواية متى في جزء منها، بينما تختلف في جزء آخر " (1) . إننا قبل أن نذهب لمعرفة ما سجله لوقا عن موت يهوذا في سفر أعمال الرسل يخبرنا جون فنتون: أنه اتفق مع متى في جزء من الرواية، وخالفه في جزء آخر، كما أن متى أرجع قصة حقل الدم إلى نبوءة ظنها - خطأ - من سفر أرميا بينما هي لها شبيه في سفر زكريا. وتقول رواية لوقا المشار إليها - في سفر أعمال الرسل: " في تلك الأيام قام بطرس في وسط التلاميذ. وكان عدة أسماء نحو مائة وعشرين. فقال أيها الرجال الإخوة كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقال بفم داود عن يهوذا. . فإن هذا اقتنى حقلًا من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه، وصار ذلك معلوما عند جميع سكان أورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما أي حقل دم؛ لأنه مكتوب في سفر المزامير لتصر داره خرابا ولا يكن فيها ساكن وليأخذ وظيفته آخر " (1: 15 - 20) . فعلى حسب رواية لوقا تجد - كما يقول جون فنتون: " أن يهوذا نفسه الذي يشتري الحقل ثم هو يموت هناك، ولهذا سمي ذلك الحقل حقل دم. إن هذا يعني: إما أن كلًا من متى ولوقا كان لديه مدخلًا مستقلًا لمثل تلك   (1) تفسير إنجيل متى: ص431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 القصص عن يهوذا، أو أن لوقا اختصر رواية متى وأدخل إليها بعض التغييرات " (1) . وسواء أكان هذا أو ذاك، فإن هذا واحد من بين مئات الأدلة على أننا نتعامل مع كتب مؤلفة بكل معنى الكلمة، لا علاقة لها بوحي الله. إن ما اتفق عليه متى ولوقا - وصمت عنه مرقس ويوحنا - هو أن يهوذا الخائن قد هلك في ظروف مريبة، لكن روايتهما اختلفت في ثلاثة عناصر هي: الأول - يتعلق بكيفية موته، وفيها يروي متى أن يهوذا قد انتحر بخنق نفسه، بينما يروي لوقا أنه مات ميتة دموية، انشق فيها وسطه وانسكبت جميع أحشائه. الثاني - ويتعلق بمشتري الحقل، فيروي متى أن رؤساء الكهنة هم الذين اشتروه، بينما يروي لوقا أن يهوذا كان هو الشاري. الثالث - كذلك اختلفت روايتا متى ولوقا في سبب تسمية الحقل باسم: حقل دم، فرواية متى ترجع ذلك لكونه اشتري بنقود كانت ثمنا لبيع دم بريء، بينما يرد لوقا تلك التسمية إلى الميتة الدموية التي ماتها يهوذا. إن ما يذكره متى ولوقا عن هلاك يهوذا لا يعني إلا شيئا واحدا هو: أن يهوذا قد اختفى في فترة الاضطراب التي غشيت أحداث الصلب وملابساته.   (1) تفسير إنجيل متى: ص431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 تنبؤات المسيح بآلامه لقد تأثرت الأناجيل - التي كتُب أقدمها وهو إنجيل مرقس بعد أن بدأ بولس كتابة رسائله بأكثر من 15 سنة - بنظرية سفك دم المسيح فدية عن كثيرين، تلك التي روج لها بولس وجعلها إنجيله الوحيد الذي يبشر به. فهو يقول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: " إني لم أعزم أن أعرف شيئا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبا " (2: 2) . ولما كان من المتوقع أن يتحدث المسيح عن آلامه ورفضه باعتبارها ظواهر اقترنت دائما بحمل رسالات السماء، فإنا نجد إنجيل مرقس يضع ما يمكن اعتباره أساسا لكل ما قيل عن التنبؤات بالآلام المرتقبة. فهو يروي حديث المسيح لتلاميذه: " كيف هو مكتوب عن ابن الإنسان أن يتألم كثيرا ويرذل " (9: 12) . ولقد طور متى هذا القول فجعله تنبؤا بصلب المسيح إذ يقول على لسانه: " ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت. ويسلمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه "20: 18 -19) . ومن المعلوم أن إنجيل مرقس كان مصدرا رئيسيا لمتى، ومن المعلوم كذلك أن إنجيل متى هو الإنجيل الوحيد الذي نسب للمسيح تنبؤه بالقتل صلبا. ولقد رأينا فيما سبق كيف طور متى ما قيل عن آية يونان، فقد بدأها مرقس بقوله: " خرج الفريسيون وابتدأوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه، فتنهد بروحه وقال لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية " (8: 11 -12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ولقد طورها لوقا فقال: " وفيما كان الجموع مزدحمين ابتدأ يقول هذا الجيل شرير، يطلب آية ولا تعطى له إلا آية يونان النبي؛ لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضا لهذا الجيل " (11: 29 - 30) . أما متى - الذي اعتمد على مرقس وكتب إنجيله بعد لوقا أيضا - فإنه حول ذلك القول الذي ينسب للمسيح، بما قدمه من إضافات وتعديلات، إلى نبوءة خاطئة، وذلك في قوله: " حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين يا معلم نريد أن نرى منك آية، فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إِلا آية يونان النبي؛ لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال " (12: 38 - 40) . ولقد بينا خطأ هذه النبوءة عند الحديث عن التنبؤات التي استحال تحقيقها. يبقى بعد ذلك ما ينسب للمسيح من قوله إن ابن الإنسان سوف يتألم كثيرا ويرفض من جيله، ماذا يعني قول كهذا؟ يقول تشارلز دود: " لقد سجلت أقوال بأن يسوع تنبأ بأن الآلام تنتظره هو وتابعيه، وغالبا ما استحسن ذلك الاعتقاد في أن الإنذار بموته - وهو القول الذي تكرر ذكره منسوبا ليسوع في الأناجيل - إِنما هو تنبؤ خرج من واقع الأحداث، أي بعد وقوعها (حيث عاصر جيل المسيح اختفاءه فجأة، وقتل شخص على الصليب لم يسمح لتلاميذه بالاقتراب منه) . إن رجال الكنيسة لم يستطيعوا الاعتقاد بأن ربهم كان جاهلا بما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ينتظره. ويمكن التسليم صراحة بأن دقة بعض هذه التنبؤات قد ترجع إلى ما عرفته الكنيسة من حقائق فيما بعد. وفي الواقع إن الانطباع الذي نخرج به من الأناجيل ككل هو أن يسوع قاد أتباعه إلى المدينة بمفهوم واضح هو أن أزمة تنتظرهم هناك، وقد يصيبه وأتباعه بسببها آلام مبرحة. وإن الفقرة المتميزة في هذا المقام هو ما ذكره مرقس في (10: 35 - 40) (عندما تقدم أبناء زبدي إلى المسيح طالبين مشاركته المصير والملكوت فقال لهما: أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا؟ فقالا له: نستطيع. فقال لهما يسوع: أما الكأس التي أشربها أنا فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ أنا تصطبغان. .) . فنجد هنا أن ابني زبدي قد تأكدا أنهما سيشربان الكأس التي يشربها سيدهما ويصطبغان بصبغته. إن مفهوم الكلام هنا لا شك فيه. وبالنسبة للتنبؤ بمشاركة الأخوين (ابني زبدي) لسيدهما مصيره فإنها تعتبر واحدة من التنبؤات التي لم تتحقق بمعناها الطبيعي. وبما أن الصليب كان هو الوسيلة الوحيدة المألوفة للإعدام تحت حكم الرومان فإن ما توحي به تلك الفقرة هو أنه أراد تهيئتهم لا من أجل المعاناة فقط، بل للموت. وما من شك في أنه يمكن قبول الرأي الذي يقول بأن التنبؤات التي نجدها في الأناجيل ليست أكثر من انعكاس لتجارب الكنيسة الأولى التي تكونت فيها التعاليم المسيحية. ومن المؤكد أن بعضا من هذه التنبؤات -على الأقل - قد كونتها تلك التجارب. . وفضلًا عن ذلك تظهر بعض الآثار لتنبؤات نسبت ليسوع ولم تتحقق " (1) .   (1) من كتاب: «أمثال الملكوت» ، ص41 - 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 تنبؤات المسيح بنجَاته من القتل المسيح يرفض كل محاولة لقتله: منذ أن بدأ المسيح دعوته حتى آخر يوم فيها نجد الأناجيل تذكرنا بين الحين والحين برفضه فكرة قتله واستنكارها تماما، ثم هو قد عمل كثيرا لإحباط جميع المحاولات التي رآها تبذل من اليهود لقتله. يقول إنجيل يوحنا: " أجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني لماذا تطلبون أن تقتلوني. .؟ لكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد حدثكم الحق الذي سمعه من الله. هذا لم يعمله إبراهيم " (7: 16 - 19، 8: 37 - 40) . ولأن المسيح إنسان عادي ككل البشر فإنه يجهل ما يخبئه له القدر، ولذلك اتخذ من الاحتياطات ما يجنبه الوقوع في براثن أعدائه من اليهود. ولو كان يعلم أنهم سيقبضون عليه في يوم معين، فلم - إذن - تلك الاحتياطات؟ يقول إنجيل يوحنا: " كان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل لأنه لم يرد أن يتردد في اليهود لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه " (7: 1) . " فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه. فلم يكن يسوع أيضا يمشي بين اليهود علانية بل مضى من هناك إلى الكورة القريبة من البرية " (11: 53 - 54) . هذا - ونكتفي الآن بذكر عدد من التنبؤات الواضحة التي قالها المسيح بنجاته من القتل، والتي تتفق وتلك الاحتياطات التي اتخذها للمحافظة على حياته. 1 - حدث ذات مرة في إحدى محاولات القبض عليه أن " أرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خداما ليمسكوه. فقال لهم يسوع: أنا معكم زمانا يسيرا بعد، ثم أمضي للذي أرسلني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ستطلوبني ولا تجدونني، حيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا " (يوحنا 7: 32 - 34) . لا نظن أحدا يشك في وضوح هذا القول الذي يعني أن اليهود حين يطلبون المسيح لقتله فلن يجدوه لأنه سيمضي للذي أرسله، أي سيرفعه الله إِليه كما سبق أن رفع إيليا (إلياس) وشاهده تلميذه اليشع (اليسع) وهو يصعد إلى السماء. 2 - وفي موقف آخر من مواقف التحدي بين المسيح واليهود، أكد لهم نبوءته السابقة وأن محاولاتهم ضده ستنتهي برفعه إلى السماء: " قال لهم يسوع أيضا أنا أمضي وستطلوبنني وتموتون في خطيتكم، حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا. فقال اليهود ألعله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟ فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا ولست أفعل شيئا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني. . والذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " (يوحنا 8: 21 - 29) . لكن ذلك المصلوب صرخ يائسا على الصليب قائلًا: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ 3 - ولقد كانت آخر أقوال المسيح لتلاميذه في تلك اللحظات التي سبقت عملية القبض مباشرة، وهو تأكيده لهم أن الله معه دائما ولن يتركه: " هو ذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي. . لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم " (يوحنا 16: 32 - 33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ومن المؤكد أن ذلك المصلوب قد تركه إلهه، كما قال بلسانه في صرخته اليائسة، ومن المؤكد كذلك أن ذلك المصلوب قد غلبه أعداؤه وقهره الموت وأخضعه لسلطانه. 4 - وفي آخر مواجهة عاصفة حدثت بين المسيح والكهنوت اليهودي كان قوله: " إني أقول لكم أنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب. ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل " (متى 23: 39، 24: 1) . إن التحدي في هذا القول واضح، ذلك أن المسيح يؤكد لأعدائه أنهم لن يروه منذ تلك الساعة حتى يأتي في نهاية العالم " بقوة ومجد كثير ". لكن ذلك المصلوب رآه الكهنوت اليهودي أسيرا في قبضته أثناء المحاكمة، ثم رأوه بعد ذلك معلقا على الخشبة قتيلا قد أسلم الروح والمشيئة، ولم يبق منه إلا جسد خامد فقد نبض الحياة. وأستعير لغة المسيح في الإنجيل، اكتفاء بهذا القدر فأقول: " من له أذنان للسمع فليسمع، ومن يسمع فعليه أن يعقل. . . " وقبل أن نذهب لسماع ما تقوله المزامير، أرجو أن يكون معلوما أن تراجم أسفار العهدين القديم والجديد تتغير من حين لآخر وفقا للدراسات التي يقوم بها علماء الكتاب المقدس، إما لتدقيق الترجمة، أو للتخلص من التناقضات والاختلافات. وكمثال نجد أنه في واحدة من طبعات الكاثوليك للعهد الجديد أنها عندما تحدثت عن نهاية الخائن يهوذا (في الإصحاح الأول من سفر أعمال الرسل) فإنها جعلته يخنق نفسه، ليتفق هذا مع ما يقوله إنجيل متى، أما طبعة البروتستانت فلا تزال تروي نهاية يهوذا بأن نقمة حلت به " إذ سقط على وجهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها " وهذا شيء مختلف تماما عن عملية الانتحار خنقا. كذلك ظهرت طبعات حديثة للمزامير تختلف كثيرا عما في الطبعات المتداولة لها. وإذا كان داود هو الاسم الذي يرتبط بأغلب المزامير، فإن العلماء مختلفون فيما يتعلق بحقيقة قائل كل مزمور وتاريخه وظروفه، كما أن هناك خلافا حول ترقيمها. ولقد بينا ذلك في مناسبة سابقة، وكيف أن الترجمة المتداولة للمزمور 69 -كمثال - تقول في بعض فقراتها: " حينئذ رددت الذي لم أخطفه ". " ويجعلون في طعامي علقما ". بينما تقول الترجمة الحديثة له في نظير ذلكما العددين: " كيف أرد الذي لم أسرقه أبدا؟ ". " أعطوني لطعامي سما ". فالاختلاف بينهما واضح، سواء في المضمون أو في زمن الفعل. الخلاص الحق لا علاقة له بالصلب : إن الخلاص الحق لا علاقة له بالصلب وسفك الدم، فتلك نظرية بولسية أقحمها بولس في مسيحية المسيح الحقة. وهذا شيء نستطيع تبيانه من الأناجيل: 1 - بينما كان المسيح يسير خارجا " إذا واحد تقدم وقال له أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ فقال له: لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد هو الله. ولكن إن أردت أن تدخل الحياة، فاحفظ الوصايا. قال له: أية الوصايا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فقال يسوع: لا تقتل. لا تزن. لا تسرق. لا تشهد بالزور. أكرم أباك وأمك وأحب قريبك كنفسك. قال له الشاب: هذه كلها حفظتها منذ حداثتي، فماذا يعوزني بعد؟ قال له يسوع: إن أردت أن تكون كاملًا فاذهب وبع أملاك واعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني " (متى 19: 16 - 21) . ومن الملاحظ أن المسيح قبل أن يجيب السائل إلى سؤاله، فقد صحح صيغة السؤال، فنفى الصلاح عن نفسه، ورده إلى الله الذي تفرد في ذاته وصفاته. وبذلك قرر المسيح على رؤوس الأشهاد أن " لله المثل الأعلى في السموات والأرض "، وأن أي خلط بين الله - سبحانه - وبين المسيح، إنما هو قول مردود وكفر مرفوض. ومن ذلك يتبين أن الخلاص الحق يقوم على الإيمان بالله الواحد، ثم العمل الصالح. ولا مجال للحديث هنا عن الصلب أو الصليب، فتلك كلها مسميات قال بها بولس وتلاميذه، ما أنزل الله بها من سلطان. 2 - في يوم الدينونة تكون النجاة بالعمل الصالح بعيدا عن الصلب وفلسفاته، بل وحتى اسمه. فهناك " يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا. . رِثوُا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. لأني جعت فأطعمتموني. عطشت فسقيتموني. كنت غريبا فآويتموني. عريانا فكسوتموني. مريضا فزرتموني. محبوسا فأتيتم إليَّ. فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين: يا رب متى رأيناك جائعا فأطعمناك. أو عطشانا فسقيناك. ومتى رأيناك غريبا فآويناك أو عريانا فكسوناك؟ فيجيب الملك ويقول لهم الحق أقول لكم بما أنكم فعلتم بأحد إخوتي الأصاغر، فبي فعلتم. ثم يقول الملك للذين عن اليسار: اذهبوا عني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته؛ لأني جعت فلم تطعموني. . حينئذ يجيبونه هم أيضا قائلين: يا رب متى رأيناك جائعا؟ فيجيبهم قائلًا: الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر، فبي لم تفعلوا. فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي، والأبرار إلى حياة أبدية " (متى 25: 34 - 46) . هكذا يدان الناس: أهل البر والعمل الصالح إلى الحياة الأبدية السعيدة، وأهل الشر والبخل إلى عذاب أبدي. ومرة أخرى لا دخل لفلسفة الصلب والفداء في إنقاذ أهل الشر، فلن تنفعهم في شيء. 3 - يقول يعقوب في رسالته: إن الدينونة التي تحدد المصير الأبدي للإنسان تقوم على ركيزتين هما: إيمان بالله الواحد يصحبه عمل صالح، وبدونهما لا فائدة ترجى. وإن كلا منهما لا علاقة له بالصلب وسفك الدم، من قريب أو بعيد: " أنت تؤمن بأن الله واحد. حسنا تفعل. والشياطين يؤمنون ويقشعرون. ولكن هل تريد أن تعلم أيها الإنسان الباطل أن الإيمان بدون أعمال ميت؟ بالأعمال يتبرر الإنسان، لا بالإنسان وحده " (2: 19 - 24) . إن " الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم " (1: 27) . من ذلك وغيره كثير وكثير جدا، نتبين أن الخلاص الحق لا علاقة له بالصلب على الإطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وبهذا نكون قد انتهينا من بحث قضية الصلب وما يتعلق بها، ويبقى أمامنا بحث قضية القيامة والظهور، وهو ما سوف نبحثه في الجلسة القادمة. تعقيب الدكتور محمد جميل غازي : وتد عقب الدكتور محمد جميل غازي على ما انتهى إليه الصلب بقوله: نضع الآن مجموعة من الأسئلة حول الصلب والفداء، موجهة إلى المسيحيين لعلنا نجد لها إجابة إن تيسر الوقت في جولة أخرى. وهذه الأسئلة هي: 1 - ادعى المسيحيون أن صلب المسيح كان لتحقيق العدل والرحمة، فأي عدل وأي رحمة في تَعذيب غير مذنب وصلبه؟ قد يقولون: إنه هو الذي قبل ذلك، ونقول لهم إن من يقطع يده أو يعذب بدنه أو ينتحر، فإنه مذنب، ولو كان يريد ذلك. 2 - إذا كان المسيح ابن الله، فأين كانت عاطفة الأبوة وأين كانت الرحمة حينما كان الابن الوحيد يلاقي دون ذنب ألوان التعذيب الصلب مع دق المسامير في يديه؟ 3 - ما هو تصور المسيحيين لله - جل في علاه - الذي لا يرضى إلا أن ينزل العذاب المهين بالناس، والعهد في الله - الذي يسمونه الآب ويطلقون عليه: الله محبة، الله رحمة - أن يكون واسع المغفرة، كثير الرحمات؟ 4 - من هذا الذي قيد الله - سبحانه وتعالى - وألزمه وجعل عليه أن يلتزم العدل وأن يلتزم الرحمة، وأن يبحث عن طريق للتوفيق بينهما، بين العدل والرحمة، بأن ينزل ابنه الوحيد، في صورة ناسوت، يصلب تكفيرا عن خطيئة آدم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 5 - يدعي المسيحيون أن ذرية آدم لزمهم العقاب بسبب خطيئة أبيهم، وفي أي شرع يلتزم الأحفاد بأخطاء الأجداد - خاصة وأن الكتاب المقدس ينص على أنه " لا يقتل الأباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء. فكل إنسان بخطيئته يقتل " (تثنية 16: 24) ؟ 6 - إذا كان صلب المسيح عملًا تمثيليا على هذا الوضع، فلماذا يكره المسيحيون اليهود ويرونهم آثمين معتدين على السيد المسيح؟ إن اليهود - وخاصة يهوذا الأسخريوطي - كانوا حسب الفهم المسيحي لموضوع الصلب أكثر الناس عبادة لله، لأنهم بذلك نفذوا إرادة الله التي قضت بصلب ابنه فقاموا هم بتنفيذ ذلك العمل. 7 - هل كان نزول ابن الله وصلبه للتكفير عن خطيئة البشر ضروريا، أم كانت هناك وسائل أخرى من الممكن أن يغفر الله بها خطيئة البشر؟ ماذا يقول المسيحيون للإجابة عن مثل هذا السؤال، كما يقدمه كاتب مسيحي هو القس بولس ساباط، إذ يقول: " لم يكن تجسد الكلمة ضروريا لإنقاذ البشر، ولا يتصور ذلك مع القدرة الإلهية الفائقة الطبيعية " - ثم يسترسل هذا الكاتب، فيذكر السبب في اختيار الكلمة لتكون فداء لخطيئة البشر، فيقول: " إن الله على وفرة ما له من الذرائع إلى فداء النوع البشري وإنقاذه من الهلاك الذي نتج من الخطيئة ومعصية أمره الإلهي، قد شاء - سبحانه - أن يكون الفداء بأعز ما لديه، لما فيه من القوة على تحقيق الغرض وبلوغه سريعا ". إن أبسط الذرائع لدى الله - سبحانه - إذا استخدمنا لغة ذلك القس، هي أن يقول الله: عفوت عنك يا آدم. إن هذا ما يقوله القرآن الكريم {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ونصرخ في وجه هذا الكاتب فنقول إنه ليس من الحكمة في شيء أن نفتدي بدينار ما نستطيع أن نفتديه بفلس. ثم هناك إجابة أخرى عن هذا السؤال نقتبسها من كاتب مسيحي آخر هو الأب بولس اليافي الذي يقول: " مما لا ريب فيه أن المسيح كان باستطاعته أن يفتدي البشر ويصالحهم مع أبيه بكلمة واحدة أو بفعل سجود بسيط يؤديه باسم البشرية لأبيه السماوي لكنه أبى إلا أن يتألم، ليس لأنه مريض بتعشق الألم أو لأن أباه ظالم يطرب لمرأى الدماء، وبخاصة دم ابنه الوحيد، وما كان الله بسفاح ظلوم، لكن الإله الابن شاء مع الله الآب أن يعطي الناس أمثولة خالدة من المحبة تبقى على الدهر وتحركهم على الندامة لما اقترفوه من آثام وتحملهم على مبادلة الله المحبة ". ومرة أخرى نصرخ في وجه هذا المؤلف مؤكدين أنه صور الداء أدق تصوير عندما تكلم عن الدماء والقسوة، لكنه عندما بدأ يجيب ويصف الدواء تعثر وكبا ولم يقل إلا عبارات جوفاء لا تحمل أي معنى. 8 - ونعود إلى القس بولس ساباط، ونسأله كما سأل: إذا كان الكلمة قد تجسد لمحو الخطيئة الأصلية، فما العمل في الخطايا التي تحدث بعد ذلك؟ يجيب هذا الكاتب بما يلي: " إذا عاد الناس إلى اجتراح الخطايا، فالذنب ذنبهم لأنهم نسوا النور وعشوا عنه مؤثرين الظلمة بإرادتهم ". ومعنى هذا أن خطيئة واحدة محيت، وأن ملايين الخطايا سواها بقيت وجدت بعد ذلك. وسيحاسب الناس على ما اقترفوه، وبعض ما اقترفوه أقسى من عصيان آدم. فلقد أنكر بعض الناس وجود الله، وهاجمه آخرون وسخروا من جنته وناره. فلماذا كانت ظاهرة التجسد لخطيئة واحدة، وتركت خطايا أكبر، لا تعد ولا تحصى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 9 - أين كان عدل الله ورحمته منذ حادثة آدم حتى صلب المسيح؟ ومعنى هذا أن الله - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - ظل حائرا بين العدل والرحمة ألوف السنين، حتى قبل المسيح منذ ألفي عام فقط أن يصلب تكفيرا عن خطيئة آدم. 10 - يلزم - كما في جميع الشرائع - أن تتناسب العقوبة مع الذنب، فهل يتم التوازن بين صلب المسيح على هذا النحو وبين الخطيئة التي ارتكبها آدم؟ 11 - هذا - إلى أن خطيئة آدم التي لم تزد عن أن تكون أكلا من شجرة نهي عنها قد عاقبه الله عليها - باتفاق المسيحين والمسلمين - بإخراجه من الجنة، ولا شك أنه عقاب كاف، فالحرمان من الجنة الفينانة والخروج إلى الكدح والنصب عقاب ليس بالهين. وهذا العقاب قد اختاره الله بنفسه، وكان يستطيع أن يفعل بآدم أكثر من ذلك، ولكنه اكتفى بذلك. فكيف يستساغ أن يظل مضمرا السوء غاضبا ألوف السنين حتى وقت صلب المسيح؟ 12 - وقد مرت بالبشر منذ عهد آدم إلى عهد عيسى أحداث وأحداث وهلك كثيرون من الطغاة وبخاصة في عهد نوح حيث لم ينج إلا من آمن بنوح واتبعه وركب معه السفينة. . فهؤلاء هم الذين رضي الله عنهم، فكيف تبقى بعد ذلك ضغينة أو كراهية تحتاج لأن يضحي عيسى بنفسه فداء للبشرية. 13 - والكاتب المسيحي الذي أسلم - عبد الأحد داود وكان مطرانا للموصل - ينتقد قصة التكفير عن الخطيئة هذه انتقادا سليما فيقول: " إن من العجيب أن يعتقد المسيحيون أن هذا السر اللاهوتي، وهو خطيئة آدم وغضب الله على الجنس البشري بسببها ظل مكتوما عن كل الأنبياء السابقين ولم تكتشفه إلا الكنيسة بعد حادثة الصلب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 14 - ويقول هذا الكاتب - عبد الأحد داود -: " إن ما حمله على ترك المسيحية هو هذه المسألة وظهور بطلانها، إذ أمرته الكنيسة بأوامر لم يستسغها عقله وهي: أ - نوع البشر مذنب بصورة قطعية ويستحق الهلاك الأبدي. ب - الله لا يخلص أحدا من هؤلاء المذنبين من النار الأبدية المستحقة عليهم بدون شفيع. جـ - الشفيع لا بد أن يكون إلها تاما وبشرا تاما ". ويدخل هذا الكاتب في نقاش طويل مع المسيحيين بسبب هذه الأوامر، فهم يرون أن الشفيع لا بد أن يكون مطهرا من خطيئة آدم، ويرون أنه لذلك ولد عيسى من غير أب لينجو من انحدار الخطيئة إليه من أبيه. ويسألهم الكاتب: ألم يأخذ عيسى نصيباً من الخطيئة عن طريق أمه؟ ويجيب هؤلاء: بأن الله طهر مريم من الخطيئة قبل أن يدخل الابن رحمها. ويعود الكاتب يسأل: إذا كان الله يستطيع - التطهير - هكذا في سهولة ويسر إذ يطهر بعض خلقه، فلماذا لم يطهر خلقه من الخطيئة كذلك بمثل هذه السهولة وذلك اليسر، بدون إنزال ابنه وبدون تمثيلية الولادة والصلب؟ ونضيف إلى نقاش عبد الأحد داود، أن قولهم بضرورة أن يكون الشفيع مطهراً من خطيئة آدم، مما استلزم أن يولد عيسى من غير أب أو أن يطهر الله مريم قبل دخول عيسى رحمها، يحتاج إلى طريق طويل معقد، وكان أيسر منه أن ينزل ابن الله مباشرة في مظهر الإنسان دون أن يمر بدخول الرحم والولادة. ونضيف كذلك أن اتجاه المسيحيين هذا يتعارض مع اتجاه مسيحي آخر، هو أن ابن الله دخل رحم مريم ليأخذ مظهر الإنسان وليتحمل في الظاهر بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 خطيئة آدم الذي يبدو ابن الله كأنه ولد من أولاده، ثم يصلب ابن الله تكفيراً عن خطيئة البشر الذين أصبح كواحد منهم. ويبقى أن نسأل أسئلة أخيرة في هذا الموضوع هي: هل كان الأنبياء جميعاً، نوح - إبراهيم - موسى. .، مدنسين بسبب خطيئة أبيهم؟ وهل كان الله غاضباً عليهم كذلك، وكيف اختارهم مع ذلك لهداية البشر؟ هذه الأسئلة نضعها بين يدي النصارى لعلهم يحاولون الإجابة عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الجلسة الثالثة القيامة و الظهور . شك التلاميذ في روايات القيامة والظهور. بولس. دين المسيح كان التوحيد. كلمة إلى المبشرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 القيامة والظهور لقد انتهينا من دراسة قضية الصلب. وهي واحدة من أخطر القضايا المسيحية باعتبارها صارت ركيزة من ركائز العقيدة التي تبناها بولس، وصار لها السيادة فيما بعد، ولم تكن على الإطلاق من وصايا المسيح ولا من رسالته. وماذا رأينا فيها؟ رأينا أن هذه المصادر المسيحية - وهي الأناجيل - قد اختلفت تماماً في كل جزئية تتعلق بموضوعات الصلب. وقلنا - من قبل - إننا نتبع في دوائرنا القضائية في كل بلد من بلاد العالم، أنه عندما تختلف شهادة الشهود، ترفض على الفور شهاداتهم. كذلك فإن السمة الواضحة والعامل المشترك بين هذه المصادر المسيحية، شيء واحد، هو أن كل ما كتب قام على ظن وعلى تناقض يتناقض بعضه مع بعض، وينقض بعضه بعضاً. وقد عبرَ القرآن الكريم عن هذه الحالة في آية من آياته، وذلك من معجزات القرآن فقد قال {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (1) لقد وجدنا أن كل ما كتب وخاصة ابتداء من قضية الصلب، وملحقاتها وهي القيامة والظهور، قد اختلف فيه كتبة الأناجيل جميعاً من الألف إلى الياء. ونبدأ الآن في دراسة قضية القيامة التي تقول - وفق التعليم المسيحي - إن المسيح صلب ومات ودفن وقام في اليوم الثالث، وبعد ذلك ظهر لبعض الناس.   (1) سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ولقد عرفنا دما سبق أنه لم يدفن في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال، كما قالت الأناجيل، إذ أن المصلوب دفن في الأرض لمدة يوم واحد وليلتين على أحسن الفروض. القيامة بدأت روايات قيامة المسيح من الأموات وظهوره بعد الموت تنتشر ببطء شديد وسط المجموعة المسيحية الأولى، بسبب إنكار تلاميذه وحوارييه - وعلى رأسهم بطرس - لتلك الروايات، وشكهم فيها، وعدم إيمانهم بوجود أدنى صلة بين رسالة المسيح الحقة التي تلقوها من معلمهم، ولين فكرة القيامة من الأموات هذه التي صارت واحدة من ركائز العقائد المسيحية؛ من أجل ذلك تأخر الإعلان عن قيامة المسيح وظهوره سبعة أسابيع، فلم يذع خبرها بين عامة المسيحيين إلا بعد 50 يوماً، كما تقول رسالة الأعمال التي سطرها " لوقا " بعد أكثر من 60 عاماً من رفع المسيح. وإذا كان هذا هو مجمل حديث القيامة، كما سجلته الأناجيل، فمن الواجب ألا يغيب عن البال - كما يقول جورج كيرد: " إن أول شهادة عن القيامة لم تعطها الأناجيل، لكنها جاءت من رسائل بولس، وعلى وجه الخصوص رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (الإصحاح 15) التي كتبت قبل أقدم الأناجيل بعشر سنوات على الأقل. ففي هذا الإصحاح نجد بولس يقتبس تعليماً تسلمه من أولئك الذين كانوا مسيحيين قبله " (1) .   (1) تفسير إنجيل لوقا: ص255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ولقد رأينا أن ما تقوله الأناجيل عن صلب المسيح وما امتلأت به من اختلافات ومتناقضات يكفي لرفضها، وبالتالي كان ذلك مبرراً كافياً لرفض ما قام على الصلب وهو القيامة والظهور. ومع ذلك فلسوف نتجه إلى الأناجيل لنناقش من خلالها قضية القيامة والظهور بعناصرها الرئيسية: زيارة النساء للقبر: يقول مرقس: " بعد ما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنه. وباكر جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس وكن يقلن في أنفسهن من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر. فتطلعن ورأين الحجر قد دحرج لأنه كان عظيماً جداً. ولما دخلن القبر رأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء فاندهشن، فقال لهن لا تندهشن، أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب، قد قام، ليس هو ههنا هو ذا الموضع الذي وضعوه فيه، لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل، هناك ترونه كما قال لكم. فخرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن. ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات - 16: 1 -8 ". يقول نينهام: " إن الدافع المقترح لهذه الزيارة يدعو على أي حال إلى الدهشة. وإذا صرفنا النظر عن التساؤل الذي أثير (عمن يدحرج الحجر) فمن الصعب أن نثق في أن الغرض من زيارة النسوة كان دهان جسم إنسان انقضى على موته يوم وليلتان. إن أغلب المعلقين يرددون ما يقوله مونتفيوري من أن السبب الذي تعزى إليه هذه الزيارة غير محتمل البتة. . وفي الواقع نجد أنه حسب رواية القديس مرقس، فإن جسد يسوع لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 يدهن أبداً بعد الموت، خلافاً لما جاء في (يوحنا 19: 40) (الذي يقول: فأخذا - يوسف ونيقوديموس - جسد يسوع ولفاه بأكفان مع الأطياب، كما لليهود عادة أن يكفنوا) . . إن كثيرا من القراء سيتفقون في الرأي مع ما انتهى إليه فنسنت تيلور من أنه: من المحتمل أن يكون وصف مرقس محض خيال، إذ أنه يصور لنا في وصفه بما يعتقد أنه حدث " (1) . وقد انفرد متى بما ذكره عن طلب اليهود من الحاكم الروماني بيلاطس أن يرسل حراساً لضبط القبر، فاستجاب لهم " فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر ". بعد ذلك تكلم عن زيارة النساء للقبر بصورة مختلفة فقال: " وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر. وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج. . فأجاب الملاك وقال للمرأتين لا تخافا. . اذهبا سريعاً قولا لتلاميذه إنه قام من الأموات. . فخرجتا سريعاً من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه " (28: 1 - 8) . ويقول جون فنتون: " إن حدوث الزلزلة، ونزول الملاك من السماء، ودحرجة الحجر بعيداً، وخوف الحراس، كلها إضافات من عمل متى. . كذلك نجد في إنجيل مرقس أن النساء لا تطعن الرسالة، أما في متى فإنهن يطعنها (فيخبرن التلاميذ بالقيامة) " (2) .   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص443 -444. (2) تفسير إنجيل متى: ص449 -450. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ويقول لوقا: " في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهن أناس، فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر. فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع. وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة، وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض قالا لهن. . ليس هو ههنا لكنه قام، اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل، فتذكرن كلامه ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر الباقين بهذا كله. وكانت مريم المجدلية ويونا ومريم أم يعقوب والباقيات معهن اللواتي قلن هذا للرسل " (24: 1 - 10) . ويقول جورج كيرد: " إن قصة لوقا عن القبر الخالي تسير بمحاذاة مرقس، لكنها تختلف عنها في أربع نقاط: فبينما يذكر مرقس شاباً واحداً عند القبر، نجد لوقا يذكر رجلين. وحسبما جاء في (مرقس 16: 17) قيل للنسوة: اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه كما قال لكم - لكن لوقا يشير بدلا من ذلك إلى تعليم سبق إعطاؤه في الجليل. ذلك أنه حسب مصدر المعلومات الذي استقى منه لوقا فإن ظهور (المسيح) بعد القيامة لم يحدث في الجليل، لكنه حدث فقط في أورشليم وما حولها. كذلك نجد حسب رواية مرقس أن النسوة قد حملن برسالة فشلن في توصيلها لأنهن كن خائفات، بينما يخبرنا لوقا أنهن قدمن تقريراً كاملًا عما رأينه وسمعنه إلى التلاميذ الآخرين. وأخيراً فإن قائمة الأسماء مختلفة، إذ أن لوقا يذكر يونا بدلا من سالومي التي ذكرها مرقس " (1) .   (1) تفسير إنجيل «لوقا» : ص 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 أما رواية يوحنا عن القيامة فإنها مختلفة عما روته الأناجيل الثلاثة في عناصرها الرئيسية، ذلك أن يوحنا يقول: " في أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً والظلام باقٍ، فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر. فركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه. فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيا إلى القبر. وكان الاثنان يركضان معاً. فسبق التلميذ الآخر بطرس وجاء أولا إلى القبر. وانحنى فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل، ثم جاء سمعان بطرس يتبعه ودخل القبر ونظر الأكفان موضوعة والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان، بل ملفوفا في موضع وحده فحينئذ دخل أيضا التلميذ الآخر الذي جاء أولا إلى القبر ورأى فآمن، لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات. . أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجاً تبكي. . فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحد عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعاً " (20: 1 -10) . اختلاف الأناجيل في روايات الزيارة: من الواضح أن هناك اختلافا بين ما ترويه الأناجيل عن زيارة النساء للقبر وملابساتها كما يتضح مما سبق، بالإضافة إلى الآتي: 1 - يذكر مرقس أن توقيت زيارة النساء للقبر كان بعد طلوع الشمس، بينما يقول الآخرون أن الزيارة كانت قبل طلوعها - فهي في متى ولوقا عند الفجر، وفي يوحنا: والظلام باق ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 2 - يذكر مرقس أن الزائرات كن ثلاث نسوة، لكن متى يذكر اثنتين فقط، بينما يقول لوقا إنهن كن جمعاً من النساء، أما يوحنا فيجعل بطلة الزيارة هي مريم المجدلية بمفردها التي تذهب لتحضر معها بطرس ويوحنا (التلميذ المحبوب) . ولا يتفق كتبة الأناجيل على شيء من العناصر الرئيسية لقصة الزيارة قدر اتفاقهم على جعل مريم المجدلية في موضع الصدارة بين الزائرات، حتى أن يوحنا يجعلها الزائرة الوحيدة. ولذلك صارت مريم المجدلية - التي أخرج منها المسيح سبعة شياطين - هي المصدر الرئيسي لكل ما قيل عن قيامة المسيح من الأموات. 3 - وعند القبر رأت النساء شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء - حسب مرقس - بينما هو في متى " ملاك الرب. . وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج) ، أما في لوقا " رجلان بثياب براقة "، وفي يوحنا: " ملاكين بثياب بيض جالسين واحد عند الرأس والآخر عند القدمين ". هذا: ولقد أضاف الأستاذ إبراهيم خليل أحمد إلى ما سبق بيانه بخصوص قضية القيامة التي اختلفت فيها الأناجيل اختلافاً يكفي لرفض شهاداتها جميعاً، قوله: لقد انفرد إنجيل متى بقوله: " في الغد الذي بعد الاستعداد اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس: قائلين يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي إني بعد ثلاثة أيام أقوم - فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتي تلاميذه ليلًا وشرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من الأموات. فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فقال لهم بيلاطس عندكم حراس، اذهبوا واضبطوه كما تعلمون. فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر " (27: 62 -66) . ولذلك تكون الإجراءات التي تمت هي حراسة القبر وختم الحجر. وإذا صرفنا النظر عن كيفية دحرجة الحجر واختلاف الأناجيل فيها، فإننا نقرأ في متى بعد ذلك الآتي: " وفيما هما ذاهبتان (مريم المجدلية ومريم الأخرى) إذا قوم من الحراس جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان. فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاوروا وأعطوا العسكر فضة كثيرة، قائلين: قولوا إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام، وإذا سمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين. فأخذوا الفضة وفعلوا كما علموهم. فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم " (28: 11 -15) . من ذلك يتبين أن خصوم المسيح وهم رؤساء الكهنة والشيوخ وكذا الحراس لم يشاهدوا قيامة المسيح، ولم يشاهدوه بعد القيامة، لكن الشيء الوحيد الذي اتفقوا عليه هو وجود القبر - الذي قيل إنه دفن فيه - خالياً. وإذا رجعنا إلى قصة دانيال أثناء السبي البابلي لوجدنا نظيراً لقصة المقبرة التي وضع عليها حراس وسدت بحجر مختوم. فلقد حدث أن تآمر خصوم دانيال عليه ووشوا به عند الملك لأنه لا يتعبد له، إنما بتعبد للإله الواحد خالق الأكوان. آنذاك غضب الملك وأمر بوضع دانيال في جب الأسوُد، وقفله بحجر وختمه. وفي هذا يقول سفر دانيال: " قالوا قدام الملك إن دانيال الذي من بني سبي يهوذا لم يجعل لك أيها الملك اعتباراً. . فلما سمع الملك هذا الكلام اغتاظ على نفسه جداً. . حينئذ أمر الملك فأحضروا دانيال وطرحوه في جب الأسوُد. أجاب الملك وقال لدانيال إن إلهك الذي تعبده دائماً هو ينجيك. وأتى بحجر ووضع على فم الجب وختمه الملك بخاتَمه وخاتم عظمائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ثم قام الملك باكراً عند الفجر وذهب مسرعاً إلى جب الأسوُد. فلما اقترب إلى الجب نادى دانيال بصوت أسيف. أجاب الملك وقال لدانيال. يا دانيال عبد الله الحي هل إلهك الذي تعبده دائماً قدر على أن ينجيك من الأسوُد؟ فتكلم دانيال مع الملك، يا أيها الملك عش إلى الأبد. إلهي أرسل ملاكه وسد أفواه الأسوُد فلم تضرني لأني وجدت بريئاً قدامه وقدامك أيضا. أيها الملك لم أفعل ذنباً. حينئذ فرح الملك به وأمر بأن يصعد دانيال من الجب، فأصعد دانيال من الجب ولم يوجد فيه ضرر لأنه آمن بإلهه. فأمر الملك فأحضروا أولئك الرجال الذين اشتكوا على دانيال وطرحوهم في جب الأسوُد هم وأولادهم ونساءهم. ولم يصلوا إلى أسفل الجب حتى بطشت بهم الأسود وسحقت كل عظامهم " (6: 13 -24) . هنا حدثت المعجزة حقاً، إذ رفعت الأختام في وجود شهود عاينوا دانيال قائماً بينهم حيا، قد انتصر على الموت الذي كان ينتظره في فم الأسوُد، وشهد بذلك أعداء دانيال وأصدقاؤه على السواء. فلو كان المسيح هو ذلك الذي صلبوه، ثم وضعوه في القبر، ثم أقاموا عليه حراساً وختموه، لكان الأولى به حين يقوم من الموت - كما يدعون - أن يحدث ذلك على مرأى ومسمع من أعدائه قبل أصدقائه، حتى تتحقق المعجزة بشهادة الشهود، خاصة وأن المسيح مارس معجزاته كلها أمام الناس سواء المؤمنين به أو المكذبين له. أما أن توجد مقبرة خالية، فيقال إن المسيح الذي دفن فيها قد قام ولم يره أحد، فذلك شيء لا يقوم على أي أساس بسبب التضارب الواضح فيما ترويه الأناجيل عن القيامة التي تعتبر ركيزة من ركائز العقائد المسيحية والتي تفوق في أهميتها خروج دانيال حياً من جب الأسود آلاف المرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 هذا ويقول جون فنتون: " لقد كانت الكنيسة الأولى ترى في خروج دانيال حيا من جب الأسوُد نوعاً من المشابهة لقيامة يسوع. . كما يلاحظ أن متى غير قول مرقس أن المرأتين اشترتا حنوطاً: ليأتين ويدهنه، إلى قول آخر هو: لتنظرا القبر. ولعل السبب في ذلك هو أنه ما دام متى قد أدخل قصة ختم الحجر إلى روايته، فلا بد أن يقوم بهذا التعديل " (1) . وإذا كانت الكنيسة قد اعتبرت خروج دانيال من جب الأسوُد شبيهاً بقيامة المسيح، أما كان ضرورياً للإقرار بتلك المشابهة أن يتوافر العنصر الضروري والكافي لتحقيق الحدث، وهو شهادة الشهود من الأصدقاء والأعداء على السواء؟ وهو الشيء الذي اكتمل في قصة دانيال، وفقد تماماً في قصة المسيح. ونستطيع أن ندرك الآن قيمة هذه الفقرة المختصرة التي قررها أدولف هرنك: " إن هناك عدداً من النقاط مؤكدة تاريخياً منها: أن أحداً من خصوم المسيح لم يره بعد موته " (2) . نعم. . إن رؤية الخصوم قبل الأصدقاء هي دليل هام ومفقود كان من اللازم تواجده -أولا - عند كل من يؤمن بحديث القيامة. . ولسوف يبقى مفقوداً إلى الأبد. .   (1) تفسير إنجيل متى: ص448 -450. (2) تاريخ العقيدة: جـ1، ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الظهور لقد درجنا على أن نبدأ أولا بذكر ما يقوله إنجيل مرقس في مختلف الموضوعات التي نتعرض لها في هذه الدراسة، ثم نتبع ذلك بما تقوله بقية الأناجيل في ذات الموضوع. ويرجع ذلك لما هو متفق عليه من أن إنجيل مرقس يعتبر أقدم الأناجيل القانونية التي وصلتنا، بالإضافة لكونه المصدر الرئيسي الذي نقل عنه كل من متى ولوقا. وإذا طبقنا تلك القاعدة التي درجنا عليها، وبدأنا بما يقوله إنجيل مرقس عن ظهور المسيح بعد قيامته من الأموات فإننا نقول: يقول إنجيل مرقس: لا شيء. . . نعم: لا يقول إنجيل مرقس شيئا عن موضوع الظهور. ولسوف يسرع بعض القراء إلى النسخ التي في متناول أيديهم من إنجيل مرقس، بغية التثبت من حقيقة هذا الإدعاء الخطير، فيجدون خاتمة هذا الإنجيل - (الأعداد من 9 إلى 20) التي ينتهي بها الإصحاح السادس عشر - تتكلم عن ظهور المسيح لبعض الناس بعد فتنة الصلب وروايات القيامة. وهنا يحدث لبس تزيله الحقيقة الآتية: إن خاتمة إنجيل مرقس التي تتكلم عن ظهور المسيح - (الأعداد من 9 إلى 20) - ليست من عمل مرقس كاتب الإنجيل، ولكنها إضافات أدخلت إليه حوالي عام 180 م، أي بعد أن سطر مرقس إنجيله بنحو 120 عاماً، ولم تأخذ أي صورة قانونية إلا بعد عام 325 م. لقد أشرنا إلى هذا من قبل عند الحديث عن مشاكل إنجيل مرقس - ونضيف الآن قول نينهام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 " إنه على الرغم من أن هذه الأعداد (9 - 20) تظهر في أغلب النسخ الموجودة لدينا من إنجيل مرقس، إلا أن النسخة القياسية المراجعة مصيبة تماماً في اعتبارها غير شرعية، منزلة إياها من النص إلى الهامش. إن العالم الكاثوليكي الكبير " لاجرانج " واضح تماماً في قوله: إنه بالرغم من قانونيتها (أي أنها جزء من الكتاب المقدس) ، فإنها ليست قانونية بالمعنى الحرفي (أي ليست من عمل القديس مرقس) . وتقوم وجهة النظر التي تتطابق وآراء العلماء الآخرين على ثلاثة أسباب رئيسية هي: 1 - إن بعض أفضل النسخ من إنجيل مرقس تنتهي عند (16: 8) ، وبعض النسخ الأخرى تتفق معها في حذف الأعداد (9 - 20) ، لكنها تعطي بدلا من ذلك خاتمة (أخرى) . 2 - إن كبار العلماء في القرن الرابع مثل ايزييوس وجيروم يشهدون بأن هذه الأعداد كانت ساقطة من أفضل النسخ الإغريقية المعلومة لديهم. 3 - والأكثر حسماً من كل ما سبق هو أن أسلوب تلك الأعداد ومفردات اللغة التي كتبت بها يعطي أسلوب القرن الثاني، وهو شيء يختلف تماماً عما كتب به القديس مرقس. إن هذه الفقرة لا يمكن تحديد تاريخها بالضبط، ويمكن القول بأنها أصبحت تقبل كجزء من إنجيل مرقس حوالي عام 180 م " (1) . كذلك يقول جون فنتون: " على حسب معلوماتنا فإن إنجيل مرقس الذي كان بين يدي متى، قد انتهى عند (16: 8) ، وعلى هذا فإن ظهور يسوع للنساء في إنجيل (متى 28: 8) قد أضافه متى. وحسبما نعلم فإن إنجيل مرقس لم يحتو على أي روايات تتكلم عن ظهور الرب المقام من الأموات " (2) .   (1) تفسير إنجيل مرقس: ص449 -450. (2) تفسير إنجيل متى: ص449 -450. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 روايات الأناجيل: ومع ذلك فلسوف نذهب إلى نسخ إنجيل مرقس التي تتكلم عن ظهور المسيح فنجدها تقول: " وبعد ما قام باكراً في أول الأسبوع ظهر أولا لمريم المجدلية التي قد أخرج منها سبعة شياطين. فذهبت هذه وأخبرت الذين كانوا معها وهم ينوحون ويبكون، فلما سمع أولئك أنه حي وقد نظرته، لم يصدقوا. وبعد ذلك ظهر بهيئة أخرى لاثنين منهم وهما يمشيان منطلقين في البرية. وذهب هذان وأخبرا الباقين، فلم يصدقوا ولا هذين. أخيراً ظهر للأحد عشر وهم متكئون وويخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام " (16: 9 -14) . ولقد علمنا حسب رواية متى عن زيارة النساء للقبر، أن مريم المجدلية ومريم الأخرى قد حملها ملاك الرب رسالة يقول فيها: " اذهبا سريعاً قولا لتلاميذه إنه قد قام من الأموات. ها هو يتبعكم إلى الجليل ". وعندئذ خرجتا سريعاً من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه ". والآن نضيف قول متى: " وفيما هما منطلقتان لتخبرا تلاميذه إذا يسوع لاقاهما وقال " سلام لكما " فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له، فقال لهما يسوع: لا تخافا اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني. وأما الأحد عشر تلميذاً فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث أمرهم يسوع. ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكوا " (28: 9 -17) . هذا، وبعد أن ذكر لوقا ما روته النسوة من حديث القيامة للتلاميذ والرسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 نجده يتكلم عن الظهور فيقول: " وإذا اثنين منهم كانا منطلقين في ذلك اليوم إلى قرية بعيدة عن أورشليم. . وفيما هما يتكلمان ويتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته. فقال لهما ما هذا الكلام الذي تتطارحان به. . فقالا المختصة بيسوع الناصري الذي كان إنساناً نبيا مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. . ثم اقتربوا إلى القرية التي كانا منطلقين إليها وهو تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد. فألزماه قائلين امكث معنا. . فلما اتكأ معهما أخذ خبزا وبارك وكسر وناولهما فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما. فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم. وهم يقولون إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان. . وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم. فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم رأوا روحا. فقال لهم: ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم، انظروا يدي ورجلي إني أنا هو، جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. . فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدامهم " (24: 13 -43) . ويقول يوحنا إن مريم المجدلية كانت تبكي عند القبر، فقال لها الملاكان: " يا امرأة لماذا تبكين قالت لهما إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه. ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء فنظرت يسوع واقفاً ولم تعلم أنه يسوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قال لها يسوع: يا إمرأة لماذا تبكين. من تطلبين. فظنت تلك أنه البستاني فقالت له يا سيد: إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه. فقال لها يسوع يا مريم. فالتفتت تلك وقالت له ربوني - الذي تفسيره يا معلم - فقال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى: أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم. فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب وأنه قد قال لها هذا. ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط. فرح التلاميذ أنهم رأوا الرب. . أما توما أحد الاثني عشر. . فلم يكن معهم حين جاء يسوع. فقال له التلاميذ الآخرون قد رأينا الرب فقال لهم: إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع أصبعي في أثر المسامير وأضع يدي في جنبه لا أومن. وبعد ثمانية أيام كان التلاميذ أيضا داخلًا وتوما معهم فجاء يسوع والأبواب مغلقة ووقف في الوسط وقال: سلام لكم. . بعد هذا أظهر أيضا يسوع نفسه للتلاميذ على بحر طبرية. . لما كان الصبح وقف يسوع على الشاطئ ولكن التلاميذ لم يكونوا يعلمون أنه يسوع. . ثم جاء يسوع وأخذ الخبز وأعطاهم وكذلك السمك. هذه مرة ثالثة ظهر يسوع لتلاميذه بعد ما قام من الأموات " (20: 13 -26، 21: 1 - 14) . ملاحظات على روايات الأناجيل: لقد عرضنا ما ترويه الأناجيل الأربعة عن ظهور المسيح، وكلها روايات تسمح بإبداء الملاحظات الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 1 - اتفق مرقس ومتى ويوحنا على أن الظهور الأول كان من نصيب مريم المجدلية التي لم تعرفه وظنته البتساني، بينما أسقط لوقا تلك الرواية تماماً، وجعل الظهور الأول من نصيب اثنين كانا منطلقين إلى قرية عمواس. 2 - حدث الظهور للتلاميذ مرة واحدة في كل من مرقس ومتى ولوقا، بينما تحدث عنه يوحنا ثلاث مرات بصور مختلفة. 3 - اتفق مرقس ومتى على أن الظهور للأحد عشر تلميذاً حدث في الجليل، فاختلفا في ذلك مع لوقا ويوحنا اللذين جعلاه في أورشليم. 4 - وأخطر من ذلك كله هو اتفاق الأناجيل في هذه القضية على شيء واحد هو أن ذلك الذي ظهر لمريم المجدلية وللتلاميذ كان غريباً عليهم، ولم يعرفوه جميعاً وشكوا فيه، وهم الذين عايشوا المسيح وعرفوه عن قرب. كيف يقال بعد ذلك أن المسيح ظهر لمعارفه وتلاميذه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 تعليق الأستاذ إبراهيم خليل أحمد : هذا - ولقد أضاف الأستاذ إبراهيم خليل أحمد إلى ما سبق قوله: إن القضية الرئيسية في المسيحية هي قضية الغفران وأنه بسبب خطيئة آدم المتوارثة فإن البشرية كلها هالكة لا محالة ولذلك جاء المسيح ليفديها بنفسه، وكان قتله على الصليب - باعتباره ابن الله الوحيد - هو الثمن الذي ادعى بولس أنه دفع للمصالحة مع الله أو على حد تعبيره " صولحنا مع الله بموت ابنه " (رومية 5: 10) . ولكن إن صح ما قيل عن الخطيئة المتوارثة - وهو غير صحيح على الإطلاق ولا يتفق مع عدل الله ولا شرائعه ومنها شريعة موسى، فهل كان ضروريا تلك الرواية المأساوية التي تتمثل في قول المسيحية بقتل المسيح صلبا وسط صرخاته اليائسة التي كان يرفض فيها تلك الميتة الدموية؟ أما كان يمكن أن تحدث المغفرة دون سفك دم بريء، دم يرفض صاحبه بإصرار أن يسفك؟ لنرجع إلى إنجيل متى نجده يقول: " فدخل السفينة واجتاز وجاء إلى مدينته. وإذا مفلوح يقدمونه إليه مطروحا على فراش. فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوح: ثق يا بنى، مغفورة لك خطاياك. وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم هذا يجدف. فعلم يسوع أفكارهم فقال لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم. أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك. أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا. حينئذ قال للمفلوح قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك فقام ومضى إلى بيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فلما رأى الجموع تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا " (9: 1 -8) . لقد قال المسيح للمفلوح: " مغفورة لك خطاياك " ومغفورة اسم مفعول لفاعل تقديره الله سبحانه وتعالى لأن المخلوق لا يستطيع أن يغفر الخطايا، تماما كما يقول إنسان عن إنسان آخر متوفى: المغفور له، فهذا يعني أنه يرجو أن يغفر الله له. بل إن متى ينسب للمسيح قوله: " لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا ". فكأن الله - سبحانه وتعالى - منح المسيح أن يغفر الخطايا بكلمة منه: وبناء على ذلك فإن مغفرة خطايا البشر ليست في حاجة إلى عملية صلبه وقتله وكل ذلك العمل الدرامي المفجع الذي ضاعف الخطايا - لو كان قد حدث كما يزعمون - بدلا من أن يمحوها. وأكثر من هذا أن المسيح أعطى لبطرس - الذي وصفه بأنه شيطان والذي تقول الأناجيل إنه تبرأ من سيده في وقت المحنة وأنكره أمام اليهود - سلطانا أن يغفر الخطايا فقال له: " أعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات ". هل يستطيع الإنسان أن يغفر بكلمة ويعجز رب الإنسان عن مثل ذلك؟ أين عقول الناس التي يفكرون بها؟ لقد كتبت الأناجيل -كما علمتم - بعد عشرات السنين من رحيل المسيح ثم تعرضت للكثير من الإضافات والحذف. ولقد كان المسيح يعلم حقيقة من حوله وحقيقة الأدعياء الذين سيلتصقون باسمه وبرسالته ويزعمون أنهم رسله وتلاميذه رغم أنهم تلاميذ الشيطان الذي سيؤيدهم بعجائب وأضاليل تكون فتنة للناس. ولذلك قال كاتب إنجيل متى على لسانه: " ليس كل من يقول يا رب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب. أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين ولاسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرح لهم إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم -7: 21 -23 ". لقد لعب اسم الروح القدس دورا كبيرا في الدعوة باسم المسيح لدرجة أنهم لو وجدوا إنسانا يهذي فإنهم يقولون: قد امتلأ من الروح القدس. ولا شك أن المجرم هو أقدر من يدل على طرق الإجرام فإذا أردنا أن نحد من الجرائم علينا أن نأتي بجماعة من المجرمين ونتعرف منهم على أساليبهم ومن ثم نستطيع وضع الخطط اللازمة لمكافحة الإجرام. ونأتي الآن إلى شاول - بولس - نجده يقول في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس: " ولكن ما أفعله سأفعله لأقطع فرصة الذين يريدون فرصة كي يوجدوا كما نحن أيضا في ما يفتخرون به. لأن مثل هؤلاء هم رسل كذبة فعلة ماكرون مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح. ولا عجب لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور. فليس عظيما إن كان خدامه أيضا يغيرون شكلهم كخدام للبر، الذين نهايتهم تكون حسب أعمالهم. أقول أيضا لا يظن أحد أني غبي وإلا فاقبلوني ولو كغبي لأفتخر أنا أيضا قليلًا. الذي أتكلم به لست أتكلم به بحسب الرب بل كأنه في غباوة في جسارة الافتخار هذه - 11: 12 - 17 ". وعندما نأتي لفكر بولس في الصلب - مع إيماننا الكامل بأن المسيح لم يصلب على الإطلاق ولم يعلق على الصليب - نجده يقول: " المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة - غلاطية: 3 -13 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 كيف هذا أيها الناس؟ كيف يكون المسيح لعنة؟ وكأن المسيح كان يتحرز ضد بولس وأفكاره وتابعيه حين قال في إنجيل يوحنا: " هو ذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي " (16: 32 -33) . وهذا مخالف تماما لقول ذلك الذي علقوه على الصليب فصرخ يائسا يقول " إلهي إلهي لماذا تركتني ". إن هذا وحده كاف لإثبات عدم صلب المسيح. لقد كان هذا تعليقنا على فتنة الصلب وما ألحق به من روايات القيامة والظهور وسوف يكون موضوعي القادم هو الحديث عن البشارة بسيدنا محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في التوراة والإنجيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بولس حديثنا الآن عن بولس خاصة وقد علمنا لمحة عن فكر بولس وفلسفته لفكرة الصليب والفداء، وهي مسيحيته التي قام يبشر بها وجاءت مخالفة لمسيحية المسيح الحقة التي اتسمت بالمحبة والوداعة، خلافا لذلك العنف الدموي الذي اعتنقه بولس في مسيحيته الصليبية. ولسوف نرى كيف دخل بولس في المسيحية وكيف كان نتاج أفكاره، خاصة وأن هناك قاعدة معروفة تقول: إنك لا تجني من الشوك العنب. ولقد كان بولس - شاول - يهوديا واشتهر بعنفه في خصومته، بل بعدائه الشديد لأتباع المسيح ولم يكن له حظ من رؤية المسيح - ولو مرة واحدة - في حياته. يقول سفر أعمال الرسل: " أما شاول فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالا ونساء ويسلمهم إلى السجن 3: 8 ". " والشهود خلعوا ثيابهم عند رجلي شاب يقال له " شاول "، فكانوا يرجمون استفانوس وهو يدعو. . ثم جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم: يا رب لا تقم لهم هذه الحطية. وإذ قال هذا رقد وقد كان شاول راضيا بقتله " (أعمال الرسل 7: 58 -60، 8: 1 -3) . ثم أعلن بولس -فجأة - تحوله إلى المسيحية. . . إن تاريخ الديانات يشهد لكثيرين كانوا من ألد أعدائها وأعداء النبي والرسول الذي جاء يدعو لها ثم يتحولون إليها ويصيرون من خير دعاتها. لكن القاعدة الهامة والخطيرة التي شذ فيها بولس هي أنه لم يلتزم بالتعاليم الموجودة في العقيدة الجديدة التي تحول إليها -وهي المسيحية - لكنه اختص بتعليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 انفرد به وطفق يبشر به، واستطاع بوسائله الخاصة ومهاراته أن ينحي كل التلاميذ جانبا ويتصدر الدعوة إلى المسيحية بعد أن اكتسح الآخرين. ولنرى الآن ماذا يقول سفر أعمال الرسل عن قصة تحول بولس إلى المسيحية. يقول الإصحاح التاسع: " أما شاول فكان لم يزل ينفث تهددا وقتلًا على تلاميذ الرب. فتقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أناسا من الطريق رجالا ونساء يسوقهم موثقين إلى أورشليم. وفي ذهابه حدث أنه اقترب إلى دمشق فبغتة أبرق حوله نور من السماء فسقط على الأرض وسمع صوتا قائلًا له: شاول لماذا تضطهدني؟ فقال من أنت يا سيد. فقال الرب أنا يسوع الذي أنت تضطهده. . فقال وهو مرتعد ومتحير يا رب ماذا تريد أن أفعل. فقال له الرب قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل. وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحدا - 9: 1 - 7 ". لكن الله - سبحانه وتعالى - دائما يبين الحق رحمة بالناس ولهذا نجد الإصحاح الثاني والعشرين من سفر أعمال الرسل يحكي قصة تحول بولس إلى المسيحية على لسانه شخصيا فيقول: " حدثت لي وأنا ذاهب ومتقرب إلى دمشق. . أبرق حولي من السماء نور عظيم. فسقطت على الأرض وسمعت صوتا قائلا لي: شاول شاول لماذا تضطهدني؟ فأجبت من أنت يا سيد. فقال أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده. والذين كانوا معي نظروا النور وارتعبوا ولكنهم لم يسمعوا الصوت الذي كلمني -22: 6 -9 ". من ذلك نتبين أن المسافرين: سمعوا الصوت ولم ينظروا النور حسب قول الإصحاح (9) ، بينما ذكر الإصحاح (22) عكس ذلك تماما فقال: نظروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 النور ولم يسمعوا الصوت. . هذه بداية دخول بولس إلى المسيحية وهي قصة مشكوك فيها تماما. . لقد دخل بولس المسيحية - وفق رواية خطؤها واضح تماما - ثم انطلق بتعليمه الخاص الذي أعلن فيه الاستغناء عن كل تعليم تلقاه تلاميذ المسيح من معلمهم بدعوى أنه تلقى تعليمه من المسيح مباشرة في تلك الرؤيا المزعومة. فهو يقول: " لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته، أن يعلن ابنه في لأبشر به بين الأمم للوقت لم أستشر لحما ودما ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل (التلاميذ) الذين قبلي، بل انطلقت إلى العربية ثم رجعت أيضا إلى دمشق. ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس فمكثت عنده خمسة عشر يوما. ولكني لم أر غيره من الرسل إلا يعقوب أخا الرب. والذي أكتب به إليكم هو ذا قدام الله إني لست أكذب فيه - غلاطية وهكذا بدأ بولس الدعوة إلى المسيحية وفق مفهومه الخاص لمدة ثلاث سنوات قبل أن يتعرف بتلاميذ المسيح الذين أسسوا الكنيسة الأم في أورشليم والذين كانوا المرجع في كل ما يتعلق بالمسيحية والدعوة إليها. ثم يقول بولس: " بعد أربعة عشر سنة صعدت إلى أورشليم مع برنابا آخذا معي تيطس أيضا. وإنما صعدت بموجب إعلان وعرضت عليهم الإنجيل الذي أكرز به بين الأمم ولكن بالانفراد على المعتبرين لئلا أكون أسعى أو قد سعيت باطلًا. فإن هؤلاء المعتبرين لم يشيروا على بشيء بل بالعكس إذ رأوا أني أؤتمنت على إنجيل الغرلة كما بطرس على إنجيل الختان " (غلاطية من ذلك يتضح: 2: 1 -8) . من ذلك يتضح: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 1 - أن قصة دخول بولس في المسيحية مشكوك فيها ولا يمكن الاعتماد عليها لما فيها من تناقضات صارخة. 