الكتاب: فقه العبادات المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ) أعده: اللجنة العلمية في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثمين الخيرية عدد الأجزاء: 1   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- فقه العبادات للعثيمين ابن عثيمين الكتاب: فقه العبادات المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ) أعده: اللجنة العلمية في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثمين الخيرية عدد الأجزاء: 1   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فقد طبِعَ هذا الكتاب (فقه العبادات) طبعات كثيرة منذ عام 1416هـ واعتنى بطبعته الأولى - مشكوراً - فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار - فجزاه الله خيراً-. وإنفاذاً للقواعد والضوابط والتوجيهات التي قرَّرها فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - لإخراج مؤلفاته وإعدادها للنشر تمت - ولله الحمد - في هذه النسخة مراجعة محتوى الكتاب على أصولها المسموعة والمسجلة التي أعدها وقدم أسئلتها الشيخ سليمان بن محمد الشبانة- رحمه الله تعالى. وبناء عليه فإن هذه الطبعة هي النسخة المعتمدة للكتاب. نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجه الكريم نافعاً لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا المؤلف عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويسكنه فسيح جناته إنه سميع قريب، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. اللجنة العلمية في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثمين الخيرية 5/3/1425هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 فتاوى العقيدة التوحيد والاعتقاد الغاية مِن خلق البشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 السؤال (1) : فضيلة الشيخ، ما هي الغاية مِن خَلق البشر؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فإنه قبل أن أجيب على هذا السؤال، أحب أن أنبه على قاعدة عامة فيما يخلقه الله عز وجل، وفيما يشرعه، وهذه القاعدة مأخوذة من قوله تبارك وتعالى: (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (التحريم: 2) ، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) (الأحزاب: 1) ، وغيرهما من الآيات الكثيرة الدالة على إثبات الحكمة لله عز وجل، فيما يخلقه، وفيما يشرعه، أي في أحكامه الكونية والشرعية، فإنه ما من شيء يخلقه الله عز وجل إلا وله حكمة، وسواء كان ذلك في إيجاده أو إعدامه، وما من شيء يشرعه الله سبحانه وتعالى إلا لحكمة، سواء كان ذلك في إيجابه، أو تحريمه، أو إباحته. لكن هذه الحكم التي يتضمنها حكمه الكوني والشرعي، قد تكون معلومة لنا، وقد تكون مجهولة، وقد تكون معلومة لبعض الناس دون بعض، حسب ما يأتيهم الله سبحانه وتعالى من العلم والفهم إذا تقرر هذا فإننا نقول: إن الله سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس لحكمة عظيمة، وغاية حميدة، وهي عبادته تبارك وتعالى. كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56) ، وقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون: 115) ، وقال تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (القيامة: 36) ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن لله تعالى حكمة بالغة في خلق الجن والإنس، وهي عبادته. والعبادة هي التذلل لله عز وجل، محبة، وتعظيماً بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، على الوجه الذي جاءت به شرائعه، قال الله تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: 5) فهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس، وعلى هذا فمن تمرد على ربه، واستكبر عن عبادته، فإنه يكون نابذاً لهذه الحكمة التي خلق العباد من أجلها، وفعله يشهد بأن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق عبثاً وسدى، وهو وإن لم يصرح بذلك، لكن هذا مقتضى تمرده واستكباره عن طاعة ربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 السؤال (2) : فضيلة الشيخ، لكن هل للعبادة مفهوم يمكن أن نعرفه، وهل لها مفهوم عام، ومفهوم خاص؟ الجواب: نعم مفهومها العام كما أشرت إليه آنفاً، بأنها التذلل لله عز وجل محبة وتعظيماً، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، على الوجه الذي جاءت به شرائعه، هذا المفهوم العام. والمفهوم الخاص - أعني تفصيلها - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي " اسم جامع لكل ما يجبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالخوف، والخشية، والتوكل، والصلاة، والزكاة، والصيام، وغير ذلك من شرائع الإسلام". ثم إن كنت تقصد بمعنى المفهوم الخاص والعام ما ذكره بعض العلماء من أن العبادة إما عبادة كونية، أو عبادة شرعية، بمعنى أن الإنسان قد يكون متذللاً لله سبحانه وتعالى تذللا كونيا وتذللاً شرعياً، فالعبادة الكونية عامة، تشمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر، لقوله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم: 93) ، فكل ما في السموات والأرض فهو خاضع لله سبحانه وتعالى كوناً، لا يمكن أبداً أن يضاد الله، أو يعارضه فيما أراد - سبحانه وتعالى - بالإرادة الكونية. وأما العبادة الخاصة: وهي العبادة الشرعية، وهل التذلل لله تعالى شرعاً، فهذه خاصة بالمؤمنين بالله سبحانه وتعالى، القائمين بأمره ثم إن منها ما هو خاص أخص، وخاص فوق ذلك. فالخاص الأخص كعبادة الرسل عليهم الصلاة والسلام، مثل قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) (الفرقان: 1) ، وقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) (البقرة: 23) ، وقوله: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) (ص: 45) ، وغير ذلك من وصف الرسل عليهم الصلاة والسلام بالعبودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 السؤال (3) : فضيلة الشيخ، هل يثاب من اختصوا بالعبادة الكونية عن هذه العبادة الشرعية؟ الجواب: هؤلاء لا يثابون عليها، لأنهم خاضعون لله تعالى شاؤوا أم أبوا فالإنسان يمرض، ويفقر، ويفقد محبوبه، من غير أن يكون مريداً لذلك، بل هو كاره لذلك، لكن هذا خضوع لله عز وجل خضوعاً كونياً أول واجب على العبيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 السؤال (4) : فضيلة الشيخ، ما هو أول واجب على الخلق؟ الجواب: أول واجب على الخلق، هو أول ما يدعى الخلق إليه، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، فقال "إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله" (1) ، فهذا أول وجب على العباد، أن يوحدوا الله عز وجل، وأن يشهدوا لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وبتوحيد الله سبحانه وتعالى، والشهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، يتحقق الإخلاص والمتابعة اللذان هما شرط لقبول كل عبادة. فهذا هو أول ما يجب على العباد، أن يوحدوا الله، ويشهدوا لرسله صلى الله عليهم وسلم بالرسالة، فشهادة أن لا إله إلا الله تتضمن التوحيد كله. علاقة الشهادة بأنواع التوحيد   (1) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء، رقم (1496) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله، رقم (19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 السؤال (5) : فضيلة الشيخ، لكن هل تشمل الشهادة أنواع التوحيد؟ الجواب: هي تشمل أنواع التوحيد كلها، إما بالتضمن وإما بالالتزام، وذلك أن قول القائل: أشهد أن لا إله إلا الله، يتبادر إلى المفهوم، أن المراد بها توحيد العبادة، وتوحيد العبادة الذي يسمى توحيد الألوهية مستلزم بل متضمن لتوحيد الربوبية، لأن كل من عبد لله وحده فإنه لن يعبده حتى يكون مقرا له بالربوبية، وكذلك متضمن لتوحيد الأسماء والصفات، لأن الإنسان لا يعبد إلا من علم أنه مستحق للعبادة، لما له من الأسماء والصفات، ولهذا قال إبراهيم لأبيه: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (مريم: 42) ، فتوحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية، متضمن لتوحيد الربوبية والأسماء والصفات. معنى التوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 السؤال (6) : فضيلة الشيخ، ما معنى التوحيد؟ الجواب: التوحيد مصدر وحد يوحد، أي جعل الشيء وحداً، وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات، نفي الحكم عما سوى الموحد، وإثباته له فمثلاً نقول: إنه لا يتم للإنسان التوحيد، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فينفي الألوهية عما سوى الله، ويثبتها لله وحده، وذلك أن النفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع مشاركة الغير في الحكم، فلو قلت مثلاً: فلان قائم، فهنا أثبت له القيام، لكنك لم توحده به لأنه من الجائز أن يشركه غيره في هذا القيام، ولو قلت: لا قائم، فقد نفيت نفياً محضا، ولم تثبت القيام لأحد فإذا قلت: لا قائم إلا زيد أو: لا قائم إلا فلان، فحينئذ تكون وحدت فلاناً بالقيام، حيث نفيت القيام عمن سواه، وهذا هو تحقيق التوحيد في الواقع، أي أن التوحيد لا يكون توحيداً حتى يتضمن نفياً وإثباتاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 السؤال (7) : فضيلة الشيخ، ما هي أنواع التوحيد على سبيل الإجمال؟ الجواب: أنواع التوحيد حسب ما ذكره أهل العلم ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهيية، وتوحيد الأسماء والصفات، وعلموا ذلك بالتتبع والاستقراء، والنظر في الآيات والأحاديث، فوجدوا أن التوحيد لا يخرج عن هذه الأنواع الثلاثة، فنوعوا التوحيد إلى ثلاثة أنواع. أنواع التوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 السؤال (8) : فضيلة الشيخ، ما هي أنواع التوحيد مع التوضيح والأمثلة لذلك؟ الجواب: أنواع التوحيد بالنسبة لله عز وجل، تدخل كلها في تعريف عام، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بما يخص به، وهي ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية: وهو إفراد الله تعالى بالخلق، والملك، والتدبير، فالله تعالى وحده هو الخالق، لا خالق سواه قال الله تعالى (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَه إلا هو) (فاطر: 3) ، وقال تعالى مبيناً بطلان آلهة الكفار (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (النحل: 17) ، فالله تعالى وحده هو الخالق، خلق كل شيء فقدره تقديراً، وخلقه يشمل ما يقع من مفعولاته، وما يقع من مفعولات خلقه أيضاً، ولهذا كان من تمام الإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله تعالى خالق لأفعال العباد، كما قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات: 96) . ووجه ذلك: أن فعل العبد من صفاته، والعبد مخلوق لله، وخالق الشيء خالق لصفاته. ووجه آخر: أن فعل العبد حاصل بإرادة جازمة وقدرة تامة، والإرادة والقدرة كلتاهما مخلوقتان لله عز وجل، وخالق السبب التام خالق للمسبب، فإذا قلت: كيف نقول إنه تعالى منفرد بالخلق، مع أن الخلق قد يثبت لغير الله، كما يدل عليه قول الله تعالى: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 14) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المصورين: " يقال لهم أحيوا ما خلقتم (1) ، فالجواب على ذلك: أن غير الله تعالى لا يخلق كخلق الله، فلا يمكنه إيجاد معدوم، ولا إحياء ميت، وإنما خلق غير الله سبحانه وتعالى يكون بالتغيير، وتحويل الشيء من صفة إلى أخرى، وهو مخلوق لله عز وجل، فالمصور مثلاً إذا صور صورة فإنه لم يحدث شيئاً، غاية ما هنالك أنه حول شيئاً إلى شيء، كما يحول الطين إلى صورة طير، أو إلى صورة جمل، وكما يحول بالتلوين الرقعة البيضاء إلى صورة ملونة، والمداد كله من خلق الله عز وجل، والورقة البيضاء أيضاً من خلق الله عز وجل، فهذا هو الفرق بين إثبات الخلق بالنسبة لله عز وجل، وإثبات الخلق بالنسبة إلى المخلوق، وعلى هذا فيكون الله تعالى منفرداً بالخلق الذي يختص به. ثانياً: من توحيد الربوبية: إفراد الله تعالى بالملك، فالله تعالى وحده هو المالك، كما قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك: 1) ، وقال تعالى: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ) (المؤمنون: 88) ، فالمالك الملك المطلق العام الشامل هو الله سبحانه وتعالى وحده، ونسبة الملك إلى غيره نسبة إضافية، فقد أثبت الله تعالى لغيره الملك، كما في قوله تعالى (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) (النور: 61) ، وقوله تعالى: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) (المؤمنون: 6) ، وما أشبه ذلك من النصوص الدالة على أن لغير الله تعالى ملكاً، لكن هذا الملك ليس كملك الله عز وجل، فهو ملك قاصر، وملك مقيد، ملك قاصر لا يشمل، فالبيت الذي لزيد لا يملكه عمرو، والبيت الذي لعمرو لا يملكه زيد، ثم هذا الملك مقيد، بحث لا يتصرف الإنسان فيما ملك إلا على الوجه الذي أذن الله فيه، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال (2) . وقال الله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5) ، وهذا دليل على أن ملك الإنسان ملك قاصر، وملك مقيد، بخلاف ملك الله سبحانه وتعالى فهو ملك عام شامل، وملك مطلق، يفعل الله سبحانه وتعالى ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. الركن الثالث من أركان توحيد الربوبية: أن الله تعالى منفرد بالتدبير، فهو سبحانه وتعالى الذي يدبر الخلق، يدبر أمر السموات والأرض كما قال الله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54) ، وهذا التدبير تدبير شامل، لا يحول دونه شيء، ولا يعارضه شيء، والتدبير الذي يكون لبعض المخلوقات، كتدبير الإنسان أمواله، وغلمانه، وخدمه، وما أشبه ذلك، هو تدبير ضيق محدود، ومقيد غير مطلق، فظهر بذلك صحة قولنا: إن توحيد الربوبية هو إفراد الله تعالى بالخلق، والملك، والتدبير، فهذا هو توحيد الربوبية. أما النوع الثاني: فهو توحيد الألوهية، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، بأن لا يتخذ الإنسان مع الله أحداً يعبده ويتقرب إليه، كما يعبد الله تعالى ويتقرب إليه، وهذا النوع من التوحيد هو الذي ضل فيه المشركون، الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، واستباح نساءهم وذريتهم وأموالهم وأرضهم وديارهم، وهو الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب مع أخويه توحيدي الربوبية والأسماء والصفات، لكن أكثر ما يعالج الرسل أقوامهم على هذا النوع من التوحيد، وهو توحيد الألوهية، بحيث لا يصرف الإنسان شيئاً من العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي صالح، ولا لأي أحد من المخلوقين، لأن العبادة لا تصح إلا لله عز وجل، ومن أخل بهذا التوحيد فهو مشرك كافر، وإن أقر بتوحيد الربوبية وبتوحيد الأسماء والصفات، فلو أن رجلاً من الناس يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، وأنه سبحانه وتعالى المستحق لما يستحقه من الأسماء والصفات، لكن يعبد مع الله غيره، لم ينفعه إقراره بتوحيد الربوبية وبتوحيد الأسماء والصفات، لو فرض أن رجلاً يقر إقراراً كاملاً بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، لكن يذهب إلى القبر فيعبد صاحبه، أو ينذر له قرباناً يتقرب به إليه، فإن هذا مشرك كافر، خالد في النار، قال الله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة: 72) . ومن المعلوم لكل من قرأ كتاب الله عز وجل، أن المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم، وسبى ذريتهم ونساءهم، وغنم أرضهم، كانوا مقرين بأن الله تعالى وحده هو الرب الخالق، لا يشكون في ذلك، ولكن لما كانوا يعبدون معه غيره، صاروا بذلك مشركين مباحي الدم والمال. أما النوع الثالث من أنواع التوحيد: فهو توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بما سمى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بإثبات ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلابد من الإيمان بما سمى الله به نفسه، ووصف به نفسه، على وجه الحقيقة لا المجاز، ولكن من غير تكييف ولا تمثيل. وهذا النوع من أنواع التوحيد ضلت فيه طوائف من هذه الأمة من أهل القبلة، الذين ينتسبون إلى الإسلام على أوجه شتى، منهم من غلا في النفي والتنزيه غلوا يخرج به من الإسلام، ومنهم متوسط، ومنهم قريب من أهل السنة، ولكن طريق السلف في هذا النوع من التوحيد، هو أن يسمى الله عز وجل ويوصف بما سمى ووصف به نفسه على وجه الحقيقة، بلا تحريف، ولا تعطيل ولا تكييف، ولا تمثيل. مثال ذلك: أن الله سبحانه وتعالى سمى نفسه بالحي القيوم، فيجب علينا أن نؤمن بالحي على أنه اسم من أسماء الله، ويجب علينا أن نؤمن بما تضمنه هذا الاسم من وصف، وهي الحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم، ولا يلحقها فناء، وسمى الله سبحانه وتعالى نفسه بالسميع العليم، فيجب علينا أن نؤمن بالسميع اسماً من أسماء الله، وبالسمع صفة من صفاته، وبأنه يسمع، وهو الحكم، الذي اقتضاه ذلك الاسم وتلك الصفة، فإن سميعاً بلا سمع، أو سمعاً بلا إدراك مسموع، هذا شيء محال، وعلى هذا فقس. مثال آخر: قال الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) (المائدة: 64) ، فهنا قال الله تعالى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) فأثبت لنفسه يدين موصوفتين بالبسط، وهو العطاء الواسع، فيجب علينا أن نؤمن بأن لله تعالى يدين اثنتين مبسوطتين بالعطاء والنعم، ولكن يجب علينا ألا نحاول، لا بقلوبنا وتصوراتنا ولا بألسنتنا أن نكيف تلك اليدين، ولا نمثلهما بأيدي المخلوقين، لأن الله سبحانه وتعالى يقول (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11) ويقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) ، ويقول الله عز وجل: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء: 36) . فمن مثل هاتين اليدين بأيدي المخلوقين فقد كذب قول الله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11) ، وقد عصى الله تعالى في قوله: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) (النحل: 74) ، ومن كيفهما وقال هما على كيفية معينة أيا كانت هذه الكيفية فقد قال على الله ما لا يعلم، وقفا ما ليس له به علم. أهمية توحيد الأسماء والصفات   (1) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء، رقم (2105) ، ومسلم، كتاب اللباس، باب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة رقم (2107) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله: (لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) رقم (1477) ، ومسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة رقم (1715) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 السؤال (9) : فضيلة الشيخ، نريد زيادة تفصيل في القسم الأخيرة من أقسام التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات؟ الجواب: الحقيقة أن هذا النوع من التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات، ينبغي أن يبسط فيه القول لأنه مهم، ولأن الأمة الإسلامية تفرقت فيه تفرقاً كثيراً، وهدى الله الذين آمنوا من السلف وأتباعهم لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. تقدم لنا قاعدة في هذا النوع، وهو أنه يجب علينا أن نثبت ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات، على وجه الحقيقة، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وذكرنا لهذا أمثلة في أسماء الله عز وجل، ومثالاً في صفة من صفاته وهي صفة اليدين، وذكرنا أنه يجب فيما يتعلق بالأسماء، أن نثبت ما سمى الله به نفسه اسماً لله، وأن نثبت ما تضمنه من صفة وما تضمنه من حكم، وهو الأثر الذي تقتضيه هذه الصفة، وذكرنا أنه يجب علينا أن نؤمن بما وصف الله به نفسه من الصفات على وجه الحقيقة أيضاً، وذكرناً مثالاً وهو اليدان، حيث أثبت الله لنفسه يدين اثنتين، وهما ثابتتان لله على وجه الحقيقة، لكن لا يجوز لنا أن نمثل هاتين اليدين بأيدي المخلوقين، ولا أن نتصور بقلوبنا أو ننطق بألسنتنا عن كيفية هاتين اليدين، لأن التمثيل تكذيب لقول الله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11) ، وعصيان لله، لقوله تعالى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) (النحل: 74) . وأما التكييف فهو وقوع فيما حرم الله ونهى عنه، لأن الله يقول: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) ، (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء: 36) . نزيد مثالاً ثانياً في الصفات، وهو استواء الله على تعالى على عرشه، فإن الله تعالى أثبت لنفسه أنه استوى على عرشه في سبعة مواضع من كتابه، كلها أتت بلفظ " استوى"، وإذا رجعنا إلى الاستواء في اللغة العربية وجدناه إذا عدي بعلى لا يقتضي إلا الارتفاع والعلو، فيكون معنى قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) ، وأمثالها من الآيات، معناها علا على عرشه عز وجل علوا خاصا غير العلو العام على جميع الأكوان وهذا العلو ثابت لله تعالى على وجه الحقيقة، فهو عال على عرشه علوا يليق به عز وجل لا يشبه علو الإنسان على السرير، ولا علوه على الأنعام ولا علوه على الفلك، الذي ذكره الله في قوله: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) (12) (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (13) (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) (الزخرف 12-14) ، فاستواء المخلوق على شيء لا يمكن أن يماثله استواء على عرشه، لأنه الله، ليس كمثله شيء في جميع نعوته. وقد أخطأ خطأ عظيماً من قال: إن معنى " استوى على العرش" استولى على العرش، لأن هذا تحريف للكلم عن مواضعه، ومخالف لما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومستلزم للوازم باطلة، لا يمكن للمؤمن أن يتفوه بها بالنسبة إلى الله عز جل، فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية بلا شك، كما قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 3) ، وقال تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (193) (عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (194) (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 193-195) ، ومقتضى هذه الصيغة " استوى على كذا" في اللغة العربية: العلو والاستقرار، بل هو معناها المطابق للفظ. فمعنى " استوى على العرش" أي علا عليه علو خاصا يليق بجلاله وعظمته، فإذا فسرناه باستولى فقد حرفنا الكلم عن مواضعه، حيث أخرجنا هذا المعنى الذي تدل عليه اللغة - لغة القرآن وهو العلو إلى معنى الاستيلاء، ثم إن السلف والتابعين لهم بإحسان مجمعون على هذا المعنى، إذ لم يأت عنهم حرف واحد في تفسيره بخلاف ذلك. وإذا جاء اللفظ في القرآن والسنة ولم يرد عن السلف ما يخالف ظاهره، أو لم يرد عن السلف تفسيره بما يخالف ظاهره، فالأصل أنهم أبقوه على ظاهره واعتقدوا ما يدل عليه، ولهذا لو قال لنا قائل: هل عندكم لفظ صريح بأن السلف فسروا استوى بمنى علا، قلنا: نعم ورد ذلك عن السلف، وعلى فرض أن لا يكون ورد عنهم صريحاً، فإن الأصل فيما يدل عليه اللفظ في القرآن الكريم والسنة والنبوية، أنه باق على ما تقتضيه اللغة العربية من المعنى. أما اللوازم الباطلة التي تلزم على تفسيرنا الاستواء بمعنى الاستيلاء، فإننا إذا تدبرنا قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف: 54) ، وقلنا "استوى" بمعنى "استولى" لزم من ذلك أن يكون العرش قبل خلق السموات والأرض ليس ملكاً لله عز وجل، لأنه قال: خلق ثم استوى، فإذا قلت: أي " ثم استولى" لزم من ذلك أن يكون العرش ليس ملكاً لله سبحانه وتعالى قبل خلق السموات والأرض، ولا حين خلق السموات والأرض، وأيضاً يلزم منه أن يصح التعبير بقولنا: "إن الله استوى على الأرض، واستوى على أي شيء من مخلوقاته - نقدره أو نقوله - وهذا لا شك أنه معنى باطل لا يليق بالله عز وجل، فتبين بهذا أن تفسير الاستواء بالاستيلاء فيه محظوران: أحدهما: تحريف الكلم عن مواضعه. والثاني: أن يتصف الله عز وجل بما لا يليق به. الواجب تجاه كل نوع من أنواع التوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 السؤال (10) : فضيلة الشيخ، ما هو الواجب علينا نحو كل نوع منها على حدة؟ الجواب: الواجب علينا أن نعتقد ما يتضمنه كل نوع، وأن نوحد الله عز وجل بما يقتضيه هذا النوع من المعاني. خطر عبادة غير الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 السؤال (11) : فضيلة الشيخ، ما حكم صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله سبحانه؟ الجواب: هذه ربما يفهم الجواب مما سبق آنفاً حيث قلنا: إن توحيد العبادة إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، بأن لا يتعبد أحد لغير الله تعالى بشيء من أنواع العبادة، ومن المعلوم أن الذبح قربة يتقرب به الإنسان إلى ربه، لأن الله تعالى أمر به في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2) ، وكل قربة فهي عبادة، فإذا ذبح الإنسان شيئاً لغير الله تعظيماً له، وتذللاً، وتقرباً إليه كما يتقرب بذلك ويعظم ربه عز وجل، كان مشركاً بالله سبحانه وتعالى، وإذا كان مشركاً فإن الله تعالى قد بين أن المشرك حرم الله عليه الجنة وأن مأواه النار. وبناء على ذلك نقول: إن ما يفعله بعض الناس من الذبح للقبور - قبور الذين يزعمونهم أولياء - شرك مخرج عن الملة، ونصيحتنا لهؤلاء: أن يتوبوا إلى الله عز وعجل مما صنعوا، وإذا تابوا إلى الله، وجعلوا الذبح لله وحده، كما يجعلون الصلاة لله وحده، والصيام لله وحده، فإنهم يغفر لهم ما قد سبق، كما قال الله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (لأنفال: 38) ، بل إن الله سبحانه وتعالى يعطيهم فوق ذلك، فيبدل الله سيئاتهم حسنات، كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان: 68-70) . فنصيحتي لهؤلاء الذين يتقربون إلى أصحاب القبور بالذبح لهم، أن يتوبوا إلى الله تعالى من ذلك، وأن يرجعوا إليه، وأن يبشروا إذا تابوا بالتوبة من الكريم المنان، فإن الله سبحانه وتعالى يفرح بتوبة التائبين. معنى الشهادتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 السؤال (12) : فضيلة الشيخ، ما معنى الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ الجواب: الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، هما مفتاح الإسلام، ولا يمكن الولوج إلى الإسلام إلا بهما، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أن يكون أول ما يدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (1) . فإما الكلمة الأولى: وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فأن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه، بأنه لا معبود إلا الله عز وجل، لأن إله بمعنى مألوه، والتأله: التعبد والمعنى: أنه لا معبود إلا الله تعالى وحده. وهذا الجملة تشتمل على نفي وإثبات، فأما النفي ففي قوله "لا إله"، وأما الإثبات ففي قوله: "لا إله، و"الله" بدل من الخبر المحذوف خبر "لا" لأن التقدير: "لا إله حق إلا الله". فهو إقرار باللسان بعد أن آمن به القلب بأنه لا معبود حق إلا الله عز وجل، وهذا يتضمن إخلاص العبادة لله وحده، ونفي العبادة عما سواه، وبتقديرنا الخبر بهذه الكلمة "حق"، يتبين الجواب عن الإشكال الذي (يورده) كثير من الناس وهو كيف تقولون: "لا إله إلا الله" مع أن هناك آلهة تعبد من دون الله. سماها الله آلهة، وسماها عابدوها آلهة. فقال الله تبارك وتعالى: (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) (هود: 101) ، وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (الاسراء: 39) ، وقال تعالى: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (القصص: 88) ، فكيف يمكن أن نقول "لا إله إلا الله"، مع ثبوت الألوهية لغير الله عز وجل، وكيف يمكن أن نثبت الألوهية لغير الله والرسل يقولون لأقوامهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف: من الآية59) . والجواب على هذا الإشكال: يتبين بتقدير الخبر في " لا إله إلا الله" فنقول: هذه الآلهة التي تعبد من دون الله هي آلهة، لكنها آلهة باطلة، ليست آلهة حقة، وليس لها من حق الألوهية شيء، ويدل لذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (لقمان: 30) ، ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (19) (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) (20) (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى) (21) (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) (22) (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) (النجم: 19-23) ، وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) (يوسف: 40) ، إذن فمعنى لا إله إلا الله أي لا معبود حق إلا الله عز وجل، فأما المعبودات سواه، من الرسول، أو الملائكة، أو الأولياء، أو الأحجار، أو الأشجار، أو الشمس، أو القمر، أو غير ذلك فإن ألوهيتها التي يزعمها عابدوها ليست حقيقة، أي ألوهية باطلة. بل الألوهية الحق هي ألوهية الله عز وجل. معنى شهادة أن محمداً رسول الله   (1) تقدم تخريجه صفحة (14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 السؤال (13) : فضيلة الشيخ، هذا معنى شهادة لا إله إلا الله، فما معنى شهادة أن محمداً رسول الله؟ الجواب: أما معنى شهادة أن محمداً رسول الله، فهو الإقرار باللسان، والإيمان بالقلب، بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله عز وجل إلى جميع الخلق، من الجن والإنس، كما قال الله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف: 158) وقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان: 1) ، ومقتضى هذه الشهادة: أن تصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر، وألا تعبد الله إلا بما شرع، ومقتضى هذه الشهادة أيضاً: ألا تعتقد أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقا من الربوبية وتصريف الكون، أو حقا في العبادة، بل هو صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً من النفع والضر إلا ما شاء الله، كما قال الله تعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام: 50) . فهو عبد مأمور يتبع ما أمر به، وقال الله تعالى (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (21) (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجن: 21، 22) ، وقال الله تعالى: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 188) ، فهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وبهذا المعنى نعلم أنه لا يستحق العبادة لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من دونه من المخلوقين، وأن العبادة ليست إلا لله تعالى وحده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حقه أن ننزله المنزلة التي أنزله الله تعالى، وهو أنه عبد الله ورسوله. الفرق بين الاعتراف باللسان والقلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 السؤال (14) : فضيلة الشيخ، لكن ما الفرق بين الاعتراف باللسان والقلب، وهل يلزم الجمع بينهما؟ الجواب: نعم، الفرق بين الاعتراف بالقلب واللسان ظاهر، فإن من الناس من يعترف بلسانه دون قلبه كالمنافقين، فالمنافقون يقول الله عنهم: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) (المنافقون: 1) ، لكن قال الله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون: 1) ، هؤلاء اعترفوا بألسنتهم دون قلوبهم، وقد يعترف الإنسان بقلبه، لكن لا ينطق به، وهذا الاعتراف لا ينفعه بالنسبة لنا ظاهراً، أما فيما بينه وبين الله فالعلم عند الله، أو فحكمه إلى الله، لكنه في الدنيا لا ينفعه، ولا يحكم بإسلامه مادام لا ينطق بلسانه، اللهم إلا أن يكون عاجزاً عن ذلك، عجزاً حسيا أو حكميا، فقد يعامل بما تقتضيه حاله، فلابد من الاعتراف بالقلب واللسان. شبهة وجوابها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 السؤال (15) : فضيلة الشيخ، الذي جرنا إلى هذا السؤال أن هناك فريقاً من الناس الآن إذا دعي أحدهم إلى العبادة قال: إن الله رب قلوب، وهذا أيضاً الذي نريد التعليق عليه؟ الجواب: نعم نحن نقول: إن الله رب القلوب والألسن وليس رب القلوب فقط، والقلوب لو صلحت لصلحت الجوارح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (1) ، وهذا الحديث يبطل كل دعوى يدعيها بعض الناس، إذا نصحته في أمر من الأمور مما عصى الله به قال لك: "التقوى هاهنا" (2) ويشير إلى صدره، وهي كلمة حق أريد بها باطل، والكلمة قد تكون حقا في مدلولها العام، لكن يريد بها القائل أو المتكلم معنى باطلاً، ألا ترى إلى قول الله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: 148) ، فهم قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، وصدقوا فيما قالوه، فلو شاء الله ما أشركوا ولكنهم لا يريدون بهذه الكلمة حقا، بل يريدون بها تبرير بقائهم على شركهم، ورفع العقوبة عنهم، ولهذا قال الله تعالى: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) (الأنعام: 148) ، فلم ينفعهم الاحتجاج بالقدر حين أردوا به الاستمرار على شركهم، ورفع اللوم عنهم والعقوبة أما الواقع فإنه كما قالوا: "لو شاء الله ما أشركوا" كما قال الله تعالى لنبيه: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (106) (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) (الأنعام: 106-107) لكن هناك فرق بين الحالين، فالله قال لنبيه: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) ليبين أن شركهم واقع بمشيئته، وأن له حكمة - سبحانه وتعالى - في وقوع الشرك منهم، وليسلي نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الأمر الواقع منهم بمشيئته تبارك وتعالى. فالمهم أن هذا الذي قال حينما نصحته: " التقوى هاهنا"قال كلمة حق لكنه أراد بها باطلاً، فالذي قال: " التقوى هاهنا" هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الذي قال "التقوى هاهنا" هو الذي قال: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله"، فإذا كان في القلب تقوى، لزم إن يكون في الجوارح تقوى. والعمل الظاهر عنوان على العمل الباطن. مفهوم الإيمان   (1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52) ، ومسلم كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم (1599) . (2) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله، رقم (2564) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 السؤال (16) : فضيلة الشيخ، ما هو مفهوم الإيمان وأركانه بصورة مختصرة؟ الجواب: الإيمان له مفهومان: مفهوم لغوي، وهو الإقرار بالشيء والتصديق به، ومفهوم شرعي، وهو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، فلا يكفي في الشرع أن يقر الإنسان بما يجب الإيمان به حتى يكون قابلاً ومذعناً، فمثلاً: لو أقر الإنسان بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف أنه رسول الله، لكن لم يقبل ما جاء به، ولم يذعن لأمره، فإنه ليس بمؤمن. ولهذا يوجد من المشركين من اعترفوا، وأقروا للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لكنهم لم ينقادوا له ولم يذعنوا، بل بقوا على دين قومهم، فلم ينفعهم هذا الإقرار المجرد عن القبول والإذعان، فالإيمان في الشرع أخص من الإيمان في اللغة، وقد يكون الإيمان في الشرع أعم من الإيمان في اللغة، فالصلاة مثلاً من الإيمان شرعاً، كما قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (البقرة: 143) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، لكنها في اللغة لا تسمى إيماناً، لأنها عمل ظاهر، والإيمان في اللغة من الأمور الباطنة. إذن فإذا أردنا أن نعرف الإيمان الشرعي نقول فيه: هو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، فإن لم يكن مستلزماً لذلك فليس بإيمان شرعاً. علاقة هذا المفهوم بحديث جبريل عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 السؤال (17) : فضيلة الشيخ، هل هذا المفهوم هو المفهوم الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام حينما سأله عن الإيمان؟ الجواب: نعم لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله الحقيقي يستلزم القبول والإذعان، فمن قال: إنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولكن لم يقبل ولم يذعن، لم ينفعه هذا القول، ولا الإيمان الذي في قلبه أيضاً، فلابد أن يقبل ويذعن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 السؤال (18) : فضيلة الشيخ، لكن إذا سئل الإنسان عن الإيمان هل يقول هو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، أو يقول: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: نحن نقول إنها القبول والإذعان، وإذا قلنا بهذا وأراد السائل أن نفصل نقول: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ثم إن تفصيل الإيمان الذي أشرنا إليه يشمل الدين كله. مفهوم الإيمان وأركانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 السؤال (19) : فضيلة الشيخ، نريد أن نتوسع في مفهوم الإيمان، وكذلك نريد أن نعرف أركان الإيمان؟ الجواب: كنا تكلمنا عن التعريف الذي أشرنا إليه والتعريف الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، التعريف الذي أشرنا إليه هو تعريف عام يشمل الدين كله، وهو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، وهو الذي يتكلم عليه العلماء في الأصول، في كتب العقائد، أما ما جاء في حديث جبريل، فإنه مفهوم خاص للإيمان، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله جبريل عليه السلام عن الإسلام وبينه له ثم سأله عن الإيمان الذي هو العقيدة الباطنة. والإسلام هو الأعمال الظاهرة، وإلا فلا يشك أحد أن اعتقاد الإنسان بأنه لا إله إلا الله هو من الإيمان بلا شك، لكنه لما كان قولاً صار من الأعمال الظاهرة، التي هي الصلاة والزكاة والصوم والحج. والأركان التي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام ستة كما هي معلومة، قال عليه الصلاة والسلام في جوابه لجبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" (1) ، ونتكلم على هذه الأركان الستة لأهميتها: أما الإيمان بالله: فإنه يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، والإيمان بربويته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته. أما الإيمان بوجوده: فهو الإقرار التام بأن الله سبحانه وتعالى موجود، ولم يفه أحد بإنكار وجود الله عز وجل إلا على سبيل المكابرة، وإلا فإن كل عاقل لا يمكنه أن يدعي بأن هذا الكون خلق أو جاء صدفة، أو جاء من غير موجد، لأن هذا ممتنع باتفاق العقلاء، فالإيمان بوجوده أو بعبارة أصح وجود الله عز وجل دلت عليه جميع الأدلة، العقلية، والفطرية، والحسية، والشرعية، هذه الأشياء الأربعة كلها دلت على وجود الله عز وجل. أما الدليل العقلي: فإننا نشاهد هذا الكون في وجوده، وفيما يحدث فيه من أمور لا يمكن أن يقدر عليها أحد من المخلوقين، وجود هذا الكون، السموات والأرض وما فيهما، من النجوم، والجبال، والأنهار، والأشجار، والناطق، والبهيم، وغير ذلك، من أين حصل هذا الوجود؟ هل حصل هذا صدفة؟ أو حصل بغير موجد؟ أو أن هذا الوجود أوجد نفسه؟ هذه ثلاثة احتمالات لا يقبل العقل شيئاً رابعاً، وكلها باطلة إلا الاحتمال الرابع، الذي هو الحق. فأما كونها وجدت صدفة فهذا أمر ينكره العقل وينكره الواقع، لأن مثل هذه المخلوقات العظيمة لا يمكنك أنت أن توجدها هكذا صدفة، كل أثر لابد له من مؤثر وكون هذه المخلوقات العظيمة بهذا النظام البديع المتناسق، الذي لا يتعارض، ولا يتصادم، لا يمكن أن يكون صدفة، لأن الغالب فيما وقع صدفة، أن تكون تغيراته غير منتظمة، لأنه كله صدفة. وأما كون هذا الوجود أوجد نفسه، فظاهر الاستحالة أيضاً، لأن هذا الوجود قبل أن يوجد ليس بشيء، بل هو عدم، والعدم لا يمكن أن يوجد معدوماً. وأما كونه وجد من غير موجد فهو بمعنى قولنا إنه وجد صدفة، وهذا كما سبق مستحيل. بقي أن نقول: إنه وجد بموجد وهو الله عز وجل، كما قال الله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (35) (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور: 35-36) ، إذا فهذا الكون دل عقلاً على وجود الله عز وجل. وأما دلالة الفطرة: على وجود الله فأظهر من أن تحتاج إلى دليل، لأن الإنسان بفطرته يؤمن بربه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" (2) ، ولهذا لو وقع على أي إنسان في الدنيا شيء بغتة وهذا الشيء مهلك له، لكان يقول بلسانه من غير أن يشعر: يا الله، أو يا رب، أو ما أشبه ذلك، مما يدل على أن الغريزة الفطرية جبلت على الإيمان بوجود الله عز وجل. وأما دلالة الحس على وجود الله، فما أكثر ما نسمع من إجابة الله تعالى للدعاء، ومن إجابة الدعاء للإنسان نفسه، كم من إنسان دعا الله وقال: يا رب، فرأى الإجابة نصب عينه، ففي القرآن أمثلة كثيرة من هذا مثل قوله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (: 83) (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) (الأنبياء: 83-84) ، وفي السنة أمثلة كثيرة أيضاً، ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، الله أغثنا"، وكانت السماء صحوا ليس فيها شيء من السحاب، فما نزل النبي صلى الله عليه وسلم من على منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام، وبقي المطر أسبوعاً كاملاً حتى دخل رجل من الجمعة الثانية، فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله أن يمسكها عنا. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، وجعل يقول: "اللهم حوالينا ولا علينا" (3) ويشير بيده فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت بإذن الله، فخرج الناس يمشون في الشمس. وكم من دعاء دعا به الإنسان ربه فوجد الإجابة، وهذا دليل حسي على وجود الله عز وجل. أما الدليل الشرعي: فأكثر من أن يحصر، كل القرآن، وكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الحكمية والخبرية، فإنه دال على وجود الله عز وجل، كما قال الله تعالى في القرآن العظيم: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: 82) ، هذا أحد ما يتضمنه الإيمان بالله وهو الإيمان بوجوده. أما الإيمان بربويته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، فقد سبق القول المفصل فيها، حين تكلمنا على أنواع التوحيد الثلاثة. كيف نرد على الدهريين   (1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، رقم (8) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، رقم (1358) ، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة، رقم (2658) . (3) أخرجه البخاري، رقم (1014) ، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، رقم (897) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 السؤال (20) : لكن نجد الدهريين مثلاً وهم كثير الآن وهم من العقلاء، لأنهم يفكرون وينتجون، لكنهم يجمعون على عدم وجود الله عز وجل، فكيف يرد على مثل هؤلاء؟ الجواب: أولاً: أريد أن أعلق على قولك أنهم عقلاء، فإن أردت بالعقل عقل إدراك فنعم هم عقلاء يدركون ويفهمون، وإن أردت بذلك عقل الرشد، فليسوا بعقلاء، ولهذا وصف الله الكفار بأهم صم بكم عمي فهم لا يعلقون، لكنهم عقلاء عقل إدراك، تقوم به الحجة عليهم، وهم إذا قالوا ذلك، فإنما يقولون هذا مكابرة في الواقع، وإلا فهم يعلمون أن الباب المنصوب لا يمكن أن يصنع نفسه، ولا يمكن أن ينصب نفسه، يعرفون أن هذا الباب لابد له من نجار، أو حداد أقامه، ولابد له من بناء ركبه، بل يعلمون أن الطعام الذي يأكلونه، والماء الذي يشربونه، لابد له من مستخرج، ولابد له من زارع، وهم يعلمون أيضاً أنه ليس بإمكان أي أحد من الناس أن يكون هذا الزرع، أو ينبت هذه الحبة، حتى تكون زرعاً له ساق وثمر. فهم يعلمون ذلك، ويعلمون أن هذا ليس مما يقدر عليه البشر، ولكنهم يكابرون، والمكابر لا فائدة من محاجته، ولا يمكن أن يقبل أبداً مهما كان، لو تقول له: هذه الشمس وهي أمامه ما قبل، فمثل هؤلاء تكون المجادلة معهم مضيعة وقت، وتكون دعوتهم كما قال بعض أهل العلم بالمجالدة لا بالمجادلة. الإيمان وأركانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 السؤال (21) : فضيلة الشيخ، بقي معنا أن نحدد أركان الإيمان؟ الجواب: الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤمن بالله، وملائكته، ... " تكلمنا عن الإيمان بالله، أما الإيمان بالملائكة وهم عالم الغيب خلقهم الله عز وجل من نور، وجعلهم طوع أمره (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الأنبياء: 20) ، (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6) ، وهم على أصناف متعددة، في أعمالهم، ووظائفهم، ومراتبهم، فجبريل عليه الصلاة والسلام موكل بالوحي، ينزل بوحي الله تعالى على رسل الله، كما قال الله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (193) (عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (194) (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 193-195) ، وقال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) (النحل: من الآية102) ، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلق عليها مرتين، رآه مرة على صورته له ستمائة جناح قد سد الأفق (1) . وميكائيل أحد الملائكة العظام، وقد وكله الله عز وجل بالقطر والنبات، القطر: المطر، والنبات: نبات الأرض من المطر. وإسرافيل من الملائكة العظام، وقد وكله الله عز وجل بالنفخ في الصور، وهو أيضاً أحد حملة العرش العظيم، وهؤلاء الثلاثة كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم في استفتاح صلاة الليل، يقول صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاة الليل: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم (2) . وذكر هؤلاء الثلاثة لأن كل واحد منهم موكل بما يتضمن الحياة، والبعث من النوم يعتبر حياة، فهؤلاء الثلاثة هم أفضل الملائكة فيما نعلم، ومنهم ملك الموت الموكل بقبض أرواح الأحياء، ومنهم ملكان موكلان بالإنسان يحفظان أعماله، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ومنهم ملائكة موكلون بتتبع حلق الذكر، ومن أراد المزيد من ذلك فليراجع ما كتبه أهل العلم في هذا. الإيمان بالملائكة   (1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء، رقم (3232، 3234) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، رقم (173) . (2) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (770) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 السؤال (22) : فضيلة الشيخ، هل بقي شيء يتعلق بالإيمان بالملائكة تريدون أن تتحدثوا عنه أم ننتقل إلى بقية الأركان؟ الجواب: بقي من الركن الثاني وهو الإيمان بالملائكة أن الإيمان بالملائكة عليهم الصلاة والسلام يكون إجمالاً ويكون تفصيلاً، فما علمناه بعينه وجب علينا أن نؤمن به بعينه ونفصل، نقول: نؤمن بالله، نؤمن بجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، ومالك خازن النار، وما أشبه ذلك. وما لم نعلمه بعينه فإننا نؤمن به إجمالاً، فنؤمن بالملائكة على سبيل العموم، والملائكة عدد كبير لا يحصيهم إلا الله عز وجل، قال النبي عليه الصلاة والسلام "البيت المعمور الذي في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم" (1) ، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه: " ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد" (2) ، ولكننا لا نعلم أعيانهم ووظائفهم وأعمالهم إلا ما جاء به الشرع، فما جاء به الشرع على وجه التفصيل، من أحوالهم وأعمالهم ووظائفهم، وجب علينا أن نؤمن به على سبيل التفصيل، وما لم يأت على سبيل التفصيل، فإننا نؤمن به إجمالاً. وهؤلاء الملائكة الذين لهم من القدرة والقوة ما ليس للبشر من آيات الله عز وجل، فيكون في الإيمان بهم إيمان بالله سبحانه وتعالى وبقدرته العظيمة، وعلينا أن نحب هؤلاء الملائكة، لأنهم مؤمنون، ولأنهم قائمون بأمر الله عز وجل، ومن كان عدوا لأحد منهم، فإنه كافر، كما قال الله تعالى (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة: 98) ، وقال تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) (البقرة: 97) ، فالمهم أن هؤلاء الملائكة عليهم الصلاة والسلام علينا أن نحبهم، لأنهم عباد لله تعالى، قائمون بأمره، وأن لا نعادي أحداً منهم. الإيمان بالكتب   (1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم، رقم (3207) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (164) . (2) أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلم.."، رقم (2312) ، وأحمد في المسند (5/173) ، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، رقم (4190) ، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 السؤال (23) : فضيلة الشيخ، بقي الركن الثالث من أركان الإيمان؟ الجواب: الركن الثالث هو الإيمان بكتب الله عز وجل، كتب الله التي أنزلها على رسله عليهم الصلاة والسلام، فإن ظاهر القرآن يدل على أنه ما من رسول إلا وأنزل الله معه كتاباً، كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25) ، وقال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة: 213) . وهذه الكتب طريق الإيمان بها أن نؤمن بها إجمالاً، وما علمناه بعينه نؤمن به بعينه، فالتوارة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى والقرآن الكريم، هذه معلومة لنا بعينها، فنؤمن بها بعينها وما عدا ذلك نؤمن به إجمالاً، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولكن كيف نؤمن بهذه الكتب؟ نقول: ما صح نقله منها إلينا من الأخبار وجب علينا تصديقه بكل حال، لأنه من عند الله، وأما أحكامه، أي ما تضمنته هذه الكتب من الأحكام، فلا يلزمنا العمل إلا بما جاء في القرآن الكريم، وأما ما نقل إلينا منها ولم نعلم صحته، فإننا نتوقف فيه حتى يتبين لنا صحته، لأن هذه الكتب دخلها التحريف، والتبديل، والتغير والزيادة والنقص. الإيمان بالرسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 السؤال (24) : فضيلة الشيخ، هذا بالنسبة للركن الثالث، فما قولكم في الركن الرابع الذي هو الإيمان بالرسل؟ الجواب: الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام يكون بأن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى البشر رسلاً منهم، يتلون عليهم آيات الله ويزكونهم، وأن هؤلاء الرسل أولهم نوح عليه الصلاة والسلام، وأخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأما قبل نوح فلم يبعث رسول، وبهذا نعلم خطأ المؤرخين الذين قالوا: إن إدريس عليه الصلاة والسلام كان قبل نوح، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (النساء: 163) ، وفي الحديث الصحيح في قصة الشفاعة: أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض (1) ، فلا رسول قبل نوح، ولا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لقول الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب: 40) . فأما نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان فإنه لا ينزل على أنه رسول مجدد، بل ينزل على أنه حاكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الواجب على عيسى وعلى غيره من الأنبياء الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران: 81) . وهذا الرسول المصدق لما معهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، كما صح ذلك عن ابن عباس وغيره، فالمهم أن نؤمن بالرسل على هذا الوجه، بأن أولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكيفية الإيمان بهم: أن ما جاء من أخبارهم وصح عنهم نؤمن به ونصدق، لأنه من عند الله عز وجل، وأما الأحكام فلا يلزمنا أتباع شيء منها، إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وما اقتضته شريعته. أما بالنسبة لأعيان هؤلاء الرسل، فمن سماه الله لنا، أو سماه رسوله صلى الله عليه وسلم، وجب علينا الإيمان به بعينه، وما لم يسم فإننا نؤمن به على سبيل الإجمال، كما قلنا ذلك في الكتب وفي الملائكة. الإيمان باليوم الآخر   (1) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِه) ، رقم (3340) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها رقم (194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 السؤال (25) : فضيلة الشيخ، كيف يكون الإيمان بالركن الخامس وهو اليوم الآخر؟ الجواب: الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بقيام الساعة، وسمي يوماً آخر، لأنه ليس بعده يوم، فإن الإنسان كان عدماً، ثم وجد في بطن أمه، ثم وجد في الدنيا، ثم ينتقل إلى البرزخ، ثم يوم القيامة، فهذه أحوال خمس للإنسان، (هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (الإنسان: 1) ، هذه الحال الأولى أنه ليس شيئاً مذكوراً، ثم وجد في بطن أمه، ثم خرج (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئا) (النحل: 78) ، ثم يكدح في هذه الدنيا ويعمل، ثم ينتقل إلى الآخرة في برزخ بين الدنيا وقيام الساعة، فالإيمان باليوم الآخر يدخل فيه- كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية - الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمن الإنسان بفتنة القبر، ونعيم القبر وعذابه، ويؤمن بقيام الساعة، بالنفخ في الصور، بالحساب، بالميزان، بالحوض المورود، بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، إما في كتاب الله، أو في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، مما يكون بعد الموت. ويحسن أن نتكلم عن فتنة القبر، وهي أن الميت إذا دفن أتاه ملكان فيسألانه عن ربه ودينه ونبيه، فأما المؤمن فيثبته الله تعالى بالقول الثابت، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد، وأما غير المؤمن فإنه يقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى يوم القيامة، فمن كان من غير المسلمين، فهو في عذاب إلى يوم القيامة، ومن كان من عصاة المؤمنين، فإنه قد يعذب في قبره لمدة يعلمها الله عز وجل، ثم يرفع عنه العذاب، وهذا العذاب أو النعيم يكون في الأصل على الروح، ولكن قد يتألم البدن به، كما أن العذاب في الدنيا يكون على البدن، وقد تتألم النفس فيه ففي الدنيا مثلاً الضرب يقع على البدن، والألم يقع على البدن، والنفس قد تتأثر بذلك، فتحزن وتغتم، أما في القبر فالأمر بالعكس، العذاب أو النعيم يكون على الروح، لكن البدن لا شك أنه يحصل له شيء من هذا العذاب أو النعيم، إما بالفرح بالنعيم، وإما بالألم بالحزن بسبب العذاب. أما إذا قامت الساعة، وهي القيامة الكبرى فإن الناس يقومون من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، حفاة: ليس عليهم ما يقي أقدامهم من نعال أو خفاف أو غيرها. عراة: ليس على أبدانهم ما يكسوها. غرلاً: أي غير مختونين، فتعود الجلدة التي قطعت في الختان في الدنيا، ليخرج الإنسان من قبره تاماً لا نقص فيه، كما قال الله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (الأنبياء: 104) ، ثم يكون الحساب على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم النهاية إما إلى جنة وإما إلى نار، فمن دخل الجنة فهو مخلد فيها أبد الآبدين، ومن دخل النار فإن كان من العصاة، فإنه يخرج منها بعد أن يعذب بما يستحق، إن لم تنله الشفاعة أو رحمة الله عز وجل، ولكنه لا يخلد فيها، وأما الكافر فإنه يخلد فيها أبد الآبدين. الإيمان بالقدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 السؤال (26) : فضيلة الشيخ، بقي الإيمان بالقدر نريد أن تحدثنا عنه أثابكم الله؟ الجواب: الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل حين سأله عن الإيمان، والإيمان بالقدر أمر هام جداً، وقد تنازع الناس في القدر من زمن بعيد، حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان الناس يتنازعون فيه ويتمارون فيه، وإلى يومنا هذا والناس كذلك يتنازعون فيه، ولكن الحق فيه ولله الحمد واضح بين، لا يحتاج إلى نزاع ومراء، فالإيمان بالقدر: أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد قدر كل شيء، كما قال الله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: 2) ، وهذا التقدير الذي قدره الله عز وجل تابع لحكمته، وما تقتضيه هذه الحكمة من غايات حميدة، وعواقب نافعة للعباد في معاشهم ومعادهم. ويدور الإيمان بالقدر على الإيمان بأمور أربعة: أحدها: العلم، وذلك أن تؤمن إيماناً كاملاً بأن الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً، أحاط بكل شيء مما مضى، ومما هو حاضر، ومما هو مستقبل، سواء كان لك مما يتعلق بأفعاله عز وجل، أو بأفعال عباده، فهو محيط بها جملة وتفصيلا، بعلمه الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وأدلة هذه المرتبة كثيرة في القرآن والسنة، قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران: 5) ، وقال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 59) ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (ق: 16) ، وقال تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: 283) ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علم الله سبحانه وتعالى في كل شيء جملة وتفصيلاً. وهذه المرتبة من الإيمان بالقدر، من أنكرها فهو كافر، لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين، وطاعن في كمال الله عز وجل، لأن ضد العلم إما الجهل وإما النسيان، وكلاهما عيب، وقد قال الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام حين سأله فرعون: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) (51) (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طه: 51-52) ، فهو لا يضل، أي لا يجهل شيئاً مستقبلاً، ولا ينسى شيئاً ماضياً سبحانه وتعالى. أما المرتبة الثانية: فهي الإيمان بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، فإن الله عز وجل لما خلق القلم قال له: اكتب، قال: ربي، وماذا أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن (1) . فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة، جملة وتفصيلا، فكتب الله عز وجل في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء. وقد دل على هذه المرتبة والتي قبلها قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج: 70) ، فقال: (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ) ، أي: معلومة عند الله عز وجل (فِي كِتَابٍ) وهو اللوح المحفوظ (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ثم هذه الكتابة تكون أيضاً مفصلة أحياناً فإن الجنين في بكن أمه إذا مضى عليه أربعة أشهر، يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) . ويكتب أيضاً في ليلة القدر ما يكون في تلك السنة، كما قال الله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (3) (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (4) (أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان: 3-5) . أما المرتبة الثالثة: فالإيمان بأن كل ما في الكون، فإنه بمشيئة الله، فكل ما في الكون فهو حادث بمشيئة الله عز وجل، سواء كان ذلك مما يفعله هو عز وجل، أو مما يفعله الناس، أو بعبارة أعم مما يفعله المخلوق، قال الله تبارك وتعالى: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: 27) وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (النحل: 9) ، وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَة) (هود: 118) ، وقال تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (فاطر: 16) ، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على أن فعله عز وجل واقع بمشيئته وكذلك أفعال الخلق واقعة بمشيئته، كما قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: 253) ، وهذا النص صريح بأن أفعال العبد قد شاءها الله عز وجل، ولو شاء الله أن لا يفعل لم يفعل. أما المرتبة الرابعة في الإيمان بالقدر، فهي الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، فالله عز وجل هو الخالق، وما سواه مخلوق، فكل شيء الله تعالى خالقه، فالمخلوقات مخلوقة لله عز وجل، وما يصدر منها من أفعال وأقوال، مخلوق لله عز وجل أيضاً، لأن أفعال الإنسان وأقواله من صفاته، فإذا كان الإنسان مخلوقاً، كانت الصفات أيضاً مخلوقة لله عز وجل، ويدل لذلك قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات: 96) ، فنص الله تعالى على خلق الإنسان، وعلى خلق عمله، قال (وَمَا تَعْمَلُونَ) وقد اختلف الناس في "ما" هنا: هل هي مصدرية أو موصولة؟ وعلى كل تقدير فإنها تدل على أن عمل الإنسان مخلوق لله عز وجل. هذه أربع مراتب لا يتم الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها، ونعيدها فنقول: أن تؤمن بأن الله تعالى عليم بكل شيء جملة وتفصيلاً. ثانياً: أن تؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء. ثالثاً: أن تؤمن بأن كل حادث، فهو بمشيئة الله عز وجل. رابعاً: أن تؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء. ثم اعلم أن الإيمان بالقدر لا ينافي فعل الأسباب، بل إن فعل الأسباب مما أمر به الشرع، وهو حاصل بالقدر، لأن الأسباب تنتج عنها مسبباتها، ولهذا لما توجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، ذكر له في أثناء الطريق أنه قد وقع فيها الطاعون، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم، هل يستمر ويمضي في سيره، أو يرجع إلى المدينة؟ فاختلف الناس عليه، ثم استقر رأيهم على أن يرجعوا إلى المدينة، ولما عزم على ذلك، جاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح، وكان عمر رضي الله عنه يجله ويقدره، فقال: يا أمير المؤمنين، كيف ترجع إلى المدينة، أفراراً من قدر الله؟ قال رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله. وبعد ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان غائباً في حاجة له، فحدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الطاعون: " إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه" (3) . الحاصل قول عمر رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله، فهذا يدل على أن اتخاذ الأسباب من قدر الله عز وجل، ونحن نعلم أن الرجل لو قال: أنا سأؤمن بقدر الله، وسيرزقني الله ولداً بدون زوجة، ولو قال هذا لعد من المجانين، كما لو قال: أنا أؤمن بقدر الله ولن أسعى في طلب الرزق، ولم يتخذ أي سبب للرزق، لعد ذلك من السفه. فالإيمان بالقدر إذن لا ينافي الأسباب الشرعية أو الحسية الصحيحة، أما الأسباب الوهمية التي يدعي أصحابها أنها أسباب وليست كذلك، فهذه لا عبرة بها، ولا يلتفت إليها. ثم اعلم أنه يرد على الإيمان بالقدر إشكال وليس بإشكال في الواقع، وهو أن يقول قائل: إذا كان فعلي من قدر الله عز وجل فكيف أعاقب على المعصية وهي من تقدير الله عز وجل؟ والجواب على ذلك أن يقال: لا حجة لك على المعصية بقدر الله، لأن الله عز وجل لم يجبرك على هذه المعصية، وأنت حين تقدم عليها لم يكن لديك العلم بأنها مقدرة عليك، لأن الإنسان لا يعلم بالمقدور إلا بعد وقوع الشيء، فلماذا لم تقدر قبل أن تفعل المعصية، أن الله قدر لك الطاعة، فتقوم بطاعته، وكما أنك في أمورك الدنيوية تسعى لما ترى أنه خير، وتهرب مما ترى أنه شر، فلماذا لا تعامل نفسك هذه المعاملة في عمل الآخرة، أنا لا أعتقد أن أحداً يقال له: إن لمكة طريقين: أحدهما: طريق مأمون ميسر، والثاني: طريق مخوف صعب، لا أعتقد أن أحداً يسلك الطريق المخوف الصعب، ويقول: إن هذا قد قدر لي، بل سوف يسلك الطريق المأمون الميسر، ولا فرق بين هذا وبين أن يقال لك: إن للجنة طريقاً وللنار طريقاً، فإنك إذا سلكت طريق النار، فأنت كالذي سلك طريق مكة المخوف الوعر، وأنت بنفسك تنتقد هذا الرجل الذي سلك الطريق المخوف الوعر، فلماذا ترضى لنفسك أن تسلك طريق الجحيم، وتدع طريق النعيم، ولو كان للإنسان حجة بالقدر على فعل المعصية، لم تنتف هذه الحجة بإرسال الرسل وقد قال الله تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل) (النساء: 165) . زيادة الإيمان ونقصانه   (1) أخرجه أحمد في المسند (5/317) ، والترمذي، كتاب القدر، رقم (2155) ، وقال: غريب. وأبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، رقم (4700) . (2) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم، رقم (3208) ، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، رقم (2643) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، رقم (5729) . ومسلم، كتاب الطب، باب الطاعون والطيرة ... ، رقم (2219) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 السؤال (27) : فضيلة الشيخ، هل الإيمان يزيد وينقص؟ ونود أن نعرف بأي شيء تحصل الزيادة، وبأي شيء يحصل النقصان؟ الجواب: هناك كلمة بقيت في الإيمان بالقدر يسيرة، وهي أن الإيمان بالقدر له ثمرات جليلة على سير الإنسان وعلى قلبه، لأنك إذا آمنت بأن كل شيء بقضاء الله وقدره، فإنك عند السراء تشكر الله عز وجل، ولا تعجب بنفسك ولا ترى أن هذا الأمر حصل منك بحولك وقوتك، ولكنك تؤمن بأن هذا سبب إذا كنت قد فعلت السبب الذي نلت به ما يسرك، وأن الفضل كله بيد الله عز وجل، فتزداد بذلك شكراً لنعمة الله سبحانه وتعالى، ويحملك هذا على أن تقوم بطاعة الله على حسب ما أمرك به، وألا ترى لنفسك فضلاً على ربك، بل ترى المنة لله سبحانه وتعلى عليك، قال الله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 17) ، كما أنك إذا أصابتك الضراء فإنك تؤمن بالله عز وجل وتستسلم، ولا تندم على ذلك، ولا يلحقك الحسرة، ألم تر إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" (1) . فالإيمان بالقدر فيه راحة النفس والقلب، وعدم الحزن على ما فات، وعدم الغم والهم لما يستقبل، قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (22) (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد22-23) ، والذي لا يؤمن بالقدر لا شك أنه سوف يتضجر عند المصائب ويندم، ويفتح له الشيطان كل باب، وأنه سوف يفرح ويبطر ويغتر فيما إذا أصابته السراء، ولكن الإيمان بالقدر يمنع هذا كله. أما بالنسبة لزيادة الإيمان ونقصانه، فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو الإقرار بالقلب، والنطق باللسان، والعمل بالجوارح، فهو يتضمن هذه الأمور الثلاثة، إقرار بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح، وإذا كان كذلك، فإنه سوف يزيد وينقص، وذلك لأن الإقرار بالقلب يتفاضل، فليس الإقرار بالخبر كالإقرار بالمعاينة، وليس الإقرار بخبر الرجل كالإقرار بخبر الرجلين، وهكذا. ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة: 260) ، فالإيمان يزيد من حيث الإقرار إقرار القلب وطمأنينته وسكونه، والإنسان يجد ذلك من نفسه، فعندما يحضر مجلس ذكر، فيه موعظة وذكر للجنة والنار، يزداد إيماناً حتى كأنه يشاهد ذلك رأي عين، وعندما تكون الغفلة، ويقوم من هذا المجلس، يخف هذا اليقين في قلبه. كذلك يزداد الإيمان من حيث القول، فإن من ذكر الله عز وجل عشر مرات، ليس كمن ذكر الله مائة مرة، فالثاني أزيد بكثير. وكذلك أيضاً من أتى بالعبادة على وجه كامل، يكون إيمانه أزيد ممن أتى بها على وجه ناقص، وكذلك العمل، فإن الإنسان إذا عمل عملاً بجوارحه أكثر من الآخر، صار الثاني أزيد إيماناً من الناقص، وقد جاء ذلك في الكتاب والسنة، أعني إثبات الزيادة والنقصان جاء في الكتاب والسنة، قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً) (المدثر: 31) ، وقال الله تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (124) (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 124-125) ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" (2) ، فالإيمان إذن يزيد وينقص، لكن ما سبب زيادة الإيمان ونقصانه؟ أما أسباب زيادة الإيمان فمنها: السبب الأول: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، فإن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله وبأسمائه وصفاته أزداد إيماناً بلا شك، ولهذا تجد أهل العلم الذين يعلمون من أسماء الله وصفاته ما لا يعلمه غيرهم تجدهم أقوى إيماناً من الآخرين من هذا الوجه. السبب الثاني: النظر في آيات الله الكونية والشرعية، فإن الإنسان كلما نظر إلى الآيات الكونية التي هي المخلوقات- السموات والأرض والإنسان والبهيمة وغير ذلك - ازداد إيماناً، قال الله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (: 20) (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذريات20-21) ، والآيات الدالة على هذا كثيرة، أعني الآيات الدالة على أن الإنسان بتدبره وتأمله في هذا الكون يزداد إيماناً. السبب الثالث: كثرة الطاعات، فالإنسان كلما كثرت طاعاته ازداد بذلك إيماناً، سواء كانت هذه الطاعات من الطاعات القولية أو الفعلية، فالذكر يزيد الإيمان كمية وكيفية، والصلاة والصوم والحج تزيد الإيمان أيضاً كمية وكيفية. أما أسباب النقصان فإنها على العكس من ذلك: فالجهل بأسماء الله وصفاته يوجب نقص الإيمان، لأن الإنسان إذا لم يعرف أسماء الله وصفاته ينقصه العلم بهذه الأسماء والصفات التي تزيد في الإيمان. السبب الثاني: الإعراض عن التفكر في آيات الله الكونية والشرعية، فإن هذا يسبب نقص الإيمان، أو على الأقل ركوده وعدم نموه. الثالث: فعل المعصية، فإن للمعصية آثاراً عظيمة على القلب، وعلى الإيمان، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (3) . الرابع: ترك الطاعة، فإن ترك الطاعة سبب لنقص الإيمان، لكن إن كانت الطاعة واجبة وتركها بلا عذر، فهو نقص يلام عليه ويعاقب، وإن كانت الطاعة غير واجبة، أو واجبة لكن تركها لعذر، فإنه نقص لا يلام عليه، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم النساء ناقصات عقل ودين، وعلل نقصان دينها بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم، مع أنها لا تلام على ترك الصلاة والصيام في حال الحيض، بل هي مأمورة بذلك، لكن لما فاتها الفعل الذي يقوم به الرجل، صارت ناقصة عن الرجل من هذا الوجه.   (1) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز، رقم (2664) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، رقم (304) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بنقصان الطاعات، رقم (79، 80) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) (5578) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون رقم (57) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 السؤال (28) : فضيلة الشيخ، بالنسبة لزيادة الإيمان ونقصانه هناك من يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن المعصية تذهب الإيمان كله ويكفر الإنسان، كيف يرد على هؤلاء؟ الجواب: نرد على هؤلاء بما أشرنا إليه من قبل بالنصوص من الكتاب والسنة، وكذلك بالواقع، فإننا نقول لهم: أنتم الآن لو أتاكم مخبر وقال: إن فلاناً قدم البلد اليوم، وهذا المخبر عندكم ثقة، يكون لديكم الإيمان بأنه قدم، فإذا جاء رجل آخر وأخبركم بذلك، أفلا يزداد إيمانكم به؟ سيقولون: بلى يزداد إيماننا بذلك، فإذا رأيتم هذا الرجل القادم رأي العين، ازددتم يقيناً أكثر، وهذا أمر لا يمتري فيه أحد، ثم نقول: مادمنا أدخلنا الأقوال والأعمال في مسمى الإيمان، فإن اختلاف الأقوال والأعمال بالزيادة والنقص أمر معلوم لا ينكر، فيكون في هذا دليل واضح على أن الإيمان يزيد وينقص. إنكار أن الإيمان يزيد وينقص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 السؤال (29) : فضيلة الشيخ، لكن ما حكم عدم الإقرار بزيادة الإيمان ونقصانه؟ الجواب: هذا يرجع إلى حال المنكر، إن كان أنكر ذلك تكذيباً وجحداً، فهو كافر لتكذيبه وجحده لما جاء به القرآن، وإن كان تأويلاً فإن التأويل له درجات، قد يصل إلى الكفر وقد لا يصل، فالإنسان الذي يقول: أنا لا أقول: إن الإيمان يزيد وينقص متأولاً، فإنه على حسب تأويله. صفة الحكم بغير ما أنزل الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 السؤال (30) : فضيلة الشيخ، ما هي صفة الحكم بغير ما أنزل الله؟ الجواب: الحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يبطل حكم الله ليحل محله حكم آخر طاغوتي، بحيث يلغي الحكم بالشريعة بين الناس، ويجعل بدله حكم آخر من وضع البشر، كالذين ينحون الأحكام الشرعية في المعاملة بين الناس، ويحلون محلها القوانين الوضعية، فهذا لا شك أنه استبدال بشريعة الله سبحانه وتعالى غيرها، وهو كفر مخرج عن الملة، لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق، حيث شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله، بل ما خالف حكم الله عز وجل، وجعله هو الحكم الفاصل بين الخلق، وقد سمى الله تعالى ذلك شركاً في قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (الشورى: 21) . القسم الثاني: أن تبقى أحكام الله عز جل على ما هي عليه، وتكون السلطة لها، ويكون الحكم منوطاً بها، ولكن يأتي حاكم من الحكام فيحكم بغير ما تقتضيه هذه الأحكام، يحكم بغير ما أنزل الله، فهذا له ثلاث حالات: الحال الأولى: أن يحكم بما يخالف شريعة الله معتقداً أن ذلك أفضل من حكم الله وأنفع لعباد الله، أو معتقداً أنه مماثل لحكم الله عز وجل، أو يعتقد أنه يجوز له الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا كفر، يخرج به الحاكم من الملة، لأنه لم يرض بحكم الله عز وجل، ولم يجعل الله حكماً بين عباده. الحال الثانية: أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباده، لكنه خرج عنه، وهو يشعر بأنه عاص لله عز وجل إنما يريد الجور والظلم للمحكوم عليه، لما بينه وبينه من عداوة، فهو يحكم بغير ما أنزل الله لا كراهة لحكم الله ولا استبدلاً به، ولا اعتقاداً بأنه - أي الحكم الذي حكم به - أفضل من حكم الله أو مساو له، أو أنه يجوز الحكم به، لكن من أجل الإضرار بالمحكوم عليه حكم بغير ما أنزل الله، ففي هذه الحال لا نقول: إن هذا الحاكم كافر، بل نقول: إنه ظالم معتد جائر. الحال الثالثة: أن يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباد الله، وأنه بحكمه هذا عاص لله عز وجل، لكنه حكم لهوى في نفسه، لمصلحة تعود له أو للمحكوم له، فهذا فسق وخروج عن طاعة الله عز وجل، وعلى هذه الأحوال الثلاث يتنزل قول الله تعالى في ثلاث آيات (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44) وهذا ينزل على الحال الأولى، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45) ينزل على الحال الثانية، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: 47) ينزل على الحال الثالثة. وهذه المسألة من أخطر ما يكون في عصرنا هذا، فإن من الناس من أولع وأعجب بأنظمة غير المسلمين، حتى شغف بها، وربما قدمها على حكم الله ورسوله، ولم يعلم أن حكم الله ورسوله ماض إلى يوم القيامة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق عامة إلى يوم القيامة، والذي بعثه سبحانه وتعالى عالم بأحوال العباد إلى يوم القيامة، فلا يمكن أن يشرع لعباده إلا ما هو نافع لهم في أمور دينهم ودنياهم إلى يوم القيامة، فمن زعم أو توهم أن غير حكم الله تعالى في عصرنا أنفع لعباد الله من الأحكام التي ظهر شرعها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد ضل ضلالاً مبيناً، فعليه أن يتوب إلى الله وأن يرجع إلى رشده، وأن يفكر في أمره. الفرق بين الظالم والفاسق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 السؤال (31) : فضيلة الشيخ، ذكرتم في الظالم والفاسق أشياء متقاربة أو يمكن أن تكون متداخلة، وهي أن الظالم يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم أن حكم الله أفضل لكنه يريد أن يتشفى من أحد فيطبق حكماً على شخص ما جاء عن الله، والفاسق يحكم وهو يعلم بحكم الله، ويعلم أنه هو الحكم السديد، لكنه لمصلحته أو هوى في نفسه، أو ليوافق هوى لغيره يحكم بغير ما أنزل الله، فما الفرق بينهما؟ الجواب: الفرق بينهما أن الذي نصفه بأنه ظالم حكم لطلب العدوان على المحكوم عليه، وإن لم يكن له فيه مصلحة، ولم ينظر إطلاقاً إلى مصلحة المحكوم له، لكن أهم شيء عنده هو الجور والظلم بالنسبة لهذا المحكوم عليه، أما الآخر فهو نظر لمصلحة المحكوم له، ولم يكن يشعر في نفسه أن يظلم ذلك الرجل المحكوم عليه، ولهذا لا يفرق في المحكوم عليه بأن يكون فلاناً أو فلاناً، لأنه إنما يريد مصلحة المحكوم له، أو يريد أن يجر إلى نفسه هو منفعة أو ما أشبه ذلك، فهذا هو الفرق بينهما. حقيقة الكهانة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 السؤال (32) : فضيلة الشيخ، ما هي الكهانة؟ الجواب: الكهانة فعالة مأخوذة من الكهن، وهو التخرص والتماس الحقيقة بأمور لا أساس لها، وكانت في الجاهلية صنعة لأقوام تتصل بهم الشياطين وتسترق السمع من السماء، وتحدثهم به. ثم يأخذون الكلمة التي سمعوها بل الكلمة التي نقلت إليهم من السماء بواسطة هؤلاء الشياطين، ويضيفون إليها ما يضيفون من القول، ثم يحدثون بها الناس، فإذا وقع الشيء مطابقاً لما قالوا، اغتر بهم الناس، واتخذوهم مرجعاً في الحكم بينهم، وفي استنتاج ما يكون في المستقبل. ولهذا نقول: الكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، والذي يأتي إلى الكاهن ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله من غير أن يصدقه، فهذا محرم، وعقوبة فاعله ألا تقبل له صلاة أربعين يوماً، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً أو أربعين ليلة" (1) . القسم: الثاني: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله ويصدقه بما أخبر به، فهذا كفر بالله عز وجل، لأنه صدقة في دعوى علم الغيب، وتصديق البشر في دعوى علم الغيب تكذيب لقول الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل: 65) ، وتكذيب خبر الله ورسوله كفر، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: " من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" (2) . القسم الثالث: أن يأتي للكاهن فيسأله، ليبين حاله للناس وأن ما يفعله كهانة وتمويه وتضليل، فهذا لا بأس به، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بابن صياد أو أتاه ابن صياد فأضمر له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً في نفسه، فسأله - أي النبي صلى الله عليه وسلم - ماذا خبأ له، فقال: الدخ، يريد الدخان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اخسا، فلن تعدو قدرك" (3) . هذه أحوال من يأتي إلى الكهان، وهي ثلاثة، أن يأتي فيسأله بدون أن يصدقه، وبدون أن، يقصد امتحانه وبيان حاله، فهذا محرم، وعقوبة فاعله ألا تقبل له صلاة أربعين ليلة. الثانية: أن يسأله فيصدقه، وهذا كفر بالله عز وجل، يجب على الإنسان أن يتوب منه، ويرجع إلى الله عز وجل، وإلا مات على الكفر، والحالة الثالثة: أن يأتيه فيسأله ليمتحنه، ويبين حاله للناس، فهذا لا بأس به. حكم مرتادي الكهان   (1) أخرجه مسلم، كتاب الطب، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، رقم (2230) . (2) أخرجه الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض، رقم (135) ، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب النهي عن إتيان الحائض، رقم (639) ، وصححه العلامة أحمد شاكر في حاشيته على سنن الترمذي (1/244) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب قول الرجل للرجل اخسا، رقم (6173) ، ومسلم، كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد، رقم (2925) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 السؤال (33) : فضيلة الشيخ، حبذا أيضاً لو عرفنا أحوال الناس الذين يرتادون الكهنة والكهان؟ الجواب: أحوالهم ثلاثة: الحال الأولى: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله بدون أن يصدقه، ولا يقصد بذلك بيان حاله فهذا آثم، وعقوبته ألا تقبل له صلاة أربعين يوماً. الحال الثانية: أن يأتيه فيسأله ويصدقه وهذا كافر، لأن مكذب لقول الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) (النمل: 65) . الحال الثالثة: أن يأتي إليه فيسأله ليمتحنه، ويبين حاله للناس ودجله وافتراءه، وقلنا: إن هذا لا بأس به، ومن المعلوم أن الشيء الذي يكون مباحاً إذا أفضى إلى محظور فإنه يكون محظوراً، فلو قدر أنه في هذه الحال الثالثة التي أتى إليه فيها ليمتحنه ويبين حاله أن يغتر به من يغتر من الناس، فإنه في هذه الحال لا يفعل ولا يأتي إليه ولو لهذا القصد الصحيح، لأن القاعدة أن ما أفضى إلى محظور فهو محظور. التنجيم وحكمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 السؤال (34) : فضيلة الشيخ، نريد أن نعرف التنجيم وحكمه؟ الجواب: التنجيم مأخوذ من النجم، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، بمعنى أن يربط المنجم ما يقع في الأرض أو ما سيقع في الأرض بالنجوم، بحركتها وطلوعها وغروبها واقترانها وافتراقها وما أشبه ذلك، والتنجيم نوع من السحر وهو محرم، لأنه مبني على أوهام لا حقيقة لها، فلا علاقة لما يحدث بالأرض بما يحدث في السماء، ولهذا لما كان من عقيدة أهل الجاهلية أن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت أحد، أي لموت عظيم، فكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ابنه إبراهيم رضي الله عنه، فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس حين صلى للكسوف، وقال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" (1) ، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ارتباط الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، وهو كذلك، وكما أنه - أي التنجيم - بهذا المعنى نوع من السحر، فهو أيضاً سبب للأوهام والانفعالات النفسية التي ليس لها حقيقة ولا أصل، فيوقع الإنسان في أوهام وتشاؤمات ومتاهات لا نهاية لها. هناك نوع آخر من التنجيم: وهو أن الإنسان يستدل بطلوع النجوم على الأوقات والأزمنة والفصول، فهذا لا بأس به ولا حرج فيه، مثل أن يقول: إنه إذا دخل النجم الفلاني فإنه يكون قد دخل موسوم الأمطار، أو قد دخل وقت نضوج الثمار، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به ولا حرج فيه.   (1) أخرجه البخاري، كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس، رقم (1040، 1041، 1042، 1043) ، ومسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، رقم (901م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 السؤال (35) : فضيلة الشيخ يعني أن هذا يكون من باب استقراء السنن الكونية؟ الجواب: نعم هذا كما نقول إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر، وإذا غربت دخل وقت المغرب، وما أشبه ذلك. علاقة التنجيم بالكهانة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 السؤال (36) : فضيلة الشيخ، لكن هل هناك علاقة بين التنجيم والكهانة؟ الجواب: نعم، العلاقة بينهما هي أن الكل مبني على الوهم والدجل، وأكل أموال الناس بالباطل، وإدخال الهموم والغموم عليهم، وما أشبه ذلك. أيهما أخطر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 السؤال (37) : فضيلة الشيخ، لكن أيهما أخطر على المسلمين؟ الجواب: هذا ينبني على شيوع هذا الأمر بين الناس، فقد يكون في بعض البلاد لا أثر للتنجيم عندهم إطلاقاً، ولا يهتمون به، ولا يصدقون به، ولكن الكهانة منتشرة عندهم فتكون أخطر. وقد يكون الأمر بالعكس، لكن من حيث واقع الكهانة والتنجيم فإن الكهانة أخطر وأعظم. حقيقة السحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 السؤال (38) : فضيلة الشيخ، ذكرتم في حديثكم عن التنجيم أنه نوع من السحر فما هو السحر؟ الجواب: السحر كما قال العلماء: هو عبارة عن كل ما لطف وخفي سببه، بحيث يكون له تأثير خفي لا يطلع عليه الناس، وهو بهذا المعنى يشمل التنجيم والكهانة، بل إنه يشمل التأثير بالبيان والفصاحة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن من البيان لسحرا" (1) ، فكل شيء يكون له أثر لكنه ليس شيئاً معلوماً - أي ذلك المؤثر فإنه نوع من السحر.   (1) أخرجه البخاري كتاب النكاح، باب الخطبة، رقم (5146) ، ومسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (869) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 السؤال (39) : فضيلة الشيخ، لكن ما المقصود باللطافة في قولكم: السحر كل ما لطف وخفي سببه؟ الجواب: اللطافة معناها الشيء الخفي اللطيف، وضده الشيء الجليل الكبير البين فمثلاً هذا الساحر يعمل عملاً يستجلب ود المسحور، حتى يتعلق بع تعلقاً عظيماً، أو يستجلب نفرته منه، حتى يبغضه بغضاً عظيماً. مع أن هذا الذي سحر وحصلت له المحبة العظيمة أو النفرة العظمة لا يعرف هذا الشيء ويخفي عليه سببه. حكم السحر وتعلمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 السؤال (40) : فضيلة الشيخ، ما حكم السحر وما حكم تعلمه؟ الجواب: تعلم السحر محرم، بل هو كفر إذا كانت وسيلته الاستعانة بالشياطين، قال الله تبارك وتعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (البقرة: 102) ، فتعلم هذا النوع من السحر، وهو الذي يكون بواسطة الاستعانة بالشياطين كفر، واستعماله أيضاً كفر وظلم وعدوان على الخلق، ولهذا يقتل الساحر، إما ردة، وإما حداً، فإن كان سحره على وجه يكفر به، فإنه يقتل قتل ردة وكفر، وإن كان سحره لا يصل إلى درجة الكفر فإنه يقتل حداً، دفعاً لشره وأذاه عن المسلمين. هل السحر حقيقة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 السؤال (41) : فضيلة الشيخ، هل السحر حقيقة أم أنه تخيل أو تخيلات على الناس؟ الجواب: السحر حقيقة ولا شك، وهو مؤثر حقيقة. لكن كونه يقلب الشيء أو يحرك الساكن، أو يسكن المتحرك، هذا خيال وليس حقيقة. وانظر إلى قول الله تبارك وتعالى في قصة السحرة في آل فرعون، يقول الله عز وجل: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 116) ، كيف سحروا أعين الناس؟ سحروا أعين الناس حتى صار الناس ينظرون إلى هذه الحبال والعصي كأنها ثعابين تمشي، كما قال الله تعالى في سورة طه: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (طه: 66) ، فالسحر باعتبار تأثيره في قلب الأشياء، وتحريك الساكن، أو تسكين متحرك، هذا ليس له أثر، لكن في كونه يسحر أو يؤثر على المسحور، حتى يرى الساكن متحركاً والمتحرك ساكناً، هذا أثره ظاهر جداً، إذا فله حقيقة، ولهذا يؤثر على بدن المسحور وعقله وحواسه، وربما يهلكه. علاقة الكهانة بالسحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 السؤال (42) : فضيلة الشيخ، تحدثتم عن الكهانة وعرفتم الكاهن، وعرفتم أيضاً السحر، لكن هل هناك علاقة بين الكهانة والسحر؟ الجواب: كما قلنا من قبل: إن الكاهن يؤثر في الناس بما يدجل به عليهم من الإخبارات عن الأشياء المستقبلية، وكذلك الساحر يؤثر في عقول الناس وتفكيرهم وأبدانهم، حتى يتوهم المسحور أشياء ليس لها حقيقة. هل سحر النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 السؤال (43) : فضيلة الشيخ، جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سحر، فنريد أن تتحدثوا لنا عما سحر به النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأيضاً هل حصول السحر للنبي صلى الله عليه وسلم ينافي مقام النبوة؟ الجواب: ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر (1) ، لكن هذا السحر لم يؤثر عليه من الناحية التشريعية أو الوحي، إنما غاية ما هنالك أنه وصل إلى درجة يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله في أهله، وهذا السحر الذي وضع له كان من يهودي يقال له لبيد بن الأعصم، وضعه له ولكن الله سبحانه وتعالى أنجاه منه، حتى جاءه الوحي بذلك. وعوذ بالمعوذتين عليه الصلاة والسلام (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) . ولا يؤثر هذا السحر على مقام النبوة، لأنه لم يؤثر في تصرف النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالوحي والعبادات كما أسلفنا، وقد أنكر بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، بحجة أن هذا القول يستلزم تصديق الكافرين، بل تصديق الظالمين الذين قالوا: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (الإسراء: 47) ، ولكن هذا لا شك أنه لا يستلزم موافقة هؤلاء الظالمين بما وصفوا به النبي صلى الله عليه وسلم، لأن أولئك يدعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسحور فيما يتكلم به من الوحي، وأن ما جاء به هذيان كهذيان المسحور، وأما السحر الذي وقع للرسول عليه الصلاة والسلام فلم يؤثر عليه في شيء من الوحي، ولا في شيء من العبادات، ولا يجوز لنا أن نكذب الأخبار الصحيحة بسوء فهمنا للنصوص. حقيقة الإلحاد   (1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، رقم (3268) ، ومسلم كتاب الطب، باب السحر، رقم (2189) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 السؤال (44) : فضيلة الشيخ، ما هو الإلحاد في أسماء الله وصفاته؟ الجواب: الإلحاد في الأصل أي في اللغة العربية: هو الميل، ومنه قوله تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل: 103) ، ومنه اللحد في القبر، فإنه سمي لحداً لميله إلى جانب منه. ولا يعرف الإلحاد إلا بمعرفة الاستقامة، لأنه كما قيل: بضدها تتبين الأشياء، فالاستقامة في باب أسماء الله وصفاته: أن نجري هذه الأسماء والصفات على حقيقتها اللائقة بالله عز وجل، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، كما مر علينا في القاعدة التي يمشي عليها أهل السنة والجماعة في هذا الباب، فإذا عرفنا الاستقامة في هذا الباب فإن خلاف الاستقامة هو الإلحاد، وقد ذكر أهل العلم للإلحاد في أسماء الله تعالى أنواعاً يجمعها أن نقول: هو الميل بها عما يجب اعتقاده فيها. فالنوع الأول: أن ينكر شيء منها أو مما دلت عليه من الصفات، مثل أن ينكر اسم الرحمن من أسماء الله كما فعل أهل الجاهلية، أو تثبت الأسماء ولكن ينكر ما تضمنته من الصفات، كما يقول بعض المبتدعة: " إن الله تعالى رحيم بلا رحمة، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر" وهكذا. النوع الثاني: أن يسمي الله تعالى بما لم يسم به نفسه، ووجه كونه إلحاداً أن أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية، فلا يحل لأحد أن يسمي الله تعالى باسم لم يسم به نفسه، لأن هذا من القول على الله بلا علم، ومن العدوان على الله عز وجل أيضاً، ومن العدوان في حق الله عز وجل، وذلك كما صنع الفلاسفة فسموا الإله بالعلة الفاعلة، وكما صنع النصارى فسموا الله تعالى باسم الأب ونحو ذلك. النوع الثالث: أن يعتقد أن هذه الأسماء دالة على أوصاف تماثل أوصاف المخلوقين، فيجعلها دالة على التمثيل. ووجه كونه إلحاداً: أن من اعتقد بأن أسماء الله سبحانه وتعالى دالة على تمثيل الله بخلقه فقد جعل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم دالاً على الكفر، لأن تمثيل الله بخلقه كفر، لكونه تكذيباً لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11) ، ولقوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم: 65) ، قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري - رحمهم الله " من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما سمى الله ووصف به نفسه تشبيه". النوع الرابع: أن يشتق من أسماء الله تعالى أسماء للأصنام، كاشتقاق اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، ووجه كونه إلحاداً أن أسماء الله عز وجل خاصة به، فلا يجوز أن تنقل المعاني الدالة عليها هذه الأسماء إلى أحد المخلوقين، ليعطى من العبادة ما لا يستحقه إلا الله عز وجل، هذه أنواع الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى. أنواع الشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 السؤال (45) : فضيلة الشيخ، ما هي أنواع الشرك؟ الجواب: سبق لنا فيما تقدم أن التوحيد يتضمن إثباتاً ونفياً، وأن الاقتصار فيه على النفي تعطيل، والاقتصار فيه على الإثبات لا يمنع المشاركة، فلهذا لابد من التوحيد من نفي وإثبات، فمن لم يثبت الحق لله عز وجل على هذا الوجه، فقد أشرك به. والشرك نوعان: شرك أكبر مخرج عن الملة، وشرك دون ذلك، فالشرك الأكبر: كل شرك أطلقه الشارع، وهو متضمن لخروج الإنسان من دينه، مثل أن يصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، كأن يصلي لغير الله، أو يصوم لغير الله، أو يذبح لغير الله، وكذلك من الشرك الأكبر أن يدعو غير الله عز وجل، مثل أن يدعو صاحب القبر، أو يدعو غائباً ليغيثه من أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، وأنواع الشرك معلومة فيما كتبه أهل العلم. وأما النوع الثاني: فهو الشرك الأصغر، وهو كل عمل قولي أو فعلي أطلق الشارع عليه وصف الشرك ولكنه لا يخرج من الملة مثل الحلف بغير الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله كفر أو أشرك" (1) ، فالحالف بغير الله الذي لا يعتقد أن لغير الله تعالى من العظمة ما يماثل عظمة الله، نقول: إنه مشرك شركاً أصغر، سواء كان هذا المحلوف به معظماً من البشر أم غير معظم فلا يجوز الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا برئيس أو وزير ولا يجوز الحلف بالكعبة، ولا يجوز الحلف بجبريل وميكائيل وما أشبه ذلك، لأن هذا شرك، لكنه شرك أصغر، لا يخرج من الملة. ومن أنواع الشرك الأصغر: الرياء اليسير، مثل أن يقوم الإنسان يصلي لله عز وجل، ولكنه يزين صلاته لأنه يعلم أن أحداً من الناس يراه فيزين صلاته من أجل مراءاة الناس، فهذا مشرك شركاً أصغر، لأنه فعل العبادة لله لكن أدخل عليها هذا التزيين مراءاة للخلق. وكذلك لو أنفق ماله في شيء يتقرب به إلى الله، لكنه أراد أن يمدحه الناس بذلك، فإن هذا مشرك شركاً أصغر. وأنواع الشرك الأصغر أيضاً كثيرة معلومة في كتب أهل العلم. تعريف أنواع الشرك   (1) أخرجه الترمذي كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء أن من حلف بغير الله فقد أشرك، رقم (1535) ، وأحمد في المسند (2/69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 السؤال (46) : فضيلة الشيخ، عرفنا أنواع الشرك لكن هل هناك تعريف محدد لكل نوع منها؟ الجواب: نعم، ذكرنا أن الشرك الأصغر كل ما أطلق عليه الشارع اسم الشرك، أو وصف الشرك، ولكنه لا يخرج من الملة، وأن الشرك الأكبر كل ما أطلق الشارع عليه اسم الشرك أو وصف الشرك وهو مخرج من الملة. هل يسمى ترك العبادة شركاً؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 السؤال (47) : فضيلة الشيخ، ورد فيما رواه مسلم قوله صلى الله عليه وسلم "إن بين الرجل وبين الشرك الكفر ترك الصلاة" (1) هل ترك العبادة يكون شركاً؟ الجواب: نعم هو شرك من حيث المعنى العام، لأن تارك الصلاة تهاوناً إنما تركها لهواه، فقدم هواه على طاعة الله عز وجل، فكان مشركاً بهذا الاعتبار، كما قال الله عز وجل: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) (الجاثية: 23) ، فكل من اتبع هواه مقدماً له على طاعة الله عز وجل، فإن فعله هذا نوع من الشرك، وإن كان الشرك بالمعنى الأخص لا يشمل الترك. حقيقة دين الإسلام   (1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة رقم (82) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 السؤال (48) : فضيلة الشيخ، ما هو دين الإسلام؟ الجواب: الإسلام بالمعنى العام: هو التعبد لله تعالى بما شرعه من العبادات التي جاءت بها رسله، منذ أن تعبد الله تعالى عباده بشرعه إلى أن تقوم الساعة، فيشمل ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام من الهدى والحق، ويشمل ما جاء به إبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء، وما جاء به موسى وعيسى، كما قال الله تبارك وتعالى، أو كما ذكر الله تعالى ذلك في آيات كثيرة، تدل على أن الشرائع السابقة كلها إسلام لله عز وجل. ولكنه بالمعنى الخاص: يختص بما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم نسخ جميع الأديان السابقة، فصار من اتبعه مسلماً، ومن خالفه ليس بمسلم، لأنه لم يستسلم لله، بل استسلم لهواه. فاليهود مسلمون في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، والنصارى مسلمون في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، وأما بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم فكفروا به فليسوا بمسلمين، ولهذا لا يجوز لأحد أن يعتقد أن دين اليهود والنصارى الذي يدينون به اليوم دين صحيح مقبول عند الله، مساو لدين الإسلام، بل من اعتقد ذلك فهو كافر خارج عن دين الإسلام، لأن الله عز وجل يقول: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام) (آل عمران: 19) ، ويقول: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران: 85) . وهذا الإسلام الذي أشار الله إليه هو الإسلام الذي امتن الله به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) (المائدة: 3) ، وهذا نص صريح في أن من سوى هذه الأمة بعد أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا على الإسلام، وعلى هذا فما يدينون الله به لا يقبل منهم، ولا ينفعهم يوم القيامة، ولا يحل لنا أن نعتبره ديناً قائماً قويماً، ولهذا يخطئ خطأ كبيرا من يصف اليهود والنصارى بأنهم إخوة لنا أو يقول: إن أديانهم اليوم قائمة، لما أسلفناه آنفاً. وإذا قلنا: إن الإسلام هو التعبد لله سبحانه وتعالى بما شرع، شمل ذلك الاستسلام له ظاهراً وباطناً، فيشمل الدين كله عقيدة وعملاً وقولاً، أما إذا قرن الإسلام بالإيمان، فإن الإسلام يكون بمعنى الأعمال الظاهرة، من نطق اللسان وعمل الجوارح، والإيمان الأعمال الباطنة، من العقيدة وأعمال القلوب، ويدل على هذا التفريق قوله تبارك وتعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: 14) ، وقوله تعالى في قصة لوط: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (35) (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الذاريات: 35-36) . فإنه فرق هنا بين المؤمنين والمسلمين، لأن البيت الذي كان في القرية بيت إسلامي في ظاهره، إذ إنه يشمل امرأة لوط التي خانته وهي كافرة. وأما من أخرج منها ونجا فإنهم المؤمنون حقا، الذين دخل الإيمان في قلوبهم، ويدل لذلك أي للفرق بين الإيمان والإسلام عند اجتماعهما، حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت"، وقال في الإيمان: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره" (1) ، فالحاصل أن الإسلام عند الإطلاق يشمل الدين كله، ويدخل فيه الإيمان، وأنه إذا قرن مع الإيمان فسر بالأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وأعمال الجوارح، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة من اعتقادات القلوب وأعمالها.   (1) تقدم تخريجه ص (36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 السؤال (49) : فضيلة الشيخ، إذن هل نفهم من ذلك أن لدينا تعريفاً للإسلام بالمعنى العام وتعريفاً له بالمعنى الخاص؟ الجواب: نعم لدينا تعريف للإسلام بالمعنى العام، وتعريف له بالمعنى الخاص إذا اقترن بالإيمان وهو ما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الآتين اللتين ذكرتا آنفاً. الطاغوت وأنواعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 السؤال (50) : فضيلة الشيخ، ما هو الطاغوت، وما هي اشتقاقاته؟ الجواب: الطاغوت مشتق من الطغيان، والطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) (الحاقة: 11) ، يعني لما زاد عن الحد المعتاد حملناكم في الجارية، يعني في السفينة، وأحسن ما قيل في تعريفه ما ذكره ابن القيم رحمه الله "أنه- أي الطاغوت- كل ما تجاوز به العبد حده، من معبود أو متبوع أو مطاع". فالأصنام التي تعبد من دون الله طواغيت، والعلماء - علماء السوء- الذين يدعون إلى الضلال من الطواغيت أيضاً، الذي يدعون إلى البدع، وإلى تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، أو يزينون لولاة الأمور الخروج عن شريعة الإسلام بنظم يستوردونها مخالفة لنظام الدين الإسلامي لأن هؤلاء تجاوزوا حدهم، فإن حد العالم أن يكون متبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لأن العلماء حقيقة هم ورثة الأنبياء، يرثونهم في أمتهم علماً وعملاً وأخلاقاً ودعوة وتعليماً، فإذا تجاوزوا هذا الحد، وصاروا يزينون للحكام الخروج عن شريعة الإسلام بمثل هذه النظم فهم طواغيت، لأنهم تجاوزوا ما كان يجب عليهم أن يكونوا عليه من متابعة الشريعة. وأما المطاع في قوله رحمه الله" أو مطاع"، فيريد بهم الأمراء الذين يطاعون شرعاً أو قدراً، فالأمراء يطاعون شرعاً إذا أمروا بما لا يخالف أمر الله ورسوله، فهم يطاعون هنا شرعاً، كما يطاعون قدراً، فإن الواجب على الرعية إذا أمر ولي الأمر بأمر لا يخالف أمر الله الواجب عليهم السمع والطاعة، وطاعتهم لولاة الأمور في هذه الحال، وبهذا القيد طاعة لله عز وجل، ولهذا ينبغي أن نلاحظ حين ننفذ ما أمرت به الدولة مما تجب طاعتها فيه، أن نلاحظ أننا بذلك نتعبد لله تعالى ونتقرب إليه حتى يكون تنفيذنا لهذا الأمر قربة إلى الله عز وجل، وإنما ينبغي لنا أن نلاحظ ذلك، لأن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59) . وأما طاعة الأمراء قدراً فإن الأمراء إذا كانوا أقوياء في سلطتهم، إن الناس يطيعونهم بقوة السلطان، وإن لم يكن بوازع الإيمان لأن طاعة ولي الأمر قد تكون بوازع الإيمان، وهذه هي الطاعة النافعة لهم أي لولاة الأمور، والنافعة للناس أيضاً، وقد تكون طاعة ولاة الأمور برادع السلطان، بحيث يكون السلطان قويا يخشى الناس منه ويهابونه، لأنه ينكل بمن خالف أمره، ولهذا نقول: إن الناس مع حكامهم في هذه المسألة ينقسمون إلى أقسام: فتارة: يقوى الوازع الإيماني والرادع السلطاني، وهذه أكمل المراتب وأعلاها، وتارة يضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني، وهذه أدنى المراتب وأخطرها على المجتمع، على حكامه وعلى محكوميه، لأنه إذا ضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني، صارت الفوضى الفكرية والخلقية والعملية. المرتبة الثالثة: أن يقوى الوازع الإيماني ويضعف الرادع السلطاني، وهذه مرتبة وسطى، ينظر فيها أيها أكمل مما إذا قوي الرادع السلطاني وضعف الوازع الإيماني، فإنه في المظهر إذا قوي الرادع السلطاني يكون أصلح للأمة، لكن الأمة إذا اختفت قوة السلطان فلا تسأل عن حالها، وسوء عملها، لأن الوازع الإيماني ضعيف، أما إذا قوي الوازع الإيماني وضعف السلطاني فقد يكون المظهر أدنى من المظهر في المرتبة الأخرى، لكنه فيما بين الإنسان وبين ربه إذا اختفى الرادع السلطاني يكون أصلح. على كل حال هذه مراتب أربع: قوة الإيمان والسلطان وضعف الإيمان والسلطان، وقوة الإيمان وضعف السلطان وضعف الإيمان وقوة السلطان. فالمهم أننا نقول: أنه ينبغي لنا عند تنفيذ أوامر السلطان أن نعتقد أننا بذلك نقترب به إلى الله عز وجل، وإنما قال ابن القيم: " إن الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، لأن الأمير أو ولي الأمر الذي يطاع قد يأمر بما يخالف أمر الله ورسوله، فإذا أمر بما يخالف أمر الله ورسوله فإنه لا سمع له ولا طاعة، ولا يجوز لنا أن نطيعه في معصية الله سبحانه وتعالى، لأن الله تعالى جعل طاعتهم تابعة أو جعل طاعتهم تابعة لطاعة الله ورسوله كما يفهم من سياق الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59) ، ولم يقل: وأطيعوا أولى الأمر، فدل هذا على أن طاعتهم غير مستقلة، بل هي تابعة لطاعة الله ورسوله، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الطاعة بالمعروف أو في المعروف، أي فيما أقره الشرع، وأما ما أنكره فلا يجوز أن يطاع فيه أي مخلوق، حتى لو كان الوالد أو الوالدة يأمرانك بمعصية الله، فإنه لا يحل لك أن تطيعهما، لأن طاعة الله مقدمة على كل طاعة، فإذا أطاع الإنسان أميره أو ولي أمره في معصية الله فقد تجاوز به حده. عقيدة المسلمين في عيسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 السؤال (51) : فضيلة الشيخ، ما هي عقيدة المسلمين في عيسى ابن مريم عليه السلام؟ وما حكم القول بقتله وصلبه. الجواب: عقيدة المسلمين في عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، أنه أحد الرسل الكرام، بل أحد الخمسة الذين هم أولو العزم، وهم: محمد، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح عليهم الصلاة والسلام، ذكرهم الله تعالى في موضعين من كتابه فقال في سورة الأحزاب: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (الأحزاب: 7) ، وقال في سورة الشورى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: 13) . وأن عيسى عليه الصلاة والسلام بشر من بني آدم مخلوق من أم بلا أب، وأنه عبد الله ورسوله، فهو عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، وأنه ليس له من خصائص الربوبية شيء، بل هو كما قال الله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ) (الزخرف: 59) . وأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر قومه بأن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وإنما قال لهم ما أمره الله به (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (المائدة: 117) ، وأنه أي عيسى عليه الصلاة والسلام خلق بكلمة الله عز وجل، كما قال الله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران: 59) ، وأنه ليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم رسول، كما قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (الصف: 6) . ولا يتم إيمان أحد حتى يؤمن بأن عيسى عبد الله ورسوله وأنه مبرأ ومنزه عما وصفه به اليهود، الذين قالوا: إنه ابن بغي، وأنه نشأ من زنا والعياذ بالله، وقد برأه الله تعالى من ذلك، كما أنهم أي المسلمين يتبرؤون من طريق النصارى، الذين ضلوا في فهم الحقيقة بالنسبة إلى عيسى ابن مريم، حيث اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وقال بعضهم: "إنه ابن الله"، وقال بعضهم: "إن الله ثالث ثلاثة". أما فيما يتعلق بقتله وصلبه فإن الله سبحانه وتعالى قد نفى أن يكون قتل أو صلب نفياً صريحاً قاطعاً، فقال عز وجل: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً) (157) (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (158) (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (النساء: 157-159) . فمن اعتقد أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قتل وصلب فقد كذب القرآن، ومن كذب القرآن فقد كفر، فنحن نؤمن بأن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقتل ولم يصلب، ولكننا نقول: إن اليهود باؤوا بإثم القتل والصلب، حيث زعموا أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وهم لم يقتلوه حقيقة، بل قتلوا من شبه لهم، حيث ألقى الله شبهه على واحد منهم فقتلوه وصلبوه، وقالوا: إنا قتلنا المسيح ابن مريم رسول الله، فاليهود باؤوا بإثم القتل بإقرارهم على أنفسهم، وإثم الصلب، والمسيح عيسى ابن مريم برأه الله تعالى من ذلك وحفظه ورفعه سبحانه وتعالى عنده إلى السماء، وسوف ينزل في آخر الزمان إلى الأرض، فيحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يموت في الأرض، ويدفن فيها، ويخرج منها كما يخرج منها سائر بني آدم، لقول الله تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه: 55) وقوله: (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) (الأعراف: 25) . افتراق الأمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 السؤال (52) : فضيلة الشيخ، إلى كم افترقت الأمة الإسلامية بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهذه الفرق كلها في النار إلا واحدة، وهي من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (1) ، وهذه الفرقة هي الفرقة الناجية، التي نجت في الدنيا من البدع، وتنجو في الآخرة من النار، وهي الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، التي لا تزال ظاهرة قائمة بأمر الله عز وجل. وهذه الفرق الثلاث والسبعون، التي واحدة منها على الحق، والباقي على الباطل، حاول بعض الناس أن يعددها، وشعب أهل البدع إلى خمس شعب، وجعل من كل شعبة فروعاً، ليصلوا إلى هذا الحد، وإلى هذا العدد الذي عينه النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى بعض الناس أن الأولى الكف عن التعداد، لأن هذه الفرق ليست وحدها هي التي ضلت، بل قد ضل أناس ضلالاً أكثر مما كانت عليه من قبل، وحدثت بعد أن حصرت هذه الفرق باثنتين وسبعين فرقة، وقالوا: إن هذا العدد لا ينتهي ولا يمكن العلم بانتهائه إلا في آخر الوقت، في آخر الزمان عند قيام الساعة. فالأولى أن نجمل ما أجمله النبي صلى الله عليه وسلم ونقول إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ثم نقول: كل من خالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو داخل في هذه الفرق، وقد يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد أشار إلى أصول لم نعلم منها الآن إلا ما يبلغ العشرة، وقد يكون أشار إلى أصول تتضمن فروعاً، كما ذهب إليه بعض الناس، فالعلم عند الله عز وجل. خصائص الفرقة الناجية   (1) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، رقم (4596) ، والترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة رقم (2640، 2641) ، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، رقم (3991، 3992) ، وأحمد في المسند (2/332) وهو في صحيح الجامع رقم (1083) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 السؤال (53) : فضيلة الشيخ، ما هي أبرز خصائص الفرقة الناجية؟ الجواب: أبرز خصائص الفرقة الناجية هي التمسك بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام في العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والمعاملة، هذه الأمور الأربعة تجد الفرقة الناجية بارزة فيها. ففي العقيدة: تجدها متمسكة بما دل عليه الكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من التوحيد الخالص في ربوبية الله وألوهيته، وأسمائه وصفاته. وفي العبادات: تجد هذه الفرقة متميزة في تمسكها التام وتطبيقها لما كان النبي عليه الصلاة السلام عليه في العبادات، في أجناسها، وصفاتها، وأقدارها، وأزمنتها، وأمكنتها، وأسبابها، فلا تجد عندهم ابتداعاً في دين الله، بل هم متأدبون غاية التأدب مع الله ورسوله، لا يتقدمون بين يدي الله ورسوله، في إدخال شيء من العبادات لم يأذن به الله عز وجل. تجدهم أيضاً في الأخلاق متميزين عن غيرهم بحسن الأخلاق، بمحبة الخير للمسلمين، بانشراح الصدر، بطلاقة الوجه، بحسن المنطق، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق ومحاسنها. وفي المعاملات تجدهم يعاملو الناس بالصدق والبيان اللذين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما، وإذا كذبا وكتما، محقت بركة بيعهما" (1) ، فهذه الميزة والعلامة لأهل السنة والجماعة، للفرقة الناجية التي كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم. تأثير نقص بعض الخصائص   (1) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، رقم (2110) ، ومسلم، كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان، رقم (1532) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 السؤال (54) : فضيلة الشيخ، لكن هل يلزم توافر أو تكامل هذه الخصائص في الأمور الأربعة وهي: العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والمعاملات، دون نقص؟ وهل إذا نقص منها شيء يخرج الإنسان بذلك من الفرقة الناجية أم أن النقص لا يخرجه من ذلك؟ الجواب: النقص من هذه لا يخرج الإنسان عن كونه من الفرقة الناجية، لكن كما قال تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (الأنعام: 132) ، ربما الإخلال في جانب التوحيد، أو جانب البدع، يخرج الإنسان عن هذه الفرقة الناجية، مثل أن يدخل في عباداته أو يكون الإخلال بالإخلاص، وكذلك في البدع، لكن في مسألة الأخلاق والمعاملات، فالإخلال بها لا يخرج الإنسان من هذه الفرقة الناجية وإن كان آثماً على إخلاله بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 السؤال (55) : فضيلة الشيخ، هل هناك إضافة حول خصائص هذه الفرقة الناجية؟ الجواب: الحقيقة أنه ليس هناك من إضافة، لأن الأصول الأربعة التي ذكرناها واضحة وكافية، لكن قد نحتاج إلى تفصيل في مسألة الأخلاق، فإن من أهم ما يكون من الأخلاق: اجتماع الكلمة، والاتفاق على الحق الذي أوصانا الله به سبحانه وتعالى في قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: 13) . وأخبر أن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم بريء منهم، فقال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (الأنعام: 159) ، فاتفاق الكلمة وائتلاف القلوب من أبرز خصائص الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، فهم أعني الفرقة الناجية إذا حصل بينهم خلاف ناشئ عن اجتهاد في الأمور الاجتهادية، لا يحمل بعضهم على بعض حقداً ولا عداوة ولا بغضاء، بل يعتقدون أنهم إخوة، حتى وإن حصل بينهم هذا الخلاف، حتى إن يصلى الواحد منهم خلف الشخص، يعتقد المأموم أنه ليس على وضوء، ويعتقد الإمام أنه على وضوء، مثل أن يصلي الواحد منهم خلف شخص أكل لحم إبل، وهذا الإمام يعتقد أنه لا ينقض الوضوء، والمأموم يعتقد أنه ينقض الوضوء فيرى أن الصلاة خلف ذلك الإمام صحيحة، وإن كان هو لو صلاها بنفسه لرأى أن صلاته غير صحيحة، كل هذا لأنهم يرون أن الخلاف الناشئ عن اجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد ليس في الحقيقة بخلاف، لأن كلا من المختلفين قد تبع ما يجب عليهما إتباعه من الدليل الذي لا يجوز له العدول عنه، فهم يرون أن أخاهم إذا خالفهم في عمل ما إتباعاً للدليل، هو في الحقيقة قد وافقهم، لأنهم هم يدعون إلى إتباع الدليل أينما كان، فإذا خالفهم موافقة للدليل عنده، فهو في الحقيقة قد وافقهم، لأنه تمشى على ما يدعون إليه، ويهدفون إليه، من تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يخفى على كثير من أهل العلم، ما حصل من الخلاف بين الصحابة في مثل هذه الأمور، حتى في عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم ولم يعنف أحداً منهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لما رجع من غزوة الأحزاب، وجاءه جبريل، وأشار إليه أن يخرج إلى بني قريظة الذين نقضوا العهد، ندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" (1) . فخرجوا من المدينة إلى بني قريظة، وأرهقتهم صلاة العصر، فمنهم من أخر صلاة العصر حتى وصل إلى بني قريظة بعد خروج الوقت، ولم يصل إلا بعد غروب الشمس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"ومنهم من صلى الصلاة لوقتها، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد منا المبادرة للخروج، ولم يرد منا أن نؤخر الصلاة عن وقتها، وهؤلاء هم المصيبون، لكن مع ذلك لم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين، ولم يحمل كل واحد على الآخر عداوة أو بغضاء بسبب اختلافهم في فهم هذا النص. لذلك أرى أن الواجب على المسلمين الذين ينتسبون إلى السنة أن يكونوا أمة واحدة، وألا يحصل بينهم تحزب، هذا ينتمي إلى طائفة ما، والآخر ينتمي إلى طائفة أخرى، والثالث إلى طائفة ثالثة وهكذا، بحيث يتناحرون فيما بينهم بأسنة الألسن، ويتعادون ويتباغضون من أجل اختلاف يسوغ فيه الاجتهاد، ولا حاجة إلى أن أنص على طائفة بعينها، ولكن العاقل يفهم ويتبين له الأمر، فأرى أنه يجب على أهل السنة والجماعة أن يتحدوا حتى وإن اختلفوا فيما يختلفون فيه مما تقتضيه النصوص حسب أفهامهم، فإن هذا أمر فيه سعة ولله الحمد، والمهم ائتلاف القلوب، واتحاد الكلمة، ولا ريب أن أعداء المسلمين يحبون من المسلمين أن يتفرقوا، سواء كانوا أعداء يصرحون بالعداوة أو أعداء يتظاهرون بالولاية للمسلمين أو للإسلام، وهم ليسوا كذلك، فالواجب أن نتميز بهذه الميزة التي هي ميزة الطائفة الناجية وهي الاتفاق على كلمة واحدة. التوسل الصحيح والتوسل الباطل   (1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، رقم (4119) ، ومسلم، كتاب الجهاد، باب من لزمه أمر فدخل عليه أمر آخر، رقم (1770) ، والذي في مسلم "الظهر" بدل "العصر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 السؤال (56) : فضيلة الشيخ، ما هو التوسل الصحيح والتوسل الباطل؟ الجواب: التوسل: مصدر توسل يتوسل، إذا اتخذ وسيلة توصله إلى مقصوده، فأصله: طلب الوصول إلى الغاية المقصودة، وينقسم إلى قسمين: قسم صحيح: وهو التوسل بالوسيلة الصحيحة الموصلة إلى المطلوب. وقسم غير صحيح: وهو التوسل بوسيلة لا توصل إلى المقصود. فأما الأول: وهو التوسل بالوسيلة الموصلة إلى المقصود: فإنه أنواع: منها: التوسل بأسماء الله وصفاته، سواء كان ذلك على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص، مثاله على سبيل العموم: ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في دعاء الهم والغم: قال " اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي.." (1) ، إلى آخره، فهنا توسل بأسماء الله على سبيل العموم، وذلك في قوله: " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك". أما الخصوص: فأن يتوسل باسم خاص، لحاجة خاصة تناسب هذا الاسم، مثل ما جاء في حديث أبي بكر رضي الله عنه، حيث طلب من النبي صلى الله عليه وسلم دعاء يدعو به في صلاته، فقال: " قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم" (2) ، فطلب المغفرة والرحمة، وتوسل إلى الله تعالى باسمين من أسمائه مناسبين للمطلوب، فقال "إنك أنت الغفور الرحيم" وهذا النوع من التوسل داخل في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (الأعراف: 180) ، فإن الدعاء هنا يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة. أما التوسل إلى الله تعالى بصفاته، فهو أيضاً كالتوسل بأسمائه، يكون عاماً وخاصا، أما العام فأن تقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، ثم تذكر مطلوبك، وإما الخاص فأن تتوسل إلى الله تعالى بصفة معينة خاصة لمطلوب خاص، مثل ما جاء في الحديث: " اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي" (3) ، فهنا توسل إلى الله تعالى بصفة العلم والقدرة " بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق".. هذا نوع. النوع الثاني: أن يتوسل الإنسان إلى الله عز وجل، بالإيمان به وبرسوله فيقول: اللهم إني آمنت بك وبرسولك، فاغفر لي أو فوقفني أو يقول " اللهم بإيماني بك وبرسولك أسألك كذا وكذا"، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (: 190) (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران191) إلى قوله: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) (آل عمران: 190-193) ، فتوسلوا إلى الله تعالى بالإيمان به، أن يغفر لهم الذنوب، ويكفر عنهم السيئات ويتوفاهم مع الأبرار. النوع الثالث: أن يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح، ومنه قصة النفر الثلاثة الذين آووا إلى غار ليبيتوا فيه، فانطبق عليهم الغار، انطبق عليهم بصخرة لا يستطيعون زحزحتها، فتوسل كل منهم إلى الله بعمل صالح فعله، أحدهم توسل إلى الله تعالى ببره بوالديه، والثاني بعفته التامة، والثالث بوفائه لأجيره، قال: كل منهم اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة (4) ، فهذا توسل إلى الله عز وجل بالعمل الصالح. النوع الرابع: أن يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله، يعني أن الداعي يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله وما هو عليه من الحاجة، ومنه قول موسى عليه الصلاة والسلام: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: 24) ، فهو بذلك يتوسل إلى الله بذكر حاله أن ينزل إليه الخير، ويقرب من ذلك قول زكريا عليه الصلاة والسلام: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً) (مريم: 4) ، فهذه أنواع من التوسل كلها جائزة، لأنها أسباب صالحة لحصول المقصود بالتوسل بها. نوع خامس من التوسل   (1) أخرجه أحمد في المسند (1/391) (2) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، رقم (834) ، ومسلم كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، رقم (2705) . (3) أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، رقم (5671) ، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب كراهية تمني الموت لضر نزل به، رقم (2680) بدون ذكر أوله وأخرجه كاملاً النسائي، كتاب السهو، باب نوع آخر، رقم (1305) ، وأحمد (4/264) (4) أخرجه البخاري، كتاب الإجارة، باب من استأجر أجيراً فترك أجره، رقم (2272) ، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، رقم (2743) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 السؤال (57) : فضيلة الشيخ، هل هناك أنواع أخرى من التوسل غير أنواع التوسل الأربعة التي ذكرتموها؟ الجواب: نعم، هناك توسل زائد عن الأربعة السابقة، وهو التوسل إلى الله عز وجل بدعاء الرجل الصالح الذي ترجى إجابته، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم بدعاء عام وبدعاء خاص، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: " اللهم أغثنا" ثلاث مرات، فما نزل صلى الله عليه وسلم من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته، وبقي المطر أسبوعاً كاملاً، وفي الجمعة الأخرى جاء ذلك الرجل أو غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا رسول الله، غرق المال، وتهدم البناء، فادع الله تعالى أن يمسكها عنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال " اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، حتى خرج الناس يمشون في الشمس (1) ، وهناك عدة وقائع سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم على وجه الخصوص. فمن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن في أمته سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، قام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم" (2) . فهذا أيضاً من التوسل الجائز، أن يطلب الإنسان من شخص أن يدعو الله تعالى له، إذا كان هذا الشخص مرجو الإجابة، إلا أن الذي ينبغي على هذا السائل الذي سأل الشخص أن يدعو له أن يريد بذلك منفعة نفسه ومنفعة أخيه الذي طلب منه الدعاء، حتى لا يتمحض السؤال لنفسه خاصة، لأنك إذا أردت نفع أخيك ونفع نفسك، صار في هذا إحسان له، فإن الإنسان إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، قال الملك: آمين ولك بمثله، وكذلك إذا دعا له أخوه، فإنه يكون من المحسنين بهذا الدعاء، والله يحب المحسنين. التوسل الباطل وأقسامه   (1) أخرجه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء إذا كثر المطر، رقم (1021) ، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، رقم (897) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره، رقم (5705) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، رقم (220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 السؤال (58) : فضيلة الشيخ، بعد أن عرفنا التوسل الصحيح وأقسامه، لابد لنا من معرفة التوسل الباطل، وهل له أقسام أيضاً؟ الجواب: التوسل الباطل أن يتوسل الإنسان إلى الله تعالى بما لم يكن وسيلة، أي بما لم يثبت في الشرع أنه وسيلة، لأن التوسل بمثل ذلك من اللغو والباطل والمخالف للمعقول والمنقول، ومن ذلك أن يتوسل الإنسان إلى الله عز وجل بدعاء ميت، يطلب من هذا الميت أن يدعو الله له، فإن هذا ليس وسيلة شرعية صحيحة، بل هو سفه من الإنسان أن يطلب من هذا الميت أن يدعو الله له، لأن الميت إذا مات انقطع عمله، ولا يمكن أن يدعو لأحد، حتى النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يدعو لأحد بعد موته عليه الصلاة والسلام، ولهذا لم يتوسل الصحابة رضي الله عنهم إلى الله بطلب الدعاء من رسوله صلى الله عليه وسلم بعد موته، فإن الناس لما أصابهم الجدب في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم إن كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فقام العباس رضي الله عنه فدعا الله عز وجل (1) ، ولو كان طلب الدعاء من الميت سائغاً ووسيلة صحيحة، لكان عمر ومن معه من الصحابة يطلبون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن إجابة دعائه أقرب من إجابة دعاء العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. فالمهم أن التوسل إلى الله تعالى بطلب الدعاء من الميت توسل باطل لا يحل ولا يجوز. ومن التوسل الذي ليس بصحيح: أن يتوسل الإنسان إلى الله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك كذا وكذا، وذلك أن جاه الرسول عليه الصلاة والسلام ليس مفيداً بالنسبة إليك، لأنه لا يفيد إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، أما بالنسبة لك فليس بمفيد حتى تتوسل إلى الله تعالى به، والتوسل كما قلنا اتخاذ الوسيلة الصالحة التي تثمر، فما فائدتك أنت من كون الرسول عليه الصلاة والسلام له جاه عند الله؟ وإذا أردت أن تتوسل إلى الله على وجه صحيح، فقل: اللهم إني أسألك بإيماني برسولك، أو بالمحبة لرسولك أو ما أشبه ذلك، فإن هذا من الوسيلة الصحيحة النافعة. الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية   (1) أخرجه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا رقم (1010) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 السؤال (59) : فضيلة الشيخ، ما هي الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية؟ الجواب: الشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، وهو جعل الوتر شفعاً، مثل أن نجعل الواحد اثنين، والثلاثة أربعة وما أشبهها، هذا من حيث اشتقاقها في اللغة. أما معناها فهي: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، يعني أن يقوم الشافع بين المشفوع إليه والمشفوع له واسطة، ليجلب منفعة إلى المشفوع له، أو يدفع عنه مضرة. والشفاعة نوعان: شفاعة ثابتة وصحيحة، وشفاعة باطلة لا تنفع أصحابها. أما الشفاعة الثابتة الصحيحة: فهي التي أثبتها الله تعالى في كتابه، وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص، لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" (1) وهذه الشفاعة لها شروط ثلاثة: الشرط الأول: رضا الله عن الشافع. والشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع له. والشرط الثالث: إذن الله تعالى للشافع أن يشفع. وهذه الشروط مجموعة في قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (لنجم: 26) ، ومفصلة في قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة: من الآية255) ، وفي قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (طه: 109) ، وقوله: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء: 28) ، فلابد من هذه الشروط حتى تتحقق الشفاعة. وبناء على ذلك نعرف النوع الثاني، وهي الشفاعة الباطلة التي لا تنفع أصحابها، وهي ما يدعيه المشركون من شفاعة آلهتهم لهم عند الله عز وجل، فإن هذه الشفاعة لا تنفعهم كما قال الله تعالى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر: 48) ، وذلك لأن الله تعالى لا يرضي لهؤلاء المشركين شركهم، ولا يمكن أن يأذن بالشفاعة لهم، لأنه لا شفاعة إلا لمن ارتضاه الله عز وجل، والله عز وجل لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، فتعلق المشركين بآلهتهم التي يعبدونها ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، تعلق باطل غير نافع، بل هذا لا يزيدهم من الله تعالى إلا بعداً. ثم إن الشفاعة الثابتة النافعة، ذكر العلماء رحمهم الله أنها تنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة، ومعنى العموم: أن الله سبحانه وتعالى يأذن لمن شاء من عباده الصالحين أن يشفعوا لمن أذن الله لهم بالشفاعة فيهم. والخاصة: التي تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأعظمها: الشفاعة العظمى التي تكون يوم القيامة، حين يلحق الناس من الغم والكرب مالا يطيقون، فيطلبون من يشفع لهم إلى الله عز وجل أن يريحهم من هذا الموقف العظيم، فيذهبون إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى، وكلهم لا يشفع، حتى تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقوم ويشفع عند الله عز وجل أن يخلص عباده من هذا الموقف العظيم، فيجيب الله دعاءه ويقبل شفاعته، وهذا من المقام المحمود الذي وعده الله تعالى به في قوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) (الاسراء: 79) . ومن الشفاعة الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فإن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فتمحص قلوبهم بعضهم من بعض، حتى يهذبوا وينقوا، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة، ولكن لا يدخلونها إلا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل أن يدخلوا الجنة، فتفتح أبواب الجنة بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الشفاعة العامة له ولغيره من عباد الله الصالحين، فهي أن يشفع في أهل النار من المؤمنين - أي من عصاة المؤمنين - الذين لا يستحقون الخلود في النار يشفع فيهم أن يخرجوا من النار، وهذه الشفاعة ثابتة له ولغيره من النبيين والشهداء والصالحين. والله أعلم. عقيدة السلف في القرآن الكريم   (1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، رقم (99) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 السؤال (60) : فضيلة الشيخ، ما هي عقيد السلف في القرآن الكريم؟ الجواب: عقيدة السلف في القرآن الكريم كعقيدتهم في سائر صفات الله تعالى وأسمائه، وهي عقيدة مبنية على ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم أن الله سبحانه وتعالى وصف القرآن الكريم بأنه كلامه، وأنه منزل من عنده، فقال جل وعلا: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة: 6) ، والمراد بلا ريب بكلام الله هنا: القرآن الكريم، وقال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (النمل: 76) ، فالقرآن كلام الله تعالى لفظاً ومعنى، تكلم به حقيقة، وألقاه إلى جبريل الأمين، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، ويعتقد السلف أن القرآن منزل نزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاث وعشرين سنة، حسب ما تقتضيه حكمة الله عز وجل. ثم إن نزوله يكون ابتدائياً ويكون سببياً، بمعنى أن بعضه ينزل لسبب معين اقتضى نزوله، وبعضه ينزل بغير سبب، وبعضه ينزل في حكاية حال مضت للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبعضه ينزل في أحكام شرعية ابتدائية، على حسب ما ذكره أهل العلم في هذا الباب، ثم إن السلف يقولون: إن القرآن من عند الله عز وجل ابتداءً، وإليه يعود في آخر الزمان، هذا هو قول السلف في القرآن الكريم. ولا يخفى علينا جميعاً أن الله تعالى وصف القرآن الكريم بأوصاف عظيمة، وصفه بأنه حكيم، وبأنه كريم، وبأنه عظيم، وبأنه مجيد، وهذه الأوصاف التي وصف الله بها كلامه، تكون لمن تمسك بهذا الكتاب، وعمل به ظاهراً وباطناً، فإن الله تعالى يجعل له من المجد، والعظمة، والحكمة، والعزة، والسلطان، ما لا يكون لم يتمسك بكتاب الله عز وجل، ولهذا أدعو من هذا المنبر جميع المسلمين، حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، أدعوهم إلى التمسك بكتاب الله عز وجل ظاهراً وباطناً، حتى ينالوا رضا الله، وتكون لهم العزة، والسعادة، والمجد، والظهور في مشارق الأرض ومغاربها. أبرز أحكام التلاوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 السؤال (61) : فضيلة الشيخ، ما هي أبرز أحكام التلاوة؟ الجواب: الذي ينبغي لتالي القرآن أن يكون على طهر من الحدثين الأصغر والأكبر، ولا يجوز له أن يقرأن القرآن وعليه حدث أكبر، فالجنب مثلاُ لا يقرأ القرآن حتى يغتسل، لأن السنة وردت بالمنع منه في حال الجنابة، أما الحائض فقد اختلف أهل العلم هل يجوز لها أن تقرأ القرآن؟ اختلفوا في ذلك على قولين: فمنهم من قال: إنه يجوز أن تقرأ القرآن، لأنه ليس في منعها من القرآن سنة صريحة، والأصل براءة الذمة وعدم الإلزام، كما أن الأصل أيضاً عدم المنع، ويرى بعض أهل العلم أنه لا يجوز لها أن تقرأ القرآن وهي حائض، لأنها ممن يلزمها الغسل، فهي كالجنب، ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث تدل على المنع، والذي أرى في هذه المسألة أنها لا تقرأ القرآن إذا كان غرضها بذلك مجرد التلاوة، أما إذا كانت تريد أن تقرأ القرآن لحاجة، تخشى نسيانه مثلاُ، أو تقرئه أبناءها أو بناتها أو الطالبات إن كانت مدرسة، أو تكون طالبة تريد أن تقرأه لإسماع المدرسة، فإن هذا لا بأس به للحاجة، وكذلك لا بأس أن تقرأ الآيات التي تكون ورداً كآية الكرسي، لأن هذا حاجة، فيكون هذا القول الذي أراه أقرب إلى الصواب مبنيا على حاجة المرأة الحائض، إن احتاجت للتلاوة فلها أن تقرأ القرآن، وإن لم تحتج فلا تقرأ القرآن. كذلك ينبغي لقارئ القرآن أن يكون مستحضراً في قلبه ما تدل عليه كلمات القرآن العظيم من المعاني الجليلة، سواء كانت هذه الآيات تتضمن الأخبار والقصص أو الأحكام، لأن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن لهذه الحكمة (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ: 29) . والإنسان يجد الفرق العظيم إذا تلا القرآن وقلبه غافل، وإذا تلا القرآن وقلبه حاضر يتدبر ما يقول، يجد الفرق العظيم بين هذه الحال والحال الأخرى، ويجد أنه ينتفع أكثر إذا قرأ القرآن بتدبر وتفكر، فإن ذلك يؤثر في قلبه قوة الإيمان والتصديق، وقوة الانقياد والإذعان للأحكام التي يتضمنها كتاب الله عز وجل. وأما ما ينبغي أن تكون التلاوة عليه: فينبغي أن تكون التلاوة تلاوة هادئة، ليس فيها سرعة تسقط بعض الحروف، أو تخفى بها الكلمات، بل يقرأ القرآن بتمهل وترسل، ولا بأس بالعجلة أحياناً، بشرط ألا يسقط الحروف أو شيئاً منها، أو يدغم مالا يجوز إدغامه أو ما أشبه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 السؤال (62) : فضيلة الشيخ، ما حكم التلاوة لروح الميت؟ الجواب: التلاوة لروح الميت، يعني أن يقرأ القارئ القرآن وهو يريد أن يكون ثوابه لميت من المسلمين، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فمنهم من يرى أن ذلك غير مشروع، وأن الميت لا ينتفع به، أي لا ينتفع بالقرآن في هذه الحال، ومنهم من يرى أنه ينتفع بذلك، وأنه يجوز للإنسان أن يقرأ القرآن بنية أنه لفلان أو لفلانة من المسلمين، سواء كان قريباً له أم غير قريب له، وهذا هو الأرجح، لأنه ورد في جنس العبادات جواز صرفها للميت، كما في حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه، حين تصدق بمخرافه - أي ببستانه -لأمه (1) ، وكما في قصة الرجل الذي قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم" (2) . وهذه قضايا أعيان، تدل على أن صرف جنس العبادات لأحد من المسلمين جائز، وهو كذلك، ولكن أفضل من هذا أن يدعو للميت، وأن يجعل الأعمال الصالحة لنفسه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (3) ، ولم يقل: أو ولد صالح يتلو له، أو يصلي له، أو يصوم له، أو يتصدق عنه، بل قال: أو ولد صالح يدعو له، والسياق في سياق العمل فدل ذلك على أن الأفضل أن يدعو الإنسان للميت. لا أن يجعل له شيئاً من الأعمال الصالحة، والإنسان محتاج إلى العمل الصالح، أن يجد ثوابه مدخراً له عند الله عز وجل. أما ما يفعل بعض الناس من التلاوة للميت بعد موته بأجرة، مثل أن يحضر قارئاً يقرأ القرآن بأجرة، ليكون ثوابه للميت، فإن هذا بدعة، ولا يصل إلى الميت ثوابه، لأن هذا القارئ إنما قرأ من أجل الدنيا، ومن أتى بعبادة من أجل الدنيا، فإنه لا حظ له منها في الآخرة، كما قال الله تبارك وتعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (15) (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود: 15-16) وإني بهذه المناسبة أوجه نصيحة إلى إخواني الذين يعتادون مثل هذا العمل، أن يحفظوا أموالهم لأنفسهم أو لورثة الميت، وأن يعلموا أن هذا العمل بدعة في ذاته، وأن الميت لا يصل إليه ثوابه، لأن القارئ الذي ليس له نية في قراءته إلا أخذ الأجرة، ليس له ثواب عند الله عز وجل، وحينئذ يكون أخذ الأموال ولم ينتفع الميت بذلك. قراءة الفاتحة لروح النبي صلى الله عليه وسلم   (1) أخرجه مالك في الموطأ (2/760) كتاب الأقضية، والنسائي، كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت، رقم (3655) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة البغتة، رقم (1388) ، ومسلم كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، رقم (1004) . (3) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يحلق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم (1631) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 السؤال (63) : فضيلة الشيخ، بالنسبة للذين يوصون أن تقرأ الفاتحة لروح النبي صلى الله عليه وسلم أو له عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: هذه الوصية لا يلزم تنفيذها، لأنها وصية بأمر غير مشروع، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشرع لأحد أن يعبد الله، ثم يجعل ثواب العبادة للرسول صلى الله عليه وسلم، لأن هذا لو كان مشروعاً لكان أسبق الناس إليه الصحابة رضي الله عنهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتاج لمثل هذا، فإنه ما من إنسان يعمل عملاً صالحاً إلا كان للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجره، لأنه هو الذي دل عليه، " والدال على الخير كفاعله" (1) ، فهذا يكون من العبث، ومن البدعة التي لم ترد عن السلف الصالح رضي الله عنهم، وكذلك لو قال: تقرأ الفاتحة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لي، فإنه لا يلزم الوفاء بهذه الوصية، لأن تخصيص مكان بعبادة معينة لم يرد بها الشرع من البدع، كما هو معلوم في البحث عن ذكر المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه لا تحقق المتابعة حتى توافق العبادة الشريعة في أمور ستة: في سببها، وجنسها، وقدرها، وكيفيتها، وزمانها، ومكانها.   (1) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء الدال على الخير كفاعله، رقم (2670) ، وفي مسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، رقم (1893) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فتاوى الطهارة حقيقة الطهارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 السؤال (64) : فضيلة الشيخ، ما هي الطهارة؟ الجواب: الطهارة معناها: النظافة والنزاهة، وهي في الشرع على نوعين: طهارة معنوية، وطهارة حسية، أما الطهارة المعنوية: فهي طهارة القلوب من الشرك والبدع في عبادة الله، ومن الغل، والحقد، والحسد، والبغضاء، والكراهة، وما أشبه ذلك في معاملة عباد الله الذين لا يستحقون هذا. أما الطهارة الحسية: فهي طهارة البدن، وهي أيضاً نوعان: إزالة وصف يمنع من الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة وإزالة الخبث. نتكلم أولاً عن الطهارة المعنوية: وهي طهارة القلب من الشرك والبدع فيما يتعلق بحقوق الله عز وجل، وهذا هو أعظم الطهارتين، ولهذا تنبني عليه جميع العبادات، فلا تصح أي عبادة من شخص ملوث قلبه بالشرك، ولا تصح أي بدعة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل، وهي مما لم يشرعه الله عز وجل، قال الله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) (التوبة: 54) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) . وعلى هذا، فالمشرك بالله شركاً أكبر لا تقبل عبادته وإن صلى وإن صام وزكى وحج، فمن كان يدعو غير الله عز وجل، أو يعبد غير الله فإن عبادته لله عز وجل غير مقبولة، حتى وإن كان يتعبد لله تعالى عبادة يخلص فيها لله، ما دام قد أشرك بالله شركاً أكبر من جهة أخرى. ولهذا وصف الله عز وجل المشركين بأنهم نجس، فقال تعالى: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (التوبة: 28) ، ونفى النبي صلى الله عليه وسلم النجاسة عن المؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم "إن المؤمن لا ينجس" (2) ، وهذا هو الذي ينبغي للمؤمن أن يعتني به عناية كبيرة ليطهر قلبه منه. كذلك أيضاً يطهر قلبه من الغل والحقد والحسد والبغضاء والكراهة للمؤمنين، لأن هذه كلها صفات ذميمة ليست من خلق المؤمن، فالمؤمن أخو المؤمن، لا يكرهه ولا يعتدي عليه، ولا يحسده، بل يتمنى الخير لأخيه كما يتمنى الخير لنفسه، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (3) ، ونرى كثيراً من الناس أهل خير وعبادة وتقوى وزهد، ويكثرون التردد إلى المساجد، ليعمروها بالقراءة والذكر والصلاة، لكن يكون لديهم حقد على بعض إخوانهم المسلمين، أو حسد لمن أنعم الله عليه بنعمة، وهذا يخل كثيراً فيما يسلكونه من عبادة الله سبحانه وتعالى، فعلى كل منا أن يطهر قلبه من هذه الأدناس بالنسبة لإخوانه المسلمين. أما الطهارة الحسية: فهي كما قلت نوعان: إزالة وصف يمنع من الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة، وإزالة خبث. فأما إزالة الوصف: فهي رفع الحدث الأصغر والأكبر، بغسل الأعضاء الأربعة في الحدث الأصغر، وغسل جميع البدن في الحدث الأكبر، إما بالماء لمن قدر عليه، وإما بالتيمم لمن لم يقدر على الماء، وفي هذا أنزل الله تعالى قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 6) . أما النوع الثاني: فهو الطهارة من الخبث، أي من النجاسة، وهي كل عين أوجب الشرع على العباد أن يتنزهوا منها ويتطهروا منها، كالبول والغائط ونحوهما مما دلت السنة بل مما دلت الشريعة على نجاسته، ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله: الطهارة إما عن حدث وإما عن خبث، ويدل لهذا النوع أعني الطهارة من الخبث ما رواه أهل السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ذات يوم فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم سألهم أي سأل الصحابة-: لماذا خلعوا نعالهم؟ فقالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذى" (4) ، يعني قذراً، فهذا هو الكلام على لفظ الطهارة. الأصل في التطهير   (1) أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم (1718) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الغسل، باب عرق الجنب وأن المؤمن لا ينجس، رقم (283) ، ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن المسلم لا ينجس، رقم (371) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم (13) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب نفي الإيمان عمن لا يحب لأخيه وجاره ما يحب لنفسه، رقم (45) . (4) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل، رقم (650) ، وأحمد في المسند (3/411) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 السؤال (65) : فضيلة الشيخ، ما هو الأصل في التطهير؟ الجواب: أما الطهارة من الحدث فالأصل فيها الماء، ولا طهارة إلا بالماء، سواء كان الماء نقياً أم متغيراً بشيء طاهر، لأن القول الراجح أن الماء إذا تغير بشيء طاهر وهو باق على أسم الماء، أنه لا تزول طهوريته، بل هو طهور، طاهر في نفسه، مطهر لغيره. فإن لم يوجد الماء، أو خيف الضرر باستعماله، فإنه يعدل عنه إلى التيمم بضرب الأرض بالكفين، ثم مسح الوجه بهما، ومسح بعضهما ببعض، هذا بالنسبة للطهارة من الحدث، أما الطهارة من الخبث فإن أي مزيل يزيل ذلك الخبث من ماء أو غيره، تحصل به الطهارة، وذلك لأن الطهارة من الخبث يقصد بها إزالة تلك العين الخبيثة بأي مزيل، فإذا زالت هذه العين الخبيثة بماء أو بنزين أو غيره من السائلات أو الجامدات على وجه تمام، فإن هذا يكون تطهيراً لها، وبهذا نعرف الفرق بين ما يحصل به التطهير في باب الخبث، وبين ما يحصل به التطهير في باب الحدث. البدل عن الأصل في التطهير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 السؤال (66) : فضيلة الشيخ، ما هو البدل عن هذا الأصل الذي هو الماء؟ الجواب: البدل عن هذا الأصل هو التراب، إذا تعذر استعمال الماء لعدمه أو التضرر باستعماله، فإنه يعدل عن ذلك إلى التراب، أي إلى التيمم، بأن يضرب الإنسان يديه على الأرض، ثم يمسح بهما وجهه، ويمسح بعضهما ببعض، لكن هذا خاص في الطهارة من الحدث، أما طهارة الخبث فليس فيها تيمم، سواء كان على البدن، أو على الثوب، أو على البقعة، لأن المقصود من التطهر من الخبث إزالة هذه العين الخبيثة، وليس التعبد فيها شرطاً، ولهذا لو زالت هذه العين الخبيثة بغير قصد من الإنسان طهر المحل. فلو نزل المطر على مكان نجس، أو على ثوب نجس، وزالت النجاسة بما نزل من المطر، فإن المحل يطهر بذلك، وإن كان الإنسان ليس عنده علم بهذا، بخلاف طهارة الحدث، فإنها عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل، فلابد فيها من النية والقصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 السؤال (67) : فضيلة الشيخ، إذن لو كان على الإنسان نجاسة، ولا يستطيع إزالتها، فإنه لا يتيمم عنها؟ الجواب: نعم، إذا كان على الإنسان نجاسة وهو لا يستطيع إزالتها فإنه يصلي بحسب حاله لكن يخففها ما أمكن بالحك وما أشبه ذلك، وإذا كانت مثلاُ في ثوب يمكنه خلعه ويستتر بغيره، وجب عليه أن يخلعه ويستتر بغيره. صفة الوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 السؤال (68) : فضيلة الشيخ، ما هي صفة الوضوء؟ الجواب: صفة الوضوء الشرعي على وجهين: الوجه الأول: صفة واجبة لا يصح الوضوء إلا بها، وهي المذكورة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة: 6) ، فهي غسل الوجه مرة واحدة، ومنه أي غسل الوجه المضمضة والاستنشاق، وغسل اليدين إلى المرافق من أطراف الأصابع إلى المرافق مرة واحدة، ومسح الرأس مرة واحدة، ومنه أي من الرأس الأذنان وغسل الرجلين إلى الكعبين مرة واحدة، هذه هي الصفة الواجبة التي لابد منها. أما الوجه الثاني من صفة الوضوء: فهي الصفة المستحبة ونسوقها الآن بمعونة الله، فهي أن يسمي الإنسان عند وضوئه، ويغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاث مرات بثلاث غرفات، ثم يغسل وجهه ثلاثاً، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ثلاثاً، يبدأ باليمنى ثم باليسرى، ثم يمسح رأسه مرة واحدة، يبدأ بمقدمه حتى يصل إلى مؤخره، ثم يرجع حتى يصل إلى مقدمه، ثم يمسح أذنيه، فيدخل سبابته في صماخيهما، ويمسح بإبهامه ظاهرهما، ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ثلاثاً، يبدأ باليمنى ثم باليسرى، ثم يقول بعد ذلك أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فإنه إذا فعل ذلك فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء. هكذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قاله عمر رضي الله عنه (1) .   (1) حديث: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل أيها شاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 السؤال (69) : فضيلة الشيخ، لكن بالنسبة للأذنين، هل يلزم أخذ ماء خاص لهما أم مع الرأس؟ الجواب: لا يلزم أخذ ماء جديد للأذنين، بل ولا يستحب، لأن جميع الواصفين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنه كان يأخذ ماء جديداً لأذنيه، فالأفضل أن يمسح أذنيه ببقية البلل الذي بقي بعد مسح رأسه. نواقض الوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 السؤالان (70-71) : فضيلة الشيخ، ما هي نواقض الوضوء؟ الجواب: قبل أن نذكر نواقض الوضوء، أحب أن أنبه إلى مسألة تخفى على كثير من الناس، وهي أن بعض الناس يظنون أن الاستنجاء أو الاستجمار من فروض الوضوء، فتجدهم يسألون كثيراً عن الرجل ينقض الوضوء في أول النهار، ثم يؤذن أذان الظهر وهو لم ينقض وضوءه بعد، وهو لم يتوضأ حين نقض وضوءه أولاً، فيقول: إذا أذن الظهر هل أغسل فرجي مرة ثانية أو لا فنقول: لا تغسل فرجك، لأن غسل الفرج إنما هو لتطهيره من النجاسة عند البول أو الغائط، فإذا لم يحصل ذلك بعد التطهير الأول، فإنه لا يطهر، وحينئذ نعرف أنه لا علاقة بين الاستنجاء الذي هو غسل الفرج مما تلوث به من النجاسة، وبين الوضوء، وهذه مسألة أحب أن يتنبه لها. أما ما يتعلق بنواقض الوضوء: وهي مفسداته ومبطلاته، فنذكر منها: الغائط، والبول، والريح، والنوم، وأكل لحم الجزور. فأما الغائط والبول والنوم فقد دل عليها حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ننزع خفافنا إذا كنا سفراً ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (1) ، وهذا تؤيده الآية الكريمة في الغائط حيث قال الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) (النساء: 43) . وأما الريح: فلما جاء في حديث عبد الله بن زيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، فيمن أشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينصرف أولا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" (2) ، وهذا دليل على أن الريح ناقض للوضوء فهذه أربعة أشياء: البول، والغائط، والريح، والنوم. ولكن النوم لا ينقض الوضوء إلا إذا كان عميقاً، بحيث يستغرق النائم فيه، فلا يعلم عن نفسه لو خرج منه شيء، لأن النوم مظنة الحدث، وليس حدثاً في نفسه، فإذا نعس الإنسان في صلاته أو خارج صلاته، ولكنه يعي نفسه لو أحدث لأحس بذلك، فإنه لا ينتقض وضوءه ولو طال نعاسه، ولو كان متكئاً أو مستنداً أو مضطجعاً، لأن المدار ليس على الهيئة، ولكن المدار على الإحساس واليقظة، فإذا كان هذا الناعس يحس بنفسه لو أحدث، فإن وضوءه باق ولو كان متكئا أو مستنداً أو مضطجعاً، وما أشبه ذلك. وأما الخامس من نواقض الوضوء: فهو أكل لحم الإبل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه سئل: نتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، وسئل عن الوضوء من لحم الغنم؟ قال " إن شئت" (3) ، فإجابته بنعم في لحم الإبل، وبأن شئت في لحم الغنم، دليل على أن الوضوء من لحم الإبل ليس راجعاً إلى مشيئته، بل هو أمر مفروض عليه، ولو لم يكن مفروضاً لكان راجعاً إلى المشيئة، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم "إنه أمره بالوضوء من لحم الإبل" (4) ، وعلى هذا فإذا أكل الإنسان لحم إبل انتقض وضوءه، سواء كان الأكل كثيراً أم قليلاً، وسواء كان اللحم نيئاً أو مطبوخاً، وسواء كان اللحم من اللحم الأحمر الهبر أو من الأمعاء، أو من الكرش، أو من الكبد، أو من القلب، أو من أي شيء كان من أجزاء البدن، لأن الحديث عام لم يفرق بين لحم وآخر، والعموم في لحم الإبل كالعموم في لحم الخنزير، حين قال الله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (المائدة: 3) ، فإن لحم الخنزير هنا يشمل كل أجزاء بدنه، وهكذا لحم الإبل الذي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء منه، يشمل جميع أجزاء البدن، وليس في الشريعة الإسلامية جسد واحد تختلف أحكامه، فيكون جزء منه له حكم وجزء منه له حكم آخر، بل الجسم كله تتفق أجزاؤه في الحكم، ولا سيما على القول بأن نقض الوضوء بلحم الإبل علته معلومة لنا، وليس تعبداً محضاً. وعلى هذا فمن أكل لحم إبل من أي جزء من أجزاء البدن وهو على وضوء، وجب عليه أن يجدد وضوءه، ثم اعلم أن الإنسان إذا كان على وضوء، ثم شك في وجود الناقض، بأن شك هل خرج منه بول أو ريح، أو شك في اللحم الذي أكله، هل هو لحم إبل أو لحم غنم، فإنه لا وضوء عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل، يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" (5) ، يعني حتى يتيقن ذلك، ويدركه بحواسه إدراكاً معلوماً لا شبهة فيه، ولأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه حتى نعلم زواله، فالأصل أن الوضوء باق حتى نعلم زواله وانتقاضه.   (1) أخرجه الترمذي، كتاب الطهارة، باب في المسح على الخفين، رقم (96) ، والنسائي، كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر، رقم (127) ، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم، رقم (478) ، وأحمد في "المسند" (4/239، 240) وقال الترمذي: حسن صحيح. (1) أخرجه الترمذي كتاب الطهارة، باب فبما بقال بعد الوضوء، رقم (55) ، وقال الترمذي: وهذا حديث في إسناده اضطراب ولا يصح عن النبي صلي الله عليه وسلم. في هذا الباب كبير شيء. اهـ. وانظر بحث الشيخ أحمد شاكر حول هذا الحديث في الحاشية (1/78-83) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، رقم (137) ، ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة، ثم شك في الحدث، رقم (361) . (3) أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل، رقم (360) . (4) أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء من لحوم الإبل، رقم (184) ، والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، رقم (81) ، وأحمد في المسند (4/288) وصححه الألباني في الإرواء (1/152) . (5) تقدم تخريجه ص (58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 السؤال (72) : فضيلة الشيخ، ولكن بالنسبة للنوم هل هناك فرق بين نوم الليل ونوم النهار؟ الجواب: ليس هناك فرق بين نوم الليل والنهار، لأن العلة واحدة وهي زوال الإحساس، وكون الإنسان لا يحس بنفسه لو خرج منه شيء. موجبات الغسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 السؤال (73) : فضيلة الشيخ، ما هي موجبات الغسل؟ وما صفته؟ الجواب: أما صفة الغسل فعلى وجهين: صفة واجبة وهي أن يعم بدنه كله بالماء، ومن ذلك المضمضة والاستنشاق، فإذا عمم بدنه بالماء على أي وجه كان، فقد ارتفع عنه الحدث الأكبر، والوجه الثاني: صفة كاملة، وهي أن يغتسل كما اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا اغتسل من الجنابة، فإنه يغسل كفيه، ثم يغسل فرجه، وما تلوث من الجنابة، ثم يتوضأ وضوءاً كاملاً، على صفة ما ذكرنا في الوضوء، ثم يغسل رأسه بالماء ثلاثاً تروية، ثم يغسل بقية بدنه، هذه صفة الغسل. أما موجبات الغسل فمنها: إنزال المني بشهوة يقظة أو مناماً لكنه في المنام يجب عليه الغسل وإن لم يحس بالشهوة، لأن النائم قد يحتلم ولا يحس بنفسه، فإذا خرج منه المني بشهوة وجب عليه الغسل بكل حال. الثاني: الجماع، فإذا جامع الرجل زوجته وجب عليه الغسل، والجماع يكون بأن يولج الحشفة في فرجها، فإذا أولج الحشفة في فرجها فعليه الغسل، لقول النبي صلى عليه وسلم عن الأول: " الماء من الماء" (1) ، يعني أن الغسل يجب من الإنزال، وقوله عن الثاني: " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها، فقد وجب الغسل وإن لم ينزل" (2) . وهذه المسألة أعني الجماع بدون إنزال يخفى حكمها على كثير من الناس، حتى إن بعض الناس تمضي عليه الأسابيع أو الشهور، وهو يجامع زوجته بدون إنزال ولا يغتسل جهلاً منه، وهذا أمر له خطورته، فالواجب على الإنسان أن يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، فإن الإنسان إذا جامع زوجته وإن لم ينزل، وجب الغسل عليه وعليها، للحديث الذي أشرنا إليه آنفاً. ومن موجبات الغسل: خروج دم الحيض والنفاس، فإن المرأة إذا حاضت ثم طهرت، وجب عليها الغسل، لقول الله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) (البقرة: 222) . ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة إذا جلست قدر حيضها أن تغتسل (3) والنفساء مثلها، فيجب عليها أن تغتسل. وصفة الغسل من الحيض والنفاس كصفة الغسل من الجنابة، إلا أن بعض أهل العلم استحب في غسل الحائض، أن تغتسل بالسدر، لأن ذلك أبلغ في نظافتها وتطهيرها. وذكر بعض العلماء أيضاً من موجبات الغسل: الموت، مستدلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي كن يغسلن ابنته: " اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" (4) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته راحلته بعرفة وهو محرم: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين" (5) ، فقالوا: إن الموت موجب للغسل، ولكن الوجوب هنا يتعلق بالحي، لأن الميت انقطع تكليفه بموته. ومعنى يتعلق بالحي، أن الحي هو الذي يوجه إليه الأمر بأن يغسل الميت، فالميت هو الذي يغسل، والحي هو الذي يغسله، فعلى الأحياء أن يقوموا بما وجب عليهم من تغسيل موتاهم، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. حكم المسح على الخفين وشروطه   (1) أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء رقم (343) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الغسل، باب إذا التقى الختانان، رقم (291) ومسلم، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، رقم (348) . (3) أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، رقم (334) . (4) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب غسل الميت ووضوئه بالماء، رقم 1253) ، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في غسل الميت، رقم (939) . (5) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين، رقم (1265) ، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، رقم (1206) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 السؤال (74) : فضيلة الشيخ، ما هو حكم المسح على الخفين وشروط ذلك؟ الجواب: المسح على الخفين مما تواترت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قيل: مما تواتر حديث من كذب ومن بنى لله بيتاً واحتسب ورؤية شفاعة والحوض ومسح خفين وهذي بعض بل دل عليه القرآن في قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة: 6) ، على قراءة الجر، وهي قراءة صحيحة سبعية، ووجه ذلك أن قوله: (وَأَرْجُلَكُمْ) ، بالجر، معطوف على قوله (بِرُؤُوسِكُمْ) والعامل في قوله (بِرُؤُوسِكُمْ) قوله (امْسَحُوا) وعلى هذا فيكون المعنى: " امسحوا برؤوسكم وامسحوا بأرجلكم"، ومن المعلوم أن المسح مناقض للغسل، فلا يمكن أن نقول: إن الآية دالة على وجوب الغسل الدال عليه قراءة النصب (وَأَرْجُلَكُمْ) ، ووجوب المسح في حال واحدة، بل تتنزل الآية على حالين، والسنة بينت هاتين الحالين، فبينت أن الغسل يكون للرجلين إذا كانتا مكشوفتين، وأن المسح يكون لهما إذا كانتا مستورتين بالجوارب والخفين، وهذا الاستدلال ظاهر لمن تأمله. على كل حال، المسح على الخفين وعلى الجوارب وهي ما يسمى بالشراب ثابت ثبوتاً لا مجال للشك فيه، ولهذا قال الإمام أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء، يعني ليس عندي فيه شك بوجه من الوجوه، ولكن لابد من شروط لهذا المسح: الشرط الأول: أن يلبسهما على طهارة، ودليله: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فتوضأ، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" (1) ومسح عليها، فإن لبسهما على غير طهارة وجب عليه أن يخلعهما عند الوضوء ليغسل قدميه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل عدم خلعهما عند الوضوء ومسح عليهما، علله بأنه لبسهما على طهارة: "أدخلتهما طاهرتين". الشرط الثاني: أن يكون ذلك في المدة المحددة شرعاً، وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، وتبتدئ هذه المدة من أول مرة مسح بعد الحدث إلى آخر المدة فكل مدة مضت قبل المسح فهي غير محسوبة على الإنسان، حتى لو بقي يومين أو ثلاثة على الطهارة التي لبس فيها الخفين أو الجوارب، فإن هذه المدة لا تحسب، لا يحسب له إلا من ابتداء المسح أول مرة إلى أن تنتهي المدة، وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، كما ذكرناها آنفاً. مثال ذلك: رجل لبس الخفين أو الجوارب حين توضأ لصلاة الفجر من يوم الأحد، وبقي على طهارته إلى أن صلى العشاء، ثم نام، ولما استيقظ لصلاة الفجر يوم الاثنين مسح عليهما، فتبتدئ المدة من مسحه لصلاة الفجر يوم الاثنين، لأن هذا أول مرة مسح بعد حدثه، وتنتهي بانتهاء المدة التي ذكرناها آنفاً. الشرط الثالث: أن يكون ذلك في الحدث الأصغر لا في الجنابة، فإن كان في الجنابة فإنه لا مسح، بل يجب عليه أن يخلع الخفين ويغسل جميع بدنه، لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (2) ، وثبت في صحيح مسلم من حديث علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المسح " يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر" (3) . فهذه الشروط الثلاثة لابد منها لجواز المسح على الخفين، وهناك شروط أخرى اختلف فيها أهل العلم، ولكن القاعدة التي تبنى عليها الأحكام: أن الأصل براءة الذمة من كل ما يقال من شرط أو موجب أو مانع، حتى يقوم عليه الدليل. شروط الممسوح عليه   (1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، رقم (206) ، ومسلم، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، رقم (274) . (2) تقدم تخريجه ص (57) . (3) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين، رقم (276) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 السؤال (75) : فضيلة الشيخ، لكن هل هناك شروط تتعلق بالممسوح عليه من خف وجورب؟ الجواب: ليس فيه شروط، اللهم إلا أن يكون طاهراً، فإنه إذا كان نجساً لا يمسح عليه، فلو اتخذ الإنسان خفا من جلد نجس، كجلد الكلاب والسباع، فإنه لا يجوز المسح عليه، لأنه نجس، والنجاسة لا يجوز حملها في الصلاة، ولأن النجس لا يزد مسحه إلا تلويثاً. حكم المسح على الجوارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 السؤال (76) : فضيلة الشيخ، ما حكم المسح على الجورب أو الخف المخروق أو الجورب الخفيف؟ الجواب: القول الراجح أنه يجوز المسح على ذلك، أي على الجورب المخرق، والجورب الخفيف الذي ترى من ورائه البشرة، لأنه ليس المقصود من جواز المسح على الجورب ونحوه أن يكون ساتراً، فإن الرجل ليست عورة يجب سترها، وإنما المقصود الرخصة على المكلف، والتسهيل عليه، بحيث لا نلزمه بخلع هذا الجورب أو الخف عند الوضوء، بل نقول: يكفيك أن تمسح عليه، هذه هي العلة التي من أجلها شرع المسح على الخفين، وهذه العلة كما ترى يستوي فيها الخف أو الجورب المخرق، والسليم، والخفيف، والثقيل. هل موجبات الغسل من نواقض الوضوء؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 السؤال (77) : فضيلة الشيخ، هل موجبات الغسل تعد من نواقض الوضوء أم لا؟ الجواب: المشهور عند فقهائنا رحمهم الله: أن كل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً إلا الموت، وبناء على ذلك فإنه لابد لمن اغتسل من موجبات الغسل أن ينوي الوضوء، فإما أن يتوضأ وإما أن يكفي الغسل بالنيتين، وذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن نية الاغتسال من الحدث الأكبر تغني عن نية الوضوء لأن الله عز وجل قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ... ..) إلى آخره (المائدة: 6) ، فلم يذكر الله تعالى في حال الجنابة إلا الإطهار يعني التطهر، ولم يذكر الوضوء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل حين أعطاه الماء ليغتسل قال: " أذهب فافرغه عليك" (1) ، ولم يذكر له الوضوء أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين في حديث طويل. وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية أقرب إلى الصواب، وهي أن من عليه حدث أكبر إذا نوى الأكبر، فإنه يجزئ عن الأصغر. وبناء على هذا فإن موجبات الغسل منفردة عن نواقض الوضوء. الأحكام المتعلقة بالجنابة   (1) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم، رقم (344) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 السؤال (78) : فضيلة الشيخ، ذكرتم من موجبات الغسل الجنابة، فما هي الأحكام المتعلقة بالجنابة؟ الجواب: الأحكام المتعلقة بالجنابة هي: أولاً: أن الجنب تحرم عليه الصلاة، فرضها، ونفلها، حتى صلاة الجنازة. ثانياً: يحرم عليه الطواف بالبيت ثالثاً: يحرم عليه مس المصحف رابعاً: يحرم عليه المكث في المسجد إلا بوضوء خامساً: يحرم عليه قراءة القرآن حتى يغتسل هذه هي أحكام خمسة تتعلق بمن عليه جنابة. تأثير الشك في الطهارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 السؤال (79) : فضيلة الشيخ، أيضاً مما يتعلق بالطهارة الشك فيها، فما هو الشك في الطهارة، ومتى يكون مؤثراً؟ الجواب: الشك في الطهارة نوعان: أحدهما: شك في وجودها بعد تحقق الحدث. والثاني: شك في زوالها بعد تحقق الطهارة أما الأول: وهو الشك في وجودها بعد تحقق الحدث، فأن يشك الإنسان هل توضأ أم لم يتوضأ، وهو يعتقد أنه أحدث لكن يشك هل توضأ أم لا، ففي هذه الحال نقول: ابن على الأصل، وهو أنك لم تتوضأ، ويجب عليك الوضوء. مثال ذلك: رجل شك عند أذان الظهر هل توضأ بعد نقض وضوئه في الضحى أم لم يتوضأ، يعني أنه نقض الوضوء في الساعة العاشرة مثلاً، ثم عند أذان الظهر شك، هل توضأ حين نقض وضوءه أم لا، فنقول له: ابن على الأصل، وهو أنك لم تتوضأ، ويجب عليك أن تتوضأ. أما النوع الثاني: وهو الشك في انتقاض الطهارة بعد وجودها، فإننا نقول أيضاً: ابن على الأصل، ولا تعتبر نفسك ناقضاً للوضوء. مثاله: رجل توضأ في الساعة العاشرة، فلما حان وقت الظهر شك، هل انقض وضوءه أم لا، فنقول له: إنك على وضوئك، ولا يلزمك الوضوء حينئذ، وذلك لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، ويشهد لهذا الأصل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن وجد في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا؟ " لا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" (1) . وأما الشك في فعل أو الشك في أجزاء الطهارة، مثل أن يشك الإنسان هل غسل وجهه في وضوئه أم لا، وهل غسل يديه أم لا، وما أشبه ذلك، فهذا لا يخلو من أحوال أربعة: الحال الأولى: أن يكون مجرد وهم طرأ على قلبه أنه: هل غسل يديه أم لم يغسلهما، وهماً ليس له مرجح، ولا تساوى عنده الأمران، بل هو مجرد شيء خطر في قلبه، لهذا لا يهتم به، ولا يلتفت إليه. الحال الثانية: أن يكون كثير الشكوك، كلما توضأ شك، إذا كان الآن يغسل قدميه شك هل مسح رأسه أم لا؟ هل مسح أذنيه أم لا؟ هل غسل يديه أم لا؟ فهو كثير الشكوك، هذا أيضاً لا يلتفت إلى الشك ولا يهتم به. أما الحال الثالثة: أن يقع الشك بعد فراغه من الوضوء فإذا فرغ من وضوئه شك، هل غسل يديه أم لا؟ أو هل مسح رأسه، أو هل مسح أذنيه، فهذا أيضاً لا يلتفت إليه، إلا إذا تيقن أنه لم يغسل ذلك العضو المشكوك فيه، فيبني على يقينه. هذه ثلاث حالات لا يلتفت إليها في الشك. الحال الأولى: الوهم. الحال الثانية: أن يكون كثير الشكوك، الحال الثالثة: أن يكون الشك بعد الفراغ من العبادة، أي بعد فراغ الوضوء. أما الحال الرابعة: فهي أن يكون الشك شكا حقيقياً، وليس كثير الشكوك، وحصل قبل أن يفرغ من العبادة، ففي هذه الحال يجب عليه أن يبني على اليقين وهو العدم، أي أنه لم يغسل ذلك العضو الذي شك فيه، فيرجع إليه ويغسله وما بعده، مثاله: لو شك وهو يمسح رأسه، هل تمضمض واستنشق أم لا، وهو ليس كثير الشكوك، وهو شك حقيقي ليس وهماً، نقول له الآن: ارجع فتمضمض واستنشق، ثم اغسل يديك، ثم امسح رأسك وإنما أوجبنا عليه غسل اليدين مع أنه غسلهما من أجل الترتيب لأن الترتيب بين أعضاء الوضوء واجب، كما ذكر الله تعالى ذلك مرتباً، وقال النبي عليه الصلاة والسلام حين أقبل على الصفا: " ابدأ بما بدأ الله به" (2) ، هذا هو حال الشك في الطهارة. أنواع النجاسات الحكمية ومفهومها   (1) تقدم تخريجه ص (58) (2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218) ، وهو جزء من حديث جابر العظيم في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 السؤال (80) : فضيلة الشيخ، ما هي النجاسات الحكمية من حيث المفهوم والأنواع؟ الجواب: النجاسات الحكمية هي النجاسة الواردة على محل طاهر، فهذه يجب علينا أن نغسلها، وأن ننظف المحل الطاهر منها، فيما إذا كان الأمر يقتضي الطهارة، وكيفية تطهيرها، أو تطهير ما أصابته النجاسة تختلف بحسب الموضع، فإذا كانت النجاسة على الأرض، فإنه يكتفي بصب الماء عليها بعد إزالة عينها إن كانت ذات جرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة حين بال الرجل في طائفة المسجد- أي في جانب منه قال لهم "دعوه، وهريقوا على بوله سجلاً من ماء" (1) ، فإذا كانت النجاسة على الأرض، فإن كانت ذات جرم أزلنا جرمها أولاً، ثم صببنا الماء عليها مرة واحدة ويكفي. ثانياً: إذا كانت النجاسة على غير الأرض، وهي نجاسة كلب، فإنه لابد لتطهيرها من سبع غسلات، إحداها بالتراب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب" (2) . ثالثاً: إذا كانت النجاسة على غير الأرض، وليست نجاسة كلب، فإن القول الراجح أنها تطهر بزوالها على أي حال كان سواء زالت بأول غسلة، أو بالغسلة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة، المهم متى زالت عين النجاسة فإنها تطهر، لكن إذا كانت النجاسة بول غلام صغير لم يأكل الطعام، فإنه يكفي أن تغمر بالماء الذي يستوعب المحل النجس، وهو ما يعرف عند العلماء بالنضح، ولا يحتاج إلى غسل ودلك، لأن نجاسة بول الغلام الصغير الذي لم يأكل الطعام نجاسة مخففة. الأحكام المتعلقة بالحيض والنفاس   (1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، رقم (220) . (2) الحديث متفق عليه بدون قوله: "إحداهن بالتراب". أخرجه البخاري رقم (172) كتاب الوضوء، باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم، رقم (172) . ولفظه " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً". ومسلم، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، رقم) 279) ، وفيه "أولاهن بالتراب". أما رواية إحداهن بالتراب فأخرجها النسائي في السنن الكبرى (1/78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 السؤال (81) : فضيلة الشيخ، ما هي الأحكام المتعلقة بالحيض والنفاس؟ الجواب: الحيض قال أهل العلم: إنه دم طبيعة وجبلة يعتاد الأنثى إذا صلحت للحمل في أيام معلومة. وقالوا: إن الله عز وجل خلقه لغذاء الولد في بطن الأم، ولهذا إذا حملت المرأة انقطع عنها الحيض غالباً، ثم إن هذا الحيض الطبيعي إذا أصاب المرأة تعلق به أحكام كثيرة، منها: تحريم الصلاة والصيام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" (1) ، فلا يحل للمرأة أن تصوم ولا أن تصلي وهي حائض، فإن فعلت فهي آثمة، وصومها وصلاتها مردودان عليها. ثانياً: يحرم عليها الطواف بالبيت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة حين حاضت: " افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت" (2) ، ولما ذكر له أن صفية بنت حيي قد حاضت، قال: " أحابستنا هي؟ " لأنه ظن أنها لم تطف طواف الإفاضة، فقالوا: إنها قد أفاضت، فقال: "اخرجوا" (3) ، ومن هذا الحديث نستفيد أن المرأة إذا طافت طواف الإفاضة وهو طواف الحج، ثم أتاها الحيض بعد ذلك، فإن نسكها يتم، حتى لو حاضت بعد طواف الإفاضة وقبل السعي، فإن نسكها يتم، لأن السعي يصح من المرأة الحائض. ونستفيد أيضاً من هذا الحديث أن طواف الوداع يسقط عن المرأة الحائض، كما جاء ذلك صريحاً في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض" (4) . يحرم على الحائض أيضاً الجماع، فلا يحل للرجل أن يجامع زوجته وهي حائض، لقول الله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) (البقرة: 222) ، والآية الكريمة تفيد أنه يحرم على الإنسان أن يطأ زوجته وهي حائض، وأنها إذا طهرت لا يطأها أيضاً حتى تغتسل لقوله: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني اغتسلن، فإن الإطهار بمعنى الاغتسال، لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (المائدة: 6) . ولكن يجوز للإنسان أن يباشر زوجته وهي حائض، وأن يستمتع منها بما دون الفرج، وهذا يخفف من حدة الشهوة بالنسبة للإنسان الذي لا يستطيع الصبر عن أهله مدة أيام الحيض، فإنه يتمكن من الاستمتاع بها فيما عدا الوطء في الفرج، أما الوطء في الدبر فهو حرام بكل حال، سواء كانت امرأته حائضاً أم غير حائض. ومن الأحكام التي تترب على الحيض: أن المرأة إذا طهرت في وقت الصلاة فإنه يجب عليها أن تبادر بالاغتسال لتصلي الصلاة قبل خروج وقتها، فإذا طهرت مثلاً بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وجب عليها أن تغتسل، حتى تصلي صلاة الفجر في وقتها، وبعض الناس يتهاون في هذا الأمر، فتجدها تطهر في الوقت، ولكن تسوف ولا سيما في أيام الشتاء، تسوف وتتهاون حتى يخرج الوقت، وهذا حرام عليها ويحل لها، بل الواجب: أن تغتسل لتصلي الصلاة في وقتها. وأوقات الصلوات معلومة لعامة الناس: وهي في الفجر من طلوع الفجر حتى تطلع الشمس، وفي وقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله يعني طوله وفي العصر من هذا الوقت إلى أن تصفر الشمس، وهذا وقت الاختيار، وإلى أن تغرب وهذا وقت الضرورة، وفي المغرب من غروب الشمس إلى مغرب الشمس الأحمر، وفي العشاء من مغرب الشفق الأحمر إلى منتصف الليل، وما بعد منتصف الليل فهو وقت لا تصلى فيه العشاء لأن وقتها قد خرج، إلا إذا كان الإنسان قد نام أو نسي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" (5) . وليعلم أن الأصل في الدم الذي يصيب المرأة إذا كانت في سن الحيض أن يكون حيضاً، حتى يأتي ما يخرجه عن هذا الأصل، والذي يخرجه عن هذا الأصل، أن نعلم أن هذا الدم خرج من عرق وليس دم الطبيعة، مثل أن يكون ذلك إثر عملية أجرتها المرأة، أو يكون هذا الشيء لروعة أصابتها، أو نحو هذا من الأسباب التي توجب خروج الدم غير الطبيعي، فإنها في هذه الحال لا تعتبر هذا الدم دم حيض، وكذلك إذا أطبق عليها الدم وكثر حتى استغرق أكثر المدة من الشهر، فإنها في هذه الحال تكون مستحاضة، وترجع إلى عادتها التي كانت عليها قبل حصول هذه الاستحاضة، فتجلس مدة عادتها ثم تغتسل وتصلي، ولو كان الدم يجري. ومما يتعلق بأحكام الحيض والنفاس: أنه لا يجوز للرجل أن يطلق المرأة وهي حائض، فإن فعل فهو آثم وعليه أن يردها إلى عصمته، حتى يطلقها وهي طاهر طهراً لم يجامعها فيه، لأنه ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً" (6) . وكثير من الناس نسأل الله لنا ولهم الهداية يتسرعون في هذا الأمر، فيطلق زوجته وهي حائض، أو يطلقها في طهر جامعها فيه، قبل أن يتبين حملها، وكل هذا حرام يجب على المرء أن يتوب إلى الله منه، وأن يعيد امرأته التي طلقها على هذه الحال. ومما يتعلق بأحكام الحيض والنفاس: أن المرأة النفساء إذا طهرت قبل أربعين يوماً، فإنه يجب عليها أن تغتسل وتصلي وتصوم إذا كان ذلك في رمضان، لأنها إذا طهرت ولو في أثناء الأربعين صار لها حكم الطاهرات، حتى بالنسبة للجماع، فإنه يجوز لزوجها أن يجامعها وإن لم تتم أربعين، لأنه إذا جازت لها الصلاة جاز الوطء من باب أولى. ومما يتعلق بأحكام الحيض والنفاس: كما أشرنا إليه سابقاً وجوب الغسل على الحائض والنفساء إذا طهرتا من الحيض والنفاس، وأحكام الحيض والنفاس كثيرة جداً، ونقتصر منها على هذا القدر ولعل فيه كفاية إن شاء الله تعالى. المرأة إذا لم ينزل منها دم   (1) أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، رقم (304) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الحيض، بلب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، رقم (305) ، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، رقم (1211) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الزيارة يوم النحر، رقم (1733) ، ومسلم، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، رقم (1211م) . (4) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب طواف الوداع، رقم (1755) ، ومسلم، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، رقم (1328) . (5) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر، رقم (597) ، ومسلم، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، رقم (684) ، واللفظ له (6) أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، رقم (1471) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 السؤال (82) : فضيلة الشيخ، بالنسبة للمرأة إذا طهرت من النفاس أو إذا لم ينزل منها الدم فهل تعتبر نفساء؟ الجواب: إذا لم ينزل منها دم في حال النفاس، فإنها ليست نفساء، ولا يلزمها شيء، لا يلزمها غسل، ولا يحرم عليها صلاة ولا صيام. حكم أخذ حبوب منع الحيض أثناء الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 السؤال (83) : فضيلة الشيخ، هل يجوز للمرأة أن تأخذ ما يمنع عنها الحيض أثناء حجها حتى تتمكن من أداء الحج، كالحبوب المانعة للحمل أو أي نوع من أنواع ما يتطبب به؟ الجواب: الأصل في هذا الجواز، وأنه يجوز للمرأة أن تأخذ ما يمنع الحيض إذا كان ذلك بإذن زوجها، ولكن بلغني عن بعض الأطباء أن هذه الحبوب المانعة من نزل الحيض ضارة جداً على المرأة، ضارة للرحم والأعصاب والدم وغير ذلك، حتى قال لي بعضهم: إنه إذا استعملتها امرأة بكر فإنه يكون موجباً للعقم، فتكون هذه المرأة عقيمة، وهذا خطر عظيم، وما قاله بعض الأطباء ليس ببعيد، لأن الدم أعني دم الحيض دم طبيعة، فإذا حاول الإنسان أن يمنعه بهذه العقاقير، فقد حاول مخالفة الطبيعة، ولا شك أن مخالفة الطبيعة مضر على البدن، لأنه يقتضي أن ينحبس هذا الدم عن وقت خروجه الذي كان من طبيعة المرأة، لهذا أنصح جميع نسائنا في هذه المسألة بأن يدعن هذه الحبوب في رمضان وفي غير رمضان. لكن في مسألة الحج والعمرة، ربما تدعو الحاجة أو الضرورة إلى استعمال هذه الحبوب وهو استعمال مؤقت، وربما لا تعود المرأة إليه مدى عمرها، فمثل هذا أرجو ألا يكون فيه بأس ولا ضرر. إذا ثبت ضرر الحبوب فما حكمها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 السؤال (84) : فضيلة الشيخ، لكن إذا ثبت ضررها فما حكمها؟ الجواب: إذا ثبت ضررها فمعلوم أن كل ما تحقق ضرره فإنه لا يجوز للإنسان أن يتناوله، لأن الله عز وجل يقول (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء: 29) ، وقد استدل عمرو بن العاص بهذه الآية، حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أصليت بأصحابك وأنت جنب" وكان رضي الله عنه قد أجنب في ليلة باردة، فتيمم وصلى بأصحابه، فلما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: "أصليت بأصحابك وأنت جنب" قال: يا رسول الله، ذكرت قول الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم أو ضحك، وأقره على هذا (1) . وهذا يدل على أن كل ما يكون فيه ضرر على بدن الإنسان، فإنه لا يجوز له أن يتناوله.   (1) أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، رقم (334) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فتاوى الصلاة حكم الصلاة وأهميتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 السؤال (85) : فضيلة الشيخ، ما حكم الصلاة؟ وما أهميتها؟ الجواب: الصلاة من آكد أركان الإسلام بل هي الركن الثاني بعد الشهادتين، وهي آكد أعمال الجوارح، وهي عمود الإسلام، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عموده الصلاة" (1) ، يعني الإسلام، وقد فرضها الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى مكان وصل إليه البشر، وفي أفضل ليلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبدون واسطة أحد، وفرضها الله عز وجل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خمسين مرة في اليوم والليلة، ولكن الله سبحانه وتعالى خفف على عباده، حتى صارت خمساً بالفعل وخمسين في الميزان، وهذا يدل على أهميتها، ومحبة الله لها، وأنها جديرة بأن يصرف الإنسان شيئاً كثيراً من وقته فيها، ولهذا دل على فرضيتها: الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين. ففي الكتاب: يقول الله عز وجل (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: 103) ، معنى كتاباً: أي مكتوباً، أي مفروضاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" (2) ، وأجمع المسلمون على فرضيتها ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن الإنسان إذا جحد فرض الصلوات الخمس، أو فرض واحدة منها فهو كافر مرتد عن الإسلام، يباح دمه وماله، إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، ما لم يكن حديث عهد بإسلام، لا يعرف عن شعائر الإسلام شيئاً، فإنه يعذر بجهله في هذه الحال، ثم يعرف فإن أصر بعد علمه بوجوبها على إنكار فرضيتها فهو كافر. إذا فالصلاة من أفرض الفرائض في دين الإسلام. على من تجب الصلاة   (1) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، رقم (2616) ، وقال: حسن صحيح. (2) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، رقم (1395) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، رقم (19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 السؤال (86) : فضيلة الشيخ، على من تجب الصلاة؟ الجواب: تجب على كل مسلم بالغ عاقل، من ذكر أو أنثى. فالمسلم: ضده الكافر، فإن الكافر لا تجب عليه الصلاة، بمعنى أنه لا يلزم بأدائها حال كفره، ولا بقضائها إذا أسلم، لكنه يعاقب عليها يوم القيامة، كما قال الله تعالى: (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) (39) (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ) (40) (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (41) (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (42) (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (43) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (44) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (45) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (المدثر: 39-46) ، فقولهم: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) يدل على أنهم عوقبوا على ترك الصلاة. وأما البالغ: فهو الذي حصل له واحدة من علامات البلوغ، وهي ثلاث بالنسبة للرجل، وأربع بالنسبة للمرأة. إحداها: تمام خمس عشرة سنة. والثانية: إنزال المني بلذة يقظة كان أم مناماً. والثالثة: إنبات العانة، وهي الشعر الخشن حول القبل. هذه الثلاث العلامات تكون للرجال والنساء، وتزيد المرأة علامة رابعة: وهي الحيض، فإن الحيض من علامات البلوغ. وأما العاقل: فضده المجنون الذي لا عقل له، ومنه الرجل الكبير أو المرأة الكبيرة إذا بلغ به الكبر إلى حد فقد التمييز، فإنه لا تجب عليه الصلاة حينئذ لعدم وجود العقل في حقه. وأما الحيض والنفاس: فهو مانع من وجوب الصلاة، فإذا وجد الحيض والنفاس فإن الصلاة لا تجب. حكم تارك الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 السؤال (87) : فضيلة الشيخ، عرفنا حكم الصلاة وعلى من تجب، فما حكم ترك الصلاة؟ الجواب: حكم ترك الصلاة، أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة، وذلك بدلالة الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والنظر الصحيح. أما الكتاب: ففي قوله تعالى عن المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (التوبة: 11) ، وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة، أن الله اشترط لثبوت الأخوة بين هؤلاء المشركين، وبين المؤمنين ثلاثة شروط: التوبة من الشرك، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فإذا تخلف أحد هذه الثلاثة لم يكونوا إخوة لنا في الدين، ولا تنتفي الأخوة في الدين إلا بالكفر المخرج عن الملة، فإن المعاصي مهما عظمت إذا لم تصل إلى حد الكفر لا تخرج عن الأخوة في الدين، ألا ترى إلى قوله تعالى في آية القصاص، فيمن قتل أخاه عمداً، قال عز وجل: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 178) ، فجعل الله تعالى القاتل أخاً للمقتول، مع أن قتل المؤمن عمداً من أعظم الكبائر، ثم ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (9) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 9-10) ، فجعل الله الطائفة الثالثة المصلحة اخوة للطائفتين المقتتلتين، مع أن قتال المؤمن من أعظم الذنوب، وهذا يدل على أن الأخوة في الدين لا تنتفي بالمعاصي أبداً إلا ما كان كفراً. وشرح الآية المذكورة: أنهم إن بقوا على الشرك فكفرهم ظاهر، وإن آمنوا ولم يصلوا فكفرهم أيضاً ظاهر معلوم من الجملة الشرطية (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) أي تابوا من الشرك، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، إلا أن مسألة الزكاة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يكفر الإنسان إذا تركها أو لا يكفر، وفيه عن أحمد روايتان. لكن الذي تقتضيه وتدل عليه السنة: أن تارك الزكاة لا يكفر، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى به جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" (1) ، فإن هذا الحديث يدل على أنه لا يكفر بمنع الزكاة إذ لو كفر لم يكن له سبيل إلى الجنة، وعلى هذا فتكون الزكاة خارجة من هذا الحكم بمقتضى دلالة السنة. أما الدليل من السنة على كفر تارك الصلاة، فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (2) ، ووجه الدلالة من الحديث: أنه جعل هناك فاصلاً بين الإيمان والكفر وهو الصلاة، وهو واضح في أنه لا إيمان لمن لم يصل، لأن هذا هو مقتضى الحد، إذ إن الحد يفصل بين المحدودين. وقوله "بين الرجل وبين الشرك والكفر"ولم يقل بين الرجل وبين كفر منكراً، والكفر إذا دخلت عليه"أل" كان المراد به الكفر الحقيقي، بخلاف ما إذا كان منكراً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت" (3) ، فإن هذا لا يقتضي الخروج من الإسلام، لأنه قال: "هما بهم كفر" يعني هاتين الخصلتين. أما أقوال الصحابة رضي الله عنهم، فقد قال عبد الله بن شقيق رحمه الله " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" (4) ، وقد نقل إجماعهم إسحاق بن راهويه رحمه الله على أن تارك الصلاة كافر. وأما المعنى فنقول: كل إنسان عرف الصلاة وقدرها وعناية الشريعة بها، ثم يدعها بدون عذر، وليس له حجة أمام الله عز جل، فإن ذلك دليل واضح على أنه ليس في قلبه من الإيمان شيء، إذ لو كان في قلبه من الإيمان شيء ما ترك هذه الصلاة العظيمة، التي دلت النصوص على العناية بها وأهميتها، والأشياء تعرف بآثارها، فلو كان في قلبه أدنى مثقال من إيمان لم يحافظ على ترك هذه الصلاة مع أهميتها وعظمها. وبهذا تكون الأدلة السمعية والنظرية دالة على أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة، وتكون مقتضية للحذر من هذا العمل الشنيع، الذي تهاون به اليوم كثير من الناس. ولكن باب التوبة مفتوح ولله الحمد كما قال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (59) (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (60) (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً) (61) (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) (مريم: 59-62) . فنسأل الله أن يهدينا وإخواننا المسلمين للقيام بطاعته على الوجه الذي يرضيه عنا. الأحكام المترتبة على ترك الصلاة   (1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، رقم (987) . (2) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، رقم (82) . (3) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة على الميت، رقم (67) . (4) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم (2622) ، قال الألباني: وإسناده صحيح. ووصله الحاكم (1/8) ، عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال: فذكره. وقال صحيح على شرطهما، وقال الذهبي: إسناده صحيح. اهـ. انظر: "المشكاة" (1/183) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 السؤال (88) : فضيلة الشيخ، ما الذي يترتب على الحكم بالكفر على تارك الصلاة؟ الجواب: يترتب على ترك الصلاة المؤدي إلى الكفر، يترتب عليه ما يترتب على أي مرتد آخر بسبب يقتضي الردة، والذي يترتب على ذلك أحكام دنيوية وأحكام أخروية. فمن الأحكام الدنيوية: أنه لا يحل أن يزوج لأن الكافر لا يحل أن يزوج بمسلمة، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (الممتحنة: 10) ، ولقوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) (البقرة: 221) ، ومن عقد لشخص على ابنته المسلمة، وهذا الشخص لا يصلي فإن النكاح باطل، ولا تحل به المرأة لهذا الرجل، ولا يستبيح منها ما يستبيح الرجل من امرأته، لأنها محرمة عليه، فإن هداه الله ومنَّ عليه بالتوبة فلابد من إعادة العقد. الحكم الثاني: سقوط ولايته، فلا يكون وليا على بناته، وعلى قريباته، فلا يزوج أحداً منهن لأنه لا ولاية لكافر على مسلم. الحكم الثالث: سقوط حقه من الحضانة، فلا يكون له حق في حضانة أولاده، لأنه لا حضانة لكافر على مسلم، فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. الحكم الرابع: تحريم ما ذكّاه من الحيوان، فذبيحته التي يذبحها حرام، لأن من شرط حل الذبيحة، أن يكون الذابح مسلماً أو كتابياً وهو اليهودي والنصراني، والمرتد ليس من هؤلاء، فذبيحته حرام. الحكم الخامس: أنه لا يحل له دخول مكة وحرمها، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (التوبة: 28) ، وعليه فلا يحل لأحد أن يمكِّن من لا يصلي من دخول مكة وحرمها لهذه الآية التي ذكرناها. وأما الأحكام الأخروية فمنها: أنه إذا مات لا يغَّسل، ولا يكفَّن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، لأنه ليس منهم، وإنما يخرج به إلى مكان منفرد فيدفن لئلا يتأذى الناس برائحته، أو يتأذى أهله بمشاهدته، ولا يحل لأحد أن يدعو بالرحمة لمن مات من أقاربه وهو يعلم أنه لا يصلي، لقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113) ، ولا يقولن قائل: إن الله عز جل يقول: "أن يستغفروا للمشركين" وتارك الصلاة ليس بمشرك، لأننا نقول: إن ظاهر حديث جابر: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (1) أن ترك الصلاة نوع من الشرك، ثم، نقول: إن الله تعالى علل ذلك بقوله: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) ، وتارك الصلاة قد تبين بمقتضى الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، والمعنى الصحيح، قد تبين لنا أنه من أصحاب الجحيم. فالعلة هي هي، والحكم إذا ثبت بعلة شمل كل ما تؤثر فيه هذه العلة. ومن الأحكام الأخروية التي تترب على ترك الصلاة: أنه إذا كان يوم القيامة حُشر مع فرعون، وهامان، وقارون، وأبيّ بن خلف - أئمة الكفر - والمحشور مع هؤلاء مآله مآلهم وهو النار والعياذ بالله. فليحذر الإنسان من ترك الصلاة، وليخف ربّه، وليؤد الأمانة التي حمّله الله إياها في نفسه، فإن لنفسه عليه حقا. قد يقول قائل: إن قولكم بأنه يكفر كفراً مخرجاً عن الملة، معارض بقول من قال من أهل العلم: إنه كفر دون كفر، وإنه لا يخرج به من الإسلام، ويحمل الأحاديث الواردة في ذلك على من تركها جحوداً، لا من تركها تهاوناً. وجوابنا عن ذلك أن نقول: إن المسألة لا شك مسألة خلافية، ولكن الله عز وجل يقول: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (الشورى: 10) ، ويقول عز وجل: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59) . وإذا رددنا هذه المسألة إلى الله ورسوله، تبين لنا أن الحكم مرتب على الترك لا على الجحود، وقد ذكرنا ذلك في سؤال سابق. ثم إننا نقول: هل أحد من الناس يزعم أنه أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام الله عز وجل؟ وهل أحد يدعي أنه أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق؟ وهل أحد يزعم أنه أفصح من الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ينطق به؟ وهل أحد يزعم أنه أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم فيما يريده؟ كل هذه الأوصاف أو كل هذه الأمور الأربعة لا يمكن لأحد أن يدعيها، فإذا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بشريعة الله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق فيما ينطق به، وأعلم الخلق بما يقول، يقول: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" (2) ، ويقول: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (3) ، فأي بيان أوضح من هذا في أن الحكم معلّق بالترك، ثم نقول لمن زعم أن المراد من تركها جاحداً لها: إنك حرفت النص من وجهين: الوجه الأول: أنك ألغيت الوصف الذي رتب عليه الحكم وهو الترك. الوجه الثاني: أنك جعلت وصفاً يتعلق به الحكم لا يدل عليه اللفظ وهو الجحد، فأين الجحد في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: " فمن تركها فقد كفر"؟ ثم إننا نقول: إذا جحد الإنسان فرض الصلاة فهو كافر وإن صلى، فهل تقول أنت: إنه إذا جحدها وصلى لم يكن كافراً؟ سيقول: لا، إذا جحدها - أي جحد وجوبها فهو كافر وإن صلى، فنقول: إذاً خالفت الحديث، فالحديث يقول: "فمن تركها"، وأنت قلت: إن الحديث المراد به من تركها جاحداً لها، والكفر مرتب على زعمك على من تركها جاحداً، لا من جحدها بدون ترك، وأنت لا تقول بهذا، فعلى قولك يكون من جحدها بدون ترك يكون مسلماً!! فتبين بهذا واتّضح، أن القول الصواب أن من تركها متهاوناً متكاسلاً فهو كافر، أما من جحدها فهو كافر سواء صلى أم لم يصل. وما أشبه هذه الدعوى - أعني دعوى أن المراد من تركها جحداً لوجوبها ما أشبهها بما نقل عن الإمام أحمد في قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء: 93) ، روي عن الإمام أحمد أن بعض الناس يقول: إن المراد من قتل مؤمناً مستحلاً لقتله، فتعجب الإمام أحمد من هذا، وقال: إنه إذا استحل قتله فإنه كافر سواء قتله أم لم يقتله، والآية علقت الحكم بالقتل، وهذا نظير مسألتنا فيمن ترك الصلاة، ونحن إذا قلنا بكفر تارك الصلاة، فإننا نبرأ إلى الله عز وجل، أن نقول عليه ما لا يدل عليه كلامه، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ونرى أن القول بالتكفير كالقول بالإيجاب والتحريم، لا يتلقى إلا من جهة الشرع، وإن الجرأة على القول بالتكفير كالجرأة على القول بالإيجاب فيما لم يجب، وبالتحريم فيما لم يحرم، لأن الكل أمره إلى الله عز وجل، التحليل والتحريم والإيجاب والبراءة والتكفير وعدم التكفير، كلها أمرها إلى الله عز وجل، فعلى المرء أن يقول بما يقتضيه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلاحظ أي اعتبار يخالف ذلك. شروط الصلاة   (1) تقدم تخريجه ص (147) . (2) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم (2621) ، والنسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، رقم (463) ، وأحمد في " المسند" (5/546) ، والحاكم في " المستدرك" (1/7) وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. (3) تقدم تخريجه ص (147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 السؤال (89) : فضيلة الشيخ، ما هي شروط الصلاة؟ وماذا يترتب عليها؟ الجواب: شروط الصلاة: ما يتوقف عليه صحة الصلاة، لأن الشرط في اللغة: العلامة، كما قال الله تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) (محمد: 18) ، أي علاماتها، والشرط في الشرع، في اصطلاح أهل الأصول: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود. وشروط الصلاة عدة، أهمها: الوقت، كما قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: 103) ، ولهذا يسقط كثير من الواجبات مراعاة للوقت، وينبغي بل يجب على الإنسان أن يحافظ على أن تكون الصلاة في وقتها، وأوقات الصلاة ذكرها الله تعالى مجملة في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم مفصلة في سنته. أما في الكتاب العزيز، فقال الله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الاسراء: 78) فقوله تعالى (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي زوالها. وقوله (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي انتصاف الليل، لأن أقوى غسق في الليل نصفه، وهذا الوقت من نصف النهار إلى نصف الليل يشتمل على أوقات أربع صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. وهذه الأوقات كلها متتالية، ليس بينها فاصل، فوقت الظهر: من زوال الشمس إلى أن يصير ظل الشيء كطوله، ووقت العصر: من هذا الوقت إلى اصفرار الشمس: الوقت الاختياري، وإلى غروب الشمس: الوقت الاضطراري، ووقت المغرب: من غروب الشمس إلى مغرب الشفق، وهو الحمرة التي تكون في الأفق بعد غروب الشمس، ووقت العشاء: من هذا الوقت إلى منتصف الليل. هذه هي الأوقات الأربعة المتصلة بعضها ببعض. وأما من نصف الليل إلى طلوع الفجر، فليس وقتاً لصلاة فريضة. ووقت صلاة الفجر: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولهذا فصله الله تعالى عما قبله فقال (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) ثم قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) ، والسنة جاءت مبينة لهذا على ما وصفته آنفاً. هذه الأوقات التي فرضها الله على عباده، لا يجوز للإنسان أن يقدم الصلاة عن وقتها، ولا يجوز أن يؤخرها عن وقتها، فإن قدمها عن وقتها، ولو بقدر تكبيرة الإحرام لم تصح، لأنه يجب أن تكون الصلاة في نفس الوقت، لأن الوقت ظرف، فلابد أن يكون المظروف داخله. ومن أخر الصلاة عن وقتها، فإن كان لعذر من نوم أو نسيان أو نحوه، فإنه يصليها إذا زال ذلك العذر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك" (1) ، ثم تلى قول الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه: 14) ، وإن لم يكن له عذر فإن صلاته لا تصح، ولو صلى ألف مرة، فإذا ترك الإنسان الصلاة فلم يصلها في وقتها، فإنها لا تنفعه، ولا تبرأ بها ذمته إذا كان تركه إياها لغير عذر، ولو صلاها آلاف المرات، دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (2) . ومن ترك الصلاة حتى خرج وقتها لغير عذر، فقد صلاها على غير أمر الله ورسوله، فتكون مردودة عليه. لكن من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، أن وسع لهم فيما إذا كان لهم عذر يشق عليهم أن يصلوا الصلاة في وقتها، رخص لهم في الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء، فإذا شق على الإنسان أن يصلي كل صلاة في وقتها من الصلاتين المجموعتين، فإنه يجوز أن يجمع بينهما، إما جمع تقديم، وإما جمع تأخير، على حسب ما يتيسر له، لقول الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185) ، وثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر، فسئل ابن عباس عن ذلك، يعني لم صنع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا؟ قال: أراد ألا يحرج أمته (3) ، ففي هذا دليل على أن الإنسان إذا لحقته مشقة في ترك الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء، فإنه يجوز له أن يجمع بينها. والوقت أهم الشروط، ولهذا كان الوقت شرطاً وسبباً. من الشروط أيضاً: ستر العورة، لقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف: 31) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله في الثوب: " فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به" (4) . وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: " لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" (5) ، وهذا يدل على أنه يجب على الإنسان أن يكون مستتراً في حال الصلاة، وقد نقل ابن عبد البر رحمه الله إجماع العلماء على ذلك، وأن من صلى عرياناً مع قدرته على السترة، فإن صلاته لا تصح. وفي هذا المجال قسم العلماء رحمهم الله العورة إلى ثلاثة أقسام: مخففة، ومغلظة، ومتوسطة، فالمغلظة: عورة المرأة الحرة البالغة، قالوا: إن جميع بدنها عورة في الصلاة، إلا وجهها، واختلفوا في الكفين والقدمين. والمخففة: عورة الذكر من سبع سنين إلى عشر سنين فإن عورته الفرجان القبل والدبر فلا يجب عليه أن يستر فخذه، لأنه صغير. والمتوسطة: ما عدا ذلك، قالوا: فالواجب فيها: ستر ما بين السرة والركبة، فيدخل في ذلك: الرجل البالغ عشراً فما فوق، ويدخل في ذلك المرأة التي لم تبلغ، ويدخل في ذلك الأم المملوكة، ومع هذا فإننا نقول: المشروع في حق كل إنسان، أن يأخذ زينته عند كل صلاة، وأن يلبس اللباس الكامل، لكن لو فرض أنه كان هناك خرق في ثوبه على ما يكون داخلاً ضمن العورة، فإنه حينئذ يناقش فيه: هل تصح صلاته أو لا تصح؟ ، ثم إن المرأة إذا كان حولها رجال غير محارم، فإنه يجب عليها أن تستر وجهها ولو في الصلاة، لأن المرأة لا يجوز لها كشف وجهها عند غير محارمها. توضيح   (1) تقدم تخريجه ص (137) . (2) تقدم تخريجه ص (111) . (3) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، رقم (705م) . (4) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب إذا كان الثوب ضيقاً، رقم (361) . (5) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا صلى في الثوب الواحد، رقم (359) ، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة في ثوب واحد، رقم (516) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 السؤال (90) : فضيلة الشيخ، قبل أن نخرج من الشرط الثاني، قلتم إذا كان فيه خرق يناقش فيه، كيف يناقش فيه؟ الجواب: إذا كان فيه خرق فإنه يناقش فيه، إذ إنه يفرق بين اليسير والكثير، ويفرق بين ما كان على حذاء العورة المغلظة كالفرجين، وما كان متطرفاً، كالذي يكون في طرف الفخذ وما أشبه ذلك، أو يكون في الظهر من فوق الإليتين أو في البطن من دون السرة وفوق السوأة، المهم أن كل مكان له حظّه من تغليظ العورة. ولعل هذا السؤال أيضاً يجرنا إلى التنبيه على مسألة يفعلها بعض الناس في أيام الصيف، حيث يلبس سراويل قصيرة، ثم يلبس فوقها ثوباً شفافاً يصف البشرة ويصلي، فهذا لا تصح صلاته لأن السراويل القصيرة التي لا تصل إلى الركبة أو بعبارة أصح التي لا تستر ما بين السرة والركبة، إذا لبس فوقها ثوباً خفيفاً يصف البشرة، فإنه لم يكن ساتراً لعورته التي يجب عليه أن يسترها في الصلاة. ومعنى قولنا " يصف البشرة": أي يبين من ورائه لون الجلد، هل هو أحمر أو أسود أو بين ذلك، وليس المعنى أن يبين حجم الجلد، فإن هذا لا يضر، وإن كان كلما كان أثخن فهو أفضل، لكنه لا يضر، لأنه ليس بشفاف ترى من ورائه البشرة. فمثلاً يوجد ثياب إذا كان تحتها سراويل تعرف الفرق بين حد السروال من بقية الجلد لكن لا يتبين لك لون الجلد، فهذا تصح الصلاة معه، لكن كما قلنا كلما كان أثخن فهو أفضل. ومن شروط الصلاة أيضاً: الطهارة، وهي نوعان: طهارة من الحدث، وطهارة من النجس. أولاً: الطهارة من الحدث: والحدث نوعان: حدث أكبر، وهو ما يوجب الغسل، وحدث أصغر، وهو ما يوجب الوضوء. وقد سبق لنا ذكر الغسل والوضوء وأسبابهما، وهي نواقض الوضوء، وموجبات الغسل، فلا حاجة إلى إعادة ذلك مرة أخرى. لكن الذي يهمنا هنا، أن نبين أن الطهارة من الحدث شرط، وهو من باب الأوامر التي يطلب فعلها لا التي يطلب اجتنابها، والقاعدة المعروفة عند أهل العلم: أن ترك المأمور لا يعذر فيه بالنسيان والجهل، وبناء على ذلك: فلو أن أحداً من الناس صلى بغير وضوء ناسياً، فإنه يجب عليه أن يعيد صلاته بعد أن يتوضأ، لأنه أخل بشرط إيجابي مأمور بفعله، وصلاته بغير وضوء ناسياً ليس فيها إثم لقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: 286) ، لكنها صلاة غير صحيحة، فلا تبرأ بها الذمة، فيكون مطالباً بها. ولا فرق في هذا بين أن يكون الإنسان منفرداً، أو مأموماً، أو إماماً، فكل من صلى بغير وضوء، أو بغير غسل من حدث أكبر ناسياً، فإنه يجب عليه إعادة الصلاة متى ذكر، حتى وإن كان إماماً، إلا أنه إذا كان إماماً، وذكر في أثناء الصلاة فإنه ينصرف، ويأمر من خلفه أن يتم الصلاة، فيقول لأحدهم: تقدم أتم الصلاة بهم، فإن لم يفعل أي لم يعين من يتم الصلاة بهم قدموا واحداً منهم فأتم، فإن لم يفعلوا أتم كل واحد على نفسه، ولا يلزمهم أن يستأنفوا الصلاة من جديد، ولا أن يعيدوا الصلاة لو لم يعلموا إلا بعد ذلك، لأنه معذورون حيث إنهم لا يعلمون حال إمامهم، وكذلك لو صلى بغير وضوء جاهلاً، فلو قدم إليه طعام وفيه لحم إبل، وأكل من لحم الإبل، وهو لا يدري أنه لحم إبل، ثم قام فصلى، ثم علم بعد ذلك، فإنه يجب عليه أن يتوضأ ويعيد صلاته ولا إثم عليه حين صلى، وقد انتقض وضوءه وهو لا يدري بانتقاضه، لقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: 286) . حكم صلاة الإمام بغير وضوء ناسياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 السؤال (91) : فضيلة الشيخ، نحب أن نسأل إذا لم يعلم الإمام أن وضوءه منتقض إلا بعد انتهاء الصلاة، فهل يلزمه الإعادة هو والمأمومون أم لا؟ الجواب: حكم ذلك أن الإمام يجب عليه إعادة الصلاة، وأما المأمومون فلا تجب عليهم إعادة الصلاة، وهم في الأجر قد نالوا أجر الجماعة، لأنهم صلوا جماعة، فيكبت لهم الأجر، ولا يخفى أيضاً أننا إذا قلنا: إنه إذا صلى بغير وضوء أو بغير غسل من الجنابة، أنه إذا كان معذوراً لا يتمكن من استعمال الماء، فإنه يتيمم بدلاً عنه، فالتيمم عند تعذر استعمال الماء يقوم مقام الماء، فإذا قدر أن هذا الرجل لم يجد الماء، وتيمم وصلى، فصلاته صحيحة، ولو بقي أشهراً ليس عنده ماء أو لو بقي أشهراً مريضاً لا يستطيع أن يستعمل الماء، فإن صلاته بالتيمم صحيحة، فالتيمم يقوم مقام الماء عند تعذر استعماله، وإذا قلنا: إنه يقوم مقامه عند تعذر استعماله، فإنه إذا تطهر بالتيمم، بقي على طهارته حتى تنتقض الطهارة، حتى لو خرج الوقت، وهو على تيممه، فإنه لا يلزمه إعادة التيمم للصلاة الثانية، لأن التيمم مطهر، كما قال الله تعالى في آية المائدة لما ذكر التيمم قال: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) (المائدة: 6) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" (1) . حكم ائتمام المتوضئ بالمتيمم   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" رقم (438) ، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (521) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 السؤال (92) : فضيلة الشيخ، أيضاً ربما يستفسر: هل يجوز أن يؤم متيمم متوضئاً؟ الجواب: نقول: نعم، يجوز أن يكون المتيمم إماماً للمتوضئ، لأن كلا منهما قد صلى بطهارة مأذون فيها. ثانياً الطهارة من النجاسة: أما الشق الثاني: الطهارة من النجاسة ومواضعها ثلاثة: البدن، والثوب، والبقعة، فلابد أن يتنزه الإنسان عن النجاسة في بدنه، وثوبه، وبقعته، ودليل ذلك في البدن: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين فقال: " إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول" (1) . وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة الحائض إذا أصاب الحيض ثوبها، أن تغسله ثم تصلي فيه" (2) . ففيه دليل على وجوب تطهير الثوب من النجاسة، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أتي بصبي لم يأكل الطعام، فوضعه في حجره فبال عليه، فدعا بإناء من ماء فأتبعه إياه (3) . وأما البقعة: ففي حديث أنس رضي الله عنه أن رجلاً أعرابياً جاء فبال في طائفة المسجد أي في جانب منه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يراق على بوله ذنوب من ماء (4) . إذن: فلابد أن يتجنب الإنسان النجاسة، في بدنه وثوبه وبقعته التي يصلي عليها. فإن صلى وبدنه نجس أي قد أصابته نجاسة لم يغسلها أو ثوبه نجس، أو بقعته نجسة، ولكنه لم يعلم بهذه النجاسة، أو علم بها ثم نسي أن يغسلها، حتى تمت صلاته، فإن صلاته صحيحة، ولا يلزمه أن يعيد ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ذات يوم، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن سبب خلع نعالهم فقالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: " إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذراً" (5) . ولو كانت الصلاة تبطل لاستصحاب النجاسة حال الجهل لأستأنف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، فإن الإنسان لو ذكر أنه لم يتوضأ في أثناء صلاته، وجب عليه أن ينصرف ويتوضأ، إذن اجتناب النجاسة في البدن، والثوب، والبقعة شرط لصحة الصلاة، لكن إذا لم يتجنب الإنسان النجاسة جاهلاً أو ناسياً وصلى، فإن صلاته صحيحة، سواء علم بها قبل الصلاة ثم نسي أن يغسلها، أو لم يعلم بها إلا بعد الصلاة. فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين ما إذا صلى بغير وضوء ناسياً أو جاهلاً، حيث أمرنا من صلى بغير وضوء جاهلاً أو ناسياً بالإعادة، ولم نأمر هذا الذي صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً بالإعادة؟ قلنا: الفرق بينهما أن الوضوء أو الغسل من باب فعل المأمور، وأما اجتناب النجاسة فهو من باب ترك المحظور، وفعل المأمور لا يعذر فيه بالجهل والنسيان، بخلاف ترك المحظور. ومن شروط الصلاة: استقبال القبلة، لقول الله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: 144) ، فاستقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، فمن صلى إلى غير القبلة، فصلاته باطلة غير صحيحة، لا مبرئة لذمته إلا في أحوال أربعة: الحال الأولى: إذا كان عاجزاً عن استقبال القبلة، مثل أن يكون مريضاً، وجهه إلى غير القبلة، ولا يتمكن من الانصراف إلى القبلة، فإن صلاته تصح على أي جهة كان، لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: 16) ، وهذا الرجل لا يستطيع أن يتحول إلي القبلة، لا بنفسه ولا بغيره. الحال الثانية: - إذا كان خائفاً من عدو أو كان هارباً واتجاهه إلى غير القبلة، ففي هذه الحال يسقط عنه استقبال القبلة، لقول الله تعالي: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) (البقرة: 239) ومعلوم أن الخائف قد يكون اتجاهه إلى القبلة، وقد يكون اتجاهه إلى غير القبلة، فإذا رخص الله له في الصلاة راجلاً أو راكباً، فمقتضى ذلك أن يرخص له في الاتجاه إلى غير القبلة، إذا كان يخاف على نفسه إذا اتجه إلى القبلة. الحال الثالثة: إذا كان في سفر وأراد أن يصلي النافلة، فإنه يصلي حيث كان اتجاه سيره، ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في السفر حيث كان وجهه، إلا أنه لا يصلي المكتوبة، ففي النافلة يصلي المسافر حيث كان وجهه، بخلاف الفريضة، فإن الفريضة يجب عليه أن يستقبل القبلة فيها في السفر. الحال الرابعة: إذا كان قد اشتبهت عليه القبلة، فلا يدري أي الجهات تكون القبلة، ففي هذه الحال يتحرى بقدر ما يستطيع ويتجه حيث غلب على ظنه أن تلك الجهة هي القبلة، ولا إعادة عليه لو تبين له فيما بعد أنه صلى إلى غير القبلة. وقد يقول قائل: إن هذه الحالة لا وجه لاستثنائها، لأننا نلزمه أن يصلي إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها القبلة، ولا يضره إذا لم يوافق القبلة، لأن هذا منتهى قدرته واستطاعته، وقد قال الله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: 286) ، وقال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: 16) . بقية شروط الصلاة   (1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب من الكبائر ألا يستتر من بوله، رقم (216، 218) ، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم (292) . (2) أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها، رقم (365) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب بول الصبيان، رقم (222) ، ومسلم، كتاب الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله، رقم (286، 287) . (4) تقدم تخرجيه ص (133) . (5) تقدم تخريجه ص (114) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 السؤال (93) : فضيلة الشيخ، نريد أن نستكمل معكم بقية شروط الصلاة، وقد ذكرتم منها: الوقت، وستر العورة، والطهارة، واستقبال القبلة؟ الجواب: سبق أن تكلمنا على شرط استقبال القبلة لصحة الصلاة، وذكرنا أنه يستثنى من ذلك أحوال أربع، وأن الحالة الرابعة وهي ما إذا اشتبهت القبلة على الإنسان قد يناقش فيها. وعلى كل حال فإننا نقول: سواء جعلناها مما يستثنى، أو مما لا يستثنى، فإن الإنسان فيها يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، وأن يتحرى الصواب فيعمل به ولكن هاهنا مسألة وهي أنه يجب أن نعرف، أن استقبال القبلة يكون إما إلى عين القبلة وهي الكعبة، وإما إلى جهتها، فإن كان الإنسان قريباً من الكعبة يمكنه مشاهدتها، ففرض أن يستقبل عين الكعبة، لأنها هي الأصل، وأما إذا كان بعيداً لا يمكنه مشاهدة الكعبة، فإن الواجب عليه أن يستقبل الجهة، وكلما بعد الإنسان عن مكة، كانت الجهة في حقه أوسع لأن الدائرة كلما تباعدت اتسعت، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بين المشرق والمغرب قبلة" (1) ، هذا بالنسبة لأهل المدينة، وذكر أهل العلم رحمهم الله أن الانحراف اليسير في الجهة لا يضر، والجهات معروف أنها أربع: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، فإذا كان الإنسان عن الكعبة شرقاً أو غرباً، كانت القبلة في حقه ما بين الشمال والجنوب، وإذا كان عن الكعبة شمالاً أو جنوباً، صارت القبلة في حقه ما بين الشرق والغرب، لأن الواجب استقبال الجهة. نعم لو فرض أن الإنسان كان شرقاً عن مكة واستقبل الشمال، فإن ذلك لا يصح، لأنه جعل الجهة على يساره، وكذلك لو استقبل الجنوب، فإن ذلك لا يصح لأنه جعل القبلة عن يمينه، وكذلك لو كان من أهل الشمال واستقبل الغرب، فإن صلاته لا تصح، لأنه جعل القبلة عن يساره، ولو استقبل الشرق، فإن ذلك لا يصح أيضاً، لأنه جعل القبلة عن يمينه. وقد يسر الله سبحانه وتعالى لعباده في هذا الوقت وسائل تبين القبلة بدقة وهي مجربة، فينبغي للإنسان أن يصطحب هذه الوسائل معه في السفر، لأنها تدله على القبلة إذا كان في حال لا يتمكن معها من معرفة القبلة. وكذلك ينبغي لمن أراد إنشاء مسجد، أن يتبع ما تقتضيه هذه الوسائل المجربة والتي عرف صوابها. من شروط الصلاة أيضاً: " النية"، والنية محلها القلب، واشتراط النية إنما يذكر من أجل التعيين أو التخصيص، أما من حيث الإطلاق، فإنه لا يمكن لأحد عاقل مختار، أن يقوم فيتوضأ، ثم يذهب ويصلي، لا يمكن أن يفعل ذلك وقد نوى للصلاة، لكن الكلام على التعين فالتعيين لابد منه في النية، فينوي الظهر ظهراً، والعصر عصراً، والمغرب مغرباً، والعشاء عشاء، والفجر فجراً، لابد من ذلك، ولا يكفي نية الصلاة المطلقة، لأن نية الصلاة المطلقة أعم من نية الصلاة المعينة، والأعم لا يقضي على الأخص، فمن نوى الأعم لم يكن ناوياً للأخص ومن نوى الأخص كان ناوياً للأعم لدخوله به. ولهذا نقول: إذا انتقل الإنسان من مطلق إلى معين، أو من معين إلى معين لم يصح ما انتقل إليه، وأما ما انتقل منه فإن كان من مطلق إلى معين تبطل نية الإطلاق، وإن كان من معين إلى معين بطل الأول والثاني، وهذا القول المجمل أبينه في الأمثلة: رجل أخذ يصلي ناوياً نفلاً مطلقاً، ثم أراد أن يقلب النية في أثناء الصلاة إلى نفل معين، أراد أن يجعل هذا النفل المطلق راتبة، فهنا نقول: لا ينفع ذلك، لأن الراتبة لابد أن تكون منوية من قبل تكبيرة الإحرام، وإلا لم تكن راتبة، لأن الجزء الأول الذي خلا من نية الراتبة، صار بغير نية الراتبة، لكن لو كان يصلي راتبة، ثم نواها نفلاً مطلقاً، وألغى نية التعيين صح ذلك، وذلك لأن الصلاة المعينة تضمين نية التعيين ونية الإطلاق، فإذا ألغى نية التعيين بقيت نية الإطلاق. مثال آخر: رجل دخل يصلي بنية العصر، ثم ذكر في أثناء الصلاة، أنه لم يصل الظهر، فحول نية العصر إلى الظهر، فهنا لا تصح، لا صلاة الظهر، ولا صلاة العصر، أما صلاة العصر فلا تصح، لأنه قطعها، وأما صلاة الظهر فلا تصح، لأنه لم ينوها من أولها، لكن إذا كان جاهلاً، صارت هذه الصلاة في حقه نفلاً، لأنه لما ألغى التعيين، بقي الإطلاق. والخلاصة: أني أقول: إن النية المطلقة في العبادات لا أظن أحداً لا ينويها أبداً، إذ ما من شخص يقول فيفعل إلا وقد نوى، لكن الذي لابد منه هو نية التعيين والتخصيص. كذلك أيضاً مما يدخل في النية: نية الإمامة بعد أن كان منفرداً، أو الائتمام بعد أن كان منفرداً، وهذا فيه خلاف بين العلماء، والصحيح أنه لا بأس به، فنية الإمامة بعد أن كان منفرداً، مثل أن يشرع الإنسان في الصلاة وهو منفرد، ثم يأتي رجل آخر يدخل معه، ليصيرا جماعة فلا بأس بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي من الليل، وكان ابن عباس رضي الله عنهما نائماً، ثم قام ابن عباس فتوضأ ودخل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم (2) ، والأصل أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل. فلو شرع الإنسان يصلي وحده، ثم جاء آخر فدخل معه فجعله إماماً له فلا بأس، ويكون الأول إماماً والثاني مأموماً، وكذلك بالعكس، لو أن أحداً شرع في الصلاة منفرداً، ثم جاء جماعة، فصلوا جماعة، فانضم إليهم، فقد انتقل من انفراد إلى ائتمام، وهذا أيضاً لا بأس به، لأن الانتقال هنا ليس إبطالاً للنية الأولى، ولكنه انتقال من وصف إلى وصف فلا حرج فيه. هذه من أهم الشروط التي ينبغي الكلام عليها، وهناك شروط أخر كالإسلام، والتمييز، والعقل، لكن هذه شروط في كل عبادة. صفة الصلاة   (1) أخرجه الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة، رقم (344) ، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب القبلة، رقم (1011) ، وقال الترمذي: حسن صحيح، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/205) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (2) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التخفيف في الوضوء، رقم (138) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (763) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 السؤال (94) : فضيلة الشيخ، ما هي صفة الصلاة المفروضة؟ الجواب: إن معرفة صفة الصلاة كمعرفة صفة غيرها من العبادات من أهم ما يكون، وذلك لأن العبادة لا تتم إلا بالإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا بمعرفة طريقة عبادة الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يتبعه الإنسان فيها، فمعرفة صفة الصلاة مهمة جداً، وإني أحث نفسي وإخواني المسلمين على أن يتلقوا صفة النبي من الكتب الصحيحة، من كتب الحديث المعتبرة، حتى يقيموها على حسب ما أقامها النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو قدوتنا وإمامنا وأسوتنا صلوات الله وسلامه عليه، وجعلنا من أتباعه بإخلاص، وها نحن نذكرها، سائلين الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للصواب، فنقول: فصفة الصلاة أن يقوم الإنسان بشروطها السابقة التي تسبق عليها كالطهارة من الحدث والخبث، واستقبال القبلة وغيرها من الشروط، لأن شروط الصلاة تتقدم عليها، ثم يكبر، فقول: الله أكبر، رافعاً يديه إلى حذو منكبيه، أو إلى فروع أذنيه، ثم يضع يديه اليمنى على ذراعه اليسرى على صدره، ثم يستفتح بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفتاح، يستفتح بأي نوع ورد، إما بقول " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد (1) أو بقول " سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك" (2) ، أو بغيرهما مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ثم يقرأ الفاتحة، ويقف على كل آية منها فيقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (2) (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (3) (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (: 4) (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (5) (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (6) (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (7) ثم يقرأ ما تيسر من القرآن، والأفضل أن يقرأ سورة تامة تكون في الفجر من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره غالباً، وفي الباقي من أوساطه. ثم يرفع يديه مكبراً في الركوع فيقول: الله أكبر، ويضع يديه مفرجتي الأصابع على ركبتيه، ويمد ظهره متسوياً مع رأسه، لا يرفع رأسه ولا يصوبه ويقول: سبحان ربي العظيم، يكررها ثلاثاً وهو أدنى الكمال، وإن زاد فلا بأس. ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده، ويرفع يديه كذلك كما رفعهما عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، ثم يقول بعد قيامه: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، ثم يسجد مكبراً، ولا يرفع يديه حال السجود، ولا يرفع يديه إذا هوى إلى السجود. قال ابن عمر رضي الله عنهما: وكان لا يفعل ذلك - يعني الرفع - في السجود ويسجد على ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه، يسجد على أعضاء سبعة: الجبهة والأنف، وهما عضو واحد، والكفين، والركبتين، وأطراف القدمين، ويجافي عضديه عن جنبيه، ويرفع ظهره ولا يمده، ويجعل يديه حذاء وجهه، أو حذاء منكبيه، مضمومتي الأصابع، مبسوطة، ورؤوس الأصابع نحو القبلة، فيقول: سبحان ربي الأعلى، أدنى الكمال ثلاث، ويزيد ما شاء، ولكن يغلب في السجود جانب الدعاء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم (3) . ثم يرفع من السجود مكبراً، ولا يرفع يديه، ويجلس مفترشاً رجله اليسرى، ناصباً رجله اليمنى، ويضع يديه على فخذيه أو على أعلى ركبتيه، وتكون اليمنى مضمومة الأصابع الثلاثة: الخنصر، والبنصر، والإبهام، وإن شاء حلق الإبهام مع الوسطى، وأما السبابة فتبقى مفتوحة، ويحركها عند الدعاء، ويقول: رب اغفر لي، وارحمني، وأجبرني، وعافني وارزقني. وكلما دعا حرك أصبعه نحو السماء، إشارة إلى علو المدعو، أما اليد اليسرى، فإنها تبقى على الرجل اليسرى، على الفخذ، أو على طرف الركبة، مبسوطة، مضمومة أصابعها، متجهاً بها إلى القبلة، ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى فيما يقال وما يفعل. ثم يرفع من السجود إلى القيام مكبراً، ولا يرفع يديه عند هذا القيام، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر لكن تكون قراءته دون القراءة في الركعة الأولى، ويصلي الركعة الثانية كما صلاها في الركعة الأولى. ثم يجلس للتشهد، وجلوسه للتشهد كجلوسه للدعاء بين السجدتين، أي يفترش رجله اليسرى وينصب اليمنى، ويضع يده اليمنى على رجله اليمنى، ويده اليسرى على رجله اليسرى، على صفة ما سبق في الجلوس بين السجدتين، ويقرأ التشهد: " التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" ثم إن كان ي ثنائية كالفجر والنوافل، فإنه يكمل التشهد، فيستمر فيه "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال"، ثم إن أحب أطال في الدعاء، ما شاء، ثم يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله " وعن يساره: "السلام عليكم ورحمة الله". أما إذا كان في ثلاثة أو رباعية، فإنه بعد أن يقول في التشهد: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" يقوم، فيصلي ما بقي من صلاته مقتصراً على قراءة الفاتحة، أما عن الركوع والسجود، فكما سبق في الركعتين الأوليين، ثم يجلس للتشهد الثاني، وهو التشهد الأخير، لكن يكون جلوسه توركاً. والتورك له ثلاث صفات: إما أن ينصب رجله اليمنى، ويخرج اليسرى من تحت ساقها، وإما أن يفرش الرجل اليمنى والرجل اليسرى من تحت ساقها، أي من تحت ساق اليمنى، وإما أن يفرش اليمنى ويدخل اليسرى بين ساق اليمنى وفخذها، كل ذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إذا أكمل التشهد سلم عن يمينه وعن يساره كما سبق. هذه هي صفة الصلاة والواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فليجتهد الإنسان باتباعها ما استطاع، لأن ذلك أكمل في عبادته، وأقوى في إيمانه وأشد في اتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وضع الرجلين أثناء القيام في الصلاة   (1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير، رقم (744) ، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بعد تكبيرة الإحرام، رقم (598) . (2) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، رقم (399) . (3) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، رقم (479) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 السؤال: (95) : فضيلة الشيخ، ذكرتم- جزاكم الله خيراً - بالتفصيل وضع الأيدي في القيام وفي الركوع، وكذلك في السجود، وكذلك في الجلسة بين السجدتين، لكننا لم نسمع شيئاً عن وضع الرجلين، ونحن نشاهد الآن كثيراً من الناس يفرج ما بين رجليه، فيتسع ما بين مناكب المصلين. فما الصحيح في ذلك؟ الجواب: وضع الرجلين في حال القيام طبيعي، بمعنى أنه لا يدني بعضهما من بعض، ولا يباعد ما بينهما، كما روي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، ذكره في شرح السنة أنه كان رضي الله عنهما لا يباعد بين رجليه ولا يقارب بينهما، هذا في حال القيام وفي حال الركوع. أما في حال الجلوس فقد عرفناه فيما سبق، وأما في حال السجود فالأفضل أن يلصق إحدى القدمين بالأخرى، وألا يفرق بينهما، كما يدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها، حين وقعت يدها على قدمي النبي صلى الله عليه وسلم منصوبتين وهو ساجد (1) ، ومعلوم أن اليد الواحدة لا تقع على قدمين منصوبتين إلا وبعضها قد ضم إلى بعض، وكذلك جاء صريحاً في صحيح ابن خزيمة رحمه الله أنه يلصق إحدى القدمين بالأخرى في حال السجود (2) . وقبل أن ننتهي من صفة الصلاة نود أن نبين أنه ينبغي للإنسان إذا فرغ من صلاته أن يذكر الله عز وجل بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى أمر بذلك في قوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) (النساء: 103) ، ومن ذلك: أن يستغفر الإنسان ثلاث مرات: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ويقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم يذكر الله عز وجل بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبر ثلاثاً وثلاثين، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، إن شاء قالها كل واحدة على حدة، وإن شاء قالها جميعاً، أي أنه إن شاء قال: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، وإن شاء قال: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، ثلاثاً وثلاثين، ثم: الحمد لله، ثلاثاً وثلاثين، ثم: الله أكبر ثلاثاً وثلاثاً، كل ذلك جائز، بل وتجوز أيضاً صفة أخرى: أن يسبح عشراً، ويكبر عشراً، ويحمد عشراً، وتجوز صفة رابعة: أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمساً وعشرين مرة، فتتم مائة. والمهم أن كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأذكار بعد الصلاة فليقله، إما على سبيل البدل، أو على سبيل الجمع، لأن بعض الأذكار يذكر بعضها بدلاً عن بعض، وبعض الأذكار يذكر بعضها مع بعض فتكون مجموعة، فليحرص الإنسان على ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى في قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) (البقرة: 198) ، وأتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان في المسجد فإن الأفضل أن يجهر بهذا الذكر، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم (3) . فيسن للمصلين أن يرفعوا أصواتهم بهذا الذكر اقتداء بالصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يرفع صوته بذلك، كما قال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير (4) ، وقول بعض أهل العلم: أنه يسن الإسرار بهذا الذكر، وأن جهر النبي صلى الله عليه وسلم كان للتعليم، فيه نظر، فإن الأصل فيما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكون مشروعاً في أصله ووصفه، ومن المعلوم أنه لو لم يكن وصفه وهو رفع الصوت به مشروعاً، لكان يكفي ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته فإنه قد علمهم هذا الذكر بقوله، فلا حاجة إلى أن يعلمهم برفع الصوت، ثم إنه لو كان المقصود التعليم لكان التعليم يحصل بمرة أو مرتين، ولا يحافظ عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، كلما سلم رفع صوته بالذكر. أركان الصلاة   (1) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم (486) . (2) صحيح ابن خزيمة 1/328) رقم (654) كتاب الصلاة، ولفظه: قالت عائشة رضي الله عنها: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معي على فراشي، فوجدته ساجداً راصاً عقبيه، مستقبلاً بأطراف أصابعه القبلة.." الحديث (3) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، رقم (841) ، ومسلم كتاب المساجد، باب الذكر بعد الصلاة، رقم (583) (4) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، رقم (842) ، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة، رقم (583) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 السؤال (96) : فضيلة الشيخ، ما هي أركان الصلاة؟ الجواب: صفة الصلاة التي ذكرناها آنفاً تشتمل على أركان الصلاة وواجباتها وسننها، وأهل العلم رحمهم الله ذكروا أن ما يقع في هذه الصلاة، أو أن ما يكون من هذه الصفة ينقسم إلى أركان وواجبات وسنن، على اتفاق فيما بينهم في بعض الأركان والواجبات، وخلاف فيما بينهم في بعضها، فنذكر مثلاً من الأركان: الأول: القيام مع القدرة: وهذا ركن في الفرض خاصة، لقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة: 238) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين: " صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" (1) . الثاني من الأركان: تكبيرة الإحرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر" (2) . ولابد أن يقول: الله أكبر، فلا يجزئ أن يقول: الله أجل، أو الله أعظم، وما أشبه ذلك. وينبغي أن يعلم أنه لا يصح أن يقول: الله أكبر بمد الهمزة، لأنها تنقلب حينئذ استفهاماً، ولا أن يقول: الله أكبار بمد الباء، لأنها حينئذ تكون جمعاً للكبر، والكَبَر هو الطبل، فأكبار كأسباب جمع سبب، وأكبار جمع كبر، هكذا قال أهل العلم فلا يجوز أن يمد الإنسان الباء، لأنها تنقلب بلفظها إلى جمع كبر، وأما ما يقوله بعض الناس: الله وكبر فيجعل الهمزة واواً، فهذا له مساغ في اللغة العربية، فلا تبطل به الصلاة. الركن الثالث: قراءة الفاتحة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (3) ، ولكن إذا كان لا يعرفها فإنه يلزمه أن يتعلمها، فإن لم يتمكن من تعلمها، قرأ ما يقوم مقامها من القرآن إن كان يعلمه، وإلا سبح وحمد الله وهلّل. الركن الرابع: الركوع: لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (الحج: 77) ، ولقول البني صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أساء في صلاته ولم يصلها على وجه التمام: " ثم اركع حتى تطمئن راكعاً" *. الركن الخامس: الرفع من الركوع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: "ثم ارفع حتى تطمئن قائماً" (4) . الركن السادس: السجود، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (الحج: من الآية77) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً (5) . الركن السابع: الجلوس بين السجدتين، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: " ثم ارفع حتى تطمئن جالساً (6) . الركن الثامن: السجود الثاني، لأنه لابد في كل ركعة من سجودين لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: " ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً" (7) بعد أن ذكر قوله: " ثم ارفع حتى تطمئن جالساً". أما الركن التاسع: فهو التشهد الأخير، لقول ابن مسعود رضي الله عنه: كنا نقوم قبل أن يفرض علينا التشهد، فدل هذا على أن التشهد فرض. الركن العاشر: وهو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد. الركن الحادي عشر: الترتيب بين الأركان: القيام، ثم الركوع، ثم الرفع منه، ثم السجود، ثم الجلوس بين السجدتين، ثم السجود، فلو بدأ بالسجود قبل الركوع لم تصح صلاته، لأنه أخل بالترتيب. الثالث عشر: الطمأنينة في الأركان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: "ثم اركع حتى تطمئن"، ثم ارفع حتى تطمئن "، "ثم اسجد حتى تطمئن". والطمأنينة: أن يسكن الإنسان في الركن حتى يرجع كل فقال إلى موضعه، قال العلماء: وهي السكون وإن قل، فمن لم يطمئن في صلاته فلا صلاة له ولو صلى ألف مرة. وبهذا نعرف خطأ ما نشاهده من كثير من المصلين من كونهم لا يطمئنون ولا سيما في القيام بعد الركوع، والجلوس بين السجدتين، فإنك تراهم قبل أن يعتدل الإنسان قائماً إذا هو ساجد وقبل أن يعتدل جالساً إذا هو ساجد، وهذا خطأ عظيم، فلو صلى الإنسان على هذا الوصف ألف صلاة لم تقبل منه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي كان يخل بالطمأنينة، فجاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع فصل فإن لم تصل" (8) ، وهذا يدل على أن من صلى صلاة أخل فيها بشيء من أركانها أو واجباتها على وجه أعم، فإنه لا صلاة له، بل ولو كان جاهلاً في مسألة الأركان، فإنه لا صلاة له. والركن الأخير وهو الرابع عشر: التسليم، بأن يقول في منتهى صلاته: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، والصحيح أن التسليمتين كلتاهما ركن، وأنه لا يجوز أن يخل بواحدة منهما، لا في الفرض ولا في النفل، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الركن التسليمة الأولى فقط في الفرض والنافلة، وذهب آخرون إلى أن الركن التسليمة الأولى فقط في النافلة دون الفريضة، فلابد فيها من التسليمتين، لكن الأحوط أن يسلم الإنسان التسليمتين كلتيهما، هذه هي الأركان. حكم من ترك ركنا من أركان الصلاة   (1) أخرجه البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب، رقم (1117) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسياً في الأيمان رقم (6667) ، ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (397) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب قراءة الفاتحة للإمام والمأموم، رقم (756) ، ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (394) . * أخرجه البخاري، كتاب الآذان، باب وجوب قراءة الفاتحة للإمام والمأموم رقم (757) ومسلم كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (397) . (4) الحديث السابق نفسه. (5) الحديث السابق نفسه. (6) الحديث السابق نفسه. (7) الحديث السابق نفسه. (8) الحديث السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 السؤال (97) : فضيلة الشيخ، ما حكم من ترك ركناً من هذه الأركان؟ الجواب: إذا ترك ركناً من هذه الأركان متعمداً فصلاته باطلة، تبطل بمجرد تركه، أما إذا كان ناسياً فإنه يعود إليه، فلو نسي أن يركع، ثم سجد حين أكمل قراءته، ثم ذكر وهو ساجد أنه لم يركع، فإنه يجب عليه أن يقوم فيركع ثم يكمل صلاته، ويجب عليه أن يرجع للركن الذي تركه ما لم يصل إلى مكانه من الركعة الثانية، فإن وصل إلى مكانه من الركعة الثانية قامت الركعة الثانية مقام الركعة التي تركه منها. فلو أنه لم يركع، ثم سجد، جلس بين السجدتين، وسجد الثانية، ثم ذكر، فإنه يجب عليه أن يقوم فيركع، ثم يستمر فيكمل صلاته، أما لو لم يذكر أنه ركع إلا بعد أن وصل إلى موضع الركوع من الركعة التالية، فإن هذه الركعة الثانية تقوم مقام الركعة التي ترك ركوعها. وهكذا لو نسي الإنسان السجدة الثانية، ثم قام من السجدة الأولى، ولما قرأ ذكر أنه لم يسجد السجدة الثانية، ولم يجلس أيضاً بين السجدتين فيجب عليه حينئذ أن يرجع ويجلس بين السجدتين، ثم يسجد السجدة الثانية، ثم يكمل صلاته، بل لو لم يذكر أنه ترك السجدة الثانية والجلوس بين السجدتين إلا بعد أن ركع، فإنه يجب عليه أن ينزل، ويجلس، ويسجد، ثم يستمر في صلاته، أما لو لم يذكر أنه ترك السجود الثاني من الركعة الأولى إلا بعد أن جلس بين السجدتين في الركعة الثانية، فإن الركعة الثانية تقوم مقام الأولى، وتكون هي ركعته الأولى. وفي كل هذه الأحوال، أو في كل هذه الصور التي ذكرناها، يجب عليه أن يسجد سجود السهو، لما حصل من الزيادة في الصلاة بهذه الأفعال، ويكون سجوده بعد السلام، لأن سجود السهو إذا كان سببه الزيادة فإن محله بعد السلام، كما تدل على ذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. إذا شك المصلي في أنه ترك ركناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 السؤال (98) : فضيلة الشيخ، هذا بالنسبة لمن تأكد لديه أنه ترك ركناً من الأركان، لكن لو شك في تركه ماذا يفعل؟ الجواب: إذا شك في تركه، فهو لا يخلو من ثلاث حالات: إما أن يكون هذا الشك وهماً لا حقيقة له، فهذا لا يؤثر عليه، يستمر في صلاته ولا كأنه حصل له هذا الشك، وإما أن يكون هذا الشك كثيراً معه، كما يوجد في كثير من الموسوسين، نسأل الله لنا ولهم العافية، فلا يلتفت إليه أيضاً، بل يستمر في صلاته حتى لو خرج من صلاته وهو يرى أنه مقصر فيها فليفعل ولا يهمنه ذلك، وإما أن يكون شكه بعد الفراغ من الصلاة، فكذلك أيضاً لا يتلفت إليه ولا يهتم به، ما لم يتيقن أنه ترك. أما إذا كان الشك في أثناء الصلاة، فإن العلماء يقولون: من شك في ترك ركن فكتركه، فإذا كان الشك في أثناء الصلاة، وكان شكاً حقيقياً، ليس وهماً ولا وسواساً فلو أنه سجد وفي أثناء سجوده شك هل ركع أو لم يركع، فإنا نقول له: قم فاركع، لأن الأصل عدم الركوع، إلا إذا غلب على ظنه أنه ركع، فإن الصحيح أنه إذا غلب على ظنه أنه ركع، فإنه يعتد بهذا الظن الغالب، ولكن يسجد للسهو بعد السلام. وسجود السهو في الحقيقة أم مهم، ينبغي للإنسان أن يعرفه، ولا سيما الأئمة، وقد كان كثير منهم يجهل ذلك، وهو أمر لا ينبغي من مثلهم، بل الواجب على المؤمن أن يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. مأموم يدخل مع الإمام وينسى كم صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 السؤال (99) : فضيلة الشيخ، بعض الناس يأتي بعد إقامة الصلاة، ويدخل مع الإمام، وينسى عدد الركعات التي فاتته، ثم يقتدي بمن في جانبه ممن دخل الصلاة معه فما حكم ذلك؟ الجواب: هذا يقع كثيراً كما قلت، يدخل اثنان مع الإمام، ثم ينسى أحدهما كم صلى، أو كم أدرك مع إمامه، فيقتدي بالشخص الذي إلى جنبه، فنقول: لا بأس أن يقتدي بالشخص الذي إلى جنبه، إذا لم يكن عنده ظن يخالفه أو يقين يخالفه، لأن هذا رجوع إلى ما يغلب على ظنه، والرجوع إلى ما يغلب على ظنه في باب العبادات لا بأس به على القول الراجح. واجبات الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 السؤال (100) : فضيلة الشيخ، عرفنا صفة الصلاة وأركانها، ونود أن نعرف ما هي واجبات الصلاة؟ الجواب: واجبات الصلاة: هي الأقوال أو الأفعال التي إذا تركها الإنسان عمداً بطلت صلاته، وإن تركها سهواً فإنه يجبرها بسجود السهو، فمنها التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، فإنها من واجبات الصلاة، أما تكبيرة الإحرام فإنها ركن من أركان الصلاة، لا تنعقد الصلاة إلا بها، ويستثنى من هذه التكبيرات: تكبيرة الركوع، إذا أتى المأموم والإمام راكع، فإنه يكبر تكبيرة الإحرام قائماً منتصباً، فإذا أهوى إلى الركوع، فإن التكبير في حقه سنة، هكذا قرره الفقهاء رحمهم الله. ومن الواجبات: التسبيح في الركوع والسجود، ففي الركوع: سبحان الله ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى. ومن الواجبات: التشهد الأول وجلسته. ومن الواجبات أيضاً: التسميع والتحميد، أي قول: سمع الله لمن حمده عند الرفع من الركوع، وقول: ربنا ولك الحمد بعد القيام من الركوع للإمام والمنفرد. أما المأموم فإنه يقول: ربنا ولك الحمد، حين رفعه من الركوع. هذه الواجبات إذا تركها الإنسان متعمداً بطلت صلاته، وإن تركها سهواً فصلاته صحيحة، ويجبرها سجود السهو، لحديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين فلم يجلس في صلاة الظهر، فلما قضى الصلاة وانتظر الناس التسليمة، سجد سجدتين ثم سلم (1) . سنن الصلاة السؤال (101) : فضيلة الشيخ، مادمنا عرفنا واجبات الصلاة، نود أن نعرف أيضاً شيئاً من سنن الصلاة؟ الجواب: إذا عرف الإنسان أركان الصلاة وواجباتها، فكل ما عداها فهو سنن، فمن ذلك: الزيادة على الواحدة في تسبيح الركوع والسجود. ومن ذلك: صفة الجلوس في الصلاة، فإنه يجلس مفترشاً في جميع جلسات الصلاة، والافتراش: أن يجلس على رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى - أي القدم - إلا في الجلسة الثانية في الصلاة ذات التشهدين، فإنه يجلس متوركاً، والتورك: أن ينصب قدمه اليمنى، ويخرج رجله اليسرى من تحت الساق من يمينه. ومن السنن في الصلاة: أن يرفع الإنسان يديه إلى حذو منكبيه، أول إلى فروع أذنيه عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول، والسنن كثيرة يعرفها من تتبع كتب الفقهاء في هذا. سجود السهو موجباته ومواضعه   (1) أخرجه البخاري، كتاب السهو، باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، رقم (1224، 1225) ، ومسلم، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (570) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 السؤال (102) : فضيلة الشيخ، نود أن نعرف أيضاً سجود السهو في الصلاة من حيث موجباته ومواضعه؟ الجواب: سجود السهو في الصلاة أسبابه في الجملة ثلاثة: الزيادة، والنقص، والشك. فالزيادة: مثل أن يزيد الإنسان ركوعاً، أو سجوداً، أو قياماً، أو قعوداً. والنقص: مثل أن ينقص الإنسان ركناً، أو ينقص واجباً من وجبات الصلاة. والشك: أن يتردد كم صلى ثلاثاً أم أربعاً مثلاً. أما الزيادة: فإن الإنسان إذا زاد في الصلاة ركوعاً، أو سجوداً، أو قياماً، أو قعوداً متعمداً بطلت صلاته، لأنه إذا زاد متعمداً فقد أتى بالصلاة على غير الوجه الذي أمر به الله ورسوله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) . أما إذا زاد ذلك ناسياً، فإن صلاته لا تبطل، ولكنه يسجد للسهو بعد السلام، ودليل ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم من ركعتين في إحدى صلاته، إما الظهر وإما العصر، فلما ذكروه، أتى صلى الله عليه وسلم بما بقي من صلاته وسلم، ثم سجد سجدتين بعدما سلم (2) ، ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بهم الظهر خمساً، فلما انصرف قيل له: أزيد في الصلاة؟ قال: "وما ذاك؟ " قالوا: صليت خمساً، فثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين (3) . أما النقص: فإن نقص الإنسان ركناً من أركان الصلاة، فلا يخلو، إما أن يذكره قبل أن يصل إلى موضعه من الركعة الثانية، فحينئذ يلزمه أن يرجع فيأتي بالركن وبما بعده، وإما ألا يذكره حتى يصل إلى موضعه من الركعة الثانية، وحينئذ تكون الركعة الثانية بدلاً عن الذي تركه منها، فيأتي بدلها، أي بدل الذي تركها منها بركعة، وفي هاتين الحالين يسجد بعد السلام. مثال ذلك: رجل قام حين سجد السجدة الأولى من الركعة الأولى، ولم يجلس، ولم يسجد للسجدة الثانية، ولما شرع في القراءة، ذكر أنه لم يسجد ولم يجلس بين السجدتين، فحينئذ يرجع ويجلس بين السجدتين، ثم يسجد، ثم يقوم فيأتي بما بقي من صلاته، ويسجد للسهو بعد السلام. ومثال من لم يذكره إلا بعد وصوله إلى محله من الركعة الثانية، أنه قام من السجدة الأولى في الركعة الأولى، ولم يسجد السجدة الثانية، ولم يجلس بينها وبين الأولى ولكنه لم يذكر إلا حين جلس بين السجدتين من الركعة الثانية، ففي هذه الحال تكون الركعة الثانية هي الركعة الأولى، ويزيد ركعة في صلاته، ويسلم ثم يسجد للسهو. أما نقص الواجب: فإذا أنقص واجباً وانتقل من موضعه إلى الموضع الذي يليه، مثل أن لو نسي قول " سبحان ربي الأعلى" ولم يذكر إلا بعد أن رفع من السجود، فهذا قد ترك واجباً من واجبات الصلاة سهواً، فيمضي في صلاته ويسجد للسهو قبل السلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول، مضى في صلاته، ولم يرجع، وسجد للسهو قبل السلام (4) . أما الشك: فإن الشك هو التردد بين الزيادة والنقص، بأن يتردد المصلي هل صلى ثلاثاً أم أربعاً، وهذا لا يخلو من حالين: إما أن يترجح عنده أحد الطرفين الزيادة أو النقص، فيبني على ما ترجح عنده، ويتم عليه، ويسجد للسهو بعد السلام، وإما ألا يترجح عنده أحد الأمرين، فيبني على اليقين وهو الأقل، فيتم عليه، ويسجد للسهو قبل السلام. مثال ذلك: رجل صلى الظهر، ثم شك هل هو الآن في الركعة الثالثة أو الرابعة، وترجح عنده أنها الثالثة، فيأتي بركعة، ثم يسلم، ثم يسجد للسهو، ومثال ما يستوي فيه الأمران: رجل يصلي الظهر، فشك هل هذه الركعة الثالثة أو الرابعة، ولم يترجح عنده أنها الثالثة أو الرابعة، فيبني على اليقين وهو الأقل، فيجعلها الثالثة، ثم يأتي بركعة، ويسجد للسهو قبل أن يسلم. وبهذا تبين أن سجود السهو يكون قبل السلام، فيما إذا ترك واجباً من الواجبات، أو إذا شك في عدد الركعات ولم يترجح عنده أحد الطرفين، وأنه يكون بعد السلام، فيما إذا زاد في صلاته أو شك وترجح عنده أحد الطرفين. حكم السلام بعد سجود السهو   (1) تقدم تخريجه ص (111) . (2) أخرجه البخاري، كتاب السهو، باب إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث سجد سجدتين، رقم (1227) ، ومسلم، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (573) . (3) أخرجه البخاري، كتاب السهو، باب إذا صلى خمساً، رقم (1226) ، ومسلم، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (572) . (4) أخرجه الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإمام ينهض في الركعتين ناسياً، رقم (364) ، وصححه العلامة أحمد شاكر في حاشيته على الترمذي (1/199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 السؤال (103) : فضيلة الشيخ، لكن إذا كان سجود السهو بعد الصلاة هل يلزم أيضاً سلام؟ الجواب: إذا كان السجود بعد السلام، فإنه يجب له السلام فيسجد سجدتين ثم يسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 السؤال (104) : فضيلة الشيخ، وهل يجب له التشهد. الجواب: في هذا خلاف بين العلماء، والراجح أنه لا يجب له التشهد. مبطلات الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 السؤال (105) : فضيلة الشيخ، ما هي مبطلات الصلاة ولو على سبيل الإجمال؟ الجواب: مبطلات الصلاة تدور على شيئين: إما ترك ما يجب فيها، أو فعل ما يحرم فيها. فأما ترك ما يجب: فمثل أن يترك الإنسان ركناً من أركان الصلاة متعمداً، أو شرطاً من شروطها متعمداً، أو واجباً من واجباتها متعمداً. مثال ترك الركن: أن يترك الركوع متعمداً. ومثال ترك الشرط: أن ينحرف عن القبلة في أثناء الصلاة متعمداً. ومثال ترك الواجب: أن يترك التشهد الأول متعمداً، فإذا ترك أي واجب من واجبات الصلاة متعمداً فصلاته بطالة، سواء سمي ذلك الواجب شرطاً أم ركناً أم واجباً. الشيء الثاني مما يدور عليه بطلان الصلاة: فعل المحرم فيها، كأن يحدث في صلاته، أو يتكلم بكلام الآدميين، أو يضحك، أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي هي حرام في أثناء الصلاة، يفعلها متعمداً، فإن صلاته تبطل في هذه الحال. حكم صلاة الجماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 السؤال (106) : فضيلة الشيخ، تحدثنا عن الصلاة، وحكمها، وشروطها، وكذلك الأركان، والواجبات، وأيضاً عن السجود للسهو لها، ونود أن نسأل ونركز على حكم صلاة الجماعة؟ الجواب: صلاة الجماعة اتفق العلماء على أنها من أجل الطاعات وأوكدها وأفضلها، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه وأمر بها حتى في صلاة الخوف، فقال الله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) (النساء: 102) . وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث العدد الكثير الدال على وجوب الصلاة مع الجماعة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (1) ، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر" (2) ، وكقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الأعمى الذي طلب منه أن يرخص له في الصلاة في بيته: "أتسمع النداء؟ " فقال: نعم قال: " فأجب" (3) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عنها - أي عن صلاة الجماعة - إلا منافق معلوم النفاق، أو مريض، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف (4) . والنظر الصحيح يقتضي وجوبها، فإن الأمة الإسلامية أمة واحدة، ولا يتحقق كمال الوحدة إلا بكونها تجتمع على عباداتها، وأجل العبادات وأفضلها وأوكدها: الصلاة، فكان من الواجب على الأمة الإسلامية أن تجتمع على هذه الصلاة. وقد اختلف العلماء رحمهم الله بعد اتفاقهم على أنها من أوكد العبادات وأجل الطاعات، اختلفوا: هل هي شرط لصحة الصلاة، أو أن الصلاة تصح بدونها مع الإثم، مع خلافات أخرى، والصحيح أنها واجب للصلاة، وليست شرطاً في صحتها، لكن من تركها فهو آثم، إلا أن يكون له عذر شرعي، ودليل كونها ليست شرطاً لصحة الصلاة هو أن الرسول عليه الصلاة والسلام فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وتفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ يدل على أن في صلاة الفذ فضلاً، وذلك لا يكون إلا إذا كانت صحيحة. وعلى كل حال فيجب على كل مسلم ذكر بالغ أن يشهد صلاة الجماعة، سواء كان ذلك في السفر أم في الحضر. علاقة المأموم بإمامه   (1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، رقم (644) ، ومسلم، كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة، رقم (651) , (2) أخرجه ابن ماجه، كتاب الصلاة، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، رقم (793) ، وهو في صحيح الجامع رقم (6300) . (3) أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، رقم (653) . (4) أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، رقم (654) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 السؤال (107) : فضيلة الشيخ، مادمنا عرفنا حكم صلاة الجماعة، فما هي علاقة المأموم بإمامه الجواب: أما علاقة المأموم بإمامه، فإنها علاقة متابعة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً، فصلوا قعوداً أجمعون" (1) . ومقام المأموم مع إمامه في هذه الناحية يتنوع إلى أربع مقامات: متابعة، وموافقة، مسابقة، وتأخر. فأما المتابعة: فأن يأتي الإنسان بأفعال الصلاة بعد إمامه مباشرة، إذا ركع ركع بدون تأخر، وإذا سجد سجد بدون تأخر، وهكذا في بقية أفعال الصلاة. وأما الموافقة: فأن يفعل هذه الأفعال مع إمامه، يركع مع ركوعه، ويسجد مع سجوده، ويقوم مع قيامه، ويقعد مع قعوده. وأما المسابقة: فأن يتقدم إمامه في هذه الأفعال، فيركع قبله، ويسجد قبله، ويقوم قبله، ويقعد قبله. وأما التأخر: فأن يتوانى في متابعة الإمام، فإذا ركع الإمام، بقي واقفاً يقرأ الفاتحة، وإذا سجد بقي قائماً يحمد وهكذا، وكل هذه المقامات مذمومة إلا مقام المتابعة. فالموافق لإمامه مخالف لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " لا تكبروا حتى يكبر الإمام، ولا تركعوا حتى يركع" (2) . والسابق له واقع في التحذير الشديد الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: " أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار" (3) . والمتخلف: لم يحقق المتابعة، لأن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: " إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا ركع فاركعوا" جملة شرطية تقتضي أن يقع المشروط فور وجود الشرط، وألا يتأخر عنه، فهو منهي عنه. فالمسابقة: حرام. والموافقة: قيل: إنها مكروهة، وقيل: إنها حرام. والتأخر: أقل أحواله الكراهة. أما المتابعة فهي الأمر الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. أشد حالات مخالفة الإمام   (1) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب إمامة من يصلي بقوم وقد صلى تلك الصلاة رقم (603) . (2) تقدم تخريجه ص (96) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام، رقم (691) ، ومسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما، رقم (427) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 السؤال (108) : فضيلة الشيخ، لكن أي الحالات الثلاث أشد: المسابقة، أم الموافقة أم التخلف عنه؟ الجواب: المسابقة أشدها، لأنه ورد فيها الوعيد الذي سمعت، ولأن القول الراجح أن الإنسان إذا سبق إمامه، بطلت صلاته، سواء سبقه إلى الركن أو بالركن، لأنه إذا سبق إمامه فقد فعل فعلاً محرماً في الصلاة. والقاعدة الشرعية: أن من فعل فعلاً محرماً في العبادة، فإن العبادة تبطل به. صلاة التطوع (فضلها - أنواعها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 السؤال (109) : فضيلة الشيخ، نود أن تحدثونا عن صلاة التطوع من حيث الفضل والأنواع؟ الجواب: من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، أن جعل لكل نوع من أنواع الفريضة تطوعاً يشبهه، فالصلاة لها تطوع يشبهها من الصلوات، والزكاة لها تطوع يشبهها من الصدقات، والصيام له تطوع يشبهه من الصيام، وكذلك الحج، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ليزدادوا ثواباً وقرباً من الله تعالى، وليرقعوا الخلل الحاصل في الفرائض، فإن النوافل تكمل بها الفرائض يوم القيامة. فمن التطوع في الصلاة: الرواتب التابعة للصلوات المفروضة، وهي أربع ركعات قبل الظهر بسلامين، وتكون بعد دخول وقت صلاة الظهر، ولا تكون قبل دخول وقت الصلاة، وركعتان بعدها، فهذه ست ركعات، كلها راتبة للظهر، أما العصر فليس لها راتبة، أما المغرب فلها راتبة ركعتان بعدها، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، وتختص الركعتان قبل الفجر، بأن الأفضل أن يصليهما الإنسان خفيفتين، وأن يقرأ فيهما بـ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) (الكافرون: 1) في الركعة الأولى، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص: 1) في الركعة الثانية، أو بقوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) الآية، في سورة البقرة في الركعة الأولى، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران: 64) الآية في سورة آل عمران في الركعة الثانية، وبأنها - أي راتبة الفجر -تصلى في الحضر والسفر، وبأن فيها فضلاً عظيماً، قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" (1) . ومن النوافل في الصلوات: الوتر، وهو من آكد النوافل، حتى قال بعض العلماء بوجوبه، وقال فيه الإمام أحمد رحمه الله: من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة. وتختم به صلاة الليل، فمن خاف ألا يقوم من آخر الليل أوتر قبل أن ينام، ومن طمع أن يقوم آخر الليل، فليوتر آخر الليل بعد إنهاء تطوعه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" (2) ، وأقله ركعة واحدة، وأكثره إحدى عشر ركعة، وأدنى الكمال: ثلاث ركعات، فإن أوتر بثلاث فهو بالخيار، إن شاء سردها سرداً بتشهد واحد، وإن شاء سلم من ركعتين، ثم أوتر بواحدة ثم صلى واحدة، وإن أوتر بخمس سردها جميعاً بتشهد واحد وسلام واحد، وإن أوتر بسبع فكذلك، يسردها جميعاً بتشهد وحد وسلام واحد، وإن أوتر بتسع فإنه يسردها، ويجلس في الثامنة ويتشهد، ثم يقوم فيأتي بالتاسعة ويسلم، فيكون فيها تشهدان وسلام واحد، وإن أوتر بإحدى عشرة ركعة، فإنه يسلم من ركعتين ويأتي بالحادية عشرة وحدها. وإذا نسى الوتر، أو نام عنه، فإنه يقضيه من النهار، لكن مشفوعاً، لا وتراً، فإذا كان من عادته أن يوتر بثلاث، صلى أربعاً، وإن كان من عادته أن يوتر بخمس، صلى ستاً وهكذا، لأنه ثبت في الصحيح، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة" (3) . الفرق في الأحكام بين الفرض والنافلة   (1) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر، رقم (725) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الوتر، باب ليجعل آخر صلاته وتراً، رقم (998) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى، رقم (751) . (3) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، رقم (746) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 السؤال (110) : فضيلة الشيخ، هل هناك فرق بين صلاة الفرض والنافلة؟ الجواب: نعم هناك فوارق بين صلاتي الفرض والنافلة، من أوضحها: أن النافلة تصح في السفر على الراحلة، ولو بدون ضرورة، فإذا كان الإنسان في سفر، وأحب أن يتنفل وهو على راحلته، سواء كانت الراحلة السيارة، أم طيارة، أم بعيراً، أم غير ذلك، فإنه يصلي النافلة على راحلته متجهاً حيث يكون وجهه، يومئ بالركوع والسجود، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك (1) . ومن الفروق بين الفريضة والنافلة: أن الإنسان إذا شرع في الفريضة حرم أن يخرج منها إلا لضرورة قصوى، وأما النافلة فيجوز أن يخرج منها لغرض صحيح، وإن كان بغير غرض فإنه لا يأثم إذا خرج منها ولكنه يكره كما ذكر ذلك أهل العلم. ومن الفروق: أن الفريضة يأثم الإنسان بتركها، وأما النافلة فلا. ومن الفروق: أن الفريضة تشرع لها صلاة الجماعة، وأما النافلة فلا تشرع، إلا في صلوات معينة، كالاستسقاء، وصلاة الكسوف على القول بأنها سنة، ولا بأس أن يصليها الإنسان - أي النافلة - أحياناً جماعة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ببعض أصحابه جماعة في بعض الليالي، فقد صلى معه مرة ابن عباس، ومرة حذيفة، ومرة ابن مسعود. وأما في رمضان، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام بهم ثلاث ليال ثم تأخر خوفاً من أن تفرض على الناس (2) ، وهذا يدل على أن صلاة الجماعة في قيام رمضان سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، ولكن تركها خوفاً من أن تفرض، وهذا مأمون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.   (1) أخرجه البخاري، كتاب الوتر، باب الوتر في السفر، رقم (1000) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الداب في السفر حيث توجهت، رقم (700) . (2) أخرجه البخاري، كاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، رقم (2012) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، رقم (761) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فتاوى الزكاة المقصود بالزكاة لغة وشرعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 السؤال (111) : فضيلة الشيخ، ما المقصود بالزكاة في اللغة، وفي الشرع؟ وما العلاقة بين المفهومين؟ الجواب: الزكاة في اللغة: الزيادة والنماء، فكل شيء زاد عدداً، أو نما حجماً فإنه يقال: زكا. فيقال: زكا الزرع، إذا نما وطال. وأما في الشرع: فهي التعبد لله تعالى بإخراج قدر واجب شرعاً في أموال مخصومة لطائفة أو جهة مخصوصة. والعلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، أن الزكاة وإن كان ظاهرها النقص، نقص كمية المال، لكن آثارها زيادة المال، زيادة المال بركة، وزيادة المال كمية، فإن الإنسان قد يفتح الله له من أبواب الرزق ما لا يخطر على باله إذا قام بما أوجب الله عليه في ماله، قال الله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم: 39) ، وقال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39) ، يخلفه: أي يأتي بخلفه وبدله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال" (1) . وهذا أمر مشاهد، فإن الموفقين لأداء ما يجب عليهم في أموالهم يجدون بركة فيما ينفقونه، وبركة فيما يبقى عندهم، وربما يفتح الله لهم أبواب رزق يشاهدونها رأي العين، بسبب إنفاقهم أموالهم في سبيل الله. ولهذا كانت الزكاة في الشرع ملاقية للزكاة في اللغة من حيث النماء والزيادة. ثم إن في الزكاة أيضاً زيادة أخرى، وهي زيادة الإيمان في قلب صاحبها، فإن الزكاة من الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة تزيد في إيمان الرجل، لأن مذهب أهل السنة والجماعة أن الأعمال الصالحة من الإيمان، وأن الإيمان يزداد بزيادتها، وينقص بنقصها، وهي أيضاً تزيد الإنسان في خلقه، فإنها بذل وعطاء، والبذل والعطاء يدل على الكرم والسخاء، والكرم والسخاء لا شك أنه خلق فاضل كريم، بل إن له آثاراً بالغة في انشراح الصدر، ونور القلب، وراحته، ومن أراد أن يطلع على ذلك فليجرب الإنفاق، يجد الآثار الحميدة التي تحصل له بهذا الإنفاق، ولا سيما فيما إذا كان الإنفاق واجباً مؤكداً كالزكاة، فإن الزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وهي التي تأتي كثيراً مقرونة بالصلاة التي هي عمود الإسلام، وهي في الحقيقة محك تبين كون الإنسان محبا لما عند الله عز وجل، لأن المال محبوب إلى النفوس، وبذل المحبوب لا يمكن أن يكون إلا من أجل محبوب يؤمن به الإنسان وبحصوله، ويكون هذا المحبوب أيضاً أحب مما بذله. ومصالح الزكاة، وزيادة الإيمان بها، وزيادة الأعمال، وغير ذلك أمر معلوم، يحصل بالتأمل فيه أكثر مما ذكرنا الآن. آثار الزكاة على المجتمع والاقتصاد   (1) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع، رقم (2588) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 السؤال (112) : فضيلة الشيخ، ذكرتم تعريف الزكاة أو مفهوم الزكاة اللغوي والشرعي، والعلاقة بينهما، ثم تحدثتم أيضاً عن الآثار التي تنعكس على الفرد، لكن أيضاً مادمنا عرفنا الآثار التي تنعكس على الفرد، فما هي الآثار التي تنعكس على المجتمع، وعلى الاقتصاد الإسلامي أيضاً؟ الجواب: آثار الزكاة على المجتمع وعلى الاقتصاد الإسلامي ظاهرة أيضاً، فإن فيها من مواساة الفقراء والقيام بمصالح العامة ما هو معلوم ظاهر من مصارف هذه الزكاة، فإن الله سبحانه وتعالى قال في مصارف هذه الزكاة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (التوبة: 60) . وهؤلاء الأصناف الثمانية منهم من يأخذها لدفع حاجته، ومنهم من يأخذها لحاجة المسلمين إليه، فالفقراء والمساكين والغارمون لأنفسهم، هؤلاء يأخذون لحاجتهم، وكذلك ابن السبيل والرقاب، ومنهم من يأخذ لحاجة الناس إليه، كالغارم لإصلاح ذات البين، والعاملين عليها والمجاهدين في سبيل الله. فإذا عرفنا أن توزيع الزكاة على هذه الأصناف يحصل بها دفع الحاجة الخاصة لمن يعطاها، ويحصل بها دفع الحاجة العامة للمسلمين، عرفنا مدى نفعها للمجتمع. وفي الاقتصاد تتوزع الثروات بين الأغنياء والفقراء، بحيث يؤخذ من أموال الأغنياء هذا القدر ليصرف إلى الفقراء، ففيه توزيع للثروة حتى لا يحدث التضخم من جانب والبؤس والفقر من جانب آخر. وفيها أيضاً من صلاح المجتمع: ائتلاف القلوب، فإن الفقراء إذا رأوا من الأغنياء أنهم يمدونهم بالمال، ويتصدقون عليهم بهذه الزكاة التي لا يجدون فيها منة عليهم، لأنها مفروضة عليهم من قبل الله، فإنهم بلا شك يحبون الأغنياء ويألفونهم ويرجون ما أمرهم الله به من الإنفاق والبذل، بخلاف ما إذا شح الأغنياء بالزكاة وبخلوا بها واستأثروا بالمال، فإن ذلك قد يولد العداوة والضغينة في قلوب الفقراء، ويشير إلى هذا ختم الآيات الكريمة التي فيها بيان مصارف الزكاة بقوله تعالى: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60) . شروط وجوب الزكاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 السؤال (113) : فضيلة الشيخ، حبذا لو عرفنا شروط وجوب الزكاة؟ الجواب: شروط وجوب الزكاة: الإسلام، والحرية، وملك النصاب، واستقراره، ومضي الحول، إلا في المعشرات. فأما الإسلام: فإن الكافر لا تجب عليه الزكاة، ولا تقبل منه لو دفعها باسم الزكاة، لقول الله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة: 54) الآية. ولكن ليس معنى قولنا إنها لا تجب على الكافر ولا تصح منه ولا تقبل منه، أنه معفى عنها في الآخرة، بل إنه يعاقب عليها، لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (38) (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) (39) (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ) (40) (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (41) (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (42) (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (43) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (44) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (45) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (46) (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (المدثر38-47) ، وهذا يدل على أن الكفار يعذبون على إخلالهم بفروع الإسلام، وهو كذلك. وأما الحرية: فلأن المملوك لا مال له، إذ إن ماله لسيده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من باع عبداً له مال، فماله لبائعه إلا أن يشترط المبتاع" (1) . فهو إذن غير مالك للمال حتى تجب عليه الزكاة، وإذا قدر أنه أي العبد ملك بالتمليك، فإن ملكه في النهاية يعود إلى سيده، لأن سيده له أن يأخذ ما بيده، وعلى هذا ففي ملكه نقص، ليس مستقراً استقرار أملاك الأحرار. وأما ملك النصاب: فمعناه أن يكون عند الإنسان مال يبلغ النصاب الذي قدره الشرع، وهو يختلف باختلاف الأموال، فإذا لم يكن عند الإنسان نصاب فإنه لا زكاة عليه، لأن ماله قليل لا يحتمل المواساة، والنصاب يختلف باختلاف الأموال، ففي المواشي الأنصبة فيها مقدرة ابتداء وانتهاء، وفي غيرها الأنصبة مقدرة فيها ابتداء وما زاد فبحسابه. وأما مضي الحول: فلأن إيجاب الزكاة في أقل من الحول يستلزم الإجحاف بالأغنياء، وإيجابها فيما فوق الحول يستلزم الضرر في حق الفقراء، فكان من حكمة الشرع أن يقدر لها زمناً معيناً تجب فيه وهو الحول، وفي ربط ذلك بالحول توازن بين حق الأغنياء وحق أهل الزكاة، وعلى هذا فلو مات الإنسان مثلاً أو تلف المال قبل تمام الحول سقطت الزكاة، إلا أنه يستثنى من تمام الحول ثلاثة أشياء: ربح التجارة، ونتاج السائمة، والمعشرات. أما ربح التجارة: فإن حوله حول أصله، وأما نتاج السائمة: فحول النتاج حول الأمهات، وأما المعشرات فحولها تحصيلها أي وقت تحصيلها مثال ذلك في الربح: أن يشتري الإنسان سلعة بعشرة آلاف ريال، ثم قبل تمام حول الزكاة بشهر تزيد هذه السلعة أو تربح نصف الثمن الذي اشتراها به، فيجب عليه زكاة رأس مال وزكاة ربح وإن لم يتم للربح حول، لأنه فرع، والفرع يتبع الأصل. وأما النتاج: فمثل أن يكون عند الإنسان من البهائم نصاب، ثم في أثناء الحول يتوالد هذا النصاب حتى يبلغ نصابين، فيجب عليه الزكاة للنصاب الذي حصل بالنتاج وإن لم يتم عليه الحول، لأن النتاج فرع فيتبع الأصل. وأما المعشرات: فحولها حين أخذها مثل الحبوب والثمار، فإن الثمار في النخل مثلاً لا يتم عليه الحول حتى يجذّ، فتجب الزكاة عند جذه، وكذلك الزرع يزرع ويحصد قبل أن يتم عليه الحول، فتجب عليه الزكاة عند حصاده، لقول الله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (الأنعام: 141) . فهذه الأشياء الثلاثة تستثنى من قولنا إنه يشترط لوجوب الزكاة تمام الحول. مال المملوك هل يعفى من الزكاة   (1) أخرجه أبو داود، كتاب الإجارة، باب في العبد يباع وله مال، رقم (3435) وفي إسناده مجهول وهو الراوي عن جابر رضي الله عنه، ويشهد له بالصحة حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: ".. ومن ابتاع عبداً فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع". أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، رقم (2379) ، ومسلم، كتاب البيوع، باب من باع نخلاً عليها ثمر، رقم (1543) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 السؤال (114) : فضيلة الشيخ، ذكرتم من شروط وجوب الزكاة وعددتم منها أن يكون مالك المال حراً، وتحدثتم عن مال المملوك وأن المملوك لا يؤدي أو لا يجب عليه زكاة، لأن المال مال مالكه، لكن: هل يعفى المال من التزكية أم يدفع المالك من المال؟ الجواب: زكاة المال الذي عند المملوك على مالكه، لأنه هو مالك المال كما أسلفنا من قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع" (1) ، وعلى هذا فتكون الزكاة على مالك المال، وليس على المملوك منها شيء، ولا يمكن أن تسقط الزكاة عن هذا المال. الأصناف التي تجب فيها الزكاة ومقدار كل نوع   (1) تقدم تخريجه ص (207) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 السؤال (115) : فضيلة الشيخ، ما هي الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقدار الزكاة في كل نوع منها؟ الجواب: الأموال التي تجب فيها الزكاة هي: أولاً: الذهب والفضة، والزكاة فيهما واجبة بالإجماع من حيث الجملة، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (34) (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة: 34-35) . وكنز الذهب والفضة هو ألا يخرج الإنسان ما أوجب الله عليه فيه من زكاة أو غيرها، وإن كان ظاهراً على سطح الأرض، وإذا أخذ الإنسان ما يجب لله فيه من الزكاة وغيرها فهو غير كنز وإن دفن في الأرض، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار (1) . والزكاة في الذهب والفضة واجبة على أي حال كان، سواء كانت دراهم من الفضة ودنانير من الذهب، أو كانت تبراً أي قطعاً من الذهب أو كانت قطعاً من الفضة، أو كانت حلياً يستعمل أو لا يستعمل، لعموم الأدلة الواردة في ذلك، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في خصوص الحلي حين أتته امرأة معها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتؤدين زكاة هذا؟ " قالت: لا. قال: " أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار". فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله ورسوله (2) . وهذا نص صريح في وجوب الزكاة في الحلي ولو كان ملبوساً. وإنما وجه النبي صلى الله عليه وسلم الخطاب إلى أم البنت لأنها هي ولية أمرها. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء أعني مسألة الحلي ولكن الراجح ما قلناه، لأن الأحاديث عامة، والأحاديث الخاصة فيها جيدة، بل صححها بعضهم، ولا شك أنها تقوم بها الحجة، لأنه يشهد بعضها لبعض، والأصل وجوب الزكاة في الذهب والفضة حتى يقوم دليل على التخصيص. والواجب في الذهب والفضة ربع العشر، أي واحد من أربعين، وطريقة استخراج ذلك أن تقسم ما عندك على أربعين، فما خرج من القسمة فهو الزكاة، فإذا كان عند الإنسان أربعون ألفاً من الفضة، أي أربعون ألف درهم، فليقسم الأربعين على أربعين، يخرج واحد فهو الزكاة. وكذلك لو كان عنده أربعون ديناراً، أن يقسم الأربعين على أربعين يخرج واحد أي دينار واحد فهو الواجب، وعلى هذا فقس، قل المال أو كثر، بشرط أن يبلغ النصاب. نصاب الذهب خمسة وثمانون جراماً (85) وتساوي عشرة جنيهات سعودية ونصف وزيادة قليلة، يعني خمسة من ثمانية، فإذا كان الذهب تبلغ زنته هذا وجبت فيه الزكاة، وإن كان دون ذلك لم تجب فيه الزكاة. أما الفضة فنصابها مائة وأربعون مثقالاً، وهي أيضاً خمسمائة وخمسة وتسعون جراماً (595) ، وتساوي بالدراهم دراهم الفضة السعودية ستة وخمسين ريالاً، أي ما يزن ستة وخمسين ريالاً من ريال الفضة السعودية، فإذا بلغ عند الإنسان من الفضة ما يزن ذلك، فقد وجبت فيه الزكاة، ومادون هذا لا زكاة فيه. وليعلم أن القول الراجح من أقوال أهل العلم، أن الذهب لا يضم إلى الفضة في تكميل النصاب، لأنهما جنسان مختلفان، وهما وإن اتفقا في المنفعة والغرض، فإن ذلك لا يقتضي ضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب، لأن الشارع قدر لكل واحد منهما نصاباً معيناً يقتضي ألا تجب الزكاة فيما دونه، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص بضم أحدهما إلى الآخر، وكما أن البر لا يضم إلى الشعير في تكميل النصاب مع أن مقصودهما واحد، فكذلك الذهب والفضة. وبناء على ذلك: لو كان عند الإنسان نصف نصاب من الذهب، ونصف نصاب من الفضة، لم تجب عليه الزكاة في واحد منهما، لما ذكرنا من أنه لا يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب. ويلحق بالذهب والفضة ما جعل بدلاً عنهما في كونه نقداً يتعامل به، كالأوراق النقدية المعروفة بين الناس اليوم، فإذا كان عند الإنسان من هذه الأوراق ما تساوي قيمتيه نصاباً من الذهب أو الفضة، فإن الزكاة تجب عليه فيها، لأنها نقود وليست عروض تجارة، إذ إنها هي قيم الأشياء التي تقدر بها، وهي وسيلة التبادل بين الناس، فكانت كالدنانير والدراهم وليست كعروض التجارة كما زعمه بعضهم. وليعلم أن الزكاة في الذهب والفضة واجبة وإن كان الإنسان قد ادخرهما لنفقاته وحاجاته، فإذا كان عند الإنسان عشرة آلاف درهم، أعدها لشراء بيت يسكنه، فإن الزكاة واجبة فيها ولو بقيت سنوات، وكذلك لو كان قد أعدها ليتزوج بها فإن الزكاة واجبة فيها ولو بقيت سنة أو أكثر. المهم أن الزكاة واجبة في عين الذهب والفضة، فتجب فيهما بكل حال، وما يظنه بعض الناس من أن الدراهم إذا أعدت للنفقة، أو لحاجة الزواج ونحوه لا زكاة فيها، فإنه ظن خاطئ لا أصل له، لا في الكتاب، ولا في السنة، ولا في أقوال أهل العلم، وهذا بخلاف العروض، فإن العروض هي التي يشترط فيها نية التجارة، أما الذهب والفضة فالزكاة في أعيانهما فتجب فيهما بكل حال. هذا أحد الأموال التي تجب فيها الزكاة، وهو الذهب والفضة. الثاني: الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) (البقرة: 267) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" (3) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (4) ، فتجب الزكاة في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، من الحبوب: كالبر والذرة، والأرز وغيرها. ومن الثمار: كالنخيل والأعناب التي تزبب ويحصل منها الزبيب، وأما الأعناب التي لا تزبب ففيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنه لا زكاة فيها، لأنها ملحقة بالفواكه، في كالبرتقال والتفاح، ومنهم من قال: إنها تجب فيها الزكاة اعتباراً بأصل العنب، لأن أصل العنب أن يزبب، فهو شبيه بثمار النخيل، أي شبيه بالتمر، والاحتياط أن يخرج الإنسان الزكاة منه، وأما ما ليس بحبوب ولا ثمار، يكال ويدخر، مثل الفواكه على اختلاف أنواعها، والخضروات على اختلاف أنواعها، فإنه لا زكاة فيها ولو كثرت. ومقدار الزكاة في الحبوب والثمار العشر، أي: عشرة في المائة إذا كانت تسقى بلا مؤونة، كالذي يشرب بعروقه، لكون الأرض رطبة، أو الذي يشرب بالطل، أو الذي يشرب بالأنهار، أو الذي يشرب بالقنوات التي تضرب في الأرض ثم ينبع منها الماء، هذا كله يجب فيه العشر، لأنه لا مؤونة في استخراج الماء الذي يسقى به، وأما إذا كان يسقى بمؤونة، كالذي يسقى بالسواني أو بالمكائن أو بالغرافات، أو ما أشبهها، فإن الواجب فيه نصف العشر، فأسقط الشارع عنه نصف العشر مراعاة لحاله، ونصف العشر خمسة في المائة، فإذا قدرنا أن هذه المزرعة أنتجت خمسة آلاف صاع، كان الواجب فيها إذا كان الزرع يسقى بلا مؤونة خمسمائة صاع، وإذا كان يسقى بمؤونة كان الواجب مائتين وخمسين صاعاً، وعلى هذا فقس. ولكن لا تجب الزكاة في الحبوب والثمار حتى تبلغ نصاباً، والنصاب خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون مجموع الآصع ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فما دون ذلك فلا زكاة فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (5) . هذان مالان مما تجب فيهما الزكاة. زكاة الفواكه والخضروات إذا بيعت   (1) تقدم تخريجه ص (147) . (2) أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب الكنز ما هو وزكاة الحلي، رقم (1563) ، والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الحلي، رقم (637) ، والنسائي كتاب الزكاة، باب زكاة الحلي، رقم (2479) ، والحاكم في المستدرك" (1/390) وقال: حديث صحيح. (3) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء، رقم (1483) . (4) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الورق، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ما ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، رقم (979) . (5) تقدم تخريجه ص (214) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 السؤال (116) : فضيلة الشيخ، بالنسبة للفواكه التي لا زكاة فيها، هل إذا باعها الإنسان وجب عليه الزكاة في قيمتها"؟. الجواب: هذه الفواكه والخضروات لا زكاة فيها، ولكن الإنسان إذا باعها، فإن في ثمنها الزكاة إن بقي حتى تم عليه الحول وكان من النقدين، الذهب والفضة أو ما جرى مجراهما، أما لو باعها بعروض، مثل أن باعها بسيارات أو بأقمشة أو بأواني، فإنه لا زكاة فيها أيضاً ما لم ينو التجارة بما جعله بدلاً، فإن نوى التجارة كانت الزكاة واجبة وجوب زكاة العروض التي سنتكلم عنها إن شاء الله تعالى فيما بعد. تابع الأصناف التي تجب فيها الزكاة ومن الأموال الزكوية التي تجب فيها الزكاة: بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، ولكن يشترط لوجوب الزكاة فيها شرطان: الشرط الأول: أن تكون معدة للدر والنسل والتسمين، لا للبيع والشراء. والشرط الثاني: أن تكون سائمة الحول أو أكثره، يعني أن تتغذى على السوم- وهو الرعي - الحول أو أكثره. فإن كانت غير معدة للدر والتسمين، وإنما هي معدة للاتجار والتكسب، فهي عروض التجارة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، وإن كانت معدة للدر والتسمين، ولكنها تعلف فإنها لا زكاة فيها، فلو كان عند الفلاح عشرون بعيراً أبقاها للتناسل وللدر والتسمين وللقنية، فإنها لا زكاة عليها في ذلك مادام يعلفها أكثر الحول لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، فيما كتبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم قال: "في الغنم في سائمتها" (1) . وفي حديث بهز بن حيكم عن أبيه عن جده: " في الإبل في سائمتها" (2) . وهذا يدل على أن غير السائمة ليس فيها زكاة وهو كذلك. وأما مقدار الزكاة في البهائم - أي بهيمة الأنعام - فإنه يختلف، وذلك لأن الأنصبة في بهيمة الأنعام مقدرة ابتداء وانتهاء، ولكل قدر منها واجب خاص به، فمثلاً في الغنم في كل أربعين شاة شاة واحدة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، فما بين الأربعين إلى مائة وعشرين ليس فيها إلا شاة واحدة، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، فما بين مائة وإحدى وعشرين إلى مائتين ليس فيه إلا شاتان، ثم في كل مائة شاة، ففي مائتين وواحدة ثلاث شياه، وفي ثلاثمائة وواحدة ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع شياه، وهلم جرا، ولهذا لا يمكن أن نحدد الواجب في بهيمة الأنعام، وذلك لاختلاف الأنصبة ابتداء وانتهاء، ومرجع ذلك إلى كتب الحديث وأهل الفقه. أما غير السائمة، كالخيل والحمير والبغال، فهذه لا زكاة فيها ولو كثرت، ولو سامت، إذا لم تكن للتجارة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" (3) . فلو كان عند الإنسان مائة فرس يعدها للركوب والجهاد وغير ذلك من المصالح، فإنه لا زكاة عليه فيها ولو كانت تساوي دراهم كثيرة. إلا إن كان يتّجر في الخيل، يبيع ويشتري، ويتكسب، فعليه فيها زكاة العروض. هذه ثلاثة أموال تجب فيها الزكاة، النقدان وهما الذهب والفضة، والخارج من الأرض، والثالث بهيمة الأنعام. الرابع: عروض التجارة، وعروض التجارة هي الأموال التي عند الإنسان يريد بها التكسب، ولا تختص بنوع معين من المال، بل كل ما أراد به الإنسان التكسب من أي نوع كان من المال ففيه الزكاة، سواء كان المال عقاراً، أو حيواناً، أو مملوكاً من الآدميين، أو سيارات أو أقمشة، أو أواني، أو أطياب، أو غير ذلك، المهم كل ما أعده الإنسان للتجارة والتكسب ففيه الزكاة، ودليل ذلك عموم قوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (24) (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج: 24-25) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم (4) ، فالأصل في الأموال وجوب الزكاة إلا ما دل عليه الدليل، والقول ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (5) . وصاحب العروض إنما نوى قيمة العروض، ليس له حاجة أو غرض في نفس العروض بدليل أنه يشتري السلعة في أول النهار، فإذا ربحت في آخر النهار باعها، وليس كالإنسان المقتني للسلع الذي يبقيها عنده سواء زادت أم نقصت، فإذن يكون مراد هذا المالك هو القيمة، وهي الذهب والفضة أو ما جرى مجراهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". ولأننا لو قلنا بعدم وجوب الزكاة في العروض لسقطت الزكاة عن كثير من أموال التجار، لأن غالب أموال التجار التي يتجرون بها إنما هي عروض التجارة. هذه أربعة أنواع من المال تجب فيها الزكاة، واختلف العلماء في العسل، هل تجب فيه الزكاة أو لا تجب؟ فمنهم من قال لا تجب الزكاة فيه، ومنهم من قال: إنها تجب، واستدلوا بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والمسألة عندي محل توقف، والعلم عند الله. وبناء على ذلك: فإنه لا زكاة على الإنسان فيما يقتنيه من الأواني والفرش، والمعدات، والسيارات، والعقارات، وغيرها، حتى وإن أعده للإجارة، فلو كان عند الإنسان عقارات كثيرة تساوي قيمتها الملايين، ولكنه لا يتجر بها، أي لا يبيعها ويشتري بدلها للتجارة مثلاُ، وإنما أعدها للاستغلال، فإنه لا زكاة في هذه العقارات ولو كثرت، وإنما الزكاة فيما يحصل منها من أجرة أو نماء، فتجب الزكاة في أجرتها إذا تم عليها الحول من العقد، فإن لم يتم عليها الحول فلا زكاة فيها، لأن هذه الأشياء - ما عدا الأصناف الأربعة السابقة - الأصل فيها براءة الذمة حتى يقوم دليل على الوجوب، بل قد دل الدليل على أن الزكاة لا تجب فيها، في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس على المؤمن في عبده ولا فرسه صدقة" (6) . فإنه يدل على أن ما اختصه الإنسان لنفسه من الأموال غير الزكوية ليس فيه صدقة، أي ليس فيه زكاة، والأموال التي أعدها الإنسان للاستغلال من العقارات وغيرها لا شك أن الإنسان قد أرادها لنفسه ولم يردها لغيره، لأنه لا يبيعها بل يستبقيها للاستغلال والنماء. تقدير قيمة الأراضي لإخراج زكاتها   (1) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، رقم (1454) . (2) أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة، رقم (1575) ، والنسائي، كتاب الزكاة، باب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلاً لأهلها ولحمولتهم، رقم (2449) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في عبده صدقة، رقم (1464) ، وسلم، كتاب الزكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده ولا فرسه، رقم (982) . (4) تقدم تخريجه ص (144) . (5) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم (1) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، رقم (1907) . (6) تقدم تخريجه ص (108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 السؤال (117) : فضيلة الشيخ، لكن بالنسبة للأراضي التي اشتراها أصحابها، وكسدت في أيديهم نظراً لقلة قيمتها، فهم يقدرونها بتقديرات عالية، مع أنها لا تساوي إلا القليل في السوق، فكيف تزكى هذه الأراضي؟ الجواب: الأراضي التي اشتراها أهلها للتجارة كما هو الغالب ينتظرون بها الزيادة هذه عروض تجارة، وعروض التجارة تقوّم عند حول الزكاة بما تساوي، ثم يخرج ربع الشعر منها، لأن العبرة بقيمتها، وقيمتها من الذهب والفضة، والذهب والفضة زكاتهما ربع العشر، ولا فرق بين أن تكون قيمة هذه الأراضي تساوي قيمة ما اشتريت به أو لا، فإذا قدرنا أن رجلاً اشترى أرضاً بمائة ألف وكانت عند الحول تساوي مائتي ألف، فإنه يجب عليه أن يزكي عن المائتين جميعاً، وإذا كان الأمر بالعكس، اشترها بمائة ألف وكانت عند تمام الحول تساوي خمسين ألفاً فقط، فإنه لا يجب عليه أن يزكي إلا عن خمسين ألفاً، لأن العبرة بقيمتها عند وجوب الزكاة. فإن شك الإنسان لا يدري: هل تزيد قيمتها عما اشتراها به أو تنقص، أو هي هي، فالأصل عدم الزيادة وعدم النقص، فيقومها بثمنها الذي اشتراها به، فإذا قدرنا أن هذه الأرض التي اشتراها بمائة ألف تساوي عند تمام الحول إن طلبت مائة وعشرين، وتساوي إن جلبت ثمانين ألفاً، وهو متردد، نقول: قومها بما اشتريتها به، لأن الأصل عدم الزيادة والنقص، ولكن يشكل على كثير من الناس اليوم أن عندهم أراضي كسدت في أيديهم، ولا تساوي شيئاً، بل إنهم يعرضونها للبيع ولا يجدون من يشتريها، فكيف تزكى هذه الأراضي؟ نقول: إن كان عند الإنسان أموال يمكن أن يزكى منها - من الأموال التي عنده - أدى زكاتها من أمواله التي عنده، وإن لم يكن عنده إلا هذه الأراضي الكاسدة، فإن له أن يأخذ ربع عشرها ويوزعها على الفقراء إن كانت في مكان يمكن أن ينتفع بها الفقير ويعمرها، وإلا فليقيد قيمتها وقت وجوب الزكاة ليخرج زكاتها فيما بعد إذا باعها. وتكون هذه الأراضي مثل الدين الذي عند شخص فقير لا يستطيع الوفاء، فالزكاة لا تجب عليه إلا إذا قبضها، أي إلا إذا قبض الدين، والصحيح أنه إذا قبض الدين من مدين معسر، فإنه يزكيه سنة واحدة فقط ولو كان قد بقي سنين كثيرة عند الفقير. ويمكن أن يقال في هذه الأراضي التي كسدت ولم يجد من يشتريها، يمكن أن يقال: إنه لا يزكيها إلا سنة واحدة، سنة البيع، ولكن الأحوط إذا باعها أن يزكيها لكل ما مضى من السنوات، لأن الفرق بينها وبين الدين أن هذه ملكه بيده، والدين في ذمة فقير خربت لكونه أعسر. تزكية الديون التي في ذمم الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 السؤال (118) : فضيلة الشيخ، كيف تزكى الديون التي في ذمم الناس؟ الجواب: الديون التي في ذمم الناس، سواء كانت ثمن مبيع، أو أجرة، أو قرضاً، أو قيمة متلف، أو أرش جناية، أو غير ذلك مما يثبت في الذمة، تنقسم إلى قسمين: الأول: أن تكون مما لا تجب الزكاة في عينه، كالعروض، بأن يكون عند الإنسان لشخص ما مائة صاع من البر أو أكثر، فهذا الدين لا زكاة فيه، وذلك لأن الزروع أو -الحبوب -لا تجب الزكاة في عينها إلا لمن زرعها. وأما الثاني: فهي الديون التي تجب الزكاة في عينها كالذهب والفضة، وهذا فيه الزكاة على الدائن، لأنه صاحبه ويملك أخذه والإبراء منه، فيزكيه كل سنة، إن شاء زكاه مع ماله، وإن شاء قيد زكاته وأخرجها إذا قبضه، فإذا كان عند شخص لآخر مائة ألف فإن من له المائة يزكيها كل عام، أو فإن الزكاة تجب على من هي له كل عام. لكن هو بالخيار، إما أن يخرج زكاتها مع ماله، وإما أن ينتظر حتى يقبضها ثم يزكيها لما مضى، هذا إذا كان الدين على موسر باذل، فإن كان الدين على معسر، فإن الصحيح أن الزكاة لا تجب فيه، لأن صاحبه لا يملك المطالبة به شرعاً، فإن الله تعالى يقول: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (البقرة: 280) ، فهو في الحقيقة عاجز شرعاً عن ماله، فلا تجب عليه الزكاة فيه، لكن إذا قبضه فإنه يزكيه سنة واحدة فقط وإن بقي في ذمة المدين عشر سنوات، لأن قبضه إياه يشبه تحصيل ما خرج من الأرض، يزكى عند الحصول عليه. وقال بعض أهل العلم: لا يزكيه لما مضى، وإنما يبتدئ به حولاً من جديد. وما ذكرناه أحوط وأبرأ للذمة، أنه يزكيه سنة واحدة لما مضى ثم يستأنف به حولاً، والأمر في هذا سهل، وليس من الصعب على الإنسان أن يؤدي ربع العشر من دينه الذي قبضه بعد أن أيس منه، فإن هذا من شكر نعمة الله عليه بتحصيله. هذا هو القول في زكاة الديون وخلاصته: أنها ثلاثة أقسام: قسم لا زكاة فيه، وهو ما إذا كان الدين مما لا تجب الزكاة في عينه، مثل أن يكون في ذمة شخص لآخر أصواع من البر، أو كيلوات من السكر أو الشاي أو ما أشبه ذلك، فهذا لا زكاة فيه، فما دام الدين مما لا تجب الزكاة في عينه، فلا زكاة فيه ولو كان عنده مئات الأصواع. والقسم الثاني: الدين الذي تجب الزكاة في عينه، كالذهب والفضة ولكنه على معسر، فهذا لا زكاة فيه إلا إذا قبضه، فإنه يزكيه لسنة واحدة ثم يستأنف فيه حولاً، وقيل: إنه يستأنف فيه حولاً على كل حال، ولكن ما قلناه أولى لما ذكرنا من التعليل. القسم الثالث: ما تجب فيه الزكاة كل عام، وهو الدين الذي تجب فيه الزكاة في عينه، وهو على موسر باذل، فهذا فيه الزكاة كل عام، لكن إن شاء صاحب الدين أن يخرج زكاته مع ماله، وإن شاء أخرها حتى يقبضه من المدين. خرص عروض التجارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 السؤال (119) : فضيلة الشيخ، هل يجوز خرص التجارة أو عروض التجارة إذا تعذر إحصاؤها أو شق على التجار؟ الجواب: لا يجوز خرصها، لأن الخرص إنما ورد في الثمار، وألحق به بعض العلماء الزروع، وأما الأموال فلا يمن خرصها، لأنها أنواع متعددة، لكن على الإنسان أن يتحرى ما استطاع، وأن يحتاط لنفسه، فإذا قدر أن هذه البضاعة تبلغ قيمتها مائة ويحتمل أن تكون مائة وعشرين، فليخرج عن مائة وعشرين إبراء لذمته. الزكاة في مال الصغير والمجنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 السؤال (120) : فضيلة الشيخ، هل تجب الزكاة في مال غير المكلف، كالصغير والمجنون؟ الجواب: هذا فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إن الزكاة في مال الصغير والمجنون غير واجبة نظراً إلى تغليب التكليف بها، ومعلوم أن الصغير والمجنون ليسا من أهل التكليف فلا تجب الزكاة في مالهما. ومنهم من قال: بل الزكاة واجبة في مالهما، وهو الصحيح نظراً لأن الزكاة من حقوق المال، لا ينظر فيها إلى المالك، لقول الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) (التوبة: 103) ، فقال (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) - فجعل مناط الحكم أو موضع الوجوب: المال. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: " أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" (1) . وعلى هذا فتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، ويتولى إخراجها وليهما. مصارف الزكاة   (1) تقدم تخريجه ص (108) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 السؤال (121) : فضيلة الشيخ، ما هي المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة؟ الجواب: المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة ثمانية بينها الله تعالى بياناً شافياً كافياً، وأخبر عز وجل أن ذلك فريضة، وأنه مبنى على العلم والحكمة، فقال جل ذكره: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (التوبة: 60) ، قال الله تعالى بعد (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60) . فهؤلاء أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم، وهم ثمانية كالتالي: الفقراء والمساكين: وهؤلاء يعطون من الزكاة لدفع ضرورتهم وحاجتهم. والفرق بين الفقراء والمساكين: أن الفقراء أشد حاجة، لا يحد الواحد منهم ما يكفيه وعائلته لنصف سنة، والمساكين أعلى حالاً من الفقراء، لأنهم يجدون نصف الكفاية فأكثر دون كمال الكفاية. هؤلاء يعطون لحاجتهم، ولكن كيف نقدر الحاجة؟ قال العلماء: يعطون لحاجتهم ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة، ويحتمل أن يعطون ما يكونون به أغنياء، لكن الذين قدروا ذلك بسنة قالوا: لأن السنة إذا دارت وجبت الزكاة في الأموال، فكما أن الحول هو تقدير الزمن الذي تجب فيه الزكاة، فكذلك ينبغي أن يكون الحول هو تقدير الزمن الذي تدفع فيه حاجة الفقراء والمساكين الذين هم أهل الزكاة. وهذا قول حسن جيد، أي أننا نعطي الفقير والمسكين ما يكفيه وعائلته لمدة عام كامل، سواء أعطيناه أعياناً من أطعمة وألبسة، أو أعطيناه نقوداً يشتري بها هو ما يناسبه، أو أعطيناه صنعة إذا كان يحسن الصنعة، يعني آلة يصنع بها إذا كان يحسن الصنعة، كخياط ونجار، وحداد ونحوه، المهم أن نعطيه ما يكفيه وعائلته لمدة سنة. الثالث: العاملون عليها: أي الذين لهم ولاية عليها من قبل ولي الأمر، ولهذا قال: " والعاملين عليها" ولم يقل: العاملون فيها، إشارة إلى أن لهم نوع ولاية، وهم جباتها الذين يجبونها من أهلها، وقسامها الذين يقسمونها في أهلها، وكتابها ونحوهم، فهؤلاء عاملون عليها يعطون من الزكاة، ولكن: كم يعطون؟ ننظر: هم عاملون عليها، فهم مستحقون بوصف العمالة، ومن استحق بوصف أعطي بقدر ذلك الوصف، وعليه فيعطون من الزكاة بقدر عمالتهم فيها، سواء كانوا أغنياء أم فقراء، لأنهم يأخذون الزكاة لعملهم لا لحاجتهم، وعلى هذا فيعطون ما يقتضيه العمل من الزكاة، فإن قدر أن العاملين عليها فقراء، فإنهم يعطون بالعمالة ويعطون بالفقر كذلك، فيعطون ما يكفيهم لمدة سنة لفقرهم. فهؤلاء يأخذون لعمالتهم أيضاً، لأنهم استحقوا الصدقة أو الزكاة بوصفين: العمالة عليها، والفقر، فيعطون بكلا الوصفين، ولكن إذا أعطيناهم للعمالة فيبقون أغنياء بقدر ما أخذوا من العمالة، فنكمل لهم المؤونة لمدة سنة، مثال ذلك: إذا قدرنا أنه يكفيهم لمدة سنة عشرة آلاف ريال، وأننا إذا أعطيناهم لفقرهم أخذوا عشرة آلاف ريال، وأن نصيبهم من العمالة ألفا ريال، فعلى هذا نعطيهم ألفي ريال للعمالة، ونعطيهم ثمانية آلاف ريال للفقر، هذا وجه قولنا: يعطون كفايتهم لمدة سنة، لأنهم إذا أخذوا بالعمالة صاروا لا يحتاجون إلا ما زاد على استحقاقهم العمالة لمدة سنة. الرابع: المؤلفة قلوبهم: وهم الذين يعطون لتأليفهم على الإسلام، إما كافر يرجى إسلامه، وإما مسلم نعطيه لتقوية الإيمان في قلبه، وإما شرير نعطيه لدفع شره عن المسلمين، أو نحو ذلك ممن يكون في تأليفه مصلحة للمسلمين، ولكن هل يشترط في ذلك أن يكون سيداً مطاعاً في قومه حتى يكون في تأليفه مصلحة عامة؟ أو يجوز أن يعطى لتأليفه ولو لمصلحة شخصية كرجل دخل في الإسلام حديثاً يحتاج إلى تأليفه وتقوية إيمانه بإعطائه؟ هذا محل خلاف بين العلماء، والراجح عندي أنه لا بأس أن يعطى لتأليفه على الإسلام بتقوية إيمانه، وإن كان يعطى بصفة شخصية وليس سيداً في قومه لعموم قوله تعالى: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ولأنه إذا جاز أن نعطي الفقير لحاجته البدنية الجسمية، فإعطاؤنا هذا الضعيف الإيمان لتقويه إيمانه من باب أولى، لأن تقوية الإيمان بالنسبة لشخص أهم من غذاء الجسد. هؤلاء الأربعة يعطون الزكاة على سبيل التمليك، ويملكونها ملكاً تاماً، حتى لو زال الوصف منهم في أثناء الحول لم يلزمهم رد الزكاة بل تبقى حلالاً لهم، لأن الله عبر عن استحقاقهم باللام، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) (التوبة: 60) ، فأتى باللام، وفائدة ذلك أن الفقير لو استغنى في أثناء الحول فإنه لا يلزمه رد الزكاة، مثل: لو أعطيناه عشرة آلاف لفقره وهي تكفيه لمدة سنة، ثم إن الله تعالى أغناه في أثناء الحول باكتساب مال أو موت قريب له يرثه، أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يلزمه رد ما بقي من المال الذي أخذه من الزكاة لأنه ملكه. أما الخامس من أهل الزكاة: فهم الرقاب، لقوله تعالى: (وَفِي الرِّقَابِ) . والرقاب فسرها العلماء بثلاثة أشياء: الأول: مكاتب اشترى نفسه من سيده بدراهم مؤجلة في ذمته، فيعطى ما يوفي به سيده، والثاني: رقيق مملوك اشتري من الزكاة ليعتق، والثالث: أسير مسلم أسره الكفار، فيعطى الكفار من الزكاة لفكهم هذا الأسير، ومثله أيضاً الاختطاف، فلو اختطف المسلمَ أحد من المسلمين أو الكفار فلا بأس أن يفدى هذا المختطِف بشيء من الزكاة، لأن العلة واحدة وهي فكاك المسلم من الأسر، وهذا إذا لم يمكننا أن نرغم المختطف على فكاكه بدون بذل المال، إذا كان المختطِف من المسلمين. والصنف السادس من أهل الزكاة: الغارمين: الغارم هو المدين، وقسم العلماء -رحمهم الله - الغرم إلى قسمين: الأول: غرم لإصلاح ذات البين، وغرم لسداد الحاجة، أما الغرم لإصلاح ذات البين فمثلوا له بأن يقع بين قبيلتين تشاحن وتشاجر أو حروب، فيأتي رجل من أهل الخير والجاه واشرف والسؤدد ويصلح بين هاتين القبيلتين بدراهم يتحملها في ذمته، فإننا نعطي هذا الرجل المصلح الدراهم التي تحملها من الزكاة، جزاء له على هذا العمل الجليل الذي قام به، والذي فيه إزالة الشحناء والعداوة بين المؤمنين وحقن دماء الناس، وهذا يعطى سواء كان غنياً أم فقيراً، لأننا لسنا نعطيه لسد حاجته، ولكننا نعطيه لما قام به من المصلحة العامة. أما الثاني فهو الغارم لنفسه، الذي استدان لنفسه باستقراض شيء ليدفعه في حاجته، أو بشراء شيء يحتاجه، يشتريه في ذمته وليس عنه مال، فهذا نوفي دينه من الزكاة بشرط أن يكون فقيراً ولو لم يعلم بذلك، وعليه فهل الأفضل أن نعطي هذا المدين من الزكاة ليوفي دينه؟ أو أن نذهب نحن إلى دائنه ونوفي عنه؟ هذا يختلف، فإن كان هذا الرجل المدين حريصاً على وفاء دينه وإبراء ذمته، وهو أمين فيما يعطى لوفاء الدين، فإننا نعطيه هو بنفسه يقضي دينه، لأن هذا استر له وأبعد عن تخجيله أمام الناس الذين يطلبونه. أما إذا كان المدين رجلاً مبذراً يفسد الأموال، ولو أعطيناه مالاً ليقضي دينه ذهب يشتري به أشياء لا ضرورة لها، فإننا لا نعطيه وإنما نذهب نحن إلى دائنه ونقول له: ما دين فلان لك؟ ثم نعطيه هذا الدين أو بعضه، حسب ما يتيسر. وهل يقضى منها -أي من الزكاة -دين على ميت لم يخلف تركة؟ ذكر ابن عبد البر وأبو عبيدة أنه لا يقضى منها دين على الميت بالإجماع، ولكن الواقع أن المسألة فيها خلاف ولكن أكثر العلماء يقولون: إنه لا يقضى منها دين على ميت، وأن الميت انتقل إلى الآخرة ولا يلحقه من الذل والهوان بالدين الذي عليه ما يلحق الأحياء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي ديون الأموات من الزكاة، بل كان يقضيها عليه الصلاة والسلام من أموال الفيء حين فتح الله عليه، وهذا يدل على أنه لا يصح قضاء دين الميت من الزكاة، ويقال: الميت إن كان قد أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله تعالى يؤدي عنه بفضله وكرمه، وإن كان قد أخذها يريد إتلافها فهو الذي جنى على نفسه، ويبقى الدين في ذمته يستوفى يوم القيامة، وعندي أن هذا أقرب من القول بأنه يقضى منها الدين على الميت. وقد يقال: يفرق بين ما إذا كان الأحياء يحتاجون إلى الزكاة، لفقر أو غرم أو جهاد أو غير ذلك، وما إذا كان الأحياء لا يحتاجون إليها، ففي الحال لا التي يحتاج إليها الأحياء يقدم الأحياء على الأموات، وفي الحال التي لا يحتاج إليها الأحياء لا حرج أن نقضي ديون الأموات الذين ماتوا ولم يخلفوا مالاً، ولعل هذا قول يكون وسطاً بين القولين. ثم الصنف السابع: في سبيل الله، وسبيل الله هنا المراد بها الجهاد في سبيل الله لا غير، ولا يصح أن يراد بها جميع سبل الخير، لأنه لو كان المراد بها جميع سبل الخير لم يكن للحصر فائدة في قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية. إذ يكون الحصر عديم التأثير، فالمراد بسبيل الله هو الجهاد في سبيل الله، فيعطى المقاتلون في سبيل الله الذين يظهر من حالهم أنهم يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، يعطون من الزكاة ما يحتاجون إليه من النفقات والأسلحة وغير ذلك. ويجوز أن تشترى الأسلحة لهم من الزكاة ليقاتلوا بها، ولكن لابد أن يكون القتال في سبيل الله. والقتال في سبيل الله بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بميزان عدل من قسط حين سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (1) ، فالرجل المقاتل حمية لوطنه أو قوميته أو غير ذلك من أنواع الحميات ليس يقاتل في سبيل الله، فلا يستحق ما يستحقه المقاتل في سبيل الله، لا من الأمور المادية الدنيوية ولا من أمور الآخرة، والرجل الذي يقاتل شجاعة أي أنه يحب القتال لكونه شجاعاً، والمتصف بصفة غالباً يحب أن يقوم بها على أي حال كانت، هو أيضاً ليس يقاتل في سبيل الله، والمقاتل ليرى مكانه، يقاتل رياء وسمعة، ليس من المقاتلين في سبيل الله، وكل من لا يقاتل في سبيل الله فإنه لا يستحق من الزكاة، لأن الله تعالى يقول: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) . والذي يقاتل في سبيل الله هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، قال أهل العلم: ومن سبيل الله: الرجل يتفرغ لطلب العلم الشرعي، فيعطى من الزكاة ما يحتاج إليه من نفقة، من كسوة وطعام وشراب ومسكن وكتب علم يحتاجها، لأن العلم الشرعي نوع من الجهاد في سبيل الله، بل قال الإمام أحمد رحمه الله: " العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته". فالعلم هو أصل الشرع كله، ولا شرع إلا بعلم، والله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط ويتعلموا أحكام شريعته وما يلزم من عقيدة وقول وفعل، أما الجهاد في سبيل الله فنعم، هو من أشرف الأعمال، بل هو ذروة سنام الإسلام، ولا شك في فضله، لكن العلم له شأن كبير في الإسلام، فدخوله في الجهاد في سبيل الله دخول واضح لا إشكال فيه، فإذا جاءنا رجل أهل للعلم، وقال: أنا إن ذهبت اكتسب لنفسي وأهلي لم أتمكن من طلب العلم، وإن تفرغت لطلب العلم فإنني أحصل فيه، ولكن لا أجد ما يدفع حاجتي، فإننا نقول له: تفرغ لطلب العلم ونعطيه ما يدفع به حاجته من الزكاة. الثامن: بقي من أصناف أهل الزكاة صنف واحد وهو ابن السبيل، وابن السبيل هو المسافر الذي انقطع به السفر ونفدت نفقته، فإنه يعطى من الزكاة ما يوصله إلى بدله وإن كان في بلده غنياً، لأنه محتاج، ولا نقول له في هذه الحال: يلزمك أن تستقرض وتوفي، لأننا في هذه الحال نلزم ذمته ديناً، ولكن لو اختار هو أن يستقرض ولا يأخذ من الزكاة فالأمر إليه، فإذا وجدنا شخصاً مسافراً من مكة إلى المدينة، وفي أثناء السفر ضاعت نفقته ولم يبق معه شيء، وهو غني في المدينة، فإننا نعطيه ما يوصله إلى المدينة فقط، لأن هذه هي حاجته، ولا نعطيه أكثر. وإذا كنا قد عرفنا أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم، فإن ما سوى ذلك من المصالح العامة أو الخاصة لا تدفع فيه الزكاة، وعلى هذا فلا تدفع الزكاة في بناء المساجد، ولا في إصلاح الطرق، ولا في بناء المكاتب وشبه ذلك، لأن الله عز وجل لما ذكر أصناف أهل الزكاة قال: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) . يعني أن هذا التقسيم جاء فريضة من الله عز وجل: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) . نقول: هل هؤلاء المستحقون يجب أن يعطى كل واحد منها، أي كل صنف، لأن الواو تقتضي الجمع؟ فالجواب: أن ذلك لا يجب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" (2) . فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا صنفاً واحداً، وهذا يدل على أن الآية يبين الله تعالى فيها جهة الاستحقاق، وليس المراد أنه يجب أن تعمم هذه الأصناف. ولكن إذا قيل: أيها أولى أن يصرف فيه الزكاة؟ قلنا: إن الأولى ما كانت الحاجة إليه أشد، لأن كل هؤلاء استحقوا بوصف، فمن كان أشد إلحاحاً وحاجة فهو أولى، والغالب أن الأشد هم الفقراء والمساكين، ولهذا بدأ الله تعالى بهم فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) . حكم صرف الزكاة للأقارب الفقراء   (1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، رقم (123) ، ومسلم، كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، رقم (1904) . (2) تقدم تخريجه ص (108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 السؤال (122) : فضيلة الشيخ، ما حكم جعل الزكاة في الأقارب المحتاجين؟ الجواب: الزكاة في الأقارب الذين لهم من أهلها أولى من أن تكون في غير الأقارب، لأن الصدقة على الأقارب صدقة وصلة، فإذا كان أخوك، أو عمك، أو أبوك، أو أمك من أهل الزكاة، فهم أولى بها من غيرهم، لكن إذا كانوا يأخذون الزكاة لحاجتهم، وأنت تجب عليك نفقتهم، فإنه لا يجوز أن تعطيهم من الزكاة في هذه الحال، لأنك إذا أعطيتهم من الزكاة رفدت مالك ووقيته بما تعطيه من الزكاة، فإذا قدرنا أن لك أخاً فقيراً وأنت عندك زكاة ونفقته تجب عليك، فإنه لا يجوز أن تعطيه لفقره، لأنك إذا أعطيته لفقره رفدت مالك ووقيته بما تعطيه، إذ لو لم تعطه من الزكاة لوجب عليك الإنفاق عليه، أما لو كان على أخيك هذا دين لا يستطيع وفاءه، مثل أن يحصل منه إتلاف شيء أو جناية على أحد، ويلزمه مال، ففي هذه الحال يجوز أن تقضي دينه من زكاتك، لأنه لا يجب عليك قضاء دينه، وإنما الواجب عليك نفقته. وقاعدة ذلك: أن الأقارب إذا أعطاهم الإنسان زكاة ماله لدفع حاجتهم وهم ممن تجب عليه نفقتهم، فإن ذلك لا يصح، وإن أعطاهم لدفع أمر لا يلزمه القيام به، فإن ذلك جائز، بل هم أحق بذلك من غيرهم. فإن قال قائل: ما دليلك على هذا؟ قلنا: الدليل عموم الأدلة، بل عموم آية الصدقة التي أشرنا إليها فيما سبق: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) . وإنما منعنا إعطائهم فيما إذا كان إعطاؤهم لدفع حاجتهم التي يجب عليك دفعها، لأن هذا من باب إسقاط الواجب عن الإنسان بالحيلة، والواجب لا يمكن إسقاطه بالحيل. توضيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 السؤال (123) : فضيلة الشيخ، نريد التمثيل أيضاً لدفع المال للوالد أو الوالدة، فيما لا يجب على الإنسان؟ الجواب: مثال ذلك: اشترى أبوك سيارة بخمسة آلاف ريال مثلاً، واحترقت السيارة فلزمه خمسة آلاف ريال، وأنت لا يلزمك أن تدفعها له، لأن هذا ليس من النفقة، فيجوز لك أن تقضي دينه هذا من زكاتك، وكذلك لو لزم أحداً من أقاربك الآخرين شيء من أجل جناية أو إتلاف. فإنه يجوز لك أن تدفع زكاتك في قضاء هذا الشيء. حكم إسقاط الدين عن المدين واعتبار ذلك من الزكاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 السؤال (124) : فضيلة الشيخ، هل يجوز إسقاط الدين عن المدين ويكون ذلك من الزكاة؟ الجواب: لا يجوز ذلك، لأن الله تعالى يقول: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) (التوبة: 103) ، فقال تعالى (خُذْ) ، والأخذ لابد أن يكون ببذل من المأخوذ منه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد" (1) ، فقال "تؤخذ من أغنيائهم فترد"، فلابد من أخذ ورد، والإسقاط لا يوجد فيه ذلك، ولأن الإنسان إذا أسقط الدين عن زكاة العين التي في يده، فكأنما أخرج الرديء عن الطيب، لأن قيمة الدين في النفس ليست كقيمة العين، لأن العين ملكه وفي يده، والدين في ذمة الآخرين قد يأتي وقد لا يأتي، فصار الدين دون العين، وإذا كان دونها فلا يصح أن يخرج أي الدين زكاة عنها لنقصه، وقد قال الله تعالى: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) (البقرة: 267) . ومثال ما سألت عنه: لو كان على الإنسان عشرة آلاف ريال زكاة، وهو يطلب رجلاً فقيراً عشرة آلاف ريال، فذهب إلى الرجل الفقير، وقال: قد أسقطت عنك عشرة آلاف ريال وهي زكاتي لهذا العام، قلنا: هذا لا يصح، لأنه لا يصح إسقاط الدين وجعله عن زكاة عين، لما أشرنا إليه آنفاً. وهذه مسألة يخطئ فيها بعض الناس ويتجاوزها جهلاً منهم، وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنه لا يجزئ إسقاط الدين عن زكاة العين بلا نزاع. دفع الزكاة للفقير المدين بشرط أن يردها للدافع   (1) تقدم تخريجه ص (108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 السؤال (125) : فضيلة الشيخ، هل يجوز دفعها للفقير المدين بشرط أن يردها للدافع؟ الجواب: لا، لا يجوز، يعني لو كان عندك مدين فقير، ودفعت إليه زكاتك فلا بأس، ولا حرج، حتى لو ردها عليك من بعد فلا حرج، لكن إذا اشترطت عليه ذلك، فلا يجوز، لأنك إذا فعلت هذا فقد علمنا أنك إنما تريد بهذا العمل أن تسترد مالك الذي في ذمة الفقير، والزكاة لا يجوز أن يحابي الإنسان فيها أحداً لا نفسه ولا غيره. حكم الزكاة في الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 السؤال (126) : فضيلة الشيخ، ما حكم الزكاة في الإسلام؟ الجواب: الزكاة في الإسلام أحد أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام" (1) ، وهي فرض بإجماع المسلمين، فمن أنكر وجوبها فقد كفر، إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو ناشئاً في بادية بعيدة عن العلم وأهله، فيعذر ولكنه يعلم، فإن أصر بعد علمه فقد كفر مرتداً. وأما من منعها بخلاً وتهاوناً ففيه خلاف بين أهل العلم فمنهم من قال: إنه يكفر، وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ومنهم من قال: إنه لا يكفر، وهذا هو الصحيح، لكنه قد أتى كبيرة، عظيمة، والدليل على أنه لا يكفر حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عقوبة مانع زكاة الذهب والفضة ثم قال: " حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار" (2) . وإذا كان يمكن أن يرى سبيلاً له إلى الجنة فإنه ليس بكفار، لأن الكافر لا يمكن أن يرى سبيلاً له إلى الجنة. ولكن على مانعها بخلاً وتهاوناً من الإثم العظيم ما ذكره الله في قوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران: 180) ، وفي قوله: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (34) (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة: 34-35) . فعلى المرء المسلم أن يشكر الله على نعمته عليه بالمال، وأن يؤدي زكاته، حتى يزيد الله له في ماله بركة ونماء، والله الموفق.   (1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب دعاؤهم إيمانكم، رقم (8) ، ومسلم، كتاب الإيمان، كتاب بني الإسلام على خمس، رقم (16) . (2) تقدم تخريجه ص (147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فتاوى الصيام المقصود بالصيام لغة وشرعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 السؤال (127) : فضيلة الشيخ، ما المقصود بالصيام لغة وشرعاً؟ الجواب: الصيام في اللغة: معناه الإمساك، ومنه قوله تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً) (مريم: 26) أي نذرت إمساكاً للكلام فلن أكلم اليوم إنسياً. ومنه قول الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما أما في الشرع: فهو التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. أقسام الصيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 السؤال (128) : فضيلة الشيخ، ما هي أقسام الصيام؟ الجواب: ينقسم الصيام إلى قسمين: قسم مفروض: والمفروض قد يكون بسبب كصيام الكفارات، والنذور، وقد يكون بغير سبب كصيام رمضان، فإنه واجب بأصل الشرع، أي: بغير سبب من المكلف. وأما غير المفروض: فقد يكون معيناً، وقد يكون مطلقاً. فمثال المعين: صوم يوم الاثنين والخميس. ومثال المطلق: صيام أي يوم من أيام السنة، إلا أنه قد ورد النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصوم، فلا يصام يوم الجمعة إلا أن يصام يوم قبله أو يوم بعده. كما ورد في النهي عن صيام يومي العيدين الفطر والنحر، وكذلك عن صيام أيام التشريق، إلا لمن لم يجد الهدي للقارن والمتمتع، فإنه يصوم أيام التشريق عن الأيام الثلاثة التي في الحج. حكم صيام رمضان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 السؤال (129) : فضيلة الشيخ، ما حكم صيام شهر رمضان؟ الجواب: صيام شهر رمضان فرض بنص الكتاب والسنة، وإجماع المسلمين، قال الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (183) إلى قوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: 183-185) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام" (1) . وقال عليه الصلاة والسلام: " إذا رأيتموه فصوموا" (2) . وأجمع المسلمون على أن صيام رمضان فرض، وأنه أحد أركان الإسلام، فمن أنكر فرضيته كفر، إلا أن يكون ناشئاً في بلاد بعيدة لا تعرف فيها أحكام الإسلام، فيعذر بذلك، ثم إن أصر بعد إقامة الحجة عليه كفر. ومن تركه تهاوناً مع الإقرار بفرضيته فهو على خطر، فإن بعض أهل العلم يرى أنه كافر مرتد، ولكن الراجح أنه ليس بكفار مرتد، بل هو فاسق من الفساق لكنه على خطر عظيم. مكانة الصيام وفضله   (1) تقدم تخريجه ص (118) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقال: رمضان أو شهر رمضان، رقم (1900) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، رقم (1080) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 السؤال (130) : فضيلة الشيخ، ما هي مكانة الصيام في الدين، وفضله في العبادة وخاصة في شهر رمضان؟ الجواب: مكانة الصيام في الإسلام أنه أحد أركانه العظيمة التي لا يقوم إلا بها، ولا يتم إلا بها، وأما فضله في الإسلام فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (1) . حكم الفطر في رمضان بدون عذر   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانً واحتساباً ونية، رقم (1901) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، رقم (760) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 السؤال (131) : فضيلة الشيخ، ما حكم الفطر في نهار رمضان بدون عذر؟ الجواب: الفطر في نهار رمضان دون عذر من أكبر الكبائر، ويكون به الإنسان فاسقاً، ويجب عليه أن يتوب إلى الله، وأن يقضي ذلك اليوم الذي أفطره، يعني لو أنه صام وفي أثناء اليوم أفطر بدون عذر، فعليه أن يقضي ذلك اليوم الذي أفطره، لأنه لما شرع فيه التزم به ودخل فيه على أنه فرض، فيلزمه قضاؤه كاملاً، أما لو ترك الصوم من الأصل متعمداً بلا عذر الراجح أنه لا يلزمه القضاء، لأنه لن يستفيد منه شيئاً، لأنه لن يقبل منه، فإن القاعدة: أن كل عبادة مؤقتة بوقت معين، فإنها إذا أخرت عن ذلك اليوم المعين بلا عذر لن تقبل من صاحبها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) ، ولأنه من تعدي حدود الله عز وجل، وتعدي حدود الله تعالى ظلم، والظالم لا يقبل منه، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 229) ، ولأنه لو قدم هذه العبادة على وقتها أي: فعلها قبل دخول الوقت لم تقبل منه، فكذلك إذا فعلها بعده لن تقبل منه إلا أن يكون معذوراً. بم يثبت شهر رمضان   (1) تقدم تخريجه ص (111) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 السؤال (132) : فضيلة الشيخ، بماذا يثبت شهر رمضان؟ الجواب: يثبت دخول شهر رمضان إما برؤية هلاله، وإما بإكمال شعبان ثلاثين يوماً، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " (1) . حكم رؤية من رأى الهلال وحده   (1) أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال رقم (1081) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 السؤال (133) : فضيلة الشيخ، ما حكم من رأى الهلال وحده ولم يصم معه الناس؟ الجواب: من رأى الهلال وحده يجب عليه أن يبلغ به المحكمة الشرعية ويشهد به، ويثبت دخول شهر رمضان بشهادة الواحد إذا ارتضاه القاضي وحكم بشهادته، فإن ردت شهادته فقد قال بعض العلماء: إنه يلزمه أن يصوم، لأنه تيقن أنه رأى الهلال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته" (1) وهذا قد رآه. وقال بعض أهل العلم: لا يلزم أن يصوم، لأن الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس، وموافقته للجماعة خير من انفراده وشذوذه، وفصل آخرون فقالوا: يلزمه الصوم سرا، فيلزمه الصوم، لأنه رأى الهلال، ويكون سراً لئلا يظهر مخالفة الجماعة. أركان الصيام   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا ... "، رقم (19090) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، رقم (1081) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 السؤال (134) : فضيلة الشيخ، ما هي أركان الصيام؟ الجواب: الصيام له ركن واحد، فهو التعبد لله عز وجل بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والمراد بالفجر هنا الفجر الثاني دون الفجر الأول، فيتميز الفجر الثاني عن الفجر الأول بثلاث ميزات: الأولى: أن الفجر الثاني يكون معترضاً في الأفق، والفجر الأول يكون مستطيلاً، أي ممتداً من المشرق إلى المغرب، أما الفجر الثاني فهو من الشمال إلى الجنوب. الميزة الثانية: أن الفجر الثاني لا ظلمة بعده، بل يستمر النور في ازدياد حتى تطلع الشمس، وأما الفجر الأول فيظلم بعد أن يكون له شعاع. الميزة الثالثة: أن الفجر الثاني متصل غيابه بالأفق، وأما الفجر الأول فبينه وبين الأفق ظلمة، والفجر الأول ليس له حكم في الشرع، فلا تحل به صلاة الفجر ولا يحل به الطعام على الصائم بخلاف الفجر الثاني. على من يجب الصيام؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 السؤال (135) : فضيلة الشيخ، على من يجب الصيام؟ الجواب: الصيام يجب أداءً على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم خال من الموانع، فهذه ستة أوصاف، مسلم بالغ عاقل قادر مقيم خال من الموانع، فأما الكافر فلا يجب عليه الصوم ولا غيره من العبادات، ومعنى قولنا: لا يجب عليه الصوم أنه لا يلزم به حال كفره، ولا يلزمه قضاؤه بعد إسلامه، لأن الكافر لا تقبل منه العبادة حال كفره، لقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) (التوبة: 54) . ولا يلزمه قضاء العبادة إذا أسلم، لقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال: 38) ، لكنه يعاقب على ما تركه من واجبات حال كفره، لقوله تعالى عن أصحاب اليمين وهم يتساءلون عن المجرمين: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (42) (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (43) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (44) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (45) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (46) (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (المدثر: 42-47) . فذكره ترك الصلاة وإطعام المسكين من أسباب دخولهم النار، يدل على أن لذلك تأثيراً في دخولهم النار، بل إن الكافر يعاقب على كل ما يتمتع به من نعم الله من طعام وشراب ولباس، لقول الله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 39) ، فنفي الجناح عن المؤمنين فيما طعموا يدل على ثبوت الجناح على غير المؤمنين فيما طعموا، ولقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: 32) . فقوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يدل على أن الحكم في غير المؤمنين يختلف عن الحكم في المؤمنين، ولكن إذا أسلم الكافر في أثناء رمضان لم يلزمه القضاء فيما سبق إسلامه، فإذا أسلم ليلة الخامس عشر مثلاً، فالأيام الأربعة عشر لا يلزمه قضاؤها، وإذا أسلم في أثناء اليوم لزمه الإمساك دون القضاء، فإذا أسلم عند زوال الشمس مثلاً قلنا له: أمسك بقية يومك ولا يلزمك القضاء، فنأمره بالإمساك، لأنه صار من أهل الوجوب، ولا نأمره بالقضاء، لأنه قام بما وجب عليه وهو الإمساك من حين أسلم، ومن قام بما يجب عليه لم يكلف بإعادة العبادة مرة ثانية. أما العقل فهو الوصف الثاني للوجوب، العقل هو ما يحصل به الميز أي: التمييز بين الأشياء، فإذا لم يكن الإنسان عاقلاً فإنه لا صوم عليه، كما أنه لا يجب عليه شيء من العبادات سوى الزكاة، ومن هذا النوع - أي ممن ليس له عقل - أن يبلغ الإنسان سناً يسقط معه التمييز، وهو ما يعرف عند العامة بالهذرات، فلا يلزم المهذري صوم، ولا يلزم عنه إطعام، لأنه ليس من أهل الوجوب. أما الوصف الثالث فهو البلوغ، ويحصل البلوغ بواحد من أمور ثلاثة: إما أن يتم للإنسان خمس عشرة سنة، أو أن ينبت العانة، وهي الشعر الخشن الذي يكون عند القبل، أو ينزل المني بلذة سواء كان ذلك باحتلام أو بيقظة، وتزيد المرأة أمراً رابعاً وهو الحيض، فإذا حاضت المرأة بلغت، وعلى هذا فمن تم له خمس عشرة سنة من ذكر أو أنثى فقد بلغ، ومن نبتت عانته ولو قبل خمس عشرة سنة من ذكر أو أنثى فقد بلغ، ومن أنزل منياً بلذة من ذكر أو أنثى ولو قبل خمس عشرة سنة فقد بلغ، ومن حاضت ولو قبل خمس عشرة سنة فقد بلغت، وربما تحيض المرأة وهي بنت عشر سنين، وهنا يجب التنبه لهذه المسألة التي يغفل عنها كثير من الناس، فإن بعض النساء تحيض مبكراً ولا تدري أنه يلزمها الصوم وغيره ومن العبادات التي تتوقف أو التي يتوقف وجوبها على البلوغ، لأن كثيراً من الناس يظنون أن البلوغ إنما يكون بتمام خمس عشرة سنة، وهذا ظن لا أصل له، فإذا لم يكن الإنسان بالغاً فإن الصوم لا يجب عليه. ولكن ذكر أهل العلم أن الولي مأمور بأن يأمر موليه الصغير من ذكر أو أنثى بالصوم ليعتاده حتى يتمرن عليه ويسهل عليه إذا بلغ، وهذا ما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه، فإنهم كانوا يصومون أولادهم الصغار حتى إن الواحد منهم ليبكي فيعطى لعبة من العهن يتلهى بها حتى تغرب الشمس (1) . وأما الوصف الرابع فهو أن يكون الإنسان قادراً على الصوم، أي يستطيع أن يصوم بلا مشقة، فإن كان غير قادر فلا صوم عليه. ولكن غير القادر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون عجزه عن الصوم مستمراً دائماً كالكبير والمريض مرضاً لا يرجى برؤه، فهذا يطعم عن كل يوم مسكيناً، فإذا كان الشهر ثلاثين يوماً أطعم ثلاثين مسكيناً، وإذا كان الشهر تسعة وعشرين يوماً أطعم تسعة وعشرين مسكيناً، وللإطعام كيفيتان: الكيفية الأولى: أن يخرج حباً من أرز أو بر، وقدره ربع صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، أي خمس صاع بالصاع المعروف هنا، ويساوي كيلوين وأربعين جراماً من بر جيد رزين، يعني أنك إذا وزنت من البر الرزين الدجن ما يبلغ كيلوين وأربعين جراماً فإن هذا صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، والصاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أمداد، فيكفي لأربعة مساكين، ويحسن في هذه الحال أن تجعل معه إذا دفعته للفقير شيئاً يؤدمه من لحم أو غيره حسب ما تقتضي به الحال والعرف. وأما الكيفية الثانية للإطعام: فأن يصنع طعاماً يكفي لثلاثين فقيراً أو تسعة وعشرين فقيراً حسب الشهر ويدعوهم إليه كما ذكر ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه حين كبر، ولا يجوز أن يطعم شخصاً واحداً مقدار ما يكفي الثلاثين أو التسعة وعشرين، يعني لابد أن يكون عن كل يوم مسكين. أما القسم الثاني من الوصف الرابع فهو العجز الذي يرجى زواله، فهو العجز الطارئ كمرض حدث على الإنسان في أيام الصوم، وكان يشق عليه أن يصوم، فنقول له: أفطر وأقض يوماً مكانه، لقول الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: 185) . أما الوصف الخامس: أن يكون مقيماً، وضده المسافر، فالمسافر وهو الذي فارق وطنه لا يلزمه الصوم، لقول الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولكن الأفضل أن يصوم إلا أن يشق عليه، فالأفضل الفطر، لقول أبي الدرداء رضي الله عنه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في يوم شديد الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحه (2) . أما إذا شق عليه الصوم فإنه يفطر ولابد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصيام فأفطر، ثم قيل له: إن بعض الناس قد صام فقال " أولئك العصاة، أولئك العصاة" (3) . أما الوصف السادس: أن يكون خالياً من الموانع أي من موانع الوجوب، وهذا يختص بالمرأة، فيشترط في وجوب الصوم عليها أداء ألا تكون حائضاً ولا نفساء، فإن كانت حائضاً أو نفساء فإنه لا يجب الصوم، وإنما تقتضي بدل الأيام التي أفطرت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم مقرراً ذلك " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم (4) فإذا حاضت المرأة فلا صوم عليها، بل تقضي في أيام أخر، وهنا مسألتنا ينبغي التفطن لهما: المسألة الأولى: أن بعض النساء تطهر في آخر الليل وتعلم أنها طهرت، ولكنها لا تصوم ذلك اليوم ظناً منها أنها إذا لم تغتسل فإنه لا يصح صومها، وليس الأمر كذلك، بل صومها يصح وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر. وأما المسألة الثانية: فهي أن بعض النساء تكون صائمة فإذا غربت الشمس وأفطرت جاءها الحيض قبل أن تصلي المغرب، فبعض النساء يقول: إنه إذا أتاها الحيض بعد الفطر وقبل صلاة المغرب فإن صومها ذاك النهار يفسد، وكذلك بعض النساء يبالغ أيضاً ويقول: إذا جاءها الحيض قبل صلاة العشاء فإن صومها ذلك اليوم يفسد، وكل هذا ليس بصحيح. المرأة إذا غابت الشمس وهي لم تر الحيض خارجاً فصومها صحيح، حتى لو خرج بعد غروب الشمس بلحظة واحدة، فصومها صحيح. هذه ست أوصاف إذا اجتمعت في الإنسان وجب عليه صوم رمضان أداء، ولا يحل له أن يفطر، فإن تخلف واحد منها فعلى ما سمعت. حكم صيام تارك الصلاة   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صوم الصبيان، رقم (1960) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، رقم (1136) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، رقم (1945) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، رقم (1122) (3) أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، رقم (1114) . (4) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الحائض تترك الصوم والصلاة، رقم (1951) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 السؤال (136) : فضيلة الشيخ، ما حكم صيام تارك الصلاة؟ الجواب: تارك الصلاة صومه ليس بصحيح ولا يقبل منه، لأن تارك الصلاة كافر مرتد، لقوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (التوبة: 11) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر؟ (1) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (2) ، ولأن هذا قول عامة الصحابة إن لم يكن إجماعاً منهم. قال عبد الله بن شقيق رحمه الله - وهو من التابعين المشهورين كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً تركه كفر غير الصلاة. وعلى هذا فإذا صام الإنسان وهو لا يصلي فصومه مردود غير مقبول ولا نافع له عند الله يوم القيامة، ونحن نقول له: صل ثم صم، أما أن تصوم ولا تصلي فصومك مردود عليك، لأن الكافر لا تقبل منه العبادة. حكم من يصلي ويصوم في رمضان فقط؟   (1) تقدم تخريجه ص (152) . (2) تقدم تخريجه ص (77) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 السؤال (137) : فضيلة الشيخ، ما حكم من يصوم ويصلي إذا جاء رمضان لكن إذا انسلخ رمضان انسلخ من الصلاة الصيام؟ الجواب: الذي يتبين لي من الأدلة أن ترك الصلاة لا يكون كفراً إلا إذا كان تركاً مطلقاً، وأما من يصلي ويخلي، فيصلي بعض الأحيان ويترك بعض الأحيان، الذي يبدو لي من الأدلة أنه لا يكفر بذلك، لقوله: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها - أي الصلاة - فقد كفر"، ولقوله: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" ولكن هذا الرجل الذي لا يصلي ولا يصوم إلا في رمضان أنا في شك من إيمانه لأنه لو كان مؤمناً حقا لكان يصلي في رمضان وفي غيره أما كونه لا يعرف ربه إلا في رمضان فأنا أشك في إيمانه لكني لا أحكم بكفره بل أتوقف فيه وأمره إلى الله عز وجل. حكم من يصوم أياماً ويفطر أياماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 السؤال (138) : فضيلة الشيخ، ما حكم من يصوم أياماً ويفطر أخرى؟ الجواب: جواب هذا السؤال يمكن أن يفهم مما سبق، وهو أن هذا الذي يصوم يوماً ويدع يوماً لا يخرج من الإسلام، بل يكون فاسقاً لتركه هذه الفريضة العظيمة التي هي أحد أركان الإسلام، ولا يقضي الأيام التي أفطرها، لأن قضاءه إياها لا يفيد شيئاً، فإنه لا يصلي بناء على ما أشرنا إليه سابقاً من أن العبادة الموقتة إذا أخرها الإنسان عن وقتها المحدد بلا عذر فإنها لا تقبل منه. قضاء الأشهر الفائتة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 السؤال (139) : فضيلة الشيخ، إذا كان الإنسان قد ترك أشهراً من رمضان بعد بلوغه ثم التزم الآن، فهل يلزمه قضاء هذه الأشهر؟ الجواب: القول الراجح من أقوال أهل العلم أنه لا يلزمه قضاء هذه الأشهر التي تكرها بلا عذر، بناء على ما سبق أن العبادة الموقتة إذا أخرها الإنسان عن وقتها المحدد لها شرعاً فإنها لا تقبل منه، فقضاؤه إياها لا يفيده شيئاً، وقد ذكرنا فيما سبق دليل ذلك من الكتاب والسنة والقياس، وعلى هذا فإذا كان الإنسان في أول شبابه لا يصلي ولا يصوم ثم من الله عليه بالهداية وصلى وصام، فإنه لا يلزمه قضاء ما فاته من صلاة وصيام، وكذلك لو كان يصلي ويزكي ولكنه لا يصوم فمن الله عليه بالهداية وصار يصوم، فإنه لا يلزمه قضاء ذلك الصوم بناء على ما سبق تقريره، وهو أن العبادة الموقتة بوقت إذا أخرها الإنسان عن وقتها بلا عذر لم تقبل منه، وإذا لم تقبل منه لم يفده قضاؤه إياها شيئاً. الأعذار المبيحة للفطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 السؤال (140) : فضيلة الشيخ، ما هي الأعذار المبيحة للفطر في شهر رمضان المبارك؟ الجواب: الأعذار المبيحة للفطر سبق الإشارة إلى بعضها وهو: المرض، والسفر، ومن الأعذار أن تكون المرأة حاملاً تخاف على نفسها أو على جنينها، ومن الأعذار أيضاً أن تكون المرأة مرضعاً تخاف إذا صامت على نفسها أو على رضيعها، ومن الأعذار أيضاً أن يحتاج الإنسان إلى الفطر لإنقاذ معصوم من هلكلة مثل أن يجد غريقاً في البحر أو شخصاً بين أماكن محيطة به فيها نار، فيحتاج في إنقاذه إلى الفطر، فله حينئذ أن يفطر ويمتدح، ومن ذلك أيضاً إذا احتاج الإنسان إلى الفطر للتقوي على الجهاد في سبيل الله، فإن ذلك من أسباب إباحة الفطر له، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في غزوة الفتح: " إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا" (1) ، فإذا وجد السبب المبيح للفطر وأفطر الإنسان به، فإنه لا يلزمه الإمساك بقية ذلك اليوم. فإذا قدر أن شخصاً أفطر لإنقاذ معصوم من هلكة فإنه يستمر مفطراً، لأنه أفطر بسبب يبيح له الفطر، فلا يلزمه الإمساك حينئذ، لكون حرمة ذلك اليوم قد زالت بالسبب المبيح للفطر. ولهذا نقول: القول الراجح في هذه المسألة أن المريض لو برئ في أثناء النهار وكان مفطراً فإنه لا يلزمه الإمساك، ولو قدم المسافر أثناء النهار إلى بلده وكان مفطراً فإنه لا يلزمه الإمساك، ولو طهرت الحائض في أثناء النهار فإنه لا يلزمها الإمساك، لأن هؤلاء كلهم أفطروا بسبب مبيح للفطر، فكان ذلك اليوم في حقهم لا حرمة له بإباحة الشرع الإفطار فيه، فلا يلزمه الإمساك إذا زال السبب المبيح للفطر.   (1) أخرجه مسلم، كتاب الصوم، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، رقم (1120) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 السؤال (141) : فضيلة الشيخ، لكن ما الفرق بين هذه الحالة لو جاء العلم بدخول رمضان في أثناء النهار؟ الجواب: الفرق بينهما ظاهر، لأنه إذا قامت البينة في أثناء النهار فإنه يلزمه الإمساك، لأنه في أول النهار، إنما أفطروا بالعذر، عذر الجهل، ولهذا لو كان عالمين بأن هذا اليوم من رمضان لزمهم الإمساك، أما أولئك القوم الآخرون الذين أشرنا إليهم فهم يعلمون أنه من رمضان، لكن الفطر مباح لهم، بينهما فرق ظاهر. مفسدات الصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 السؤال (142) : فضيلة الشيخ، ما هي مفسدات الصوم؟ وهل لها شروط؟ الجواب: نعم مفسدات الصوم هي المفطرات، وهي: الجماع، والأكل والشرب، وإنزال المني بشهوة، وما بمعنى الأكل والشرب، والقيء عمداً، والحجامة، وخروج دم الحيض والنفاس، هذه ثمانية مفطرات. أما الأكل والشرب والجماع: فدليلها قوله تعالى (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة: 187) . وأما إنزال المني بشهوة: فدليله قوله تعالى في الحديث القدسي: " يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" (1) . وإنزال المني شهوة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر" (2) والذي يوضع إنما هو المني الدافق، ولهذا كان القول الراجح أن المذي لا يفسد الصوم حتى وإن كان بشهوة. الخامس: ما كان بمعنى الأكل والشرب، وهي الإبر المغذية التي يستغني بها عن الأكل والشرب، لأن هذه وإن كانت ليست أكلاً ولا شرباً لكنها بمعنى الأكل والشرب حيث يستغنى بها عنه، وما كان بمعنى الشيء فله حكمه، ولذلك يتوقف بقاء الجسم على تناول هذه الإبر، بمعنى أن الجسم يبقى على هذه الإبر وإن كان لا يتغذى بغيرها، أما الإبر التي لا تغذي ولا تقوم مقام الأكل والشرب، فهذه لا تفطر سواء تناولها الإنسان في الوريد أو في العضلات أو في أي مكان في بدنه. والسادس: القيء عمداً، أي: أن يتقيأ الإنسان ما في بطنه حتى يخرج من فمه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن الني صلى الله عليه وسلم قال: " من استقاء عمداً فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه" (3) . والحكمة في ذلك أنه إذا تقيأ فرغ بطنه من الطعام، واحتاج البدن إلى ما يرد عليه هذا الخلو، ولهذا نقول: إذا كان الصوم فرضاً فإنه لا يجوز للإنسان أن يتقيأ، لأنه إذا تقيأ ضر نفسه وأفسد صومه الواجب. وأما السابع: وهو خروج دم الحجامة، فلقول النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر الحاجم والمحجوم" (4) . وأما خروج دم الحيض والنفاس، فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" (5) ، وقد أجمع أهل العلم على أن الصوم لا يصح من الحائض ومثلها النفساء. وهذه المفطرات وهي مفسدات الصوم لا تفسده إلا بشروط ثلاثة وهي: العلم، والذكر، والقصد، أي أن الصائم لا يفسد صومه بهذه المفسدات إلا بشروط ثلاثة: أن يكون عالماً بالحكم الشرعي، وعالماً بالوقت أي بالحال، فإن كان جاهلاً بالحكم الشرعي أو بالوقت فصيامه صحيح، لقول الله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: 286) ، فقال الله تعالى: " لقد فعلت" (6) ، ولقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (الأحزاب: 5) ، ولثبوت السنة في ذلك، ففي الصحيح من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه (7) أنه صام فجعل تحت وسادته عقالين وهما الحبلان اللذان تشد بهما يد الجمل، أحدهما أسود والثاني أبيض، وجعل يأكل ويشرب حتى تبين له الأبيض من الأسود ثم أمسك، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فبين له النبي صلى الله عليه أنه ليس المراد بالخيط الأبيض والأسود في الآية الخيطين المعروفين، وإنما المراد بالخيط الأبيض بياض النهار، وبالخيط الأسود الليل أي: سواده ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الصوم، لأنه كان جاهلاً بالحكم يظن أن هذا هو معنى الآية الكريمة. وأما الجهل بالوقت فلحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وهو في البخاري (8) ، قالت: أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به، ولو أمرهم به لنقل إلى الأمة، لقول الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9) ، فلما لم ينقل مع توافر الدواعي على نقله، علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم به، ولما لم يأمرهم به - أي بالقضاء - علم أنه ليس بواجب، وعلى هذا فلو قام الإنسان يظن أنه في الليل فأكل أو شرب، ثم تبين له أن أكله وشربه كان بعد طلوع الفجر، فإنه ليس عليه قضاء، لأنه كان جاهلاً. وأما الشرط الثاني: فهو أن يكون ذاكراً، وضد الذكر النسيان، فلو أكل أو شرب ناسياً فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه لقول الله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: 286) ، فقال الله تعالى: "قد فعلت" (9) ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" (10) . وأما الشرط الثالث وهو القصد، فهو أن يكون الإنسان مختاراً لفعل هذا المفطر، فإن كان غير مختار فإن صومه صحيح، سواء كان مكرهاً أم غير مكره، لقول الله تعالى في المكره على الكفر: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 106) ، فإذا كان الحكم - حكم الكفر - يرتفع بالإكراه فما دونه من باب أولى، وللحديث الذي يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (11) ، وعلى هذا فلو طار إلى أنف الصائم غبار ووجد طعمه في حلقه ونزل إلى معدته فإنه لا يفطر بذلك، لأنه لم يتقصده، وكذلك لو أكره على الفطر فأفطر دفعاً للإكراه فإن صومه صحيح، لأنه غير مختار، كذلك لو احتلم وهو نائم، فإن صومه صحيح، لأن النائم لا قصد له، وكذلك لو أكره الرجل زوجته وهي صائمة فجامعها فإن صومها صحيح، لأنها غير مختارة، وهاهنا مسألة يجب التفطن لها، وهي أن الرجل إذا أفطر بالجماع في نهار رمضان، والصوم واجب عليه، فإنه يلزم حقه أو يترتب على جماعة أمور: الأول: إثم. والثاني: القضاء. والثالث: الكفارة. ويلزمه الإمساك بقية يومه، ولا فرق بين أن يكون عالماً بما يجب عليه في هذا الجماع أو جاهلاً، يعني أن الرجل إذا جامع في صيام رمضان والصوم واجب عليه ولكنه لا يدري أن الكفارة تجب عليه فإن الكفارة واجبة، لأنه تعمد المفسد، وتعمده مفسد تستلزم ترتب الأحكام عليه، بل في حديث أبي هريرة (12) أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: " ما أهلكك؟ " قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنام صائم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة مع أن الرجل لا يعلم عنها. وفي قولنا: فالصوم واجب عليه، احتراز مما إذا جامع الصائم في رمضان وهو مسافر مثلاً، فإنه لا تلزمه الكفارة، مثل أن يكون الرجل مسافراً بأهله في رمضان وهما صائمان، ثم يجامع أهله، فإنه ليس عليه كفارة، وذلك لأن المسافر إذا شرع في الصيام لا يلزمه إتمامه، إن شاء أفطر وقضى، وإن شاء استمر. صيام الصبي   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب فضل الصوم، رقم (1894) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم (1151) (2) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم (1006) . (3) أخرجه أحمد (2/498) ، والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء فيمن استقاء عمداً، رقم (720) ، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب ما جاء في الصائم يقيء رقم (1676) . (4) أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم، رقم (2367) ، والترمذي، كتاب الصوم، باب كراهية الحجامة للصائم، رقم (774) ، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم، رقم (1679) . (5) تقدم تخريجه ص (253) . (6) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ) ، رقم (126) . (7) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ، رقم (1916) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر،، رقم (1090) . (8) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، رقم (1959) (9) تقدم تخريجه ص (130) . (10) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الصائم إذا كان أكل أو شرب ناسياً، رقم (1933) ، ومسلم كتاب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، رقم (1155) . (11) أخرجه بن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، رقم (2043) ، والبيهقي في " السنن" (6/84) ، والدارقطني في "السنن" (4/170) . (12) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء..، رقم (1936) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، رقم (1111) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 السؤال (143) : فضيلة الشيخ، ما هو حكم صيام الصبي الذي لم يبلغ؟ الجواب: صيام الصبي كما أسلفنا ليس بواجب عليه، ولكن على ولي أمره أن يأمره به ليعتاده، وهو - أي الصيام - في حق الصبي الذي لم يبلغ سُنة، له أجر بالصوم، وليس عليه وزر إذا تركه. صيام المجنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 السؤال (144) : فضيلة الشيخ، ما حكم صيام من يعقل زمناً ويجن زمناً آخر، أو يعقل زمناً ويخرف ويهذري زمناً آخر؟ الجواب: الحكم يدور مع علته، ففي الأوقات التي يكون فيها صاحياً عاقلاً يجب عليه الصوم، وفي الأوقات التي يكون فيها مجنوناً مهذرياً لا صوم عليه، فلو فرض أنه يجن يوماً ويفيق يوماً، أو يهذري يوماً ويصحو يوماً، ففي اليوم الذي يصحو فيه يلزمه الصوم، وفي الذي لا يصحو فيه لا يلزمه الصوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 السؤال (145) : فضيلة الشيخ، لكن لو حدث له أثناء النهار أن كان عاقلاً ثم ذهب عقله؟ الجواب: إذا جن في أثناء النهار بطل صومه، لأنه صار من غير أهل العبادة، وكذلك إذا هذرى في أثناء اليوم فإنه لا يلزمه إمساكه، ولكنه يلزمه القضاء، وكذلك الذي جن في أثناء النهار يلزمه القضاء، لأنه في أول النهار كان من أهل الوجوب. صيام يوم الشك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 السؤال (146) : فضيلة الشيخ، ما حكم صيام يوم الشك خشية أنه من رمضان؟ الجواب: صيام يوم الشك أقرب الأقوال فيه أنه حرام، لقول عمار بن ياسر: " من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"، ولأن الصائم في يوم الشك متعد لحدود الله عز وجل، لأن حدود الله أن لا يصام رمضان إلا برؤيته أي برؤية هلاله، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه" (1) . ثم إن الإنسان الذي تحت ولاية مسلمة يتبع ولايته، فإذا ثبت عند ولي الأمر دخول الشهر فليصم تبعاً للمسلمين، وإذا لم يثبت فلا يصم، وقد سبق لنا في أول كتاب الصيام ما إذا رأى الإنسان وحده هلال رمضان هل يصوم أو لا يصوم؟ صام في بلد ثم انتقل إلى بلد آخر   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، رقم (1914) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، رقم (1082) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 السؤال (147) : فضيلة الشيخ، ما حكم من صام في بلد مسلم ثم انتقل إلى بلد آخر تأخر أهله عن البلد الأول ولزم من متابعتهم صيام أكثر من ثلاثين يوم أو العكس؟ الجواب: إذا انتقل الإنسان من بلد إسلامي إلى بلد إسلامي وتأخر إفطار البلد الذي انتقل إليه، فإنه يبقى معهم حتى يفطروا، لأن الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، فهو كما لو سافر إلى بلد تأخر فيه غروب الشمس، فإنه قد يزيد عن اليوم المعتاد ساعتين أو ثلاثاً أو أكثر، ولأنه إذا انتقل إلى البلد الثاني فإن الهلال لم ير فيه، وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن لا نصوم إلا لرؤيته، وكذلك قال: "أفطروا لرؤيته" (1) ، وأما العكس مثل أن ينتقل من بلد تأخر ثبوت الشهر عنده، إلى بلد تقدم فيه ثبوت الشهر فإنه يفطر معهم، ويقضي ما فاته من رمضان، إن فاته يوم قضي يوماً، وإن فاته يومان قضي يومين.   (1) تقدم تخريجه ص (247) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 السؤال (148) : فضيلة الشيخ، لكن قد يقول قائل: لماذا يؤمر بصيام أكثر من ثلاثين يوماً في الأولى ويقضي في الثانية؟ الجواب: يقضي في الثانية لأن الشهر لا يمكن أن ينقص عن تسعة وعشرين يوماً، ويزيد على الثلاثين يوماً، لأنه لم ير الهلال، وفي الأول قلنا له أفطر وإن تم تتم تسعة وعشرين يوماً، لأن الهلال رؤي فإذا رؤي لابد من الفطر، يعني يمكن أن تصوم يوماً من شوال، ولما كنت ناقصاً عن تسعة وعشرين لزمك أن تتم تسعة وعشرين، بخلاف الثاني فإنه لا يزال في رمضان، إذا قدمت إلى بلد لم يروا الهلال فأنت في رمضان فكيف تفطر فيلزمك البقاء وإذا زاد عليك الشهر فهو كزيادة الساعات في اليوم. آداب الصيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 السؤال (149) : فضيلة الشيخ، ما هي آداب الصيام؟ الجواب: من آداب الصيام لزوم تقوى الله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (1) . ومن آداب الصيام: أن يكثر من الصدقة والبر والإحسان إلى الناس، لا سيما في رمضان، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن (2) . ومنها: أن يتجنب ما حرم الله عليه من الكذب والسب والشتم والغش والخيانة، والنظر المحرم، والاستماع للشيء المحرم، إلى غير ذلك من المحرمات التي يجب على الصائم وغيره أن يتجنبها، ولكنها للصائم أوكد. ومن آداب الصيام: أن يتسحر، وأن يؤخر السحور، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " تسحروا فإن في السحور بركة" (3) . ومن آدابه أيضاً: أن يفطر على رطب، فإن لم يجد فتمر، فإن لم يجد فعلى ماء، وأن يبادر بالفطر من حين أن يتحقق غروب الشمس أو يغلب على ظنه أنها غربت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر (4) . حكم أكل وشرب من شك في طلوع الفجر   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، رقم (1903) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان، رقم (1902) ، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير رقم (2308) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب، رقم (1923) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل السحور، رقم (1096) . (4) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب تعجيل الفطر، رقم (1957) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل السحور وتعجيل الفطر، رقم (1098) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 السؤال (150) : فضيلة الشيخ، ما حكم أكل وشرب من شك في طلوع الفجر؟ الجواب: يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب حتى يتبين له الفجر، لقول الله تعالى: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة: 187) ، فما دام لم يتيقن أن الفجر قد طلع فله الأكل ولو كان شاكاً حتى يتقين، بخلاف من شكل في غروب الشمس، فإنه لا يأكل حتى يتيقن غروب الشمس أو يغلب على ظنه غروب الشمس. حكم من يأكل أثناء الأذان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 السؤال (151) : فضيلة الشيخ، أيضاً كثير من الناس يأكل أثناء أذان الفجر حتى يكتمل الأذان، فما حكم هذا الأكل الذي يكون في أثناء الأذان؟ الجواب: حكم هذا الأكل الذي يكون في أثناء الأذان حسب أذان المؤذن، فإن كان لا يؤذن إلا بعد أن يتيقن طلوع الفجر، فإن الواجب الإمساك من حين أن يؤذن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" (1) ، وإن كان لا يتيقن طلوع الفجر، فالأولى أن يمسك إذا أذن، وله أن يأكل حتى يفرغ المؤذن ما دام لم يتيقن، لأن الأصل بقاء الليل، لكن الأفضل الاحتياط، وأن لا يأكل بعد أذان الفجر. العموم والغوص في الماء للصائم   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال"، رقم (1919، 1918) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 السؤال (152) : فضيلة الشيخ، ما حكم العوم للصائم أو الغوص في الماء؟ الجواب: لا بأس أن يغوص الصائم في الماء أو يعوم فيه يسبح، لأن ذلك ليس بالمفطرات، والأصل الحل حتى يقوم دليل على الكراهة أو على التحريم، وليس هناك دليل على التحريم ولا على الكراهة، وإنما كرهه بعض أهل العلم خوفاً من أن يدخل إلى حلقه شيء وهو لا يشعر به. القطرة والمرهم للصائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 السؤال (153) : فضيلة الشيخ، ما حكم القطرة والمرهم في العين؟ الجواب: لا باس للصائم أن يكتحل وأن يقطر في عينه، وأن يقطر كذلك في أذنه، حتى وإن وجد طعمه في حلقه، فإنه لا يفطر بهذا؛ لأنه ليس بأكل ولا شرب، ولا بمعني الأكل والشرب، والدليل إنما جاء في منع الأكل والشرب، فلا يلحق بهما ما ليس في معناهما. وهذا الذي ذكرناه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الصواب. استعمال فرشة الأسنان أثناء الأذان أو بعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 السؤال (154) : فضيلة الشيخ، ما حكم ضرب الأسنان بالفرشاة والمعجون بعد أذان الفجر أو أثناء الأذان؟ الجواب: أثناء الأذان سبق في الأكل والشرب، وهو أعظم من ضرب الفرشاة، أما بعد الأذان، والأصلح أن تقول بعد طلوع الفجر سواء مباشرة أو في أثناء النهار، فلا باس أن ينظف الإنسان أسنانه بالفرشاة والمعجون، لكن نظراً لقوة نفوذ المعجون ينبغي ألا يستعمله الإنسان في حال الصيام، لأنه ينفذ إلى الحلق والمعدة من غير أن يشعر به الإنسان، وليس هناك ضرورة تدعو إليه، فليمسك حتى يفطر، ويكون عمله بهذا في الليل لا في النهار، لكنه في الأصل جائز ولا بأس به. حكم التحليل والتبرع بالدم للصائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 السؤال (155) : فضيلة الشيخ، ما حكم التحليل والتبرع بالدم للصائم؟ الجواب: التحليل للصائم لا بأس به يعني أخذ عينة من دمه لأجل الكشف عنها والاختبار لها جائز ولا بأس به، وأما التبرع بالدم فالذي يظهر أن التبرع بالدم يكون كثيراً فيعطي حكم الحجامة، ويقال للصائم: لا تتبرع بدمك إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، فلا بأس بهذا، مثل لو قال الأطباء: إن هذا الرجل الذي أصابه النزيف إن لم نحقنه بالدم الآن مات، ووجدوا صائماً يتبرع بدمه، وقال الأطباء: لابد من التبرع الآن فحينئذ لا بأس للصائم أن يتبرع بدمه ويفطر بعد هذا، ويأكل ويشرب بقية يومه؛ لأنه أفطر للضرورة كإنقاذ الحريق والغريق. استعمال المراهم والمرطبات أثناء الصيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 السؤال (156) : فضيلة الشيخ، هناك بعض الناس من الصوام يجد نشوفة في أنفه أو في شفاهه، فيستعمل بعض المراهم أو المرطبات لذلك فما حكمه؟ الجواب: يجد بعض الصوام نشوفه في أنفه ونشوفه في شفتيه، فلا بأس أن يستعمل الإنسان ما يندي الشفتين والأنف من مرهم، أو يبله بالماء بخرقة أو شبه ذلك، ولكن يحترز من أن يصل شيء إلى جوفه من هذا الشيء الذي أزال به النشوفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 السؤال (157) : فضيلة الشيخ، لكن لو وصل شيء من غير قصد؟ الجواب: إذا وصل شيء من غير قصد فلا شيء عليه كما لو تمضمض ووصل شيء إلى جوفه؛ فإنه لا يفطر بها. حقن الإبر في العضل والوريد للصائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 السؤال (158) : فضيلة الشيخ، ما حكم حقن الإبر في العضل وفي الوريد؟ الجواب: حقن الإبر في الوريد والعضل والورك ليس فيه بأس، ولا يفطر به الصائم؛ لأن هذا ليس من المفطرات ولا بمعني المفطرات، فهو ليس بأكل ولا شرب، ولا بمعني الأكل والشرب، وقد سبق أن قلنا أن ذلك لا يؤثر، وإنما المؤثر حقن المريض بما يغني عن الأكل والشرب. المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 السؤال (159) : فضيلة الشيخ، ما حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق في نهار رمضان للصائم؟ الجواب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: ((أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً (1) ، وهذا يدل على أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق، وكذلك لا يبالغ في المضمضة؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى نزول الماء إلى جوفه، فيفسد به صومه، لكن لو فرض أنه بالغ ودخل جوفه دون قصد، فإنه لا يفطر بذلك؛ لأن من شروط الفطر كما سبق أن يكون الصائم قاصداً لفعل ما يحصل به الفطر. شم الطيب للصائم   (1) أخرجه أبو داود كتاب الطهارة، باب في الاستنثار، رقم (142) ، والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، رقم (788) ، والنسائي، كتاب الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق، رقم (87) ، وابن ماجة، كتاب الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار رقم (406) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 السؤال (160) : فضيلة الشيخ، ما حكم شم الطيب سواء كان من الرذاذ (البخاخ) أو شم الطيب الذي هو البخور؟ الجواب: شم الطيب لا بأس به سواء كان دهناً أم بخوراً، لكن إذا كان بخوراً فإنه لا يستنشق دخانه؛ لأن الدخان له جرم ينفذ إلى الجوف، فهو جسم يدخل إلى الجوف فيكون مفطراً كالماء وشبهه، وأما مجرد شمه بدون أن يستنشقه حتى يصل إلى جوفه فلا بأس به. الفرق بين البخور والقطرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 السؤال (161) : فضيلة الشيخ، ربما يقال: ما الفرق بين البخور والقطرة التي تنزل إلى الحلق ويطعم بها؟ الجواب: الفرق بينهما أن الذي يستنشقه قد تعمد أن يدخله إلي جوفه، وأما القطرة فلم يقصد أن تصل إلى جوفه، وإنما قصد أن يقطر في أنفه فقط. الأكل والشرب ناسياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 السؤال (162) : فضيلة الشيخ، ما حكم من أكل أو شرب ناسياً؟ وكيف يصنع إذا ذكر أثناء ذلك؟ الجواب: سبق الكلام أن الناسي لا يفسد صومه ولو أكل كثيراً وشرب كثيراً ما دام على نسيانه، فصومه صحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) (1) ولكن يجب من حين أن يذكر أن يمتنع عن الأكل والشرب حتى لو فرضنا أن الأكلة أو الشربة في فمه وجب عليه لفظها، لأن العذر الذي جعله الشارع مانعاً من التفطير قد زال. ماذا يفعل من رأى صائماً يأكل؟   (1) تقدم تخريجه (263) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 السؤال (163) : فصيلة الشيخ، ينتشر عند كثير من الناس أن الإنسان إذا رأى صائماً يأكل ألا يذكره، فما مدى صحة هذا الكلام، وكيف يصنع من يرى صائماً يأكل؟ الجواب: من رأى صائماً يأكل فليذكره؛ لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى، كما لو رأى الإنسان شخصاً مصلياً إلى غير القبلة، أو رأى شخصاً يريد أن يتوضأ بماء نجس وما أشبه ذلك، فإنه يجب عليه تبيين الأمر له، والصائم وإن كان معذوراً لنسيانه لكن أخوه الذي يعلم بالحال يجب عليه أن يذكره، ولعل هذا يؤخذ أيضاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)) (1) فإنه إذا كان يذكر الناسي في الصلاة، فكذلك الناسي في الصوم يذكر. خروج الدم من الصائم   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم (401) ، ومسلم، وكتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (572) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 السؤال (164) : فضيلة الشيخ، ما حكم خروج الدم من الصائم من فمه أو أنفه أو بقية جسمه؟ الجواب: لا يضره خروج ذلك، يعني بغير قصد منه، فلو أرعف أنفه وخرج منه دم كثير، فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 السؤال (165) : فضيلة الشيخ، فإن تسبب في خروج الدم كأن يخلع ضرسه مثلاً؟ الجواب: لا حرج عليه أيضاً، لأنه لم يخلع ضرسه ليخرج الدم، وإنما خلع ضرسه لألم فيه، فهو إنما يريد إزالة هذا الضرس، والغالب أن الدم الذي يخرج من خلع الضرس دم يسير لا يكون له معنى الحجامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 السؤال (166) : فضيلة الشيخ، إذا أفطر في الأرض مثلاً ثم أقعلت الطائرة وبانت له الشمس فما الحكم؟ الجواب: الحكم أنه لا يلزمه الإمساك يعني أنه لما غربت الشمس تم يومه وأفطر بمقتضى الدليل الشرعي، وما عمله الإنسان بمقتضى الدليل الشرعي فإنه لا يؤمر بإعادته. الجماع في نهار رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 السؤال (167) : فضيلة الشيخ، ما حكم الجماع في نهار رمضان ذاكراً أو ناسياً؟ وما الذي يلزمه؟ الجواب: الجماع في نهار رمضان كغيره من المفطرات، إن كان الإنسان في سفر ليس عليه في ذلك بأس سواء كان صائماً أم مفطراً، لكن إذا كان صائماً وجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأما إن كان ممن يلزمه الصوم، فإنه إن كان ناسياً فلا شيء عليه أيضاً، لأن جميع المفطرات إذا نسي الإنسان فأصابها فصومه صحيح، وإن كان ذاكراً ترتب على ذلك خمسة أمور: الإثم، وفساد صوم ذلك اليوم، ولزوم الإمساك، ولزوم القضاء والكفارة، والكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أهلكك؟)) قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة عتق رقبة، فقال إنه لا يجد، فقال: صيام شهرين متتابعين، فقال: إنه لا يستطيع، فقال: إطعام ستين مسكيناً، فقال: إنه لا يجد، ثم جلس الرجل وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذ هذا فتصدق به)) فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه أو نواجذه ثم قال: ((أطعمه أهلك)) (1) .   (1) تقدم تخريجه (264) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 السؤال (168) : فضيلة الشيخ، إذا تعدد الجماع في اليوم أو في شهر رمضان، فهل تتعدد هذه الكفارة؟ الجواب: المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه إذا تعدد في يوم ولم يكفر عن الجماع الأول لزمه كفارة واحدة، وإن تعدد في يومين لزمه لكل يوم كفارة، لأن كل يوم عبادة مستقلة. صيام المسافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 السؤال (169) : فضيلة الشيخ، ما حكم صيام المسافر إذا شق عليه؟ الجواب: إذا شق عليه الصوم مشقة محتملة فهو مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد غلب عليه، والناس حوله زحام فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: صائم، قال: ((ليس من البر الصيام في السفر)) (1) ، وأما إذا شق عليه مشقة شديدة فإن الواجب عليه الفطر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما شكا إليه الناس أنهم قد شق عليهم الصيام أفطر ثم قيل له: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة)) (2) . وأما من لا يشق عليه الصوم فالأفضل أن يصوم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان كما قال أبوالدراء رضي الله عنه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في حر شديد وما منا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة (3)   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي صلي الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر..، رقم (1946) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، رقم (1115) . (2) تقدم تخريجه (253) (3) تقدم تخريجه (253) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 السؤال (170) : فضيلة الشيخ، هل للفطر في السفر أيام معدودة؟ الجواب: ليس له أيام معدودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 السؤال (171) : فضيلة الشيخ، يعني لو كان الإنسان يريد أن يسافر مثلاً أو يبقى في مدينة غير مدينته أكثر من خمسة أيام أو ستة أيام؟ الجواب: نعم له أن يفطر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة دخلها في رمضان في العشرين منه، ولم يصم بقية الشهر كما صح ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنه فيما أخرجه البخاري عنه، وبقي بعد ذلك تسعة أيام أو عشرة فبقي عليه الصلاة والسلام في مكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة ويفطر في رمضان. حكم صيام المعتمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 السؤال (172) : فضيلة الشيخ، كثير من المسلمين يعتمر في شهر رمضان المبارك، لكنه يتحرج عن الإفطار؛ لأنه ذهب لعبادة، فما حكم صيام المعتمر في رمضان أثناء بقائه في مكة؟ الجواب: حكم صيامه أنه لا بأس به، وقد سبق لنا قبل قليل أن المسافر إذا لم يشق عليه الصوم فالأفضل أن يصوم، وإن أفطر فلا حرج عليه، وإذا كان هذا المعتمر يقول: إن بقيت صائماً شق عليّ أداء نسك العمرة، فأنا بين أمرين: إما أن أؤخر أداء أعمال العمرة إلى ما بعد غروب الشمس وأبقى صائماً، وإما أن أفطر وأؤدي أعمال العمرة حين وصولي إلى مكة، فنقول له: الأفضل أن تفطر وأن تؤدي أعمال العمرة حين وصولك إلى مكة؛ لأن هذا - أعني أداء العمرة من حين الوصول إلى مكة - هذا هو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. السفر في رمضان من أجل الإفطار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 السؤال (173) : فضيلة الشيخ، ما حكم السفر في شهر رمضان من أجل الإفطار؟ وكيف يكون ذلك؟ الجواب: الصيام في الأصل واجب على الإنسان، بل هو فرض وركن من أركان الإسلام كما هو معروف، والشيء الواجب في الشرع لا يجوز للإنسان أن يفعل حيلة ليسقطه عن نفسه، فمن سافر من أجل أن يفطر كان السفر حراماً عليه، وكان الفطر كذلك حراماً عليه، فيجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يرجع عن سفره ويصوم، فإن لم يرجع وجب عليه أن يصوم ولو كان مسافراً. وخلاصة الجواب: أنه لا يجوز للإنسان أن يتحيل على الإفطار في رمضان بالسفر، لأن التحيل على إسقاط الواجب لا يسقط به، كما أن التحيل على المحرم لا يجعله مباحاً. قضاء الفائت من رمضان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 السؤال (174) : فضيلة الشيخ، ما حكم قضاء الفائت من رمضان، ومتى يكون ذلك؟ الجواب: المبادرة بقضاء رمضان أفضل من التأخير؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، كونه يبادر ويقضي ما عليه من دين الصوم أحزم وأحرص على الخير، ولولا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان (1) . لولا هذا الحديث لقلنا بوجوب المبادرة، وهذا الحديث يدل على أن من عليه شيء من رمضان لا يؤخره إلى رمضان التالي وهو كذلك، فلا يجوز لشخص عليه قضاء من رمضان أن يؤخره إلى رمضان آخر إلا من عذر، كما لو بقي مريضاً لا يستطيع، أو كانت امرأة ترضع ولم تستطع أن تصوم، فلا حرج عليها أن تؤخر قضاء رمضان الفائت إلى ما بعد رمضان التالي.   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب متى يقضي قضاء رمضان؟ رقم (1950) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء رمضان في شعبان، رقم (1416) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 السؤال (175) : فضيلة الشيخ، هناك بعض المسلمين يعتبرون العبادة إذا فاتت أنها تسقط، فإذا فاتت الصلاة عن مكانها لا تؤدى، وإذا فات رمضان أو فات شيء من رمضان لا يصومونه، فما حكم صيام الفائت من رمضان؟ الجواب: سبق أن ذكرنا قاعدة وهي: أن العبادات الموقتة إذا أخرجها الإنسان عن وقتها بغير عذر فإنها لا تصح منه أبداً، لو كررها ألف مرة، وعليه أن يتوب، والتوبة كافية، أما إذا كان ترك صيام رمضان لعذر من مرض أو سفر أو غيرهما فعليه القضاء كما قال الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر) (البقرة: 185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 السؤال (176) : فضيلة الشيخ، إذا أفطر الإنسان في شهر رمضان ثم أتى رمضان الثاني دون عذر في قضاء هذا الفائت فهل يلزمه شيء مع الأداء؟ الجواب: القول الراجح أنه لا يلزمه إلا القضاء فقط، وأنه لا يلزمه الإطعام؛ لعموم قوله تعالى:) وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر) فذكر الله تعالى عدة من أيام أخر ولم يذكر إطعاماً، والأصل براءة الذمة حتى يقوم دليل يدل على الوجوب. الفرق بين الأداء والقضاء في شهر رمضان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 السؤال (177) : فضيلة الشيخ، هل هناك فوارق بين الأداء والقضاء في شهر رمضان؟ الجواب: نعم، بينهما فوارق عظيمة القضاء كما قلت آنفاً موسع إلى رمضان الثاني، والأداء مضيق لابد أن يكون في شهر رمضان. ثانياً: الأداء تجب الكفارة في الجماع فيه، والقضاء لا تجب الكفارة في الجماع فيه، ثالثاً: الأداء إذا أفطر الإنسان في أثناء النهار بلا عذر فسد صومه، ولكن يلزمه الإمساك بقية اليوم احتراماً للزمن، وأما القضاء فإذا أفطر الإنسان في أثناء اليوم فسد صومه ولكن لا يلزمه الإمساك؛ لأنه لا حرمة للزمن في القضاء، إذ إن القضاء واسع في كل الأيام. حكم من مات وعليه قضاء من رمضان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 السؤال (178) : فضيلة الشيخ، ما حكم من مات وعليه قضاء من شهر رمضان؟ الجواب: إن مات وعليه قضاء من رمضان فإنه يصوم عنه وليه وهو قريبه أو وارثه، لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه)) (1) فإن لم يصم وليه أطعم عنه عن كل يوم مسكيناً.   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، رقم (1952) ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، رقم (1147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 السؤال (179) : فضيلة الشيخ، إذا صام المسلم بعض رمضان ثم توفي عن بقيته، فهل يلزم وليه أن يكمل عنه؟ الجواب: لا يلزم وليه أن يكمل عنه، ولا أن يطعم عنه؛ لأن الميت إذا مات انقطع عمله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (1) فعلى هذا إذا مات فإنه لا تقضى عنه ولا يطعم عنه، بل حتى لو مات في أثناء اليوم فإنه لا يصام عنه ولا يطعم عنه. صلاة التراويح   (1) تقدم تخريجه ص (106) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 السؤال (180) : فضيلة الشيخ، مما يتعبد أو يتقرب به إلى الله عز وجل في شهر رمضان التراويح، فما المقصود بالتراويح والتهجد؟ الجواب: التراويح: القيام، قيام رمضان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) (1) ، وسميت تراويح؛ لأن الناس فيما سبق كانوا يطيلونها، وكلما صلوا أربع ركعات- يعني بتسليمتين - استراحوا قليلاً ثم استأنفوا، وعلى هذا يحمل حديث عائشة رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً، فلا تسألن عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً)) (2) فإنها تريد بذلك أنه يصلي أربعاً بتسليمتين، لكن يفصل بينهما وبين الأربع الأخريات. وهذه التراويح سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه صلى بأصحابه ثلاث ليال ثم تأخر، وقال: ((إني خشيت أن تفرض عليكم)) (3) ، وينبغي للإنسان أن لا يفرط فيها؛ لينال أجر من قام رمضان، وهو مغفرة ما تقدم من الذنب، وينبغي أن يحافظ عليها مع الإمام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) (4) ولا يخفى أن التراويح التي تفعل الآن فيها أخطاء من الأئمة ومن غيرهم. أخطاء تقع في صلاة التراويح   (1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، رقم (37) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، رقم (759) . (2) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره، رقم (1147) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، رقم (738) . (3) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل، رقم (1129) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان، رقم (761) (4) أخرجه الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في قيام رمضان، رقم (806) ، والنسائي، كتاب قيام الليل، باب قيام شهر رمضان، رقم (1605) ، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، رقم (1327) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 السؤال (181) : فضيلة الشيخ، نود الإشارة إلى بعض الأخطاء التي تقع في صلاة التراويح؟ الجواب: ذكرنا فيما سبق أن هناك أخطاء يقع فيها بعض الأئمة، وكذلك أخطاء يقع فيها بعض الناس من غير الأئمة. أما أخطاء الأئمة: فكثير من الأئمة يسرع في التراويح إسراعاً عظيماً بحيث لا يتمكن الناس من الطمأنينة وراءه، ويشق على كبار السن والضعفاء والمرضى ونحوهم، وهذا خلاف الأمانة التي حملوا إياها، فإن الأمام مؤتمن يجب عليه أن يفعل ما هو الأفضل للمأمومين، هو لو كان يصلي وحده لكان حراً، إن شاء أسرع على وجه لا يخل بالطمأنينة، وإن شاء أبطأ، لكن إذا كان إماماً يجب عليه أن يتبع ما هو الأفضل للمأموم، وقد نص أهل العلم على أنه يكره للإمام أن يسرع سرعة تمنع المأمومين أو بعضهم من فعل ما يسن، فكيف بمن يسرع سرعة تمنعهم أو تمنع بعضهم من فعل ما يجب من الطمأنينة والمتابعة. كذلك بعض الأئمة يصلي التراويح على صفة الوتر الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها أحياناً، يوتر بخمس يسردها سرداً لا يجلس إلا في آخرها، أو سبعاً، لا يجلس إلا في آخرها، أو تسعاً يجلس في الثامنة، ثم يتشهد، ثم يقوم ويصلي التاسعة. فبعض الأئمة يفعل ذلك، وهذا لا أعلمه وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قام في الناس إماماً، وإنما كان يفعله في بيته، وهذا الفعل وإن كان له أصل من السنة أن يوتر الإنسان بخمس أو سبع لا يجلس إلا في آخرها، أو بتسع يجلس في الثامنة، ثم يتشهد ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ويتشهد ويسلم، لكن كون الإمام يفعله في رمضان يشوش على الناس، فيدخل الإنسان على أنه نوى ركعتين، ثم إن بعض الناس قد يحتاج إلى الخروج إذا صلى ركعتين أو صلى أربع ركعات وسلم الإمام، فيخرج بعض الناس يكون عليه حصر من البول أو غيره، فيشق عليه أن يسرد به الإمام خمس ركعات أو سبع ركعات أو تسع ركعات. وإذا كان هذا الإمام يريد أن يبين السنة فإننا نقول له: بين السنة بقولك، وقل: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يوتر بخمس أو بسبع لا يجلس إلا في آخرها، أو بتسع لا يجلس إلا في الثامنة، ثم يتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة، ويتشهد ويسلم، ولا تفعل هذا مع جماعة يجهلون هذا الأمر، أو يأتي أناس قد سبقهم بعض الصلاة فيشكل عليهم أو يشق عليهم، ثم إني إلي الآن لا أعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى بأصحابه الوتر على هذا الوجه، وإنما كان يصليه في بيته. وأما الأخطاء التي تقع من غير الأئمة ممن يصلون القيام: فهو أن بعض الناس تجده يقطع هذه التراويح، بل يصلي في مسجد تسليمة أو تسليمتين، وفي مسجد آخر كذلك، ويضيع عليه وقت، فيفوته الأجر العظيم الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) (1) وهذا حرمان عظيم. كذلك أيضاً بعض المأمومين تجده يخطئ في متابعة الإمام فيسابقه، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار)) (2) . هل يلزم المحافظة على صلاة التراويح في جميع الشهر   (1) تقدم تخريجه (287) (2) تقدم تخريجه (195) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 السؤال (182) : فضيلة الشيخ: هل يلزم المحافظة على صلاة التراويح في جميع رمضان؟ الجواب: لا يلزمه أن يحافظ عليها؛ لأنها سنة، فإن فعلها فقد أثيب، وإن تركها فلن يعاقب، ولكن يفوته خير كثير كما قلنا. البكاء في صلاة التراويح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 السؤال (183) : فضيلة الشيخ، بعض الأئمة يبكي بكاء شديداً وينحب أيضاً، وهناك من يؤاخذه على ذلك ويرى أنه تكلف، فما حكم هذا العمل، وما حكم أيضاً من يؤاخذ الإمام على هذا العمل؟ الجواب: أما الشيء الذي يأتي بغير تكلف، ويكون بكاء برفق لا بشهاق كبير، فهذا لا بأس به، وهو من الأمور التي تدل على لين قلب صاحبها وكمال خشوعه وحضور قلبه، وأما المتكلف فأخشى أن يكون هذا البكاء من الرياء الذي يعاقب عليه فاعله ولا يثاب عليه كما أن بعض الناس تجده في قنوت الوتر يأتي بأدعية طويلة بأساليب غريبة لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون فيها مشقة على المصلين أو بعضهم، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يختار من الدعاء أجمعه ويدع ما سوى ذلك، والذي أنصح به إخواننا الأئمة أن لا يطيلوا هذا القنوت على هذا الطول الذي يشق على الناس، ويأتون فيه بأدعية غريبة مسجوعة، وخير الكلام ما قل ودل، وكون الإنسان يأتي بالشيء على الوجه المشروع الذي لا يمل الناس أفضل من كونه يأتي به على وجه يمل به الناس. حمل المصحف أثناء قراءة الإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 السؤال (184) : فضيلة الشيخ، بعض المأمومين يحضر مصحفاً في رمضان لمتابعة الإمام في صلاة الليل، وقد يكون الإمام لا يحتاج إلى من يفتح عليه لأنه يقرأ من مصحف أيضاً، فما حكم ذلك؟ الجواب: الذي نرى أن المأموم لا يحمل المصحف إلا للضرورة إلى ذلك، مثل أن يقول الإمام لأحد من الناس: أنا لا أضبط القراءة فأريد أن تكون خلفي تتابعني في المصحف، فإذا أخطأت ترد على، أما فيما عدا ذلك فإنه أمر لا ينبغي؛ لما فيها من انشغال الذهن والعمل الذي لا داعي له، وفوات السنة بوضع اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر، فالأولى أن لا يفعله الإنسان إلا للحاجة كما أشرت إليه. إحياء بعض ليالي العشر دون غيرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 السؤال (185) : فضيلة الشيخ، بعض الناس يحيون ليلة القدر بالصلاة والعبادة ولا يحيون غيرها في رمضان، فهل هذا موافق للصواب؟ الجواب: لا، ليس موافقاً للصواب، فإن ليلة القدر تنتقل، فقد تكون ليلة سبعة وعشرين، وقد تكون في غير تلك الليلة، كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة في ذلك، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذات عام أري ليلة القدر، فكان ذلك ليلة إحدى وعشرين، ثم إن القيام لا ينبغي أن يخصه الإنسان بالليلة التي يرجو أن تكون هي ليلة القدر، فالاجتهاد في العشر الأواخر كلها من هدي النبي صلى الله عليه وسلم. فقد كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله عليه الصلاة والسلام، فالذي ينبغي للمؤمن الحازم أن يجتهد في هذه الأيام العشر في ليال هذه الأيام العشر كلها حتى لا يفوته الأجر. الاعتكاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 السؤال (186) : فضيلة الشيخ، ما المقصود بالاعتكاف وما حكمه؟ الجواب: الاعتكاف هو لزوم الإنسان مسجداً لطاعة الله سبحانه وتعالى؛ لينفرد به عن الناس، ويشتغل بطاعة الله ويتفرغ لذلك، وهو في كل مسجد سواء كان في مسجد يجمع فيه أو في مسجد لا يجمع فيه، ولكن الأفضل أن يكون في مسجد يجمع فيه حتى لا يضطر إلى الخروج لصلاة الجمعة. هل للاعتكاف أقسام؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 السؤال (187) : فضيلة الشيخ، هل الاعتكاف له أقسام أم أنه قسم واحد؟ الجواب: الاعتكاف ليس إلا قسم واحد كما أسلفنا، لزوم مسجد لطاعة الله عز وجل، وقد يكون أحياناً بصوم، وقد لا يكون بصوم، وقد اختلف أهل العلم: هل يصح الاعتكاف بدون صوم أو لا يصح إلا بصوم؟ ولكن الاعتكاف المشروع إنما هو ما كان فيه ليالي العشر، عشر رمضان؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف هذه العشر رجاء لليلة القدر. هل يجوز الاعتكاف في غير رمضان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 السؤال (188) : فضيلة الشيخ، هل الاعتكاف له زمان محدد، أي أنه يقتصر على رمضان أم يجوز في غير رمضان؟ الجواب: المشروع أن يكون في رمضان فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف في غير رمضان، إلا ما كان منه في شوال حين ترك الاعتكاف سنة في رمضان، فاعتكف في شوال، ولكن لو اعتكف الإنسان في غير رمضان لكان هذا جائز، لأن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أعتكف ليلة أو يوماً في المسجد الحرام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوف بنذرك)) (1) أركان الاعتكاف وشروطه   (1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب من لم ير عليه إذا اعتكف صوماً، رقم (2042) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم، رقم (1656) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 السؤال (189) : فضيلة الشيخ، هل للاعتكاف شروط محددة أو أركان أيضاً محددة؟ الجواب: الاعتكاف ركنه كما أسلفت لزوم المسجد لطاعة الله عز وجل تعبداً له، وتقرباً إليه، وتفرغاً لعبادته، وأما شروطه: فهي شروط بقية العبادات، فمنها: الإسلام، والعقل، ويصح من غير البالغ، ويصح من الذكر ومن الأنثى، ويصح بلا صوم ويصح في كل مسجد. اعتكاف المرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 السؤال (190) : فضيلة الشيخ، إذا هل يجوز للمرأة أن تعتكف في مسجدها، في منزلها؟ الجواب: لا، المرأة إذا أرادت الاعتكاف فإنما تعتكف في المسجد إذا لم يكن في ذلك محذور شرعي، وإن كان في ذلك محذور شرعي فلا تعتكف. ما يستحب في الاعتكاف وما لا يستحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 السؤال (191) : فضيلة الشيخ، ما الذي يستحب في الاعتكاف وما الذي يكره له أيضاً؟ الجواب: الذي يستحب في الاعتكاف أن يشتغل الإنسان بطاعة الله عز وجل، من قراءة القرآن، والذكر والصلاة وغير ذلك، وأن لا يضيع وقته فيما لا فائدة فيه كما يفعله بعض المعتكفين، تجده يبقى في المسجد يأتيه الناس في كل وقت يتحدثون إليه، ويقطع اعتكافه بلا فائدة، وأما التحدث أحياناً مع بعض الناس أو بعض الأهل فلا بأس به، لما ثبت في الصحيحين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانت صفية رضي الله عنها تأتي إليه فتتحدث عنده ساعة ثم تنقلب إلى بيتها. ما يباح للمعتكف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 السؤال (192) : فضيلة الشيخ، ما الذي يباح للمعتكف؟ الجواب: المعتكف كما أسلفنا، يلتزم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل وعبادته، فينبغي ان يكون أكثر همة اشتغاله بالقربات من الذكر وقراءة القرآن وغير ذلك ولكن المعتكف أفعاله تنقسم إلى أقسام: قسم مباح، وقسم مشروع ومستحب، وقسم ممنوع. فأما المشروع: فهو أن يشتغل بطاعة الله وعبادته والتقرب إليه؛ لأن هذا لب الاعتكاف والمقصود منه، ولذلك قيد بالمساجد. وقسم آخر وهو القسم الممنوع، وهو ما ينافي الاعتكاف، مثل أن يخرج الإنسان من المسجد بلا عذر؛ أو يبيع، أو يشتري أو يجامع زوجته، ونحو ذلك من الأفعال التي تبطل الاعتكاف لمنافاتها لمقصوده. وقسم ثالث جائز مباح، كالتحدث إلى الناس، والسؤال عن أحوالهم، وغير ذلك مما أباحه الله تعالى للمعتكف، ومنه: خروجه لما لابد له منه، كخروجه لإحضار الأكل والشرب إذا لم يكن له من يحضرهما، وخروجه إلى قضاء الحاجة من بول وغائط، وكذلك خروجه لأمر مشروع واجب، بل هذا واجب عليه كما لو خرج ليغتسل من الجنابة. وأما خروجه لأمر مشروع غير واجب فإن اشترطه فلا بأس، وإن لم يشترطه فلا يخرج، وذلك كعيادة المريض وتشييع الجنازة وما أشبههما، فله أن يخرج لهذا إن اشترطه، وإذا لم يشترطه فليس له أن يخرج، ولكن إذا مات له قريب، أو صديق وخاف إن لم يخرج أن يكون هناك قطيعة رحم أو مفسدة، فإنه يخرج ولو بطل اعتكافه، لأن الاعتكاف المستحب لا يلزم المضي فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 السؤال (193) : فضيلة الشيخ، هل يلتزم المعتكف مكاناً محدداً في المسجد أو يجوز له التنقل في أنحائه؟ الجواب: يجوز للمعتكف أن يتنقل في أنحاء المسجد من كل جهة لعموم قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (البقرة: 187) و ((في) للظرفية فتشمل ما لو شغل الإنسان جميع الظرف. زكاة الفطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 السؤال: (194) فضيلة الشيخ، ما المقصود بزكاة الفطر، وهل لها سبب؟ الجواب: المقصود بزكاة الفطر: صاع من طعام، يخرجه الإنسان عند انتهاء رمضان، وسببها إظهار شكر نعمة الله سبحانه وتعالى على العبد بالفطر من رمضان وإكماله، ولهذا سميت صدقة الفطر أو زكاة الفطر لأنها تنسب إليه وهذا سببها الشرعي، أما سببها الوضعي، فهو أنه إذا غابت الشمس من ليلة العيد وجبت، فلو ولد للإنسان ولد بعد مغيب الشمس ليلة العيد لم تلزمه فطرته، وإنما تستحب، ولو مات الإنسان قبل غروب الشمس ليلة العيد لم تجب فطرته أيضاً؛ لأنه مات قبل وجود سبب الوجوب، ولو عقد الإنسان على امرأة قبل غروب الشمس من آخر يوم رمضان لزمته فطرتها على قول كثير من أهل العلم؛ لأنها كانت زوجته حين وجد السبب، فإن عقد له بعد غروب الشمس ليلة العيد لم تلزمه فطرتها، وهذا على القول بأن الزوج يلزمه فطرة زوجته وعياله، وأما إذا قلنا: بأن كل إنسان تلزمه الفطرة عن نفسه كما هو ظاهر السنة، فلا يصح التبديل في هذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 السؤال (195) : فضيلة الشيخ، ما حكم زكاة الفطر؟ الجواب: زكاة الفطر فريضة، فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعا من شعير)) (1) ، فلو أخرج من الدراهم أو من الثياب أو من الفرش أو من الأواني، فإنه لا يصح أن يكون فطرة ولو كان أغلى من صاع الطعام، وهذا يعني أنه لا يجوز إخراج قيمتها.   (1) رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين، رقم (1504) ومسلم، كتاب الزكاة، باب تقديم الزكاة ومنعها، رقم (984) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 السؤال (196) : فضيلة الشيخ على من تجب زكاة الفطر وعلى من تستحب؟ الجواب: تجب على كل إنسان من المسلمين ذكر كان أم أنثى، صغيراً أم كبيراً، سواء كان صائماً أم لم يصم كما لو كان مسافراً ولم يصم، فإن صدقة الفطر تلزمه، وأما من تستحب عنه فقد ذكر فقهاؤنا رحمهم الله أنه يستحب إخراجها عن الحمل في البطن ولا يجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 السؤال (197) : فضيلة الشيخ، ما حكم منعها وكيف يعامل مانعها؟ الجواب: منعها محرم لأنه خروج عما فرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر. . .)) ، ومعلوم أن ترك المفروض حرام وفيه الإثم والمعصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 السؤال (198) : فضيلة الشيخ، ما هي مصارف زكاة الفطر؟ الجواب: ليس لها إلا مصرف واحد فقط وهم الفقراء، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمه للمساكين (1) .   (1) رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر، رقم (1609) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 السؤال (199) : فضيلة الشيخ، هل يجوز إعطاؤها للعمال من غير المسلمين؟ الجواب: لا، لا يجوز إعطاؤها إلا للفقير من المسلمين فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 السؤال (200) : فضيلة الشيخ، ما حكم نقلها إلى البلدان البعيدة بحجة وجود الفقراء الكثيرين فيها؟ الجواب: نقل صدقة الفطر إلى بلاد غير بلاد الرجل الذي أخرجها إن كان لحاجة بأن لم يكن عنده أحد من الفقراء، فلا بأس به، وإن كان لغير حاجة بأن وجد في البلد من يتقبلها فإنه لا يجوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 السؤال (201) : فضيلة الشيخ، ما حكم وضعها عند الجار حتى يأتي الفقير دون توكيل من الفقير؟ الجواب: يجوز للإنسان أن يضعها عند جاره، ويقول: هذه لفلان إذا جاء فأعطها إياه، لكن لابد أن تصل يد الفقير قبل صلاة العيد؛ لأنه وكيل عن صاحبها، أما لو كان الجار قد وكله الفقير، وقال اقبل زكاة الفطر من جارك لي، فإنه يجوز أن تبقى مع الوكيل ولو خرج الناس من صلاة العيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 السؤال (202) : فضيلة الشيخ، لو وضعها عند جاره ولم يأت من يستحقها قبل العيد وفات وقتها فما الحكم؟ الجواب: إذا وضعها عند جاره، فإما أن يكون جاره وكيلاً للفقير فإذا وصلت إلي يد جاره فقد وصلت إلي الفقير، وأما إذا كان الفقير لم يوكله فإنه يلزم الذي عليه الفطرة أن يدفعها إلي أهلها، ولكن إذا تأخرت عن صلاة العيد ولم يؤدها فإنها لا تقبل منه لأنها عبادة مؤقتة بزمن معين، فإذا أخرها لغير عذر فإنها لا تقبل منه، أما إذا أخرها لعذر كنسيان أو لعدم وجود الفقراء في تلك اللحظة فهذا لا بأس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 السؤال (203) : فضيلة الشيخ، في هذه الحال هل يعيدها إلى ماله أو يلزمه إخراجها؟ الجواب: لا فرق سواء أعادها إلى ماله أو أبقاها حتى يأتي الفطر الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 السؤال (204) : فضيلة الشيخ، ما الذي يقوله المسلم إذا رئي هلال شوال قبل صلاة العيد؟ الجواب: الذي ينبغي للمسلم هو أن يكثر من التكبير والتهليل والتحميد، لقول الله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 السؤال (205) : فضيلة الشيخ، ما صفة التكبير والتهليل أثابكم الله؟ الجواب: أن نقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. أو نقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،، لا إله إلا الله. والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فتاوى الحج النسك وأنواعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 السؤال (206) : فضيلة الشيخ، ما هو النسك وعلى ماذا يطلق؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. النسك: يُطلق ثلاثة إطلاقات؛ فتارة: يراد به العبادة عموماً، وتارة: يراد به التقرب إلى الله تعالى بالذبح، وتارة: يراد به أفعال الحج وأقواله. فالأول: كقولهم: فلان ناسك، أي: عابد لله عز وجل. والثاني: كقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162/163) ، ويمكن أن يراد بالنسك هنا: التعبد، فيكون من المعنى الأول. والثالث: كقوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا) (البقرة: 200) . هذا هو معنى النسك، وهذا الأخير هو الذي يخص شعائر الحج، وهو- أي النسك المراد به الحج، نوعان: نسك العمرة، ونسك الحج. أما نسك العمرة: فهو ما اشتمل على هيئتها، من الأركان، والواجبات، والمستحبات، بأن يحرم من الميقات، ويطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويحلق أو يقصر. وأما الحج: فهو أن يحرم من الميقات، أو من مكة إن كان بمكة، ويخرج إلى منى، ثم إلي عرفة، ثم إلى مزدلفة، ثم إلى منى مرة ثانية، ويطوف، ويسعى، ويكمل أفعال الحج على ما سيذكر إن شاء الله تعالى تفصيلاً. حكم الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 السؤال (207) : فضيلة الشيخ، ما هو حكم الحج؟ الجواب: الحج فرض بإجماع المسلمين، أي: بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وهو أحد أركان الإسلام، لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 97) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فرض عليكم الحج فحجوا)) (1) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام) (2) . فمن أنكر فرضية الحج، فهو كافر مرتد عن الإسلام، إلا أن يكون جاهلا بذلك، وهو مما يمكن جهلة به؛ كحديث عهد بإسلام، وناشئ في بادية بعيدة، لا يعرف من أحكام الإسلام شيئا، فهذا يعذر بجهله، ويعرف، ويبين له الحكم، فإن أصر على إنكاره، حكم بردته. وأما من تركه ـ أي: الحج ـ متهاونا مع اعترافه بشرعيته، فهذا لا يكفر، ولكنه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم بكفره. حكم العمرة   (1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم (1337) (2) تقدم تخريجه (239) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 السؤال (208) : فضيلة الشيخ، ما حكم العمرة؟ الجواب: أما العمرة فقد اختلف العلماء في وجوبها: فمنهم من قال: إنها واجبة ومنهم من قال: إنها سنة، ومنهم من فرق بين المكي وغيره فقال: واجبة على غير المكي، غير واجبة على المكي، والراجح عندي: أنها واجبة على المكي وغيره، لكن وجوبها أدنى من وجوب الحج؛ لأن وجوب الحج فرض مؤكد؛ لأن الحج أحد أركان الإسلام، بخلاف العمرة. وجوب الحج على الفور، أم على التراخي؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 السؤال (209) : فضيلة الشيخ، وجوب الحج هل هو على الفور، أم على التراخي؟ الجواب: الصحيح أنه واجب على الفور، وأنه لا يجوز للإنسان الذي استطاع أن يحج إلى بيت الله الحرام أن يؤخره، وهكذا جميع الواجبات الشرعية، إذا لم تقيد بزمن أو سبب، فإنها واجبة على الفور. شروط وجوب الحج والعمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 السؤال (210) : فضيلة الشيخ، ما هي شروط وجوب الحج والعمرة؟ الجواب: شروط وجوب الحج والعمرة خمسة، مجموعة في قول الناظم: الحج والعمرة واجبان في العمر مرة بلا تواني بشرط إسلام كذا حرية عقل بلوغ قدرة جلية فيشترط لوجوبه أولا: الإسلام، فغير المسلم لا يجب عليه الحج، بل ولا يصح منه لو حج، بل ولا يجوز دخوله مكة؛ لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (التوبة: 28) ، فلا يحل لمن كان كافراً بأي سبب كان كفره، لا يحل له دخول حرم مكة. ولكن يحاسب الكافر على ترك الحج وغيره من فروع الإسلام على القول الراجح من أقوال أهل العلم، لقوله تعالى: (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) (39) (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ) (40) (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (41) (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (42) (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (43) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (44) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (45) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (46) (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (المدثر: 39، 47) . الشرط الثاني: العقل؛ فالمجنون لا يجب عليه الحج، فلو كان الإنسان مجنوناً من قبل أن يبلغ حتى مات، فإنه لا يجب عليه الحج ولو كان غنياً. الثالث: البلوغ؛ فمن كان دون البلوغ فإن الحج لا يجب عليه، ولكن لو حج، فحجه صحيح، إلا أنه لا يجزئه عن فريضة الإسلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي رفعت إليه صبياً وقالت: ألهذا حج؟ قال: ((نعم ولك أجر)) (1) ، لكنه لا يجزئه عن فريضة الإسلام لأنه لم يوجه إليه الأمر بها حتى يجزئه عنها؛ إذا لا يتوجه الأمر إليه إلا بعد بلوغه. وبهذه المناسبة أحب أن أقول: إنه في المواسم التي يكثر فيها الزحام، ويشق فيها الإحرام بالصغار، ومراعاة إتمام مناسكهم، فالأولى ألا يحرموا لا بحج ولا بعمرة، أعني هؤلاء الصغار؛ لأنه يكون فيه مشقة عليهم وعلى أولياء أمورهم، وربما شغلوهم عن إتمام نسكهم، أي: ربما شغل الأولاد آباءهم أو أمهاتهم عن إتمام نسكهم، فبقوا في حرج، وما دام الحج لا يجب عليهم، فإنهم في سعة من أمرهم. الرابع: الحرية؛ فالرقيق المملوك لا يجب عليه الحج؛ لأنه مملوك مشغول بسيده، فهو معذور بترك الحج، لا يستطيع السبيل إليه. الخامس: القدرة على الحج بالمال والبدن؛ فإن كان الإنسان قادراً بماله دون بدنه، فإنه ينيب من يحج عنه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة خثعمية سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج، شيخا كبير لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال ((نعم)) (2) ، وذلك في حجة الوداع ففي قولها: أدركته فريضة الله على عباده في الحج، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم إياها على ذلك، دليل على أن من كان قادراً بماله دون بدنه، فإنه يجب عليه أن يقيم من يحج عنه، أما إن كان قادراً ببدنه دون ماله، ولا يستطيع الوصول إلى مكة ببدنه، فإن الحج لا يجب عليه. ومن القدرة: أن تجد المرأة محرما لها، فإن لم تجد محرما، فإن الحج لا يجب عليها، لكن اختلف العلماء: هل يجب عليها في هذه الحال أن تقيم من يحج عنها أو يعتمر، أو لا يجب؟ على قولين لأهل العلم؛ بناء على أن وجود المحرم هل هو شرط لوجوب الأداء، أو هو شرط للوجوب من أصله، والمشهور عند الحنابلة رحمهم الله: أن المحرم شرط للوجوب، وأن المرأة التي لا تجد محرما ليس عليها حج ولا يلزمها أن تقيم من يحج عنها. فهذه شروط خمسة لوجوب الحج، أعيدها فأقول: هي الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، وهذه الشروط تشمل الحج والعمرة أيضا. شروط الإجزاء في أداء الحج والعمرة   (1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صحة حج الصبي وأجر من حج به، رقم (1336) (2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله، رقم (1513) ومسلم كتاب الحج، باب الحج عن العاجز، رقم (1334) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 السؤال (211) : فضيلة الشيخ، ما دمنا عرفنا شروط الوجوب للحج والعمرة، فما هي شروط الإجزاء؟ الجواب: شروط الإجزاء: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية عند بعض أهل العلم. والصواب: أن الحرية ليست شرطا للإجزاء، وأن الرقيق لو حج فإن حجه يجزئه إذا كان سيده قد أذن له؛ لأن سقوط الوجوب عن العبد ليس لمعنى فيه، ولكن لوجود مانع، وهو انشغاله بخدمة سيده فإذا أذن له سيده بذلك، صار الحج واجبا عليه ومجزئا منه. آداب السفر للحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 السؤال (212) : فضيلة الشيخ، حبذا لو أشرتم ولو بإشارات سريعة إلى أبرز آداب السفر إلى الحج؟ الجواب: آداب الحج تنقسم إلى قسمين: آداب واجبة، وآداب مستحبة: فأما الآداب الواجبة: فهي أن يقوم الإنسان بواجبات الحج وأركانه، وأن يتجنب محظورات الإحرام الخاصة، والمحظورات العامة، الممنوعة في الإحرام وفي غير الإحرام؛ لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة: 197) . وأما الآداب المستحبة في سفر الحج: فأن يقوم الإنسان بكل ما ينبغي له أن يقوم به؛ من الكرم بالنفس والمال والجاه، وخدمة إخوانه وتحمل أذاهم، والكف عن مساوئهم، والإحسان إليهم، سواء كان ذلك بعد تلبسه بالإحرام، أو قبل تلبسه بالإحرام؛ لأن هذه آداب عالية فاضلة تطب من كل مؤمن في كل زمان ومكان وكذلك الآداب المستحبة في نفس فعل العبادة كأن يأتي الإنسان بالحج على الوجه الأكمل، فيحرص على تكميله بفعل مستحباته القولية والفعلية، التي ربما يتسنى لنا الكلام عليها إن شاء الله تعالى في أسئلة أخرى. كيف يستعد المسلم للحج والعمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 السؤال (213) : فضيلة الشيخ، ماذا ينبغي أن يستعد به المسلم لحجه سواء كان قبل السفر أو في أثناء السفر؟ الجواب: الذي ينبغي أن يستعد به المسلم في حجه وعمرته، أن يتزود بكل ما يمكن أن يحتاج إليه في سفره، من المال، والثياب، والعتاد، وغير ذلك؛ لأنه ربما يحتاج إليه في نفسه أو يحتاجه أحد من رفقائه، وأن يتزود كذلك بالتقوى وهي اتخاذ الوقاية من عذاب الله؛ بفعل أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه؛ لقول الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 197) . وما أكثر ما نجد من الحاجة في الأسفار، حيث يحتاج الإنسان إلى أشياء يظنها بسيطة، أو يظنها هينة، فلا يستصحبها معه في سفره، فإذا به يحتاج إليها، أو يحتاج إليها أحد من رفقائه، فليكن الإنسان حازماً شهماً مستعداً لما يتوقع أن يكون وإن كان بعيدا. الاستعداد بالتقوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 السؤال (214) : فضيلة الشيخ، لكن أليس هناك استعداد معنوي غير الاستعداد المادي؟ الجواب: الاستعداد المعنوي هو ما أشرت إليه من التقوى؛ فإن التقوى استعداد معنوي، يستعد بها الإنسان في قرارة نفسه للقاء الله تعالى ولليوم الآخر، فيحرص على أن يقوم بما أوجب الله عليه، ويدع ما حرم الله عليه. بيان مواقيت الحج الزمانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 السؤال (215) : فضيلة الشيخ، بالنسبة للمواقيت، ما هي مواقيت الحج الزمانية؟ الجواب: مواقيت الحج الزمانية تبتدئ بدخول شهر شوال، وتنتهي إما بعشر ذي الحجة، أي: بيوم العيد، أو بآخر يوم من شهر ذي الحجة، وهو القول الراجح؛ لقول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) (البقرة: 197) ، وأشهر جمع، والأصل في الجمع أن يراد به حقيقته، ومعنى هذا الزمن: أن الحج يقع في خلال هذه الأشهر الثلاثة، وليس يفعل في أي يوم منها؛ فإن الحج له أيام معلومة، إلا أن نسك الطواف والسعي إذا قلنا بأن شهر ذي الحجة كله وقت للحج، فإنه يجوز للإنسان أن يؤخر طواف الإفاضة وسعي الحج إلى آخر يوم من شهر ذي الحجة، ولا يجوز له أن يؤخرهما عن ذلك، اللهم إلا لعذر، كما لو نفست المرأة قبل طواف الإفاضة، وبقي النفاس عليها حتى خرج ذو الحجة، فهي إذا معذورة في تأخير طواف الإفاضة. هذه هي المواقيت الزمنية للحج. أما العمرة: فليس لها ميقات زمني، تفعل في أي يوم من أيام السنة، لكنها في رمضان تعدل حجة، وفي أشهر الحج اعتمر النبي عليه الصلاة والسلام، كل عمره في أشهر الحج، فعمرة الحديبية: كانت في ذي القعدة، وعمرة القضاء كانت في ذي القعدة، وعمرة الجعرانة: كانت في ذي القعدة، وعمرة الحج: كانت أيضا مع الحج في ذي القعدة، وهذا يدل على أن العمرة في أشهر الحج لها مزية وفضل؛ لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشهر لها. حكم الإحرام بالحج قبل دخول مواقيته الزمانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 السؤال (216) : فضيلة الشيخ، لكن ما حكم الإحرام بالحج قبل دخول هذه المواقيت الزمانية؟ الجواب: اختلف العلماء رحمهم الله في الإحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج: فمن العلماء من قال: إن الإحرام بالحج قبل أشهره ينعقد ويبقى محرما بالحج؛ إلا أنه يكره أن يحرم بالحج قبل دخول أشهره. ومن العلماء من قال: إن من يحرم بالحج قبل أشهره، فإنه لا ينعقد، ويكون عمرة، أي يتحول إلى عمرة؛ لأن العمرة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((دخلت في الحج)) (1) ، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم: الحج الأصغر؛ كما في حديث عمرو بن حزم المرسل المشهور (2) ، الذي تلقاه الناس بالقبول. بيان مواقيت الحج المكانية   (1) جزء من حديث جابر الطويل في وصف حجة النبي صلي الله عليه وسلم، أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلي الله عليه وسلم، رقم (1218) (2) أخرجه الدارقطني في سننه (2/285) رقم (222) ، والبيهقي في ((السنن)) (4/352) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 السؤال (217) : فضيلة الشيخ، عرفنا مواقيت الحج الزمانية، فما هي مواقيت الحج المكانية؟ الجواب: المواقيت المكانية خمسة: وهي ذو الحليفة، والجحفة، ويلملم، وقرن المنازل، وذات عرق. أما ذو الحليفة: فهي المكان المسمى الآن بأبيار علي، وهي قريبة من المدينة، وتبعد عن مكة بنحو عشر مراحل، وهي ابعد المواقيت عن مكة، وهي لأهل المدينة، ولمن مر به من غير أهل المدينة. وأما الجحفة: فهي قرية قديمة في طريق أهل الشام إلى مكة، وبينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وقد خربت القرية، وصار الناس يحرمون بدلا منها من رابغ. وأما يلملم: فهو جبل أو مكان في طريق أهل اليمن إلى مكة، ويسمى اليوم: السعدية، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين. وأما قرن المنازل: فهو جبل في طريق أهل نجد إلى مكة، يسمى الآن: السيل الكبير، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين. وأما ذات عرق: فهي مكان في طريق أهل العراق إلى مكة، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين أيضا. فأما الأربعة الأولى: وهي ذو الحليفة، والجحفة، ويلملم، وقرن المنازل، فقد وقتها النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ذات عرق، فقد وقَّتها النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أهل السنن من حديث عائشة رضي الله عنها، وصح عن عمر رضي الله عنه أنه وقتها لأهل الكوفة والبصرة حين جاءوا إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل نجد قرناً، وإنها جور عن طريقنا، فقال عمر رضي الله عنه: انظروا إلى حذوها من طريقكم (1) . فعلى كل حال: فإن ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأمر ظاهر، وإن لم يثبت، فإن هذا ثبت بسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا باتباعهم، والذي جرت موافقاته لحكم الله عز وجل في عدة مواضع، ومنها هذا إذا صحَّ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه وقتها، وهو أيضا مقتضى القياس؛ فإن الإنسان إذا مر بميقات لزمه الإحرام منه، فإذا حاذاه صار كالمار به. وفي أثر عمر رضي الله عنه فائدة عظيمة في وقتنا هذا، وهو أن الإنسان إذا كان قادما إلى مكة بالطائرة يريد الحج أو العمرة، فإنه يلزمه إذا حاذى الميقات من فوقه أن يحرم منه عند محاذاته، ولا يحل له تأخير الإحرام إلى أن يصل جدة كما يفعله كثير من الناس؛ فإن المحاذاة لا فرق بين أن تكون في البر، أو في الجو، أو في البحر؛ ولهذا يحرم أهل البواخر التي تمر من طريق البحر فتحاذي يلملم، أو رابغا، إذا حاذوا هذين الميقاتين. حكم الإحرام بالحج قبل المواقيت المكانية   (1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ذات عرق لأهل العراق، رقم (1531) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 السؤال (218) : فضيلة الشيخ، ما حكم الإحرام بالحج قبل هذه المواقيت المكانية؟ الجواب: حكم الإحرام قبل هذه المواقيت المكانية: أنه مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقتها، وكون الإنسان يحرم قبل أن يصل إليها فيه شيء من تقدم حدود الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه)) (1) ، وهذا يدل على أنه ينبغي لنا أن نتقيد بما وقته الشرع من الحدود الزمانية والمكانية، ولكنه إذا أحرم قبل أن يصل إليها، فإن إحرامه ينعقد. وهنا مسألة أيضا أحب أن أنبه عليها، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وقت هذه المواقيت قال: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج أو العمرة) (2) . فمن كان من أهل نجد فمر بالمدينة فإنه يحرم من ((ذي الحليفة)) . ومن كان من أهل الشام، ومر بالمدينة، فإنه يحرم من ((ذي الحليفة)) ، ولا يحل له أن ينتظر حتى يصل إلى ميقات أهل الشام الأصلي على القول الراجح، ومن قولي أهل العلم. حكم من تجاوز الميقات بدون إحرام   (1) تقدم تخريجه ص (266) (2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب مهل أهل الشام، رقم (1526) ، ومسلم كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة، رقم (1181) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 السؤال (219) : فضيلة الشيخ، ما حكم من تجاوز الميقات بدون إحرام؟ الجواب: من تجاوز الميقات بدون إحرام، فلا يخلو من حالين: إما ان يكون مريدا للحج أو العمرة، فحينئذ يلزمه أن يرجع إليه ليحرم منه بما أراد من النسك، الحج أو العمرة، فإن لم يفعل فقد ترك واجبا من واجبات النسك، وعليه عند أهل العلم فدية، دم يذبحه في مكة، ويوزعه على الفقراء هناك. وأما إذا تجاوزه وهو لا يريد الحج ولا العمرة، فإنه لا شيء عليه سواء طالت مدة غيابه عن مكة أم قصرت؛ وذلك لأننا لو ألزمناه بالإحرام من الميقات في منظوره هذا، لكان الحج يجب عليه أكثر من مرة أو العمرة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة، وأن ما زاد فهو تطوع، وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم فيمن تجاوز الميقات بغير إحرام، أي: أنه إذا كان لا يريد الحج ولا العمرة، فليس عليه شيء، ولا يلزمه الإحرام من الميقات. الفرق بين الإحرام كواجب والإحرام كركن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 السؤال (220) : فضيلة الشيخ، ما الفرق بين الإحرام كواجب، والإحرام كركن من أركان الحج؟ الجواب: الإحرام كواجب معناه: أن يقع الإحرام من الميقات، والإحرام كركن معناه أن ينوي النسك. فمثلا إذا نوى النسك بعد مجاوزة الميقات، مع وجوب الإحرام منه، فهذا ترك واجبا، وأتي بالركن وهو الإحرام، وإذا أحرم من الميقات، فقد أتى بالواجب والركن؛ لأن الركن هو نية الدخول في النسك، وأما الواجب فهو أن يكون الإحرام من الميقات، هذا هو الفرق بينهما. حكم التلفظ بالنية عند الإحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 السؤال (221) : فضيلة الشيخ، لكن نية الدخول في النسك هل هي التي يتلفظ بها في التلبية؟ الجواب: لا، التلبية أن يقول: لبيك عمرة إذا كان في عمرة، ولبيك حجا إذا كان في حج، أما النية: فلا يجوز التلفظ بها، فلا يقول مثلا: اللهم إني أريد العمرة، أو أريد الحج؛ فهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. كيفية إحرام القادم إلى مكة جواً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 السؤال (222) : فضيلة الشيخ، نود أيضا أن تبينوا لنا كيفية إحرام القادم إلى مكة جوا؟ الجواب: إحرام القادم إلى مكة جوا هو كما أسلفنا من قبل، يجب عليه إذا حاذى الميقات أن يحرم، وعلى هذا فيتأهب أولا بالاغتسال في بيته، ثم يلبس الإحرام قبل أن يصل إلى الميقات، ومن حين أن يصل إلى الميقات ينوي الدخول في النسك، ولا يتأخر؛ لأن الطائرة مرها سريع، فالدقيقة يمكن أن تقطع بها مسافات كثيرة، وهذا أمر يغفل عنه بعض الناس، تجد بعض الناس لا يتأهب، فإذا أعلن موظف الطائرة بأنهم وصلوا الميقات، ذهب يخلع ثيابه ويلبس ثياب الإحرام، وهذا تقصير جدا، على أن الموظفين في الطائرة فيما يبدو بدأوا ينبهون الناس قبل أن يصلوا إلى الميقات بربع ساعة أو نحوها، وهذا عمل يشكرون عليه؛ لأنهم إذا نبهوهم قبل هذه المدة، جعلوا لهم فرصة في تغير ثيابهم وتأهبهم، ولكن في هذه الحال، ينبغي بل يجب على من أراد الإحرام أن ينتبه للساعة فإذا أعلن الموظف موظف الطائرة أنه قد بقى ربع ساعة، فلينظر إلى ساعته، حتى إذا مضى هذا الجزء الذي هو ربع الساعة أو قبلة بدقيقتين أو ثلاثة، لبى بما يريده من النسك. صفة الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 السؤال (223) : فضيلة الشيخ، ما هي أركان الحج؟ الجواب: نحن نذكر هنا صفة الحج على سبيل الإجمال والاختصار فنقول: إذا أراد الإنسان الحج أو العمرة، فتوجه إلى مكة في أشهر الحج، فإن الأفضل أن يحرم بالعمرة أولا ليصير متمتعا، فيحرم من الميقات بالعمرة، وعند الإحرام يغتسل كما يغتسل من الجنابة، ويتطيب في رأسه ولحيته، ويلبس ثياب الإحرام، ويحرم عقب صلاة فريضة، إن كان وقتها حاضرا، أو نافلة ينوي بها سنة الوضوء؛ لأنه ليس للإحرام نافلة معينة؛ إذ لم يرد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يلبي فيقول: ((لبيك اللهم عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)) ، ولا يزال يلبي حتى يصل إلى مكة. فإذا شرع في الطواف، قطع التلبية، فيبدأ بالحجر الأسود يستلمه ويقبله إن تيسر، وإلا أشار إليه، ويقول: باسم الله والله أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يجعل البيت عن يساره ويطوف سبعة أشواط، يبتدئ بالحجر ويختتم به. وفي هذا الطواف يسن للرجل أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى؛ بأن يسرع المشي ويقارب الخطا، وأن يضطبع في جميع الطواف، بأن يخرج كتفه الأيمن، ويجعل طرفي الرداء على الكتف الأيسر، فإذا أتم الطواف صلى ركعتين خلف المقام وفي طوافه، وكلما حاذى الحجر الأسود، كبر ويقول بينه وبين الركن اليماني: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة: 201) ، ويقول في بقية طوافه ما شاء من ذكر ودعاء. وليس للطواف دعاء مخصوص لكل شوط، وعلى هذا فينبغي أن يحذر الإنسان من هذه الكتيبات التي بأيدي كثير من الحجاج، والتي فيها لكل شوط دعاء مخصوص؛ فإن هذه بدعة لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) (1) . ويجب أن ينتبه الطائف إلى أمر يخل به بعض الناس في وقت الزحام، فتجده يدخل من باب الحجر، ويخرج من الباب الثاني، فلا يطوف بالحجر مع الكعبة، وهذا خطأ؛ لأن الحجر أكثره من الكعبة فمن دخل من باب الحجر وخرج من الباب الثاني، لم يكن قد طاف بالبيت، فلا يصح طوافه. وبعد الطواف يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم إن تيسر له، وإلا ففي أي مكان من المسجد. ثم يخرج إلى الصفا، فإذا دنا منه قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 158) ، ولا يعيد هذه الآية بعد ذلك، ثم يصعد على الصفا ويستقبل القبلة، ويرفع يديه، ويكبر الله ويحمده، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بعد ذلك، ثم يعيد الذكر مرة ثانية ثم يدعو، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة. ثم ينزل متجها إلى المروة، فيمشي إلى العلم الأخضر، أي: العمود الأخضر، ويسعى من العمود الأخضر إلى العمود الثاني سعيا شديدا، أي: يركض ركضا شديدا، إن تيسر له ولم يتأذ أو يؤذ أحدا، ثم يمشي بعد العلم الثاني إلى المروة مشيا عاديا، فإذا وصل المروة، صعد عليها، واستقبل القبلة، ورفع يديه، وقال مثل ما قال على الصفا؛ فهذا شوط. ثم يرجع إلى الصفا من المروة، وهذا هو الشوط الثاني ويقول فيه ويفعل كما قال في الشوط الأول وفعل. فإذا أتم سبعة أشواط من الصفا للمروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر، إذا أتم سبعة أشواط، فإنه يقصر شعر رأسه، ويكون التقصير شاملا لجميع الرأس، بحيث يبدو التقصير واضحا في الرأس، والمرأة تقصر من كل طرف رأسها بقدر أنملة. ثم يحل من إحرامه حلا كاملا، ويتمتع بما أحل الله له من النساء والطيب واللباس وغير ذلك. فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة، أحرم بالحج، فاغتسل وتطيب، ولبس ثياب الإحرام وخرج إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، خمس صلوات، يصلى الرباعية ركعتين، وكل صلاة في وقتها، فلا جمع في منى، وإنما هو القصر فقط. فإذا طلعت الشمس يوم عرفة، سار إلى عرفة، فنزل بنمرة إن تيسر له، وإلا استمر إلى عرفة فينزل بها، فإذا زالت الشمس، صلى الظهر والعصر قصرا وجمع تقديم، ثم يشتغل بعد ذلك بذكر الله ودعائه، وقراءة القرآن، وغير ذلك مما يقرب إلى الله تعالى، وليحرص على أن يكون آخر ذلك اليوم ملحا في دعاء الله عز وجل؛ فإنه حري بالإجابة. فإذا غربت الشمس، انصرف إلى مزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا، ثم يبقى هناك حتى يصلى الفجر، ثم يدعو الله عز وجل إلى أن يسفر جدا، ثم يدفع بعد ذلك إلى منى، ويجوز للإنسان الذي يشق عليه مزاحمة الناس، أن ينصرف من مزدلفة قبل الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لمثله. فإذا وصل إلى منى، بادر فرمى جمرة العقبة الأولى قبل كل شيء بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم ينحر هديه، ثم يحلق رأسه، وهو أفضل من التقصير، وإن قصره فلا حرج، والمرأة تقصر من أطرافه بقدر أنملة؛ وحينئذ يحل التحلل الأول، فيباح له جميع محظورات الإحرام ما عدا النساء. فينزل بعد أن يتطيب ويلبس ثيابه المعتادة ينزل إلى مكة، فيطوف طواف الإفاضة سبعة أشواط بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، وهذا الطواف والسعي للحج، كما أن الطواف والسعي الذي حصل منه أول ما قدم للعمرة وبهذا يحل من كل شيء حتى من النساء. ولنقف هنا ننظر ماذا فعل الحاج يوم العيد؟ فالحاج يوم العيد: رمى جمرة العقبة، ثم نحر هديه، ثم حلق أو قصر، ثم طاف، ثم سعى، فهذه خمسة أنساك يفعلها على هذا الترتيب، فإن قدم بعضها على بعض فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل يوم العيد عن التقديم والتأخير، فما سئل عن شيء قدم أو أخر يومئذ إلا قال: ((افعل ولا حرج)) (2) ، فإذا نزل من مزدلفة إلى مكة، وطاف وسعى، ثم خرج ورمى فلا حرج، ولو رمى ثم حلق قبل أن ينحر فلا حرج، ولو رمى ثم نزل إلى مكة وطاف وسعى فلا حرج، ولو رمى ونحر وحلق ثم نزل إلى مكة وسعى قبل أن يطوف فلا حرج، المهم أن تقديم هذه الانساك الخمسة على بعض لا بأس به، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء، قدم ولا أخر يومئذ إلا قال: ((افعل ولا حرج)) . وهذا من تيسير الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده. ويبقى من أفعال الحج بعد ذلك: المبيت في منى ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر لمن تأخر؛ لقول الله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) (البقرة: 203) ، فيبيت الحاج بمنى ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، ويجزئ أن يبيت هاتين الليلتين معظم الليل. فإذا زالت الشمس من اليوم الحادي عشر، رمى الجمرات الثلاث؛ يبدأ بالصغرى وهي الأولى التي تعتبر شرقية بالنسبة للجمرات الثلاث، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، ويكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم عن الزحام قليلا، فيقف مستقبل القبلة، رافعا يديه، يدعو الله تعالى دعاء طويلا، ثم يتجه إلى الوسطى فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلا عن الزحام، ويقف مستقبل القبلة، رافعا يديه، يدعو الله تعالى دعاء طويلا، ثم يتقدم إلى جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ولا يقف عندها؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ليلة الثاني عشر، يرمي الجمرات الثلاث كذلك، وفي اليوم الثالث عشر ـ إن تأخر ـ يرمي الجمرات الثلاث كذلك. ولا يجوز للإنسان أن يرمي الجمرات الثلاث في اليوم الحادي عشر والثاني عشر، والثالث عشر قبل الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم إلا بعد الزوال، وقال: ((خذوا عني مناسككم)) (3) ، وكان الصحابة يتحينون الزوال، فإذا زالت الشمس رموا، ولو كان الرمي قبل الزوال جائزاً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، إما بفعله، أو قوله أو إقراره، ولما اختار النبي صلى الله عليه وسلم وسط النهار للرمي، وهو شدة الحر، دون الرمي في أوله الذي هو أهون على الناس، علم أن الرمي أول النهار لا يجوز؛ لأنه لو كان من شرع الله عز وجل، لكان هو الذي يشرع لعباد الله؛ لأنه الأيسر، والله عز وجل إنما يشرع لعباده ما هو الأيسر. ولكن يمكنه إذا كان يشق عليه الزحام، أو المضي إلى الجمرات في وسط النهار، أن يؤخر الرمي إلى الليل فإن الليل وقت للرمي، إذ لا دليل على أن الرمي لا يصح ليلاً؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم وقت أول الرمي ولم يوقت آخره، والأصل فيما جاء مطلقا، أن يبقى على إطلاقه، حتى يقوم دليل على تقييده بسبب أو وقت. ثم ليحذر الحاج من التهاون في رمي الجمرات؛ فإن من الناس من يتهاون فيها، حتى يوكل من يرمي عنه وهو قادر على الرمي بنفسه، وهذا لا يجوز ولا يجزئ؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (البقرة: 196) ، والرمي من أفعال الحج، فلا يجوز الإخلال به، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لضعفة أهله أن يوكلوا من يرمي عنهم، بل أذن لهم بالذهاب من مزدلفة في آخر الليل، ليرموا بأنفسهم قبل زحمة الناس، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن للرعاة الذين يغادرون منى في إبلهم لم يأذن لهم أن يوكلوا من يرمي عنهم، بل أذن لهم أن يرموا يوما ويدعوا يوما ليرموه في اليوم الثالث، وكل هذا يدل على أهمية رمي الحاج بنفسه، وأنه لا يجوز له أن يوكل أحدا، ولكن عند الضرورة لا بأس بالتوكيل، كما لو كان الحاج مريضا أو كبير لا يمكنه الوصول إلى الجمرات، أو امرأة حاملا تخشى على نفسها أو ولدها، ففي هذه الحال يجوز التوكيل. ولولا أنه ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يرمون عن الصبيان، لقلنا: إن العاجز يسقط عنه الرمي؛ لأنه واجب عجز عنه، فيسقط عنه لعجزه عنه، ولكن لما ورد جنس التوكيل في الرمي عن الصبيان، فإنه لا مانع من أن يلحق به من يشابههم في تعذر الرمي من قبل نفسه. المهم: أنه يجب علينا أن نعظم شعائر الله، وألا نتهاون بها، وأن نفعل ما يمكننا فعله بأنفسنا؛ لأنه عبادة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) (4) . وإذا أتم الحج، فإنه يخرج من مكة إلى بلده، حتى يطوف للوداع؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينفرون من كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفرنّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)) (5) ، إلا إذا كانت المرأة حائضا أو نفساء، وقد طافت طواف الإفاضة، فإن طواف الوداع يسقط عنها؛ لحديث ابن عباس: ((أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض)) (6) ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أن صفية قد طافت طواف الإفاضة، قال: ((فلتنفر إذن)) (7) ، وكانت حائضا. ويجب أن يكون هذا الطواف آخر شيء، وبه نعرف أن ما يفعله بعض الناس، حيث ينزلون إلى مكة، فيطوفون طواف الوداع، ثم يرجعون إلى منى، فيرمون الجمرات، ويسافرون من هناك، فهذا خطأ، ولا يجزئهم طواف الوداع؛ لأن هؤلاء لم يجعلوا آخر عهدهم بالبيت، وإنما جعلوا آخر عهدهم بالجمرات. أركان العمرة   (1) أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (867) (2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة، رقم (1736، 1737) ومسلم، كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي، رقم (1306) (3) أخرجه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (5/125) وأخرجه أحمد في (0 مسند الشاميين) 02/54) لفظ: ((لتأخذوا عني مناسكك)) وأخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، رقم (1297) بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم)) فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)) (4) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب في الرمل، رقم (1888) والترمذي بنحوه، كتاب الحج، باب ما جاء كيف ترمى الجمار، رقم (902) وقال: حسن صحيح (5) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع، رقم (1327) (6) تقدم تخريجه (135) (7) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد أن أفاضت، رقم (1757-1759) ، ومسلم، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، رقم (1211م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 السؤال (224) : فضيلة الشيخ، ما هي أركان العمرة، حيث إنها في التمتع تسبق الحج؟ الجواب: يقول العلماء: أن أركان العمرة ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي، وإن واجباتها اثنان: أن يكون الإحرام من الميقات، والحلق أو التقصير. وما عدا ذلك فهو سنن. أركان الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 السؤال (225) : فضيلة الشيخ، ما هي أركان الحج؟ الجواب: أركان الحج، يقول العلماء إنها أربعة: الإحرام والوقوف بعرفة، والطواف، والسعي. حكم الإخلال بشيء من أركان الحج أو العمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 السؤال (226) : فضيلة الشيخ، ما حكم الإخلال بشيء من هذه الأركان؟ الجواب: الإخلال بشيء من هذه الأركان لا يتم النسك إلا به، فمن لم يطف بالعمرة مثلا، فإنه يبقى على إحرامه حتى يطوف، ومن لم يسع، يبقى على إحرامه حتى يسعى، وكذلك نقول في الحج: من لم يأت بأركانه، فإنه لا يصح حجه، فمن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر، فقد فاته الحج فلا يصح حجه، لكنه يتحلل بعمرة، فيطوف، ويسعى، ويقصر أو يحلق، وينصرف إلى أهله فإذا كان العام القادم أتى بالحج. وأما الطواف والسعي إذا فاته في الحج، فإنه يقضيه؛ لأنه لا آخر لوقته، لكن لا يؤخره عن شهر ذي الحجة إلا من عذر. واجبات الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 السؤال (227) : فضيلة الشيخ، ما هي واجبات الحج؟ الجواب: واجبات الحج: هي أن يكون الإحرام من الميقات، وأن يقف بعرفة إلى الغروب، وأن يبيت بمزدلفة، وأن يبيت بمنى ليلتين بعد العيد، وأن يرمي الجمرات، وأن يطوف للوداع. حكم الإخلال بشيء من واجبات الحج أو العمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 السؤال (228) : فضيلة الشيخ، ما حكم الإخلال بشيء من واجبات الحج أو العمرة؟ الجواب: الإخلال بشيء منها إن كان الإنسان متعمدا، فعليه الإثم والفدية كما قال أهل العلم؛ شاة يذبحها ويفرقها في مكة، وإن كان غير متعمد، فلا إثم عليه، لكن عليه الفدية، يذبحها في مكة، ويوزعها على الفقراء؛ لأنه ترك واجبا له بدل، فلما تعذر الأصل، تعين البدل، وهذا هو قول أهل العلم فيمن ترك واجبا، أن عليه فدية، يذبحها في مكة، ويوزعها على الفقراء. صفة القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 السؤال (229) فضيلة الشيخ، تحدثتم عن صفة التمتع في حديثكم عن صفة الحج، حبذا أيضا لو تحدثتم عن صفة القران؟ الجواب: التمتع كما ذكرنا: أن يأتي بالعمرة مستقلة، ويحل منها، ثم يحرم بالحج في عامه. والقران له صورتان: الصورة الأولى: أن يحرم بالعمرة والحج جميعا من الميقات، فيقول: لبيك عمرة وحجا. والصورة الثانية: أن يحرم بالعمرة أولا ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها. وهناك صورة ثالثة: موضع خلاف بين العلماء، وهي أن يحرم بالحج وحده، ثم يدخل العمرة عليه، قبل أن يفعل شيئا من أفعال الحج، كالطواف والسعي مثلا. والقارن يبقى على إحرامه، فإذا قدم مكة يطوف للقدوم، ويسعى للحج والعمرة، ويبقى على إحرامه إلى أن يتحلل منه يوم العيد، ويلزمه هدي كهدي المتمتع. وأما المفرد: فيحرم بالحج مفردا من الميقات، ويبقى على ذلك، فإذا قدم مكة طاف للقدوم، وسعى للحج، ولم يحل إلا يوم العيد. فيكون القارن والفرد سواء في الأفعال، ولكنهما يختلفان في أن القارن يحصل له عمرة وحج،، ويلزمه هدي، وأما المفرد فلا يحصل له إلا الحج، ولا يلزمه هدي. حكم الاعتمار بعد الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 السؤال (230) فضيلة الشيخ، عرفنا صفة الحج، وعرفنا التمتع والقران والإفراد، وقلتم في الإفراد: إن المسلم يأتي بالحج وحده ولا يأتي بعمرة معه، لكننا نرى كثيرا من الناس إذا انتهى من الإفراد اعتمر، فما حكم هذا العمل؟ الجواب: هذا العمل لا أصل له في السنة، فلم يكن الصحابة رضي الله عنهم مع حرصهم على الخير يأتون بهذه العمرة بعد الحج، وخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وأصحابه الذين هم خير القرون، وإنما جاء ذلك في قضية معينة قصة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حيث كانت محرمة بعمرة، ثم حاضت قبل الوصول إلى مكة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج؛ ليكون نسكها قرانا، وقال لها: ((طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك)) (1) ، فلما انتهى الحج، ألحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأتي بعمرة، بدلا من عمرتها التي حولتها إلى قران، فأذن لها، وأمر أخاها عبد الرحمن بن عوف أن يخرج بها من الحرم إلى الحل، فخرج بها إلى التنعيم، وأتت بعمرة، فإذا وجدت صورة كالصورة التي حصلت لعائشة، وأرادت المرأة أن تأتى بعمرة، فحينئذ نقول: لا حرج أن تأتي المرأة بعمرة، كما فعلت أم المؤمنين عائشة رضي الله صلى الله عليه وسلم عنها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. ويدلك على أن هذا أمر ليس مشروع، أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه وهو مع أخته لم يحرم بالعمرة لا تفقها من عنده، ولا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا من الأمور المشروعة، لكان رضي الله عنه يأتي بالعمرة؛ لأن ذلك أمر سهل عليه حيث إنه قد خرج مع أخته. والمهم: أن ما يفعله بعض الحجاج كما أشرت إليه ليس له أصل من السنة. نعم: لو فرض أن بعض الحجاج يصعب عليه أن يأتي إلى مكة بعد مجيئه هذا، وهو قد أتى بحج مفرد، فإنه في هذه الحال في ضرورة إلى أن يأتي بعد الحج بالعمرة، ليؤدي واجب العمرة؛ فإن العمرة واجبة على القول الراجح من أقوال أهل العلم؛ وحينئذ يخرج إلى التنعيم، أو إلى غيره من الحل، فيحرم منه، ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر.   (1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب طواف القارن، رقم (1897) ، وعند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (0 يسعك طوافك لحجك وعمرتك)) فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج، كتاب الحج، باب إحرام النفساء..وكذا الحائض، رقم (1211) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 السؤال (231) : فضيلة الشيخ، لكن ما الأولى بالنسبة لهذا الحاج الذي يعرف أن الإتيان إلى مكة يصعب عليه؟ الجواب: كما قلت لك يأتي بالعمرة بعد الحج؛ لأن هذا ضرورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 السؤال (232) : لكن أليس الأولى أن يأتي مثلا متمتعا أو قارنا ليسلم من المحظور؟ الجواب: نعم هذا هو الأولى، لكن نحن فرضنا أنه أتى مفردا فيه. حكم الانتقال من نسك لآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 السؤال (233) : فضيلة الشيخ، ما حكم الانتقال من نسك إلى نسك آخر؟ الجواب: الانتقال من نسك إلى نسك آخر تقدم في صفة القران، أنه من الممكن أن يحرم الإنسان أولا بعمرة، ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها، فيكون انتقل من العمرة إلى الجمع بينها وبين الحج، وكذلك يمكن أن ينتقل من الحج المفرد أو من القران، إلى عمرة ليصير متمتعا، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، من لم يكن منهم ساق الهدي، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وكان قد ساق الهدي، وساقه معه أغنياء الصحابة رضي الله عنهم، فلما طاف وسعى، أمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، فانتقلوا من الحج المفرد أو المقرون بالعمرة إلى أن يجعلوا ذلك عمرة، ولكن هذا مشروط بما إذا تحول من حج أو قران إلى عمرة ليصير متمتعا، أما من تحول من قران أو إفراد إلى عمرة، ليتخلص من الإحرام ويرجع إلى أهله، فإن ذلك لا يجوز. حكم التحول من التمتع إلى الإفراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 السؤال (234) : فضيلة الشيخ، هل يجوز أن يتحول من التمتع إلى الإفراد؟ الجواب: من التمتع إلى الإفراد لا يجوز ولا يمكن، وإنما يجوز أن يتحول من الإفراد إلى التمتع، بمعنى أن يكون محرما بالحج مفردا، ثم بعد ذلك يحول إحرامه بالحج إلى عمرة؛ ليصير متمتعا، وكذلك القارن يجوز أن يحول نيته من القران إلى العمرة، ليصير متمتعا، إلا من ساق الهدي في الصورتين: فإنه لا يجوز له ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين معه أن يجعلوا إحرامهم بالحج المفرد أو المقرون بالعمرة، أن يجعلوه عمرة، ليصيروا متمتعين، إلا من ساق الهدي. أحكام وضوابط النيابة في الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 السؤال (235) : فضيلة الشيخ، لو تحدثنا أيضا عن النيابة الكلية في الحج من حيث الأحكام والضوابط؟ الجواب: النيابة في الحج إن كان الإنسان قادرا، فإنها غير مشروعة، أما في الفريضة، فإنه لا يجوز أن يستنيب الإنسان أحدا عنه، يؤدي الحج أو العمرة فريضة؛ لأن الفريضة تطلب من الإنسان نفسه أن يؤديها بنفسه. فإن كان عاجزا عن أداء الفريضة: فإما أن يكون عجزه طارئا يرجى زواله، فهذا ينتظر حتى يزول عجزه، ثم يؤدي الفريضة بنفسه؛ مثل أن يكون في أشهر الحج مريضا مرضا طارئا يرجى زواله، وهو لم يؤد الفريضة، فإننا نقول له: انتظر حتى يعافيك الله وحج، إن أمكنك في هذه السنة فذاك، وإلا ففي السنوات القادمة. أما إذا كان عجزه عن الحج عجزا لا يرجى زواله؛ كالكبير والمريض مرضا لا يرجى زواله، فإنه يقيم من يحج ويعتمر عنه، ودليل ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم: فقالت: إن أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج، شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)) (1) . فهذا حكم النيابة في الفرض، أنه إن كان المستنيب قادرا، فإن ذلك لا يصح، وإن كان عاجز عجزا لا يرجى زواله، فإن ذلك يصح، وإن كان الإنسان عاجزا عجزا طارئا يرجى زواله، فإنه لا يصح أن يستنيب أحدا، ولينظر حتى يعافيه الله، ويؤدي ذلك بنفسه. أما في النافلة: فإن كان عاجز عجزا لا يرجى زواله، فقد يقول قائل: إنه يصح أن يستنيب من يحج عنه النافلة، قياسا على استنابة من عليه الفريضة، وقد يقول قائل: أنه لا يصح القياس هنا؛ لأن الاستنابة في الفريضة استنابة في أمر واجب لابد منه بخلاف النافلة؛ فإن النافلة لا تلزم الإنسان، فيقال: إن قدر عليها، فعلها بنفسه، وإن لم يقدر عليها، فلا يستنيب أحدا فيها. أما إذا كان قادراً على أن يؤدي الحج بنفسه، فإنه لا يصح أن يستنيب غيره في الحج عنه، على إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهي عندي أقرب؛ لأن الحج عبادة يتعبد بها الإنسان لربه، فلا يليق أن يقول لأحد: اذهب فتعبد لله عني، بل نقول: أدها أنت بنفسك؛ لأنه ليس لديك مانع حتى تستنيب من يؤدي هذه النافلة عنك، هذه الاستنابة في الحج على وجه الكمال، يعني بمعنى: أنه يصير في كل حج. شروط النائب في الحج   (1) تقدم تخريجه (308) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 السؤال (236) : فضيلة الشيخ، ما هي شروط النائب في الحج؟ الجواب: النائب يشترط أن يكون قد أدى الفريضة عن نفسه إن كان قد لزمه الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: ((من شبرمة؟)) (1) يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: أخ لي، أو قريب لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حججت عن نفسك؟)) قال لا، قال: ((حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)) 1، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ابدأ بنفسك)) ، ولأنه ليس من النظر الصحيح أن يؤدي الإنسان الحج عن غيره مع وجوبه عليه، قال أهل العلم: ولو حج عن غيره مع وجوب الحج عليه، فإن الحج يقع عن نفسه، أي: عن نفس النائب، ويرد للمستنيب ما أخذه منه من الدراهم والنفقة. أما بقية الشروط فمعروفة، وقد تكلمنا عليها من قبل؛ مثل: الإسلام، والعقل، والتمييز، وهي شروط واجبة في كل عبادة. يأخذ نقوداً ليحج بها وليس في نيته إلا جمع الدراهم   (1) أخرجه أبو داود، كتاب الحج، باب الرجل يحج عن غيره، رقم (1811) ، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب الحج عن الميت، رقم (2903) ، والبيهقي (4/336) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 السؤال (237) فضيلة الشيخ، ما حكم من أخذ نقودا ليحج عن غيره، وليس في نيته إلا جمع الدراهم؟ الجواب: يقول العلماء: إن الإنسان إذا حج للدنيا لأخذ الدراهم، فإن هذا حرام عليه، ولا يحل له أن ينوى بعمل الآخرة شيئا من الدنيا؛ لقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (15) (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود: 15، 16) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من حج ليأخذ، فليس له في الآخرة من خلاق، وأما إذا أخذ ليحج، أو ليستعين به على الحج، فإن ذلك لا بأس به، ولا حرج عليه، وهنا يجب على الإنسان أن يحذر من أن يأخذ الدراهم للغرض الأول، فإنه يخشى ألا يقبل منه وألا يجزئ الحج عمن أخذه عنه، وحينئذ يلزمه أن يعيد النفقة والدراهم إلى صاحبها، إذا قلنا بأن الحج لم يصح ولم يقع عن المستنيب، ولكن يأخذ الإنسان الدراهم والنفقة ليحج بها عن غيره، ليستعين بها على الحج، ويجعل نيته في ذلك أن يقضي غرض صاحبه، وأن يتقرب إلى الله تعالى بما يتعبد به في المشاعر، وعند بيت الله. هل يقع للنائب ثواب في بعض الأعمال إذا حج عن غيره؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 السؤال (238) : فضيلة الشيخ، إذا أمن هذا، هل يمكن أن يقع ثواب بعض الأعمال للنائب؟ الجواب: نعم؛ لأن النائب لا يلزمه إلا أن يقوم بالأركان، والواجبات، وكذلك المستحبات بالنسبة للنسك، وأما ما يحصل من ذكر، ودعاء، فما كان متعلقا بالنسك، فإنه لصاحب النسك ((للمستنيب)) وما كان خارجا عن ذلك، فإنه لصاحبه ((النائب)) . معنى النيابة الجزئية في الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 السؤال (239) : فضيلة الشيخ، حبذا لو حدثتمونا فضيلتكم عن النيابة الجزئية في الحج؟ الجواب: النيابة الجزئية في الحج معناها: أن يوكل الإنسان عنه من يقوم ببعض أفعال الحج، مثل أن يوكل من يطوف عنه، أو يسعى عنه، أو يقف عنه، أو يبيت عنه، أو يرمي عنه، أو ما أشبه ذلك من جزئيات الحج، والراجح: أنه لا يجوز للإنسان أن يستنيب من يقوم عنه بشيء من أجزاء الحج أو العمرة، سواء كان ذلك فرضا أو نفلا؛ وذلك لأن من خصائص الحج والعمرة، أن الإنسان إذا أحرم بهما صار فرضا ولو كان ذلك نفلا، أي: لو كان الحج أو العمرة نفلا؛ لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ) (البقرة: 197) . وهذه الآية نزلت قبل فرض الحج، أي قبل قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: 97) ، وهذا يدل على أن تلبس الإنسان بالحج أو العمرة يجعله فرضا عليه. وكذلك يدل على أنه فرض إذا شرع فيه؛ قوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 29) ، وهذا يدل على أن الشروع في الحج يجعله كالمنذور، وبناء على ذلك: فإنه لا يجوز لأحد أن يوكل أحداً في شيء من جزئيات الحج ولا أعلم في السنة أن الاستنابة في شيء من أجزاء الحج قد وقعت إلا فيما يروى من كون الصحابة رضي الله عنهم يرمون عن الصبيان، ويدل لهذا أن أم سلمة رضي الله عنها لما أرادت الخروج قالت: يا رسول الله، إني أريد الخروج وأجدني شاكية، فقال: ((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)) (1) ، وهذا يدل على أنه لا يجوز التوكيل في جزئيات الحج. قياس التوكيل في الرمي على غيره من مناسك الحج   (1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب طواف النساء مع الرجال، رقم (1619) ومسلم، كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره، رقم (1276) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 السؤال (240) : فضيلة الشيخ، ذكرتم أن التوكيل في الجزئية يكون مثلا في الطواف أو الرمي أو الوقوف أو ما أشبه ذلك، فهل إذا جاز التوكيل في الرمي مثلا يقاس عليه بقية أجزاء الحج؟ الجواب: لا، نحن قلنا هذا تمثيل على التوكيل في الجزئية، وليس حكما بأن ذلك مباح؛ ولهذا قلنا: لا نعلم في السنة أنه ورد التوكيل في شيء من الجزئيات، أو أن أحدا يقوم عن أحد إلا في الرمي، وقلنا: إن الإنسان إذا تلبس في الحج أو العمرة، صار فرضا عليه يلزمه هو بنفسه؛ وعلى هذا فلا يجوز التوكيل في أي شيء من أجزاء الحج أو العمرة فرضا كانت أم نفلا، إلا في الرمي؛ لوروده في حق الصغار، وكذلك من لم يستطيع الرمي بنفسه من الكبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 السؤال (241) : فضيلة الشيخ، لكن إذا جاز التوكيل في الرمي، هل هناك شروط للنائب والمنيب؟ الجواب: نعم، أما المنيب فيشترط ألا يستطيع الرمي بنفسه لا ليلا ولا نهارا، وأما النائب، فقال الفقهاء رحمهم الله: أنه لابد أن يكون ممن حج تلك السنة، وأن يكون قد رمى عن نفسه. عجز عن إكمال النسك، فماذا يصنع؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 السؤال (242) : فضيلة الشيخ، إذا عجز الحاج عن إكمال النسك فماذا يصنع؟ الجواب: إذا عجز الحاج عن إتمام النسك، فلا يخلو من حالين: إما أن يكون عجزه بصد عدو صده عن البيت؛ كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عام الحديبية، ففي هذه الحال: يحلق بعد أن ينحر هديه ويحل من إحرامه؛ لقول الله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (البقرة: 196) ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عام الحديبية أن يحلقوا، ولما تأخروا رجاء أن ينسخ الحكم، أو لسبب آخر غلب عليه الصلاة والسلام في ذلك، حتى أشارت عليه إحدى أمهات المؤمنين أن يخرج إليهم فيحلق رأسه، ففعل، وحينئذ تتابع الناس على حلق رؤوسهم، والإحلال من إحرامهم، وفي هذه الحال، لا يلزمه أن يقضي ما أحصر عنه، إلا إذا كان لم يؤد الفريضة، فإنه يلزمه أداء الفريضة بالأمر الأول، لا قضاء عما أحصر فيه، هذا إذا كان الحصر بعدو. أما إذا كان الحصر بغير عدو، كما لو أحصر بذهاب نفقة أو بمرض أشتد به، فإنه في هذه الحال يحل من إحرامه، بعد أن ينحر هديا ويحلق، إما قياسا على حصر العدو، وإما إدخالا له في العموم، وهو قوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (البقرة: من 196) ، فإن هذا الإحصار شامل، وكون الإحصار بالعدو هو الذي وقع في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، لا يمنع أن تتناول الآية غيره. على كل حال: إذا حصر بغير عدو، من مرض، أو ذهاب نفقة، أو ما أشبه ذلك، فالقول الراجح: أنه يحل بهذا الإحصار، بعد أن ينحر هديه ويحلق رأسه، ويلزمه القضاء، أي: قضاء ما أحصر فيه إلا إذا كان واجبا بأصل الشرع، مثل أن يكون لم يؤد الفريضة من قبل، فيلزمه فعل الفريضة بالخطاب الأول، أي: بالأمر الأول، لا من حيث إنه قضاء. هذا إذا لم يكن اشترط في ابتداء إحرامه، أنه ((إن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني)) ، فإن كان قد اشترط في بداية إحرامه أنه ((إن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني)) ، فإنه يحل من إحرامه مجاناً ولا شيء عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير، وقد أرادت الحج وهي شاكية: ((حجي واشترطي، وقولي: اللهم، محلي حيث حبستني)) (1) . حكم من توفي أثناء إحرامه بالنسك   (1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، رقم (5089) ومسلم، كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه، رقم (1207) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 السؤال (243) : فضيلة الشيخ، هذا ما يتعلق بالحاج إذا عجز عن النسك، لكن لو توفي الحاج أثناء تلبسه بالنسك ما الحكم؟ الجواب: إذا توفي الحاج أثناء تلبسه بالنسك، فإن من أهل العلم من يقول: إذا كان حجه فريضة، فإنه يقضى عنه ما بقي، ومنهم من يقول: إنه لا يقضى عنه ما بقي، وهذا القول هو القول الراجح؛ ودليله حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجل الذي وقصته ناقته وهو واقف بعرفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)) (1) ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي أحد عنه ما بقي من نسكه، ولأننا لو قضينا ما بقي من نسكه، لكان هذا النائب الذي قام مقامه يحل من إحرامه، وحينئذ لا يبعث الرجل يوم القيامة ملبياً؛ لأن نائبه قد حل من الإحرام الذي تلبس به بدلاً عنه، وعلى كل حال: فالقول الراجح بلا شك: أن الإنسان إذا مات أثناء تلبسه بالنسك، فإنه لا يقضى عنه، سواء كان ذلك فريضة أم نافلة.   (1) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين، (1265) ومسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، (رقم (1206) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 السؤال (244) : فضيلة الشيخ، لكن هل يقتصر هذا الحكم على الوقت الذي يلبى فيه، يعني: قبل رمي جمرة العقبة أم يشمل جميع الحج؟ الجواب: يشمل جميع الحج، يعني: سواء كان ذلك قبل التحلل الأول، أم بعد التحلل الأول؛ فإنه لا يقضى عنه ما بقي. صفة الاشتراط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 السؤال (245) : فضيلة الشيخ، ذكرتم الاشتراط إذا عجز الحاج عن إكمال النسك، نود أيضاً أن نعرف حكم الاشتراط، وما هي صفته؟ الجواب: نذكر أولاً صفة الاشتراط قبل حكمه؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. صفة الاشتراط: أن الإنسان إذا أراد الإحرام يقول: إن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني، يعني: فإنني أحل، إذا حبسني حابس، أي: منعني مانع عن إكمال النسك، وهذا يشمل أي مانع كان؛ لأن كلمة حابس، نكرة في سياق الشرط، فتعم أي حابس كان، وفائدة