2 - لم يعرف بولس عن المسيحية سوى الصلب وسفك الدم وأن هذا شيء أختص به. وأما غير ذلك من تعاليم المسيح فقد أهمله تماما فهو يقول: " أعرفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرت به إنه ليس بحسب إنسان. لأني لم أقبله من عند إنسان ولا علمته بل بإعلان يسوع المسيح " (غلاطية 1: 11 -12) . " لأني لم أعزم أن أعرف شيئا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبا " - (1) كورنثوس: 2: 2) . لقد بحث العلماء فكر بولس والتيارات التي أثرت فيه. وفي هذا يقول تشارلز دود: " لقد أوضحنا سلفا أن فكرة الكمنولث العالمي كانت شائعة في العالم الوثني وكانت روما في تأثرها بالمثل العالية للرواقيين - الذين قدموا في أيام بولس رئيسا لوزراء الإمبراطورية، وفي القرن التالي له اعتلى أحدهم عرش الإمبراطورية - فحاول تأسيس ذلك الكمنولث. ولقد تأثر بولس كأحد المواطنين الرومان بهذه الأفكار " (1) . لقد فكر بولس في انشاء كمنولث مسيحي يقوم على اسم واحد وعلامة واحدة هما المسيح والصليب. ولا مانع أن تكون فيه أفكار وديانات مختلفة. . ليكن ما يكون. . إن بولس يعترف في رسائله بأنه لم يتحرز عن استخدام كل الوسائل لكسب أكبر عدد من الأتباع فهو يقول: " إذ كنت حرا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين. فصرت لليهود كيهودي لأربح   (1) من كتاب: «ماذا يعنيه بولس لنا اليوم» ، ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 اليهود. وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس. . صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء. صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوما. وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل لأكون شريكا فيه " (كورنثوس 9: 19 - 23) . وهكذا نجد بولس قد عرض المسيحية على أصحاب العقائد المختلفة بالصورة التي ترضي كلًا منهم وترتب على ذلك أنهم دخلوا الديانة الجديدة بعقائدهم وأفكارهم القديمة وكان لهذا - ولا يزال - أثره الخطير في المسيحية. ولقد عرفنا من قبل أن برنابا هو الذي قدم بولس إلى التلاميذ لكن الذي حدث بعد ذلك أن أزاح بولس برنابا من تصدر الدعوة إلى المسيحية. يقول سفر أعمال الرسل: " فحصل بينهما مشاجرة حتى فارق أحدهما الآخر " (15: 39) . ولم يلبث بولس أن تشاجر مع بطرس - رئيس التلاميذ - ونحاه أيضا فهو يقول: " لما أتى بطرس إلى أنطاكية قاومته مواجهة " غلاطية 2: 11) . ومن المؤكد أن بولس لم يعلم قدر بطرس الذي أعطاه المسيح التفويض أن يحل ويربط كما يشاء والذي عينه راعيا لتلاميذه. . . ولا داعي للحديث عن رسائل بولس فهي رسائل شخصية بحتة يقول في بعضها: ليس عندي أمر من الرب ولكني أعطى رأيا (اكو: 7: 25) 0 أو يقول: أظن أني أنا أيضا عندي روح الله (أكو 7: 40) . أو يقول: لست أقول على سبيل الأمر بل أعطي رأيا (أكو 7: 6) . وهكذا من مثل هذه الأمور الظنية التي لا تصلح إطلاقا لبناء عقيدة. كذلك تنتهي رسائله بالحديث عن السلام وبث القبُلات المقدسة للرجال والنساء على السواء مثل قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 سلموا على تريفينا وتريفوسا التاعبتين في الرب. . (رومية 16: 12) . سلموا على برسيس المحبولة التي تعبت كثيرا في الرب. . (رومية 16 -12) . سلموا بعضكم على بعض بقبُلة مقدسة. . (رومية 16: 16) . إن مسيحية بولس تقوم أساسا على فكرة الإله المخلص المقتول، ولقد كانت الديانات التي شاعت في العالم الروماني في ذلك الوقت مثل ديانات إيزيس وميثرا وسيبل تقوم على نفس هذه الفكرة. ولهذا يقول مؤرخو الديانات إن التشابه ملحوظ بين المسيحية وتلك الديانات. يقول: هربرت فيشر في كتابه " تاريخ أوروبا ": " استدار العالم الروماني بشغف زائد إلى عبادات الشرق الملتهبة مثل عبادات إيزيس وسيرابيس وميثرا. . إن عباد إيزيس المصرية وسيبل الفريجية وميثرا الفارسي اشتركوا في معتقدات كثيرة وجدت في النظام المسيحي. لقد اعتقدوا في اتحاد سري مقدس مع الكائن الإلهي إما عن طريق اقتران خلال الشعائر أو بطريقة أبسط عن طريق أكل لحم الإله في احتفال طقسي. . لقد كان الإله الذي يموت بين العويل والمراثي بيد أنه يقوم ثانية وسط صيحات الترحيب والسرور، من الملامح الرئيسية في هذه العبادات الشرقية الغامضة. . إن عبادة إيزيس قد نظمت بطريقة تماثل تماما ما في الكنيسة الكاثوليكية. لقد كان هناك تنظيم كهنوتي مماثل مكون من البابا مع القسس والرهبان والمغنين وخدم الكنيسة. وكانت صورة السيدة ترصع بجواهر حقيقية أو مزيفة وكانت زينتها تعمل كل يوم كما كانت صلاة الصبح وأغاني المساء تغنى في معابدها الرئيسية. وكان الكهنة حليقي الرؤوس ويلبسون ملابس كهنوتية بيضاء من الكتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 إن التحول من الوثنية إلى المسيحية لم يكن يعني الدخول في جو غريب كلية، أو ممارسة ثورة فجائية. لقد كانت عملية التحول تتم بلطف. . وكانت طقوس العقيدة الجديدة استرجاعا للأسرار القديمة. فقد كانت عقيدة الوسيط مألوفة في معتقدات الفرس وأتباع الأفلاطونية الحديثة وكانت فكرة التثليث معتقدا دينيا شائعا تنبع أساسا مما تعارفوا عليه من أن العدد ثلاثة هو العدد الكامل " (1) . ويقول أرنست كيللت في كتابه " مختصر تاريخ الديانات ": إن أوجه التشابه المحيرة بين شعيرة التعميد (المسيحية) - على سبيل المثال - وبين طقوس التطهير في ديانة أتيس وأدونيس لتصدم كل دارس. لقد أظهرت الديانة المسيحية قدرة ملحوظة في جميع العصور على الأخذ لنفسها ما يناسبها من الديانات الأخرى. ولسوف أعطي هنا ملخصا لأسطورة أتيس وطقوس عبادته لأن هذا لم يؤثر فقط بعمق في المسيحية بل لأنه كان منتشرا في أغلب الإمبراطورية الرومانية. لقد حدثت قيامة أتيس في يوم الخامس والعشرين من مارس بدء الربيع وهو نفس اليوم الذي قام فيه المسيح من الأموات حسب أقوال كثير من المسيحيين. . كذلك فإن التشابه بين الطقوس السرية لديانة ميثرا والمسيحية مذهلة. إن المثرية لها طقوسها المتعلقة بالعشاء الرباني ومن الصعب التفريق بينها ولين ما في عقيدتنا المسيحية، ولها احتفالات تماثل احتفالات عيد الميلاد ولها عيد القيامة " (2) .   (1) من كتاب: «تاريخ أوروبا» ، ص102 - 115. (2) من كتاب: «مختصر تاريخ الديانات» ، ص130 - 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 تعقيب الدكتور محمد جميل غازي: هذا ولقد عقب الدكتور محمد جميل غازي بقوله: إن المسألة أصبحت من الوضوح بحيث لا بد من الإقرار بأن تسمى الديانة المسيحية الديانة البوليسية. فهي تنسب بحق لبولس وليس للمسيح عليه السلام. كذلك من المفيد معرفة أن الفاتيكان يعترف بموقف بولس من المسيحية وعدم حرصه عليها. فقد جاء في كتاب نشره الفاتيكان سنة 1968 م بعنوان: " المسيحية عقيدة وعمل " ما يلي في صفحة (50) : " كان القديس بولس منذ بدء المسيحية ينصح لحديثي الإيمان أن يحتفظوا بما كانوا عليه من أحوال قبل إيمانهم بيسوع ". إن هذا الإقرار الخطير يتفق وكل ما قاله اللواء أحمد عبد الوهاب عن بولس والمسيحية. والآن أقدم الأستاذ إبراهيم خليل أحمد ليقول لنا شيئا عن فطيرة القربان والعشاء الرباني الذي كان معمولا به في الديانات الوثنية القديمة. إضافات للأستاذ إبراهيم خليل أحمد: وهنا قال الأستاذ إبراهيم خليل أحمد: جاء في إنجيل (لوقا إصحاح 22) (وفي الأناجيل الأخرى أيضا) ما نصه: " ولما كانت الساعة اتكأ والاثنا عشر رسولا معه. وقال شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم. لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد حتى يكمل في ملكوت الله. ثم تناول كأسا وشكر وقال خذوا هذه واقتسموها بينكم لأني أقول لكم إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله. وأخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قائلًا هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري. وكذلك الكأس أيضا بعد العشاء قائلًا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم. ولكن هو ذا يد الذي يسلمني هي معي على المائدة. وابن الإنسان ماض كما هو محتوم. ولكن ويل لذلك الإنسان الذي يسلمه " (لوقا 22: 14 -22) . من الملاحظ أن الأيام الأخيرة من حياة المسيح كانت مزدحمة بالقلق والرعب وكان المسيح حقيقة في أيامة الأخيرة ثابتا لكل الضغوط دون أن يتأثر بتلك القلاقل لأنه كان واثقا تمام الثقة أن الله - سبحانه وتعالى - سوف ينجيه. لكن عندما نأتي حقيقة لتفسير هذا الكلام. فإني أقول في صراحة متناهية: من هو المصدر الأساسي لهذا النص؟ إن هناك نصا في سفر أعمال الرسل يمنع الدم: " بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام والزنا والمخنوق والدم " (20: 15) . فإذا كان ينهى عما ذبح للأصنام والدم فكيف يقال: " هو ذا دمي. . اشربوه ". إن هذه وثنية منقولة من وثنية العبادات التي كانت متفشية في الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت. إن مصدر هذا النص أو إيحاءه إنما يرجع إلى تلك الوثنية المتفشية مثل المثرية الفارسية وكان من طقوسها العشاء الرباني، وكان منها يوم 25 ديسمبر يوم الميلاد ويوم الأحد يوم الراحة. . كل هذه وثنية فارسية في عبادة ميثرا ثم غيرت اللافتة من ميثرا إلى المسيح. أما أن نؤمن بشريعة موسى التي تمنع الإنسان المؤمن عن الدم وبذلك تكون هذه العادة باطلة. . لأنه لا يعقل أن يقول المسيح " كلوا جسدي هذا واشربوا دمي هذا. . . " لسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 هو أن المسيح تحدى اليهود قائلا: " ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ". فهو يتحداهم ويؤكد عجزهم عن الوصول إلى المسيح بدليل قوله في إنجيل (يوحنا إصحاح 8 عدد 28) : " فقال لهم يسوع متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو ولست أفعل شيئا من نفسي بل أتكلم بهذا كما علمني أبي والذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه ". إن قصة الصلب منقوضة من أساسها تماما. . كذلك فإن الذي صلب هو شبيه بابن الإنسان إذ يقول إنجيل يوحنا على لسان المسيح إصحاح 3 عدد 14: " وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان ". وكانت الحية التي رفعها موسى شبيهة بالحية الحقيقية. فبالمقارنة نقول: كما رفع موسى شبيه الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع شبيه ابن الإنسان. وعلى هذا الأساس نقول إن النص الذي يتكلم عن أكل جسد المسيح وشرب دمه إنما هو نص مقتبس من المصادر الوثنية المتفشية في الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت. لقد كان المسيح آمنا على نفسه وبالتالي كان جسده سليما ودمه سليما. وأنا - كقسيس سابق - لا أقدر أن أتصور أن كسر لقمة وإعطائها لأخ - في العقيدة - يضعها تحت أسنانه تتحول إلى جسد المسيح، ويشعر أن لحما تحت أسنانه. .! ما أريد قوله هو بيان كيف استطاع بولس إفساد المسيحية. لقد قال المسيح: " ما جئت لأنقض شريعة موسى " وتجد في سفر التكوين إصحاح 17 عدد 9 في حديث الله -سبحانه وتعالى - لأبينا إبراهيم: " وقال الله لإبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وأما أنت فتحفظ عهدي. أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يختن منكم كل ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم. . وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي ". (17: 9 -14) . ونجد أن إبراهيم حين ختن كان عمره 100 سنة تقريبا وكان ابنه البكر إسماعيل عمره 14 سنة، فهذا إبراهيم بقدره الجليل وابنه إسماعيل وبقية الخدم والعبيد اختتنوا جميعا. فكيف يأتي بولس بعد هذا ليبطل الختان؟ لقد كان بولس إنسانا مشكوكا فيه من التلاميذ والرسل لولا برنابا الذي تحنن عليه وقدمه لهم لكنهم جميعا كانوا يخافونه. وكان بولس من الصنف الوصولي الذي يطمع في الوصول إلى القمة حتى إذا ما وصل فإنه يتخلص من كل من خلفه. لقد أراد بولس أن يخرج بالرسالة من اليهودية إلى الأمم علما بأن المسيح لم يأمر بهذا لأن الرسالة كانت محدودة في بني إسرائيل. ولما كانت الأمم غير مختتنة فإنه لجأ إلى أول مجمع هاجم فيه الختان وقال إن الختان ختان القلب، كمن يقول للمسلم إنك تستطيع دخول الصلاة بلا وضوء. فهذا إفساد للصلاة إذ قد هدم الأساس التي يجب السير عليها لإقامة الصلاة. وقد استطاع التأثير على الحاضرين، فنقرأ في سفر أعمال الرسل إصحاح 15 عدد 22: " حينئذ رأى الرسل والمشايخ مع كل الكنيسة أن يختاروا رجلين منهم فيرسلوهما إلى أنطاكية مع بولس وبرنابا يهوذا الملقب برسابا وسيلا رجلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 متقدمين في الإخوة. وكتبوا بأيديهم هكذا. الرسل والمشايخ والإخوة يهدون سلاما إلى الإخوة الذين من الأمم في أنطاكية وسورية وكيليكية. إذ قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مقلبين أنفسكم وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس. الذين نحن لم نأمرهم. رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا ويولس، رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح. فقد أرسلنا يهوذا وسيلا وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها. لأنه قد رأى الروح القدس ونحن لا نضع عليكم ثقلا أكثر غير هذه الأشياء الواجبة. أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنا التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعما تفعلون. كونوا معافين " (15: 22 -29) . هكذا صار الروح القدس لعبة في أفواههم فقد أمرهم ألا يختتنوا. . بهذا حطم بولس شريعة موسى تحطيما كبيرا. . وبالنسبة للطلاق نجد شريعة موسى تسمح بالطلاق كما في سفر التثنية، لكن بولس يعمل على إشاعة الفاحشة بين الناس. فإذا كانت امرأة على خلاف مع زوجها فإنه يأمرها بعدم الطلاق. وهكذا وجد فساد في المجتمع حيث تضطر الزوجة إلى سلوك خفي مشين. وأريد أن أسأل الآن: لماذا رفضت الكنيسة إنجيل برنابا؟ . . لأن برنابا في إنجيله بين بقوة ووضوح كيف أفسد بولس المسيحية وحولها إلى نصرانية يونانية، ومن عقيدة تؤمن بالتوحيد وهو أن الله واحد أحد، إلى عبادة ابن الله على شاكلة أوزوريس وإيزيس وحورس. وأكتفي بهذا القدر الآن وأترك الأخ يكمل حديثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقد عاد اللواء أحمد عبد الوهاب ليكمل حديثه قائلًا: " اعترافات بولس بخطاياه "! وأخيرا نختتم الحديث عن بولس بنقل اعترافه بخطاياه الجسدية التي عجز عن الفكاك منها والتي جعلته واحدا من سبايا الخطيئة. ولقد أثبت باعترافه هذا - دون أن يدري - أن الزعم بصلب المسيح وقتله، الذي عاش بولس يفلسفه ويدعو له، قد ذهب سدى. فلا زال بولس باعترافه عبدا للخطيئة، وثمنها عنده موته الأبدي. إن بولس يقول: " فإننا نعلم أن الناموس روحي وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطيئة. لأني لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فأنا أفعل. . فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطيئة ساكنة فيً. فإني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل. فإن كنت ما لمست أريده إياه أفعل فلست بعد أفعله أنا بل الخطيئة الساكنة في. إذا أجد الناموس لي حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندي. فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن. ولكني أرى ناموسا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي. من ينقذني من جسد هذا الموت؟ . . " (رومية 7: 14 -24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 دين المسيح كان التوحيد : والآن بعد أن انتهينا من دراسة مصادر العقائد المسيحية من أناجيل وأسفار أخرى، ورأينا كيف جاءت هذه لتصير كتبا مقدسة، وماذا قال فيها علماء المسيحية، ثم ماذا حوت من تنبؤات استحال تحقيقها، ومن اختلافات وتناقضات وخاصة في القضايا الرئيسية مثل الصلب والقيامة والظهور، فإن السؤال الذي نختتم به هو: ماذا كانت حقيقة دين المسيح؟ إن المصادر المسيحية الموثوق فيها لا تملك سوى الإقرار بأن دعوة المسيح كانت توحيد الله، ثم ما لبثت أن دخل عليها صنوف من عقائد أهل الشرك حتى إذا ما جاء القرن الرابع الميلادي كانت عقيدة التثليث المسيحي واحدة من نتاج ما يسمى بالمجامع المسيحية المقدسة. إن هذا مجمل ما تذكره دائرة المعارف الأمريكية في قولها: " لقد بدأت عقيدة التوحيد - كحركة لاهوتية - بداية مبكرة جدا في التاريخ، وفي حقيقة الأمر فإنها تسبق عقيدة التثليث بالكثير من عشرات السنين. لقد اشتقت المسيحية من اليهودية، واليهودية صارمة في عقيدة التوحيد. إن الطريق الذي سار من أورشليم (مجمع تلاميذ المسيح الأوائل) إلى نيقية (حيث تقرر مساواة المسيح بالله في الجوهر والأزلية عام 325 م) كان من النادر القول بأنه كان طريقا مستقيما. إن عقيدة التثليث التي أقرت في القرن الرابع الميلادي لم تعكس بدقة التعليم المسيحي الأول فيما يختص بطبيعة الله. لقد كانت على العكس من ذلك انحرافا عن هذا التعليم. ولهذا فإنها تطورت ضد التوحيد الخالص أو على الأقل يمكن القول بأنها كانت معارضة لما هو ضد التثليث كما أن انتصارها لم يكن كاملًا " (1) .   (1) دائرة المعارف الأمريكية: جـ 27 - ص 294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 لقد كانت عقيدة المسيح توحيدا نقيا، ثم بدأ يتسرب إليها من العقائد المختلفة وخاصة العقائد الوثنية في العالم الروماني ما صبغها بالتثليث، فأصبحت المسيحية التقليدية الشائعة هي مسيحية الثالوث. ولكن لا يزال يوجد إلى اليوم طائفة هامة وقوية من بين الطوائف المسيحية المشهورة هي طائفة " الموحدين "، وقد أصبحت ظاهرة اليوم في الولايات المتحدة. ويتلخص قول الموحدين المسيحيين في: " لا إله إلا الله - المسيح رسول الله " إنسان فقط. وفيما يلي خلاصة مركزة لبعض مبادئ الفكر التوحيدي المسيحي: 1 - إن كنيسة الموحدين تعتبر الكتاب المقدس تسجيلًا قيما للخبرات الإنسانية وهي تصر على أن كاتبيه كانوا معرضين للخطأ. ولهذا السبب فإن أغلب الأجزاء الرئيسية للمعتقدات المسيحية قد رفضت. 2 - إن الثلاثة أقانيم تتطلب ثلاثة جواهر وبالتالي ثلاثة آلهة. . إن الأسفار لم تعط أي مستند للاعتقاد في التثليث. إن نظام الكون يتطلب مصدرا واحدا للشرح والتعليل لا ثلاثة. لذلك فإن عقيدة التثليث تفتقد أي قيمة دينية أو علمية. 3 - لقد قدمت اعتراضات قوية ضد عقيدة لاهوت يسوع المسيح. إن الكتاب المقدس لم يقل بذلك، كما أن يسوع فكر في نفسه كزعيم ديني هو المسيا وليس كإله. وبالمثل اعتقد التلاميذ أن يسوع مجرد إنسان، إذ لو كان عند أي من بطرس أو يهوذا أية فكرة على أن يسوع إله لما كان هناك تفسير معقول لإنكار بطرس ليسوع وما كان هناك تبرير لخيانة يهوذا. إن الإنسان لا يمكن أن ينكر أو يخون كائنا إلهيا له كل القوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 4 - إن الحقيقة المزعومة عن أن يسوع مات من أجل خطايانا وبهذا وقانا لعنة الله إنما هي مرفوضة قطعا. إن الاعتقاد في أن موت يسوع كان له هذه النتيجة إنما يعني الطعن في أخلاق الله. إن الله يجب ألا يعرف عن طريق اللعنة بل عن طريق الحلم والحكمة والمحبة. . إن الموت الدموي على الصليب من أجل إطفاء لعنة الإله لهو أمر مناقض للحلم الإلهي والصبر والود والمحبة التي لا نهاية لها. 5 - إن الموحدين ينظرون إلى يسوع باعتباره واحدا من قادة الأخلاق الفاضلة للبشر. إنه لو كان إلها فإن المثل الذي ضربه لنا بعيشته الفاضلة يفقد كل ذرة من القيمة. حيث إنه يمتلك قوى لا نملكها. إن الإنسان لا يستطيع تقليد الإله " (1) . كلمة إلى المبشرين : وقبل أن أختتم هذا الحديث لا بد لي من كلمة أوجهها إلى المبشرين - وخاصة الأجانب - الذين يعملون في البلاد الإسلامية: " أيها المبشرون. . . ارفعوا أيديكم عن المسلمين. . أولى بكم أن تحملوا أمتعتكم وصحائفكم وتعودوا بها إلى بلادكم فلم تعد مثل بضاعتكم هذه صالحة للترويج والبيع بين المسلمين. . إنكم تعلمون أكثر من غيركم ما آلت إليه المسيحية عقيدة وأخلاقا بل ومظهرا. . فلم يعد يبقى منها - تقريبا - سوى اسمها.   (1) دائرة المعارف الأمريكية، جـ27، ص300 -301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فالأولى بمن تصدع بيته أن يقيم بناءه أولا ويصلح ما فسد منه قبل أن يخرج إلى العالم يدعوه - كما تزعمون - إلى الخلاص والإيمان. . أولى بكم أن تتفقوا على عقيدة مسيحية واحدة تقوم على الإيمان بالإله الواحد الأحد الذي كان آخر وحي أنزل إلى موسى قوله: " حي أنا إلى الأبد " (تثنية 32: 40) ، ولقد ألزمكم المسيح بعقيدة موسى كما التزم هو بها وسجل ذلك كتبة الأناجيل. . وما من سبيل لإزالة الشقاق بين فرقكم وشيعكم المختلفة إلا هذا: الإيمان بالإله الواحد الحي الذي لا يموت، ثم الكف عن الخلط بين الله وبين المسيح كما قال بعض علماؤكم وجاء ذكره في أول هذا الحديث. . عندئذ - فقط - يمكن القول بأن المسيحية عقيدة تؤمن بالله الواحد. . أما وإن الحال على ما أنتم عليه حيث: " يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا " على مر السنين والأيام فإن عملكم بين المسلمين لردهم عن عبادة الله الواحد الأحد ودعوتهم إلى الأقاليم التي اقتحمت مسيحية المسيح الحقة الفاضلة بعد أن تسللت إليها أقنوما أقنوما عبر تلك المجامع المختلفة والمتعاقبة، فإن هذا الوضع يذكرني بقول المسيح في الإنجيل: " ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلا واحدا ومتى حصل تصنعونه ابنا لجهنم أكثر منكم مضاعفا. . ". وإن دعوتكم المسلمين إلى المسيحية لتذكرني بموقف الملأ من قوم فرعون وذلك المؤمن بينهم الذي كان يكتم إيمانه. فلقد أخرسهم بحجته القوية قائلًا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} (1) . أيها المبشرون: لقد انكشفت خططكم لتنصير المسلمين وافتضحت أساليبكم للعمل بينهم، وإذا كان رق الجسد شيئا بغيضا فإن رق الروح لأشد بغضا وأكبر مقتا. إنكم تمارسون رق الروح حين تقدمون مساعدتكم المادية لفقراء المسلمين - متمثلة في حفنة من الأرز كما تفعلون في أندونيسيا - وذلك بشرط قبولهم للمسيحية التي تفرضونها عليهم. . سبحان الله. . لقد قتلتم بهذا أول حقوق الإنسان إذ حرمتموه حرية الاختيار. . . وأي رق أفظع من هذا؟ ولقد بلغ الهوس ببعضكم أن قال منذ أكثر من 70 عاما - حين كان الاستعمار القديم جاثما على صدر العالم الإسلامي كله - إن الواجب على الهيئات التبشيرية أن تنتهي من تنصير المسلمين في مدى 25 عاما. . . والحمد لله لقد انقضت نحو ثلاثة أمثال تلك المدة ولقي الإسلام قولا صامدا. بل إن السنوات الأخيرة قد شهدت - بفضل الله وحده - تحول الكثير من الأوروبيين والأمريكيين إلى الإسلام بسهولة وعن اقتناع ورضى وذلك بعد أن احتكوا بالعالم الإسلامي وعرفوا شيئا عن ذلك الدين الذي حرصتم دائما على تشويهه بكل ما أوتيتم من قوة. . .   (1) سورة غافر، الآيات 41 - 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 نعم. . لقد كان همكم - كما قال برنارد شو - هو تدريب المسيحيين على كراهية محمد والقرآن والإسلام. ولقد انتهزتهم كل خطأ أو تصرف أحمق يصدر عن بعض من في العالم الإسلامي سواء كانوا أفرادا أو جماعات، لتقولوا هذا هو الإسلام. . رغم أنكم أول من يعلم كذب هذا القول، لأن الإسلام شيء والمسلمين وسلوكهم وما هم عليه من ضعف الآن شيء آخر بعيد عن الإسلام. إنكم تعلمون يقينا أن هناك حضارة إسلامية قامت على نصوص القرآن وتعاليم النبي وروح الإسلام التي تدعو إلى العلم وتحرير الفكر والنظر في الكون، فانتشرت المدارس وحلقات العلم ونبغ العلماء في شتى فروعه مثل: الطب والفلك والرياضيات والطبيعيات والكيمياء والصيدلة. ولا يزال إدخال الصفر في الحساب واكتشاف خاصية اللوغاريتم - الذي لا يزال اسمه يشير إلى مصدره الإسلامي وهو الخوارزمي - من أعظم الإنجازات في عالم الرياضيات، كما اعترف بذلك أولو الفضل والعلم من الأوروبيين والأمريكيين. هذا، على حين أن الحضارة الغربية الحديثة لم تقم لها قائمة إلا بعد أن تحررت من سلطان الكنيسة - التي أحرقت العلماء ومنهم برونو لا لشيء إلا لأنه قال إن الأرض كروية - ثم أخذت علوم المسلمين واهتدت بأساليبهم في البحث والتجريب ومن ثم كانت هذه النهضة الأوروبية الحديثة. ولا أريد أن أذكركم أنه بينما كانت الحضارة الإسلامية تتألق في عصر هارون الرشيد كان معاصره شارلمان - سيد أوروبا - مشغولا بتنصير الوثنيين الأوروبيين بحد السيف. ويكفي أن أذكر ما تقوله وثائقكم التبشيرية من أنه قتل في يوم واحد 4500 وثنيا رفضوا التعميد والتحول للنصرانية، وكانت المعاهدات بينه وبينهم تقضي بالتنصير وإلا فالقتل هو البديل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ويعد شارلمان سحبت الكنيسة بعضا من طوائف الفرسان الصليبية من فلسطين - أيام الحروب الصليبية - ليساعدوا في تنصير شعوب بحر البلطيق بحد السيف، ولقد استمروا في العمل هناك طيلة 50 عاما نظير ثمن حددته الكنيسة وهو الاستيلاء على أراضي أولئك الوثنيين ثمنا لإعطائهم المسيحية. . . هذا، بل إن أساسيات العلوم الذرية الحديثة قد جاءتكم من العالم الإسلامي. . أما قرأتم قول جون أونيل في كتابه " الذرة الجبارة " الذي أصدره عام 1945 م، وجاء فيه: " إن إحدى النقط المتلألأة في القرون الوسطى تأتي من العالم الإسلامي حيث نجد ما سطره قلم علي أبو الحسن - صهر محمد - الذي كتب يقول: إذا فلقت الذرة - أي ذرة - تجد في قلبها شمسا. إن هذا يدل على أن بصيرته الصافية قد استطاعت أن تلمح حقيقة النظام الشمسي الحديث في الذرة ". وجدير بالذكر أن عليَا بن أبي طالب قرر أن كل ما عنده من علم فهو " علم علمه الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - فعلمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتنضم عليه جوانحي ". لقد كانت فكرة النظام الشخصي في الذرة متأصلة في التراث الإسلامي فها هو فريد الدين العطار يقول بعد خمسة قرون من مقالة علي هذه: " الذرة فيها الشمس. . وإن شققت ذرة وجدت فيها عالما. وكل ذرات العالم في عمل لا تعطيل فيه ". لقد قامت النظرية الذرية الحديثة وما ترتب عليها من تطبيقات في مجال الحرب والسلم على السواء، على أساس أن الذرة نظام شمسي -. فمتى عرفت أوروبا هذه النظرية؟ يلخص العالم الطبيعي هيزنبرج الإجابة على هذا السؤال بقوله: " ظلت الذرة كما كان يؤمن بها ديمقراط ذات حجم ذرات الغبار المتراقصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 في حزمة ضوئية أو أقل بكثير، وبالتالي كانت المعلومات عن شكل الذرات والقوى التي تعمل بينها قليلة. إن ما عرف عن تركيب الذرة كان قليلًا أو معدوما أما شكلها فلم يكن التساؤل عنه أمرا ممكنا وقد ادخر حل هذه المسألة للقرن العشرين ". " ويعتبر رذر فورد هو الذي اتخذ هذه الخطوة الهامة التي أدت إلى تركيب أول نموذج للذرة عام 1911 م، وهو أن الذرة تتركب من نواة ذات شحنة موجبة وتدور حولها إلكترونات على مسافات بعيدة نسبيا عنها، وأن عدد الإلكترونات يساوي عدد الشحنات الأولية الموجبة التي على النواة إذ أن الذرة متعادلة كهربيا في تركيبها ". إن الذرة بذلك نظام شمسي حيث تماثل نواتها الشمس بينما تماثل الإلكترونات السابحة حول النواة تلك الكواكب السيارة التي تسبح حول الشمس. . ولقد ذكر العالم الألماني أوتوهان صاحب انفلاق نواة اليورانيوم قوله: " بالتأكيد فإن بعض الكتاب قد فكروا في هذه المسألة من قبل. . كما أن أجزاء من الحقيقة بالنسبة للنظرية الذرية الحديثة - قد ذكرت هنا أو هناك ". ولما كان قدامى الإغريق الذين تحدثوا في الذرة لم يدروا شيئا عن فكرة النظام الشمسي فيها، لم ببق إلا التسليم بأن مصدر تلك النظرية هو التراث الإسلامي. أما بعد فإن خير ما أذكر به أولئكم الذين جعلوا كل همهم تخريب عقيدة المسلمين وإخراجهم من نور التوحيد إلى متاهات التعدد والشرك هو ما يقوله القرآن الكريم فيهم وفي أمثالهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} (1) . وأقولها ثانية: أيها المبشرون ارفعوا أيديكم عن المسلمين، ومن كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة وإلا تحققت فيه نبوءة أشعياء التي ذكرها المسيح في الإنجيل: " تسمعون سمعا ولاتفهمون ومبصرين تبصرون ولا تنظرون. لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وآذانهم قد ثقل سماعها وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم ". وأخيرا نختم الحديث بخير الكلام فأقول: - {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .   (1) سورة الأنفال، الآيتان 36 - 37. (2) سورة الصافات، الآيات 180 -182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الجلسة الرابعة تقديم للدكتور محمد جميل غازي الرد على الأسئلة. 1 - هل المسيح إله أم إنسان معنى قدوس. تحليل كلمة ابن الله. 2 - هل المسيح من جوهر الله أم من تراب المسيح نبي الله. المسيح رسول. المسيح يدعو إلى التوحيد. 3 - هل الروح القدس إله أم ملك الروح القدس ملك. 4 - هل الروح القدس من جوهر الله أم مخلوق من نور 5 - متى دخلت الأقانيم في أحوال العقيدة المسيحية تأييد المسيح بالمعجزات. مواجهة المسيح للرؤساء وتصحيح المفاهيم. 6 - تعقيب الدكتور محمد جميل غازي تحليل قانون الإيمان الكنيسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 [ افتتاحية الجلسة الرابعة للدكتور محمد جميل غازي ] تقديم الأستاذ الدكتور محمد جميل غازي بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وأصحابه أجمعين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يقول الله سبحانه وتعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (1) . ويقول الله سبحانه وتعالى بدءً من الآية الثامنة والثمانون من السورة نفسها " سورة مريم " {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (2) . وقبل أن أقدم إليكم الأستاذ العلامة الجليل الشيخ إبراهيم خليل أحمد أود أن أقدم بمقدمة قصيرة عن السر أو المعجزة التي أذاعها رسول اللُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم وهي واحدة من معجزاته التي لا يحصيها العد ولا يحيط بها الإحصاء. لما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا بشر فقولوا عبد الله ورسوله» (3) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بهذا يشير إلى حقيقة الحقائق وإلى أساس الضلالات حينما يغالي الناس في الحب أحيانا وحينما يغالي الناس في الكراهية أحيانا، فقد ينظرون إلى شخص واحد فيرفعه بعضهم إلى إله ويهوي به البعض الآخر إلى شيطان رجيم والمثل هو عيسى بن مريم عليه السلام. فعيسى بن مريم نظر إليه قومه فمنهم من أحبه وأسرف في حبه فبالغوا وغالوا وجعلوا منه إلها. والله سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء في الآية الحادية والسبعين بعد المائة من سورة النساء {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ   (1) سورة مريم، الآيات 16 - 36. (2) سورة مريم، 88 - 95. (3) الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري 4 / 127، ومسلم 7 / 343، من حديث عمر بن الخطاب، وانظر الكلام حول هذا المقام: (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) ص175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (1) . كذلك يقول الله سبحانه وتعالى في الآية السابعة والسبعين من سورة المائدة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . (2) . فهؤلاء قد غالوا في المسيح عليه السلام ورفعوه إلى مرتبة الألوهية " أجاب توما وقال له ربي وإلهي " (يوحنا 20: 28) . وفي الوقت ذاته نجد أقواما آخرين اتهموه بأنه شيطان. هؤلاء هم اليهود. أما الفريسيون فلما سمعوا قالوا هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين. فعلم يسوع أفكارهم وقال لهم كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت، فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته " (متى 12: 24 -26) . ثم نجد النظرة الإسلامية وهي نظرة وسط تقرر الحق والحقيقة فحينما نشير إلى عيسى عليه السلام فإنه ينبغي لنا أن نضع في ذاكرتنا أن عيسى ليس وحده الشخص التاريخي الذي غالى فيه الناس علوا وهبوطا. فكثير من الشخصيات التاريخية غالى فيها الناس فبعضهم ارتفع بها إلى ما فوق مستوى البشرية وبعضهم هبط بها إلى الحضيض. فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه غالى فيه البعض حتى ادعوا أنه إله وسجدوا له فحرقهم رضي الله عنه بالنار. كما أن هناك جمهرة من الناس   (1) سورة النساء، آية 171. (2) سورة المائدة - 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 كفروه ولعنوه وخرجوا عليه. والحق والحقيقة في علي غير ذلك. وليس الأشخاص الدينيون فقط هم الذين يقف منهم الناس هذا الموقف، فعيسى رجل دين وعلي أيضا كذلك. ولكن في رجال الدنيا نجد أيضا من يرتفع بهم إلى ما فوق مستوى البشرية أحيانا. والباب هو باب المدح المبالغ فيه، المدح المذموم حيث نرى الشعراء المداحين ومن على شاكلتهم وهم يتحدثون عن الطغاة وعن الأقزام فيمجدونهم ويحولونهم إلى عمالقة وإلى آلهة. فنسمع عن واحد من هؤلاء الغلاة يقول لأحد الملوك الظلمة: ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار وهذا شاعر آخر يقول: وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق لم يكن هذا في العصر القديم وحده وإنما هذا في العصور الحديثة أيضا، الناس يبالغون في تمجيد الطغاة والظلمة حتى يرفعونهم فوق مستوى البشر. ولعلنا نذكر أن بعض الصحف كتبت عن أحد الحكام تقول: إنه فوق مستوى البشر. بل إن واحدا من الشعراء قال قصيدة في نعيه كان في أولها: قتلناك يا آخر الأنبياء ... بينما نجد جماهير كثيرة تلعنه وتمقته. إذن مصيبة المصائب هي المبالغة في المدح ومصيبة المصائب هي المبالغة في الذم. ولهذا حذرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أن نبالغ في مدحه فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم» فإنهم دخلوا في الشرك والكفر من باب إطراء عيسى عليه السلام إلى حد الغلو والمغالاة فزعموا أنه النور الأول الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 انبثق من ذات الله وصاروا يبالغون في هذه النظرية حتى وصلوا إلى القول ببنوته لله وأنه الله إلى آخر الخلافات العقائدية التي تَمخضت عنها مجامعهم الكنسية من أول مجمع نيقية عام 325 م، إلى ما تلاه من مجامع. إن الحديث عن الإطراء يطول ولكننا نريد أن نوصي المسلمين بأن يحذروا المبالغة في الإطراء حتى لا يدخل عليهم الشر الذي دخل على الأمم قبلهم. ولقد ندد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم باليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ففي آخر وصاياه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم كما تقول أمنا المبرأة عائشة رضي الله عنها: لما نزل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم (أي مرض الموت) طفق يطرح خميصة على وجهه حتى إذا اغتم بها كشفها وقال: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . يحذر مثل ما صنعوا (1) . وتقول أم حبيبة تحكي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ما رأته في الحبشة من الكنائس وما فيها من صور وقبور فقال لها: «أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح أقاموا على قبره مسجدا، أولئك شرار الخلق عند الله» (2) . فليحذر المسلمون أن يبالغوا في إسراء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم فإن الشر يأتي من باب الإسراف في الإطراء. والآن أترككم مع الأستاذ العلامة إبراهيم خليل أحمد يطوف بنا حول موضوعات تتصل بالأقانيم الثلاثة - والبنوة كما جاءت في كتبهم - ثم كيف تطرق الثالوث إلى العقيدة المسيحية ثم يحدثنا إن اتسع الوقت عن المجامع   (1) الحديث رواه البخاري 1 / 422، 6 / 386، ومسلم 1 / 377 واللفظ له، والنسائي في 1 / 115، والدارمي 1 / 326، وأحمد في المسند 1 / 218، وعبد الرزاق في المصنف 1 / 406، وأبو عوانة في صحيحه 1 / 399. (2) الحديث رواه البخاري 1 / 416 - 422، ومسلم 2 / 66، والنسائي 1 / 115، وابن أبي شيبة في المصنف 4 / 140، وأحمد في المسند 6 / 51، وأبو عوانة في صحيحه 1 / 400، وابن سعد في الطبقات 2 / 240، والبغوي 2 / 415، والبيهقي في السنن الكبرى 4 / 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المقدسة وكيف أن العقيدة المسيحية قد تطورت عبر المجامع، وأرجو الله أن يكون حديثه موفقا ومملوءً بالعلم والحكمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 [ مولد المسيح وحكمة الله في مولده ] ولادة المسيح: نجد إنجيل (متى 1: 18) يقول: (أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس ". كذلك في إنجيل (لوقا 1: 28) وهو يتحدث عن كيفية دخول الملاك جبريل إلى مريم العذراء فيقول: " فدخل إليها الملاك وقال سلام لك أيتها المنعم عليها. الرب معك مباركة أنت في النساء " ثم يبشرها بعيسى " فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا. فأجاب الملاك وقال لها. الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك " (لوقا 1: 34 - 35) . وحين يقول قائل إن المسيح ولد بقوة الروح القدس وإن هذا قد يعطيه ميزة عن سائر البشر. وهنا نقول إنها ليست ميزة تدعو إلى التفكير ولو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 للحظة واحدة بأن المسيح من غير طينة البشر. فها هو زميله وقيربه يوحنا المعمدان قد ولد بقوة الروح القدس ونجد نفس الملاك جبرائيل قد قال لأبيه زكريا وهو في الهيكل كما جاء في إنجيل (لوقا 1: 13) - " فقال له الملاك لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك اليصابات ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته لأنه يكون عظيما أمام الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب. ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس ". وبعد ذلك امتلأ زكريا نفسه من الروح القدس كما يقول إنجيل (لوقا 1: 67) " وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ قائلا مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وضع فداء لشعبه ". فها هو الروح القدس الذي كان مع زكريا وابنه يوحنا هو ذاته الذي كان مع المسيح. إذ يقول إنجيل (لوقا 1: 26) (وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة. إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم ". من هذا يتبين أن الروح القدس هو ملاك من ملائكة الله سبحانه وتعالى. كذلك يقول إنجيل (لوقا 2: 6 -7) " وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد. فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل ". وحسب شريعة موسى نجد أن الطفل الذي ولدته العذراء قد ختن وأن أمه تطهرت وقدمت ذبيحة للرب، إذ يقول إنجيل (لوقا 2: 21 - 24) " ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن. ولما تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوسا للرب. ولكي يقدموا ذبيحة كما قيل في ناموس الرب زوج يمام أو فرخي حمام ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ويجب التنبيه إلى نقطة هامة وهي أن مفهوم القدوس في اليهودية والمسيحية يختلف عن مفهومه في الإسلام. ذلك أن كلمة قدس التي هي " قاداش " بالعبرية تعني " فرز " أو " تجنيب ". أما المفهوم الإسلامي " للتقديس " فهو " التنزيه والتمجيد ". لذلك نجد في سفر الشريعة الموسوية يقول الله لموسى عليه السلام: " قدس لي كل بكر فاتح رحم من بني إسرائيل من الناس ومن البهائم إنه لي " (خروج 13: 2) . أي أفرز الأبكار. فكلمة قدوس لهذا المولود تعني فرز الابن البكر الذي هو أول من فتح رحم الأم. من هذا يتبين أن المسيح كان مولودا عاديا جاز عليه ما جاز على غيره من البشر، وأنه وأمه خضعا تماما لناموس موسى. بعد ذلك نؤكد أن المسيح جاء من جوهر الإنسان فقد ولد من مريم العذراء التي كانت واحدة من بنات آدم الذي خلق من التراب والمعجزة هنا أن الله سبحانه قادر أن يعطي المرأة العاقر كما أنه يعطي المرأة العذراء. إذ قال سبحانه {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) . . إن الله سبحانه وتعالى عندما خلق آدم فقد كان ذلك معجزة وبالمثل عندما خلق امرأته من جسمه: أليست هذه معجزة؟ إن لوقا يحدد الموقف فهو يربط بين مولد يوحنا المعمدان وبين مولد المسيح عليه السلام. فعندما تتعجب مريم العذراء لأنها ستحمل وتلد وهي لا تعرف رجلا يقول لها الملاك كما في إنجيل (لوقا 1: 34 -37) : " فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا. فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله. وهو ذا اليصابات نسيبتك هي أيضا حبلى بابن في شيخوختها وهذا هو الشهر السادس لتلك   (1) سورة آل عمران، آية 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 المدعوة عاقرا. لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله ". وفي القرآن الكريم نجده يقول {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) . . [ ابن الله تحليل وتحقيق ] ابن الله: ونريد أن نعرف معنى قوله في الإنجيل " يدعى ابن الله " فنجد إنجيل (متى 5: 8 -9) يقول: " طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله. طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون " فكل من يعمل الخير ويسعى من أجل السلام يعتبر بحسب لغة الإنجيل ابن الله، وهي بنوة مجازية وليست بنوة حقيقية مثل قول الناس: هذا ابن السودان أو ابن الخرطوم. فكل هذه التعبيرات مجازية ومعروفة في اللغات المختلفة. كذلك نجد في (سفر التكوين 1: 27) وهو يتحدث عن خلق الإنسان: " فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم ". لكن القرآن الكريم يقول {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (2) . . فالتعبير القرآني هنا أجمل وأدق ولا شك من تعبير التوراة، فالله سبحانه وتعالى ليس له صورة لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . كذلك يقول الرب لموسى في التوراة في (سفر الخروج 4: 22) " تقول لفرعون هكذا يقول الرب. إسرائيل ابني البكر ". ونجد في (سفر هوشع 11: 1) " ولما كان إسرائيل غلاما أحببته ومن مصر دعوت ابني ". وكذلك في (سفر أخبار الأيام الأول 28: 6) " وقال لي إن سليمان ابنك هو يبني بيتي ودياري لأني اخترته لي ابنا وأنا أكون له أبا ". ولم يوجد من يقول بأن سليمان كان إلها أو إنه ابن الله. هذا فضلا إلى تعريف ابن الله حسب وروده في إنجيل (يوحنا 1: 12) " وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون   (1) سورة مريم، آية 35. (2) سورة التين، آية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 باسمه " ثم يقول (يوحنا في رسالته الأولى 3: 1) " انظروا أية نصيحة أعطانا الأب حتى ندعى أولاد الله " فابن الله تعني عبد الرحمن كما جاء في قوله تعالى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} . . . (1) . . ونجد في وقت معمودية المسيح - والمعمودية تعني اعتراف الإنسان بخطاياه ثم يأتي إلى يحيا بن زكريا كما يروي (لوقا في إنجيله 3: 3) أنه كان " يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا " ليغتسل في ماء الأردن كرمز للطهارة -يقول إنجيل (متى 3: 16، 17) : " فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء. وإذ السموات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه ". " وصوت من السماء قائلًا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت " ولا شك أن الله منزه عن الخطايا وعن الحاجة إلى التعميد والتطهير. ونجد كذلك في (سفر التكوين 6: 2) : " أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا ". وهذا يعني أن كل أبناء آدم هم أبناء الله ولا يمكن أن يكون أبناء آدم آلهة. كذلك يقول (لوقا في إنجيله إصحاح 3 عدد 38) بعد أن ذكر سلسلة نسب يوسف رجل مريم ما نصه: ". . . بن شيت بن آدم ابن الله ". ونلاحظ أنه لما كان شيت ابنا لآدم بنوة حقيقية فقد كتبت بدون حرف (أ) أما باعتبار أن آدم ابنا لله بنوة مجازية فقد كتبت هذه بالحرف (أ) ولا يمكن أن يكون آدم إلها. المَسِيح نبي الله ونعود الآن لنرى المسيح نبي الله كما تتحدث عنه الأناجيل فنجد في أناجيل (متى 13: 54 -58) وكذلك (مرقس ولوقا) : " ولما جاء إلى وطنه   (1) سورة الفرقان، آية 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 كان يعلمهم في مجمعهم حتى بهتوا وقالوا: من أين لهذا هذه الحكمة والقوات؟ أليس ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم وإخوته يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا؟ أو ليست أخواته جميعهن عندنا فمن أين لهذا هذه كلها؟ فكانوا يعثرون به. وأما يسوع فقال لهم: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته ولم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم ". وكذلك يقول إنجيل (مرقس 6: هـ) في هذا المقام: " ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة ". لقد عجز المسيح هنا عن صنع المعجزات. فلو كان المسيح إلها أو ابن الله لكان قادرا على صنع المعجزات بصرف النظر عن سوء استقبالهم له وتأثره نفسيا بذلك. ويقول (متى في إنجيله إصحاح 21 عددي 10، 11) : " ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا؟ فقالت الجموع هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل ". فهذه هي شهادة الشهود الذين عاينوه ورأوا معجزاته ولم يقل واحد منهم إنه إله أو ابن الله. ونجد في إنجيل (لوقا 7: 11 - 16) : " وفي اليوم التالي ذهب إلى مدينة تدعى نايين وذهب معه كثيرون من تلاميذه وجمع كثير، فلما اقترب إلى باب المدينة إذا ميت محمول ابن وحيد لأمه وهي أرملة ومعها جمع كثير من المدينة. فلما رآها الرب تحنن عليها وقال لها لا تبكي. ثم تقدم ولمس النعش فوقف الحاملون. فقال أيها الشاب لك أقول قم. فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه إلى أمه. فأخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه ". لقد أقام المسيح ميتا بعد أن صلى إلى الله سبحانه وتعالى ليمنحه القوة والتأييد. وبعد أن صنع هذه المعجزة العظيمة بإحياء ذلك الميت نجد شهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 هذه الحادثة الكبيرة لم يفقدوا صوابهم ويقولون عنه إنه إله أو ابن الله وإنما قالوا: " قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه ". (لوقا 7: 16) . إحياء الموتى لم تكن هذه أول مرة يرى فيها اليهود نبيا يحيي ميتا فقد سبق أن أقام كل من إيليا واليشع ميتا، بل إن عظام اليشع في قبره - بعد أن مس جسده عظام اليشع، وكذلك أقام حزقيال جيشا من الموتى كما هو ثابت في أسفار العهد القديم: ففي (سفر الملوك الأول 17: 17 - 24) الذي يقول: " وبعد هذه الأمور مرض ابن المرأة صاحبة البيت واشتد مرضه جدا حتى لم تبق فيه نسمة فقالت لإيليا ما لي ولك يا رجل الله. هل جئت إليَّ لتذكير إثمي وإماتة ابني. فقال لها أعطيني ابنك. وأخذه من حضنها وصعد به إلى العلية التي كان مقيما بها وأضجعه على سريره وصرخ إلى الرب وقال: أيها الرب إلهي أيضا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها. فتمدد على الولد ثلاث مرات وصرخ إلى الرب وقال: يا رب إلهي لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه، فسمع الرب لصوت إيليا فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش، فأخذ إيليا الولد ونزل به من العلية إلى البيت ودفعه لأمه، وقال إيليا انظري ابنك حي، فقالت المرأة لإيليا هذا الوقت علمت أنك رجل الله وأن كلام الرب في فمك حق ". وكذلك في (سفر الملوك الثاني 4: 32 -37) : " ودخل اليشع البيت وإذا بالصبي ميت ومضطجع على سريره. فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما وصلى إلى الرب. ثم صعد واضطجع فوق الصبي ووضع فمه على فمه وعينيه على عينيه ويديه على يديه وتمدد عليه فسخن جسد الولد. ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هناك وصعد وتمدد عليه فعطس الصبي سبع مرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ثم فتح الصبي عينيه. فدعا جيحزي وقال ادع هذه الشونمية فدعاها ولما دخلت إليه قال احملي ابنك. فأتت وسقطت على رجليه وسجدت إلى الأرض ثم حملت ابنها وخرجت ". وأكثر من هذا ما فعلته عظام اليشع بعد موته إذ يقول (سفر الملوك الثاني 13: 20 - 21) : " مات اليشع فدفنوه. وكل من غزاة موآب تدخل على الأرض عند دخول السنة. وفيما كانوا يدفنون رجلًا إذا بهم قد رأوا الغزاة فطرحوا الرجل في قبر اليشع فلما نزل الرجل ومس عظام اليشع عاش وقام على رجليه ". ونذكر كذلك معجزة حزقيال كما هو مكتوب في سفره (إصحاح 37 عدد 1 - 10) : " كانت على يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاما، وأمرني عليها من حولها وإذا هي كثيرة جدا على وجه البقعة وإذا هي يابسة جدا. فقال لي يا ابن آدم أتحيا هذه العظام فقلت يا سيد الرب أنت تعلم فقال لي: تنبأ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب. هكذا قال السيد الرب لهذه العظام وقل لها. هأنذا أدخل فيكم روحا فتحيون، وأضع عليكم عصبا وأكسيكم لحما وأبسط عليكم جلدا وأجعل فيكم روحا فتحيون وتعلمون أني أنا الرب، فتنبأت كما أمرت وبينما أنا أتنبأ كان صوت وإذا رعش فتقاربت العظام. . . فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا ". بعد ذلك نجد أن معاصري المسيح الذين آمنوا به كانوا يؤمنون أنه نبي الله ولا شيء أكثر من هذا. فها هو إنجيل (لوقا 24: 19) : " فقال لهما وما هي. فقالا المختصة بيسوع الناصري الذي كان إنسانا نبيا مقتدرا في الفعل أمام الله وجميع الشعب ". وكذلك يقول إنجيل (يوحنا 6: 14) : " فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا لحقيقة النبي الآتي إلى العالم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 المسيح رسول الله وننتقل الآن للحديث عن المسيح رسول الله. فنجد في إنجيل (يوحنا 13: 16) : " الحق الحق أقول لكم إنه ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم من مرسله ". وكذلك في إنجيل (يوحنا 8: 37 - 40) : " أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم لكنكم تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم. . أجابوا وقالوا له أبونا هو إبراهيم. فقال لهم يسوع لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم، ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله ". وكذلك نجد في إنجيل (يوحنا 8: 44 - 45) يدمغ المسيح اليهود بالأبالسة قائلًا: " أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالا للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه كذاب وأبو الكذاب ". الأبوة والنبوة في الإنجيل من هنا نفهم قول المسيح لتلاميذه وهو يعلمهم الصلاة ليقولوا: " أبانا الذي في السموات " ولما جاء ليندد باليهود نسب أبوتهم إلى إبليس لأنهم كانوا ذرية إبراهيم حسب الجسد إلا أنهم بسلوكهم وأفكارهم الشريرة كل هذا جعلهم كأبناء لإبليس لكن المؤمنين الذين آمنوا بالله الواحد الأحد وبالمسيح إنسانا ورسولا ونبيا فهؤلاء نسبهم الإنجيل كأنهم أبناء الله وكل حديث في الكتاب المقدس عن هذا النوع من البنوة إنما هي بنوة مجازية ولا يمكن أن تكون حقيقة على الإطلاق. كذلك نجد في إنجيل (يوحنا 7: 16 -18) : " أجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي. من يتكلم من نفسه يطلب مجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 نفسه. وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم ". وفي إنجيل (يوحنا 17: 44) : " الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني ". يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم ". وفي إنجيل (يوحنا 17: 44) : " الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني ". وفي معجزة إقامة الميت التي يذكرها إنجيل (يوحنا 11: 38 - 44) : " فانزعج يسوع أيضا في نفسه وجاء إلى القبر. وكان مغارة وقد وضع عليه حجر. قال يسوع ارفعوا الحجر. قالت له مرثا أخت الميت: يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام. قال لها يسوع ألم أقل لك إن آمنت ترين مجد الله، فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعا ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي. ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني. ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم لعازر: هلمّ خارجا. فخرج الميت ". لقد كان المسيح دائما يصلى ويضرع إلى الله قبل أن تجرى المعجزة على يديه. هذا ولقد كانوا ينادون المسيح بالمعلم لأن المعلم هو الإنسان الذي يحيطه التلاميذ. فعندما ظهر المسيح اتخذ لنفسه اثنا عشر تلميذا ونجد في إنجيل (متى 8: 23 - 26) : " ولما دخل السفينة تبعه تلاميذه. وإذا اضطراب عظيم قد حدث في البحر حتى غطت الأمواج السفينة. وكان هو نائما فتقدم تلاميذه وأيقَظوه قائلين: يا سيد نجنا فإننا نهلك. فقال لهم ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان. ثم قام وانتهر الرياح والبحر فصار هدوء عظيم . كيف ينام الإله ويغفل عن الكون؟ . لقد كان المسيح بشرا يجرى عليه ما يجرى على سائر البشر من نوم ويقظة وتعب وراحة وخوف وطمأنينة لكن الله سبحانه وتعالى - كما يقول القرآن بحقه {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (1) .   (1) سورة البقرة، آية 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 المسيح يدعو إلى التوحيد وفي إنجيل (لوقا 18: 18- 19) : " سأله رئيس قائلًا أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحًا. ليس أحد صالحًا إلا واحد هو الله ". ولقد بيَّن لنا الدكتور محمد جميل غازي حديث الرسول الذي قال فيه «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح عيسى ابن مريم» . ذلك أن الإطراء باب من أبواب الضياع والمتاهات. لقد حرص المسيح على أن ينفي عن نفسه صفة الصلاح ويردها إلى الله وحده فكيف يقال بعد ذلك إن المسيح إله أو ابن الله. بل أكثر من هذا نجد في إنجيل (مرقس 12: 28-29) : " فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنًا سأله: أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع أن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد ". فلم يدع المسيح أنه إله يعبد لكن موقفه أمام الله كموقف كل بني إسرائيل. ولقد نادى المسيح بالتوحيد صراحة فقال في إنجيل (يوحنا 17: 3) : " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ". وفي حديثه مع مريم المجدلية الذي ذكره إنجيل (يوحنا 20: 17-18) : " قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ". فعلاقة المسيح بالله كعلاقة التلاميذ بالله، كلهم عبيده. وحينما نتأمل تاريخ الأنبياء نجد أن موسى - عليه السلام - بعد أن قتل المصري هرب إلى البرية وبقي بها أربعين سنة يرعى الغنم ويتأمل صنع الله في الأرض وفي السماء وكان ذلك تحت رعاية الله حتى يتأهل لحمل الرسالة بمشاقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ومتاعبها. وكذلك تعرض يوسف لمحن كثيرة بدأت بتآمر إخوته عليه، ثم بيعه إلى عزيز مصر ليخدم في بيته، ثم اتهامه بمداعبة امرأة العزيز، وأخيرًا برأه الله - سبحانه - وصار بعد ذلك الوزير الأول لملك مصر. وكذلك كان أمر المسيح، فقبل أن يبدأ دعوته في سن الثلاثين - حسب كلام لوقا - نجده قد ذهب من بلدته الناصرة إلى البرية وبقي هناك أربعين يومًا بلا طعام ثم جاءه إبليس ليجربه بثلاث تجارب نجح فيها جميعًا، وانتصر على إبليس وأصبح بذلك معدًّا ليكون رسول الله. ثم يقول إنجيل (لوقا 4: 14-15) : " ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل، وخرج خبر عنه في جميع الكورة المحيطة. وكان يعلم في مجامعهم ممجدًا من الجميع ". ونجد في إنجيل (متى 4: 11) : " ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه ". لقد أعد المسيح للرسالة كما أعد سائر الأنبياء قبله. وهذه شهادة أقرب الناس إلى المسيح وأعني به بطرس رئيس التلاميذ الذي يقول في (سفر أعمال الرسل 2: 22) : " أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال. يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات الله وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم تعلمون ". لم يقل بطرس إن المسيح هو الله، لكنه قال إنه رجل إنسان أجرى الله على يديه معجزات وآيات. وكذلك يقول بطرس في (سفر أعمال الرسل 10: 38) : " يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه ". لم يقل بطرس لأن الله كان معه كما كان مع كل الأنبياء والمرسلين. كل هذا يبين لنا أن المسيح إنسان بشر، وأنه رسول الله، وأنه نبي ظهر في بني إسرائيل كما ظهر أنبياء آخرون قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الروح القدس والآن نناقش موضوع الروح القدس. فنجد في العهد القديم (سفر الخروج 23: 20- 21) : " ها أنا مرسل ملاكا أمام وجهك ليحفظك في الطريق وليجيء بك إلى المكان الذي أعددته احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه لأنه لا يصفح عن ذنوبكم لأن اسمي فيه ". إن العرف الدولي يتفق على أن السفير هو ممثل للدولة ولرئيسها بالذات، وعلى ذلك فإن أي مساس بالسفير يعني المساس برئيس الدولة. فتعبير " إن اسمي فيه " يعني أنه يقوم مقام السفير بين الله سبحانه وتعالى، وبين خلقه. ونجد في (سفر صموئيل الأول 10: 1- 10) : " فأخذ صموئيل قنينة الدهن وصب على رأسه وقبَّله وقال أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه ريسًا؟ وكان عندما أدار كتفه لكي يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبًا آخر وأتت جميع هذه الآيات في ذلك اليوم. ولما جاءوا إلى هناك إلى جبعة إذا بزمرة من الأنبياء لقيته فحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم ". ونجد في (سفر صموئيل الأول 16: 14) أن الله غضب على شاول ففارقه روح الرب إذ يقول: " وذهب روح الرب من عند شاول وبغته روحٌ رديء من قبل الرب ". وهنا نجد أن روح القدس يحل على الإنسان المطهر النقي أما إذا أغضب ذلك الإنسان الله بخطيئة ما فإن الروح القدس يفارقه ويصيبه روح شرير. من هذا نرى داود - عليه السلام - يصلي داعيًا الله بقوله: " قلبًا نقيًا اخلق في يا الله وروحًا مستقيمًا جدد في داخلي. لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني ". (مزمور 51: 10، 11) . ونجد في إنجيل (لوقا 3: 21-22) : " ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا وإذ كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 بهيئة جسمية مثل حمامة ". لقد كان الروح القدس مع أنبياء العهد القديم وها هو مع المسيح عند المعمودية وهو معه في التجربة. فالروح القدس ليس ثابتًا في الإنسان ولكنه يأتي للأنبياء حسب متطلبات الأحوال. إن هذا يعني أن ذات المسيح شيء وأن ذات الروح القدس شيء آخر. ويوضح ذلك أيضا قول إنجيل (مرقس 3: 28- 29) : " الحق أقول لكم إن جميع الخطايا تغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها. ولكن من جدف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد. بل هو مستوجب دينونة أبدية ". ونظير ذلك ما رأيناه في (سفر الخروج) من قوله: " لا تتمرد عليه لأن اسمي فيه ". وتكرر هذا القول في إنجيل (متى 12: 31- 32) بصورة أوضح: " لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له. وأما من قال على الروح القدس فلم يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي ". كل هذا يؤكد أن ذات المسيح شيء وأن الروح القدس شيء آخر. معجزات المسيح بعد ذلك ننظر في معجزات المسيح، لقد أشبع الجوعى وطهر البرص وأقام الموتى، وكل هذه ليست مقصورة على المسيح لكنها جرت على أيدي الأنبياء قبله. فنجد في عهد موسى أن الله سبحانه وتعالى أكرمه بأن جعل بني إسرائيل يأكلون المن والسلوى أربعين سنة (خروج 16: 4- 31) . وأن إيليا ذهب في ضيافة امرأة أرملة فقيرة فقالت له إنها لا تملك سوى بعض الدقيق والزيت سوف تصنعها فطيرة لابنها ثم تموت. فقال لها اصنعي الكعكة وستجدين بعد ذلك أن كوار الدقيق وكوز الزيت لن ينفد أبدًا (الملوك الأول 17: 8- 16) . وقد حدث ذلك في أيام المجاعة فكانت معجزة كبيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 من إيليا. كذلك حدث لواحدة من نساء الأنبياء مع اليشع إذ أخبرته أن الدائنين يطالبونها وليس عندها شيء سوى دهنة زيت فأخذها وأمرها أن تطلب أواني كثيرة من جيرانها. وعلمها أن تسمك الدهنة وتعصر الأواني فكان ينزل الزيت الذي ملأ أواني كثيرة (الملوك الثاني 4: 1- 7) واستطاعت بذلك أن تسدد ديونها بمعجزة اليشع هذه. وبالنسبة لتطهير الأبرص فقد فعلها اليشع (الملوك الثاني 5: 8- 14) . وأما إقامة الموتى فقد ذكرنا كلًّا من إيليا واليشع وحزقيال أنهم أقاموا الموتى قبل المسيح كذلك فإن بطرس أقام ميتا (أعمال الرسل 9: 36- 42) : " ولم يقل أحد إن بطرس إله. إن الحكمة من المعجزة أن الله- سبحانه- يؤيد نبيه لكي يؤمن الناس بأنه نبي الله ورسوله وإنه مبعوث من قبل مالك كل القوى والقدرة ". وهذا ما حدث مع موسى: " ورأى إسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين. فخاف الشعب الرب وآمنوا بالرب وبعبده موسى " (خروج 31: 14) . وما حدث مع إيليا: " فقالت المرأة لإيليا هذا الوقت علمت أنك رجل الله وإن كلام الرب في فمك حق " (الملوك الأول 17: 24) . وما حدث مع المسيح نفسه: " فكثيرون من اليهود الذين جاءوا إلى مريم نظروا ما فعل يسوع فآمنوا به " (يوحنا 11: 45) . مواجهة المسيح للكهنة بعد الحديث عن معجزات المسيح وأنه بشر وأنه نبي الله وأنه رسول الله، أريد أن أتحدث الآن عن مواجهة المسيح للكهنة ولذوي النفوذ في إسرائيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 جاء في إنجيل (متى 6: 14-15) ما يوضح لنا فكر المسيح عن الغفران حيث قال: " فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضا أبوكم السماوي. وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضا زلاتكم ". فهذا التوجيه صريح جدًا في إمكانية المغفرة دون الحديث عن الصليب وسفك دم المسيح. فلو كان صلب المسيح مسألة حتمية لا يتم مغفرة الخطايا إلا بها لكان هو أول من نبه إلى هذا. ولكنه يقول الشيء بالشيء. فإذا تجاوز الإنسان عن خطايا أخيه الإنسان فإن الله يغفر له خطاياه. وهذا يعني أن رضا الله- سبحانه- يمكن أن يناله الإنسان بممارسة العبادات الإلهية والعمل الصالح. كذلك نجد قصة المشلول في إنجيل (متى 9: 2- 6) : " وإذا مفلوج يقدمونه إليه مطروحًا على فراش. فلما رأى يسوع إيمانهم. . قال للمفلوج: ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك. وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم هذا يجدف. فعلم يسوع أفكارهم فقال لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم. أيما أيسر أن يقال للإنسان مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا. حينئذ قال للمفلوج. قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك، فقام ومضى إلى بيته ". النتيجة: " فلما رأى الجموع تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا " (متى 7: 9) . مغفرة الخطايا لقد بينً المسيح أن له سلطانًا أن يغفر الخطايا وهو يغفرها بمجرد كلمة مثل " مغفورة لك خطاياك " ثم هو يعلم الناس أن شفاء المفلوج أشد من غفران الخطايا بكلمة. وهذا يوضح أن فكرة سفك دم المسيح على الصليب باعتبارها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ضرورة لمغفرة الخطايا إنما هي زعم لا أساس له من الصحة. ثم قضية أخرى من القضايا التي واجهها المسيح مع رؤساء بني إسرائيل ما يذكره إنجيل (يوحنا 8: 1- 11) : " ثم حضر أيضا إلى الهيكل في الصبح وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم. وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت في زنى، ولما أقاموها في الوسط، قالوا له يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل. وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم. فماذا تقول أنت قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه. وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بأصبعه على الأرض. ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر. ثم انحنى أيضا إلى أسفل وكان يكتب على الأرض. وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحدًا فواحدًا مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين. وبقي يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط. فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحدًا سوى المرأة قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك. أما أدانك أحد؟ فقالت لا أحد يا سيد. فقال لها يسوع ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضا ". فالمسيح - عليه السلام - نادى بالغفران ونادى بالستر ونادى بالمحبة. إن السيد المسيح التزم بالناموس مراعيًا حدود الله ولقد قضت الشريعة على حيثيات إقامة الحد " على فم شاهدين أو ثلاثة شهود يقتل الذي يقتل. لا يقتل على فم شاهد واحد. أيدي الشهود تكون عليه أولا لقتله ثم أيدي جميع الشعب أخيرًا فتنتزع الشر من وسطك " (تثنية 17: 6-7) . وبناء عليه فإن السيد المسيح الذي ولي قاضيًا لم يجد شهود الإثبات ليقيم الحد فأخلى سبيلها. بعد ذلك نجد في إنجيل (لوقا 11: 53-54) : " وفيما هو يكلمهم بهذا ابتدأ الكتبة والفريسيون يحنقون جدًا ويصادرونه على أمور كثيرة. وهم يراقبونه طالبين أن يصطادوا شيئًا من فمه لكي يشتكوا عليه ". لقد كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ينتهزون كل فرصة للتربص بالمسيح كما بيَّن لوقا وكما يذكر الإنجيل عن تجربة العملة. يقول (لوقا 20: 20- 26) : " فراقبوه وأرسلوا جواسيس يتراءون أنهم أبرار لكي يمسكوه بكلمة حتى يسلموه إلى حكم الوالي وسلطانه. فسألوه قائلين يا معلم نعلم أنك بالاستقامة تتكلم وتعلم ولا تقبل الوجوه بل بالحق تعلم طريق الله. أيجوز لنا أن نعطي جزية لقيصر أم لا. فشعر بمكرهم وقال لهم لماذا تجربونني. أروني دينارًا. لمن الصورة والكتابة؟ فأجابوا وقالوا لقيصر. فقال لهم: اعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب. وتعجبوا من جوابه وسكتوا ". أضيف إلى ذلك أن المسيح نفسه كان يعتبر عبدًا من رعايا الإمبراطورية الرومانية وكانت عليه ضريبة يقدمها للرومان ككل المواطنين، كان المفروض أن يدفع الجزية عن نفسه وعن تلاميذه، فيذكر إنجيل (متى 17: 24- 27) : " ولما جاءوا إلى كفر ناحوم تقدم الذين يأخذون الدرهمين إلى بطرس وقالوا أما يوفي معلمكم الدرهمين؟ قال بلى. فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلًا ماذا تظن يا سمعان من يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية أمن بينهم أم مز الأجانب. قال له بطرس من الأجانب. قال له يسوع فإذًا البنون أحرار. ولكن لئلا نعثرهم اذهب إلى البحر والق صنارة والسمكة التي تطلع أولا خذها ومتى فتحت فاها تجد إستارًا فخذه واعطهم عني وعنك ". لقد دفع المسيح الجزية عن نفسه للرومان إذ كان عبدًا تحت الجزية الرومانية. وفي إنجيل (لوقا 20: 27- 39) نجد حديثًا عن الصدوقيين. لقد كان في اليهودية طوائف منها الفريسيون والصدوقيون. ويؤمن الفريسيون بقيامة الأموات وبالبعث وبالحساب ويؤمنون بالجنة والنار، وأما الصدوقيون فلا يؤمنون بهذا كله. وهنا يقول إنجيل (لوقا) : " وحضر قوم من الصدوقيين الذين يقاومون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أمر القيامة وسألوه قائلين يا معلم كتب لنا موسى إِن مات لأحد أخ وله امرأة ومات بغير ولد يأخذ أخوه المرأة ويقيم نسلًا لأخيه. فكان سبعة إخوة وأخذ الأول امرأة ومات بغير ولد. فأخذ الثاني المرأة ومات بغير ولد. ثم أخذها الثالث. وهكذا السبعة ولم يتركوا ولدًا وماتوا. وآخر الكل ماتت المرأة أيضا. ففي القيامة لمن منهم تكون زوجة لأنها كانت زوجة للسبعة. فأجاب وقال لهم يسوع أبناء هذا الدهر يزوّجون ويزوّجون. ولكن الذين حسبوا أهلًا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوّجون ولا يزوّجون. إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة. وأما أن الموتى يقومون فقد دلّ عليه موسى أيضا في أمر العليقة كما يقول الرب: " إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب وليس هو إله أموات بل إله أحياء لأن الجميع عنده أحياء. فأجاب قوم من الكتبة وقالوا يا معلم حسنًا قلت ". موقف المسيح من تقديس السبت !! بعد ذلك أتحدث عن تقديس السبت عند اليهود. فنجد في (سفر التكوين 2: 1- 3) : " فأكملت السماوات والأرض وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه. لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا ". هذا بينما نجد القرآن الكريم يقول في سورة ق {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (1) . أي لم يمسنا التعب على أية صورة من الصور. ويذلك لا معنى للحديث عن الراحة بعد خلق العالم في تلك الأيام الستة، لكن اليهود يقاومون المسيح تحت شعار حفظ   (1) سورة ق، آية 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 السبت فكانوا ينتقدونه في شفاء المرضى يوم السبت. ولقد علمهم المسيح أن السبت قد خلق لأجل الإنسان ولم يخلق الإنسان لأجل السبت، ولكن عقولهم توقفت عن فهم ذلك كله. يقول إنجيل (يوحنا 9: 1-33) : " وفيما هو مجتاز رأى إنسانا أعمى منذ ولادته. فسأله تلاميذه قائلين يا معلم من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟ أجاب يسوع لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه. ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. ما دمت في العالم فأنا نور العالم. قال هذا وتفل على الأرض وصنع من التفل طينا وطلى بالطين عيني الأعمى. وقال له اذهب اغتسل في بركة سلوام، الذي تفسيره مرسل. . فمضى واغتسل وأتى بصيرًا. . . وكان سبت حين صنع يسوع الطين وفتح عينيه. . فقال قوم من الفريسيين هذا الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت. آخرون قالوا كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات وكان بينهما شقاق. . فدعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى وقالوا له اعط مجدًا لله نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ. فأجاب ذاك وقال أخاطئ هو. لست أعلم. إنما أعلم شيئًا واحدًا أني كنت أعمى والآن أبصر. . فشتموه وقالوا أنت تلميذ ذاك. وأما نحن فإننا تلاميذ موسى. نحن نعلم أن موسى كلمةُ الله. وأما هذا فما نعلم من أين هو. أجاب الرجل وقال لهم إن في هذا عجبًا أنكم لستم تعلمون من أين هو وقد فتح عينيَّ. ونعلم أن الله لا يسع للخطاة ولكن إن كان أحد يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع. ويختم الأعمى الذي عاد بصيرًا قوله " منذ الدهر لم يسمع أن فتح عيني مولود أعمى. لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ويجب ملاحظة أن بعض صفات الله تنسب أحيانًا للبشر مثل قول المسيح هنا: " ما دمت في العالم فأنا نور العالم ". إن هذا لا يعني إنه إله أو معادل للإله لأن هذا القول لا يقارن بما تذكره التوراة عن موسى الذي جعلته إلهًا لكل من هارون أخيه وفرعون عدوه. يقول (سفر الخروج 4: 14-16) : إن الرب قال لموسى عن أخيه هارون: " ها هو خارج لاستقبالك. . فتكلمه وتضع الكلمات في فمه. وأنا أكون مع فمك ومع فمه وأعلمكما ماذا تصنعان وهو يكلم الشعب عنك. وهو يكون لك فمًا وأنت تكون له إلهًا ". يقول (سفر الخروج 7: 1- 2) : " فقال الرب لموسى انظر. أنا جعلتك إلهًا لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك ". إن هذه الأقوال من قبيل المجاز لا الحقيقة. والهدف من هذه القصة: الأعمى الذي عاد بصيرًا في يوم السبت أن المسيح أراد أن يكشف لليهود خطأ نظرتهم للسبت وتعطيل كل عمل صالح فيه. يقول إنجيل (مرقس 2: 23-28) : " واجتاز في السبت بين الزروع، فابتدأ تلاميذه يقطفون السنابل وهم سائرون فقال له الفريسيون: انظر، لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟ فقال لهم أما قرأتم ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه؟ كيف دخل بيت الله في أيام أبيأثار رئيس الكهنة وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة وأعطى الذين كانوا معه أيضا. ثم قال لهم السبت إنما جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت، إذا ابن الإنسان هو رب السبت أيضا ". إن هذا ينتهي اليوم وسيكون حديثي معكم عن بقية الموضوعات في الجلسة القادمة إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 [ تعقيب الدكتور محمد جميل غازي ] ثم قال الدكتور محمد جميل غازي: " بسم الله الرحمن الرحيم " وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين- أمرنا وأمركم إلى الله، ذلك أن الموضوع طويل والكلام فيه كثير، ولا تغطيه الليالي المتعاقبة ولا المحاضرات الكثيرة ولا المناقشات الطويلة، ولكننا نجتزئ بالبعض عن الكل وأريد أن أحدثكم عن قانون الإيمان المسيحي (1) ، كيف نشأ هذا القانون وكيف تجمع عبر مجموعة المجامع المسكونية الكنسية. يقول نص قانون الإيمان: " المنبثق عن مجمع نيقية عام 325 م. " نؤمن بإله واحد آب ضابط الكل خالق السماوات والأرض ما يرى ما لا يرى. نؤمن برب واحد. . . يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، الذي به كان كل شيء. هذا هو الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاص نفوسنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومريم العذراء وتأنس وصلب عنا على عهد بيلاطس النبطي وتألم وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين أبيه وأيضا يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات. الذي ليس لملكه انقضاء ". ثم أضيفت إلى هذا القانون إضافة أخرى. منبثقة عن مجمع القسطنطينية عام 381 م: " نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب، نسجد له ونمجده مع الآب والابن، الناطق في الأنبياء، وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية، ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي. آمين ". ثم أضيفت إضافة ثالثة حول تطويب   (1) يراجع في هذا الصدد الدراسة القيمة التي قام بها الأستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه: «المسيح في التوراة والإنجيل والقرآن» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 العذراء منبثقة عن مجامع أفسس عام 431 م. تقول: " نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك أيتها العذراء القديسة لأنك ولدت لنا مخلص العالم كله. أتى وخلص نفوسنا ". ثم أضيفت إضافة رابعة لتمجيد السيد المسيح: " المجد لك يا سيدنا ولملكنا المسيح فخر الرسل إكليل الشهداء تهليل الصديقين ثبات الكنائس غافر الخطايا ". ثم إضافة أخرى للتبشير بالثالوث الأقدس: " نكرز ونبشر بالثالوث لاهوت واحد نسجد له ونمجده يا رب ارحم يا رب بارك. آمين ". هذه هي قوانين الإيمان التي نريد أن نمر عليها لنعرف كيف لفقت هذه القوانين وكيف جمعت كلماتها من أسفارهم كما تجمع الكلمات المتقاطعة التي تنشر في الصحف. إن تاريخ المسيحية: " يقول في سنة 325 م، اجتمع المؤتمر المسكوني في نيقية بأمر الملك قسطنطين الكبير. وكانت المسألة الأولى والوحيدة التي ناقشها المؤتمر هي طبيعة المسيح وذلك بعد أن قرر القس الإسكندري أريوس رأيه في المسيح وأنه مخلوق. يقول سعيد البطريق أو ابن البطريق في كتابه التاريخي " نظم الجوهر " يروي مقاله أريوس هذا وما كان لها من آثار في إثارة الخلاف والفرقة بين المسيحيين وما انتهى إليه الرأي فيه وفي مقولته. يقول ابن البطريق: قال بطريرك الإسكندرية لتلاميذه: إن المسيح لعن آريوس فأحذروا أن تقبلوا قوله. فإني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب فقلت له يا سيدي: من شق ثوبك؟ فقال لي: آريوس، فاحذروا أن تقبلوه أو أن يدخل معكم الكنيسة. فبعث قسطنطين الملك إلى جميع البلدان فجمع البطارقة والأساقفة فاجتمع في مدينة نيقية -بعد سنة وشهرين- ألفان وثمانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وأربعون أسقفًا وكانوا مختلفي الآراء ومختلفي الأديان. فمنهم من يقول المسيح ومريم إلهان من دون الله وهم المريمانية. ومنهم من يقول إن المسيح من الآب بمنزلة شعلة نار تخلقت من شعلة نار فلم تنقص الأولى لإيقاد الثانية منها. وهي مقالة سيبارينون وأتباعه ومنهم من كان يقول: لم تحمل مريم لتسعة أشهر وإنما مر نور في بطن مريم كما يمر الماء في الميزاب لأن كلمة الله دخلت من أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها وهي مقالة أيليان وأشياعه ومنهم من يقول إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم وإنه اصطفى ليكون مخلصًا للجوهر الإنسي صاحبته النعمة الإلهية فحلت فيه المحبة والمشيئة- فلذلك سمي ابن الله. ويقولون إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد ويسمونه بثلاثة أسماء ولا يؤمنون بالكلمة ولا بالروح القدس وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم البولونيون. ومنهم من كان يقول بثلاثة آلهة: صالح وطالح وعدل. وهي مقالة مرقيون وأشياعه. ومنهم من كان يقول ربنا هو المسيح وتلك هي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفًا ". ثم يقول ابن البطريق: فلما سمع قسطنطين الملك مقالاتهم عجب من ذلك وأخلى لهم دارًا وتقدم لهم بالإكرام والضيافة وأمرهم أن يتناظروا فيما بينهم ليظهر من معه الحق فيتبعه. فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا على دين واحد ورأي واحد فناظروا بقية الأساقفة فأفلجوا عليهم حججهم وأظهروا الدين المستقيم. أما أهم ما قرره هذا المجمع الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفًا فهو أن المسيح ابن الله وأنه مساوٍ لله في الجوهر. ونريد الآن أن نعرف من أين جمعوا نصوص قانون الإيمان المسيحي فنجد أن عباراته جاءت كالآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 " نؤمن بإله واحد " جاءت من إنجيل (يوحنا 3: 17) . " آب " من (الرسالة الأولى لأهل تسالونيكي 3: 11) . " ضابط الكل " من (إنجيل متى 1: 9- 20) . " خالق السماوات والأرض ما يرى وما لا يرى " من (متى 11: 25 وسفر الخروج 20: 11) . " نؤمن برب واحد " من (العبرانيين 1: 8 والرؤيا 19: 16) . " يسوع المسيح " من (العبرانيين 13: 8) . " ابن الله الوحيد " من إنجيل (يوحنا 3: 16) . " المولود من الآب قبل كل الدهور " من (ميخا 5: 2) . " نور من نور " من (العبرانيين 1: 3) . " إله الحق " من إنجيل (يوحنا 17: 5) . " من إله حق " من إنجيل (يوحنا 17: 5) . " مولود غير مخلوق " من إنجيل (يوحنا 26: 5) . " مساو للآب في الجوهر " من إنجيل (يوحنا 10: 30) . " الذي به كل شيء " من إنجيل (يوحنا 1: 3) . " هذا هو الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاص نفوسنا " ليس له سند من نصوص العهد الجديد وإنما وضع بمعرفة المجمع. " ونزل من السماء وتجسد " من إنجيل (يوحنا 1: 14 ومن العبرانيين 10: 5) " من الروح القدس ومريم العذراء " من إنجيل (لوقا 1: 35) . " وتأنس " من إنجيل (يوحنا 8: 40) . " وصلب على عهد بيلاطس النبطي " من إنجيل (يوحنا 19: 19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 " وتألم " من (الرسالة الأولى لبطرس 1: 11) . " وقبر " من أشعياء 53: 9 ومن متى 27: 60) . " وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب " (من سفر الرؤيا 14: 14 ومن الرسالة الأولى لكورنثوس 15: 2) . " وصعد إلى السماوات " من إنجيل (لوقا 24: 51) . " وجلس عن يمين أبيه " من إنجيل (مرقس 16: 19) . " وأيضا يأتي في مجده " من إنجيل (متى 25: 31) . " ليدين الأحياء والأموات " من (العبرانيين 10: 30) . " الذي ليس لملكه انقضاء " من إنجيل (لوقا 1: 33) . هذا هو قانون الإيمان المسيحي الأول قبل تطويره. وأود أن أنبه إلى أن هذا التخريج ليس من عندنا ولكنه كما خرج عليه المؤتمرون قرارهم وقدموا به محمولا بين يدي هذه المذكرة الإيضاحية. وإذا جاوزت هذا التبرير وما فيه من تعسف وشطط بعيدين غريبين فإنك تجد أن الصورة التي رسمها القرار للألوهية ينقصها الوجه الثالث من وجوه التثليث وهو الروح القدس فالإيمان الذي يبشر به هذا القرار هو الإيمان بالآب والابن فقط، أما الروح القدس فهو ما دخل في تجسد الابن من مريم العذراء وهو في هذا الموضع قد يكون ملاك الرب أو جبريل أو كلمة الله أو الابن. ونستطيع أن نتخذ من هذا القرار وثيقة تاريخية محققة للقول بأن التثليث المسيحي لم يكن معروفًا إلى سنة 325 من ميلاد المسيح ولم يعترف المؤتمر المنعقد في هذا العام بغير الآب والابن. كما نستطيع أن نقرر أيضا أنه إلى ذلك الحين لم يكن المسيح قد دخل ببنوته في شركة مع الله على هذا النحو الذي يجعل منه الله مندمجًا في أقنومية الآب والروح القدسي. وغاية ما كان يتصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 في هذه البنوة أنها فرع عن أصل وأنها إن دلت على الإله فلن تكون هي الإله. وفي هذا القرار إعلان صريح عن الله الآب أنه خالق للسماوات والأرض، أما الابن فلم يكن له في خلق السماوات والأرض أي دخل. ولكن المسيحية بعد هذا تدين بأن الله الآب لم يخلق شيئًا وإنما المسيح الابن هو الذي خلق كل شيء. فأقنوم الابن هو القائم بعملية الخلق كما انتهى إلى ذلك معتقد المسيحية بعد أن المسيحية إلى ما بعد منتصف القرن الرابع لم تكن قد استكملت حقيقتها فما زال موقف المسيح متأرجحا مضطرا بين الإله والإنسان. وإن الأمر ليحتاج إلى خطوة أو خطوات أخرى لسد هذه الفجوة العميقة التي تتذبذب فيها شخصية المسيح متأرجحة مضطربة بين الإله والإنسان. وليس يقوم لهذا الأمر إلا مجمع مقدس يسوي ألوان هذه الصورة المهزوزة ويحدد ملامحها وهذا ما قد كان فعلًا؟ ففي سنة 381 م، أمر الملك تاودسيوس الكبير بعقد مجمع مقدس في مدينة القسطنطينية للنظر في مقولة مقدونيوس بطريرك القسطنظينية التي كان ينادي بها في محيط كنيسته ويذيعها في أتباعه وهي أن الروح القدس مخلوق كسائر المخلوقات. وواضح من هذا أن أمر الروح القدس لم يكن قد استقر بعد كوجه من وجوه الله وأقنومًا من أقانيمه متساويًا مع الآب والابن في الرتبة، وقد اجتمع في هذا المؤتمر مائة وخمسون أسقفًا يمثلون جميع الهيئات المسيحية. وكان من بينهم تيموثاوس بطريرك الإسكندرية الذي أسندت إليه رئاسة الجميع. وقد انتهى المؤتمر بإدانة مقدونيوس ومن كان على رأيه من الأساقفة ثم خرج المجمع بالمصادقة على قرار نيقية ثم إضافة نص جديد كالآتي مع بيان نصوص الكتاب المقدس التي رجعوا إليها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 " نعم نؤمن بالروح القدس " إنجيل (يوحنا 14: 26) . " الرب " الرسالة الثانية إلى كورنثوس 2: 17-18) . " المحيي " (رومية 8: 11) . " المنبثق من الآب " إنجيل (يوحنا 15: 16) . " نسجد له ونمجده مع الآب والابن " إنجيل (متى 18: 19- 20) . " الناطق في الأنبياء " (الرسالة الأولى لبطرس 1: 11، 2 بط 1: 21) . " وبكنيسة " إنجيل (متى 16: 18) . " واحدة " (رومية 13: 5) . " مقدسة " (أفسس 5: 25، 26) . " جامعة " إنجيل (يوحنا 11: 52) . " رسولية " (أفسس 5: 3) . " ونعترف بمعمودية واحدة " (أفسس د: 5) . " لمغفرة الخطايا " (عبرانيين 8: 13، 9: 22) . " وننتظر قيامة الأموات " الرسالة الأولى لكورنثوس 15: 21) . " وحياة الدهر الآتي. آمين " إنجيل (لوقا 18: 30) ". وقد جمع هذا النص كسابقه من أشتات ملفقة من الأناجيل والرسائل ومنتزعة من مواطنها انتزاعا في غير رفق أو تلطف لتلتقي هنا على غير إلف أو تعارف وفي هذا النص يظهر الوجه الثالث للثالوث المقدس. ثم تبدأ المسيحية النظر في الإله ذي الأقانيم الثلاثة نظرًا فلسفيًا لاهوتيًا تختلط فيه الفلسفة باللاهوت ويمتزج فيه الواقع بالخيال ويعمل العقل المسيحي في جد وبراعة في نسج ملحمة من أبرع الملاحم الأسطورية التي تصل السماء بالأرض وتخلط الله بالإنسان، ولكن القصة لم تتم فصولا بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فما زال هناك فجوات تنتظر من المجامع المقدسة أن تملأها بتلك الكلمات التي تلتقطها من شتيت الصفحات في الأناجيل والرسائل. ففي سنة 431 م، أعلن نسطور بطريك القسطنطينية قوله: إن العذراء لم تلد متأنسا بل ولدت إنسانًا عاديًا ساذجا ثم حل فيه الإله بإرادته لا بالاتحاد فهو لهذا ذو طبيعتين وأقنومين. وقد انقسم المسيحيون إزاء هذا الرأي فكان بعضهم في جانب نسطور وكان البعض الآخر في الجانب المخالف له على حين وقف كثيرون موقف الحياد بين الحيرة والتردد. ومن أجل هذا دعا الملك تاودوس الصغير ملك القسطنطينية إلى عقد المجمع المقدس فحضره نحو مائتي أسقف وبعد مناقشات طويلة انتهى الرأي إلى القول بتجسد الكلمة واتحاد الطبيعتين اللاهوتية والناسوتية بدون اختلاط ولا امتزاج ولا استحالة. والذي يلفت النظر في مقررات هذا المؤتمر أنها لم تخرج مخرج المقررات التي صدرت في المجمعين السابقين حيث لم تكن في صورة دعوة إلى إيمان بحقيقة جديدة وإنما جعلت هذه المقررات مقدمة لقانون الإيمان. وكأن المؤتمرين قدروا الخطر الناجم عن تبدل صورة العقيدة وما يدخل في قلوب الناس وعقولهم من هذه الإضافات التي تحدث كلما حدثت أحداث وبرزت آراء فذلك من شأنه أن يجعل الناس يتهمون المقولات التي تلقى إليهم من جهة الدين ويتشككون في إضافتها إلى السماء حيث لا تبديل لكلمات الله. نقول إن المؤتمرين قدروا هذا كله فلم يجعلوا لمقرراتهم شيئًا جديدًا يدخل في مجال العقيدة وإنما جعلوه مقدمة إلى العقيدة ومدخلًا إلى الإيمان. وقد حملت هذه المقدمة ثلاث مقولات عن العذراء والمسيح والثالوث وها هي ذي كما صدرت في المجمع: تطويب العذراء: " نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك أيتها العذراء القديسة لأنك ولدت لنا مخلص العالم كله أتى وخلص نفوسنا ". إن هذه الكلمات القصيرة لها مصدرها؛ فقولهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 " نعظمك " تأتي من إنجيل (لوقا 1: 48) . " يا أم النور الحقيقي " من إنجيل (لوقا 1: 43) ومن إنجيل (يوحنا 1: 8-10) . " ونمجدك " من (المزمور 91: 15) . " أيتها العذراء القديسة " من (أشعياء 7: 14 ولوقا 1: 37) . " لأنك ولدت لنا مخلص العالم كله " من (لوقا 3: 11) . " أتى وخلص نفوسنا " من (لوقا 19: 10) . تمجيد السيد المسيح: " المجد لك يا سيدنا ولملكنا المسيح فخر الرسل إكليل الشهداء تهليل الصديقين ثبات الكنائس غافر الخطايا ". هذه الكلمات أيضا لها مراجعها؛ فكلمات: " المجد لك يا سيدنا " تأتي من (أشعيا 43: 8) . " لملكنا المسيح " من (لوقا 1: 33) . " فخر الرسل " من (غلاطية 6: 14) . " إكليل الشهداء " من (أشعياء 38: 5) . " تهليل الصديقين " من إنجيل (يوحنا 8: 56) . " ثبات الكنائس " من إنجيل (يوحنا 15: 34) . " غافر الخطيا " من إنجيل (متى 9: 3) . التبشير بالثالوث الأقدس: " نكرز ونبشر بالثالوث الأقدس لاهوت واحد نسجد له ونمجده. يا رب ارحم يا رب ارحم يا رب بارك. آمين ". فهذه الكلمات لها انتماؤها؛ فعبارة: " نكرز ونبشر " تأتي من (الرسالة إلى العبرانيين 10: 43) . " بالثالوث الأقدس " من (متى 28: 19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 " لاهوت واحد " من (يوحنا 5: 7) . " نسجد له ونمجده " من (متى 4: 10) . " يا رب ارحم يا رب ارحم " من (المزمور 33: 1) . " يا رب بارك. آمين " من (لوقا 53: 24) . ومن هنا نرى أنه فضلًا عن أن قانون الإيمان تطور عبر المجامع كما رأيتم فهو في الوقت نفسه ملفق من كلمات مفردة بعضها من أسفار العهد القديم ولعضها من أسفار العهد الجديد فهي كلها تلفيقات مأخوذة من أشتات متنافرة. تعليق اللواء أحمد عبد الوهاب: والآن أترك التعليق للسيد اللواء مهندس أحمد عبد الوهاب، الذي قال: لي تعليق بسيط يتلخص فيِ بيان أن آريوس الذي قال إن المسيح مخلوق وأنه أقل من الله في الجوهر ابتداء من عام 313 م فصاعدًا لم يكن هو أول من قال بهذا القول واعتقده، ولكن قال هذا المسيحيون الأوائل أيضا وهو أن المسيح إنسان مخلوق. لقد كانت تلك هي عقيدة الغالبية العظمى من المسيحيين الأوائل. كذلك فإن وصف المسيح بأنه (عبد الله) لا يزال موجودًا إلى الآن في أسفار العهد الجديد، ولكن للأسف فإن الطبعات العربية تذكرها بصورة مستترة حتى لا يتبينه القارئ العربي. فقد وصف المسيح في الأسفار بأنه نبي، ورسول، وأنه ابن الإنسان- أي ابن آدم - وكان هذا هو الاسم المحبب إليه. ولقد وصف في هذه الأسفار كذلك بأنه عبد، ولكن للأسف فإنهم لم يستخدموا هذه الكلمة وإنما استخدموا كلمة مرادفة لها بصورة مستترة. فنقرأ في إنجيل متى - وهو مشهور بأنه أكثر كتبة الأناجيل استشهادًا بأسفار العهد القديم بدعوى أنها تنبؤات سبق القول بها وكان من نتيجة التكالب على هذا العمل أن أصبح العلماء مقتنعين بعد دراساتهم الطويلة، أن متى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أشار إلى تنبؤات ليس لها وجود في أسفار العهد القديم ولا يعلم لها أصل. ولكن يهمني هنا أن أبين كيف اصطاد كاتب إنجيل متى نبوءة من العهد القديم، ولكن عندما أدرجت في العهد الجديد، في إنجيل متى، فقد حدث فيها تحوير ملحوظ حتى لا يتبينه القارئ العربي. ماذا يقول متى؟ إنه يقول في (الإصحاح 12: 15- 21) : " تبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعًا وأوصاهم أن لا يظهروه؛ لكي يتم ما قيل بأشعياء النبي القائل: هو ذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سرت به نفسي، أضع روجي عليه فيخبر الأمم بالحق. لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ حتى يخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم ". لكن نبوءة أشعياء - التي اقتبس منها متى أغلب هذه الكلمات- نجدها تقول في (الإصحاح 42: 1- 4) ما نصه: " هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ، يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته ". لكن هؤلاء السادة الذين أؤتمنوا على كتاب الله بم يراعوا تلك الأمانة، ذلك أن أول كلمات سفر أشعياء هذه تقول: " هو ذا عبدي الذي أعضده " لكنهم نقلوها في أسفار العهد الجديد لتكون " هو ذا فتاي الذي اخترته ". لقد عمدوا إلى وضع كلمة " فتى " في أسفار العهد الجديد بدلا من نظيرتها كلمة " عبد " الموجودة في أسفار العهد القديم حتى يبتعد القارئ العربي عن فكرة أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 المسيح عبد الله، ولو أن الاستعمال اللغوي لكلمة (فتى) بالعربية تعني " عبدًا " كما في سورة يوسف في قوله {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} وقوله {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} . (1) فكلمة الفتى تعني العبد. وإذًا نقرر أن الإنجيل الموجود حاليا يعترف بأن المسيح هو عبد الله. كذلك وصف تلاميذ المسيح وعلى رأسهم بطرس ويوحنا المسيح بأنه " فتى الله " أي " عبد الله ". فقد جاء في (سفر أعمال الرسل 3: 15) " إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إله آبائنا مجد فتاه يسوع ". ولو كتبت هذه " مجد عبده يسوع " فإنها تنبه عقل القارئ العربي إلى حقيقة أن المسيح هو عبد الله. ولو رجعنا إلى الترجمة الإنجليزية للكتاب المقدس لوجدنا أنها موجودة في سفر أشعياء، وفي إنجيل متى، وفي سفر أعمال الرسل بصيغة واحدة لتعطي هذا المعنى وهي Thy Servant أي " عبدك ". والخلاصة أن المسيح ذكر في أسفار العهد الجديد بأنه عبد الله. وبهذا اختتمت هذه الجلسة الرابعة على أن يعقبها في الغد الجلسة الخامسة إن شاء الله.   (1) سورة يوسف الآيات 30، 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الجلسة الخامسة الافتتاحية الدكتور محمد جميل غازي بشارات الأنبياء بالنبي الخاتم وعد الله لإبراهيم في ابنه نبوة موسى نبوة حبقوق نبوة داود تعبير دانيال النبي لحلم نبوخذنصر نبوة أشعياء نبوات عيسى تعقيب الدكتور محمد جميل غازي المجامع المسكونية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 [افتتاحية الجلسة الخامسة للدكتور محمد جميل غازي] استفتح الأستاذ الدكتور محمد جميل غازي هذه الجلسة بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وصلى الله وسلم وبارك على النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فإننا نفتتح هذه الجلسة الخامسة من هذه المناظرة الإسلامية النصرانية بآيات من القرآن الكريم من سورة المائدة. (1) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي   (1) سورة المائدة 109 - 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حديثنا الليلة عن البشائر أو البشريات التي جاءت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد قلنا وما زلنا نقول: إن هذه الكتب قد عبثت فيها أيدي التحريف وأيدي التبديل، وأيدي التغيير، ولكنه على الرغم من هذا كله ما زالت فيها بقايا وما زالت فيها نصوص لا تحتمل التأويل أبدًا، وأنها تنص نصًا قاطعًا على أن المقصود بها إنما هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي بعثه الله سبحانه وتعالى من ذرية إسماعيل - عليه السلام -. وأحب أن أقول لكم- قبل أن يبدأ العالم الفاضل الأستاذ إبراهيم خليل أحمد - إن هذه البشريات على كثرتها لا تمثل في نظر المعتقد المسلم أكثر من واحدة من آلاف الأمارات والدلالات على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنها ليست كل شيء في أيدينا نستدل به على صدق الرسول، إنما هي شيء واحد من أشياء كثيرة لا يحيط بها العد ولا يحصيها الإحصاء. هذه النبوءات وغيرها هي- كما قلت لكم- إصبع صغيرة تشير إلى الحقيقة الكبيرة وهي أن محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو رسول الله ونبيه الخاتم. ولو أننا ذهبنا نستعرض الأمارات والدلالات على صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا تكفينا الليالي ذوات العدد ويكفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 أن تعرفوا أنه أُلِّف في أمارات ودلائل النبوة كتب ومجلدات كثيرة. ولما كان وقتنا أضيق من أن نستعرض فيه كل شيء وأن وقتكم أضيق من أن يستوعب كل شيء فيكفينا الآن أن نشير إشارات عابرة إلى هذه النبوءات حسبما يتحدث إليكم في هذه الليلة الأخ العالم الأستاذ إبراهيم خليل أحمد عن البشائر في أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 جبال فاران : بعد ذلك ننتقل إلى نص آخر من نصوص التوراة حيث نجد في (سفر التثنية 33: 1-2) ما يقوله موسى: " وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال: جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم " فحينما نتأمل فإننا نتأمل أولا الأماكن المقدسة وما تعنيه، فنجد سيناء هي المكان الأول وسعير هي المكان الثاني وأما المكان الثالث فهو فاران أو جبل فاران. إن سيناء تشير إلى المكان الذي فيه موسى (التوراة خروج 24: 16-18) وأما سعير فإنها تعني أرض فلسطين التي سكنها عيسو أخو يعقوب أي أخو إسرائيل (تكوين 36: 8) والغريب أن التوراة تقضي بأن البكر هو الذي يرث باسم أبيه لقد كان عيسو هو البكر وأما يعقوب فكان الابن التالي له، لكن بأضحوكة صنعها يعقوب مع أبيه إسحاق نجده قد سرق حق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 البكورية من أخيه عيسو (تكوين 27) . لقد كان عيسو هذا- الذي أسدل عليه ستار كثيف- يسكن حسبما يقول (سفر التكوين 36: 8) : " فسكن عيسو في جبل سعير ". وعيسو هو أدوم. وكذلك جاء في (سفر التكوين. 32: 2) : " وأرسل يعقوب رسلًا قدامه إلى عيسو أخيه إلى أرض سعير بلاد أدوم ". وعلى ذلك تكون سعير هي أرض فلسطين التي وطئتها أقدام الأنبياء من ذرية يعقوب الذي أخذ حق البكورية من أخيه عيسو - وكان منهم السيد المسيح. والآن نأتي إلى أرض فاران. من العجب العجاب- أيها الإخوة- أن الله سبحانه وتعالى وعد إبراهيم بالأرض من النيل إلى الفرات كما جاء في (سفر التكوين 15: 18- 19) : " في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات. القينيين والقنزيين والقدمونيين والحثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين ". هؤلاء هم شعوب هذه الأرض الذين سيطردهم الله ويسكنها نسل إبراهيم. إن هذا الوعد الذي أعطي لسيدنا إبراهيم - عليه السلام - ولم يكن له ولد آنذاك، ولكن المرأة هي المرأة تشتاق إلى الأرض وإلى استثمار الأرض، فجاءت سارة امرأة إبراهيم - عليه السلام - وكانت عاقرًا لم تلد فطلبت من زوجها إبراهيم أن يدخل على سيدة كريمة في بيتها هي هاجر لعل الله سبحانه يعطيها نسلًا. فتزوجها وأنجب منها إسماعيل وكان قرة عين لإبراهيم ولهاجر ولسارة أيضا. وفي هذا يقول (سفر التكوين 16: 1- 4) : " وأما ساراي امرأة إبرام فلم تلد له وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراي لإبرام هو ذا الرب أمسكني عن الولادة ادخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين. فسمع إبرام لقول ساراي فأخذت ساراي امرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 إبرام هاجر المصرية (1) جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة إبرام في أرض كنعان وأعطتها لإبرام رجلها زوجة له فدخل على هاجر فحبلت ". بهذا أعطي إبراهيم الولد وكان هو إسماعيل الذي سيرث نسله الأرض من النيل إلى الفرات. بعد ذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يزيد إبراهيم فيعطيه إسحاق بعد أن بلغ عمر إسماعيل 14 سنة، وهناك بدأت الغيرة تدب في قلب سارة وبدأت تؤثر ابنها إسحاق على إسماعيل وبدأت تطلب من إبراهيم أن يعزل هاجر وابنها عن المشاركة في البيت. تقول التوراة في (سفر التكوين 21: 9- 13) : " ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح فقالت لإبراهيم اطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق. فقبح الكلام جدًا في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. وفي كل ما تقول لك سارة اسمع قولها. لأنه بإسحاق يدعى لك نسل. وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك ". من هنا يتبين لنا مقدار قبح الكلام الذي قالته سارة عن إسماعيل وأمه والذي قبح تمامًا في عيني إبراهيم، ولكنه اضطر أن يأخذ زوجه هاجر وابنهما إسماعيل ويذهب ليسكنهما في القفر. كما قال القرآن الكريم على لسان إبراهيم حين دعاه {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} . (2) وتقول التوراة إن إسماعيل سكن في برية فاران، إذ يقول (سفر التكوين 21: 17- 21) : " سمع الله صوت الغلام ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها ما لك يا هاجر لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت   (1) للجارية مدلول للسيدة التي نتعارف عليها بين الأوساط الراقية الوصيفة وهي غير الأمة التي ملك اليمين. (2) سورة إبراهيم، آية 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الغلام حيث هو. قومي احملي الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة. وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء. فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام. وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر ". ومن هنا نرى أن الجزء الثالث الذي تكلم عنه موسى - عليه السلام - إذ قال: " وتلألأ من جبل فاران " إنما هو إشارة إلى إسماعيل - عليه السلام - والنبي الخاتم الذي يأتي من نسله، والذي تأكدت فيه الوعود الإلهية كما في (سفر التكوين 21: 13) : " وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك "، وفي (سفر التكوين 17: 20) : " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرًا جدًّا. اثني عشر رئيسًا يلد وأجعله أمة كبيرة ". من تحريفات بولس: ولكن تمر الأيام ويأتي المسيح مولودًا من عذراء ثم يبلغ رسالته ولكن يندس في دعوته أناس ما كانوا على صلة بالمسيح ومن هؤلاء شاول الذي هو بولس. لقد كان شاول يمثل الحقد الأسود بين المسيحية وبين أتباع محمد الذي يأتي من نسل إسماعيل - عليه السلام -. إنه يقول في (رسالة غلاطية 4: 30- 31) : " لكن ماذا يقول الكتاب. اطرد الجارية وابنها لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة. إذًا أيها الإخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد الحرة ". من هنا نرى أن الحرب بين الصليبيين وبين المسلمين سجال من وقت أن كتب بولس رسالته إلى أهل غلاطية. فهم يعتقدون أنهم من نسل إسحاق - عليه السلام - ولهذا النسب إلى إسحاق فعلى رأيهم تكون لهم المواعيد ولهم الشريعة ولهم الملك. ولكن عندما نسير في استقراء النبوات سنرى أن هذا الكلام سيضرب به عرض الحائط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 نبوة حبقوق الأذان: " لا إله إلا الله محمد رسول الله ". نأتي بعد موسى - عليه السلام - إلى حبقوق الذي يقول في (سفره، الإصحاح 3 عدد 3، 4) : " الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات والأرض. امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع وهناك استِتَار قدرته ". إن هذه النبوءة التي قالها حبقوق إنما تشير إلى مكة المكرمة. فقوله " الله جاء من تيمان " تشير إلى بلد في جنوب شرقي تبوك قرب من المدينة المنورة. وقوله " القدوس من جبل فاران " إنما هي إشارة إلى مكة المكرمة. وحينما يقول " جلاله غطى السماوات " ماذا تعني هذه العبارة؟ إننا في هذه الليلة حينما استمعنا إلى أذان العشاء فقد توقفنا عن الحديث وتابعنا المؤذن. إذن هي صيحات " الله أكبر " التي تتردد في الآفاق في كل الأرض التي يسكنها المسلمون قلوا أو كثروا. إنها جلال الله الذي يغطي السماوات والأرض. إنها لا يمكن أن تشير إلى كنيس اليهود الذي يستخدم البوق، ولا تشير إلى كنيسة النصارى التي تستخدم الجرس، ولكنها تشير إلى مئذنة المسجد حيث يعلوها المؤذن ليشهد أن " لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله " وليعلن للناس كافة " الله أكبر "، حتى إذا ما أقيمت الصلاة قام المسلمون خاشعين لله يسبحون ويكبرون ويسجدون بجباههم على الأرض تعظيمًا لله. ولا يحدث شيِء من هذا لا في كنيس اليهود ولا في كنيسة النصارى، فلا تمتلئ الأرض بتسبيح الله إلا في صلاة المسلمين، بل وفي غير صلاتهم فهم دائمًا أهل التسبيح والتحميد. وأما قوله: " وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع وهناك استِتَار قدرته " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 فما أعظم وما أمجد أن يرفع القرآن عاليًا، ففيه النعمة وفيه الهداية وفيه البركة وفيه كل الخير. لقد قال هذا حبقوق النبي. نبوة داود الحجر الذي رفضه البناؤون هو مسار رأس الزاوية: ونرجع الآن لسيدنا داود - عليه السلام - نجده يقول في (المزمور 118: 22- 23) : " الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا ". إن هذا يعني أن أنبياء بني إسرائيل على كثرتهم تشير إليهم الحجارة الكثيرة في بناء بيت الرب، أما الحجر الذي هو رأس الزاوية ويمسك البناء كله فهو وإن كان حجرًا واحدًا إلا أنه هو الأهم والأعظم أثرًا في إقامة البناء وتماسكه. إنه يشير إلى محمد خاتم النبيين والذي بدونه لا ترتبط النبوات معًا ولا يمكن أن تكون لها قيمة تذكر تمامًا كما أنه بدون ذلك الحجر " رأس الزاوية " لا يكتمل البناء ولا يكون له قيمة. لقد كان هذا الأمر " من قبل الرب ". ربما يقول قائل إن هذا الكلام يشير إلى المسيح - عليه السلام -، ولكن المسيح قال موجهًا كلامه لبني إسرائيل في تنديد شديد - كما في إنجيل (متى 21: 43-44) : " قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار هو رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره. ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه ". إن قول المسيح هنا: " لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم " يعني أن النبي الخاتم الذي يرمز إليه هذا الحجر " رأس الزاوية " لن يكون من بني إسرائيل، وإنما يكون من أمة صالحة تأمر بالمعروف وتنهى عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 المنكر وتؤمن بالله الواحد الأحد، إنها أمة العرب المسلمة. وأما قوله: " ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه "، فإنما يشير إلى قوة الإسلام وأن من يعاديه سوف يسحقه الله. وقد كان هذا مما سجله التاريخ، حيث استطاعت قلة ضعيفة من العرب المسلمين أن تكتسح أعظم إمبراطوريتين قويتين في زمن ظهور الإسلام- أو هما القوتين العظميين بلغة عصرنا الحاضر- فقد قضى المسلمون الناشئون على الإمبراطورية الفارسية، كما اقتطعوا من الإمبراطورية الرومانية نصف أملاكها التي كانت أرضًا كثيرة الخيرات غنية بالأموال والرجال. إن تنبؤ المسيح بهزيمة أعداء الإسلام هنا يتفق وما سبق أن قاله موسى في (سفر التثنية 18: 19) : " ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه ". أي أن الله سبحانه وتعالى سينتقم منه. تعبير دانيال النبي لحلم نبوخذ نصر وأكثر من هذا نرى دانيال الذي كان واحدًا من اليهود المسيحيين في أرض بابل، أنه في أيام الملك نبوخذ نصر الذي هدم الهيكل وأخذ كل ما فيه من توراة وأوانٍ ذهبية وغير ذلك قد حلم حلمًا لم يستطع أن يفسره سوى دانيال الذي قال للملك كما في (سفر دانيال الإصحاح 2 العدد 31- 36) : " أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم، هذا التمثال العظيم البهي جدًا وقف قبالتك ومنظره هائل، رأس التمثال من ذهب جيد، صدره وذراعاه من فضة، بطنه وفخذاه من نحاس، ساقاه من حديد، قدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف، كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا وصار كعصافة البيدر في الصيف فحملتها الريح فلم يوجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 لها مكان، أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلًا كبيرًا وملأ الأرض كلها، هذا هو الحلم فنخبر بتعبيره قدام الملك ". " أنت أيها الملك ملك ملوك لأن إِله السماوات أعطاك مملكة واقتدارًا. وسلطانًا وفخرًا. وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك وسلطك عليها جميعًا. فأنت هذا الرأس من ذهب. وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك ومملكة ثالثة أخرى من نحاس فتتسلط على كل الأرض. وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد لأن الحديد يدق ويستحق كل شئ وكالحديد الذي يكسر تسحق وتكسر كل هؤلاء. وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف والبعض من حديد فالمملكة تكون منقسمة ويكون فيها قوة الحديد من حيث أنك رأيت الحديد مختلطًا بخزف الطين. وأصابع القدمين بعضها من حديد والبعض من خزف فبعض المملكة يكون قويًّا والبعض قصمًا. وبما رأيت الحديد مختلطًا بخزف الطين فإنهم يختلطون بنسل الناس ولكن لا يتلاصق هذا بذاك كما أن الحديد لا يختلط بالخزف. وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكها لا يترك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد؛ لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب الله العظيم قد عرّف الملك ما سيأتي بعد هذا. الحلم حق وتعبيره يقين " (2: 37- 45 ) . وبدراسة التاريخ نجد أن أقدم مملكة بعد الفراعنة هي المملكة البابلية وهي رأس من ذهب. بعد ذلك تأتي المملكة الفارسية وهي من الفضة. بعد ذلك المملكة المقدونية الإغريقية وهي من النحاس. بعد ذلك المملكة الرومانية وهي من الحديد. وهذه الأخيرة انقسمت إلى قسمين كبيرين: الشرقية والغربية، وبعد ذلك تفتتت إلى ممالك أخرى. وبعد ذلك قامت دولة الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 التي ورثت هذه الممالك العظيمة وهي مملكة خرجت من الصحراء إذ أشير إليها بحجر قد قطع من جبل. وهذا الحجر قد قضى على تلك الممالك. إنه الإسلام الباقي إلى الأبد، إذ يقول دانيال: " وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكها لا يترك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد " (1: 44) . لقد ولد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مكة المكرمة التي تحيطها الجبال من كل جانب، ثم اختاره الله- سبحانه- نبيا ورسولا فتحقق الوعد فيه لإبراهيم وإسماعيل وتحقق تفسير دانيال فما هي غير سنوات حتى كان الإسلام هو القوة الظاهرة في العالم، لم يمتد من النيل إلى الفرات فحسب إنما امتد من الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا. إنه مهما حاول الحاقدون أن يطمسوا هذه المعالم فلن يستطيعوا أبدًا. لقد حاولت أنا شخصيًا لمدة خمسة عشر عامًا أن أحارب الإسلام، ولكن الله سبحانه وتعالى قهرني، فبدلا من أن أكون عونًا لسياسة استعمارية كضالع في الحركة التنصيرية في البلاد إذ بالله سبحانه يهديني إلى الإسلام وصيرني بفضله ونعمته أن أكون داعيًا للإسلام على خير وجه إن شاء الله، فأذود عن الوطن وعن الدين وعن العروبة (1) . نبوة أشعياء المدينة المنورة: بعد ذلك نذهب إلى (سفر أشعياء 42: 11- 13) الذي يقول: " لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار؛ لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا الرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر.   (1) العبارة الصحيحة أن يقال: «عن الإسلام وعن أرض الإسلام وعن لغة القرآن» . الناشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الرب كالجبار يخرج. كرجل حروب ينهض غيرته. يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه ". وهنا نرى الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، إذ إن سالع جبل من الجبال القريبة من جبل أحد في المدينة المنورة. وقوله " لتترنم سكان سالع " إنما كان نبوءة عن استقبال الرسول بالأناشيد والهتاف فرحًا بمقدمه إلى المدينة. وهذا ما حدث فعلًا حين استقبله أهل يثرب بإنشادهم. طلع البدر علينا من ثنيات الوداع. مكة المكرمة : كذلك نجد في (سفر أشعياء 60: 1-7) : " قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك. لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض، والظلام الدامس. أما عليك فيشرق الرب ومجده عليك يُرى فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك. ارفعي عينيك حواليك وانظري. قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك. يأتي بنوك من بعيد وتحمل بناتك على الأيدي. حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع لأنه تتحول إليك ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم. تغطيك كثرة الجمال، بكران مديان وعيفه كلها تأتي من شبا. تحمل ذهبًا ولبانا وتبشر بتسابيح الرب. كل غنم قيدار تجتمع إليك. كباش نبايوت تخدمك. تصعد مقبولة على مذبحي وأزين بيت جمالي ". إن النبوءة هنا تتحدث عن مكة المكرمة فقوله: " قومي استنيري لأنه قد جاء نورك " يشير إلى بداية الإشعاع بنور الإسلام، بنور التوحيد من مكة المكرمة. وقوله: " ها هي الظلمة تغطي الأرض "، إنما يعني الشرك الذي كان في بلاد العرب، والمجوسية التي كانت في أرض فارس، والوثنية الهندية في بلاد الهند، والضلال والشرك الذي لحق بالنصرانية في بلاد الروم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ومستعمراتها. لقد كان الظلام الدامس يغطي الأمم فعلًا. ولكن وسط هذا الظلام الدامس يبدأ نور الإسلام في الظهور من مكة المكرمة. وقوله: " فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك " يعني أن العالم كله سوف يسمع صوت الحق وتسير الأمم والملوك إليك. إن بلاد العرب أرض قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، ولكن الله سبحانه سوف يجعل ثروة الأمم تتدفق عليها استجابة لدعوة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - التي يقول فيها {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . (1) . لهذا جاءت ثروات الأمم لتتدفق على مكة المكرمة وعلى بلاد العرب. وفي قوله " تغطيك كثرة الجمال " إشارة قوية إلى أن المراد هو بلاد العرب ثم عاصمتها مكة المكرمة التي يفد إليها الحجاج من كل حدب وصوب ووسيلتهم إليها هي الجمال، لأن الأرض الصحراوية لا يقدر على السير فيها سوى الجمال. ثم هو يتحدث هنا عن نبايوت وقيدار وغيرهم، وهم من أولاد إسماعيل - عليه السلام - حسبما جاء في (سفر التكوين 25: 12-18) .   (1) سورة إبراهيم، آية 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 نبوات عيسى المعزي: هذا، ولقد استكمل الأستاذ إبراهيم خليل أحمد حديثه قائلًا: إن ما يجب أن أعول عليه كل التعويل- فضلًا عن النبوءات التي جاءت في العهد القديم- هو ما قاله السيد المسيح، فنجد في إنجيل (يوحنا 14: 16-17) : " أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم ". وحين نذهب إلى العهد القديم نجد أن الله هو إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. ما اسم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 عندهم؟ إنه: يهوه. لقد صوروه على أنه إله دموي يظهر في ظواهر طبيعية ورعود وبرق ونيران. إله يحارب ويدمر ويحرق بالنيران. هذا هو الإله الذي عرفه بنو إسرائيل إلى أن ظهر المسيح - عليه السلام -. لقد أرد المسيح أن يخفف من هذه الصفات التي نسبوها لله سبحانه وتعالى، وكان اليهود أناسًا ماديين لم يرقوا بعد إلى الروحانية، فشاء أن يعبر لهم عن الإله الرحمن الرحيم بقوله: " قولوا أبانا الذي في السماوات ". فرمز إلى الله بالأب على اعتبار أن الوالد كله حنان وإشفاق ورعاية لأولاده ولمن يرعاهم. ونجد في إنجيل (يوحنا 14: 25-26) : " بهذا كلمتكم وأنا عندكم. وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ولذكركم بكل ما قلته لكم ". كذلك نجد في إنجيل (يوحنا 15: 26-27) " ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء ". وفي إنجيل (يوحنا 16: 7- 11) : " لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا. وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين ". وكذلك في إنجيل (يوحنا 16: 12- 14) : " إن لي أمورًا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 روح الحق: إن كل هذه النصوص تأتي من إنجيل يوحنا، ولنتناول الآن النص الأخير من عدد 12 إلى عدد 14 من (الإصحاح 16) فنرى أولًا أن التلاميذ ليسوا على. المستوى المطلوب لحمل مسؤولية الدعوة. إنه يقول: " إن لي أمورًا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن "، وذلك بالإضافة إلى قوله في إنجيل (يوحنا 16: 32) : " هو ذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي ". من هذا نرى أن النبي الذي يأتي بعد المسيح قد وصفه بأنه روح الحق ومسؤوليته أن يرشدهم -أي سيرشد المسيحيين- إلى جميع الحق. كذلك نجد المسيح - عليه السلام - يضع أصابعه في عيون المستشرقين الذين كفروا بنبوة محمد فيقول: " لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ". وهذا ما تحقق في الرسول عليه الصلاة والسلام الذي تلقى الوحي عن الروح القدس جبريل - عليه السلام - وهذا ما يقوله القرآن الكريم. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . (1) . وأما قوله: " ويخبركم بأمور آتية " فهذا يشير إلى عظمة الإسلام وعلو مصدره. إننا لو تصفحنا الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين، ثم نرجع إلى القرآن الكريم وهو يحدثنا عن الإعجاز العلمي الذي ما كان يستطيعه ذلك النبي الأمي الذي عاش في بيئة أمية في القرن السابع الميلادي، بل ما كان يستطيعه أساطين العلم والحكمة من مختلف الأمم الراقية في ذلك الزمان، لأدركنا شيئًا من عظمة القرآن الكريم. لنقرأ ما يقوله القرآن الكريم عن كيفية خلق الإنسان في بطن أمه ومراحله المختلفة التي يمر بها كما تقول سورة المؤمنون {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً   (1) سورة النجم، الآيات 2، 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . (1) . إن هذه الأطوار التي يتقلب فيها الإنسان في بطن أمه هي ما حققه العلم الحديث، وهي واحدة من البراهين على صدق هذا النبي الأمي. ونجد في إنجيل (يوحنا 15: 26) : " ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء ". لقد درست- ولله الحمد- اللغة اليونانية وذلك لمعرفة حقيقة العهد الجديد، وكذلك درست اللغة العبرية لمعرفة حقيقة العهد القديم. فنجد في اللغة اليونانية أن كلمة " المعزي " المذكورة في إنجيل يوحنا هي باللغة اليونانية (بارقليط) ، وهذه الكلمة لها أربع معان هي: المعزي- المحمد- المحمود- الماحي. لقد استعمل كتبة لأناجيل كلمة المعزي، لماذا؟ إنهم يمكرون، {وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . ليكن ما كتبوه وهي كلمة المعزي. لكنها تعني في الحقيقة: المواسي. إن معنى هذا أن المسيح يقول إن الآتي بعدي سيكون معزيًّا للقلة المؤمنة لأن العقيدة قد انحرفت من الطريق السوي إلى طرق مختلفة. فكأن المعزي هو المواسي. ولسوف نرى من خلال حديثي عن المجامع كيف ظهرت هذه المسألة. إن المعزي الذي جاء بعد المسيح جاء ليواسي أهل التوحيد الذين يقولون " لا إله إلا الله " ومنهم آريوس.   (1) سورة المؤمنون الآيات 12، 13، 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ولو استخدم كتبة الأناجيل- بدل كلمة المعزي- كلمة المحمد أو المحمود لكان هذا اعترافًا صريحا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولو استخدموا كلمة الماحي لكان ذلك اعترافًا صريحًا أيضا بصدق نبوة محمد. لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «لي خمسة أسماء (1) : أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا العاقب، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه» ، إن القرآن الكريم يقول في سورة الأعراف {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} . (2) . حين مارست التبشير بين المسلمين، والحق أقول لكم إني فعلت هذا في سابق عهدي قبل أن يهديني الله إلى الإسلام فقد كنت أتودد إلى المسلمين وأتقرب إليهم وأقول لهم إن القرآن الكريم يبين أن النصارى أهل مودة وأنهم أهل رأفة وأهل رحمة، فلقد قال القرآن الكريم في سورة المائدة {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (3) إن أي إنسان مسلم واع سيقول: يا أخي؟ أنت لا تزال على نصرانيتك وتتكلم هكذا. يبدو أنك تلعب بالألفاظ. هل تؤمن حقًا بالقرآن؟ إن القرآن الكريم قال {أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ، هو ذاته القرآن الذي قال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} . قالها مرتين في الآيتين 17، 72 من سورة المائدة.   (1) أخرجه مالك في الموطأ 1 / 72، ومن طريقه البخاري في المناقب 4 / 162، عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره. (2) سورة آل عمران، آية 157. (3) سورة المائدة، آية 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أضف إلى هذا شيئًا هامًا لا يتنبه إليه الكثيرون من المسلمين وهو أن القرآن قد تحدث عن قرينة المودة ولم يتحدث إطلاقًا عن قرينة العقيدة. وفرق كبير بين هذا وذاك. المجامع المسكونية إن نظرة تاريخية سريعة على القرون الأولى للمسيحية ترينا أن النصرانية كانت بين شقي الرحى، بين اضطهاد اليهود واضطهاد الوثنية الرومانية. وفي سنة 325 م، كانت القسطنطينية قاعدة الدولة الرومانية الشرقية ولما كان أغلب رعايا الإمبراطور قسطنطين من المسيحيين، وكان أغلب الوثنيين في حوزة روما في الغرب، فلكي يقوي مركزه فإنه قرب المسيحيين إليه، ولكن لما كانوا هم أنفسهم مختلفين حول المسيح فقد دعاهم إلى عقد مجمع لحسم هذه الخلافات العقائدية التي كان لها أثرها على إشاعة عدم الاستقرار في إمبراطوريته. لذلك عقد مجمع نيقية سنة 325 م، وقد حضره 2048 أسقفًا من جميع أنحاء العالم وذلك لتحديد من هو المسيح. وقول كتاب " تاريخ الكنيسة " لمؤلفه هيستنج إن المجتمعين تناظروا معًا وكان بينهم آريوس واحد من العلماء، وقد قال إن المسيح - عليه السلام - رسول الله ونبي الله هو إنسان وعبد من عباد الله. وقد تبع آريوس 1731 من الأساقفة المجتمعين. ولكن اثناسيوس الذي كان أصلًا شماسًا بكنيسة الإسكندرية انتهز هذه الفرصة فأراد أن يتقرب إلى قسطنطين الوثني وأعلن أن المسيح هو الإله المتجسد. لقد اتبع اثناسيوس 317 عضوا فقط من أعضاء المجمع. وبعد أن استعرض قسطنطين الآراء، وكان لا يزال على وثنيته فإنه مال إلى رأي اثناسيوس لما فيه من عقيدة وثنية تؤمن بتجسيد الآلهة ونزولها من السماء، فأقر مقالة اثناسيوس وطرد الأساقفة الموحدين وعلى رأسهم آريوس. وأخطر من هذا أنه قضى بحبس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الكتاب المقدس فلا يسمح بتداوله بين الناس وأن يقتصر تعليم الدين على ما يقوم القساوسة بتلقينه للناس. ومن عجب أن استمرت هذه البدعة الخطيرة سائدة في النصرانية ولم يخرج الكتاب المقدس من حبسه إلا في عام 1516 م، على أيام لوثريوس. ذلك ما كان من أمر مجمع نيقية الذي كانت أخطر قراراته هي تأليه المسيح. تعقيب الدكتور محمد جميل غازي ولقد عقب الدكتور محمد جميل غازي بقوله: لي تعقيب بسيط على قضية البشارات والتي أرجو أن ننتبه لها جيدًا، وهي في ثلاثة نصوص. لقد ورد في إنجيل (لوقا 2: 14) قوله عن تسبيح الملائكة: " المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة ". كذلك ورد في (سفر التكوين 17: 20) : " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، هأنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدًا. وأكثره اثني عشر رئيسًا يلد وأجعله أمة كبيرة ". كذلك ورد في إنجيل (متى 11: 13- 14) : " لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا. وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي ". ولنذهب الآن لدراسة النص الأول، ولسوف أنقل هنا تعليقًا عليه لأحد المسيحيين الذين أسلموا وهو عبد الأحد داود الذي كان مطرانًا للموصل. لقد قدم سيادته بحثًا لغويًّا استنبط منه أن ميلاد المسيح كان بشارة بميلاد محمد، وأورد من إنجيل لوقا ما يدل على ذلك: فقد جاء في إنجيل لوقا أنه عند مولد المسيح ظهر جمهور من الجنود السماوية للرعاة السوريين وأخذ هؤلاء الأملاك يترنمون بالنشيد الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 " المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة ". وهذا هو النص الموجود في الترجمة العربية كثيرة الانتشار. أما النص في الترجمة التي قامت بها " جمعية التوراة-Bible Society " فهو: " الحمد لله في الأعالي. على الأرض سلامة. وفي الناس حسن رضى " ويقول السيد عبد الأحد: إن هؤلاء الأملاك لم يتكلموا باللغة العربية ولو تكلموها ما فهم هؤلاء السوريون، ولم يتكلموا كذلك بلغة غير لغة هؤلاء الرعاة، لأن طبيعة الرعاة ألا يعرفوا لغات أجنبية لقلة ثقافتهم. وإذا كانت الأنشودة باللغة السوريانية لغة الرعاة، فما هي كلمات الأنشودة بهذه اللغة وما ترجمتها الحقيقية وبخاصة الكلمتين: السلام أو سلامة، والمسرة أو حسن الرضى؟ وقبل أن يجيب سيادته على هذا السؤال يؤكد تأكيدًا قاطعًا أن ترجمة الكلمتين السوريانيتين: السلام أو سلامة، والمسرة أو حسن الرضى، إنما هي ترجمة خاطئة. ويتساءل ما معنى " على الأرض السلام أو سلامة "، وأي سلام شهدته الأرض منذ خلقها؟ وقد دنسها أحد ابني آدم حين قتل أخاه في مطلع البشرية، واستمر بعض أولاد آدم يقتلون إخوتهم دون توقف حتى العهد الحاضر، وأصبح طبيعيًا للنوع البشري أن يعيش عيشة تكاد تكون مستمرة بين الفجائع الوخيمة والاختلافات والحروب التي جبلت عليها الطبيعة البشرية. وأن ما يقال في هذه الجملة يقال كذلك في الجملة الأخرى: " وبالناس المسرة " أو " وفي الناس حسن الرضى "، فأين المسرة التي رآها الناس وما قيمتها إذا قيست بالدموع والعرق والكفاح والآلام التي يعانيها الجنس البشري؟ وأين حسن الرضى الذي أظهروه والأطماع لا تحد والكفاح لا يلين؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ومما يؤيد بطلان هذه الترجمة أن تولستوي المفكر الروسي الشهير كتب مؤلفًا عن الأناجيل الأربعة ورتب من الأربعة أناجيل إنجيلًا واحدًا رابطًا جمل الآيات المفيدة على زعمه بعضها ببعض. ولم يثبت تولستوي هذه الآية في إنجيله الشامل زاعمًا أنها من الآيات المعروفة التافهة ومن لغو القول. وبعد هذا يورد السيد عبد الأحد الكلمتين الأصليتين وهما: " إيريني- وأيادوكيا " ويوضح ببحث لغوي طويل أن " إيريني " معناها الإسلام، وأن (أيادوكيا) معناها أفعل تفضيل من الحمد أي أكثر الحمد أو أحمد. والمعنى العام كما يراه هو: " الحمد لله في الأعالي. أوشك أن يجئ الإسلام في الأرض. يقدمه للناس أحمد ". ويؤكد مرة أخرى أنه لو كان المقصود سلام بمعنى الأمن وعدم الحرب لاستعملت كلمة " شام " السوريانية أو " شالوم " العبرانية. وأما بخصوص النصين الآخرين فسوف نجري عملية حسابية بسيطة تتعلق بما يعرف باسم " حساب الجمل " وهو حساب عرفه علماء بني إسرائيل واستخدموه في تفسيراتهم للتنبؤات. فهذه هي الحروف وما يقابلها من أعداد: ي ط ح ز وهـ د ج ب أ 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 ر ق ص ف ع ص ن م ل ك 200 100 90 80 70 60 50 40 30 20 غ ظ ض ذ خ ث ت ش 1000 900 800 700 600 500 400 300 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ولنرجع الآن للنص الثاني من النصوص الثلاثة السابقة وهو الذي يقول فيه الرب لإبراهيم: " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. هأنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدًا. اثنا عشر رئيسًا يلد وأجعله أمة كبيرة ". إن كلمتي " كثيرا جدا " تقابلها في اللغة العبرية " بماد ماد " وكذلك كلمتي " أمة كبيرة " تقابلها في اللغة العبرية " لجوي جدول ". ولحساب القيمة العددية للكلمتين العبريتين " بماد ماد " نجدها كالآتي: ب م أد م أد 2+ 40+ 1+4 +40 +1 + 4 = 92 وكذلك بحساب القيمة العددية للكلمتين العبريتين " لجوي جدول " نجدها كالآتي: ل ج وي ج د ول 30+ 3+ 6+ 10 + 3+ 4+ 6+ 30= 92 والآن نحسب القيمة العددية لكلمة " محمد " فنجدها كالآتي: م ح م د 40 + 8 + 40 + 4 = 92 إن هذا يبين وفق حسابات علماء بني إسرائيل في استخراج النبوءات، أن بركة إسماعيل التي وعد الله بها إبراهيم ستظهر في شخص محمد. بعد ذلك نذهب لدراسة النص الثالث الذي أورده إنجيل متى في قوله على لسان المسيح: " لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا. وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيلياء المزمع أن يأتي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وبحساب القيمة العددية لكلمة " إيلياء " نجدها كالآتي: أي ل ي أء 1 + 10 + 30 + 10 + 1 + 1 = 53 ثم بحساب القيمة العددية لكلمة " أحمد " نجدها كالآتي: أح م د 1 + 8 + 40 + 4 = 53 إن هذا يبين مرة أخرى أن النبي الذي أعلن المسيح مجيئه من بعده - كما تبينها عبارته عن المستقبل بقوله " المزمع أن يأتي " -إنما هو " أحمد ". وهو واحد من الأسماء المشهورة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وصدق الله العظيم إذ يقول القرآن الكريم في سورة الصف {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} . (1) . والآن أكتفي بهذا القدر وأترككم لحديث الأستاذ إبراهيم خليل أحمد. تكملة حديث الأستاذ إبراهيم خليل أحمد : هذا وقد بدأ الأستاذ إبراهيم خليل أحمد تكملة حديثه فقال: نأتي بعد ذلك إلى الآية الكريمة رقم 73 من سورة المائدة والتي تقول {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} .   (1) سورة الصف، آية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 مجمع القسطنطينية: لقد حدث في مجمع القسطنطينية سنة 381 م، أن قال مقدونيوس إن الروح القدسي ليس بإله بل إنه رسول من رسل الله. وقد شاع هذا بين المسيحيين في أنحاء الإمبراطورية الرومانية فلم يجدوا فيها بدعة ولا منكرًا. إلا أن الحاقدين أوعزوا إلى الملك أن يأمر بعقد مجمع، فعقد مجمع القسطنطينية سنة 381 م، وقد حضره 150 أسقفا، علمًا بأن مجمع نيقية الذي عقد سنة 325 م قد حضره 2048 أسقفًا. لقد كان عدد الحاضرين في مجمع القسطنطينية صغيرًا جدًا إذا قورن بمجمع نيقية. وقد كانت حصيلة هذا المجمع الصغير أن الروح القدس هو إله من جوهر الله. إن القرآن الكريم يقول في سورة النساء {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} . (1) إن التثليث في حقيقته ليس إلا فلسفة ظهرت في مدينة الإسكندرية قبل ظهور المسيح عيسى بن مريم إذ كانت الفلسفة الأفلوطينية الحديثة تقرر أن المسيطر والمهيمن على العالم ثلاث قوى هي: العقل- اللوجوس- الروح. ومن هذه الفلسفة جاءت إضافة في إنجيل (متى 28: 19) : " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس ". ونجد في هامش الكتاب المقدس توضيحًا يقول: " لم تكن هذه العبارة موجودة في النسخة الأصلية اليونانية ". ومما يؤكد أن هذه الإضافة مستحدثة قول المسيح لتلاميذه كما جاء في   (1) سورة النساء، آية 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 إنجيل (متى 10: 5-7) : هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلًا: " إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحَريِّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. وفيما أنتم ذاهبون اكروزا قائلين إنه قد اقترب ملكوت السماوات " قد حصر المسيح رسالة تلاميذه في بني إسرائيل، وهو نفسه قد حصر رسالته في بني إسرائيل إذ قال في إنجيل (متى 15: 24) : " أجاب وقال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ". هذا، وحين نستخدم العقل لمناقشة مشكلة التثليث نقول إنه لو وجد في ذات الله ثلاثة أقانيم ممتازة حقيقية كما يزعمون لكان الله مركبا. ولما كان المعروف بداهة أن كل مركب مفتقر إلى غيره فمعنى ذلك أن يكون الله محتاجًا، وهذا باطل. ولو كان الاتحاد بين لاهوت الله وناسوته حقيقيًا كما يعتقدون لكان أقنوم الابن محدودًا، وكل ما يكون قابلًا للزيادة أو النقصان محدث والمحدث لا يمكن أن يكون إلهًا لأن الله أزلي وليس بحديث. إن القرآن يقول، وقول الله هو الحق، كما جاء في سورة الأنبياء {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} . (1) . تأليه مريم: وننتقل الآن إلى شبهة أخرى من الشبهات التي دخلت على الكنيسة وهي شبهة تأليه مريم العذراء. لقد كان أسقفًا يدعى نسطور كان بطريك القسطنطينية وقد قال: إن السيدة مريم العذراء إنما هي أم الإنسان يسوع المسيح وحاشا لها أن تكون أم الإله. وإن المسيح ذاته لم يكن إلهًا وإنما كان إنسانًا   (1) سورة الأنبياء، آية 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ملهمًا من الله. لقد انتشرت هذه العقيدة مما أدى إلى عقد مجمع في مدينة أفسس حضره مائتان من الأساقفة. وقرروا أنها والدة الإله. وفي هذا يقول القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . (1) . يقول وول ديورانت في كتابه " قصة الحضارة " جزء11 صفحة 418 ما نصه: " لما فتحت المسيحية روما انتقل إلى الدين الجديد- أي الدين المسيحي- دماء الدين الوثني القديم: لقب الحبر الأعظم، وعبادة الأم العظمى، وعدد لا يحصى من الأرباب التي تبث الراحة والطمأنينة في النفوس وتمتاز بوجود كائنات في كل مكان لا تدركها الحواس، كل هذا انتقل إلى المسيحية كما ينتقل دم الأم إلى ولدها. وأسلمت الإمبراطورية المحتضرة أزمة الفتح والمهارة الإدارية إلى البابوية القوية. وشحذت الكلمة بقوة سحرها ما فقده السيف المسلول من قوته. وحل مبشرو الكنيسة محل الدولة. إن المسيحية لم تقض على الوثنية بل ثبتتها، ذلك أن العقل اليوناني عاد إلى الحياة في صورة جديدة، في لاهوت الكنيسة وطقوسها ونقلت الطقوس اليونانية الخفية إلى طقوس القداس الرهيبة، وجاءت من مصر آراء الثالوث المقدس ويوم الحساب وأبدية الثواب والعقاب وخلود الإنسان في هذا أو ذاك. ومن مصر جاءت عبادة الأم الطفل، والاتصال الصوفي بالله ذلك الاتصال الذي أوجد الأفلوطينية   (1) سورة المائدة الآيتان 116، 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 واللاأدرية وطمس معالم العقيدة المسيحية. ومن بلاد الفرس جاءت عقيدة رجوع المسيح وحكمه الأرض لمدة 1000 عام ". إن القرآن الكريم يقول {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . (1) . إن القرآن الكريم ينبئنا عما حدث داخل الكنيسة من انهيار في العقيدة وتعدد الآلهة وقبول العقائد الوثنية الفاسدة. نشأة الكنيسة المصرية الأرثوذكسية لقد نادى الأسقف دسقورس بطريك الإسكندرية أن المسيح ذو طبيعة واحدة حيث يتلاقى في ذاته الناسوت باللاهوت فهو من جوهر الله بل هو الله المتأنس. لقد شاعت هذه العقيدة مما أدى إلى عقد مجمع خلقيدونية عام 451 م. ولقد قرر المجمع أن المسيح ذو طبيعتين هما طبيعة اللاهوت وطبيعة الناسوت التقتا في ذاته. ولقد كفر المجمع دسقورس وقرر نفيه عن الإسكندرية إلا أن المصريين لم يرضوا بغيره بديلًا، الأمر الذي دفعهم إلى الانسلاخ من الكنيسة منشئين الكنيسة المصرية الأرثوذكسية. ولعل عوامل سياسية ساعدت على هذا الانفصال. ولقد استند ديسقورس إلى ما قاله (بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس 3: 16) : " عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد ". لقد كانت رسائل بولس عبارة عن مواعظ يبثها بطريقته الخاصة ويجمعها أشتاتًا من هنا ومن هناك. إن القرآن الكريم يقول الحق ولا يحابي، بصرف النظر عما إذا كان ما يقوله يرضي الناس لأنه يتفق وما جبلوا عليه وورثوه، أو كان لا يرضيهم.   (1) سورة المائدة، آية 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 إن الآيات 156-158 من سورة النساء تقول {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} . الله يغفر الذنوب أيها الناس: لقد تكلمنا كثيرا في مسألة الصليب وبينا أن المسيح - عليه السلام - كان عنده سلطان أن يغفر. إن داود - عليه السلام - عندما كان يخطئ وهو نبي من الأنبياء كان يقول: " لأن عندك المغفرة لكي يخاف منك ". إن المغفرة عند الله سبحانه وتعالى. لقد جاء القرآن الكريم لينفي صلب المسيح تمامًا، وإن ما يربط بين صلبه ومغفرة ذنوب البشر إنما هي خرافات. إن القرآن الكريم يقول في سورة الزمر {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . (1) . إن الله هو خالقنا وهو رازقنا وهو الذي يغفر ذنوبنا جميعًا. إن الله تعالى قريب من الإنسان. إنه يقول {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} . (2) . إن الله يقول لكل الناس في القرآن الكريم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . (3) وإذا كان   (1) سورة الزمر، آية 53. (2) سورة البقرة، آية 186. (3) سورة ق، آية 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الله أقرب للإنسان من نفسه فلماذا يقبل الإنسان وسيطًا بينه وبين الله أو أن ينتظر المغفرة من أحد غير الله. نشأة المارونية بعد ذلك نذهب إلى مجمع القسطنطينية الذي عقد عام 680 م، والذي كان سبب عقده ما نادى به الأسقف يوحنا مارون في عام 667 م، بدعوى جديدة مضمونها أن المسيح ذو طبيعتين: طبيعة اللاهوت وطبيعة الناسوت في شخصه ولكنه ذو مشيئة واحدة هي مشيئة الله. ولم ترق هذه الدعوى في نظر البطاركة لذلك عقدوا مجمع القسطنطينية في عام 680 م، وقد حضره 289 أسقفًا وقرروا أن المسيح ذو طبيعتين وذو مشيئتين إلا أن أهل الشام رفضوا قرارات هذا المجمع وتمسكوا بأسقفهم ثم انسلخوا عن الكنيسة الأم. ما أريد أن أقوله إن كل هذا تضليل تعاقب خلال المجامع، وكل مجمع يلغي قرارات سابقه ويصدر قرارات جديدة. وكل مجمع يدعي أن قراراته صدرت بإيحاء الروح القدس. تقديس الصور بعد ذلك نذهب إلى مجمع نيس الذي عقد سنة 787 م، وحضره 377 أسقفا قرروا فيه تقديس صور السيد المسيح وأمه العذراء مريم وكذلك صور القديسين. وهذا القرار يتنافى مع الشريعة الموسوية التي تقول في الوصايا العشر في (سفر الخروج 20: 4- 5) : " لا تصنع لك تمثالا منحوتًا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 نشأة كنيسة الروم الأرثوذكس بعد ذلك يأتي مجمع القسطنطينية عام 879 م، الذي قرر أن الروح القدس انبثق من الله الآب ورفض قرارات مجمع القسطنطنية الذي سبق عقده عام 869 م، والذي تقرر فيه أن الروح القدس منبثق من الآب والابن. وقد أعقب ذلك أن انسلخت كنيسة القسطنطينية عن الكنيسة الأم وأطلقت الكنيسة اليونانية على نفسها كنيسة الروم الأرثوذكس، وهي لا تعترف لبابا روما بالسيادة. البابا وحق الغفران ثم عقد بعد ذلك مجمع الأساقفة الذي تقرر فيه أن بابا روما يملك حق الغفران ثم جاء وقت أفرط فيه رجال الكنيسة في منح الغفران إفراطًا شديدًا حتى أنشأوا لها صكوكًا عرفت باسم " صكوك الغفران " التي جاء فيها ما نصه: " أنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات ومن جميع الإفراط والخفايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة ومن كل علة، وأردك ثانية إلى الطهارة والبر سنين طويلة تبقى معموديتك، وإذا امتد عمرك بعد ذلك سنين طويلة تبقى هذه النعمة غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة ". لقد كان صك الغفران هذا يشترى بالثمن. ولهذا كان للبابا ورجاله سلطة مغفرة خطايا البشر. بولس وخطاياه الجسدية يقول بولس في رسالته إلى أهل رومية (7: 14- 25) : " فإننا نعلم أن الناموس روحي وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية لأني لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل. فإن كنت أفعل ما لست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أريده فإني أصادق الناموس أنه حسن. فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة فيَّ. فإني أعلم أنه ليس ساكن في أي من جسدي شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل، فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل فلست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة فيَّ. إذ أجد الناموس لي حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندي. فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي. من ينقذني من جسد هذا الموت. أشكر الله بيسوع المسيح ربنا إذا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية ". إن بولس هنا يعترف بخطاياه البشرية ويبين أن فكرة الصليب لم تستطع مقاومة الخطية التي ستظل تعمل في الإنسان. ظهور لوثر نذهب بعد ذلك إلى مجمع ورمز عام 1521 م، حين ظهر لوثر وندد بصكوك الغفران، وأنه لا عصمة للبابوية، وأن كلام البابا غير مقدس، وفضح الفساد الذي استشرى في الأديرة، وقال إن الله واحد أحد. فعقد هذا المجمع الذي حضره البابا وأمر بحرقه، فاختطفه الشباب الألماني في اللحظات الأخيرة وقرروا الانسلاخ عن الكنيسة البابوية منشئين لأنفسهم كنيسة البروتستانت. وقد حدثت حروب فظيعة بين الكاثوليك والبروتستانت ولم ينقذ الأخيرين إلا اكتشاف أمريكا وهجرتهم إليها. . لقد خالف البابوات أمر المسيح - عليه السلام - الذي حينما اختار تلاميذه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فإنه قال لهم: " لا تقتنوا ذهبًا ولا فضة ولا نحاسًا في مناطقكم. ولا مزودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا لأن الفاعل مستحق طعامه ". لكن البابوية دولة غنية مترفة تعيش في الذهب والمال وهو الأمر الذي لا يتفق وتعاليم السيد المسيح - عليه السلام -. بعد هذا جاء الإسلام ليبين الحق ويخاطب أهل الكتاب في روية ورفق كما تقول الآيات الأولى من سورة المائدة {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . (1) . أيها الأحباب: الحمد لله أن كانت هذه هي المعالم الرئيسية التي استطعت أن أطمئن إليها وأعلن إسلامي على الرغم مما تعرضت له من أذى واضطهاد كثير. فلم أتزعزع بإذن الله لأني وصلت إلى اليقين. وفي يوم 25 ديسمبر سنة 1959 م، أبرقت برقية إلى الإرسالية الأميريكية في مصر وقلت لهم لقد آمنت بالله الواحد الأحد وبمحمد رسولا ونبيًا. أما شبهة تأليه المسيح فإن الأناجيل لا تزال تؤكد أن المسيح نادى بالتوحيد كما جاء في إنجيل (يوحنا 17: 3) : " هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته ". وختامًا أقول: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} . (2) . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.   (1) سورة المائدة، 14، 15. (2) سورة آل عمران، الآيتان 8، 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الجلسة السادسة حديث الأستاذ الدكتور محمد جميل غازي . المسيح. . الإله. الصلب والفداء. التفرقة العنصرية. حقيقة الكتاب المقدس. . وحقيته. حديث عن الإسلام. النبي الخاتم. دعوة المسيح دعوة خاصة. عموم الرسالة المحمدية. الصادق الأمين. المعجزات الحسية. الجهاد في الإسلام. العرب في الأسفار المقدسة. الوثائق تتكلم. تعدد الزوجات. تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم. نظرات في الكتاب المقدس. النسخ. القرآن الكريم والكتب السوالف. الحواريون. الخمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الخنزير. الروح القدس. كلمة الله. المشركون والمسجد الحرام. خاتمة. لتتبعن سنن من كان قبلكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإني أقدم بين يدي حديثي معكم- أيها الإخوة الأحبة- بآيات بينات من القرآن الكريم، إذ يقول ربنا سبحانه وتعالى في آخر سورة الفتح: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . (1) . ويدور حديثي معكم في هذه الليلة، حول (الأسئلة الدينية الإسلامية) وهي أسئلة -كما ترون- كثيرة ومتشعبة، لكنني أحاول قدر الطاقة، وحسبما يتسع له الوقت، أن أجملها إجمالا، وألم بها إلمامًا سريعًا. لقد جاء الدور لمناقشة الأسئلة الإسلامية، بعد أن فرغنا تمامًا من مناقشة الأسئلة المسيحية، وذلك أمر منطقي، لأنه من المفيد والهام أن نبدأ بالجزء   (1) سورة الفتح الآيات 27 - 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 المسيحي المطروح فنناقشه مناقشة موضوعية علمية. حتى إذا فرغنا منه بدأنا بالجانب الإسلامي! ولقد كان ذلك. . . فإنه على الرغم من أن الأسئلة الخاصة بالدين المسيحي، كانت قليلة، وكان عددها محدودًا، إلا أننا حولناها إلى دراسات علمية واسعة، استغرق عرضها خمسة أيام كاملة، كما رأيتم، وشاهدتم، وسمعتم!! وإنما فعلنا هذا، لكي نعطي السائلين، والمستمعين أجمعين، فرصة التعرف والمتابعة والدراسة للموضوعات كلها، من أولها إلى آخرها متابعة دقيقة وعميقة! وكان في وسعنا منذ البدء أن نخطط للإجابة بمنهج مغاير، فننهي الموضوع كله، بأسئلته كلها في فترة وجيزة! إلا أن ذلك كان سيتم -لو أريد له أن يتم- بأسلوب الإجابة الموجزة المباشرة على كل سؤال. . وهو أسلوب لا يفيد المتتبع للقضايا العلمية، وبخاصة إذا كانت قضايا هامة تتصل بهدم دين، وقيام دين! إن هدم دين كامل لا يمكن أن يحدث بجرة قلم. . وإن قيام دين كامل لا يمكن أن يحدث بجرة قلم، أيضا. .! لأن الديانات ليست مسائل سهلة أو سطحية. . إنها دم، إنها تاريخ، إنها كيان، إنها حياة، إنها دنيا، إنها آخرة! ! ! ولا أتصور، أنا- ولا تتصورون أنتم- أنه من الممكن أن يلغي الإنسان (كيانه الديني) في جلسة واحدة. . ثم ينتقل بقفزة واحدة من دين إلى دين. . من واقع يعيشه، إلى واقع آخر ينبغي أن يعيشه! لهذا رأيت. . . - ورأى معي المشاركون في هذا اللقاء، أن نبدأ باستعراض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 (المقررات النصرانية) وإن كنا نقرر- سلفًا- أن الديانة النصرانية، ديانة مختصرة، إذ أن قضاياها تكاد تنحصر في مسألة أو مسألتين هما عمادها وأساسها! فإذا ما نوقشت هاتان المسألتان، وثبت بطلانهما، فإن هذه الديانة بكل مقولاتها ومنقولاتها تتهاوى وتنهار! المَسِيح. . الإله! أما المسألة الأولى، فهي القول بألوهية المسيح، أو بكونه واحدًا من الأقانيم الثلاثة التي تكون الإله الواحد كما تصوره الأسطورة الصليبية! ولقد ناقشنا هذا الموضوع مناقشة واسعة. . . وبينا أن هذا الفكر إنما هو فكر وثني عاش في خلد الوثنيات القديمة، التي صورت لنفسها، أو صور لها الكهنوت، أن لله ابنًا، أو أن له أبناء. . . والوثنيات القديمة التي شاركت في صياغة هذا الإفك، - أو الشرك- هي: الوثنيات المصرية، والإغريقية، والرومانية، والهندية، والعربية. . وما إليها من وثنيات تواصت بالفكر، والخرافة!! ونقدم لهذا نموذجًا فيه مقارنة بين المسيحية والمثراسية (1) . ويقول روبرتسون 338. p pagan and christ: Ropertson ميثراس، هذه الديانة فارسية الأصل، وقد ازدهرت في بلاد فارس قبل الميلاد بحوالي ستة قرون، ثم نزحت إلى روما حوالي عام 70 م. وانتشرت في بلاد الرومان، وصعدت إلى الشمال حتى وصلت إلى بريطانيا وقد اكتشفت بعض آثارها في مدينة يورك، ومدينة شستر وغيرها من مدن إنجلترا وتذكر هذه الديانة أن: ميثراس كان وسيطا بين الله والناس.   (1) روبرتسون: المسيحية والوثنية. ص338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 كان مولد ميثراس في كهف أو زاوية من الأرض. وكان مولده في الخامس والعشرين من ديسمبر. كان له اثنا عشر حواريا. مات ليخلص البشر من خطاياهم. دفن ولكنه عاد للحياة بقيامته من قبره. صعد إلى السماء أمام تلاميذه وهم يبتهلون له ويركعون. كان يدعى مخلصا ومنقذًا. ومن أوصافه أنه كان الحمل الوديع. وفي ذكراه كل عام يقام العشاء الرباني. ومن شعائره التعميد Baptism. واعتبار يوم الأحد يوم العبادة يوما مقدسا. ويقول روبرتسون إن ديانة ميثراس لم تنته في روما إلا من بعد أن انتقلت عناصرها الأساسية إلى المسيحية على هذا النحو. الديانة المسيحية الديانة الميثراسية المسيح وسيط بين الله والناس: " وليس يأخذ غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس ربه ينبغي أن نخلص " (أعمال الرسل 4: 12) . ميثراس وسيط بين الله والناس. ولد في مذود البقر: " فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود ". (إنجيل لوقا 2: 7) . مولده في كهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 يحتفل الغربيون بمولد المسيح في يوم 25 ديسمبر. مولده في يوم 25 ديسمبر. كان له اثنا عشر حواريا: " ثم دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا على أرواح نجسة حتى يخرجوها ويشفوا كل مرض وكل ضعف ". (إنجيل متى 10: 1) . كان له اثنا عشر حواريا. مات ليخلص العالم، هكذا كانت تعاليم بولس: " إن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب) (كورنثوس الأولى 15: 3) . مات ليخلص العالم. دفن وقام في اليوم السادس، هكذا كانت تعاليم بولس: " أنه دفن وأنه قام في اليوم السادس حسب الكتب " (1 كو 15: 4) . دفن ولكنه عاد للحياة. صعد إلى السماء أمام تلاميذه: " ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون وأخذته سحابة عن أعينهم " (أعمال الرسل 1: 9) . صعد إلى السماء أمام تلاميذه. خلع عليه بولس لقب المخلص والمنقذ: " منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصا يسوع المسيح ". (تيطس 2: 13) . كان يدعى مخلصا ومنقذا. وصفه يوحنا المعمدان بحمل الله الوديع: " وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلا إليه فقال هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم ". (إنجيل يوحنا 1: 29) . ومن أوصافه أنه حمل الله الوديع. رسم بولس العشاء الرباني قائلًا: ". . أخذ خبزا وشكر فكسر وقال خذوا كلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكري. . ". (1 كو 11: 23-25) رسم العشاء الرباني. رسم المعمودية / بدأت بداية صحيحة: " وأمر (بطرس) أن يعتمدوا باسم الرب " (أعمال الرسل 10: 48) وانتهت بالتثليث: " وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس ". (متى 28: 19) . رسم المعمودية. تقديس يوم الأحد: " وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع ". (متى 28: 1) مع أن الوصية الرابعة تقرر تقديس يوم السبت إذ تقول: " اذكر يوم السبت لتقدسه. . " (خروج 20: 8-11) . تقديس يوم الأحد. [ مواجهة القرآن الكريم للوثنيات التي تسربت إلى المسيحية ] ولقد واجه القرآن الكريم، هذه الوثنيات وناقشها وهي وثنيات تتشابه وتتشابك في الشكل والموضوع. فسجل كفر النصارى وقولهم إن المسيح هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، قال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} . (1) . {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ   (1) سورة المائدة، آية 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} . (1) . - وقد ذكرت هذه الآيات: 1- إن المسيح - عليه السلام - لا يعدو أن يكون رسولا من رسل الله الذين خلوا من قبل. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد قال الله عنه كذلك {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} . (2) . 2- وأن أمه- عليها السلام- لا تعدو أن تكون صديقة، فهي ليست بنبية {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} . 3- ثم قال {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} وهذا من أظهر الصفات النافية للألوهية، لأن الآكل في حاجة إلى ما يدخل جوفه ليشبعه من جوع، وكذلك هو في حاجة إلى أن يخرج ما في جوفه من الفضلات ليتخلص من الأذى. وإذا كان القرآن الكريم قد نفى الألوهية عن المسيح - عليه السلام -، فقد أثبت له العبودية، كما قال تعالى {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} . (3) وأخبر- سبحانه وتعالى- أن أول كلمة نطق بها المسيح وهو في المهد، هي الإقرار بعبوديته لله- قال تعالى {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} . (4) .   (1) سورة المائدة الآيات 72 -75. (2) سورة آل عمران، آية 144. (3) سورة الزخرف، آية 59. (4) سورة مريم، الآيات 29 - 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ويقول الرسول الخاتم - صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين- عن أبي هريرة رضي الله عنه: «يقول الله عز وجل: كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك. فأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، ولم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد. وأما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته» . وإذا كان القرآن الكريم، قد ناقش (الثالوث النصراني) فلقد ناقش (الثالوث) بكل صوره وتصوراته. . وإذا كان القرآن الكريم قد ناقش (البنوة اللاهوتية النصرانية) فلقد ناقش (البنوة الوثنية) في كل أطوارها وتطوراتها! فهو يقول عن الوثنيين العرب، وعن غيرهم من الوثنيين: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (1) . {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} (2) . {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} . (3) .   (1) سورة الأنعام، آية 101. (2) سورة الإسراء، آية 40. (3) سورة الصافات الآيات 149- 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} . (1) . {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . (2) . وقوله تعالى {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} إشارة بليغة معجزة إلى قصة الوثنيات القديمة الممتدة عبر العصور والدهور، تلك الوثنيات التي آلت بتركتها المثقلة بالخرافة والشعوذة والكهانة إلى (الصهيونية العالمية) و (الصليبية العالمية) . وهذه واحدة من لفتات القرآن الكريم الرائعة، وإشاراته البارعة. . إنه يضع أيدينا على الحقائق كاملة سافرة، في غير ما التواء أو غموض! وهكذا نجد القرآن الكريم دائما، معجزًا وهاديًا، في كل ما يقوله أو يقرره. . لا يقول إلا حقا، ولا ينطق إلا صدقًا! كم. . وكم من المرات، خرجت البشرية على القرآن، فقالت ما شاءت من المقولات بعيدًا عن هداه، وتصورت- ما أراد لها الهوى- من تصورات في منأى عن وصاياه. .   (1) سورة النساء، الآيتان 171 - 172. (2) سورة التوبة، الآيتان 30 - 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ثم. . ماذا؟ ثم ثبت- علميا وعقليًا- فساد مقولاتها وتصوراتها. .! وبقيت (المقررات القرآنية) ثابتة كالجبال الشم الرواسي، لا تتزلزل ولا تتزعزع!! ويعود الناس إلى القرآن- شاءوا أو أبوا- دارسين باحثين، متأملين!! من كان يصدق أن (الأكليروس) في هذا الزمان، يقابل حقائق القرآن بهذا التقدير والإعجاب؟ ! من كان يصدق أن لغة (أكليروس القرون الوسطى) قد أخرست إلى الأبد؟ ! لقد كان عمل هذا (الأكليروس) الدائب، هو محاولة تشويه جمال الإسلام، والإساءة إليه. . وتفريخ الأكاذيب والنحل الفاسدة لصد الناس عنه!! حتى قال. . . وما أسخف ما قال: إن المسلمين إنما حرموا الخمر والخنزير، لأن نبيهم في آخر حياته شرب الخمر حتى سكر، فجاءته الخنازير فقتلته. من كان يصدق أن عقلية (الأكليروس) القديمة تنفتح هذا الانفتاح، وتنتقل هذه النقلة السريعة من طرف النقيض إلى طرفه الآخر؟ فنجد بيوت الطباعة - في أوروبا الصليبية- وبيوت العلم، وبيوت الثقافة، والأكاديميات، والجامعات، بل وإرساليات التبشير، تدرس الإسلام، وتعجب به، وتكتب عنه. بل إن الكتب الإسلامية العظيمة ألفت، وصدرت من هناك. . من (ألمانيا) وغيرها من البلدان. .! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 إن أكبر معجم في الحديث النبوي أصدره الألمان. . وإن أول طبعة للمصحف ظهرت هناك. .! من كان يصدق أن جامعات العالم الأوروبي تعكف على دراسة العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية، والفقه الإسلامي، بل وتمنح درجاتها العلمية. . وعلى أرقى مستوى في جزئية صغيرة من جزئيات الثقافة الإسلامية!! ؟ الصلب والفداء : وإذا كنا قد ناقشنا في الأيام الخمسة الماضية قضايا (الثالوث) ، (الأقانيم) و (الإله المولود) فلقد ناقشنا في هذه الأيام الخمسة أيضا (قضية الصلب والفداء) وهي قضية عجيبة غريبة، شائكة ومتشابكة، لا ندري ما سرها، وما الهدف منها؟ كل ما ندريه أنها أسطورة في المبدأ، وأسطورة في النتيجة. ما سر هذه المسرحية الغامضة المملة التي بدأت بالتآمر على المسيح - عليه السلام -، ثم بمحاكمته، ثم بصلبه -كما يزعمون- ثم بدفنه- ثم بنزوله إلى الجحيم، ثم بخروجه في قيامة الأموات!! لماذا هذا كله؟ لماذا جعلوه إلهًا، أو ابن إله وصلبوه؟ إن القرآن الكريم يتحدث عن (قضية الصلب) هذه وينفيها نفيًا مؤكدًا، فهو يقول: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} . (1) . ولكن. . . لماذا ينفي القرآن الكريم صلب المسيح؟ أو بعبارة أخرى. . هل المسيح منزه عن القتل أو الصلب؟ والجواب: لا. . . فإن القرآن الكريم تحدث عن الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} . (2) . فمحمد صلى الله عليه وسلم من الممكن أن يموت، ومن الممكن أن يقتل أو يصلب؟ ! وإنما نفى القرآن الكريم حادثة الصلب هذا النفي اليقني المؤكد الذي لاشك فيه. . ليقرر خيبة أمل اليهود. . .! فهم، يحاسبون في الآخرة، على أنهم قتلة المسيح، وإن لم يقتلوه!! كيف؟ إن الله سبحانه وتعالى سجل عليهم عدة أمور: أولها: أنهم أصحاب (سوابق) في جريمة قتل الأنبياء. . .! {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} .   (1) سورة النساء، الآيات 155- 159. (2) سورة آل عمران، آية 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ثانيها: سبق الإصرار والترصد، كما في قوله {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} . ثالثها: الاعتراف- وهو سيد الأدلة- {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} . وإذا كان الصلب في حد ذاته أسطورة. . يعتريها الغموض والتناقض من كل أبعادها. .! فإن ما يترتب على الصلب أسطورة أخرى. . .! تلك هي أسطورة (ابن الله الفادي) أو (المخلِّص) . . .! وهذه المقولة. . . الغير معقولة، لا تصلح أساسا للتعامل البشري. . . إذ إنها تنفي (المسؤولية الشخصية) فكيف ارتضاها الله سبحانه، لكي تكون سنته في التعامل مع البشر؟ وتصوروا معي. . . لو أن واحدًا من البشر، ذهب إلى المحكمة متلبسا بجريمة قتل. . يده ملوثة بالدم. . وثبتت إدانته من كل وجه. . واعترف بأنه القاتل!! أفيحق له، أو لمحاميه، أن يدافع قائلًا: أنا قتلت حقًا، وأنا الذي اقتدته إلى ذلك المكان المهجور، وذبحته. . . ولكن (فلانًا) من الناس، أو من غير الناس. . . يتحمل عني هذه المسؤولية، فحاكموه هو. . . وحاسبوه هو. . . هل هذا يجوز في عرف البشر، وفي منطق البشر؟ فإذا كان البشر لا يرضونه لقضائهم ولا لقضاتهم- مع أن قضاء البشر يحيط به القصور من كل جانب- أفيجوز ذلك أمام عدالة الله سبحانه وتعالى؟ أنرفض أن يكون في قضائنا محسوبيات أو وساطات أو امتيازات أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 صرخات عرق. . . ثم نقبل بالنسبة لله- وعز في علاه- أن يكون قضاؤه قضاء وساطة ومحسوبية، وامتياز في الدم أو الجنس أو اللون أو العنصر؟ أفترض أن يكون ربنا- سبحانه- ربًا لفريق يحبه ويحنو عليه، ضد فريق يبغضه ويلعنه. . . لا لسبب إلا لاختلاف الدم والجنس؟ أفترض أن يكون ربنا ربًا لإسرائيل. . . ثم ينبذ الكنعانيين ومن عداهم. . . وأنقل لكم من (الإنجيل) المتداول اليوم هذا الحديث والحدث بحروفه وانفعالاته: " وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدًا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه، وطلبوا إليه قائلين، أصرفها لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعني، فأجاب وقال: ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب، فقالت: نعم يا سيد، والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها، (إنجيل متى 15: 21-27) . فهذا المسيح كما تصوره (الأسطورة النصرانية) عندما تأتيه امرأة تطلب منه أن يدعو لابنتها لكي تشفى مما هي فيه- يقول لها: " ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب ". سبحان الله. . . أهذا هو المسيح الإله الذي يعبده النصارى؟ ! برأ الله المسيح. . . البشر الإنسان الرسول، من كل ما يفتريه دجال، أو كاهن، أو جهول!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 التفرقة العنصرية إن هذا الفهم، وهذا السلوك، هو البدء الحقيقي (للتفرقة العنصرية) التي تدين بها أوروبا، وأمريكا اليوم. . إن أول من نادى بالتفرقة بين البشر وفقًا للألوان، هو الكتاب المقدس ذاته وليست أمريكا!! لم تكن أمريكا هي رائدة التفرقة العنصرية. . . وإنما رفعت شعاراتها، وكان بيدها نصوص مقدسة من الكتاب المقدس! أليس الكتاب المقدس هو الذي حكم على الجنس الأسود كله باللعنة، لأنهم أولاد حام؟ يقول الكتاب المقدس: " وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك سامًا وحامًا ويافث، وحام هو أبو كنعان، وهؤلاء الثلاثة هم بنو نوح، ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض. وابتداء نوح يكون فلاحًا وغرس كرما وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجًا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدًا لهم فيفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعنان عبدًا لهم " (سفر التكوين 9: 18-27) . بل تروي التوراة عن سارة زوجة إبراهيم - عليه السلام - أنها قالت له: " اطرد الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إِسحق " (تكوين 21: 10) . " فقبح الكلام جدًا في عيني إبراهيم لسبب ابنه " (تكوين 21: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 11) وقد اقتبس بوليس هذا النص لإشعال العنصرية بين الناس فقال: " لكن ماذا يقول الكتاب اطرد الجارية وابنها لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة إذًا أيها الأخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد الحرة " (غلاطية 4: 30، 31) . ولا تزال حكومة جنوب إفريقيا تعتمد على ما جاء في سفر التكوين- الذي يصف أحد أبناء حام (وهو كنعان) - كما أسلفنا- بأنه عبد العبيد، لتبرير سيطرتها على السود وإذلالهم. و. . . لهذا، فإننا لا نجد في المجتمعات الإسلامية، هذه التفرقة العنصرية التي نجدها في المجتمعات المسيحية! لأن النصوص الإسلامية تقف حائلًا دون ظهور هذا الشر أو تفاقمه. يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . (1) . وفي هذه الآية الكريمة إعلان المساواة الكاملة بين الأمم والشعوب والأفراد، إذ إن الآية خطاب موجه إلى جميع بني الإنسان. كذلك فإن هذه الآية تقرر أن التمايز بين الناس لا يكون باللون أو الجنس أو العنصر. . إنما يكون بالتقوى التي هي جماع الخير والهدى والرشاد. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم. «الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» . ولذلك فتح الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر ربه- آفاق دعوته أمام بني الإنسان جميعًا-   (1) سورة الحجرات، آية 1 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فالله رب الناس ملك الناس إله الناس وليس رب فئة واحدة، أو عنصر واحد، أو مجموعة بشربة واحدة! وبذلك حطم الإسلام الحواجز التي كانت قائمة بين الأجناس والأعراق والأنساب. ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم- عن سلمان الفارسي، رضي الله عنه- الذي كان رقيقًا فحرره: «سلمان منا أهل البيت» . كما ضم صف السابقين الأولين مجموعة كبيرة من أمثال " صهيب الرومي " و " بلال الحبشي " واعتبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في مقدمة كبار الشخصيات العربية من أصحابه المهاجرين والأنصار. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر على قيادة جيشه شابًا في الثامنة عشرة، وجعل تحت قيادته مجموعة من كبار المسلمين، وأصحاب السابقة في الإسلام. وهكذا يكون الإسلام قد حقق معجزة في التاريخ الإنساني، إذ جعل الناس- جميعًا- يعيشون تحت شعار إلهي نادى به الإسلام منذ ظهوره، وأكده الرسول صلى الله عليه وسلم وسلم من جديد، وبكل صراحة وصرامة، وفي خطبة الوداع، قال: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى» . ثم يسأل الجماهير المسلمة المحتشدة لسماع الخطاب الأخير: " ألا هل بلغت؟ " " اللهم فأشهد ". إن القرآن الكريم لم يذكر في سوره أو آياته، أي اسم على الإطلاق من أسماء أحد معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم إلا اسمين- هما: (زيد) مولى الرسول صلى الله عليه وسلم (وأبو لهب) عمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 هذان هما الاسمان اللذان ذكرا في القرآن الكريم! لم يذكر القرآن الكريم اسم أبي بكر، ولا اسم عمر، ولا اسم عثمان، ولا اسم علي، وإنما ذكر اسم زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . وذكر في مناط التكريم: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} . (1) . وذكر اسم (أبي لهب) في مجال اللعنة، حيث يقول الله تعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} . (2) . فزيد مولى غريب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دمه، وفي قبيلته، وفي جنسه!! أما أبو لهب، فإنه عمه، وهو شريف قرشي!! ومع ذلك فإن القرآن يتهدده بالهلاك هو وامرأته حمالة الحطب! فالقرآن الكريم بهذا يضع مبدأه المعروف، أنه لا مفاضلة بين الناس على أساس الجنس أو اللون أو أي نوع من أنواع الامتيازات الطبقية، إِنما المفاضلة بالتقوى! حقيقة الكتاب المقدس، وحقيته: هذا. . . . ولقد تحدثنا في الأيام الخمسة السالفة عن (الكتاب المقدس) بعهديه، القديم والجديد. . وأمطنا اللثام عن التناقض والتعارض الذي يعتري هذا (المصنف) من أوله إلى آخره.   (1) سورة الأحزاب، آية 37. (2) سورة المسد بكاملها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 إن هذا الكتاب مليء بأمور تتعارض مع (الهداية) التي هي الهدف الأول من إرسال الرسل، وإنزال الكتب. ويكفي أن نلقي نظرات عابرة على ما جاء في " سفر نشيد الأنشاد " الذي يعتبر سفرًا غزليًا، تتردد في فقراته عبارات من الأدب المكشوف العاري. . . فهو يصف خفايا جسد المرأة، بأسلوب مسف فاحش إذ يقول- في (الإصحاح الثالث: 1- 5) . " في الليل، على فراشي، طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته، إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق، وفي الشوارع أطلب من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته، وجدني الحرس الطائف في المدينة، فقلت: أرأيتم من تحبه نفسي، فما جاوزتهم إلا قليلًا حتى وجدت من تحبه نفسي، فأمسكته، ولم أرخه، حتى أدخلته بيت أمي، وحجرة من حبلت بي، أحلفكن يا بنات أورشليم، بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء ". ويقول الإصحاح الرابع من هذا السفر: (1- 7) : " ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك حمامتان من تحت نقابك، شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد، أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل اللواتي كل واحدة متئم وليس فيهن عقيم، شفتاك كسلكة من القرمز، وفمك حلو، خدك كفلقة رمانة تحت نقابك، عنقك كبرج داود المبني للأسلحة. . .، ثدياك كحشفتي ظبية توأمين يرعيان بين السوسن، إلى أن يفيح النهار، وتنهزم الظلال أذهب إلى الجبل المر، وإلى تل اللبان، كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة ". ويقول الإصحاح السابع من السفر نفسه: (1- 11) : " ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم، دوائر فخذيك مثل الحلي صنعة يدي صناع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج، بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن، ثدياك كحشفتين توأمي ظبية، عنقك كبرج من عاج،. . . ما أجملك، وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات، قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد، قلت إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها، وتكون ثدياك كعناقيد الكرم ورائحة أنفك كالتفاح، وحنكك كأجود الخمر- لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين. أنا لحبيبي، وإلى اشتياقه، تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل، ولنبت في القرى،. . هناك أعطيك حبي ". أهذا كتاب دين وهداية. . .؟ أهذا هو القصص الحق. . الذي يهدي إلى صراط مستقيم؟ وإذا تركنا هذا الجانب الجنسي الطافح بالنزوة والشهوة إلى غيره من جوانب التناقض والتعارض والتضارب، فإننا نجد ما لا يصدقه عقل، ولا يقره منطق. إن هذه التناقضات تؤكد شيئًا هامًا وخطيرًا، هو نفي صفة الوحي عن هذه الأسفار، القديم منها والجديد. . .! وتعال معي ننظر صفات الله في الكتاب المقدس الله يحزن ويندم: " فحزن الرب أن عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم " (سفر التكوين 6: 6-8) . الله يعزم على ألا يعود: " وقال الرب في قلبه لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته، ولا أعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أيضا أميت كل حي كما فعلت " (سفر التكوين 8: 21) . فكأن الله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا -. . حزن أولا وتأسف لأنه خلق الإنسان. . . فأهلكه على عهد نوح. . .! ثم عاد فندم مرة ثانية لأنه أهلكه. . . وقرر ألا يعود إلى ذلك مرة أخرى. . .! وهكذا تعرض الأسفار المتناقضة، صورة متناقضة لإله متناقض. . .!! الله يتذكر عهده مع الناس عن طريق " قوس قزح ": " وصنعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض، فيكون متى أنشر سحابًا على الأرض، ويظهر القوس في السحاب إني أذكر ميثاقي الذي بيني ويينكم وبين كل نفس حية في كل جسد، فلا تكون أيضا المياه طوفانًا لتهلك كل ذي جسد، فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقًا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض " (سفر التكوين 9: 13- 16) . وهكذا. . . هكذا وضع سفر التكوين يدنا على أسرار علمية جديدة لقوس قزح. . . إن الله جعل هذا القوس الذي يظهر في السماء بألوانه الزاهية في الأيام المطيرة ليذكره بميثاقه مع بني أدم، حتى لا ينسى، فيتكرر الطوفان الرهيب مرة أخرى. .!! ومرة أخرى نستغفر الله، ونتوب إليه، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. .! الله يغار من الإنسان: " وكانت الأرض كلها لسانًا واحدا، ولغة واحدة وحدث في ارتحالهم شرقًا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار، وسكنوا هناك، وقال بعضهم هلم نصنع لبنًا ونشويه شيا، فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الحمر مكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الطين، وقالوا: هلم نبني لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلًا نتبدد على وجه الأرض فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما وقال الرب: هو ذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة، لذلك دعي اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض " (سفر التكوين 11: 1-9) . أسمعتم؟ أقرأتم. . . . إن الله غار من خلقه حينما هموا ببناء مدينة وبرج!! فدمر عليهم وبلبل ألسنتهم!! ولست أدري. . كيف تم بناء المدن الكبار، والأبراج الضخمة، وناطحات السحاب ألم يكن في هذا العمران الحديث الضخم، ما يثير غيرة إله الكتاب المقدس! الله يحرض على السرقة: " ثم قال الرب لموسى ضربة واحدة أيضا أجلب على فرعون وعلى مصر، بعد ذلك يطلقكم من هنا، وعندما يطلقكم يطردكم طردًا من هنا بالتمام، تكلم في مسامع الشعب أن يطلب كل رجل من صاحبه، وكل امرأة من صاحبتها أمتعة فضة، وأمتعة ذهب، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين " (سفر الخروج 11: 1- 2) . " وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعة فضة، وأمتعة ذهب، وثيابا، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم. فسلبوا المصريين " (سفر الخروج 12: 35- 36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فالرب- عند كتبة هذه الأسفار ورواة هذه الأخبار- هو الذي حرض بني إسرائيل على السرقة، وعلمهم كيف يسطون فيسرقون ذهب المصريين، وفضتهم، وأمتعتهم، قبل خروجهم من مصر مع موسى!!! الله يصارع يعقوب: " بقى يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر فقال: لا أطلقك إن لم تباركني فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي وباركه هناك. فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل قائلا لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونجيت نفسي " (سفر التكوين 32: 24- 30) . يدعي كتبة الأسفار- كما يؤكد هذا النص - أن يعقوب صارع الله حتى غلبه، ولم يطلقه من قبضته إلا بعد أن باركه. . .! وإذا كانت هذه هي الصورة التي يرسمها خيال كتبة الأسفار لإلههم ومعبودهم. . .! فإن كتبة الأسفار يقدمون صورا بلهاء شوهاء لأنبياء الله ورسله!! صورة شوهاء لأنبياء الله ورسله في العهد القديم !! - إبراهيم الرسول الخليل تقول أسفار العهد القديم عن إبراهيم رسول الله وخليله: " وحدث جوع في الأرض، فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرب هناك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 لأن الجوع في الأرض كان شديدًا. وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته، فيقتلونني ويستبقونك، قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك، وتحيا نفسي من أجلك. فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدًا، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع إلى أبرام خيرًا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء، وأتن وجمال. فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام، فدعا فرعون أبرام وقال: ما هذا الذي صنعت بي، لماذا لم تخبرني أنها امرأتك، لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي، والآن هو ذا امرأتك، خذها واذهب، فأوصى عليه فرعون رجالا فشيعوه هو وامرأته وكل ما كان له " (سفر التكوين 12: 14- 20) . أفيرضى أحد من الناس له مروءة وخلق، أو بقية من مروءة وخلق، أن يتجر في جمال امرأته وحسنها! ؟ فكيف بنبي الله، ووليه، ورسوله وخليله إبراهيم - عليه السلام -؟ !! لوط جاء عنه في سفر التكوين: " وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه، لأنه خاف أن يسكن في صوغر، فسكن في المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر للصغيرة أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض، هلم نسقي أبانا خمرًا، ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلًا، فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمرًا الليلة أيضا فادخلي واضطجعي معه، فتحيي من أبينا نسلًا، فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها فحبلت ابنتا لوط من أبيهما " (سفر التكوين 19: 30- 36) . وإنه- على الرغم- مما تشتمل عليه هذه الأسطورة من كذب وافتراء ومستحيل، غير أنني أسأل: - ما هي الحكمة، والعظة، التي يمكن أن يستفيدها قراء كتاب مقدس. . . من قراءة هذه القصة؟ - وإذا كان الأنبياء بهذه المثابة، وهم حملة كلمة الله الهادية، فماذا بقي للفساق والسفهاء؟ كيف يخاطبون الله: وإذا رحنا نقلب صفحات هذه الأسفار لنتعرف منها على آداب الدعاء والضراعة. . فإننا نجد عجبًا!! إن الخطاب مع الله يتسم بالجرأة والاتهام، واقرأ معي هذا النص الواحد من عشرات النصوص: في سفر الملوك الأول أن إيليا (إلياس) النبي خاطب الله- يقول السفر: " وصرخ إلى الرب وقال: أيها الرب إلهي، أأيضا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها أسأت بأماتتك ابنها " (17: 20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 حديث عن الإسلام والآن- بعد أن رأينا النصرانية، واضحة المعالم بينة الملامح- نتحدث عن الإسلام. . .! وإن كنت أقرر سلفًا أن الحديث عن الإسلام لا تستوعبه محاضرة مرتجلة ولا عدة محاضرات، ولا يفي بعرضه حديث عابر ولا عدة أحاديث. . .! لأن الإسلام أكبر مما يتصور كثير من الناس! الإسلام كيان ثقافي هائل. . ومدرسة للعلوم والمعارف لا نظير لها. . .! ولقد ثبت- تاريخيًا وحضاريا- أنه لم تقم دراسات بالكثرة والوفرة التي قامت حول القرآن الكريم، كتاب الله، وبيان الإسلام. . .! كذلك فإنه قد انبثق من العلم القرآني علوم شتى ومعارف لا تنتهي كثرة. . .! يقول الله تعالى {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} . (1) . وإذا كانت الكتب فيها صحف! فإن صحف هذا الكتاب المبارك فيها كتب! إن الصفحة الواحدة من القرآن الكريم تشتمل حقا على كتب قيمة! وهذا ما شاهدناه ورأيناه. . . وشاهده معنا ورآه مؤرخو الفكر وراصدو الحضارة. لقد قامت علوم شتى لخدمة ذلك الكتاب المجيد: مثل: علوم القرآن، والتفسير، واللغة، والحديث، والفقه، والسير والمغازي والرجال. . وغيرها، وغيرها كثير. . .   (1) سورة البينة الآيات 1- 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ولقد ألفت كتب في مختلف فروع الثقافة تهدف إلى نشر هداية ذلك الكتاب، وإشاعة ثقافته في الخافقين، ولم يكن العرب وحدهم هم الذين قاموا بهذا العمل المشكور المأجور، بل لقد ساهم فيه، وأعان عليه جمهرة كبيرة من العلماء والفقهاء من غير العرب. . فهؤلاء، أبو حنيفة، والبخاري، والطبري. وأولئك سيبويه، والزمخشري، والجرجاني. مما يجعلنا نؤكد أن الفتح الإسلامي لم يكن فتحًا دينيا فقط، إنما كان فتح دين ولغة وتمدن وعمران وحضارة وثقافة. وإن القرآن الكريم ليس كتاب عقيدة ومواعظ فحسب وإنما هو كتاب علم وثقافة وحضارة وتشريع وسياسة وأخلاق. . . ولقد كان الفتح الحضاري الإسلامي سريعًا في انتشاره وانتصاره، مما جعل راصدي الحضارة يعجزون حتى يوم الناس هذا عن تفسير هذا التحرك الإسلامي الهائل. . ويعجزون أيضا عن العثور على إجابة للسؤال القائل: - كيف استطاع محمد صلى الله عليه وسلم في ثمانية أعوام أو زهائها أن يفتح مليون كيلومتر مربع!! - كيف حدث هذا. . . في عصر، مواصلاته محددة، وطرق القوافل غير معبدة! - كيف تحقق هذا الفتح المبين. . بأقل خسارة بشرية إذ لم يتعد عدد القتلى (1002) من شهداء المسلمين، وصرعى الكفار!! إن الإجابة على هذه الأسئلة أمر متعسر أو متعذر إذا أخضعنا الإجابة للأساليب البشرية، وللمعايير التي تواضع عليها بنو الإنسان! أما إذا راعينا في الإجابة (سنَّة الله) وعمل هذه السنَّة في المجتمعات والأمم، فإننا نجد الإجابة سهلة وميسرة!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الإسلام دين الأنبياء جميعا إن الإسلام هو دين الله، الذي لا دين له سواه. . ولقد تكفل سبحانه وتعالى بنصره وتمكينه وإظهاره على الدين كله! لكن: أي دين هو ذلك الإسلام، وهل هناك ديانات أخرى تزاحمه في علاقتها بالله؟ أقول في الإجابة: إن الله سبحانه وتعالى، لم ينزل ديانات مختلفة، وإنما أنزل على عباده المرسلين دينًا واحدًا، وهو الإسلام قال تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . (1) . ولقد جاء بهذا الدين الواحد جميع رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام. جاء به نوح - عليه السلام -: قال تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . (2) . وجاء به إبراهيم - عليه السلام -: قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا   (1) سورة آل عمران، آية 19. (2) سورة يونس، الآيتان 71 -72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . سورة (1) . وجاء به يعقوب - عليه السلام -: قال تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . (2) . . وجاء به لوط - عليه السلام -: قال تعالى {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . (3) . .   (1) البقرة، الآيات 127 -132. (2) سورة البقرة، الآية 133. (3) سورة الذاريات، الآيات 31- 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وجاء به يوسف عليه السلام: قال تعالى {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (1) . . وجاء به موسى عليه السلام: قال تعالى {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (2) . . وهو دين قوم موسى من بني إسرائيل: قال تعالى {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) . وهو دين السحرة الذين آمنوا بموسى: قال تعالى {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (4) . .   (1) سورة يوسف، آية 101. (2) سورة يونس، 84. (3) سورة يونس، آية 90. (4) سورة الأعراف، الآيات 120- 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وهو دين أنبياء بني إسرائيل: قال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} (1) . . وهو دين سليمان عليه السلام: قال تعالى {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (2) . . وقال تعالى {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (3) . . وقال تعالى {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} . (4) . . وقال تعالى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . (5) . . وهو دين المسيح عليه السلام وحواررييه: قال تعالى {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (6) . . وقال تعالى {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (7) .   (1) سورة المائدة، آية 44. (2) سورة النمل، الآيتان 30- 31. (3) سورة النمل، آية 38. (4) سورة النمل، آية 42. (5) سورة النمل، آية 44. (6) سورة عمران، آية 52. (7) سورة المائدة، آية 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وهو دين المهتدين من الجن: قال تعالى {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (1) . . وهو دين المتمسكين بالحق من أهل الكتاب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم: قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (2) . . ثم هو دين النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم: وقال تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (3) . . وقال تعالى {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) . . وقال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (5) . . بل إن القرآن الكريم ليقرر في وضوح كامل أن الإسلام دين أهل السماوات والأرض.   (1) سورة الجن، الآيتان 14-15. (2) سورة القصص، الآيتان 52- 53. (3) سورة آل عمران، الآيتان 19-20. (4) سورة غافر، آية 66. (5) سورة المائدة، آية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قال تعالى {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (1) . . وإلى هذا الدين وحده، وجه النبي الخاتم رسله ورسائله إلى الملوك وعظماء الملل وأشهدهم على إسلامه وإسلام من معه. قال تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2) . .   (1) سورة آل عمران، آية 83. (2) سورة آل عمران، آية 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 النبي الخاتم ولقد أراد الله سبحانه وتعالى لدينه أن يكمل، ولنعمته أن تتم، فأرسل النبي الخاتم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجعل شريعته عامة وصالحة لكل زمان ومكان. والحديث عن (النبي الخاتم) وعن (عموم رسالته) يحتاج منا إلى وقفة قد تطول، وقد تقصر! النبي الخاتم: إن الله سبحانه وتعالى الذي أراد لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن تكون عامة وتامة وخاتمة، وشاملة وكاملة هو الذي قيض لها عونًا لم يكن لغيرها من الرسالات، وأمدها بمدد مكنها من الخلود والانتشار. . وفي تاريخ الدعوة الإسلامية الخاتمة أمور ينبغي أن يهتم بها الدارسون والباحثون: - فمن هذه الأمور: (الدقة في تسجيل حياة الرسول وهديه) . إن الاهتمام البالغ برصد أعمال النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأقواله ليس له نظير في رصد تحركات أي نبي أو رسول. . حتى الأنبياء الأقرب عهدًا والذين تدعي جماهير كبيرة من البشر الإيمان بهم، واتباعهم، كموسى، وعيسى. . .! إنه ليس لدينا -على الإطلاق- وثيقة كاملة تتحدث بوضوح عن (حياة المسيح عليه السلام) وهو. . . خاتم الأنبياء من بني إسرائيل. . فضلًا عن غيره من الأنبياء والرسل. والكتابات التي بين أيدينا. . تعطينا صورة -لا أقول: واضحة الملامح- عن الأيام الخمسين الأخيرة من حياة المسيح!! يقول القس الدكتور شارلس اندرسن اسكات في مقال له في دائرة المعارف البريطانية: " ينبغي أن يتنازل الإنسان عن محاولة وضع كتاب في سيرة المسيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 بكل صراحة، فإنه لا وجود للمادة والمعلومات التي تساعد على تحقيق هذا الغرض، والأيام التي توجد عنها بعض المعلومات لا يزيد عددها على خمسين يومًا " (1) . . وهذا الذي قرره ذلك القس، ونشرته دائرة المعارف البريطانية، يتعارض مع ما كان سائدًا في العالم المسيحي حتى عهد قريب. . . لقد كان السائد أن (أسفار العهد الجديد) تتضمن أخبار السنوات الثلاث الأخيرة من سيرة المسيح وأخباره!! وهذا الذي قرره ويقرره، علماء المسيحية. . يخالف تمامًا ما سجله ونقله الرواة عن (حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم) فإنهم قدموا لنا سجلًّا كاملًا وأمينًا عن دقائق وحقائق حياته. . .! لقد رصد صحابته حياته. . منذ البدء وإلى النهاية، وكتبوها بكل عناية، في دواوين السنة وكتب المغازي والسير. . . إن الكتب التي روت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحداثها كتب كثيرة. . . فمنها: (كتب السير) وهذه رصدت حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرخت لها. و (كتب المغازي) وهذه عرّفت بغزواته، وبعوثه، وسراياه، والأخلاق التي كان يتحلى بها في حروبه، وكيف كان يتعامل مع أعداء دعوته إن أمكنه الله منهم. و (كتب الهدي) مثل. (زاد المعاد، في هدي، خير العباد " وهذه الكتب تنقل لنا أسلوب النبي وهديه، في عبادته، ونسكه، وزواجه، ومعاشرته لأهله، ومعاملاته مع الناس. و (كتب الشمائل) وهي تحدثنا عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخَلْقية والخُلُقية، أي: الجسمية، والعقلية، والروحية.   (1) ط14، جـ 13، ص171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 و (كتب الخصائص) وهي تتضمن ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من ميزات لا يشاركه فيها أحد. و (كتب الأذكار، وأعمال اليوم والليلة) وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه ويسبحه ويحمده ويمجده ويدعوه على كل حال، وفي كل مجال. ثم، هناك (الصحاح، والسنن، والمسانيد) . . . وأسجل هنا، بكل صدق وحق، أن أرقى كتب المسيحيين سندًا، وأعلاها رواية، لا تصل إلى الدرجة الرابعة أو الثالثة. . . من كتب السنن والآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! هذا- فضلًا- على ما رواه القرآن وحكاه، عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه- كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وحينما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت كلمتها المشهورة: (كان خلقه القرآن) .؟ إن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، والعناية الفائقة بتسجيل جميع أقواله وأفعاله وتقريراته، كل ذلك يشير إلى أنه خاتم النبيين والمرسلين!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 دَعوَة المَسيح، دَعوَة خاصَّة لقد كانت دعوة المسيح خاصة ببني إسرائيل، وقد صرح بأنه لم يبعث إلا ليرعى خراف بني إسرائيل الضالة: " لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة " (متى 15: 24) . ولهذا اقتصرت رسالته على قراهم وأرضهم والمنتسبين إليهم، ولما جاءته امرأة كنعانية تستعطفه، وتطلب إليه أن يدعو لابنتها المريضة، قال لها العبارات التي نقلناها آنفًا: " ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب " (متى 15: 26) . وفي القرآن الكريم، آيات تدل على أن عيسى عليه السلام كان رسولًا إلى بني إسرائيل، منها قوله تعالى {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (1) . .   (1) سورة آل عمران، الآيات 45-51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (1) . . وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (2) . . - ومن الأمور التي جعلت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة: (حفظ الله سبحانه وتعالى للقرآن الكريم من التغيير والتبديل والتحريف) . والقرآن الكريم بهذه الخاصية الفريدة يخالف غيره من الكتب المنزلة، حتى أقربها عهدًا (كالإنجيل) . وقد أحسن العالم المستشرق المهتدي (آيتين دينيه) الفرنسي، في وصف هذه الأناجيل التي يطلق عليها (العهد الجديد) وتحديد قيمتها العلمية والتاريخية، يقول بكل تدقيق وتحقيق: " أما أن الله سبحانه قد أوحى الإنجيل إلى عيسى بلغته ولغة قومه، فالذي لا شك فيه، أن هذا الإنجيل قد ضاع واندثر، ولم يبق له أثر أو أنه أبيد " (3) . . أيها الناس. . . . اسمحوا لي أن أقول لكم بصراحة: إنه من السهل أن يذهب من يريد إلى المطبعة، ومعه نسخة محرفة من الإنجيل، فيطبعها ثم ينشرها في الأسواق.   (1) سورة الصف، 14. (2) سورة الصف، آية14. (3) أضواء على المسيحية للأستاذ متولي يوسف شلبي، ص52، 53 (الدار الكويتية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 إن أحدًا لن يثور على هذا العمل. . . بل ستتلقاها الدوائر المسيحية بقبول، وستصبح بعد قليل مرجعًا تستقي منه العقيدة المسيحية. . .! إن هذا الكلام الذي أقوله. . . ليس وليد الخيال المجنح. . . بل هو ما حدث فعلًا. . . واقرأوا هذه القصة-. . . لقد قامت (دار النشر اليهودية) بالقدس بإصدار طبعة محرفة لأسفار العهد الجديد عام 1970 م، وقامت بترجمتها بمختلف لغات العالم، ومن بينها اللغة الإنجليزية، التي كانت تقوم على توزيعها، وكالة (ريد) بلندن، وقد جاء في مقدمة هذه الترجمة المحرفة لأسفار العهد الجديد ما يلي: " إن هذه الترجمة اليهودية والمعتمدة للعهد الجديد يمكن وصفها بأنها العهد الجديد خاليًا من معاداة السامية- إن التعديلات التي أدخلت هنا على ترجمة عام 1611 (الإنجليزية المعتمدة إلى الآن) يمكن إثباتها من المصادر الأولى، وقد اختيرت جميعها لهدف واحد هو: التخلص- بقدر ما تسمح به الحقيقة- مما تحتويه تلك الترجمة النكدة، والتي تهدف إلى بذر العداوة بين المسيحيين واليهود. إن تعاليم العهد الجديد الحقيقي تتضمن المحبة بدلا من تلك الكراهية القاتلة، وعلى هذا الأساس، فإن هذه الترجمة اليهودية يحق لنا أن نقول بأنها الترجمة المسيحية الصادقة، وفيما عدا ذلك من تعديلات، فإن نصوص هذه الترجمة تبقى كما هي في ترجمة عام 1611 م. إن هذه الترجمة تمثل إعلانًا تأخر كثيرًا عن موعده للتقارب بين المسيحية واليهودية ". سبحان الله. . . لقد قام اليهود بتحريف العهد الجديد -أسفار المسيحية- لتنقيتها مما يسيء إليهم حتى تسود المحبة بينهم وبين المسيحيين. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فماذا كان رد الفعل عند المسيحيين إزاء هذا العمل الخطير؟ لا شيء. . . أيها السادة. . . لا شيء! لقد صمت المسيحيون تمامًا. . . وكأن الأمر لا يعنيهم في قليل ولا كثير. . .! فلم يتحرك واحد منهم على الإطلاق. . . سواء من الكنسيين، أو الكتاب والمفكرين! بل إن الذي نبه إلى ذلك العبث اليهودي بالأسفار المسيحية إنما هم الكتاب الإسلاميون! لقد أثاروا موضوع تحريف الأناجيل، وبقية أسفار العهد الجديد في مؤتمرات إسلامية مسيحية عقدت في قرطبة وطرابلس والقاهرة. . وكان موقف رجال الدين المسيحي هو الصمت التام، والاكتفاء بالنظر في وجوه العلماء المسلمين وفي أيديهم النسخة المحرفة، تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت. . .! ألا. . . شتان ما بين موقف المسيحيين من كتبهم المقدسة. . . وبين موقف المسلمين من القرآن الكريم. أما القرآن الكريم، فشأنه يختلف عن شأن جميع الكتب السماوية كل الاختلاف، فقد تكفل الله بحفظه وسلامته من كل تحريف أو تبديل أو زيادة أو نقص، قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . . {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (2) . .   (1) سورة الحجر، آية 9. (2) فصلت، الآيتان 41-42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (1) . . وقد اتفقت كلمة المستشرقين، وعلماء الغرب المحققين، على أن القرآن الكريم محفوظ في السطور والصدور، وأنه لم تحذف منه كلمة، ولم تزد عليه كلمة. ومن هؤلاء (السير وليم ميور) في كتابه: (حياة محمد) وقد عرف (وليم) هذا بتحامله على الإسلام، وعلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال: " لم يمض على وفاة محمد ربع قرن حتى نشأت منازعات عنيفة، وقامت طوائف، وقد ذهب عثمان ضحية هذه الفتن، ولا تزال هذه الخلافات قائمة، ولكن القرآن ظل كتاب هذه الطوائف الوحيد، إذ أن اعتماد هذه الطوائف جميعًا على هذا الكتاب تلاوة، برهان ساطع على أن الكتاب الذي بين أيدينا اليوم، هو الصحيفة التي أمر الخليفة المظلوم بجمعها وكتابتها، فلعله هو الكتاب الوحيد في الدنيا الذي بقي نصه محفوظًا من التحريف طيلة ألف ومائتي سنة ". ومنهم (وهيري) في تفسيره للقرآن قال: " إن القرآن أبعد الصحف القديمة بالإطلاق عن الخلط والإلحاق وأكثرها صحة وأصالة " (2) . . ومنهم (يامر) مترجم القرآن المعروف إلى اللغة الإنجليزية، جاء في كتابه: " لم يزل نص القرآن الذي رتبه عثمان على الصحيفة المتلقاة بالقبول، المعتمد عليها عند المسلمين "   (1) سورة القيامة، الآيات 16-19. (2) جـ1، ص349. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ومنهم (بن بول) الذي يقول: إن أكبر ما يمتاز به القرآن أنه لم يتطرق شك إلى أصالته، إن كل حرف نقرأه اليوم نستطيع أن نثق بأنه لم يقبل أي تغيير منذ ثلاثة عشر قرنًا ". فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، المكتوبة بكل أمانة وتحقيق، والقرآن الكريم الذي تواطأت الصدور والسطور على حفظه ونقله، كل أولئك يعتبر أمارة صادقة على حتم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للنبوات! إن الزمان والمكان. . . وكل الظروف والملابسات. . إن كل أولئك كان مهيأ لاستقبال آخر نبوة! لقد كانت نبوة فاتحة لعصر العلم، والعقل والطموح الإنساني لاكتشاف الكون، واستكناه أسراره! لهذا كانت رسالة دافعة لا معوقة. . . كانت رسالة تفسح مجال العقل إلى منتهاه، وتدفع العلم إلى مداه، وترفع الإنسان إلى مدارج رشده وهداه تقواه! . ولقد ذكر القرآن الكريم -بأوضح بيان وأجلى برهان- أن محمدًا خاتم النبيين. قال تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) . . كذلك رويت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. قال- صلى الله عليه وسلم -: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي، خلف نبي، وأنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء» (رواه البخاري ومسلم) .   (1) سورة الأحزاب، آية 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وقال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» (رواه البخاري ومسلم) . وقال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» (رواه مسلم والترمذي وابن ماجه) . وقال: «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي» (رواه أحمد والترمذي) . وقال: «أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» (رواه البخاري ومسلم) . ولقد صرح القرآن الكريم بأن هذا الدين قد بلغ طوره الأخير من الكمال والوفاء بحاجات البشر، والصلاحية للبقاء والاستمرار فقال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) . . وقد نزلت هذه الآية يوم عرفة، في حجة الوداع، سنة عشر للهجرة، ولم ينزل بعدها -كما تقول أكثر الآثار- حلال ولا حرام، ولم يعش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا اليوم إلا إحدى وثمانين ليلة. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الوداع التي استمع إليها أكثر من مائة ألف إنسان، وحفظوها:   (1) سورة المائدة، آية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 «أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم» (أخرجه ابن جرير تهذيب الآثار، وابن عساكر) (1) . . عموم الرسالة المحمدية أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم، قال: «فُضِّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، أرسلت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون» . وقال صلى الله عليه وسلم: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس أجمعين» . وقال الله سبحانه وتعالى، في القرآن الكريم {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) . وقال عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) . ومن العجيب الغريب المريب. . أن بعض النصارى يذهبون إلى القول بأن محمدًا نبي للعرب خاصة. . . يقولون هذا، ويرددونه، ويتشدقون به، مع وفرة النصوص الكريمة في القرآن والسنة التي تؤكد عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للعالمين.   (1) كنز العمال، جـ5، ص295، ط. حلب. (2) سورة الأعراف، آية 158. (3) سورة سبأ، آية 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 بل إن في كثير من نصوص القرآن الكريم دعوة موجهة إلى أهل الكتاب من يهود ونصارى. . وغيرهم من أهل النحل والملل المختلفة في كل البقاع والأصقاع! وهذه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسله، وجهاده، لليهود والنصارى وللمجوس وللمشركين -من العرب ومن غيرهم- شاهد صدق على ما نقول! وفي القرآن الكريم. . . في مواضع كثيرة منه. . ذكر وتنديد بكفر الكافرين من اليهود والنصارى، وأمر بقتال الظالمين والطغاة منهم، ودعوة لهم إلى الدخول في الإسلام دين الله الحق. . قال تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) .   (1) سورة آل عمران، الآيات 64 - 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وقال تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (1) . وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (2) . وقال تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} (3) . وقال تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ   (1) سورة آل عمران، الآيات 98- 100. (2) سورة النساء، آية 47. (3) سورة النساء، الآيتان 171- 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) . وقال تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (2) . وقال تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (3) . . وقال تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (4) . 50 قد يقول قائل: أليس هناك تناقض بين هذه الآيات وبين آيات أخرى تقول: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (5) . {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (6) .   (1) سورة المائدة، الآيات 15 - 19. (2) سورة المائدة، آية 59. (3) سورة المائدة، آية 68. (4) سورة المائدة، آية 77. (5) سورة آل عمران، آية 164. (6) يوسف، آية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (1) . {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (2) . ونقول في الإجابة: ليس في القرآن الكريم آية واحدة تدل أو تشير إلى أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم مختصة بالعرب وحدهم!! وإنما فيه إثبات رسالته إليهم، كما أن فيه إثبات رسالته إلى قريش!! وليس بين هذين تناقض!! وكذلك ليس هناك تناقض أي تناقض، بين أن يوجه القرآن الخطاب إلى أهل الكتاب -كما أسلفنا- وبين أن يوجهه إلى بني إسرائيل، أو بني آدم، كما في قوله تعالى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (3) . {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (4) . {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (5) . {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} (6) .   (1) سورة الشعراء، الآيات 192 - 195. (2) سورة القصص، 46. (3) سورة البقرة، آية 40. (4) سورة البقرة، الآيات 47-122. (5) سورة الأعراف، آية 26. (6) سورة الأعراف، آية 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (1) . {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) . فليس التخصيص في توجيه الدعوة الإسلامية، إلى العرب أو بني إسرائيل بمناف لعموم الرسالة إلى الثقلين! ولهذا فإن البشرية كلها -بل، والجن كذلك- مخاطبون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومسئولون عن دعوته وعن مدى استجابتهم واتباعهم لها. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» . وأولئك البقايا الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، كانوا متمسكين بدين المسيح الحق قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. أما منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم فمن لم يؤمن به فهو كافر من أهل النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» . ثم إنه من المعروف أن بني إسرائيل كانوا أكثر الأمم أنبياء. . بعث إليهم موسى وبعث إليهم بعده أنبياء كثيرون. . . حتى قيل: إِنهم بلغوا ألف نبي. . كلهم يلتزمون بشريعة التوراة، يأمرون بها، ويدعون إليها، ولا يغيرون منها شيئًا. . . ثم جاء المسيح بعد ذلك بشريعة أخرى غير فيها بعض شرع التوراة بأمر الله   (1) سورة الأعراف، 31. (2) سورة الأعراف، الآيتان 35، 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فإذا كان إرسال موسى والأنبياء بعده، لم يمنع من إرسال المسيح إلى بني إسرائيل. فلماذا يرفضون أن يكون محمد رسولًا إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى وهم منذ المسيح لم يأتهم رسول من الله، كما قال تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) . الصادق الأمين فإن قال قائل: إن الشكوك تراودني في صدق محمد صلى الله عليه وسلم، في ادعائه للنبوة. قلنا له: أولًا: إن الذين يقدحون في محمد صلى الله عليه وسلم، عليهم أن يعلموا أن القدح فيه قدح في غيره من الأنبياء، وأن الشك فيه شك في غيره من الأنبياء، وأن تبرئة غيره من الأنبياء هو تبرئة له من باب أولى. إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من سيرة غيره من الأنبياء. . وكذلك شريعته، وأمته، والكتاب الذي أنزل إليه من ربه، ومعجزاته وهديه!! فمن كذب به صلى الله عليه وسلم وتشكك فيه. . فتكذيبه لغيره، وشكه فيه أولى. . .! ومن آمن بغيره من الأنبياء، ونادى باتباعهم، فإن إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه أولى، وأهدى!   (1) سورة المائدة، آية 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ثانيًا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أظهر دين الرسل قبله، وصدقهم، ونوه بذكرهم وتعظيمهم، حتى يحق لنا أن نقول: إن من آمن بالأنبياء والرسل مثل موسى والمسيح وغيرهما، إنما آمنوا بهم عن طريقه صلى الله عليه وسلم. بهم الكفار، ويحق لنا أن نقول: إن كثيرًا من الأمم، لولا محمد صلى الله عليه وسلم، وما قصه عليهم من القصص الحق في أخبارهم وآثارهم، لم يؤمنوا بهم!! (ولولا أن القرآن الكريم -ذكر ما ذكر- عن ولادة المسيح وآية الله فيه وفي أمه، لاعتبر الناس هذا الموضوع أسطورة قديمة. . .) وهذا التعبير، قاله أحد الأدباء المسيحيين!! ثالثًا: إن في القرآن الكريم آيات كثيرة تثبت شهادة أهل الكتاب له، وإيمان كثير منهم به، كما قال تعالى {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (1) . {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) . {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (3) .   (1) سورة البقرة، آية 146. (2) سورة البقرة، آية 146. (3) سورة الأنعام، الآيتان 19، 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1) . {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) . {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (3) . {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (4) . وهذه الآيات القرآنية تشير إلى شواهد كثيرة موجودة في كتب القوم، من يهود أو نصارى، وقد نقلنا منها فيما سلف من أحاديث، الشيء الكثير. فإن قال قائل: إننا لا نقر ولا نعترف بأن في الكتب المقدسة كأسفار العهدين القديم والجديد، إشارات أو بشارات بمحمد (صلى الله عليه وسلم) .   (1) سورة آل عمران، آية 199. (2) سورة الأحقاف، الآيتان 9، 10. (3) سورة الرعد، آية 43. (4) سورة الفتح، آية 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 قلنا لهم: يترتب على قولكم هذا أمران: الأمر الأول: ألا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم أي كتاب، يهودي أو نصراني، بحجة أن (القرآن) قال (مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل) وهو غير مكتوب عندهم لا في التوراة ولا في الإنجيل. . .! لكن ثبت -تاريخيًا وواقعيًا- غير هذا، بل وضد هذا، فإن الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه من اليهود والنصارى، في القديم والحديث، أعداد هائلة لا تكاد تنحصر، وهم لم يؤمنوا به إِلا بعد أن قرأوا هذه الآيات، ووقفوا من كتبهم على هذه البشارات!! وأمر ثان: هو: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، ظهر وقهر أهل الكتاب من يهود ونصارى، وسبى من سبى منهم، وقتل من قتل من رجالهم، وأخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. . . فلا بد أن يرد ذكره، وذكر الأحداث العظام التي جرت عليهم في أيامه. . .! وإذا كان كاذبًا أو دعيًا -وحاشاه- فلا بد أن يرد في كتبهم التحذير من اتباعه. .! ومعلوم أن أهل الكتاب يقولون قولين: القول الأول: إنه ليس موجودًا في كتبنا. . . والقول الثاني: إنه موجود ومذكور بالمدح والثناء. وليس هناك قول ثالث، يدعي صاحبه أن اسمه أو صفته مذكورة في هذه الكتب بالذم والتحذير. . . ولو كان موجودًا عندهم بالذم والتحذير، لكان هذا من أعظم ما يحتجون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 به عليه في حياته، أو يواجهون به أتباعه بعد مماته، ويحتج به من لم يسلم منهم على من أسلم. . . فإنه من المعلوم أن كثيرًا من أهل الكتاب -كانوا، وما زالوا- يبغضونه (صلى الله عليه وسلم) ويضمرون ويظهرون له من العداوة والتكذيب الشيء الكثير. . . مما يدفعهم إلى افتراء أمور خيالية وهمية ونسبتها إليه. . . حتى آل الأمر ببعضهم إلى أن فسروا قول المسلمين (الله أكبر) بأن (أكبر) هذا صنم، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمرهم بتعظيمه وعبادته!! إن قومًا وصل بهم الافتراء والكذب إلى هذه الغاية. . . كان يمكنهم أن يظهروا ما في كتبهم من تكذيبه والتحذير منه، لكنهم لم يفعلوا لأن كتبهم خالية من هذا الادعاء!! رابعًا: إن من ادعى النبوة -وكان صادقًا- فهو من أفضل خلق الله تعالى، وأكملهم في العلم والدين. . . إذ لا شك أن رسل الله وأنبياءه هم أفضل الناس، وأعدل الناس، وأبر الناس، وأهدى الناس. . . وإن كان بعضهم أفضل من بعض. . . كما قال تعالى عن الرسل {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (1) . وكما قال سبحانه عن الأنبياء {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} (2) . أما من ادعى النبوة -وكان كاذبًا- فهو من أكفر خلق الله وأفجرهم وشرهم، كما قال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3) .   (1) سورة البقرة، آية 253. (2) سورة الإسراء، آية 55. (3) سورة الأنعام، آية 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وقال تعالى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (1) . وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (2) . فالكذب أصل الشر، وأعظم الكذب ما كان كذبًا على الله عز وجل. . . والصدق أصل الخير، وأعظمه الصدق في التبليغ عن الله تبارك وتعالى. . وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» . وهذا المعنى يعرفه العقلاء من بني الإنسان، ولهذا، فإنه ينبغي لنا أن ننقل هذه المناقشة الواعية الدقيقة التي تمت بين (هِرْقَل) وبين (أبي سفيان) وهي مناقشة تنم عن فهم، وعلم، وعقل، اتسم بها (هرقل) . . .! كان (هرقل) هذا. . . ملكًا على النصارى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، سأل عن عشرة أمور كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «حدثني أبو سفيان بن حرب من فِيْه إلى فيَّ، قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هدنة، قال: فبينا أنا بالشام، إِذ جيء بكتاب   (1) سورة الزمر، آية 32-34. (2) سورة الزمر، آية 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، قال: وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل. فقال هرقل: هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم. قال: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه. قال: أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: قلت أنا. فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، فدعا بترجمانه، فقال: قل لهم: إني سائل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه. قال: فقال أبو سفيان: وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه. ثم قال لترجمانه: سله: كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: ومن اتبعه؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا، بل يزيدون؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 قال: فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: يكون الحرب بيننا وبينه سجالا، يصيب منا ونصيب منه؟ قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه على مدة ما ندري ما هو صانع فيها. قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال: قلت: لا. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذا الرسل تبعث في أحساب قومها. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: عن أتباعه، أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت: أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله. . وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فزعمت: أن لا، فكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالًا، ينال منكم، وتنالون منه، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت: أن لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله. ثم سألتك: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال: إِن يكن ما تقول فيه حقًّا: إنه لنبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإذا فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين -الفلاحين، والعامة- و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (1) .» وفي رواية: فماذا يأمركم به؟ قال: يأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئًا، وينهانا عما كان يعبد   (1) سورة آل عمران، آية 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 آباؤنا، يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، فقال: هذه صفة نبي. خامسًا: نزول القرآن الكريم عليه، مع أنه (أمّيّ) لم يذهب إلى مدرسة، ولم يجلس إلى معلم، ولم يهاجر في طلب علم. قال تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1) . وقال تعالى {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2) . وتأملوا -إن شئتم- قوله تعالى {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} . وهذا العمر الذي لبثه فيهم، والذي بلغ أربعين عامًا!! لم يؤثر عنه في خلالها علم، ولا شعر، ولا بلاغة، ولا فصاحة. . .! فلما بلغ الأربعين تحدث. . . وتحدث كثيرًا بالعلم النافع، والهدي القويم، والخير العميم. . .! وتحول (الأميُّ) إلى معلم. . . لا معلم مدرسة أو منطقة أو مدينة أو قبيلة أو دولة. . . وليس معلم زمان واحد، أو جيل فريد. . .! وإنما أصبح معلمًا للدنيا بأسرها، بكل ألوانها وأجناسها، معلمًا لكل العصور والدهور. .!   (1) سورة العنكبوت، آية 48. (2) سورة يونس، الآيتان 15، 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وقال الله تعالى {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (1) . إنه لم يتكلم من عند نفسه، ولم ينطق بقوة جنانه، أو بروعة بيانه، أو بفصاحة لسانه. . . ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي علمه الحكمة وفصل الخطاب. وقد علمه الله أن يقول في دعائه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (2) . وقال تعالى مبينًا التحول العظيم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه سبحانه وحده هو الذي علمه ورباه، وزكاه {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (3) . وقال عنه. وله: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالضُّحَى} {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (4) .   (1) سورة النساء، آية 113. (2) سورة طه، آية 114. (3) سورة الشورى، الآيات 51- 53. (4) سورة الضحى، الآيات 1-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 والقرآن الكريم، وهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى. وهو النص الوحيد الباقي لدين الله وهدايته، ومراده من عباده! وهو المتعبد بتلاوته، والمتحدى بأقصر سورة منه! وهذا هو السر في انتشار (رسالة محمد صلى الله عليه وسلم) وشيوعها في الخافقين، مع قلة ما يبذل في سبيلها- وبخاصة في هذا الزمان- من جهود، إذا قيست بما يقيمه أعداؤها في سبيلها من عقبات!! إن الإسلام. . . وإن القرآن. . . وإن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام. . . إن هذا الخير الكبير، ينتشر، ويمتد في انتشاره، حتى بين البلاد التي يسمونها (العالم الجديد) بلاد النور، والحرية، وحقوق الإنسان!! لقد قال أحد الأدباء الإنجليز المشهورين: (جورج برنارد شو) : " وإذا كان لنبوءات كبار الرجال أثر، فإنني أتنبأ بأن دين محمد، قد بدأ يكون مقبولًا لدى أوروبا اليوم، وسيكون مقبولًا لديها أكثر غدًا، وسيكون دين الإنسانية جميعًا قبل الصيحة الأخيرة ". وقد ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» . وسادسًا وسابعًا: فإن الدلائل والبراهين، القائمة الشاهدة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى نبوته أكثر من أن تحصى أو تستقصى: فصحابته رضوان الله عليهم من أمارات صدقه، فالذي يدرس حياتهم في الجاهلية والإسلام، فرادى أو جماعات يجد عجبًا. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 أمة متنابزة متخاصمة، بينهم تراث وعداوات، تقوم الحروب بينهم، ولا تهدأ إلا لتبدأ. . وهذه الحروب القائمة الدائمة المستمرة، تشعلها أوْهَى الأسباب، ولا تطفئها كل الجهود والمساعي. . .! هذه الأمة، تحولت -بعون الله ومدده- إلى أمة متحالفة، متآلفة، متكاتفة، قوية. . . يقول عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» . ويقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) . وقال تعالى {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) . ونقول باختصار- وباختصار شديد: إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من آياته. . . وأخلاقه، وأقواله، وأفعاله، وشريعته من آياته. . . وأمته من آياته. . . وغزواته من آياته. . . وعلم أمته ودينهم من آياته. . . وكرامات صالحي أمته من آياته. . .   (1) سورة آل عمران، الآيتان 102، 103. (2) سورة الأنفال، الآيتان 62، 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 المعجزات الحسية فإن قال قائل: - فأين معجزات محمد (صلى الله عليه وسلم) الحسية؟ فإننا نقول: إن عد ذلك يحتاج إلى صفحات وصفحات، بل إلى كتب ومجلدات، لكننا نكتفي بإشارات وتلميحات، ومن أراد المزيد، والتفصيل، فليتبع ذلك في مظانه من كتب الحديث والسير والتواريخ، فهي مليئة بما يروي الغلة ويشفي العلة (1) . ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها: 1- إخباره صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق. 2- وأن خيبر تفتح على يد علي رضي الله عنه في غد يومه. 3- وأنهم يقسمون كنوز ملك فارس وملك الروم. 4- وأن فارس، نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد هذا أبدًا، والروم ذات قرون كلما هلك قرن خلف مكانه قرن، أهل صخر وبحر، وهيهات آخر الدهر. 5- وأن الله زوى له الأرض فرأى مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمته ما زوى له منها. 6- ولا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى. 7- وأن الفتن لا تظهر ما دام عمر حيًّا.   (1) يقول ابن تيمية عن معجزات الرسول صلى الله الحسية: (قد جمعت نحو ألف معجزة) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان - ص125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 8- وأن عثمان يقتل وهو يقرأ في المصحف. 9- وأن أشقى الآخرين من يصبغ هذه من هذه يعني: لحية علي من دم رأسه. 10- وأن عمارًا تقتله الفئة الباغية. 11- وأن الخلافة بعده في أمته ثلاثون سنة ثم تصير ملكًا عضوضًا بعد ذلك. 12- وأنه يكون في ثقيف كذاب ومبير، أي مهلك، فرأوهما المختار والحجاج. 13- وأن أمته يغزون في البحر كالملوك على الأسرة، ففي الصحيحين: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان من خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها يومًا فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام، ثم استيقظ يضحك، فقالت: مم تضحك؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكًا على الأسرة، أو كالملوك على الأسرة، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين، فركبت البحر في زمن معاوية فصرعت عن دابتها بعد خروجها منه، فهلكت» (1) . 14- وأن فاطمة رضي الله عنها أول أهله لحوقًا به، فماتت رضي الله عنها بعد ستة أشهر من وفاته صلى الله عليه وسلم. 15- وقال عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين» ووقع كما أخبر، فأصلح الله به بين أتباعه وأهل الشام. 16- وأن أبا ذر، يعيش وحيدًا، ويموت وحيدًا.   (1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة باب فضل الغزو في البحر 3 / 1518، ح 1912 م بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 17- وأن أسرع أزواجه لوحقًا به أطولهن يدًا، فكانت زينب بنت جحش رضي الله عنها أسرعهن لحوقًا به لطول يدها بالصدقة. 18- وأن سراقة بن جعشم، سيلبس سواري كسرى. 19- وقال لخالد رضي الله عنه حين وجهه لأكيدر: إنك تَجده بصيد البقر. 20- في البيضاوي، وغيره: إنه لما طلعت قريش من العقنقل قال صلى الله عليه وسلم: «هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني. فأتاه جبريل عليه السلام، وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان تناول كفًّا من الحصباء فرمى بها في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه، فانهزموا، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر، فيقول الرجل قتلت، وأسرت» . أ. هـ. وفي هذا يقول الله تعالى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (1) . 21- نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم في مواطن متعددة. وهذه المعجزة أعظم من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى عليه السلام، فإن ذلك من عادة الحجر في الكثير الغالب، وأما أن يحدث ذلك من أصابع هي لحم ودم، فلم يعهد من غيره صلى الله عليه وسلم. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء، وأمر الناس أن يتوضأوا   (1) سورة الأنفال، آية 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 منه، قال فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ الناس حتى توضأوا عن آخرهم» وهذه المعجزات صدرت بالزوراء عند سوق المدينة. وعن جابر رضي الله عنه قال: «عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها وأقبل الناس نحوه، وقالوا: ليس عندنا ماء إلا في ركوتك فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون " وكان الناس ألفًا وأربعمائة» . 22- عن جابر رضي الله عنه «أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فاستطعمه شطر وسق شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: " لو لم تكله لأكلتم منه ولقام بكم» (1) . ومعجزة تكثير الطعام بدعائه صلى الله عليه وسلم مروية عن بضعة عشر صحابيًّا، ورواه عنهم أضعافهم من التابعين، ثم من لا يعد بعدهم ولهذا نظائر مروية عن الأنبياء السابقين. كما يظهر من معجزة إيلياء عليه السلام في تكثير الدقيق والزيت في بيت امرأة أرملة (سفر الملوك الأول: 17) وكذلك معجزة اليشع عليه السلام في تكثير عشرين خبزًا من شعير وسنبل مفروك في منديل حتى أكل مائة رجل وفضل (سفر الملوك الثاني: 4) . وكذلك معجزة عيسى عليه السلام في تكثير خمسة أرغفة وسمكتين (إنجيل متى: 14) . 23- عن جابر رضي الله عنه، «كان المسجد مسقوفًا على جذوع نخل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر، سمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار» ، وفي رواية أنس: «حتى ارتج المسجد   (1) أخرجه أحمد في المسند 3 / 337، وابن ماجه في الفضائل 2 / 642 / 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 لخواره» ، وفي رواية سهل: «وكثر بكاء الناس لما رأوا ما به» ، وفي رواية المطلب: «حتى تصدع وانشق حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يده عليه فسكت!» 24- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم مثبتة الأرجل بالرصاص في الحجارة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد عام الفتح جعل يشير بقضيب في يده إليها ولا يمسها، ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا ". فما أشار إلى وجه صنم إلا وقع لقفاه، ولا لقفاه إلا وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم» . 25- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «أن عين قتادة ابن النعمان أصيبت حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه» . 26- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «قالت أمي: يا رسول الله، خادمك أنس، ادع الله له، فقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما آتيته. قال أنس: فوالله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليعادون اليوم نحو المائة.» 27- إسراؤه ومعراجه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) . ولا يحق لواحد من النصارى أن ينكر إسراء النبي ومعراجه، لأن مثله ثابت في كتبهم لإيلياء وغيره، ففي العهد القديم: " وكان عند إصعاد الرب إيليا في العاصفة إلى السماء أن إيليا واليشع ذهبا من الجلجال " (سفر الملوك الثاني، 2: 1) . " وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار فصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء " (سفر الملوك الثاني، 2: 11) .   (1) سورة الإسراء، آية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 28- انشقاق القمر، لقوله تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (1) . فعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: «ألا إن الساعة قد اقتربت، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم» . 29- ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق الله ملكه، فلم تبق له باقية. 30- تسليم الأحجار عليه، وتسبيح الحصى في كفيه. ولو رحنا نتتبع هذا كله، لما اتسع المقام ولا المقال، ولكننا نجتزئ مما ذكرناه، ومن أراد " الزيادة " و " التفصيل " فعليه بكتابي: 1- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية. 2- إظهار الحق، للشيخ رحمة الله الهندي. فإن قال قائل: إن ما ذكرته وما نقلته من هذه المعجزات الحسية، لم نره، ولم نشاهده، ولم نحس به، فلا يكون حجة علينا!! قلنا له: وكذلك معجزات المسيح وغيره من الأنبياء لم نرها، ولم نشاهدها، ولم نحس بها!! فإن قال قائل: لكن تواترت روايات الثقات بهذا؟ قلنا له: إن (الرواية الإسلامية) هي أدق الروايات وأضبطها على الإطلاق، أما (الرواية المسيحية) فهي رواية يعتريها الشك من كل أقطارها! ثم إن (المعجزة الحسية) هي كل شيء بالنسبة لهذه الديانات،. فإن ثبتت صحت هذه الديانات، وإن انتقت أو دخلها الشك، بطلت هذه الديانات!   (1) سورة القمر، الآيتان 1، 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أما الإسلام. . . الدين الخاتم. . . الذي جاء به النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم. . فإنه لم يركز على المعجزة الحسية وحدها. . . وإنما ركز على المعجزات المعنوية. . . وفي قمتها القرآن الكريم. . والقرآن الكريم معجزة عقلية معنوية باقية لا يهون من جلالها مرور الزمان، وتقادم الأيام، بل إن الزمان كلما تقادم زاد هذا القرآن جدة وقوة وإعجازًا، فالزمان عنصر من الإعجاز في القرآن. . .! إن الإسلام دين معجز، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ومجالات واتجاهات! فهو معجز في تشريعه. . .! وهو معجز في تاريخه. . .! وهو معجز في دائرة معارفه. . .! وهو معجز في فتوحاته وانتصاراته. . .! فإن قال قائل: إن القرآن ينفي (المعجزات الحسية) عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في سورة الأنعام {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} سورة الأنعام، آية 109. . وكما جاء في سورة الإسراء {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} سورة الإسراء، الآيات 90- 93. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 قلنا له: الذي يفهم من هذه الآيات، وما شاكلها، نفي المعجزات المقترحة، ولا يلزم من نفي المعجزات المقترحة نفي المعجزات مطلقًا. إذ أنه ليس حتمًا على الأنبياء أن يظهروا معجزة كلما طلبها المنكرون!! بل -على العكس- فهم لا يظهرون المعجزة إذا كان طلبها منطويًا على العناد والامتحان والاستهزاء. . . ولذلك نظائر في كتب القوم، لا أدري لماذا يغفلون عنها، تقول أسفار العهد الجديد: " فخرج الفريسيون وابتدأوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه، فتنهد بروحه، وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية. الحق أقول لكم لن يعطي هذا الجيل آية " (إنجيل مرقس: 8: 11، 12) . ومعنى هذا النص أن الفريسين طلبوا معجزة من عيسى عليه السلام على سبيل الامتحان، فما أظهر معجزة، ولا أحال- في ذلك الوقت- إلى معجزة ولا وعد بإظهار معجزة فيما بعد. . .! بل قال: (لن يعطى هذا الجيل آية) وهذا يدل على أنه لن تصدر عنه معجزة إطلاقًا. . .! لأن لفظ الجيل يشمل جميع الذين كانوا في زمانه! وليس هذا هو النص الوحيد، الذي نقلته إلينا أسفار العهد الجديد، فهناك نصوص أخرى: ففي إنجيل لوقا: " وأما هيرودس فلما رأى يسوع فرح جدًّا لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة، وترجى أن يرى آية تصنع منه. وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء. ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه باشتداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 فاحتقر هيرودس مع عسكره واستهزأ به وألبسه لباسًا لامعًا ورده إلى بيلاطس " (إنجيل لوقا، 23: 8- 11) . وفي إنجيل لوقا أيضًا: " والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه، وغطوه وكانوا يضربون وجهه، ويسألونه قائلين: تنبأ. من هو الذي ضربك. وأشياء أخرى كثيرة كانوا يقولون عليه مجدفين " (إنجيل لوقا، 22: 63- 65) . وفي إنجيل متى: " وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك. إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب. وكذلك رؤساء الكهنة أيضًا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ، قالوا: خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به، قد أتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده. لأنه قال: أنا ابن الله. وبذلك أيضًا كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه " (إنجيل متى، 27: 39- 44) . وفي إنجيل متى أيضًا: " حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين يا معلم نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال فكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال " (إنجيل متى 12، 38- 40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ولنا على هذا النص ملاحظتان: الملاحظة الأولى: أن المسيح قد وعد بمعجزة لم تصدر عنه، لأن المسيح صلب قريبًا من نصف النهار من الجمعة كما يعلم من الإصحاح التاسع عشر من إنجيل يوحنا. ومات في الساعة التاسعة، وطلب يوسف جسده من بيلاطس وقت المساء فكفنه ودفنه كما هو واضح من إنجيل مرقص. فدفنه لا محالة كان في ليلة السبت. وغاب هذا الجسد عن القبر قبل طلوع الشمس من يوم الأحد كما هو واضح في إنجيل يوحنا. فما بقي في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال -كما قال- وإنما بقي يومًا وليلتين!! والملاحظة الثانية: أن (قيامه من الأموات) لم يره الكتبة والفريسيون بأعينهم. . لأنهم هم الذين طلبوا الآية. . ولأنهم هم الذين وعدوا بها!! وفي إنجيل متى أيضًا: " فتقدم إليه المجرب، وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا. فأجاب وقال. مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله. ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك، فعلى إياديهم يحملونك لكي لا تصطدم بحجر رجلك. قال له يسوع: مكتوب أيضًا لا تجرب الرب إلهك " (إنجيل متى 4، 30، 7) . ففي هذا النص نرى أن إبليس طلب من عيسى عليه السلام -على سبيل الامتحان- معجزتين، فما أجاب إلى واحدة منهما!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الجهاد في الإسلام و. . . بين يدي سؤال عن السيف، وانتشار الإسلام بالسيف، وهو سؤال مكرور ومعاد. . . وليست هذه أول مرة يثار فيها، ولن تكون آخر مرة!! وليست هذه أول مرة يجاب فيها على هذا السؤال، ولن تكون آخر مرة!! لأن قائمة (النحل الفاسدة) قائمة محفوظة، تلقى إِلقاء بدون وعي ولا بصيرة! وكأن الله - سبحانه وتعالى- أراد. . لرجال الكهنوت أن يحتفظوا بقائمة الاتهامات هذه. . . وأن ينشروها بين أتباعهم. . . ومن يريدون إيقاعهم في شباكهم وشراكهم. . .! لتكون هذه القائمة. . . كما أرادوا لها أن تكون! . . . صدًّا عن سبيل الله، وصرفًا للناس عن دين الهدى والحق. . .! ولكنها تصبح إمارة هدى، وإشارة براءة، وبشارة حق، كما أراد الله لها أن تكون. .! وفرق كبير وهائل. . . بين ما يريده الله. . . وما يريده الطغاه! لقد أمر الله المسلمين بأن يجادلوا الناس جميعًا بالتي هي أحسن سواء أكانوا من أهل الكتاب، كما قال تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) . أم كانوا من غيرهم، كما قال تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}   (1) سورة العنكبوت، 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (1) . وهذه الآيات وأمثالها، لا تناقض ما جاء في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (2) . فالجمع بين (الجدال) و (الجهاد) وهو أسلوب الإسلام ومنهجه، ولكل منهما موضعه، إذ إن كلًّا منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر، وإن استعمالهما جميعًا أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق. فمن كان من أهل الذمة والعهد والمستأمن منهم لا يجاهد بالقتال، فهو داخل ضمن أمر الله بدعوته ومجادلته بالتي هي أحسن، وليس داخلًا فيمن أمر الله بقتاله. ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته عند وفاته: " وأوصي الخليفة من بعدي بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يوفي لهم بعهدهم، وإن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم ". وهذا امتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه من حقه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» رواه أبو داود.   (1) سورة النساء، آية 128. (2) سورة النساء، آية 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 قال أبو عبيد، في (كتاب الأموال) عن ابن الزبير: «كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته، فإنه لا يفتن عنها، وعليه الجزية» . وأما الظالمون الذين قال الله فيهم {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1) . فهؤلاء لم نؤمر بجهادهم بالتي هي أحسن، لأن الظالم ليس بذي علم ولا دين ولا حق، ولهذا كان مستحقًّا للقتال. وأما المستجير المستأمن -وهو من أهل الحرب- فقد أمر الله تعالى بإجارته حتى تقوم حجة الله عليه، ثم يبلغ مأمنه، قال تعالي: - {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (2) . والحرب الإسلامية، دفعت إليها الرحمة، وأظلتها الرحمة، وأنهتها الرحمة. . وإذا كان من الرحمة بجسم الإنسان أن تقطع بعض إجزائه الفاسدة حتى لا يسري الفساد ولا يستشري، فإن من الرحمة بالناس جميعًا أن تبتر عناصر الفساد من الطغاة والظالمين والمستبدين، حتى يعيش سائر الناس آمنين مطمئنين، لا يهدد حياتهم خوف ولا ظلم ولا اضطهاد. والباعث على الحرب الإسلامية، كما جاء في القرآن الكريم، رد العدوان، وصد الطغيان، قال تعالي: -   (1) سورة العنكبوت، آية 46. (2) سورة التوبة، 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) . وقال تَعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) . وقال تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (3) . وقد بين سبحانه وتعالى أن معاملة المعتدين إنما تكون على قدر اعتدائهم، فقال تعالى: - {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (4) . ومن هذه النصوص وغيرها -وهو كثير- نرى أن ابتداء الاعتداء كان من المشركين، وكان اعتداء على الحرية الدينية، ومحاولات متكررة، وبشتى الأساليب لفتنة المؤمنين في عقيدتهم، وصرفهم عن دينهم، وصدهم عن سبيل ربهم. كذلك نستبين من هذه النصوص وغيرها -وهو كثير- أن المسلمين لما طولبوا وخوطبوا برد العدوان، طولبوا وخوطبوا -أيضًا- بأمرين هامين هما:   (1) سورة الحج، آية 39. (2) سورة البقرة، آية 190. (3) سورة البقرة، آية 193. (4) سورة البقرة، آية 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 1- عدم الاعتداء {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 30 والاعتداء هنا، هو أن يقاتلوا من لم يبدأهم بقتال، ومن لم يضع العقبات والعراقيل في سبيل تقدم الدعوة الإسلامية الهادية. 2- والتقوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1) . والتقوى -هنا- هي الالتزام بالفضيلة، فلا يجرفهم تيار العداوة إلى التشبه بأعدائهم فيما يفعلون، من العدوان على الأعراض، والتمثيل بالقتلى. . . وما إلى ذلك من أسلوب شركي جاهلي إرهابي خبيث. ثم. . . إن الذين يراجعون (السيرة النبوية) وما جرى للمسلمين من اضطهاد وتعذيب، وفتنة وتشريد، يعلمون أن الباعث على (الحرب الإسلامية) إنما هو رد العدوان، وإيقاف المد الهمجي الرهيب للظلم والطغيان، {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (2) . هذا هو مجمل الحديث عن القتال في شبه الجزيرة العربية، وهذه هي باختصار شديد ومفيد، أسبابه ودوافعه! لقد تجمع الشرك بكل قدراته، وجحافله، وألقى بأفلاذ أكباده، ليضرب الإسلام في معقله، وبين أنصاره من أهل (المدينة) !! فنزل قول الله تعالى: - {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (3) . . تلك كانت حال (الحروب الإسلامية) داخل الجزيرة! أما حال هذه الحروب خارج الجزيرة: -   (1) سورة البقرة، آية 194. (2) البقرة، آية 193. (3) سورة التوبة، آية 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فلقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم كتبه ورسله إلى الملوك والرؤساء، إلى هرقل، وإلى المقوقس، وإلى كسرى. . وإلى غيرهم. . بل وإلى أمراء بعض البلاد العربية النائية. . . فما كان جواب أكثرهم إلا الإساءة، سواء أكانت إساءة قولية أم فعلية!! ومن تتبع صفحات التاريخ، نرى أن الباعث على (الحرب الإسلامية) إنما هو دفع الأذى، وتمكين الدعوة، ومقاومة الشر، ومكافحة الطغيان. . . ولم يكن ثمة إكراه على دين، أو قهر على إيمان، قال تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) . . وقال تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (2) . . ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكره أحدًا على الدين بل ثبت عكس ذلك، وهو، أن بعض الأنصار أراد أن يكره ولده على الإسلام فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ويقول تعالى: - {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (3) . .   (1) سورة البقرة، آية 256. (2) سورة يونس، آية 99. (3) سورة التوبة، آية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وهنا نتوقف لنستعرض بعض النصوص التي تلقي الضوء على أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم ووصاياه في الحرب، سواء أكان ذلك في وقت الإعداد لها أم في وقت مباشرتها أم في أعقابها. 1- كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو المؤمنين إلى عدم تمني لقاء العدو، فكان يقول: «لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا» (1) . 2- ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على منع القتال حتى بعد أخذ الأهبة له، فهو يقول لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن قائدًا: «لا تقاتلوهم حتى تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإن بدأوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلًا، ثم أروهم ذلك، وتولوا لهم: هل إلى خير من هذا من سبيل، فلأن يهدي الله على يديك رجلًا واحدًا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت» . 3- ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف دعوته وحربه: «أنا نبي الرحمة، وأنا نبي الملحمة» . والرحمة والملحمة متلازمتان في حروب النبي صلى الله عليه وسلم. . .! فالرحمة الحقيقية إنما تكون في قطع أصول الفساد، وإيقاف انتشار الجريمة والشر. 4- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي جنده بتأليف القلوب، لا بإتلاف النفوس، فهو يقول: «تألفوا الناس، وتأنوا بهم، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل مدر أو وبر أن تأتوني بهم مسلمين، أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم» .   (1) الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في الجهاد 32- 112، 156، ومسلم في الجهاد 19 / 20، وأبو داود في الجهاد 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 5- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي جيشه المحارب بألا يقوم بإتلاف زرع أو قطع شجر، أو قتل الضعاف من الذرية والنساء والرجال الذين ليس لهم رأي في الحرب، ولم يشتركوا فيها من قريب أو بعيد، ومن ذلك قوله: «سيروا بسم الله، في سبيل الله، وقاتلوا أعداء الله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا» . ويقول عليه الصلاة والسلام لخالد بن الوليد رضي الله عنه: «لا تقتل ذرية ولا عسيفًا: أي عاملًا» . 6- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشدد في المنع من قتل الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا يحاربون، وليس لهم رأي في الحرب. فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على القتلى، فرأى امرأة مقتولة، فقال: «ما كانت هذه لتقاتل» . وقال: «ما بال أقوام تجاوز بهم القتل حتى قتلوا الذرية، ألا لا تقتلوا الذرية، ألا لا تقتلوا الذرية» . 7- وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المثلة -ولو فعلها المشركون مع المسلمين- قال: «إياكم والمثلة» . 8- ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن قتلى المشركين، ولم يترك جثثهم نهبًا لوحوش الأرض، وسباع الطير، إذ «أمر صلى الله عليه وسلم بوضع جثث القتلى من قريش في (القليب) وهي بئر جافة» . كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الإجهاز على الجرحى. 9- وكانت حرب النبي صلى الله عليه وسلم تنتهي بأحد أمور ثلاثة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 أولها - (الموادعة) ، قال تعالى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) . . وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) . . ثانيها - (الصلح وإنهاء الحرب) ويكون هذا الصلح على أساس العدالة والوفاء. ولأنه صلح منه للحرب بعد وقوعها، لذا لزم أن يكون مقرونًا بإعلان الإسلام في ربوع الديار التي كان النصر فيها للمؤمنين. وثالثها - (النصر المبين) ويكون بإعلاء كلمة الله، كما قال تعالى {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3) . . 10- وكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أعدائه المنهزمين موقفًا كريمًا للغاية. ونضرب مثلًا واحدًا لهذا المعنى الإنساني النبيل: لقد كانت آخر حرب للنبي صلى الله عليه وسلم مع قريش هي التي انتهت بفتح مكة للإسلام والمسلمين. . .! ثم. . . ماذا؟ ثم التقى النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء الذين آذوه وعادوه واضطهدوا أصحابه، وساؤهم سوء العذاب. . . حتى إن منهم من مات تحت وطأة العذاب، وضراوة الفتنة. .   (1) سورة الأنفال، آية 61. (2) سورة البقرة، آية 208. (3) سورة الحج، آية 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فماذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ وماذا قالوا له؟ «قال لهم: " ما تظنون أني فاعل بكم "؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم!! فقال لهم: " لا أقول لكم إلا ما قاله أخي يوسف {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (1) . . اذهبوا فأنتم الطلقاء» (2) !!! 11- وموقفه صلى الله عليه وسلم من الأسرى، موقف كريم رحيم، وهو أعرف من أن يعرف- فهو الذي يقول: «استوصوا بالأسرى خيرًا» . ولقد قام صحابته رضوان الله عليهم بما أمرهم به خير قيام، حتى أثنى الله عليهم بقوله {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (3) . .   (1) سورة يوسف، آية 92. (2) أخرجه البخاري في المغازي 3 / 345، وأحمد في المسند 3 / 190-286. (3) سورة الإنسان، آية 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الحرب في الأسفار المقدسة بعد هذا الاستعراض الموجز الأمين لأسلوب (الحرب الإسلامية) كما تحدث عنها القرآن الكريم والسنة المطهرة. . .! نقدم الصورة المقابلة، وهي صورة (الحرب الدينية) كما تحدثت عنها الأسفار المقدسة عند اليهود والنصارى! وبضدها تتميز الأشياء. . . كما قال سلفنا العلماء! وسنرى مدى البشاعة والشناعة التي تظهرها هذه الصورة الأخيرة. . .! (ولا نزيد في التعليقات عن هذا الحد، لأننا نريد للنصوص أن تتكلم، وأن تقول كل شيء!) . في الإصحاح العشرين من سفر التثنية (عدد 10 وما بعده) : (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمة فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة عنك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريمًا، الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك، لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 فظهر من هذا النص (المقدس- طبعًا!!) أن الله أمر بأن يقتل بحد السيف كل ذي حياة من ذكور وإناث وأطفال الشعوب الستة: 1- الحثيين. 2- والأموريين. 3- والكنعانيين. 4- والفرزيين. 5- والحويين. 6- واليبوسيين. وأمر فيما عداهم بأن يدعو: أولًا: إلى الصلح، فإن رضوا به، وقبلوا الطاعة والخضوع وأداء الجزية، فبها. ثانيًا: وإن لم يرضوا، يحاربوا. ثالثًا: فإذا تم الظفر بهم، يقتل كل ذكر منهم بحد السيف، وتسبى نساؤهم وأطفالهم، وتنهب دوابهم وأموالهم، وتقسم على المحاربين. وهكذا يفعل بكل الشعوب البعيدة عن الشعوب الستة. وفي الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الخروج (عدد 22 وما بعده) : " فإن ملاكي يسير أمامك ويجيء بك إلى الأموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسيين فأبيدهم، لا تسجد لآلهتهم ولا تعبدها ولا تعمل كأعمالهم بل تبيدهم وتكسر أنصابهم ". وفي الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر الخروج (عدد 11 وما بعده) جاء أيضًا- في شأن هؤلاء الشعوب الستة: " احفظ ما أنا موصيك اليوم. ها أنا طارد من قدامك الأموريين والكنعانيين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، احترز من أن تقطع عهدًا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخًا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وفي الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر العدد (عدد 50 وما بعده) : " وكلم الرب موسى في عربات موآب على أردن أريحا قائلًا: كلم بني إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم، تملكون وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها وتقتسمون الأرض بالقرعة حسب عشائركم، الكثير تكثرون له نصيبه، والقليل تقللون له نصيبه. حيث خرجت له القرعة فهناك يكون له. حسب أسباط آبائكم تقتسمون. وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكًا في أعينكم ومناخس في جوانبكم، ويضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها. فيكون أني أفعل بكم كما هممت أن أفعل بهم ". وفي الإصحاح السابع من سفر التثنية (عدد 1 وما بعده) : (متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتملكها وطرد شعوبًا كثيرة من أمامك الحثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، سبع شعوب أكثر وأعظم منك. ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرمهم، لا تقطع لهم عهدًا ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم، بنتك لا تعط لابنه وبنته لا تأخذ لابنك؛ لأنه يرد ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا، ولكن هكذا تفعلون بهم؟ تهدمون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم، وتحرقون تماثيلهم بالنار؟ لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 فنعلم من هذا النص (المقدس- طبعًا! !) أن الله أمر بإهلاك كل ذي حياة من الأمم السبع، وعدم الشفقة عليهم، وعدم إبرام أي معاهدة معهم، وتخريب مذابحهم، وتكسير أصنامهم، وإحراق أوثانهم، وتقطيع سواريهم، وطالب بإهلاكهم، وشدد في ذلك تشديدًا بليغًا، حتى قال لهم إن لم ينفذوا: " إني أفعل بكم كما هممت أن أفعل بهم ". ثم إن هناك ملاحظة -ليست عابرة- تتعلق بعدد هؤلاء الأمم والشعوب. . لقد قال النص عنهم إنهم " أكثر وأعظم منك ". ولكي نقف على إحصاء تقريبي لعدد هؤلاء الشعوب، نقول: قد ثبت في الإصحاح الأول من سفر العدد، أن عدد بني إسرائيل الذين كانوا صالحين لمباشرة الحروب، وكانوا أبناء عشرين سنة فما فوقها، هو 550، 603 رجلًا. وإن اللاويين الذين لم يبلغوا عشرين سنة خارجون عن هذا العدد. ولو أخذنا عدد جميع بني إسرائيل، وضممنا المتروكين والمتروكات كلهم إلى المعدودين لبلغ العدد ما لا يقل عن مليونين ونصف المليون. ولننقل (النص المقدس 11) بكامله ليحدد لنا هذه الأرقام. جاء في الإصحاح الأول من سفر العدد (العدد 20 وما بعده) : " فكانوا بنو رأوبين بكر إسرائيل تواليدهم هم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء برؤوسهم كل ذكر من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، كان المعدودون منهم لسبط رأوبين. ستة وأربعين ألفًا وخمسمائة. بنو شمعون تواليدهم هم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم المعدودين منهم بعدد الأسماء برؤوسهم كل ذكر من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب المعدودون منهم لسبط شمعون. تسعة وخمسون ألفًا وثلاثمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 بنو جاد تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، المعدودون منهم لسبط جاد: خمسة وأربعون ألفًا وستمائة وخمسون. بنو يهوذا تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، المعدودون منهم لسبط يهوذًا: أربعة وسبعون ألفًا وستمائة. بنو يساكر تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، المعدودون منهم لسبط يساكر: أربعة وخمسون ألفًا وأربعمائة. بنو زبولون تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، المعدودون منهم لسبط زبولون: سبعة وخمسون ألفًا وأربعمائة. بنو يوسف بنو أفرايم تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، المعدودون منهم لسبط أفرايم: أربعون ألفًا وخمسمائة. بنو منسي تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، المعدودون منهم لسبط منسي: اثنان وثلاثون ألفًا ومئتان. بنو بنيامين تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، المعدودون منهم لسبط بنيامين: خمسة وثلاثون ألفًا وأربعمائة. بنو دان تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، المعدودون منهم لسبط دان. اثنان وستون ألفًا وسبعمائة. بنو أشير تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، المعدودون منهم لسبط أشير. واحد وأربعون ألفًا وخمسمائة. بنو نفتالي تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب، المعدودون منهم لسبط نفتالي. ثلاثة وخمسون ألفًا وأربعمائة. هؤلاء هم المعدودون الذين عدهم موسى وهارون ورؤساء إسرائيل اثنا عشر رجلًا واحد لبيت آبائه. فكان جميع المعدودين من بني إسرائيل حسب بيوت آبائهم من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب في إسرائيل. كان جميع المعدودين: ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين. وأما اللاويون حسب سبط آبائهم فلم يعدوا بينهم ". من هذا كله يتضح. . . أن هذه الأمم السبعة، التي هي أكثر من الإسرائيليين عددًا. . يصل عددها إلى ملايين كثيرة. . . فقد ألف القسيس (الدكتور كيث) كتابًا بالإنجليزية- سماه. (كشف الآثار، في قصص أنبياء بني إسرائيل) جاء فيه: " علم من الكتب القديمة أن البلاد اليهودية كان فيها قبل 550 سنة من الخروج ثمانون مليونًا ". إذًا، فهذا هو العدد الذي أمر (الكتاب المقدس) بقتله وإبادته. . . (ثمانون مليونًا) .! ! ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ثم إذا تابعنا (النصوص المقدسة) التي تحمل أوامر مشددة بالقتل والإبادة فإننا نجد كل ما يشيب ويريب. ففي الإصحاح الثاني والعشرين من سفر الخروج (عدد 20) : " من ذبح لآلهة غير الرب وحده يهلك ". وفي الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج (العدد 25 وما بعده) : يقول عن عبدة العجل: " ولما رأى موسى الشعب أنه معرى، لأن هارون كان قد عراه للهزء بين مقاوميه. وقف موسى في باب المحلة. وقال من للرب فإليَّ. فاجتمع إليه جميع بني لاوي، فقال لهم. هكذا قال الرب إله إسرائيل، ضعوا كل واحد سيفه على فخذه ومروا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة واقتلوا كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه. ففعل بنو لاوي بحسب قول موسى، ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل ". وفي الإصحاح الخامس والعشرين من سفر العدد (العدد 1، وما بعده) : " وأقام إسرائيل في شطيم وابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب فدعون الشعب إلى ذبائح آلهتهن. فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن، وتعلق إسرائيل ببعل فغور، فحمي غضب الرب على إسرائيل، فقال. الرب لموسى. خذ جميع رءوس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس فيرتد حمو غضب الرب عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 إسرائيل، فقال موسى لقضاة إسرائيل اقتلوا كل واحد قومه المتعلقين ببعل فغور. وإذا رجل من بني إسرائيل جاء وقدم إلى إخوته المديانية أمام عيني موسى وأعين كل جماعة بني إسرائيل وهم باكون لدى باب خيمة الاجتماع، فلما رأى ذلك فينحاس بن العازار بن هارون الكاهن قام من وسط الجماعة وأخذ رمحًا بيده ودخل وراء الرجل الإسرائيلي إلى القبة وطعن كليهما الرجل الإسرائيلي والمرأة في بطنها فامتنع الولاء عن بني إسرائيل. وكان الذين ماتوا بالولاء أربعة وعشرين ألفًا ". وفي الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر العدد (العدد 1، وما بعده) : " إن موسى أرسل اثني عشر رجلًا مع فينحاس بن العازار لمحاربة أهل مديان فحاربوا وانتصروا عليهم، وقتلوا كل ذكر منهم، وملوكهم الخمسة وبلعام، وسبوا نساءهم وأولادهم ومواشيهم كلها، وأحرقوا القرى والدساكر والمدائن بالنار، فلما رجعوا غضب عليهم موسى وقال: لم استحييتم النساء؟ ثم أمر بقتل كل طفل مذكر وكل امرأة ثيبة، وإبقاء الأبكار، ففعلوا كما أمر. وكانت الغنيمة من الغنم. (675. 000) ومن البقر (72. 000) ومن الحمير (61. 000) ومن النساء والأبكار (32. 000) وهنا نسأل. إذا كان عدد النساء الأبكار اثنين وثلاثين ألفًا، فكم يكون عدد المقتولين من الذكور مطلقًا، شيوخًا وشبانًا وصبيانًا؟ وكم يكون عدد المقتولات من النساء الثيبات؟ ! ! وإذا انتقلنا إلى يشوع. . . فإننا نجده قد قام بقتل الملايين وذلك بعد موت موسى!! (كما هو مذكور في سفره) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وفي الإصحاح الخامس عشر من سفر القضاة (العدد 15، وما بعده) : إن شمشون قتل ألف رجل بلحي حمار! ! ! " ووجد لحي حمار طريًا فمد يده وأخذه وضرب به ألف رجل فقال شمشون: بلحي حمار كومة كومتين، بلحي حمار قتلت ألف رجل ". وفي الإصحاح السابع والعشرين من سفر صموئيل الأول (العدد 8، وما بعده) : " وصعد داود ورجاله وكزوا الجشوريين والجرزيين والعمالقة لأن هؤلاء من قديم سكان الأرض من عند شور إلى أرض مصر وضرب داود الأرض ولم يستبق رجلًا ولا امرأة وأخذ غنمًا وبقرًا وحميرًا وثيابًا ورجع إلى أخبيش ". فهذا هو داود (كما تقدمه لنا النصوص المقدسة! !) رجل يسطو على البلاد، ويخرب الديار، فما كان يبقي رجلًا ولا امرأة!! ولا دابة ولا متاعًا!! وفي الإصحاح الثامن من سفر صموئيل الثاني (العدد 2، وما بعده) : " وضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات. فأخذ داود منه ألفًا وسبعمائة فارس وعشرين ألف راجل. وعوقب داود جميع خيل المركبات وأبقى منها مائة مركبة. فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل، وجعل داود محافظين في آرام دمشق وصار الآراميون لداود عبيدًا يقدمون هدايا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وفي الإصحاح الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني (العدد 29، وما بعده) : " فجمع داود كل الشعب وذهب إلى ربة وحاربها وأخذها، وأخذ تاج ملكهم عن رأسه ووزنه وزنة من الذهب مع حجر كريم وكان على رأس داود. وأخرج غنيمة المدينة كثيرًا جدًا. وأخرج الشعب الذي كان فيها ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفؤوس حديد وأمرهم في أتون الآجر، وهكذا صنع بجميع مدن بني عمون ". هكذا تكلمت أسفار العهد القديم. . .! وبهذا آمن كهنة العهد القديم. . .! فماذا تقول أسفار العهد الجديد. . .! ؟ وبماذا يؤمن كهنة العهد الجديد. . .! ؟ يعقب بولس على هذا كله -وغيره، وهو كثير كثير- بقوله في الرسالة إلى العبرانيين (11- 32، 35) : " وماذا أقول أيضًا لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والأنبياء الذين بالإيمان قهروا ممالك، صنعوا برًا، نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود، أطفأوا قوة النار، نجوا من حد السيف، تقووا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوشًا غرباء ". فبولس -أعظم كهنة العهد الجديد - يرى أن ما فعله هؤلاء الذين عدد أسماءهم إنما هو بر وإيمان وتقوى وإصلاح وخير. . .! وهكذا يتناقل الكهنة القدامى والمحدثون أخبار الدمار والخراب والقتل والتشريد بالابتهاج والتسبيح والتحميد. . . وتفريخ الكرامات والآيات والمعجزات!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وعلى وقع الترانم الكنسية (الشجية!!) يرددون قول المسيح: " لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا " (متى، 10- 34) . الوثائق تتكلم والآن. . . أنقل -أو أقرأ- عليكم بعض النصوص المأخوذة من (تاريخ الاضطهاد الصليبي) . وأحب أن أقسم هذا الاضطهاد إلى نوعين: النوع الأول: كان فيه الصليبيون هم المضطهَدين (بفتح الهاء) - مفعولًا بهم!! والنوع الثاني: كانوا هم المضطهِدين (بكسر الهاء) ! - فاعلون!! والذي علينا هو أن نلقي نظرات فاحصة لنتعرف على ملامح القوم في الحالتين! علينا أن نتعرف على ما نزل بالمسيحيين من أعدائهم في فجر التاريخ المسيحي، ثم ما أنزله المسيحيون بأعدائهم ومخالفيهم بعد قوتهم وسيطرتهم وتمكنهم وتحكمهم. لقد كان المسيحيون -في أول عهدهم- مغلوبين على أمرهم، تنزل بهم صنوف العذاب، وألوان الضيم والخسف والوحشية، ثم لما آل إليهم الأمر، وأصبح بيدهم السلطان، أنزلوا بأعدائهم ومخالفيهم ألوانًا من القتل والذبح والتشريد. . حتى أنشأوا للعذاب البربري ديوانًا سموه (الديوان المقدس) ومحاكم سموها (محاكم التفتيش) !! أما تعاليم الرحمة والغفران. . . أما نداءات المسيح التي يتشدقون بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 " سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا، ومن أراد أن يخاصمك وأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا، ومن سخرك ميلًا واحدًا فاذهب معه اثنين. من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده ". " سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم " (إنجيل متى 5، 38-44) . أما هذه الوصايا والنصائح، فقد ذهبت أدراج الرياح. النصارى تحت نير الاضطهاد لقد بدأ اضطهاد المسيحيين منذ وقت مبكر، وقد كان المسيح نفسه -حسبما تصوره أساطيرهم- ضحية لهذا الاضطهاد. وقد نزل بأتباعه فيما بعد كثير من العسف والظلم، وكان اليهود مصدر هذه القسوة. لكن المسيحية بدأت تنتشر على الرغم من اليهود، وغلبتهم على أمرهم، وحينئذ تقدم أباطرة الرومان، ليقوموا بدورهم المشهور في اضطهاد المسيحيين!! وذلك لأن هؤلاء الأباطرة كانوا لا يعرفون من أمر ذلك الدين الجديد إلا أنه امتداد لليهودية، ولقد كانت اليهودية موضع كراهية واشمئزاز من الرومانيين. وذلك على غير ما جرى عليه العرف من أن الإمبراطورية الرومانية تعطي أبناءها حق الحرية الدينية. ذلك أن اليهودية -بتعصبها وعنصريتها- أثارت الحقد والضغينة في القلوب وكان الأباطرة -قبل المسيح - يقاومون ذلك التيار اليهودي العدواني الجارف!! هذا من جهة. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ومن جهة أخرى، إِنه مما أثار حقد الرومان على المسيحية -كذلك- أن المسيحية أخذت من اليهودية تعصبها، فأعلنت -حتى في عهود ضعفها- أنها تناصب العقائد الأخرى العداء، وأنها ستعمل على تحطيم الحضارة الرومانية عندما تتهيأ لها الفرصة. أما هذا التحول الذي أعلنته المسيحية من التسامح والرضا والرحمة، إلى الحقد والثأر، فإنه يمثل تحول المسيحية وانتقالها من وصايا عيسى، إلى أفكار بولس، كما يؤكد ذلك كثير من المؤرخين والباحثين! ولعل أبشع حركات الاضطهاد التي عاناها المسيحيون في القرن الأول تلك التي أنزلها بهم نيرون الطاغية سنة 68 م، فقد ألقى بعضهم للوحوش الضارية تنهش أجسامهم، وأمر فطليت بالقار وأشعلت لتكون بعض مصابيح الاحتفالات التي أقامها نيرون في حدائق قصره!! وفي القرن الثاني كان المسيحيون يعتبرون أنجاسًا لا يسمح لهم بدخول الحمامات والمحال العامة، وكانوا -كما حدث في عهد نيرون وغيره- يلقون للوحوش الضارية تفترسهم في مدرج عام يضم خصومهم الذين يحضرون للتلهي بمشاهدة هذه المظاهر. ولقد سجل القرن الثالث صورًا أخرى من أبشع وأشنع أنواع التعذيب والاضطهاد للمسيحيين، وذلك في عهد الإمبراطور قلديانوس، فقد أمر بهدم كنائس المسيحية، وإعدام كتبها المقدسة وآثار آبائها، وقرر اعتبار المسيحيين مذنبين، وأسقط حقوقهم المدنية، وأمر بإلقاء القبض على الكهان وسائر رجال الدين، وصب عليهم العذاب ألوانًا. ونفذت هذه التعليمات في جميع المناطق، فامتلأت السجون بالمسيحيين ومات الكثيرون بعد أن مزقت أجسادهم بالسياط، والمخالب الحديدية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وأحرقت بالنار، ومزقت إربًا إربًا، أو طرحوا للوحوش الضارية أو غير هذا من وجوه التعذيب، وقد سمى المسيحيون عصره الممتد من سنة 284 إلى 305 م عصر الشهداء. وفي مطلع القرن الرابع تغيرت الأحوال فقد أصدر الإمبراطور قسطنطين مراسيم التسامح سنة 311، 312 م، ثم دخل المسيحية بعد ذلك بعشر سنوات، وسرعان ما قويت المسيحية، ورجحت كفتها، فانقضَّت على أعدائها، تقتل، وتعذب، وتفتك، فتأسست الجمعيات الثورية باسم الدين، وكان أشهرها جمعية (الصليب المقدس) في تورينو، التي أخذت على عاتقها استئصال شأفة بقايا الرومانيين الوثنيين!! ميزان القوى يتغير حدّث بعد ذلك ولا حرج، عن الدماء التي سفكت، والأرواح التي أزهقت، مما جعل (هارثمان) يصف (الانتقام المسيحي) ، بأنه أفظع المجازر البشرية التي سجلها التاريخ!! ولم يقف الاضطهاد المسيحي، أو الانتقام المسيحي عند الوثنيين فحسب، بل تعداهم إلى المسيحيين أيضًا. إذ أن المسيحية التي ظهرت وأصبحت ذات كيان وسلطان، لم تكن مسيحية (عيسى عليه السلام) وإنما هي مسيحية بولس ومسيحية الفلسفة الإغريقية، لكنها -كانت ولا تزال- تحمل اسم المسيحية على أي حال!! وإذا كانت هذه المسيحية قد ابتدعت أشياء لا يرضى عنها المسيحيون الحقيقيون كألوهية المسيح، والتثليث، والصلب والفداء، وما إلى ذلك، فقد بدأ صراع جديد اعتبُر فيه المسيحيون الحقيقيون متمردين، وأوقعت بهم المسيحية الإغريقية أو مسيحية بولس، ألوانًا من العنت والاضطهاد واستمرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الكنيسة في تفريخ البدع، وترويج الخرافات كالعشاء الرباني، وصكوك الغفران!! ووجد من المسيحيين من يعارض هذه الخرافات، فووجه بقسوة لا نظير لها، ووحشية تشمئز منها النفوس! وسألمُّ في هذه العجالة ببعض الصور من هذا العنت والاضطهاد الذي أنزله المسيحيون بإخوانهم المسيحيين. في القرن الرابع الميلادي، عارض (آريوس) القول بألوهية المسيح مما دعا إلى عقد (مجمع نيقية) عام 325 م. وقرر هذا المجمع إدانة آريوس، وإحراق كتاباته وتحريم إقتنائها وخلع أنصاره من وظائفهم ونفيهم والحكم بإعدام كل من أخفى شيئًا من كتابات آريوس وأتباعه. وفي عهد تيودوسيوس سنة 395 م، ظهرت لأول مرة (محكمة التفتيش) . وتم تنظيمها فيما بعد في القرن الثاني عشر، وكان أعضاؤها من الرهبان، وكانت وظيفتهم اكتشاف المخالفين في العقيدة، ولهم سلطان كبير فلا يسألون عما يفعلون. وتاريخ محكمة التفتيش هو تاريخ الاضطهاد الديني في أقسى صوره، وقتل حرية الفكر بأبشع أسلوب. ومن أشد أساليبها انحرافًا، أنها نادت بضرورة أن ينهى كل إنسان -في غير ما تواطؤ، أو تباطؤ- ما يصل إلى سمعه أو علمه من أخبار الملحدين، وهددت من يتوانى في ذلك بعقوبات صارمة في الدنيا والآخرة، فانتشر بسبب ذلك (القرار الإرهابي) نظام التجسس حتى بين أفراد الأسرة الواحدة!! وفي القرون التالية كثر صرعى هذا النظام، وتعرض للشنق والإحراق والإعدام جماعات كثيرة لأنهم في نظر الكنسية وكهنتها هراطقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وكثيرًا ما كانت الكنسية تلجأ إلى الإعدام البطيء مبالغة في التعذيب، إذ كانت تسلط الشموع على جسم الضحية، وتخلع أسنانه كما فعل ببنيامين كبير أساقفه مصر، لأنه رفض الخضوع لقرارات مجمع (خلقيدونية) الذي يرى أن للمسيح طبيعتين، إلهية وإنسانية. وكان الإعدام يسبق بصورة بشعة من التعذيب كالكي بالنار والضرب المبرح، لعل المتهم يعترف أو يقر، فإن لم يعترف قتل. وكان شعار المحاكمات: المتهم مجرم حتى تثبت براءته. وليس المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وإذا اعترف المتهم بجريمته استمر تعذيبه قبل القضاء عليه لعله يعترف بأسماء أنصاره وشركائه. وكانت القوانين تقضي أن يحمل الأبناء والأحفاد تبعة الجرم الذي يتهم به الأباء. لغة الوثائق والأرقام استعملت الكنسية الرومانية -مرات كثيرة- الاضطهادات والطرد ضد البروتستانت، وذلك في ممالك أوروبا، وقد بلغ عدد من أحرق بالنار قرابة 230. 000 من الذين آمنوا بيسوع دون البابا. وفي فرنسا قتل في يوم واحد ثلاثون ألف رجل! وفي مدينة تولوز قتل ألف ألف! وفي كالابريا الإيطالية سنة 1560 م، قتل ألوف الألوف من البروتستانت!! يقول أحد الكتاب الرومانيين: إنني أرتعد كلما تذكرت ذلك الجلاد والخنجر الدموي بين أسنانه والمنديل يقطر دمًا بيده، وهو متلطخ اليدين إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 نهاية المرفقين، يسحب واحدًا بعد واحد من المساجين كما يفعل الجزار بالغنم!! وكارولوس الخامس سنة 1521 م، أصدر أمرًا بطرد البروتستانتيين من بلاد الفالامنك برأي البابا وبسبب ذلك قتل خمسمائة ألف. وبعد كارلوس تولى ابنه فليبس ولما ذهب إلى إسبانيا سنة 1559 م، استخلف الأمير ألفا على طرد البروتستانتيين، ويذكر المؤرخون أنه في أشهر قليلة قتل على يديه ثمانية عشر ألفًا! وبعد ذلك كان يفخر بأنه قتل في جميع المملكة ستة وثلاثين ألفًا! هذا ما فعله الكاثوليك بالبروتستانت! فماذا فعل البروتستانت بالكاثوليك عندما قدروا؟ أصدر البروتستانت هذه القوانين! (1) لا يرث كاثيوليكي تركة أبويه. (2) لا يشتري واحد منهم أرضًا بعد ما يجاوز عمره ثماني عشرة سنة إلا إذا صار بروتستانتينيًا!! (3) لا يشتغل أحد منهم بالتعليم، ومن خالف هذا الحكم يسجن سجنًا مؤبدًا. (4) من كان من الكاثوليك يؤدي ضعف الخراج. (5) إن أرسل أحد منهم ولده خارج إنجلترا للتعليم يقتل هو وولده وتسلم أمواله ومواشيه كلها. (6) لا يعطى لهم منصب في الدولة. (7) من لم يحضر منهم يوم الأحد أو العيد في الكنيسة البروتستانتينية يغرم غرامة مالية شهرية كبيرة، ويكون خارجًا عن الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 (8) لا يسمع استغاثة أحد منهم عند الحكام وحسب القانون. (9) لا تنفذ أنكحتهم، ولا تجهز موتاهم ولا تكفن، ولا تعمد أولادهم إلا إذا كان ذلك على طريقة كنيسة إنجلترا. (10) لا يحضر القسيس عند قتلهم ولا عند تجهيزهم وتكفينهم. (11) لا يصح لواحد منهم أن يمتلك سلاحًا. (12) إن أدى قسيس منهم خدمة من الخدمات المتعلقة به يسجن سجنًا مؤبدًا. ولقد حمل كثير من رهبانهم وعلمائهم بأمر الملكة إليزابيث في المراكب، ثم أغرقوا في البحر، وجاء عساكرها إلى أيرالندا ليدخلوا الكاثوليك في المذهب البروتستانتي، فأحرقوا كنائس الكاثوليك، وقتلوا علماءهم، وكانوا يصطادونهم كاصطياد الوحوش البرية، وكانوا لا يؤمنون أحدًا، وإن أمنوه قتلوه أيضًا بعد الأمان!! وفي (حديث الأرقام والوثائق) أنه: في إسبانيا فقط قدمت محمكة التفتيش للنار أكثر من 31. 000 نسمة، وحكمت على 290. 000 بعقوبات أخرى تلي الإعدام. وفي عام 1568 م، أصدر (الديوان المقدس) حكمه بإدانة جميع سكان الأراضي المنخفضة. والحكم عليهم بالإعدام واستثنى من الحكم بضعة أفراد نص القرار على أسمائهم، وبعد عشرة أيام من صدور الحكم دفع للمقصلة ملايين الرجال والنساء والأطفال. ومن أهم المذابح التي دبرها الكاثوليك للبروتستانت مذبحة باريس في 24 أغسطس سنة 1572 م، التي سطا فيها الكاثوليك على ضيوفهم من البروتستانت، هؤلاء الذين دعوا لباريس لعمل تسوية تقرب بين وجهات النظر، ثم قتلوا خيانة وهم نيام، فلما أصبحت باريس كانت شوارعها تجري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 بدماء هؤلاء الضحايا، وانهالت التهاني على شارل التاسع من البابا وملوك الكاثوليك وعلمائهم على هذا العمل البطولي النبيل! ! ! وقد أسلفنا أن البروتستانت لما قويت شوكتهم مثلوا نفس الدور، دور القسوة والاضطهاد الدنيء مع الكاثوليك، ولم يكونوا أقل وحشية في معاملة خصومهم وأعدائهم السابقين. وهكذا. . . هكذا دَوَّن تاريخ المسيحية أخبار بحار من الدماء، وأكداس من جثث الضحايا البشرية التي تحولت إلى رماد محترق، وآهات ودموع وأنين ووحشية وبربرية وأصوات استغاثة. . .! الاضطهاد المسيحي لليهود يقول ابن البطريق: (نقلًا عن الجواب الصحيح، جـ3، ص 28) : " وأمر الملك أن لا يسكن يهود بيت المقدس، ولا يمر بها، ومن لم يتنصر يقتل، فتنصر من اليهود خلق كثير، وظهر دين النصرانية. فقيل لقسطنطين الملك: إن اليهود يتنصرون من فزع القتل، وهم على دينهم. قال الملك: كيف لنا أن نعلم ذلك منهم؟ قال بولس البترك: إن الخنزير في التوراة حرام، واليهود لا يأكلون لحم الخنزير، فأمر أن تذبح الخنازير، وتطبخ لحومها، وتطعمهم منها، فمن لم يأكل منه علمنا أنه مقيم على دين اليهودية. فقال الملك: إذا كان الخنزير في التوراة حرامًا فكيف يجوز لنا أن نأكل لحم الخنزير ونطعمه الناس؟ فقال له بولس البترك: إن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة، وجاء بناموس آخر، وبتوراة جديدة، وهو الإنجيل، وفي إنجليه المقدس، أن كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ما يدخل البطن ليس بحرام ولا بنجس وإنما ينجس الإنسان الذي يخرج من فيه ". " فأمر الملك أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها، وتقطع صغارًا صغارًا، وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحد الفصح، وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنزير، فمن لم يأكل منه يقتل، فقتل لأجل ذلك خلق كثير ". وليست هذه هي الحادثة الوحيدة التي صب فيها المسيحيون العذاب صنوفًا على رءوس اليهود. . . وإنما هناك عبر سنوات التاريخ وعصوره حوادث وحوادث. . . نختصر بعضها في هذه السطور: كان الكاثوليك يعتقدون أن اليهود كفار، ولهذا أجروا عليهم عدة أحكام منها: (1) من حمى يهوديًا ضد مسيحي خرج عن الملة. (2) لا يعطى يهودي منصبًا في دولة من الدول. (3) لو كان مسيحي عبدًا ليهودي فهو حر. (4) لا يأكل أحد مع يهودي، ولا يتعامل معه. (5) أن تنزع أولادهم منهم ويلقنون العقيدة المسيحية. - وقد أجلي اليهود من فرنسا سبع مرات. - وعدد اليهود الذين أخرجوا من النمسا- وحدها- 71.000 أسرة! وفي النمسا -أيضًا- قتل كثير منهم ونهبت أموالهم، ونجا منهم القليل، وهم الذين تنصروا. . .! وفي النمسا -أيضا- مات كثير منهم بأن سدوا عليهم أبوابهم ثم أهلكوهم إما بالإغراق في البحر، أو بالإحراق في النار! وفي إنجلترا، ذاق اليهود ألوان الذل والتشريد والطرد، حتى إن إدوارد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الأول لما ولي الملك أصدر أمره بنهب أموالهم كلها ثم أجلاهم من مملكته، فأجلى أكثر من خمسة عشر ألف يهودي في غاية الفقر والحاجة! وقد نقل أحد المسافرين واسمه (سوتي) : " أنه كان حال البرتغاليين، أنهم كانوا يأخذون اليهودي، ويحرقونه بالنار، ويجتمع رجالهم ونساؤهم يوم إِحراقه كاجتماع يوم العيد، وكانوا يفرحون أعظم الفرح، وكانت النساء يصحن وقت إحراقه سعادة وسرورًا ". ولو ضممنا إلى هذه الوثائق، والأرقام ما فعله المسيحيون بالمسلمين، في الحروب الصليبية، وكذلك في إسبانيا بعد سقوط غرناطة (1) ، ثم ما فعله الاستعمار الصليبي القديم والحديث بالمنطقة الإسلامية، لتبين لنا أن المسيحية التي يصر معتنقوها على اعتبارها (دين الرحمة والتسامح) ما هي إلا باب من أبواب العذاب والتنكيل، وجحيم لا يطاق من التآمر والفتك، وملحمة من ملاحم الاغتيالات والكراهية والحقد! وجرح لا يندمل في قلب البشرية وضميرها يطفح بالدم والصديد. . .! ومجمل القول: إن المسيحية من خلال تاريخها، بأرقامه ووثائقه وحقائقه تعتبر مصدر قلق وآلام وشرور للإنسان، ولتاريخ الإنسان. . . أينما كان، وحيثما حل في أرض الله! تلك هي النصرانية الصليبية التي يصر كهنتها أن يذروا الرماد في العيون. . فنراهم كل يوم ينشرون على الناس قائمة النحل الفاسدة التي ابتدعوها واخترعوها ليصدوا الناس عن دين الله، وعن هداه! !   (1) قدمنا في كتابنا (دموع قديمة) نماذج مما فعلته محاكم التفتيش بالسلمين بعد سقوط غرناطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 لقد قالوا: (إن الإسلام انتشر بالسيف) . . . وظهر فيما سبق، أن ادعائهم هذا مجرد زيف واختلاق!! ولقد قلنا لهم -فيما مضى من حديث. . . إن المسيحية هي التي انتشرت على بحر من الدماء. . . ورفعت صليبها المقدس على هرم من جثث القتلى وأشلاء الضحايا!! ونقول لهم: إذا كان بيتك من زجاج. . فلا ترجم الناس بالحجارة! ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 [ تعدد الزوجات وحكمته ] تعدد الزوجات ومن الأسئلة المطروحة علي، والموجودة الآن بين يدي، سؤالان خاصان بتعدد الزوجات: يتزوج المسلمون بأكثر من امرأة، فهل هناك آية في القرآن توضح ذلك؟ وما هي الأسباب التي جعلت النبي (صلى الله عليه وسلم) يتزوج بأكثر من أربع؟ أما (تعدد الزوجات فمما لا شك فيه أن القرآن الكريم جاء بمشروعيته -كما في الآية الثالثة من سورة النساء- قال تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (1) . وقد جاء متصلًا بموضوع هذه الآية من السورة نفسها، قوله: - {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) . وتخريج الآيتين الذي يرشد إليه سياقهما، وسبب نزول الآية الثانية منهما، أنه لما قيل في الآية الأولى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} فهم منه أن العدل بين الزوجات واجب، وتبادر إلى النفوس أن العدل بإطلاقه -حتى في الميل القلبي- هو المراد من الآية، فتحرج بذلك المؤمنين، وحق لهم أن يتحرجوا، لأن العدل بهذا المعنى الذي تبادر إلى أذهانهم غير مستطاع، فجاءت الآية الثانية لترشد إلى العدل المطلوب في الآية الأولى، ولترفع الحرج الذي تصوروه!! فنزل قوله تعالى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (3) .   (1) سورة النساء، آية 3. (2) سورة النساء، آية 129. (3) سورة النساء، آية 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ومن هذا يتضح أن (تعدد الزوجات) مباح ما لم يخش المؤمن الجور في القسم بين زوجاته، فإن خافه، وجب عليه أن يخلص نفسه من الإثم فيقتصر على واحدة. ويتضح -من الآيتين- أيضًا، أن إباحة التعدد لا تتوقف على شيء من وراء العدل، وعدم الخوف من الجور. فلا يتوقف -مثلًا-: على عقم المرأة، ولا مرضها مرضًا يمنع الرجل من التحصن، ولا على كثرة النساء كثرة يخشى منها على عفافهن، كما في الحروب وغيرها. هذا، وقد وضعت الآية الكريمة (تعدد الزوجات) في موضع الأصل للتخلص من عدم القسط في اليتامى، ثم ذكرت الآية الاقتصار على الواحدة عند طروء الخوف من عدم العدل بين الزوجات! فإذا كان المؤمن عادلًا في اليتيمات! فهو أيضًا عادل بين الزوجات! ! حكمة التعدد (1) : التعدد أثر لعامل جنسي جُعل في طبيعة الذكر والأنثى، ويقضي هذا العامل باستمرار قوة الرجل، واتساع مدى استعداده للمعاشرة، ويقضي في الوقت ذاته بطروء فترات -تنعدم فيها أو تقل- قابلية المرأة كفترات الحيض، والحمل، والوضع، والنفاس. كذلك فإن أمد الاستعداد عند المرأة ينتهي ببلوغها سن اليأس الذي يكون في أكثر الحالات عند الستين.   (1) أشار المؤلف هنا إلى بعض الحكمة، ولم يُرد حصرها. (الناشر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وبهذا، تظل القوة الجنسية عند الرجل مهددة له في صحته أو في خلقه أو فيهما معًا. ومن العلماء من يرى: أن التعدد أثر لسنة إلهية قضت بتفوق عدد النساء على أعداد الرجال، وفي الوقت ذاته قضت بقلَّة الرجال فجعلت الوفيات فيهم أكثر من الوفيات في النساء. وإذا لم يكن من عوامل السنة الكونية سوى تلك الحروب التي تشن على الدوام غاراتها في أرجاء العالم لكفت في الدلالة على ما أشرنا إليه، فما بالنا إذا ضم إلى ظاهرة الحرب التي تَغتال الرجال، وتَجعل كثرة الأمم أطفالًا ونساء، ظاهرة التعرض لمآزق الحياة المرهقة، وبخاصة في طبقات العمال الذين يباشرون أعمالهم بين الحديد والنار، وفي أعماق البحار. . وفي غير ذلك من المجالات المرهقة التي لا يؤمن فيها الهلاك والموت لكان ذلك كافيًا! ! أوروبا. . والتعدد: لقد عرف علماء أوروبا واعترفوا بحكم التعدد ومحاسنه -ونحن نذكر شيئًا من ذلك- لا لكي يزيدنا إيمانًا، فنحن نؤمن بكلام ربنا، وبسنة نبينا. . . وإنما نذكر ذلك للآخرين الذين يسرهم أن يكون الكلام والفكر غربيًّا. . . أوروبيًّا!! لقد اكتشف مفكرو الغرب أن هناك علاقة بين منع تعدد الزوجات وارتفاع نسبة اللقطاء والموؤدين. ففي المؤتمر الذي عقدته الحكومة الفرنسية سنة 1901 م، للبحث عن خير الطرق لمقاومة انتشار البغاء - جاء قولهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 " إن عدد الأولاد اللقطاء المجموعين في ملاجئ مقاطعة " السين " وحدها، وجار تربيتهم فيها على نفقة المقاطعة بلغ50.000 لقيط وأن بعض القوام على هذه الملاجئ يفحشون بالبنات اللاتي تحت ولايتهم، وأن نفس اللقطاء يفحشون بعضهم ببعض ولا زاجر يزجرهم ". وكتبت كاتبة إنجليزية في هذا الشأن: " لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء، وقل الباحثون عن أسباب ذلك، وإنني كامرأة أنظر إلى هاتيك البنات، وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنًا، وماذا يفيدهن بثي وحزني وتوجعي وإن شاركني فيه الناس جميعًا ". هذا هو الداء. . .! عرضه الفرنسيون. . .! وتحدثت عنه الإنجليزيات. . .! فأين الدواء؟ تقول الكاتبة الإنجليزية: " ولله در العالم الفاضل " تومس " فإنه رأى الداء ووصف الدواء، وهو الإباحة للرجل بأن يتزوج بأكثر من واحدة، وبهذا الأسلوب يزول البلاء، وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على الاكتفاء بواحدة، وهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، ولو كان تعدد الزوجات مباحًا لما نزل بنا هذا البلاء ". والذي ذكره المؤتمرون الفرنسيون، وذكرته هذه الكاتبة الإنجليزية سبق إليه القرآن الكريم، حينما شرع التعدد ووسع فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ثم طالب الرجال بالزواج منعًا للانحراف والانحلال، فقال تعالى: - {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (1) . وقال تعالى {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (2) . فالسفاح والمخادنة هما رأس الوباء والبلاء الذي حل بالأمم الغربية، ولم تجد له علاجًا في دينها وتشريعها، فراحت تلتمس علاجه في ديننا وتشريعنا! في الشرق المسلم: هذا حال الغرب شرحناه. . . أما حال الشرق، فهذه واحدة من دوله. . . تركيا. . . ماذا جرى لها؟ ؟ وماذا حدث فيها؟ لقد هجرت الإسلام هجرًا غير جميل، وولت وجهها إلى أوروبا تلتمس منهم التشريع، وتقتبس منهم التقدم والحضارة. . فاتخذت لنفسها قانونًا مدنيًّا يمنع تعدد الزوجات. . . كان ذلك سنة 1926 م. . . ثم مضت ثماني سنوات. . . وتكاثرت الولادات السرية، والزوجات والعرفيات، والموؤدات من الأطفال. وانظر ما جاء في العدد 556 من مجلة آخر ساعة المصرية الصادرة في 3 من يونيو سنة 1945 م، للكاتب المصري المعروف محمد التابعي وكان مقيمًا آن ذاك في تركيا.   (1) سورة النساء، آية 24. (2) سورة النساء، آية 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 إننا في حاجة إلى تعدد الزوجات. . .! ولسنا في حاجة إلى منع التعدد، أو مهاجمته! لقد واجه القرآن الكريم قضية التعدد مواجهة منطقية إنسانية إصلاحية. . صريحة وواضحة! فكيف واجهت الكنيسة القضية نفسها؟ لقد كان التعدد مباحًا في (أوروبا المسيحية) حتى عهد شارلمان الذي كان متزوجًا بأكثر من امرأة واحدة. . ثم أشار القساوسة على المتزوجين بأكثر من واحدة أن يختاروا لهم واحدة من بينهن يطلق عليها (زوجة) ويطلق على غيرها اسم (خدينة) . وهكذا قالت الكنيسة كلمتها. . . بطريقتها!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 [ مقاصد وأهداف تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ] تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم يحلو لبعض الكتاب والمتحدثين الدينيين من غير المسلمين، أن يتهموا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه كان رجلًا شهوانيًا، بدليل أنه تزوج نحو من ثلاث عشرة زوجة، وتوفي عن تسع!! وهم بهذا قد أسرفوا على أنفسهم وعلى الناس، وتجنوا -عن قصد وسوء نية- على الحق والحقيقة، والبحث العلمي المنصف! لقد زعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كاذب في دعواه للرسالة لأنه تزوج من نساء متعددات! أما نحن فنؤكد، أن من أمارات صدقه، ودلائل نبوته زواجه صلى الله عليه وسلم من نساء متعددات! ذلك أن هؤلاء النسوة -رضي الله عنهن- روين حياته المنزلية وسيرته في بيته وبين أهله، فإذا بها أتقى سيرة، وأنقى سريرة! إن هؤلاء (الضرائر) -إن صح هذا التعبير- قدمن لنا حياته الخاصة بكل وضوح، فما وجدنا فيها شائبة ولا عائبة! وهكذا تواطأت حياته مع أهله، مع حياته بين الناس، على الصدق والأمانة والرحمة والتقوى والبر والإحسان! إن كثيرًا من الناس -إلا من رحم ربك- يتخلقون بأخلاق المنافقين، ويتسمون بسماتهم، فهم يتظاهرون بالصدق والإصلاح والمروءة وهم في الواقع كاذبون مفسدون سفهاء ولكن لا يشعرون ولا يعلمون! وهؤلاء المنافقون المتظاهرون المختفون وراء الأقنعة، لا يستطيعون أن يحتفظوا بهذا السمت المزور طويلًا. . . فتبدو ملامحهم واضحة، وبخاصة في بيوتهم، وبين زوجاتهم وأولادهم.! ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 فإذا كان في بيته زوجة واحدة. . لا زوجات، فإنها سوف تخرج أخباره وأسراره، وتشيعها بين الناس!! وانطلاقًا من هذا المعنى، نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن في بيته زوجة واحدة. . بل كن زوجات كثيرات!! فلو كان كاذبًا -حاشاه، وأعاذه الله- لظهرت بادرات كذبه، وبدرات لسانه بين هؤلاء الزوجات! ولقامت كل واحدة منهن بإشاعة ذلك بين الجارات والقريبات. . وبين غير الجارات والقريبات!! وبين أيدينا مصداق ذلك. . وهي حادثة ذكرها القرآن الكريم، إذ يقول الله تعالى: - {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (1) . إنه سر بسيط، أفضى به النبي صلى الله عليه وسلم إلى اثنتين من أفضل نسائه، هن (عائشة وحفصة) رضي الله عنهما! وأمرهما بكتمانه، ولكن الذي حدث أن السر ذاع وشاع وانتشر،. . وتناقلته الألسنة، والآذان. . . وامتلأت به كتب التفسير وغيرها فيما بعد!! إن هذا يجعلنا نقرر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان طاهر السيرة والسريرة، في داخل بيته وخارجه على السواء!! ثم نقول لهؤلاء الكتاب، ولهؤلاء المتحدثين الدينيين من غير المسلمين،   (1) سورة التحريم، آية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 إن تعدد النبي لزوجاته لم يكن سلوكًا شهوانيًّا، كما تتصورون، وتصوِّرون. . .! ويكفي أن تعلموا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج أولى نسائه، أمنا وأم المؤمنين (خديجة رضي الله عنها) وهو شاب مكتمل في الخامسة والعشرين من عمره. . وكانت هي رضي الله عنها، في الأربعين من عمرها. . ولقد عاش معها نحوًا من ست وعشرين سنة!! أي أنها ظلت معه حتى تجاوزت السادسة والستين!! ولم يتزوج عليها في حياتها! وظل وفيًا لها بعد مماتها، حتى إن عائشة رضي الله عنها كانت تغار منها، مع أنها لم تجتمع بها، ولم ترها. . .! ولقد تجرأت مرة عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقالت له: " وهل كانت إلا عجوزًا أبدلك الله خيرًا منها، - تعني نفسها -؟ ". فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لها: «لا والله، ما أبدلني الله خيرًا منها، لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء» . قالت: " فلم أذكرها بسوء بعدها أبدًا ". وروى الشيخان «عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: " ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يبعثها في صدائق خديجة وربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ولما توفيت خديجة رضي الله عنها، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعدد أزواجه. ولنا أن نسأل: في أي فترة من سني حياته صلى الله عليه وسلم كان ذلك التعدد؟ وعلينا أن نجيب: إن الفترة التي عدد فيها النبي صلى الله عليه وسلم الزوجات، هي -باعتراف الموافق والمخالف- أكثر فترات عمره صلى الله عليه وسلم، عملًا وتضحية وجهادًا وتعليمًا وأعباء! ثم. . أية شهوانية، في رجل بعيد عن الدنيا وزينتها، ويريد الله لزوجاته -أيضًا- أن يكن بعيدات عن الدنيا وزينتها، إذ يقول الله له، لكي يبلغهن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) . إن الرجل الشهواني يريد لزوجته، أو زوجاته، أن يتزيَّن بأبدع الحلي، وأروع الحلل!! كذلك فإن الدارس المنصف لأسباب ذلك التعدد يجد أن له مقاصد وأهدافًا جليلة ونبيلة!! منها: أن زوجة لبعض أصحابه الذين جاهدوا معه قد مات زوجها حال الهجرة وأن أهلها ما زالوا على الشرك، فإما أن تعود إليهم فتتعرض للعذاب والفتنة، وإما أن تترك بلا زوج يحميها، ويقف إلى جانبها لمواجهة ظروف الحياة لأنها غير مرغوب فيها لسنها، أو لقلة جمالها. ومنها: أن يكون الهدف ربط العلاقات وتوطيدها مع من يعينه على تبليغ الدعوة. . . فيؤكد معه رباط الإيمان برباط المصاهرة. . ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- في   (1) سورة الأحزاب، الآيتان 28، 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 هذه الحالة هو الذي يأخذ دائمًا، فقد يعطي، فإذا كان قد تزوج بابنتي صاحبيه أبي بكر وعمر، فلقد زوج عثمان وعليًّا بابنتيه (. . بل إنه زوج عثمان باثنتين هما: رقية، وأم كلثوم، واحدة بعد الأخرى. . فلما ماتت الثانية، قال له: «لو كان عندنا ثالثة لزوجناك» ! - ومنها: أن يكون الهدف استنقاذها من الرق، أو استنقاذ أهلها وذويها. - ومنها: بيان الأحكام الشرعية، وتطبيقها عمليًّا، ليكون أسوة للناس في محاربة الجاهلية وعاداتها. - ومنها: النقل عنه صلى الله عليه وسلم، والتبليغ، وتعليم المسلمات أمور دينهن، وبخاصة هذه الأمور التي يستحيي النبي صلى الله عليه وسلم من تعليمها لهن. إلى غير ذلك من الأمور. وهذا إجمال يحتاج إلى تفصيل، نعرضه حينما نتعرض لبيان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أمهات المؤمنين واحدة واحدة. 1- خديجة: - أول زوجاته صلى الله عليه وسلم. - بقي معها نحوًا من ست وعشرين سنة - كما أسلفنا-. - كان له منها أولاده الستة، القاسم، والطيب، وقد ماتا قبل البعثة، ورقية، وأم كلثوم، وزينب، وفاطمة، ومتن قبله إلا فاطمة فقد ماتت بعده بستة أشهر. - ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم في حياتها غيرها -كما ذكرنا-. 2- سودة بنت زمعة: - تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، وقبل الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 - كانت في مثل سن خديجة، أي في السادسة والستين من عمرها، ولم تكن في جمال خديجة. - وكانت قد أسلمت مع زوجها، وهاجرا إلى الحبشة فرارًا من أذى الجاهليين من قريش، ومات بعد أن عادا. - وكان أهلها لا يزالون على الشرك، فإذا عادت إليهم فتنوها في دينها، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم حماية لدينها من الفتنة. 3- عائشة بنت أبي بكر الصديق: - كانت في نحو التاسعة من عمرها، فما كانت تشتهى لأنها كانت ضاوية، ولم يدخل بها إلا بعد الهجرة. فما كان زواجه منها لشهوة يبتغيها، وإنما كان لتوثيق صحبته بالصديق رضي الله عنه! - وكانت جميع زوجاته الطاهرات ثيبات (أرامل) فيما عدا عائشة رضي الله عنها فإنها البكر الوحيدة. - مع أنه هو القائل لجابر بن عبد الله، حينما جاءه وعلى وجهه أثر الطيب والنعمة: (- «هل تزوجت؟ قال: نعم، قال: بكرًا أم ثيبًا؟ قال: ثيبًا، فقال صلى الله عليه وسلم فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك» . 4- حفصة بنت عمر الفاروق: - تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، وكانت زوجًا لخنيس بن حذاقة، مات عنها مؤمنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 - وكان زواجه بها لتوثيق الصحبة بأبيها رضي الله عنه، فقد كان له الوزير الثاني. - وما أحاط بزواجه صلى الله عليه وسلم بها، يدل على أن مودته صلى الله عليه وسلم هي التي دفعت إلى هذا الزواج: ذلك أن عثمان رضي الله عنه لما ماتت زوجته رقية -وغزوة بدر قائمة- رغب عمر رضي الله عنه في أن يزوجها من عثمان رضي الله عنه، فعرض عليه، فسكت عثمان. فشكا عمر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «سيتزوجها من هو خير من عثمان، وسيتزوج عثمان من هي خير من حفصة» . فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم حفصة، وتزوج عثمان أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم! ومن هنا ترى: أن زواجه -صلى الله عليه وسلم- منها كان ربطًا للمودة، وإرضاء للقلوب. 5- أم حبيبة (رملة) بنت أبي سفيان: -تزوجها -صلى الله عليه وسلم- والحرب قائمة بينه وبين المشركين بقيادة أبيها، أبي سفيان. - كانت قد سافرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى الحبشة، ولكنه تنصر، وخرج عن الإسلام، فكانت بين أمرين، إما أن ترجع إلى أبيها زعيم المشركين -آنئذ- فتفتن في دينها، وإما أن تعود إلى المدينة ولا مأوى لها. فآواها النبي صلى الله عليه وسلم بزواجه منها. - إذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة فخطبها له صلى الله عليه وسلم. ودفع النجاشي صداقها، وهو أربعمائة دينار، وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. - وبهذا الزواج أصاب النبي صلى الله عليه وسلم هدفين: أحدهما: أنه وقاها من الشرك وأن تفتن في دينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الثاني: أنه أصهر إلى أبي سفيان الذي سره ذلك، وقال: نعم الفحل لا يجدع أنفه -يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم. 6- زينب بنت خزيمة: - كانت قد بلغت الستين من عمرها حينما تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم تعمر عنده سوى عامين. - وكان يقال لها أم المساكين. - قتل زوجها يوم أحد، وكان الزواج بها إيواءًا لها، وتشجيعًا لها على إعانة المساكين. 7- زينب بنت جحش: - وكانت زوجًا لزيد بن حارثة. - وقد تزوجته على أنه ابن محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه وأطلق عليه ذلك الاسم. - فلما نزل قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (1) . «تململت ببقائها مع زيد. . وتململ هو من كبريائها، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في طلاقها، فقال له: اتق الله، وأمسك عليك زوجك» ، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها بعد أن طلقها زيد، ولكنه أخفى ذلك، وخشي مقالة الناس أن يقولوا تزوج محمد زوجه ابنه! - فقال الله تعالى: - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ}   (1) سورة الأحزاب، الآيتان 4، 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (1) . فهذه الآيات تعرض أمر زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها بعد أن قضى زيد منها وطرًا - وهي تدل على أمور منها: - أن عادة الجاهلية أن الابن المتبنى يعتبر ابنًا من كل الوجوه، فألغى الله تلك العادة، وقال {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} . -كذلك اقتضت حكمة الله أن يبطل هذه العادة الجاهلية التي تدخل في الأسرة من ليس منها، فتفسد العلاقات الأسرية. وأن يكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم تأكيدًا لهذا الإبطال إذ يتزوج زوجة دعيه بعد أن يطلقها كما قال تعالى: - {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} . - كما دلت الآيات على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن أبًا لأحد من رجال العرب. - كذلك فإن الزواج من زينب كان بأمر الله سبحانه وتعالى، وليس برغبة   (1) سورة الأحزاب، الآيات 36-40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يُؤثر عن زينب رضي الله عنها قولها: " زوجكن آباؤكن وزوجني ربي ". قال تعالى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} . 8- أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة: - وهي مخزومية، وقد مات عنها زوجها أبو سلمة، وهو عبد الله بن عبد الأسد. - وعند موت زوجها توفي عنها وهي شابة طلب إليها أن تتزوج من بعده، ودعا لها مخلصًا أن يتزوجها من هو خير منه. - وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنها ذات عيال، يحتاجون إلى من يرعاهم. - وكانت هي وزوجها مهاجرين، فانقطعت عن ذويها. 9- جويرية بنت الحارث: - يقول ابن هشام - في زواجها: «لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، ومعه جويرية بنت الحارث، دفع بجويرية إلى رجل من الأنصار وديعة عنده، وأمره بالاحتفاظ بها. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب من العقيق، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقَال: يا محمد. أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا، فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فوالله ما أطلع على ذلك أحد، فأسلم الحارث وأسلم معه ابنان له» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 - ولقد كان الأسرى من قومها نحو مائة فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم من أبيها، وكانت قد أسلمت، أطلق كل من كان في يده أحد من الأسرى أسراه، وقال: كيف نسترق أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعتق بزواجه صلى الله عليه وسلم منها أهل مائة من بيوت بني المصطلق. وتقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في ذلك: " ما كانت امرأة أبرك على قومها من جويرية، لقد عتق بها مائة بيت من بيوت قومها ". - فما كان الزواج للشهوة، لكن كان للحرية والعتق. 10- صفية بنت حيي بن أخطب: «سبيت مع أختها، وأمرهما بلال رضي الله عنه على قومهما من اليهود في خيبر، فلام النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا، وقال: أليس في قلبك رحمة؟ أتمرُّ بالفتاتين على قتلى قومهما.» - وعرض الفتاتين ليزوجهما بعض أصحابه، فتزوجت أختها وبقيت هي فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، مواساة، وبرًا، ورحمة. 11- ميمونة بنت الحارث: - وقد اختارها زوجًا له العباس بن عبد المطلب، لتوثيق ما بينه صلى الله عليه وسلم، وبين القبائل العربية، وقد أصدقها العباس رضي الله عنه من ماله أربعمائة درهم. - ويروى أنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، ذلك أنها لما علمت بخطبة النبي لها، قالت: " البعير وما عليه لله ورسوله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فنزل قول الله تعالى: - {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) . هؤلاء هن زوجاته اللائي دخل بهن، وهن اللائي يطلق عليهن (أمهات المؤمنين) حيث يقول الله تعالى {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (2) . وقال في منع زواجهن من بعده: - {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} (3) . ويقول الرواة: - إن عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة. - دخل بإحدى عشرة فهن أمهات المؤمنين. - ومات عن تسع، إذ ماتت في حياته خديجة، وزينب أم المساكين. - وتزوج باثنتين لم يدخل بهما، وهما: أسماء بنت النعمان الكِنْدية. أميمة بنت النعمان بن شرحبيل.   (1) سورة الأحزاب، آية 50. (2) سورة الأحزاب، آية 6. (3) سورة الأحزاب، آية 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 هذا هو العدد الذي أحله الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، والذي تحققت به كل المقاصد الاجتماعية والتعليمية والتشريعية التي تتعلق بالدعوة. ولقد قال الله تعالى في ذلك: - {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} (1) . وهذا النص يشير إلى: - منع التعدد بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا العدد. - وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجى من يشاء منهن ويؤوي إليه من يشاء. كذلك فإن القرآن الكريم يشير إلى أن هذا التعدد بهذا القدر خاص به صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: - {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (2) . لقد كانت نساء النبي أمهات المؤمنين مدارس لتعليم العلم وإشاعة الخير. - أما قيامهن بتعليم العلم، فلقد كان الكثيرات من النساء يستحيين من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأمور الشرعية وخاصة المتعلقة بهن كأحكام الحيض والنفاس والجنابة، والأمور الزوجية، وغيرها من الأحكام. وقد كانت المرأة تغالب حياءها حينما تهم بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض هذه الأمور. . . كما كان من خلق النبي صلى الله عليه وسلم الحياء، فكان كما حدثت عنه دواوين السنَّة: «أشد حياء من العذراء في خدرها» .   (1) سورة الأحزاب، الآيتان 51، 52. (2) سورة الأحزاب، أية 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 فما كان-صلى الله كليه وسلم- يستطيع أن يجيب عن كل سؤال يعرض عليه من قبل النساء بصراحة ووضوح، وإنما كان يكني في بعض الأحيان! وربما لا تفهم المرأة السائلة مراده صلى الله عليه وسلم من كناياته. «تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية غسلها من الحيض، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم كيف تغتسل، ثم قال لها: " خذي قرصة ممسكة- أي: قطعة من القطن بها أثر الطيب فتطهري بها "، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: " تطهري بها " قالت: كيف يا رسول الله أتطهر بها؟ قالت عائشة: فاجتذبتها من يدها، فقلت: ضعيها في مكان كذا وكذا وتتبعي بها أثر الدم!» ولعله من فضول القول أن نقول إن كثيرًا من الأحكام الخاصة بالمرأة رويت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنه قال: " ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا ". وقال مسروق: " رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض ". وقال عروة بن الزبير: " ما رأيت امرأة أعلم بطب ولا فقه ولا شعر من عائشة ". ولا عجب فهذه كتب الحديث تشهد بعلمها الغزير، وعقلها الكبير، فلم يرو في الصحيح عن أحد من الرجال أكثر مما روي عنها إلا ما روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ولعل من معاني الأمر الإلهي بألا يتزوجن من بعده صلى الله عليه وسلم {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} ليتفرغن لتعليم النساء أحكام الدين وفضائله وآدابه. . . ولنقل أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وبين أهله. وأما قيامهن -رضي الله عنهن- بإشاعة الخير: فلقد كن قدوة للنساء في العفة والطهارة والطاعة وحسن الخلق. وإن الله سبحانه وتعالى تعهد نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالإرشاد والتأديب، لأنهن الأسوة والقدوة، قال تعالى: - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (1) .   (1) سورة الأحزاب، الآيات 28-34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 نظرات في الكتاب المقدس وبعد هذه النظرات المدققة المحققة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، وكيف، ولماذا عدد زوجاته؟ نعود فنقلب صفحات الكتاب (المقدس!!) لنرى ما جاء فيه عن الأنبياء، وزوجات الأنبياء. . . ونكتفي بأن نتعرض للأنبياء الثلاثة: أ- جدعون. ب- داود. جـ- سليمان. جدعون: وجدعون بن يوآش الأبيعزري، أحد الأنبياء الرسل في العهد القديم يدل على نبوته ورسالته، ما جاء في (الإصحاح السادس من سفر القضاة، العدد 7، وما بعده) : " وكان لما صرخ بنو إسرائيل إلى الرب بسبب المديانيين، أن الرب أرسل رجلًا نبيًّا إلى بني إسرائيل، فقال لهم. هكذا قال الرب إله إسرائيل: إني قد أصعدتكم من مصر وأخرجتكم من بيت العبودية، وأنقذتكم من يد المصريين ومن يد جميع مضايقيكم وطردتهم من أمامكم وأعطيتكم أرضهم، وقلت لهم. أنا الرب إلهكم، لا تخافوا آلهة الأموريين الذين أنتم ساكنون أرضهم، ولم تسمعوا لصوتي. وأتى ملاك الرب وجلس تحت البطمة التي في عفرة التي ليوآش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الأبيعزري وابنه جدعون كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهربها من المديانيين، فظهر له ملاك الرب، وقال له الرب معك يا جبار البأس فقال له جدعون: أسألك يا سيدي إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه، وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا قائلين. ألم يصعدنا الرب من مصر، والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان، فالتفت إليه الرب، وقال. اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان، أما أرسلتك؟ ". وكذلك يدل على نبوته ما جاء في (الإصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين، العدد 32، 33) : " وماذا أقول أيضًا لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون وباراق وشمشون وبفتاح وداود وصموئيل والأنبياء الذين بالإيمان قهروا ممالك صنعوا برًّا، نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود ". والسؤال هو: كم تزوج جدعون هذا؟ والجواب- كما في أسفار العهد القديم: " كان لجدعون سبعون ولدًا خارجون من صلبه؛ لأنه كانت له نساء كثيرات، وسريته التي في شكيم ولدت له هي أيضًا ابنًا فسماه أبيمالك " (سفر القضاة: 8، 30، 31) . داود: وداود عليه السلام، وبرأه الله مما يفترون عليه، تقول عنه الأسفار، إنه تزوج نساء كثيرات. تزوج -أولا- ميكال بنت شاول، مقابل مهر لم تسمع الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 بمثله. . . وهو مائة غلفة من غلف الفلسطينيين!!! ولست أدري ما الذي يريده شاول من هذا الغلف!! ؟ وماذا يريد أن يصنع به، أو يصنع هذه لابنته!! ؟ ما علينا. . . فقد تطول الأسئلة، ولا مجيب! المهم. . . إن داود الكتاب المقدس (!) كان أكرم من شاول. فقدم مهرًا مائتي غلفة، لا مائة واحدة!! جاء في (الإصحاح الثامن عشر من سفر صموئيل الأول، العدد 26، 27) : " ولم تكمل الأيام حتى قام داود وذهب هو ورجاله وقتل من الفلسطينيين مئتي رجل وأتى داود بغلفهم فأكملوها للملك لمصاهرة الملك، فأعطاه شاول ميكال ابنته امرأة ". وتزوج داود بست نساء أخريات- هن: 1- أخينوعم اليزرعيلية. 2- أبيجايل. 3- معكة بنت تلماي ملك جشور. 4- حجبث. 5- أبيطال. 6- عجلة. جاء ذلك في (الإصحاح الثالث من سفر صموئيل الثاني (العدد 2 وما بعده) . " وولد لداود بنون في حبرون. وكان بكره أمنون من أخينوعم اليزرعيلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وثانيه كيلاب من أبيجايل امرأة نابال الكرملي. والثالث أبشلوم ابن معكة بنت تلماي ملك جشور. والرابع أدونيا ابن حجبث. والخامس شفطيا ابن أبيطال. والسادس يثرعام من عجلة امرأة داود ". ثم تزوج داود بنساء أخر، وسراري لم يصرح (الكتاب المقدس) بعددهن. " وأخذ داود أيضًا سراري ونساء من أورشليم بعد مجيئه من حبرون فولد أيضًا لداود بنون وبنات " (سفر صموئيل الثاني 5-13) . بل إن (الكتاب المقدس) يحدثنا عن (تصريح مفتوح) لداود أن يتزوج بمن يشاء، وقتما يشاء، حسبما يشاء. " هكذا قال الرب إله إسرائيل، أنا مسحتك ملكًا على إسرائيل وأنقذتك من يد شاول، وأعطيتك بيت سيدك، ونساء سيدك في حضنك، وأعطيتك بيت إسرائيل ويهوذا، وإن كان ذلك قليلًا كنت أزيد لك كذا وكذا) (سفر صموئيل الثاني 12: 7-8) . وزواج داود من امرأة أوريا الحثي. . من القضايا التي تحيطها علامات الاستفهام من كل اتجاه. . . وإننا لننقل الحادثة بطولها. . . ونضعها أمام عقول الكتابيين ونضع معها سؤالا. . . سؤالا واحدًا وموجزًا. . . أين هذا من محمد؟ والقصة، يرويها الكتاب المقدس، هكذا: " وكان عند تمام السنة في وقت خروج الملوك أن داود أرسل يوآب وعبيده معه وجميع إسرائيل فأخربوا بني عمون وحاصروا ربة، وأما داود فأقام في أورشليم، وكان في وقت المساء أن داود قام من سريره وتمشى على سطح بيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة المنظر جدًّا، فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد أليست هذه بتشبع بنت اليعام امرأة أوريا الحثي؟ فأرسل داود رسلًا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها، وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود. قالت إني حبلى. فأرسل داود إلى يوآب يقول أرسل إلي أوريا الحثي، فأرسل يوآب أوريا إلى داود. فأتى أوريا إليه فسأله داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب، وقال داود لأوريا انزل إلى بيتك واغسل رجليك، فخرج أوريا من بيت الملك، وخرجت وراءه حصة من عند الملك، ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده ولم ينزل إلى بيته، فأخبروا داود قائلين لم ينزل أوريا إلى بيته. فقال داود لأوريا أما جئت من السفر. فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟ فقال أوريا لداود: إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي. وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر. فقال داود لأوريا أقم هذا اليوم أيضًا وغدًا أطلقك. فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده، ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره. وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده وإلى بيته لم ينزل. وفي الصباح كتب داود مكتوبًا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت. وكان في محاصرة يوآب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه. فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب فسقط بعض الشعب من عبيد داود ومات أوريا الحثي أيضا، فأرسل يوآب وأخبر داود بجميع أمور الحرب. وأوصى الرسول قائلًا. عندما تفرغ من الكلام مع الملك عن جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 أمرر الحرب، فإن اشتعل غضب الملك وقال لك لماذا دنوتم من المدينة للقتال. أما علمتم أنهم يرمون من على السور من قتل أبيمالك بن يربوشت ألم ترمه امرأة بقطعة رحى من على السور فمات في تاباص. لماذا دنوتم من السور؟ فقل قد مات عبدك أوريا الحثي أيضا. فذهب الرسول ودخل وأخبر داود بكل ما أرسله فيه يوآب. وقال الرسول لداود قد تجبر علينا القوم وخرجوا إلينا إلى الحقل فكنا عليهم إلى مدخل الباب فرمى الرماة عبيدك من على السور فمات البعض من عبيد الملك ومات عبدك أوريا الحثي أيضا. فقال داود للرسول. هكذا تقول ليوآب لا يسوء في عينيك هذا الأمر لأن السيف يأكل هذا وذاك. شدد قتالك على المدينة واخربها، وشدده. فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها ندبت بعلها، ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابنًا. وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب " (سفر صموئيل الثاني- الإصحاح الحادي عشر بتمامه) . وهذه القصة الطويلة -كليل الشتاء- تزعم: - أن داود رأى امرأة أوريا الحثي -أحد جنوده المحاربين- تستحم عارية فوق السطح وأنها أعجبته. . . فأخذها. . . وزنى بها. . . فحملت منه سفاحًا. . . فأراد أن يتخلص من هذا العار فأرسل يستدعي زوجها من الحرب. . . ليبيت مع امرأته. . . حتى يمكن اعتبار هذا الحمل منه. . . - ولكن ذلك الجندي الباسل، أبى أن يبيت مع زوجته، ورفاقه من الجنود يحاربون في الصحراء. . . فما كان من داود إلا أن كتب كتابًا إلى قائد الجيش. . . وأرسله مع أوريا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 المسكين. . . يطلب في الخطاب من قائد الجيش أن يجعل أوريا في موقع خطر من مواقع المواجهة مع العدو. . . حتى يقتل. . . - وقد كان ذلك. . . فقتل أوريا. . . حسب المؤامرة التي رسمها داود. . . - وبعد مقتل أوريا أرسل داود إلى زوجة أوريا؟ . . وضمها إلى نسائه. .! أقرأتم. . . . . أرأيتم؟ هكذا تتكلم أسفار العهد القديم عن أنبياء الله ورسله. . . برأهم الله مما يقوله الظالمون المفترون! نسيت أن أذكر لكم. . . بقية الأسطورة الكتابية. . . فالأسطورة تذكر أن بتشبع هذه. . . هي أم سليمان الحكيم. . . (راجع الإصحاح الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني، العدد 24) . كذلك تزوج داود في آخر عمره بفتاة عذراء اسمها (أبيشج الشونمية) كما جاء في (الإصحاح الأول من سفر الملوك الأول، العدد 1 وما بعده) . " وشاخ الملك داود. وتقدم في الأيام، وكانوا يدثرونه بالثياب فلم يدفأ، فقال له عبيده: ليفتشوا لسيدنا الملك عن فتاة عذراء فلتقف أمام الملك ولتكن له حاضنة ولتضطجع في حضنك فيدفأ سيدنا الملك. ففتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل فوجدوا أبيشج الشونمية فجاءوا بها إلى الملك، وكانت الفتاة جميلة جدًّا فكانت حاضنة الملك وكانت تخدمه ولكن الملك لم يعرفها ". سليمان: يكفي أن نذكر عن سليمان ما جاء في (الكتاب المقدس) بالحرف الواحد، فلقد جاء فيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 " وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل: لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من السراري فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان إن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه " (سفر الملوك الأول 11، 1- 4) . و. . . هكذا يتحدثون عن سليمان. . . الذي أسرف في التزوج من الوثنيات. . . حتى إنه تزوج بألف امرأة. . . وضل في آخر حياته. . . وكفر، واتخذ له آلهة أخرى. . بإغواء هؤلاء الوثنيات الجميلات. هكذا تتحدث أسفار القوم عن سليمان! أما القرآن الكريم، فإنه يقول: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . سورة البقرة، آية 102. والشياطين، هم هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ومن على شاكلتهم، ممن يسيئون إلى رسل الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق. . .! وخلاصة القول. إنه ليس في موضع واحد من أسفار العهد القديم حرمة التزوج بأكثر من واحدة. . . ولو كان التزوج بأكثر من واحدة حرامًا أو مذمومًا لنبه إلى ذلك موسى عليه السلام. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 بل إنَّ هناك نصوصًا تشير إلى جوازه، أكتفي منها بذلك النص: " إذا خرجت إلى محاربة أعدائك ودفعهم الرب إلهك إلى يدك وسبيت منهم سبيًا، ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة والتصقت بها واتخذتها لك زوجة، فحين تدخلها إلى بيتك تحلق رأسها وتقلم أظافرها، وتنزع ثياب سبيها عنها، وتقعد في بيتك وتبكي أباها وأمها شهرًا من الزمان، ثم بعد ذلك تدخل عليها وتتزوج بها فتكون لك زوجة وإن لم تسر بها فأطلقها لنفسها. لا تبعها بيعًا بفضة ولا تسترقها من أجل أنك قد أذللتها. وإذا كان لرجل امرأتان. إحداهما. محبوبة، والأخرى مكروهة فولدتا له بنين المحبوبة والمكروهة، فإن كان الابن البكر للمكروهة، فيوم يقسم لبنيه ما كان له لا يحل له أن يقدم ابن المحبوبة بكرًا على ابن المكروهة البكر، بل يعرف ابن المكروهة بكرًا ليعطيه نصيب اثنين من كل ما يوجد عنده؛ لأنه هو أول قدرته له حق البكورية " (سفر التثنية 21، 10-17) . و. . . بعد هذا الاستعراض لا أملك إلا أن أتمثل بقول الشاعر: إذا محاسني اللاتي عرفت بها ... كانت عيوبي فقل لي كيف أعتذر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 النسخ ويسألونك عن القرآن. . . كيف نسخ الكتب التي سبقته؟ ولماذا لم يقم المسلمون بنفس الدور الذي فعله النصارى مع أسفار العهد القديم. . لقد اعترفوا بها وأقروها. . بل وطبعوها مع أناجيلهم في كتاب واحد. . أطلقوا عليه الكتاب المقدس!! ونقول لهؤلاء السائلين، إن ما تدعونه وتزعمونه أمور شكلية ظاهرية، يخالفها الواقع وحقيقة الأمر. . .! فإذا كنتم تطبعون (العهدين معًا) . . . فإنكم لا تأخذون بما في (العهدين معًا) . . . وإليكم هذه الأمثلة. 1- الطلاق : يجوز في (العهد القديم) أن يطلق الرجل امرأته لأي علة، وأن يتزوج رجل آخر بتلك المطلقة بعدما خرجت من بيت الأول. " إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر " (سفر التثنية 24: 1-2) . بينما لا يجوز في (العهد الجديد) الطلاق إلا بعلة الزنى. وكذلك لا يجوز لرجل آخر نكاح المطلقة بل هو بمنزلة الزنى. " وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني " (إنجيل متى 5: 31- 32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 " وجاء إليه الفريسيون ليجربوه قائلين له هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب. فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى، وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا. إذًا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان، قالوا له فلماذا أوصى موسى أن يعطي كتاب طلاق فتطلق؟ قال لهم: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم. ولكن من البدء لم يكن هكذا، وأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني " (إنجيل متى 19: 2-9) . فعلم من جواب عيسى للفريسيين أن هذا الحكم نسخ مرتين، مرة في شريعة العهد القديم، ومرة في العهد الجديد. 2- المحرمات : كانت حيوانات كثيرة محرمة في شريعة (العهد القديم) ونسخت حرمتها في شريعة (العهد الجديد) وتقررت الإباحة بفتاوى بولس، نلاحظ ذلك إذا قرأنا هذين النصين: " إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيِء نجسًا بذاته إلا من يحسب شيئًا نجسًا فله هو نجس " (رسالة بولس إلى أهل رومية 14: 14) . " كل شيء طاهر للطاهرين وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرًا بل قد تنجس ذهنهم أيضًا وضميرهم " (رسالة بولس إلى تيطس 1: 15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 3- السبت : كان تعظيم السبت حكمًا أبديًّا في شريعة (العهد القديم) وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل وكان من عمل فيه عملًا ولم يحافظ على حرمته يقتل. وقد تكرر بيان ذلك الحكم في مواضع كثيرة من أسفار (العهد القديم) . " اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع أعمالك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملًا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك، وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه " (سفر الخروج 20: 8- 11) . " وكلم الرب موسى قائلًا: وأنت تكلم بني إسرائيل قائلًا: سبوتي تحفظونها لأنه علامة بيني وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم فتحفظون السبت؛ لأنه مقدس لكم، من دنسه يقتل قتلًا، إن كل من صنع فيه عملًا تقطع تلك النفس من بين شعبها، ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة مقدس للرب. كل من صنع عملًا في يوم السبت يقتل قتلًا، فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدًا أبديًّا. هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى الأبد؛ لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض وفي اليوم السابع استراح وتنفس " (سفر الخروج 31: 12-17) . وكان اليهود المعاصرون للمسيح يؤذونه، ويترصدون لقتله، ويتربصون به بحجة أنه لا يعظم السبت. " ولهذا كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون أن يقتلوه لأنه عمل هذا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 سبت. فأجابهم يسوع. أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه؛ لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضًا إن الله أبوه معادلا نفسه بالله " (إنجيل يوحنا 5: 16-18) . " فقال قوم من الفريسيين هذا الإنسان ليس من الله؛ لأنه لا يحفظ السبت " (إنجيل يوحنا 9- 16) . 4- الختان : كان حكم الختان أبديًّا في شريعة إبراهيم عليه السلام، تقول أسفار (العهد القديم) : " وقال الله لإبراهيم. وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر، فتختتنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم، ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم، وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك، يختن ختانًا وليد بيتك والمبتاع بفضتك فيكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًّا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها إنه قد نكث عهدي " (سفر التكوين 17: 9- 14) . وقد بقي هذا الحكم في أولاد إسماعيل وأولاد إسحاق عليهما السلام. وختن عيسى عليه السلام نفسه، كما جاء في أسفار (العهد الجديد) . " ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن " (إنجيل لوقا 2-21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وظل هذا الحكم ساريًا إلى أن جاء بولس فنسخه. " ها أنا بولس أقول لكم. إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئًا لكن أشهد أيضًا لكل إنسان مختتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس. سقطتم من النعمة. فإننا بالروح من الإيمان نتوقع رجاء بر؛ لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة بل الإيمان العامل بالمحبة " (رسالة بولس إلى غلاطية 5: 2- 6) . 5- نسخ جميع أحكام (العهد القديم) : ثم. . قام التلاميذ بعد ذلك بنسخ جميع الأحكام العملية في (العهد القديم) ولم يبقوا إلا على أحكام أربعة: 1- ذبيحة الصنم. 2- الدم. 3- الحيوان المخنوق. 4- الزنى. فأبقوا حرمة هذه الأشياء الأربعة وأرسلوا بذلك كتابًا إلى سائر الكنائس للعمل بمقتضاه. وهذا نص الرسالة: " حينئذ رأى الرسل والمشايخ مع كل الكنائس أن يختاروا رجلين منهم ليرسلوهما إلى أنطاكية مع بولس وبرنابا يهوذا الملقب برسابا وسيلا رجلين متقدمين في الأخوة، وكتبوا بأيديهم هكذا. الرسل والمشايخ والأخوة يهدون سلامًا إلى الأخوة الذين من الأمم في أنطاكية وسورية وكيليكية إذ قد سمعنا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ناسًا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مقلبين أنفسكم وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس الذي نحن لم نأمرهم رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا وبولس رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح. فقد أرسلنا يهوذا وسيلا وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاهًا؛ لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلًا أكبر غير هذه الأشياء الواجبة. أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنى التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعمًا تعملون وكونوا معافين " (أعمال الرسل 15: 22- 29) . ثم ماذا؟ ثم تقدم بولس خطوة ثانية. . . فنسخ حرمة الثلاثة الأولى، فلم يبق من أحكام (العهد القديم) العملية إلا حرمة الزنى. وحتى الزنى يعتبر منسوخًا أيضًا؛ لأنه لا حد فيه. وبهذا تكون أحكام العهد القديم كلها منسوخة، يقول بولس: " مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فِيَّ، فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي، لست أبطل نعمة الله؟ لأنه إن كان بالناموس بر فالمسيح إذًا مات بلا سبب " (رسالة بولس إلى غلاطية 2: 20- 21) . يقول الدكتور همند في تذييله على الفقرة 21، هذه: " يقول -أي بولس - إنه لا يعتمد في النجاة على شريعة ولا يفهم أن أحكام موسى ضرورية، لأن إنجيل المسيح حينئذ يصبح بلا فائدة ". ويقول بولس أيضا: " لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة؛ لأنه مكتوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 ملعون كل من لا يثبت في جميع كل ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به. ولكن أن ليس أحد يتبرر بالناموس عند الله فظاهر؛ لأن البار بالإيمان يحيا، ولكن الناموس ليس من الإيمان بل الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها. المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا " (رسالة بولس إلى غلاطية 9: 3-13) . ويقول (لارد) في تفسيره لهذه الفقرة (1) : " المعنى الذي يريده الحواري هنا. نسخت الشريعة أو صارت بلا فائدة بموت المسيح وصلبه ". ثم يقول: " بيَّن الحواري صراحة أن أحكام شريعة الرسوم نسخت نتيجة موت يسوع ". وهكذا نسخ (العهد الجديد) . . أحكام (العهد القديم) . وإن بقي الشكل. . والصورة. . . يوحي بعكس هذا. . إذ نجد (النصارى) يصرون على إلحاق كتبهم المقدسة بكتب اليهود المقدسة!! أما (القرآن الكريم) . . . فهو كتاب (مهيمن) . . . ما قاله هو الحق الذي لا شك فيه. . .! وما نفاه فهو الباطل الذي لا شك فيه. . .! وما سكت عنه. . . فهو علم لا ينفع، وجهل لا يضر!! إن القرآن الكريم هو الصباح المشرق الباهر. . . الذي جاء فأطفأ القناديل والشموع. . . كل القناديل وكل الشموع!!   (1) جـ9، ص487. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 القرآن والكتب السوالف ويتفرع من هذا السؤال عن (النسخ) سؤال آخر، يدور حول موقف (القرآن الكريم) من الكتب السابقة، كأسفار العهد القديم، وأسفار العهد الجديد؟ ونوجز الإجابة -أولا- ثم نفصلها بعد ذلك. فنقول في إيجاز: إن كل رواية من روايات هذه الكتب، إن صدقها القرآن الكريم فهي مقبولة يقينًا، وإن كذبها فهي مردودة يقينًا، وإن سكت القرآن الكريم عن تصديقها وتكذيبها سكتنا نحن أيضًا عنها فلا نصدق ولا نكذب. ونقول في تفصيل: أولًا- القرآن مصدق: قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} . (1) وقال تعالى: {الم} {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (2) وربما فهم البعض من تصديق القرآن للكتب السابقة عليه أنه يزيل الاتهام عنها، ويقر بما جاء فيها، حتى ولو كان مغيرًا مبدلًا محرفًا! وذلك فهم سقيم، وغير سليم.   (1) سورة المائدة، 48. (2) سورة آل عمران، الآيات 1-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ثانيًا- القرآن مهيمن: لأنه في الوقت الذي سمى الله فيه القرآن (مصدقًا) سماه (مهيمنًا) . قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (1) المهيمن: الشاهد المؤتمن الحاكم، فيشهد بما في هذه الكتب من الحق، ويبين ما حرف فيها، ويحكم بما أقره الله وأمر به من أحكامها، وينسخ ما نسخه الله منها، وهو مؤتمن عليها في ذلك كله. قال ابن جريج: " القرآن أمين على ما قبله من الكتب، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم، فإن كان في القرآن فصدقوه، وإلا فكذبوه ". وأورد البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب الشهادات وغيره: " يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله، تقرأونه لم يشب وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب، وقالوا {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} (2) أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم رجلًا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم ". وقد روى أحمد من حديث جابر مرفوعًا: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا» . ثالثًا- الكتب السوالف تؤيد القرآن: قال الله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ}   (1) سورة المائدة، آية 48. (2) سورة البقرة آية 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 {يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (1) وهذه الآية الكريمة لا تدل عاد وقوع الشك، ولا على وقوع السؤال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكًّا، ولا سأل أحدًا منهم، بل روي عنه أنه قال: «والله لا أشك، ولا أسأل» . ولكن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم من الأدلة والبراهين ما يؤيدك، ويصدقك فيما كذبك فيه الكافرون. كما قال الله تعالى في آية أخرى {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (2) وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3) وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (4) وقال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (5) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (6)   (1) سورة يونس، آية 99. (2) سورة الرعد، آية 43. (3) سورة الأحقاف، آية 10. (4) سورة الشعراء، آية 197. (5) سورة القصص، الآيات 51-53. (6) سورة الإسراء، الآيات 107-109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وقال تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (1) وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} (2) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (4) وهذه الآيات البينات، تؤكد لنا أن الكتب القديمة، فيها إشارات وبشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبملته، وبأمته. . . وقد يقول قائل: ألا تحتمل هذه الآيات أن ما في أيدي أهل الكتاب صحيح لم يحرف؟ ونقول: إن هذه الآيات لا تتحدث عن التحريف، فلذلك موضع آخر في (الكتاب العزيز) سنتناوله بالحديث فيما بعد إن شاء الله وقدر. . . لكنها تشير إلى عدة حقائق جحدها الكفار، وهي مذكورة مسطورة عند أهل الكتاب، وفي كتبهم.   (1) سورة المائدة، الآيتان 82-83. (2) سورة النساء، آية 162. (3) سورة الأنبياء، آية 7. (4) سورة البقرة، آية 146. سورة الأنعام، آية 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وهذه الحقائق هي: الحقيقة الأولى: أن الكتب المتقدمة تؤكد أن موسى وغيره من رسل الله عليهم صلوات الله وتسليماته، دعوا إلى عبادة الله وحده، ونهوا عن الشرك، فكان في هذا حجة على من ظن أن الشرك دين، قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (1) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (3) الحقيقة الثانية: أن أهل الكتاب يعلمون أن الله أرسل إلى الناس بشرًا مثلهم، ولم يرسل إليهم ملائكة. فإن من الكفار من كان يزعم أن الله لا يرسل إلا ملكًا، أو بشرًا معه مَلَك، ويتعجبون من إرسال رسول بشري ليس معه ملك ظاهر كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} (4) قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (5)   (1) سورة الزخرف، آية 45. (2) سورة الأنبياء، آية 25. (3) سورة النحل، آية 36. (4) سورة الإسراء، الآيتان 94-95. (5) سورة الأنبياء، آية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الحقيقة الثالثة: أن يسألوا أهل الكتاب -ولا شك أن عندهم بهذا إشارة من علم- عما جرى للرسل مع أممهم، وكيف كانت عاقبة المؤمنين بهم، وعاقبة المكذبين لهم. الحقيقة الرابعة: أن يسألوا أهل الكتاب عن أصول الدين الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، وهو دين الإسلام، وعن أوامره ونواهيه، كالأمر بالتوحيد، والصدق، والعدل، والبر، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وكالنهي عن الشرك والظلم، والفواحش ما ظهر منها وما بطن. الحقيقة الخامسة: يسألونهم عما وصفت به الرسل ربهم هل هو موافق لما وصفه به محمد أم غير موافق؟ الحقيقة السادسة: يسألونهم - يهودًا كانوا أم نصارى - عما لديهم من الشهادات والبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، التي تحدث القرآن الكريم عنها، في مثل قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (1) وقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (2)   (1) سورة الأعراف، الآيتان 156، 157. (2) سورة الصف، آية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 فإن قال قائل: فإن أهل الكتابين لا يصدقون هذه البشارات ولا يقولون بها؟ قلنا له: هذا مستحيل عقلًا؛ لأن الكثيرين من علماء أهل الكتاب وعامتهم، دخلوا في الإسلام وحسن إسلامهم، وما كان لهم أن يدخلوا ذلك الدين الذي يكذب عليهم في أوضح ما لديهم من مقررات. فإن قال قائل: إذا كنتم تعتمدون على كتبنا في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتبشير به، فإن كتبنا على هذا تكون صحيحة، ومبرأة عما وصفتموها به من التبديل والتحريف؟ قلنا له: إن هذه التوراة والإنجيل فيها حق ولا طل. . . وقد اختلط هذا بهذا. . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) وينقل الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث قول الشافعي: " أي: إذا كان ما يخبرونكم به محتملًا، لئلا يكون في نفس الأمر صدقًا فتكذبوه، أو كذبًا فتصدقوه، فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه ". ولا شك أن البشارات بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم من النوع الذي تواطأ على الإخبار به ما جاء في القرآن الكريم، وما أقرته كتب القوم، وقد أسلفنا في حديث (الشيخ إبراهيم خليل أحمد) شيئًا من هذا، وهو كثير لمن أراد أن يتتبعه ويحصيه.   (1) سورة العنكبوت، آية 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 فإن قال قائل: إننا نجد في (القرآن الكريم) آيات تشهد بصدق التوراة -كما هي اليوم- وتشهد بصدق الإنجيل -كما هو اليوم- وتؤكد أن الكتابين لم يصابا بتحريف، ولا تزييف. من مثل قول القرآن {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} (1) وقوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (2) قلنا له: أولًا: نصدر الإجابة بآيات كريمة من القرآن الكريم تؤكد أن أصابع العبث امتدت إلى هذه الكتب، كقوله تعالى: - {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (3) وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا   (1) سورة المائدة، آية 43. (2) سورة المائدة، آية 47. (3) سورة البقرة، الآيات 75-79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} (2) وقد روى أحمد من حديث جابر - مرفوعًا-: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا» . فهذه النصوص الكريمة- قرآنية أو حديثية- تفيد أن القوم قد حرفوا كتبهم، ونسوا حظًّا من وحي الله وهداه،. . . وإن هذه الكتب- بعد أن أصابها ما أصابها- لم تعد قادرة على إعطاء الإنسان رشده وهداه وتقواه. . .! ولقد قدمنا بحثًا دقيقًا لـ (اللواء أحمد عبد الوهاب) حول (قانونية الأناجيل) أثبت فيه، بما نقله عن الكُتَّاب المسيحيين وغيرهم، أن هذه الكتب فيها مئات القضايا التي تختلف مع العقل والنقل والعلم. .! ثانيًا: أنه ما زال في كتب القوم شيء من الحق، وإن كان قد بدلت وغيرت ألفاظه، إما بحكم الترجمة، أو بدافع الأغراض الشخصية. وإذا قرأنا الآيتين الثالثة والأربعين، والسابعة والأربعين من سورة المائدة، وهما الآيتان اللتان استدل بهما المستدل، في سياقهما من السورة، لزال كثير من الغموض، ولاتضحت الحقيقة جلية سافرة.   (1) سورة المائدة، الآيات 13-15. (2) سورة المائدة، آية 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 يقول الله سبحانه وتعالى: - {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) فقد أمر أهل (التوراة) أن يحكموا بما أنزل الله في كتابهم! وأمر أهل (الإنجيل) أن يحكموا بما أنزل الله في كتابهم! والله أنزل في التوراة وأنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا لم يحكموه، فكأنهم لم يحكموا التوراة والإنجيل. وإذا لم يؤمنوا به، فكأنهم لم يؤمنوا بما في التوراة والإنجيل. وقد ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد هذا: ففي الصحيحين عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأةً منهم ورجلًا زنيا، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم، فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما» . وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر، أنه قال: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق حتى جاء مدراس يهود. فقال: ما تجدون   (1) سورة المائدة، آية 41-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 في التوراة على من زنى؟ قالوا: نسود وجوههما ويطاف لهما، قال {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) قال: فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال عبد الله بن سلام - وهو مع الرسول صلى الله عليه وسلم- مره فليرفع يده، فرفعها، فإذا تحتها آية الرجم، فقالوا: صدق فيها آية الرجم، ولكننا نتكاتمه بيننا، وإن أحبارنا أحدثوا التحميم والتحبية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما فرجما» . وأخرج مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: «مُرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود، فدعاهم، فقال: هكذا تجدون حد الزنى في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتموه "، فأمر به فرجم، فأنزل الله تعالى- {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} - إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} - إلى: {الظَّالِمُونَ} - إلى: {الْفَاسِقُونَ} (2) قال: " هي في الكفار كلها» . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: «رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من أسلم، ورجلًا من اليهود» .   (1) سورة آل عمران، آية 93. (2) سورة المائدة، الآيات 41-47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وفي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «أتي بنفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس، فقالوا: يا أبا القاسم إن رجلًا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم، فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني بالتوراة فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها، وقال: آمنت بك، وبمن أنزلك، ثم قال: ائتوني بأعلمكم، فأتي بشاب» ثم ذكر قصة الرجم. وأخرج أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، فقلنا: نبي من أنبيائك. قالوا: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة -منهم- زنيا، فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: نحممه ونحبيه ونجلده- والتحبيه: أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما ويطاف بهما- قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ساكتًا أنشده، فقال: اللهم إذ أنشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس، فأراد رجمه فحال قومه دونه، وقالوا: لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} (1) مما عرضناه وسردناه يتضح لنا أن المقصود تحكيم هذه الكتب، فيما يتفق مع القرآن لا فيما يناقضه أو يخالفه. فإن قال قائل من النصارى: إن القرآن الكريم يثني علينا ويعتبرنا أقرب الناس مودة للذين آمنوا، كما في قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (2) قلنا له: إن هذا الثناء إنما هو خاص بالذين آمنوا منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم- ولا شك أن الذين دخلوا في الإسلام من النصارى أكثر من الذين دخلوا فيه من اليهود -. ودليل ذلك ما جاء في الآيتين الثالثة والثمانين والرابعة والثمانين من سورة المائدة وهما الآيتان اللتان تليا الآية التي استشهد بها ذلك القائل {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (3)   (1) سورة المائدة، آية 44. (2) سورة المائدة، آية 82. (3) سورة المائدة، آية 83-85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 فهو سبحانه وتعالى لم يعد بالثواب في الآخرة إلا هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذين قال فيهم {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} والشاهدون: هم الذين شهدوا له- صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ولهذا فسر ابن عباس وغيره قوله تعالى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} قال: مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. وكل من شهد للرسول بالتصديق فهو من الشاهدين، كما قال الحواريون {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (1) وإذا كان القرآن الكريم قد أثنى على هؤلاء القساوسة والرهبان، الذين درسوا الحق، وأخلصوا في دراستهم، فأعلنوه واتبعوه. فلقد نعى على غيرهم، من الذين اتخذوا الدين تجارة، وأخذوا يكنزون الذهب والفضة، وينصبون أنفسهم للناس آلهة، يحلون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون، يدخلون الجنة من يشتهون ويحرمون منها من يبغضون. قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ}   (1) سورة آل عمران، آية 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (1) الحواريون يقول السؤال المطروح عليَّ: هل يؤمن المسلمون برسل المسيح الذين اختارهم، وأوكل إليهم مهمة التبشير لجميع الأمم كما ذُكِر في الإنجيل؟ ونقول في الإجابة: يزعم النصارى أن الحواريون رسل من رسل اللَّه، وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل، وأن لهم معجزات. . . .! وكونهم " رسل الله "! فهذا مبني على كون المسيح هو الله، فإنهم رسل الله! يقول شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في كتابه القيم: (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) (2) " وهذا الأصل باطل، ولكن في طرق المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن فنمنعهم في هذا المقام، ونطالبهم بالدليل على أنهم رسل الله، وليس لهم على ذلك دليل: فإنه لا يثبت أنهم رسل الله إن لم يثبت أن المسيح هو الله، وإثباتهم أن المسيح هو الله، إما أن يكون بالعقل أو بالسمع- يعني الدليل النقلي- والعقل لا يثبت ذلك بل يحيله، وهم لا يدعون ثبوت ذلك بالعقل.   (1) سورة التوبة، الآيات 30-35. (2) 1 / 357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 بل غاية ما يدعون إثبات إمكانه بالعقل لا إثبات وجوده مع أن ذلك أيضًا باطل. وإنما يدعون ثبوت وجوده بالسمع. ولكن يقال لهم في هذا المقام: أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب، ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون، ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله فصار ذلك دورًا ممتنعًا. فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب. ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله. ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله. فصار ثبوت إلهيته متوقفًا على ثبوت إلهيته. وثبوت كونهم رسل الله متوقفًا على كونهم رسل الله، فصار ذلك دورًا ممتنعًا ". ثم يقول رحمه الله- مفندًا لمزاعم القوم؛ إذ يقولون: إن هؤلاء الحواريين جرت على أيديهم معجزات، فهم لهذا يعتبرون رسلًا! " وقد يدعون عصمة الحواريين، وعصمة أهل المجامع بعد الحواريين. فيزعمون أن الحواريين أو هؤلاء جرت على أيديهم خوارق، وقد يذكرون أن منهم من جرى إحياء الميت على يديه، وهذا إذا كان صحيحًا- مع أن صاحبه لم يذكر أنه نبي- لا يدل على عصمته. فإن أولياء الله من الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان، وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها، لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه، وليس فيهم معصوم، يجب قبول كل ما يقول، بل يجوز الغلط على كل واحد منهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الأنبياء عليهم السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ولهذا أوجب الله الإيمان بكل ما أوتيه الأنبياء، ولم يوجب الإيمان بكل ما يقوله كل ولي ". قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} (1) ثم يقول: " فإذا كان المسلمون يقولون عن الحواريين إنهم ليسوا بمعصومين، فإنهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من الحواريين كأبي بكر وعمر. وإن كانوا يقولون عن المسيح إنه عبد مخلوق مربوب ليس بإله فإنهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من المسيح كمحمد وإبراهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام ". إننا نؤمن أن الحواريين، هم صحابة المسيح ورسله، وأنهم بمنزلة رسل موسى ورسل إبراهيم ورسل محمد عليهم السلام، الذين يوجهونهم برسائلهم إلى الآفاق لنشر الدعوة أو تعليم الدين. أما النصارى؛ فإنهم يرون في الحوارين أنهم رسل الله. . . يعنون المسيح!! ولقد ورد ذكر الحواريين في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2)   (1) سورة البقرة، آية 136. (2) سورة آل عمران، آية 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وقال تعالى: - {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} (1) وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (2) فإن قال قائل، وهذه الآيات التي جاءت في سورة (يس) وتتحدث عن أخبار (رسل المسيح) إِلى أهل أنطاكية، ألا يدل ذلك على أنهم رسل الله؟ نقول: أما الآيات التي وردت في سورة (يس) فهي قوله تعالى: - {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} {قَالُوا}   (1) سورة المائدة، الآيات 111-115. (2) سورة الصف، آية 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (1) يقول ابن تيمية رحمه الله: " والرسل المذكورون في سورة يس ليسوا هم الحواريين، ولا كانوا رسلًا للمسيح، بل كان هذا الإرسال قبل المسيح، وأهل القرية كذبوا أولئك الرسل فأهلكهم الله، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} (2) والرسل المذكورون في السورة هم ثلاثة، وكان في القرية رجل آمن بهم، وهذه -وإن كانت أنطاكية- فكان هذا الإرسال قبل المسيح، والمسيح عليه السلام ذهب إلى أنطاكية اثنان من أصحابه بعد رفعه إلى السماء، ولم يعززوا بثالث، ولا كان حبيب النجار موجودًا إِذ ذاك، وآمن أهل أنطاكية بالمسيح عليه السلام، وهي أول مدينة آمنت به ".   (1) سورة يس، الآيات 13-32. (2) سورة يس، الآيتان 28، 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وقبل أن ننهي هذا الفصل من فصول المناظرة، أحب أن أقلب صفحات أسفار العهد الجديد لأستخرج منها صورة هؤلاء الحواريين الذين يقال عنهم إنهم رسل وإنهم معصومون. - " وأما أسماء الاثني عشر رسولًا فهي هذه: الأول: سمعان؛ الذي يقال له بطرس، وأندراوس أخوه، يعقوب بن زبدي، ويوحنا أخوه، فيلبس، وبرثولماوس، توما، ومتى العشار، يعقوب بن حلفي، ولباوس الملقب تداوس، سمعان القانوي، ويهوذا الاسخريوطي الذي أسلمه " (إنجيل متى 10: 2-4) . - " وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس " (متى 23: 16) . - " ولما جاءوا إلى الجمع تقدم إليه رجل جائيًا له، قائلًا: يا سيد ارحم ابني فإنه يصرع ويتألم شديدًا، ويقع كثيرًا في النار وكثيرًا في الماء، وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه، فأجاب يسوع وقال: أيها الجيل غير المؤمن الملتوي، إلى متى أكون معكم. إلى متى أحتملكم قدموه إلي ههنا، فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان فشفي الغلام من تلك الساعة، ثم تقدم التلاميذ إلى يسوع على انفراد، وقالوا: لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه؟ فقال لهم يسوع: لعدم إيمانكم " (إنجيل متى 17: 14- 20) . - " فأجاب بطرس وقال له: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدًا، قال له يسوع: الحق أقول لك إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات " (متى 26: 33- 34) . وتؤكد الأناجيل- كما ذكرنا من قبل- أن يهوذا الأسخريوطي واحد من الحواريين الرسل. . . بل إنه كان من المقدمين فيهم لأنه كان أمين المال. . . وهو الذي تآمر على المسيح مع شيوخ اليهود في نظير ثلاثين من الفضة!!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وهنا سؤال عارض: - هل كان يهوذا يعرف أو يعتقد أن المسيح الذي باعه بثلاثين من الفضة هو ابن الله كما يزعمون؟ وهل كان بطرس رئيس التلاميذ، الذي أنكر المسيح ثلاث مرات حسب روايات الأناجيل وتبرأ منه يعتقد أنه ابن الله كما يدعون؟ إن كانا يعلمان أو يعتقدان ذلك فكيف أسلمه الأول وأنكره الثاني؟ وإن لم يكونا يعلمان- مع أن بطرس رئيس التلاميذ- فكيف ألَّهوه بعد ذلك، وقالوا: المسيح ابن الله؟ إن الأناجيل تصر على أن يهوذا كان خائنًا. " حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يدعي يهوذا الأسخريوطي إلى رؤساء الكهنة. وقال: ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم، فجعلوا له ثلاثين من الفضة. ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه " (إنجيل متى 26: 14- 16) . وتعطينا الأناجيل- أيضًا- صورة عن ابني زبدي، فقد أحضرا أمهما لتسأل المسيح أن يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله في ملكوت الله. " حينئذ تقدمت إليه أم ابني زبدي مع ابنيها وسجدت وطلبت منه شيئًا، فقال لها: ماذا تريدين؟ قالت له: قل أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن يسارك في ملكوتك. فأجاب يسوع وقال: لستما تعلمان ما تطلبان، أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا. قالا له: نستطيع. فقال لهما أما كأسي فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان، وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعد لهم من أبي. فلما سمع العشرة اغتاظوا من أجل الأخوين " (متى 20: 20- 24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بل إن جميع التلاميذ كانوا يبحثون عن المنفعة الشخصية، فها هو ذا بطرس زعيمهم يتحدث بالنيابة عنهم إلى المسيح، ويقول عنه الإنجيل: " فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا، فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تَبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًّا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر " (إنجيل متى 19: 27-29) . اثنا عشر كرسيًّا. . . بعدد الرسل الاثني عشر. . . .! أنسي كتبة الأناجيل. . أن يسقطوا (يهوذا) الخائن. . . من حكاية (الكراسي) ! إذًا (فيهوذا الأسخريوطي) ما زال محتفظًا بكرسيه. . رغم كل شيء!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الخمر بين يدي سؤال عن الخمر -يقول: الخمر محرم في القرآن الكريم، ولكنه غير محرم في الإنجيل، فكيف تفسرون ذلك؟ وهل هناك آية في القرآن تحرم الخمر؟ ولقد ذكرنا السؤال بنصه، وإن كان هناك تعارض بين صدره وعجزه!! ونقول في الجواب: إن الله سبحانه وتعالى حرم الخمر في القرآن الكريم، وقد نزل في ذلك آيات: قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (3) روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب أنه قال: " اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فإنها تذهب بالمال والعقل فنزلت هذه   (1) سورة البقرة، آية 219. (2) سورة النساء، آية 43. (3) سورة المائدة، الآيتان 90، 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الآية يسألونك عن الخمر والميسر فدعى عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية في سورة النساء يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان منادي الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: ألا لا يقربن الصلاة سكران. فدعى عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية في سورة المائدة، فدعى عمر فقرئت عليه فلما بلغ فهل أنتم منتهون قال عمر: انتهينا، انتهينا ". روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: " اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، كان رجل ممن كان قبلكم متعبد فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل بابًا أغلقته دونه. حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمر كأسًا، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقيني من هذه الخمر كأسًا، فسقته، قال: زيدوني، فزادوه، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه ". والخمر، سميت بهذا الاسم لأنها تستر العقل وتغطيه، كما ذكره الزجاج، وقال ابن الأنباري: سميت خمرة لأنها تخامر العقل؛ أي: تخالطه، يقال: خامره الداء إذا خالطه. ولا شك أن العقل أثمن وأغلى شيء في الإنسان، فإذا فقد الإنسان العقل فماذا يكون قد بقي له؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 يقول أحد الشعراء المخمورين: لا يلد السكر حتى ... يأكل السكران نعله ويرى القطة فيلًا ... ويظن الفيل نمله قال القرطبي: (إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء فيلعب ببوله وعذرته، وربما يمسح وجهه حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله، ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله كما أكرمتني ". هذا عرض سريع وموجز لما جاء في القرآن الكريم والسنَّة المطهرة حول تحريم الخمر. . بقي أن نتوقف عند النصوص الكتابِيَّة لننظر ماذا جاء فيها عن الخمر، وتحريمها: " الخمر مستهزئة، المسكر عجاج، ومن يترنح بهما فليس بحكيم " (سفر الأمثال 20: 1) . " لمن الويل، لمن الشقاوة، لمن المخاصمات، لمن الكرب، لمن الجروح بلا سبب، لمن ازمهرار العينَيْن، للذين يدمنون الخمر، الذين يدخلون في طلب الشراب المموج. لا تنظر إلى الخمر- إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة. في الآخر تلسع كالحية، وتلدغ كالأفعوان. عيناك تنظران الأجنبيات، وقلبك ينطق بأمور ملتوية، وتكون كمضطجع في قلب البحر، أو كمضطجع إلى رأس سارية. يقول: ضربوني ولم أتوجع، لقد لكأوني ولم أعرف. متى أستيقظ أعود أطلبها بعد " (سفر الأمثال 33: 29 -35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 " ويل للأبطال على شرب الخمر ولذوي القدرة على مزج السكر " (سفر أشعياء 5: 22) . " ولكن هؤلاء أيضًا ضلوا بالخمر- وتاهوا بالمسكر، الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر ابتلعتهما الخمر، تاها من السكر، ضلا في الرؤيا، قلقا في القضاء، فإن جميع الموائد امتلأت قيئًا وقذرًا " (سفر أشعياء 28: 7- 8) . " الزنى والخمر والسلافة تخلب القلب " (سفر هوشع 4: 11) . ولم يكن يسمح للنذير بأن يشرب منه مدة نذره: " وكلَّم الرب موسى قائلًا: كلِّم بني إسرائيل وقل لهم: إذا انفرز رجل أو امرأة لينذر نذر النذير لينتذر للرب فعن الخمر والميسر يفترز ولا يشرب خل الخمر ولا خل المسكر ولا يشرب من نقيع العنب ولا يأكل عنبًا رطبًا ولا يابسًا. كل أيام نذره لا يأكل من كل ما يعمل من جفنة الخمر من العجم حتى القشر " (سفر العدد 6: 1- 4) . ولم يكن يسمح للكاهن بأن يشرب منه عند دخوله لخدمة المقدس. " وكلم الرب هارون قائلًا خمرًا ومسكرًا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا فرضًا دهريًّا في أجيالكم، وللتمييز بين المقدس والمحلل وبين النجس والطاهر " (سفر اللاويين 10: 8- 10) . وقد أعلن الكتاب المقدس أن الفقر في شرب الخمر. " محب الخمر والدهن لا يستغني " (سفر الأمثال 21: 17) . ونهى عن مجالسة من يشربون الخمر: " لا تكن بين شريبي الخمر، بين المتلفين أجسادهم؛ لأن السكير والمسرف يفتقران " (سفر الأمثال 23: 20- 21) . وقد نهى الكتاب عن السكر بالخمر وبيَّن أن السكر خطيئة: " فإن حنة كانت تتكلم في قلبها وشفتاها فقط تتحركان وصوتها لم يسمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 إن عالي ظنها سكرى. فقال لها عالي: حتى متى تسكرين؟ انزعي خمرك عنك. فأجابت حنة وقالت: لا يا سيدي إني امرأة حزينة الروح ولم أشرب خمرًا ولا مسكرًا بل أسكب نفسي أمام الرب لا تحسب أمتك ابنة بليعال؛ لأني من كثرة كربتي وغيظي قد تكلمت إلى الآن " (سفر صموئيل الأول 1: 13-16) . وفيه تهديد وتنديد بشارب الخمر: " ويل للمبكرين صباحًا يتبعون السكر، للمتأخرين في العتمة تلهيهم الخمر. وصار العود والرباب والدف والناي والخمر ولائهم وإلى فعل الرب لا ينظرون، وعمل يديه لا يرون، لذلك سبي شعبي لعدم المعرفة، وتصير شرفاؤه رجال جوع، وعامته يابسين من العطش، لذلك وسعت الهاوية نفسها وفغرت فاها بلا حد فينزل بهاؤها وجمهورها وضجيجها والمبتهج فيها، ويذل الإنسان ويحط الرجل وعيون المستعلين توضع " (سفر أشعياء 5: 11- 1) . و (ذا تركنا (العهد القديم) ونصوصه. . . وولينا وجوهنا شطر (العهد الجديد) ونصوصه. . . وجدنا أن الكتابَيْن تطابقا وتوافقا على تحريم الخمر وذمها. ففي رسالة بولس الأول إلى أهل كورنثوس، يقول: " وأما الآن فكتبت إليكم إن كان أحد مدعو أخًا زانيًا أو طماعًا أو عابد وثن أو شتامًا أو سكيرًا أو خاطفًا أن لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا " (11: 5) . وفي رسالة كورنثوس الأولى -أيضًا- (الإصحاح 6، العدد 9، 10) : " لا تضلوا، لا زناة، ولا عبدة أوثان، ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وفي رسالة بولس إلى أهل غلاطية (الإصحاح الخامس، العدد 19 وما بعده) : " وأعمال الجسد ظاهرة التي هي: زنى عهارة نجاسة دعارة عبادة الأوثان سحر عداوة خصام غيرة سخط تحزب شقاق بدعة حسد قتل سكر بطر وأمثال هذه التي أسبق فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضًا إن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله ". وفي رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس (الإصحاح 5: 18) : " ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح ". وفي رسالة بطرس الأول (الإصحاح 4، العدد 3) : " لأن زمان الحياة الذي مضى يكفينا لنكون قد عملنا إرادة الأمم سالكين في الدعارة والشهوات وإدمان الخمر والبطر والمنادمات وعبادة الأوثان المحرمة ". هذه هي الخمر في (العهد القديم) . وهذه هي الخمر في (العهد الجديد) . ولكننا نصاب بذهول لا ينتهي، حينما نقرأ الإصحاح الثاني من إنجيل يوحنا (العدد 1 وما بعده) . إن هذا الإنجيل يقدم لنا باكورة معجزات المسيح، فإذا بها تحويل الماء إلى خمر!! يقول الإنجيل: " وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك. ودعي أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر. قال لها يسوع ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد. قالت أمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 للخدام: مهما قال لكم فافعلوه. وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة قال لهم يسوع: املأوا الأجران ماء فملأوها إلى فوق، ثم قال لهم: استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ. فقدموا. فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرًا ولم يكن يعلم من أين هي. لكن الخدام كانوا قد استقوا الماء علموا، دعا رئيس المتكأ العريس وقال له: كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولًا، ومتى سكروا فحينئذ الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن. هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه ". بل إن إنجيل يوحنا يفاجئنا، ويا هول ما يفاجئنا به، يفاجئنا بالمسيح في حالة سكر شديد. . وقد تعرى من ملابسه ولنترك للإنجيل يحدثنا حديثه: " قام عن العشاء، وخلع ثيابه، وأخذ منشفة واتزر بها. ثم صب الماء في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان يتزر بها " (إِنجيل يوحنا 13: 4-5) . وهذا النص تحوطه مجموعة ضخمة من علامات الاستفهام. . والتعجب. . ولكننا لن نناقش هذا النص. . وإنما سنكتفي بعرضه. . بعيدًا عن أي تعقيب أو تعليق. . غير أننا سنترك أحد المعلقين المسيحيين (فندر - صاحب كتاب ميزان الحق) (1) ليقول: " هذا يوهم أن عيسى عليه السلام كان قد سرت فيه الخمرة حتى لم يكن يدري ما يفعل، فإن غسل الأقدام لا يوجب التجرد من الثياب ". وينتهي كلام المتحدث الرسمي. . . أما أنا فأقول، إنه كلام على طريقة: " يقول المريب خذني ".   (1) راجع إظهار الحق لرحمة الله الهندي 2 / 573. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ثم أختم هذا الحديث عن الخمر بنصين من نصوص أسفار (العهد الجديد) . . . وما أكثر نصوص أسفار العهد الجديد. يقول النص الأول: " لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزًا ولا يشرب خمرًا فتقولون به شيطان. جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر " (إنجيل لوقا 7: 23-24) . ويقول النص الثاني، وهو متمم لهذا النص ومكمل له: " وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه فدخل بيت الفريسي واتكأ وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي جاءت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب، فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك تكلم قي نفسه قائلًا: لو كان هذا نبيًّا لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هي أنها خاطئة " (إنجيل لوقا 7: 36-39) . ثم يستمر النص فيقول: " ثم التفت إلى المرأة وقال لسمعان: أتنظر هذه المرأة؟ إني دخلت بيتك وماء لأجل رجلي لم تعط. وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتها بشعر رأسها. قبلة لم تقبلني وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي من أجل ذلك، أقول لك قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا " (إنجيل يوحنا 7: 44- 47) . ثم يمضي (العهد الجديد) في عرض نصوصه (المقدسة) !! ونتوقف لننتقل بالحديث إلى موضوع آخر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الخنزير يقول سؤال عن الخنزير: لماذا يحرم القرآن لحم الخنزير؟ وهل هناك آية تحرم ذلك؟ ونقول في الجواب: إن في القرآن الكريم لآيات تحرم الخنزير تحريمًا قاطعًا. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4)   (1) سورة البقرة، الآيتان 172، 173 (2) سورة المائدة، آية 3 (3) سورة الأنعام، آية 145 (4) سورة النحل، الآيتان 114، 115 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ويتردد هنا تساؤل عن السر في تحريم الخنزير، فكتب البعض -مشكورين- مقالات قيمة، ودراسات ممتعة، عن أسباب التحريم من وجهة النظر الصحية والطبية، فأكدوا أن لحم الخنزير مرتع للميكروبات والجراثيم الفتاكة، كالدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة. وقد عارض آخرون بأنه يمكن استخدام حرارة شديدة عند إنضاج لحمه لقتل هذه الدودة والقضاء عليها. ورد هؤلاء الباحثون على هؤلاء المعارضين، إننا اكتشفنا هذه الديدان بعد أحقاب متطاولة من تحريم الله للخنزير. . . فمن يدرينا بعد أحقاب أخرى ماذا نكتشف أيضا! إن الله- جلت مشيئته وحكمته- وفر على الإنسان الجهد المضني، وهداه إلى ما ينفعه في دينه ودنياه. . . وحذره مما يضره في دينه ودنياه! ولكن. . . لا ينبغي أن يدفعنا البحث عن علة التحريم. . إلى تجاهل أمر هام. . . وهام جدًّا. . . ذلك هو: أن الحلال حلال لله، وأن الحرام حرامه،. . . وأن النص الصحيح له هيمنته على كل اجتهاد وكل بحث وكل تعليل. إن خطيئة آدم الأولى التي كانت سببًا في خروجه من الجنة. . . إنما هي أكله من شجرة محرمة. . . ما كان يعرف العلة في تحريمها. . . لم يقف عند نهي الله وتحذيره. إن ما حدث من آدم، وما حدث له. . . ينبغي أن نضعه نصب أعيننا ونحن نناقش قضايا الحلال والحرام!! حتى لا تختلط في نظرنا السبل، أو تزل بنا الأقدام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 و (القرآن الكريم) ليس هو الكتاب الوحيد الذي يؤكد النهي عن لحم الخنزير. . ويشدد في حرمته. . . وإنما هذه نصوص الأسفار قديمها وجديدها، تؤكد هذا وتقرره. الخنزير محرم؛ لأنه لا يجتر: " وكلم الرب موسى وهارون قائلًا لهما: كلِّما بني إسرائيل قائلين: هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم التي على الأرض. كل ما شق ظلفًا وقسمه ظلفين، ويجتر من البهائم فإياه تأكلون إلا هذه فلا تأكلوها مما يجتر ومما يشق الظلف، الجمل لأنه مجتر لكنه لا يشق ظلفًا فهو نجس لكم. والوبر لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفًا فهو نجس لكم. والأرنب لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفًا فهو نجس لكم. والخنزير. لأنه يشق ظلفًا ويقسمه ظلفين لكنه لا يجتر فهو نجس لكم. من لحمها لا تأكلوا، وجثثها لا تلمسوا إنها نجسة لكم " (سفر اللاويين 11: 1-8) . " لا تأكل رجسًا ما. هذه البهائم التي تأكلونها. البقر والضأن والمعز والإبل والظبي واليحمور والوعل والرئم والتيتل والمهاة. وكل بهيمة من البهائم تشق ظلفًا وتقسمه ظلفين وتجتر فإياها تأكلون. إلا هذه فلا تأكلوها مما يجتر وما يشق الظلف المنقسم. الجمل والأرنب والوبر لأنها تجتر لكنها لا تشق ظلفًا فهي نجسة لكم. والخنزير لأنه يشق الظلف لكنه لا يجتر فهو نجس لكم. فمن لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا " (سفر التثنية 14: 3-8) . يقول قاموس الكتاب المقدس تعليقًا على هذا النص (1) : " وذلك لأنه قذر ولا يجتر طعامه ويولد لحمه بعض الأمراض إذا لم   (1) ص305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 ينضج عند طبخه. وكان محرمًا على العرب تربيته. وقد حرم القرآن أكله كما حرمته التوراة. وقد حسبه الفينيقيون والأثيوبيون والمصريون نجسًا مع أنهم في مصر كانوا يقدمون خنزيرًا ذبيحةً في العيد السنوي لإله القمر ولأوزوريس باخوس. ومع ذلك فإنه كان يتحتم على من يلمس خنزيرًا ولو عرضًا أن يغتسل ولم يكن يسمح لراعي الخنزير أن يدخل الهيكل ولم يكن يتزوج إلا من بنات الرعاة مثله؛ لأن أحدًا لا يرضى أن يزوج ابنته من راعي الخنازير " (1) . والخنزير قذر: " خزامة ذهب في قنطيسة خنزيرة، المرأة الجميلة العديمة العقل " (سفر الأمثال 11: 22) . وإذا تركنا أسفار (العهد القديم) . . وانتقلنا إلى أسفار (العهد الجديد) . . فإننا نجدها تقول: " لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير " (إنجيل متى 67) . " قد أصابهم ما في المثل الصادق كلب قد عاد إلى قيئه، وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة " (رسالة بطرس الرسول الثانية 2: 22) . وتقرر أسفار العهد الجديد أن رعي الخنازير أحط المهن وأدناها لا يقربها إلا الفقراء المعدمون. " وقال إنسان كان له ابنان، فقال أصغرهما لأبيه يا أبي أعطني القسم الذي يصيبني من المال. فقسم لهما معيشته. وبعد أيام ليست بكثيرة جمع   (1) راجع هيرودتس (جـ 2، ص 47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة، وهناك بذر ماله بعيش مسرف. فلما أنفق كل شيء حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازيره " (إنجيل لوقا 15: 11-15) . " وكان هناك عند الجبال قطيع كبير من الخنازير يرعى. فطلب إِليه كل الشياطين قائلين أرسلنا إلى الخنازير لندخل فيها. فأذن لهم يسوع للوقت فخرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير " (إنجيل مرقس 5: 11-13) . على أن هناك حقيقة ينبغي أن تكون نصب أعيننا، هي أن المسيح جاء مقررًا للتوراة ومؤكدًا لما جاء فيها: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل " (إنجيل متى 5: 17-18) . هكذا تكلم المسيح. . . فكيف تكلم بطرس. . .! ؟ بطرس فتح الباب على مصراعيه، فأحل كل حرام، ونقض الناموس. وقد سبق أن عرضنا رأي النصارى في المحرمات عند الحديث عن النسخ -ونضيف هنا- حديث ملاءة بطرس: " ثم في الغد فيما هم يسافرون ويقتربون إلى المدينة صعد بطرس على السطح ليصلي نحو الساعة السادسة. فجاع كثيرًا واشتهى أن يأكل وبينما هم يهيئون له وقعت عليه غيبة، فرأى السماء مفتوحة وإناء نازلا عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدلاة على الأرض، وكان فيها كل دواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء، وصار إليه صوت قم يا بطرس اذبح وكل، فقال بطرس: كلا يا رب لأني لم آكل شيئًا دنسًا أو نجسًا. فصار إليه أيضًا صوت ثانية ما طهره الله لا تدنسه أنت. وكان هذا ثلاث مرات ثم ارتفع الإناء أيضًا إلى السماء " (أعمال الرسل 10: 9- 16) . هكذا. . هكذا. . كل دواب الأرض. . حتى الوحوش والزحافات والخنازير. . . لم يعد شيء حرامًا. . .! ولكنه (بطرس) وبطرس من حقه أن يحل ما يشاء، وأن يحرم ما يشاء. . . . فإرادة الله تابعة لإرادته- ألم يقل الله له: " أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السماء، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السماوات " (إنجيل متى 16: 18- 19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الروح القدوس في الأسئلة المقدمة سؤال عن (الروح القدس) وما جاء في القرآن الكريم والتأييد، ويراد بها الملك. والمضاف إلى الله تعالى نوعان: فإن المضاف: إما أن يكون صفة لا تقوم بنفسها كالعلم والقدرة والكلام والحياة. وإما أن يكون عينًا قائمة بنفسها. فالأول: إضافة صفة، كقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، حديث الاستخارة: " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم. . الحديث " (4) . والثاني: إضافة عين، كقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (5) وقوله: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} (6)   (1) سورة البقرة، آية 255. (2) سورة الذاريات، آية 58. (3) سورة فصلت، آية 15. (4) حديث الاستخارة: «إذا هم أحدكم بالأمر. .» أخرجه البخاري في التهجد 25، وأصحاب السنن، وأحمد في المسند 3 / 344. (5) سورة الحج، آية 26. (6) سورة الشمس، آية 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 وقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (1) فالمضاف في النوع الأول: صفة الله قائمة به ليست مخلوقًا له بائنًا عنه. والمضاف في النوع الثاني: مملوك لله مخلوق له بائن عنه، لكنه مفضل مشرف لما خصه الله به من الصفات التي اقتضت إضافته إلى الله تبارك وتعالى. كما خص ناقة صالح عليه السلام من بين النوق. وكما خص بيته بمكة من بين البيوت، وكما خص عباده الصالحين من بين الخلق. ومن هذا الباب قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} (2) وهذا الروح وصفه الله بأنه تمثل لها بشرًا سويًّا، وأنها استعاذت بالله منه إن كان تقيًّا، وإنه قال لها {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} وهذا كله يدل على أنها عين قائمة بذاتها. وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أنه نفخ في مريم من روحه، قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (4) كما ذكر الله تعالى تأييده لعيسى عليه السلام بروح القدس في عدة مواضع: فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (5)   (1) سورة الإنسان، آية 6. (2) سورة مريم، آية 17. (3) سورة الأنبياء، آية 91. (4) سورة التحريم، آية 12. (5) سورة البقرة، آية 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (1) وقال تعالى: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} (2) وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد قال ذلك عن عيسى عليه السلام، فلقد قاله عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعن القرآن الذي أنزل عليه. قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (4) وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (5) فروح القدس الذي نزل بالقرآن من الله، هو الروح أمين، وهو جبريل عليه السلام.   (1) سورة البقرة، آية 253. (2) سورة المائدة، آية 110. (3) سورة النحل، الآيتان 100، 101. (4) سورة الشعراء، الآيات 192-194. (5) سورة البقرة، آية 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 بقي أن نقول: إن قوله تعالى: {فنفخنا فيها من روحنا} (1) هو نظير قوله تعالى عن آدم عليه السلام: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (2) وقد شبه الله المسيح بآدم في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) أضغاث أحلام: هذا ما جاء في القرآن الكريم (ومفرداته) عن الروح القدس. . .! أما ما جاء في (الكتاب المقدس) عن هذه المفردة ذاتها. . .! فإن بولس يقرر كيفية تدوين التوراة والإنجيل إذ يقول: " كل الكتاب هو موحى به من الله " (الرسالة الثانية إلى تيموثاوس، 3: 16) ، وعندما نتتبع كيفية هذا الإيحاء نجده -عنده- وقوع الإنسان في غيبوبة (فيقرر لوقا في سفر " أعمال الرسل " وقوع بولس في غيبولة قائلًا) : " وحدث لي بعد ما رجعت إلى أورشليم وكنت أصلي في الهيكل أني حصلت في غيبوبة فرأيته قائلًا. . . . اذهب فإني أرسلك إلى الأمم بعيدا " (أعمال الرسل 17: 22- 21) . وشق بولس طريقه بإنجيل يغاير إنجيل المسيح قائلًا: " صعدت بموجب إعلان وعرضت عليهم الإنجيل الذي أكرز به بين الأمم، ولكن بالانفراد على المعتبرين " (غلاطية 2: 2) . ويستهين بتلاميذ المسيح قائلًا: " وأما المعتبرون أنهم بشيء مهما كانوا لا فرق عندي الله لا يأخذ بوجه إنسان. فإن هؤلاء المعتبرين لم يشيروا عليَّ بشيء. بل بالعكس إذ رأوا أني اؤتمنت على إنجيل الغرلة كما بطرس على   (1) سورة الأنبياء، آية 91. (2) سورة الحجر، آية 29. (3) سورة آل عمران، آية 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 إنجيل الختان. فإن الذي عمل في بطرس لرسالة الختان عمل فيَّ أيضًا للأمم. فإذا علم بالنعمة المعطاة لي يعقوب وصفا ويوحنا المعتبرون أنهم أعمدة أعطوني، وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم وأما هم فللختان (غلاطية 6: 2-10) . وهكذا سلخ بولس رسالة المسيح من أصالتها المؤسسة على التوراة والمتممة لها كما قال السيد المسيح: " ما جئت لأنقض بل لأكمل " (متى 17: 5) إلى نصرانية تستمد أصولها من الفلسفات الإغريقية. " والأعجب من ذلك أن بطرس يقرر حقيقة تدوين الأسفار المقدسة بقوله: " لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس " (رسالة بطرس الثانية 1: 21) . وبالبحث لاستجلاء كيفية تلقي بطرس للوحي، يقول لوقا عن بطرس: " صعد بطرس إلى السطح ليصلي نحو الساعة السادسة فجاع كثيرًا واشتهى أن يأكل، وبينما هم يهيئون له وقعت عليه غيبة " (أعمال الرسل 10: 9، 10) . فماذا نجم عن هذه الغيبوبة: (يقرر لوقا قائلًا: " وأما أنا فقد أراني الله أن لا أقول عن إنسان ما أنه دنس أو نجس " (أعمال الرسل 10: 28) . ومن العجيب أن بطرس لما رأى إيمان الأمم بالمسيح نبيًّا رسولًا، وحلول موهبة الروح القدس عليهم " أمر أن يعتمدوا باسم الرب " (أعمال الرسل 10: 48) وهذا فيلبس واحد من التلاميذ كان يعمد باسم الرب: " ولكن لما صدقوا فيلبس وهو يبشر بالأمور المختصة بملكوت الله وباسم يسوع المسيح اعتمدوا " (أعمال الرسل 8: 12) . لقد كانت الدعوة: التبشير بالأمور المختصة بملكوت الله وهي في الحقيقة التبشير بالإسلام دين الله الذي ارتضاه الله للإنسانية كافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 من هنا نرى التناقض البارز في وجهة نظر بولس الذي قال: " ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبا " (1 كو 1: 23) فمتى كان المسيح مصلوبًا؟ وهذا ما سندحضه بالحجة البالغة. ولنترك بولس وبطرس في تناقضاتهما ونتساءل ما هي الحقيقة القانونية للأناجيل. أهو موحى به من الله؟ أم هو من إعداد تلاميذ المسيح؟ يجيب عن هذا التساؤل لوقا قائلًا: " إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا منذ البدء كما سلَّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخُدَّامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علّمت به " (لوقا 1: 1- 4) ويقر يوحنا قائلًا: " وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدّام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب " (يوحنا 30: 20) فالأناجيل تؤكد نجاة السيد المسيح من الصلب فالموت. وهنا نقف هنيهة لنتساءل: ألا يمكن اعتبار قول بولس " ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبا " واحدةً من (غيبوبياته) . يقول يوحنا في إنجيله: " فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم من تطلبون أجابوه يسوع الناصري. قال لهم يسوع أنا هو. وكان يهوذا مسلّمه أيضًا واقفًا معهم. فلما قال لهم إني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض " (18: 4- 6) . وهنا نتساءل في تعقل وتدبر: ما الذي أفزعهم، إذ رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض وهم مسلحون وهو أعزل؟ لا بد أن تكون ظاهرة كونية قذفت في قلوبهم الرعب. فلو أضفنا قرينة واردة في إنجيل لوقا بشأن مولد المسيح قائلة: " وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 رعيتهم. وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفًا عظيمًا. فقال لهم الملاك: لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، إنه وُلِد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب " (إنجيل لوقا 8: 2- 11) . فلنأخذ القرينة الواردة في العدد التاسع من الإصحاح الثاني من إنجيل لوقا التي تقول: " وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفًا عظيما " ولنضعها بعد قول السيد المسيح: " إني أنا هو " من العدد السادس من الإصحاح الثامن عشر من إنجيل يوحنا ولنكتب النص بعد إضافة المحذوف: " فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم من تطلبون أجابوه يسوع الناصري قال لهم يسوع أنا هو. وكان يهوذا مسلّمه أيضًا واقفًا معهم فلما قال لهم إني أنا هو إذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفًا عظيمًا فرجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض " (إنجيل يوحنا 4: 18- 6) و (إنجيل لوقا 9: 2) . في هذه اللحظات اقتاده الروح القدس إلى مكان آمن كما سبق أن اقتاده في البرية حسب رواية لوقا قائلًا: " أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس، وكان يقتاد بالروح فيِ البرية " (إنجيل لوقا 4: 1) . وإليكم الأدلة الدامغة على نجاة السيد المسيح فيروي لوقا هذيان المقبوض عليه: " ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب رؤساء الكهنة والكتبة وأصعدوه إِلى مجمعهم قائلين إن كنت أنت المسيح فقل لنا. فقال لهم إن قلت لكم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسًا عن يمين قوة الله " (لوقا 66: 22- 69) . ودليل آخر صرخات المصلوب حسب رواية متى: " ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلًا: إيلي إيلي لما شبقتني؟ أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟ " (متى 46: 27) . بينما السيد المسيح كان مطمئنًا إلى عون الله إذ قال: " والذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " (إنجيل يوحنا 29: 8) . برهان آخر حيث تنبأ السيد المسيح عن تخلي تلاميذه عنه وهروبهم عند الشدة: " هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته. وتتركونني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي " (إنجيل يوحنا 16: 32) . ويروي متى حادثة هروب التلاميذ قائلًا: " حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا " (متى 56: 26) . هل لاحظتم في رواية يوحنا ما قاله؟ " فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه " (إنجيل يوحنا 4: 18) . ا- لقد أعلمه الله بنوايا مسلّمه حيث قال: " إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلّم ابن الإنسان كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد، فأجاب وقال: هل أنا هو يا سيدي قال له أنت قلت " (متى 25: 26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 2- تحدى اليهود الذين تآمروا على قتله قائلا: (أرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خدامًا ليمسكوه فقال لهم يسوع أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد ثم أمضي إلى الذي أرسلني. ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، (إنجيل يوحنا 7: 32- 34) . وقال السيد المسيح مؤكدًا قوله قائلًا: " قال لهم يسوع أيضًا أنا أمضي وستطلبونني وتموتون في خطيتكم. حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا. فقال اليهود ألعلّه يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا " (إنجيل يوحنا 8: 31-32) ويؤكد هذا القول لتلاميذه قائلًا: " يا أولادي أنا معكم زمانًا قليلًا بعد. ستطلبونني وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا " (إنجيل يوحنا 33: 13) . هذا هو السيد المسيح الذي رفعه الله إليه، وحمدًا لله أنه في قرآنه الكريم حسم هذه القضية بقوله سبحانه وتعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) إذن فقضية الصلب قضية باطلة، وكل ما بني على باطل فهو باطل. فماذا يقول (بولس) الذي يكرز بالمسيح مصلوبا؟ ما أصدق قول تولستوي الذي أنكر تأليه السيد المسيح، والذي رأى أن بولس لم يفهم تعاليم السيد المسيح بل طمسها، وانحرف بها. فبعد أن كانت امتدادًا لشريعة الله التي أنزلها الله على عبده ونبيه موسى. أصبحت تعاليم   (1) سورة النساء، آية 157، 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 هيلينية ممتدة في عمق فلسفة الإغريق (وقرر أن الأقوال الواردة في العهد القديم عن السيد المسيح لا تدل على أنه هو الله ولا هو ابن الله حقيقة. كما أعلن تولستوي بجرأة أن كتاب العهد الجديد قد حرّف وعراه التغيير والتبديل. بقي أن نطرح هذا السؤال الأخير: من هو الروح القدس؟ ونجيب عليه من النصوص الكتابِيَّة: يقول لوقا في إنجيله بشأن مريم العذراء: " وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف. واسم العذراء مريم. فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيتها المنعم عليها. الرب معك. مباركة أنت في النساء " (لوقا 1: 26- 28) . ويقول لوقا في إنجيله بشأن يحيى بن زكريا: " فقال له الملاك: لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك اليصابات ستلد لك ابنًا وتسميه يوحنا. ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته لأنه يكون عظيمًا أمام الرب وخمرًا ومسكرًا لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس " (لوقا 1: 13- 15) . ويقول لوقا في إنجيله بشأن حمل السيدة العذراء: " فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا فأجاب وقال لها: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك. . . " (لوقا 1: 34، 35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 ويقول لوقا في إنجيله بشأن العمل والولادة بإرادة الله وأمره فلا يستحيل على الله شيء: " وهو ذا أليصابات نسيبتك هي أيضًا حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرًا. لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله " (لوقا 1: 36، 37) . وفي العهد القديم ارميا يمتلئ بالروح القدس في بطن أمه: " فكانت كلمة الرب إليّ قائلًا: قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيًّا للشعوب " (ارميا 1: 4) قدستك أي تمتلئ بالروح القدس. الروح القدس يهدي بني إسرائيل إلى أرض كنعان: " ها أنا أرسل ملاكًا أمام وجهك ليحفظك في الطريق وليجيء بك إلى المكان الذي أعددته احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه. لأنه لا يصفح عن ذنوبكم لأن اسمي فيه " (خروج 23: 20، 21) . في هذا المعنى (لا تتمرد عليه لأنه لا يصفح عن ذنوبكم لأن اسمي فيه) قال السيد المسيح: (1) " أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس. وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي " (إنجيل متى 12: 31، 32) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 (2) ويروي لوقا مقالة السيد المسح قائلًا: " كل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأما من جدّف على الروح القدس فلا يغفر له ومتى قدّموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو بما تقولون. لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تَقولوه " (لوقا 10: 12- 12) . (3) ويروي متى في إنجيله مقالة السيد المسيح عن الروح القدس بأنه روح منبثق من الله: " فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم) (متى 10: 19، 20) . والسيد المسيح عليه السلام كان موصول الصلة بالسماء من المهد إلى صعوده إلى السماء: (1) بشارة الروح القدس بمولده: " قال لهم الملاك: لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب " (لوقا 2: 10، 11) . (2) نزول الروح القدس عليه عند المعمودية: " ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضًا. وإذ كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة " (لوقا 3: 21، 22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 (3) اقتياد الروح القدس له في البرية أثناء تجربة إبليس له: " أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس، وكان يقتاد بالروح في البرية " (لوقا 4: 1) . (4) الروح القدس يقوي المسيح أثناء الصلاة في بستان جشيماني: " وجثا على ركبتيه وصلى قائلًا يا أبتاه إن شئت أن تعبر عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك وظهر له ملاك من السماء يقويه " (لوقا 22: 41- 43) . والسيد المسيح يعد تلاميذه بحلول الروح القدس عليهم يوم الخمسين: " لكنكم ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض " (أعمال الرسل 1: 8) . والروح القدس يسكن قلب الإنسان المؤمن الورع مما يزيده طمأنينةً وسلامًا. فهذا داود نبي الله يتضرع إلى الله أن يثبت الروح القدس في قلبه قائلًا: " قلبًا نقيًّا اخلق فيَّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدد في داخلي. لا تطرحني من قدّام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني " (مزمور 51: 10، 11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وهذا شاول يتحول إلى إنسان آخر بمجرد مسحه وحلول الروح القدس عليه: " فأخذ صموئيل قنينة الدهن وصبَّ على رأسه وقبّله وقال أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسًا " (صموئيل الأول 10: 1) . " وكان عندما أدار كتفه لكي يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبًا آخر. . . فحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم " (صموئيل الأول 10: 9، 10) . شاول ينصرف عنه الروح القدس لأنه عصا ربه: " وذهب روح الرب من عند شاول وبغته روح رديء من قبل الرب " (صموئيل الأول 16: 14) . من هذا يتبين أن السيد المسيح إنسان وعبد من عباد الله، وأن الروح القدس ملك من الملائكة وأن الله- جلّت قدرته- ليس كمثله شيء. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (1)   (1) سورة الشورى، آية 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 كلمة الله فإن قال قائل: لماذا أطلق القرآن الكريم على عيسى عليه السلام، كلمة الله؟ قلنا له: المقصود بكلمة الله كلمة (كن) التي يخلق الله بها الأشياء، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) وكلمات الله لا نهاية لها، كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (2) وسمي المسيح كلمة الله، لأن الله كوَّنه (بكن) . قال تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) وقال تعالى في قصة بشارة مريم بالمسيح: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (4) وقال أيضًا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (5) وإنما خص المسيح عليه السلام بتسميته (كلمة الله) دون سائر البشر، لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات، فالفرد من ذرية آدم خلق   (1) سورة يس، آية 82. (2) سورة الكهف، آية 109. (3) سورة مريم، الآيتان 34، 35. (4) سورة آل عمران، آية 47. (5) سورة آل عمران، آية 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم نفخ فيه الروح، وخلق من ماء الأبوين: الأب والأم. والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء الرجل، بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به، وقال الله له كن فكان، ولهذا شبهه بآدم في قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) وتقول أسفار العهدين: هذا ما تحدث به القرآن الكريم: أما ما تحدثت به الأناجيل بل أسفار العهدين القديم والجديد، فقد جاء في إنجيل يوحنا: " في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله " (يوحنا 1: 1) . وجاء في الرسالة إِلى العبرانيين: " بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله حتى لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر " (العبرانيون 3: 11) . وجاء في رسالة بطرس الثانية: " السماوات كانت منذ القديم والأرض بكلمة الله قائمة من الماء وبالماء " (بطرس الثانية 3: 5) . وجاء في سفر المزامير: " بكلمة الله صنعت السماوات والأرض وبنسمة فيه كل جنودها " (6: 33) . تكررت (الكلمة) في مواضع أربعة واضحة جلية في النصوص سالفة الذكر. ونحن نعلم أن العهد الجديد كتب باللغة اليونانية ومن ثم فإن الكلمة اليونانية المرادفة هي (لوجوس) وهذه الكلمة لها أربع مرادفات هي: الكلمة،   (1) سورة آل عمران، آية 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 الأمر، العهد، الخبر. وهذه المرادفات تعني قدرة الله في أنه إذا أراد شيئًا إنما يقول له كن فيكون. مناقشة ما جاء في إنجيل يوحنا هذا النص هو إحدى الدعائم التي قامت عليهما عقيدة التجسيد عند النصارى، وهو الركيزة الأولى التي استند إليها دعاة التجسيد الأولون في تشكيل العقيدة النصرانية في إعطائها الصورة التي طلعت بها على الناس. لقد فهم دعاة النصرانية ومبشروها من هذا النص أن الكلمة هي الله. وأن الله هو الكلمة، وأن الكلمة قد خلق به كل شيء. وأنه صار جسدًا وحلّ بيننا في شخص المسيح الذي رآه الناس في عصره الذي ظهر فيه. في أرض اليهودية. وقام بدعوته في مواجهة اليهود، وطلع عليهم بمعجزاته التي اختلف الناس من أجلها في تصور حقيقته! ومفهوم هذا النص على هذا الوجه لا يسلّم به إلا مع كثير من التجوز الذي يخرج المنطق ويلغي العقل فهناك مثلًا: عبارة (في البدء كان الكلمة) . ونتساءل أي بدء تعني؟ ما حده الزمني؟ وإذا كان له حد زمني فهل يكون له متعلق بالله؟ وهل ذلك مما يليق بكمال الله الذي لا يحصره شيء. . زمانًا. . . ومكانا؟ فالله سبحانه أول بلا ابتداء. ثم العبارة (والكلمة كان عند الله) . فماذا تعني العندية هنا، وكيف يتفق أن تكون (الكلمة) بدءً بمعنى الأولوية المطلقة لم توصف بأنها كانت عند الله. ثم أخيرًا العبارة (وكان الكلمة الله) . كيف ترتفع العندية، ويكون الكلمة الله، لا عند الله هذا التناقض هو ما يعطيه هذا النص كما تنطق بذلك ألفاظه وعباراته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 فهل يرجع ذلك إلى التسامح في الترجمة وعدم دقتها؟ قد يكون. عملية تصويب بإضافة المحذوف لتصويب المعاني ولا تساق العبارة (في البدء كان الكلمة) وذلك في مفهوم الكلمة (الأمر) . فالأمر الإلهي كن فيكون تقرر (والكلمة كان عند الله) أي الأمر الإلهي كان أزلًا وأبدًا موصوفًا بها فهي من صفات الله الأزلية. (وكان الكلمة الله) فيه حذف المضاف -وهو سائغ شائع- أي (وكان رب الكلمة الله) فهو صاحب الأمر والنهي على الإطلاق. ثم قول يوحنا بعد ذلك (والكلمة صار جسدا) (يوحنا 1: 14) فيه حذف المضاف أيضًا أي (وأثر الكلمة صار جسدا) مثال ذلك جاء في سفر التكوين بشأن الخلق: " قال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها وكان كذلك ". (تكوين 1: 24) ، " وقال الله ليكن نور فكان نور " (تكوين 1: 3) . فالكلمة إذن هي الأمر الإلهي في قوله " لتخرج الأرض "، وقوله " ليكن نور " ويؤكد هذا ما جاء في الرسالة إلى العبرانيين " بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله " (3: 11) أي " بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بالأمر الإلهي " وما جاء في رسالة بطرس الثانية " الأرض بكلمة الله قائمة " (3: 5 أي " الأرض بأمر الله قائمة " وما جاء في المزامير " بكلمة الرب صنعت السماوات " (مزمور 33: 6) أي " بأمر الرب صنعت السماوات ". وعلى هذا فالمعنى صحيح وهو ما يجب حمل النص عليه. أما لو حملناها على ظاهرها قلنا: إن الكلمة هو الله كما هو منطوقها وأضفنا لهذا النص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 " والكلمة صار جسدًا " (يوحنا 1: 14) لاستحال ذلك لأن صيرورة الله جسدًا محال لتنزهه عن التغيير إذ المتغير حادث لا محالة ولصار النص مختل المبنى ركيك المعنى بل لا معنى له أصلًا، لأننا لو قرأناها مفسرة أي بجعل الكلمة الله كما يفسرونها على ظاهرها لكان منطوقها هذا: الله والله الله في البدء كان ـــ ـــ كان عند الله وكان ــــ الله الكلمة والكلمة الكلمة وأي معنى لهذا، ومع هذا فالآية لا تشير إلى السيد المسيح عليه السلام من بعيد أو قريب فأين لنا الاستدلال بها على ذلك؟ وليكن معلومًا أن إنجيل يوحنا هو الإنجيل الذي انفرد بين الأناجيل الأربعة باصطباغه بالصبغة اليونانية، ويأخذ بكثير من مقولات الفلاسفة اليونانيين. ولكن يقول قائل كيف نشأت نظرية التجسد والفداء؟ إنه بولس الذي اندس - داعيًا بتعاليم شديدة الكفر- كما قال ذلك عنه برنابا في افتتاحية إنجيله. اندس بين التلاميذ خلسة ويقرر لوقا عن ارتياب التلاميذ منه قائلًا: " ولما جاء شاول إلى أورشليم حاول أن يلتصق بالتلاميذ وكان الجميع يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ " (أعمال الرسل 26: 9) . هذا بولس الذي قال لتلميذه تيموثاوس: " وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله طهر في الجسد " (تيموثاوس أولى 16: 3) ، وقال في رسالته إلى أهل فيلبي: " فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا الذي إذا كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله. لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 عبد صائرًا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب " (فيلبي 2: 5- 8) . وهكذا انحرف بولس بدعوة المسيح دعوة التوحيد الامتداد الطبيعي للشريعة الموسوية إلى دعوة التثليث الامتداد الطبيعي لدين الإمبراطورية الرومانية الوثنية. المشركون والمسجد الحرام وفي الأسئلة سؤال يقول: (لماذا تمنع السلطات السعودية دخول المسيحيين في الأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية؟) . وهذا السؤال يحتاج إلى تصحيح: فالسلطات السعودية لا تمنع دخول المسيحيين أو غيرهم من المشركين إلا تنفيذًا لأمر الله، ونزولًا على حكمه. ولقد نزل في منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) يأمر الله تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين الذين هم نجس دينًا عن المسجد الحرام وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية. وكان نزولها في سنة تسع. ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا صحبة أبي بكر رضي الله عنه عامئذ وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان.   (1) سورة التوبة، آية 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 فأتم الله ذلك، وحكم به. قال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: " كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، واتبع نهيه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وقال عطاء: الحرم كله مسجد، لقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ودلت هذه الآية على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح: (المؤمن لا ينجس) وأما نجاسة بدن المشرك فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب. وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} . قال محمد بن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا: لتقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجاة، وليذهبن عنا ما كنا نصيب بها من المرافق، فأنزل الله {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وبعد: فهذه بعض الإجابات عن بعض الأسئلة: ولقد تركنا الإجابة المباشرة عن بعض الأسئلة، لأن الإجابة عليها وردت عرضًا في مواضع أخرى. . . من موضوعات أخرى. . .! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 خاتمة وقبل أن أفرغ من هذا اللقاء. . أحب أن أوجه حديثًا إلى جماهير المسلمين. . حول (تسلل أخلاق وعادات وسنن من قبلنا إلينا) . لتتبعن سنن ممن كان قبلكم أعدد في هذه الخاتمة صفات وسمات، حذرنا الله ورسوله منها، ونهانا أن نتورط فيها. . . ولن أسرف في التعقيب أو التعليق على الآيات أو الأحاديث.! فإن الآيات والأحاديث قادرة على أن تقول كل شيء. . . وليست في حاجة إلى إضافة أي شيء. .! أ- ما جاء في القرآن الكريم 1- الحسد: قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (1) ذم الله اليهود على الحسد الذي أكل قلوبهم، وأقض مضاجعهم، إذ منَّ الله على المؤمنين بالعلم النافع، والعمل الصالح. وقد يُبْتَلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن وفقه الله وهداه لعلم نافع، أو عمل صالح. 2- البخل: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (2)   (1) سورة البقرة، آية 109. (2) سورة النساء، الآيتان 36، 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 والبخل- هنا- يشمل البخل بالعلم والبخل بالمال، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر، فلذلك وصفهم بكتمان العلم في غير آية. كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (2) فوصف الله تعالى أهل الكتاب بأنهم يكتمون العلم، بخلًا به، وتارة حرصًا على الدنيا ومناصبها. وهذا المرض قد يبتلى به طوائف من المنتسبين إلى العلم، فإنهم تارة يكتمون العلم بخلًا به، أو كراهة أن ينال غيرهم من الفضل مثل ما نالوه، أو رغبة في دنيا، أو رهبة من الناس! وتارة يكون سبب كتمان العلم أن يكون العالم قد خالف غيره في مسألة، أو انتسب إلى طائفة قد خولفت في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفيه. وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل. ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي: " أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ". 3- معرفة الحق بالرجال: قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}   (1) سورة آل عمران، آية 187. (2) سورة البقرة، آية 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 بعد أن قال: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (1) وصفهم الله تعالى بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور النبي الناطق به، والداعي إليه، فلما جاءهم النبي الناطق به، ووجدوه من بني إسماعيل، وليس من بني إسرائيل لم ينقادوا له، ولم يؤمنوا به، فإنهم لا يقبلون الحق إلا من رجالهم، وبني جنسهم. وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى الطوائف والفرق!! يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق! 4- الغلو: قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (2) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (3) والغلو، وبخاصة في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من هذه الأمة، حتى زج بهم إلى متاهات وضلالات الحلول والاتحاد.   (1) سورة البقرة، الآيات 89-91. (2) سورة النساء، آية 171. (3) سورة المائدة، آية 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 5- الرهبانية: قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (1) وقد ابتلي بهذا الداء العياء جماهير من المبتدعين، أطلقوا على أنفسهم الزهاد أو العباد أو الفقراء، وحرَّموا على أنفسهم الطيبات من الرزق. 6- جعل حق التشريع لغير الله: قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (2) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه ذلك بأنهم (أحَلُّوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرَّموا عليهم الحلال فاتبعوهم) . وذلك نص ما جاء في كتبهم، فقد جاء في (الإصحاح 16: عدد 18، 19) : " وأنا أقول لك أيضًا أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السماوات ". وفي المنتسبين إلى الإسلام، من يجعلون حق التشريع لغير الله، من الشيوخ والرؤساء والآباء. . . فيقبلون منهم دون الرجوع إلى علم أو كتاب منير. 7- حكم الأغلبية: قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (3)   (1) سورة الحديد، آية 27. (2) سورة التوبة، الآيتان 30، 31. (3) سورة الكهف، آية 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وبحكم الأغلبية الجاهلية، التي لا ترجو لله وقارًا امتلأت مساجد المسلمين بالقبور، قبور الأنبياء والصالحين وغير الأنبياء والصالحين، بل ربما بالقبور الوهمية أحيانا! 8- احتقار ما عند الخصم: قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} (1) فاليهود اتهموا النصارى بأنهم ليسوا على شيء. . . أي شيء. والنصارى اتهموا اليهود بأنهم ليسوا على شيء. . أي شيء! وهذا أسلوب نعرفه في كل صاحب طريقة. . أو فرقة. . يزعم لنفسه ولأتباعه أن ما عليه هو الحق الذي لا يخالطه باطل، وأن ما عليه غيره هو الباطل الذي لا يخالطه حق. .! 9- الاختلاف بسبب البغي: قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (2)   (1) سورة البقرة، آية 113. (2) سورة الجاثية، الآيات 16-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 فهؤلاء هم بنو إسرائيل أنعم الله عليهم بنعم الدنيا والدين، فاختلفوا شيعًا وأحزابًا، يلعن بعضها بعضًا ويكَفِّر بعضها بعضًا. . . وهذا الاختلاف كان بعد العلم، وبدافع البغي والظلم، والعلو والغلو. فمن سلك سبيلهم، واقتفى أثرهم في بث الفرقة والشتات بين صفوف الموحدِّين، فهو منهم، ومصيره في الآخرة مصيرهم! 10- التفرق: قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (1) وهم اليهود والنصارى الذين افترقت كل أمة منهم على أكثر من سبعين فرقة نُهِي المسلمون عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة!! 11- البعد عن سبيل المؤمنين: قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) وما عليه اليهود والنصارى، ومن استن بهم، واقتفى آثارهم ليست من سبيل المؤمنين، وإنما هي سبيل المفسدين والمغضوب عليهم والضالين! 12- اتباع الهوى: قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ}   (1) سورة آل عمران، آية 105. (2) سورة النساء، آية 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 {الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ} {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (1) فكل ما خالف شرع الله وحكمه ودينه فهو هوى. . وليس بهدى. . .! وإن أدنى انحراف عن الصراط المستقيم يؤدي بصاحبه إلى الضلال. 13- قسوة القلب: قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (2) نهى سبحانه وتعالى عن مشابهة أهل الكتاب في قسوة قلوبهم، وقسوة القلوب من آثار المعاصي. هذا قل من كل، وغيض من فيض، مما جاء في القرآن الكريم. . . من حديث عن سلوك الذين سبقونا من أهل الكتاب، وسلوكهم في العقيدة والخلق والعلم. وفي هذه الآيات، وفي غيرها من نظائرها. . . تحذير لنا من التشبه بهم، حتى لا نتردى مثلهم في مهاوي الخيال، وسوء الحال والمآل!   (1) سورة المائدة، الآيتان 48، 49. (2) سورة الحديد، آية 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 ب- ما جاء في الحديث الشريف وإذا كان القرآن الكريم قد حذر وأنذر. . . من سلوك أهل الكتاب في العقائد أو الأخلاق أو العادات، فلقد بين الحديث النبوي الشريف كثيرًا من هذه الأمور التي ينبغي للمسلم أن يكون على وعي بها، وذكر لها!! 1- التقليد الأعمى: فمن هذه الأمور: التقليد الأعمى. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم، ذراعًا بذراع، وشبرًا بشبر، وباعًا بباع، حتى لو أن أحدًا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه، قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) قالوا: يا رسول الله، كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال: " فهل الناس إلا هم؟» رواه ابن جرير، وقال الحافظ ابن كثير وله شاهد في الصحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية، أنه قال: " ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم " رواه ابن جرير. وروى البغوي في تفسير الآية عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: " أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتًا وهديًا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري هل تعبدون العجل أم لا؟ "   (1) سورة التوبة، آية 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه؟ قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» . وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع. فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومَن الناس إلا أولئك» . 2- التنافس على الدنيا: عن عمرو بن عوف «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما صالح أهل البحرين، أمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: " أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال: أبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» ، رواه البخاري في الفتن. 3- الفتنة بالنساء: روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 4- كثرة السؤال: في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالإمساك عما لم يؤمروا به معلِّلًا ذلك بأن سبب هلاك الأولين، إنما كان كثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها. 5- التشدد: وروى أبو داود في سننه من حديث ابن وهب: أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} » (1) 6- الاختلاف في الكتاب: روى أحمد في المسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن نفرًا كانوا جلوسًا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بُعثتم؟ أن تضربوا كتاب   (1) سورة الحديد، آية 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم بمثل هذا، إنكم لستم مما ههنا في شيء، انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا به، والذي نهيتكم عنه فانتهوا عنه» . 7- التبرك بالأشجار والأحجار: روى الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي، أنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينيطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن قلتم، والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (1) ، لتركبن سنن من كان قبلكم» ، رواه مالك والنسائي والترمذي. 8- التفرقة العنصرية: في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لما كلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المخزومية التي سرقت قال: " يا أسامة تشفع في حد من حدود الله تعالى، إنما أهلك بني إسرائيل: أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» . وهذا يتفق مع ما في الصحيحين عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: «مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود، فدعاهم، فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلًا من   (1) سورة الأعراف، آية 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 علمائهم، قال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم (تسويد الوجه) والجلد مكان الرجم. فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» ، فأمر به فرجم فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ} (1) 9- اتخاذ القبور مساجد: روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي، قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» . وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا: «لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم - يعنيان: مرض الموت- طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال: - وهو كذلك-: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا. يحذر ما صنعوا» . وفي الصحيحين -أيضا- عن عائشة رضي الله عنها، «أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أولئك   (1) سورة المائدة، آية 41-وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح، بنَوْا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» ، رواه أهل السنن. 10- أعياد مبتدعة: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (1) فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ، قال: هو الشعانين. وكذلك ذكر عن مجاهد قال: هو أعياد المشركين. وروى أبو الشيخ الأصبهاني - بإسناده- عن عطاء بن يسار، قال: قال عمر: " إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم ". وأعياد المشركين، أعياد مبتدعة جمعت بين الشبهة والشهوة والباطل والهوى. روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيْد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد» ، متفق عليه. وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة عيدًا في غير موضع ونهى عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد.   (1) سورة الفرقان، آية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 11- الأبواق والنواقيس. . للعبادة: روى أبو داود في سننه وغيره من حديث هشيم، أخبرنا أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، قال: «اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكروا له القنع -شبور اليهود- فلم يعجبه ذلك وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكر له الناقوس، فقال: هو من فعل النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد، وهو مهتم لِهمِّ النبي صلى الله عليه وسلم فرأى الأذان في منامه، قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذا أتاني آت فأراني الأذان، قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا، قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما منعك أن تخبرنا؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله، قال: فأذن بلال» . فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بوق اليهود المنفوخ بالفم، وناقوس النصارى المضروب باليد. وهو يقتضي كراهية هذا النوع من الأصوات مطلقًا في غير الصلاة أيضًا، لأنه من أمر اليهود والنصارى كما يقول ابن تيمية في كتابه القيم: (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) . بناء الشخصية المسلمة: وإذا كنا قد نهينا عن التشبه بهم في عقائدهم، وأخلاقهم، وعباداتهم، وسلوكهم العام والخاص، فلقد نهينا كذلك عن التشبه بهم حتى في الأمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 الشكلية الظاهرية. . حتى تحتفظ الجماعة الإسلامية بشخصيتها المتميزة، التي لا تتميع ولا تذوب في الشخصيات الأخرى. . .! وهذا أمر هام في بناء الكيان المستقل والذات المتماسكة، والمجتمع القوي. . . وننقل -هنا- بعض ما رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد: 1- تغيير الشيب: في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» . قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب، ولا يتشبه بأهل الكتاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «غيروا الشيب ولا تشبهوا بأهل الكتاب» . 2 - إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب: في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، جزوا الشوارب، واعفوا اللحى» . وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب، وارخوا اللحى، خالفوا المجوس» . 3- الصلاة في النعال: وعن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم» ، رواه أبو داود ". 4- السحور: عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فضل ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور» رواه مسلم في صحيحه. 5- تعجيل الفطر: روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون» . 6- معاملة الحائض: عن حماد عن ثابت «أن أنس رضي الله عنه، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيت، فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} » (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. رواه مسلم. ويبلغ النهي عن التشبه باليهود والنصارى، ومن عداهم من أصحاب النحل والملل المخالفة لما عليه المسلمون: مداه ومنتهاه -حينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عنه أبو داود في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من تشبه بقوم فهو منهم» .   (1) سورة البقرة، آية 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 يقول عبد الله بن عمرو: " مَن بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت، حشر معهم يوم القيامة ". وقبل أن أنهي القول في هذا اللقاء أحب أن أسجل الكلمات التالية: إن (جهود التنصير) القائمة على قدم وساق في بلاد المسلمين، جهود تستدعي الدراسة، وتسترعي الانتباه، ذلك أن هذه الجهود المكثفة، المتواصلة. . . تلقي في طريق ضعاف الإيمان الشبهات والشكوك. . . وتصدهم عن دين الله، وعن هداه. إن هذه الجهود قامت، وتقوم بتحريف الكلم عن مواضعه، وتحريف الكلم عن مواضعه صناعة قديمة لأهل الكتاب جميعًا، قاموا بها بالنسبة لكتبهم، حتى غيروها وبدلوها لفظًا ومعنًى، ونصًّا وروحًا. وأهل الكتاب -من يهود ونصارى- يحاولون أن يقوموا بهذا الدور بالنسبة لكتاب-رَبِّنا-! وإذا كانوا قد يئسوا من تغيير النص المحفوظ في الصدور والسطور، فإنهم يطمعون في أن ينجحوا في إثارة الشبهات والشكوك في معاني الألفاظ ودلائل العبارات، وأصول الدين وفروعه. تلك عادة ألفوها. . .! فهم لا يكتبون عن الإسلام إلا بهذه الروح. يحسبون أن الأكاذيب هي خير طريق لاستقطاب المسلمين، وصرفهم عن حقائق الدين! وأقول: إن الأكاذيب لا تعيش، ولو عاشت فإنها لا تعمر طويلًا!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (1) إن على المسلمين أن ينتهبوا لهذه الحيلة والأحبولة. . فيتتبعون أكاذيب أهل الكتاب بالإزالة والإزاحة. . والمقاومة والمكافحة. وإذا كانت حركة التنصير تستهدف ضرب الإسلام في أرضه وبين أبنائه، بحيث تصبح الذراري المسلمة، نصرانية الاسم والوجه واللسان والكيان. .! وتستغل لهذا الغرض المشبوه بيئة معينة تسهل عليها هذه الحركة، وتلك البيئة تكون مصابة بالأمية، أو الفقر، أو المرض. .! فتقدم لهم العلم والخبز والدواء المشروط! فتسقط الضحايا، وتكون المأساة! هذا وجه من وجوه الحركة التنصيرية. . . أو التبشيرية حسب تسمياتهم، وما تواضعوا عليه! ولكن. . . هناك أوجه أخرى. . . ومنطلقات أخرى لذلك التحرك المشبوه. . ذلك أن هؤلاء الناس قد يتعبهم. . ويتعبهم جدًّا. . أن يجدوا من يغير اسمه من (محمد) إلى (بطرس) . ولهذا رأوا أن يستبقوا (لمحمد) اسمه. . اسمه فقط. . .! لكن يقومون بتغيير عقله، وقلبه، وخُلِقه، ودينه، ويقينه! فيصبح نصراني الكيان. . وإن لم يصبح نصراني الاسم! ولقد استغلوا لهذه الغاية، هذه المنطلقات: أ- الأمية الدينية، تلك التي تحول الإسلام إلى قبورية، وصوفية، وخرافة، ودجل، وشعوذة: ولهذا وجدنا (المحافل التبشيرية) تقدم الصورة الإسلامية من خلال هذا الركام. . وتعرضه على الناس في كتابات، ومصورات، وأفلام. . لتقول   (1) سورة الأنبياء، آية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 للناس هذا هو الإسلام الذي نحاربه ونريد أن نجهز عليه!! إننا نذكر ونحذر من هذه الأمية الدينية، فإنها أخطر الأميات جميعًا. . وعلى كل الأجهزة التربوية، مباشرة وغير مباشرة، في بلاد المسلمين. . أن تتنبه لها بالمقاومة. . . والتصحيح! ب- التدين الأعمى: كذلك فإن الدوائر التبشيربة، وتؤيدها جحافل الاستعمار قديمه وحديثه. . . تريد أن يغرق المسلمون حتى آذانهم. . . في هذا التدين الأعمى، الذي لم ينزل به كتاب، ولم تقل به سُنَّة!! فإذا ما سقط المسلمون في براثن هذا التدين سهل على أعدائهم أن يقتنصوهم. . وأن يسمموا أفكارهم! إنه لا يصد التبشير بكل صوره، وكافة مؤسساته إلا الإسلام الصحيح. . . تلك حقيقة لا بد أن نقف عليها ونحن نخوض أي معركة. . . مع أي عدو. . وبخاصة تلك المعارك الفكرية والعقائدية. - النحل الفاسدة: وذلك هو المنطلق الثالث الذي يثب منه هؤلاء المبشرون. . أو المنفرون. . على ديننا ودنيانا، إنهم يثيرون عدة قضايا محفوظة. . ويرددونها بلا وعي، كالببغاوات. ثم يجيب المتحدثون المسلمون عن هذه القضايا. . . أو النحل الفاسدة. . . يجيبون إجابات مقنعة ومحددة. . . ولكن هؤلاء الناس لا يكفون. . عن إثارتها من جديد. غير أنني لاحظت أمرًا في هذا اللقاء الذي نحن بصدده، هو أن الله سبحانه وتعالى الذي تكفل لكتابه بالحفظ، ولدينه بالظهور على الدين كله يُسَخِّر هؤلاء المبشرين لخدمة الإسلام وهم لا يشعرون. .! فهم حينما يثيرون هذه القضايا. . . ونجيب عليها. . . يظهر عوارهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وضلالهم جليًّا وواضحًا. .! فإذا بالإسلام هو الحق الذي لا شك فيه. .! وإذا بدياناتهم، التي هم عليها، هي الباطل الذي لا شك فيه! لقد أدرت مناقشات مع كثيرين. . . من هؤلاء. . . سواء أكانوا من الغرب أم من الشرق. .! وكنت في كل مرة أخرج بنتيجة موفقة. وليس ذلك لسر فِيَّ أو قدرة. . . وإنما هي قدرة الإسلام وعظمته. وليس ذلك -أيضا- لضعف في الخصوم، أو قلة فهم أو علم. . . ولكنه ضعف القضية التي يدعون إليها، ويدافعون عنها. . . وهكذا. . . وهكذا. وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود وبعد: فلقد قلنا ما نعلم، والله أعلم. ولم ندخر جهدًا ولا وسعًا ولا إخلاصًا. . . والله هو المسؤول أن يفتح للكلمات عيونًا عمياء، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا!! (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 (اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض. ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض. ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن. أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت) . ويا رب العالمين، إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الدكتور محمد جميل غازي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 الجلسة الختامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 1- كلمة القس البشير جيمس بخيت سليمان 2- كلمة الشيخ طاهر أحمد طالبي 3- كلمة اللواء إبراهيم أحمد عمر 4- كلمة الشيخ محمد هاشم الهدية 5- كلمة الشيخ إبراهيم خليل أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 كلمة القس البشير جيمس بخيت سليمان عن الجانب المسيحي الذي سيعلن إسلامه الآن السادة أعضاء هيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان السيد فضيلة الملحق الديني السعودي بالخرطوم السادة الضيوف الكرام حسبما تقرر في بداية الجلسة الأولى بأن تعطى الفرصة للعلماء: جميل غازي وأحمد عبد الوهاب وإبراهيم خليل لمواصلة الإجابة على الأسئلة الإسلامية والمسيحية التي تقدمنا بها إلى سيادتكم آملين أن نجد تفسيرات وتوضيحات تزيل كل الشكوك العالقة في نفوسنا، وذلك لمعرفة الحق من الباطل، وبعده نبدي برأينا فيما يجيء من الإجابات. ولا شك أنكم تتوقعون منا في هذه اللحظة أن ندخل في حوار معكم للرد على إجاباتكم وتفصيلاتكم للعقيدتين الإسلامية والمسيحية. ولكننا نقول أمام الله ونحن صادقون: إننا لا نملك أي رد غير إعلان الإسلام دينًا لنا، والتمسك بكل قيمه ومثله لأنه الحق والنور لخير الأمم في الدنيا والآخرة. سادتي: من هذا المنطلق الروحي الهادف: علينا أن نعلن أن هناك مسؤوليات عديدة تنتظرنا، ليس تجاه هؤلاء الإخوان الذين أسلموا فقط، وإنما هناك أيضًا قساوسة وقادة مسيحيين ومسيحيات في حاجة لمعرفة ما خرجنا به في الحوار الذي دار بيننا، وهذا لا شك جزء من مهمتنا الأساسية التي يجب أن نتعاون فيها ونحن صادقون لا لأجل شيء وإنما لإبلاغ الجميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 مسلمين كانوا أو مسيحيين بكل الحقائق التي أوحى بها -سبحانه وتعالى- إلى خير خلقه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقبل أن أختتم حديثي أود أن أخص بالشكر كل الإخوة الذين ساهموا بشتى الوسائل المقدرة لإنجاح هذا الحوار والخروج بنتائج مثمرة ستظل باقية لكل الأجيال، ليس في السودان فحسب وإنما لكل الأمم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 كلمة الشيخ طاهر أحمد طالبي الملحق الديني بسفارة السعودية بالخرطوم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 إخوتي الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته في هذا اللقاء الطيب، وفي هذه الجلسة المباركة، يسعدني ويشرفني أن أفتتح معكم هذا اللقاء الذي بدأناه بست جلسات متوالية استمرت أكثر من عشرين ساعة. وكأني أريد أن أجيب على سؤال مقدم فكأني أرى أن سائلًا يريد أن يسألني: كيف تم هذا اللقاء؟ وما هي القصة التي حدثت لتنظيمه؟ وهذا اللقاء كما تعلمون بين مسلمين ومسيحيين. بدأت قصة هذا اللقاء بأن البشير القس جيمس بخيت سليمان كان له نشاط بين الكنائس المختلفة باحثًا عن الحقيقة. وأخيرًا لجأ إلى زميلي سعادة الأستاذ جويعد النفيعي الملحق التعليمي بسفارة المملكة العربية السعودية، وأخبره بأنه يريد البحث عن حقيقة الدين ليصل إليها ويريد نقاشًا إسلاميًّا ليتوصل إلى الحقيقة. ثم جمع بيني ولينه في لقاء قصير حدثني فيه جيمس بخيت سليمان عن حياته من بدايتها إلى نهايتها بإيجاز، ثم حددنا موعدًا لهذا اللقاء وكان قد تم هذا الموعد بتاريخ 23 من المحرم 1401 هـ، الموافق أول ديسمبر 1980 م، وذلك بهيئة إحياء النشاط الإسلامي بأم درمان. وفي الحقيقة حينما طلب مني هذا النقاش كنت قد التقيت بفضيلة الدكتور محمد جميل غازي الذي حضر إلى هنا بدعوة خاصة من بعض إخوانه لإلقاء محاضرات دينية في السودان. فأرشدني -جزاه الله خيرًا- إلى فضيلة الشيخ إبراهيم خليل أحمد وقال لي: إنه رجل فاضل وكان قسيسًا وهداه الله إلى الإسلام وله معرفة كبيرة بموضوع اللقاء، ثم سعادة اللواء أحمد عبد الوهاب فهو أيضًا مؤلف كتب كثيرة في النصرانية وفي المقارنة بين النصرانية والإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وقام هو -جزاه الله خيرًا- بالاتصال بهما وقد حضرا فورًا، ولم يؤخرهما عن الحضور بضعة أيام سوى مطالب السفر والحجز وما إلى ذلك، أي أنهما لبَّيا الحضور وتواجدا في الخرطوم قبل الموعد المحدد بأيام قليلة. وكان أول لقاء كما قلت لكم يوم الاثنين الماضي، عرض فيه البشير (جيمس) عدة أسئلة تتعلق بالمسيحية وأخرى تتعلق بالإسلام. ومما عرضه على سبيل المثال عن النصرانية: الثالوث والصلب والفداء. ومما عرضه عن الإسلام: القرآن وصِدْق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه خاتم النبيين، والجهاد والحرب في الإسلام، والخمر والخنزير، وغيرهما من الأسئلة التي استمعتم إليها في ذلك الوقت يوم الاثنين الماضي حيث كتبت وسجلت. وقد قام أصحاب الفضيلة: الدكتور محمد جميل غازي وسعادة اللواء أحمد عبد الوهاب وفضيلة الشيخ إبراهيم خليل أحمد بالإجابة على هذه الأسئلة سؤالًا سؤالًا بما لا يدع مجالًا للشك في أن الإسلام هو دين الله الحق وأن ما سواه باطل لا محالة. لقد قاموا بالإجابة على جميع هذه الأسئلة وأكثر مما تضمنته الأسئلة. فقد قاموا بمحاضرات كثيرة استغرقت ستة أيام وفي كل يوم ثلاث ساعات متوالية، وقد اختتمنا كل الجلسات البارحة في الساعة العاشرة تقريبًا مساءً. وقد تركنا للبشير جيمس فرصة للتفكير والتشاور مع إخوانه بعد أن ختمنا تلك الجلسات وأنهيناها. ولكنه حضر إليَّ اليوم صباحًا، معلنًا دخوله وجميع جماعته في الإسلام، وأنهم يعلنون صراحةً أنه هو الدين الحق وما سواه باطل، وأن القرآن حق، وأن محمدًا حق، وسيعلنون ذلك إن شاء الله تعالى أمامكم فردًا فردًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 إخوتي الكرام: لا أريد أن أطيل عليكم ولكنني أرجو من الله عز وجل أن تكون فاتحة خير للإسلام والمسلمين. والله سبحانه وتعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما معناه: ليطلعن هذا الدين على ما طلعت عليه الشمس. والكلمة الآن لسعادة اللواء إبراهيم أحمد عمر، أمين عام هيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان، فليتفضل مشكورًا وجزاه الله خيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 كلمة اللواء إبراهيم أحمد عمر أمين عام هيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والرسل وعلى آله وصحبه وسلم. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (1) باسم هيئة إحياء النشاط الإسلامي أحييكم تحية الإسلام. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن رغبة هؤلاء المشاركون النصارى في تفهم الفوارق بين الإسلام والنصرانية كانت من جانبهم، ليقرروا بعد التمحيص أن يدخلوا الإسلام عن عقيدة أو يرفضوه وكانت لنا نحن معشر الحاضرين فرصة لا تعوض ذلك بأن قيض الله لنا بفضل جهد فضيلة الشيخ طاهر أحمد طالبي الملحق الديني بسفارة المملكة العربية السعودية بالسودان أن يحضر إلينا ويشرفنا ويمتعنا ويعلمنا ثلاثة من الأساتذة وهم جهابذة أجلاء وهم: فضيلة الدكتور محمد جميل غازي المتفقه في القرآن الكريم، وسيادة اللواء العالم بمقارنة الأديان وخاصة الإسلام والنصرانية فوق علمه العسكري السيد اللواء أحمد عبد الوهاب، ومعهما رجل غاص في بحور المسيحية بإيمان جعله من أكبر المبشرين بالنصرانية في صعيد مصر فتبحر وتعمق وفهم الأسفار المسيحية المقدسة وحصل على درجات علمية لاهوتية عالية في دينه ثم جاء يوم فانطبق على فضيلته قول الحق جل وعلا: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، فسار في طريق الهداية وقرأ القرآن الكريم قراءة العالم المتبحر المثقف الفاهم بما يقرأ، فآمن به ووجد ضالته في القرآن الكريم الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، فتحول من كافر برسالة   (1) سورة الإسراء، آية 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى واحد من أكبر المؤمنين بالله وبرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- والله أكبر. تحدث أصحاب الفضيلة العلماء الثلاثة فأمتعونا، وفوق هذا وذاك فإنهم قد أقنعوا بالحجة الدامغة والبرهان القاطع كل أبنائنا الذين جاءوا يسألون، والله أكبر. وها هم اليوم أمامكم مسلمون بحق وإيمان صادق. هم بعد إسلامهم المشرف لنا مجمع الحاضرين سنتعهدهم نحن جميعا ليعملوا ويتعلموا الإسلام بحق. وهو الذي قال فيه ابن عمر رضي الله عنه: حدثني أبي - عمر بن الخطاب رضي الله عنه- فقال: «بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا. قال: صدقت. قال: رضي الله عنه؛ فعجبنا له يسأله ويصدقه. ثم قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق. فلبثت مليًّا ثم قال لي -صلى الله عليه وسلم- يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال -صلى الله عليه وسلم-: إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» . هذه إخوتي هي رسالتنا نحو أبنائنا وإخواننا هؤلاء الذين دخلوا الإسلام وهي أن نعلمهم دينهم وسنفعل بإذن الله، بل سنجعل منهم دعاة ومرشدين للدين الإسلامي بين أهلهم وعشيرتهم وسنكفل لهم العيش الشريف بالعمل الشريف إن شاء الله. هذا كله نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء. فمرحبًا بالإخوة والأبناء في دين الإسلام دين الحق، وشكرًا بل من الشكر أجزله لأساتذتنا العلماء الأجلاء. وأرجو -في الختام- أن أبشر بأن كل الذي دار في أيامنا وحلقاتنا هذه، سيصدر بمشيئة الله في كتاب باللغات: العربية والإنجليزية والفرنسية. ونرجو أن يترجم إلى جميع لغات العالم -إن شاء الله- والله الموفق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 كلمة فضيلة الشيخ محمد هاشم الهدية رئيس جماعة أنصار السنةَّ المحمدية بالسودان بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. والصلاة على النبيّ الأمين، وعلى آله وأصحابه الهداة المهديين. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لقد كانت مفاجأة بالنسبة لي، لأن الاتفاق الذي افترقنا عليه بالأمس أن نلتقي في السادسة من هذا المساء لأمر غير هذا. وما علمت بهذا الحفل وهذه النتيجة الجيدة إلا قبل نصف ساعة فقط، ولذلك أنا في سرور لا يعدله سرور. وكل ما أرجوه من الذين دخلوا الإسلام اليوم هو أن يكرسوا جهدهم ليتعلموا دينهم. ولي رجاء خاص أوجهه إلى الدكتور محمد جميل غازي بأن يولي هذا الشباب عناية خاصة، ليتعلموا الدين في العقيدة السلفية. فما تفرقت كلمة المسلمين، وما أصبحوا شيعًا وطوائف وأحزاب إلا بعد أن جعلوا العقيدة الواحدة مذاهب، ففرقت كلمتهم وجعلتهم يتصارعون. وليتهم رضوا بما رضيَ به القرآن إذ قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) يَسَّرَ الله هذا القرآن، وأعلن أنه سهل مُيَسَّر لمن أراد أن يتفقه فيه ويفهمه. وجاء الشيطان ونفث في روع بعض من يدعون أنهم من علماء المسلمين، ويتصدرون الدعوة الإسلامية، فزعموا أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا. وهذا هو أول مسمار ضرب في نعش الجماعة الإسلامية.   (1) سورة النساء، آية 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 إن الدكتور جميل موضع ثقتنا وموضع اعتزازنا ولا أود أن أمدحه وهو جالس، وهو جدير بأن يمدح، ولذا أرجوه في أن يتولى هذا الشباب، ويرعاه رعاية خاصة ويحصرهم في كتاب الله ربهم وسُنَّة رسولهم صلى الله عليه وسلم، وفي معناهما العربي الواضح. وإني أنقل لكم عبارة وردت على لسان رجل أعجمي وليس بعربي، إنه رجل من جنوب السودان دخل الإسلام واعتز به، لقد سأله سائل: لمن الطوائف تنتمي؟ فقال: نحن لا ندخل الطريقة (الصوفية) في الجنوب، لأنها تفرق كلمة المسلمين. وإننا نعلمهم القرآن لأنه هو الذي يربطهم ويجعلهم أمة واحدة. لذا أرجو من بخيت سليمان أن يستعد هو وزملاؤه للسفر إلى مصر. إن شاء الله، لتعيشوا في مدرسة التوحيد وتدرسون الإسلام، وتعرفون ما قدمه للعالم من مبادئ رفعت من شأن الضعاف فجعلتهم أقوياء، والفقراء جعلتهم أغنياء، والجهلاء جعلتهم علماء. وكان منهاجهم هو هذا القرآن، بمعانيه الواضحة التي بيَّنها الرسول العظيم، وهو الذي أُعْطِي جوامع الكلم. وكذلك أرجو من الدكتور جميل أن يحصر أذكارهم في أذكار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإني أهنئهم أولا بإسلامهم، وأرجو لهم التوفيق في حياتهم المقبلة، وإننا جميعًا بعون الله ومساعدته ورعايته سوف نكون لهم عضدًا وسندًا يجعل حياتهم الجديدة كلها سعادة وسرور. ولعلكم رأيتم الأخ المسلم الواعي المدرك الشيخ إبراهيم خليل، عندما كان يتحدث عن حياته السابقة، ويتحدث عن حياته الحديثة، ثم يجعل الفضل كله إلى الله رب العالمين أن ملأ قلبه بالإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 ورسولنا العظيم -صلى الله عليه وسلم- يقول له الله عز وجل {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) ، وفي آية أخرى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2) وإني أكرر الشكر وأؤيد ما قاله سعادة اللواء إبراهيم أحمد عمر عن اللواء أحمد عبد الوهاب والأخ جميل والأستاذ إبراهيم خليل، فلا شك أنهم أثروا مكتبتنا بعلوم ما عهدناها في الناس من قبل. فجزاهم الله خيرًا، وزادهم الله من علمه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.   (1) سورة الشورى، آية 52. (2) سورة القصص، آية 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 كلمة السيد الأستاذ إبراهيم خليل أحمد نيابة عن إخوانه العلماء بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: إن هذا المقام مقام أخي وحبيبي الدكتور محمد جميل غازي، الذي ظل بعيدًا عن أولاده خمسة شهور متوالية في الدعوة الإسلامية، والذي لم يدخر جهدًا لإبلاغ الحق. إن هذا الموقف موقفه هو، لكنه آثرني على نفسه، فشكرًا له على حسن ثقته وتقديره. سعادة الملحق الديني بالسفارة السعودية سعادة اللواء إبراهيم أحمد عمر عن جمهورية السودان الديمقراطية أتحدث بكلمتين لا ثالث لهما: الكلمة الأولى عن خطر الهيئات التبشيرية في البلاد الإسلامية، والكلمة الثانية عن قوة الإسلام التي تسري رغم المعوقات ورغم المخططات التي يعملها المبشرون. لعل في هذا العدد الذي أمامنا والذي أعلن إسلامه لدليل قاطع على أن هذا الشباب قد وقع تحت تأثير مكثف أنساه دينه، وأنساه إسلامه، وأنساه وطنه، وضل السبيل ولم يعرف لنفسه طريقًا سويًّا، حتى هدي ليأتي إلى هنا. لقد جئنا إلى هنا ولا نقول إننا نستطيع أن نهدي أو نعمل شيئًا، إنما الهادي هو الله سبحانه وتعالى. فمثلنا كمثل زارع يبذر البذور، ولكن تنمية البذور وازدهارها إنما هو على الله، سبحانه وتعالى. ولقد رأيتم هذه الزهور اليانعة، وإنني أرى في هؤلاء آلافًا مؤلفة من السودانيين الذين وقعوا فريسة الاستعمار. فلا بد أن يعود هؤلاء جميعًا إلى الإسلام بقوة وبفرحة كبيرة. إن العمل التبشيري يدور في مراكز خمسة: (1) المعاهد والمدارس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 (2) المستشفيات. (3) المنازل. (4) الأندية الرياضية. (5) الأماكن المفتوحة مثل الشوارع والتجمعات المختلفة حيث ينشط المبشر في حركته متجولًا من شارع إلى شارع، ومن قرية إلى قرية، ومن بيت إلى بيت. إن هؤلاء المبشرين يصدق عليهم قول المسيح لليهود: " ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلًا واحدًا. ومتى حصل تجعلونه ابنًا لجهنم أكثر منكم مضاعفا ". أيها الناس: إن الدعوة الإسلامية يجب أن يُعاد تقويمها، وأن توضع الخطة لدرء هذا الخطر الذي يتمثل في الإرساليات الموجودة في أراضينا الإسلامية. وإنني أتحدث عن تجربة: فقد كنت في جامعة أسيوط سنة 1976 م، وحاضرت طلبة جامعة أسيوط، وكانت المحاضرة الأولى عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل، وكانت المحاضرة الثانية عن المسيح عليه السلام في الإنجيل والقرآن الكريم. ولقد أثبت بالدليل القاطع أن المسيح عليه السلام لم يصلب ولم يقتل، وذلك من الأناجيل ذاتها. وبناء عليه فإن كل ما بني على الصليب فإنما هو باطل. وكل ما بني على الباطل فهو باطل؛ لأن الله وحده قادر أن يغفر للإنسان. أيهما أكثر قدرة: خلق السماوات والأرض، أم أن يغفر للِإنسان؟ والآيات الكريمة تؤكد أن الله -سبحانه- غفور رحيم. إن المسيح -عليه السلام- في الأناجيل قد نادى بالتوحيد، ولم يدع أنه ابن الله أو أنه الإله المتجسد، أو ما شابه ذلك. ولقد أكد المسيح -عليه السلام- أن الروح القدس ملَك من ملائكة الله سبحانه وتعالى. لم يقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 المسيح أبدًا إن هذا الروح هو الأقنوم الثالث؛ إذ أنه الهيئة الثالثة لله سبحانه وتعالى. إن الإنسان العاقل حينما يفكر بعقله يجد أن التثليث يتنافى تمامًا مع العقل والعلم والتوحيد الخالص. فهنيئًا لإخواننا لدخولهم في دين الله. فحينما تحدثت في أسيوط، فإني أقرر حقًّا أمام حضراتكم وهو أن سبعة عشر من شباب جامعة أسيوط قد أعلنوا إسلامهم بكل قوة ولكل جرأة. أما الكلمة الثانية التي أريد أن أقولها فهي: أيها الإخوة إن الله -سبحانه وتعالى- قد هداكم إلى الإسلام. وعندما طلب الدكتور جميل غازي أن أتحدث إليكم فإنما لكي أكون مثالًا لكم؛ لأني عندما دخلت الإسلام، لم أدخله عفوًا أو بارتجال، ولكن أخذت أدرس الإسلام عقيدةً وشريعةً وسلوكًا، من سنة 1955م، إلى نهاية 1959م، أي خمس سنوات متتالية، حتى أتاني اليقين فأعلنت الإسلام. ولقد شعرت أن الإسلام يفرض عليَّ فرضًا وهو أن أحمل رسالة التبليغ وأن أدعو برسالة لا إله إلا الله محمد رسول الله. إنني في هذا اللقاء أعود بذاكرتي إلى ما قبل سنة 1955م، حينما كنت قمة من قمم الكفر، وكنت أضلل الشباب المسلم، ولعل الله -سبحانه- أراد أن يطمئن نفسي، وأنه قد غفر لي فعلًا ما تقدم من ذنبي، إذ أراني هذا الشباب وقد أسلم. وإنني أقول لكم: أيها الشباب، عليكم بالتفقه في الإسلام، ومن منكم على درجة من المعرفة والعلم فعليه أن يضع كل إمكانياته في خدمة إخوانه المسلمين. وإني لأرجو لكم كل خير وتوفيق وسعادة في ظل الإسلام ودين الحق والخير واليقين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496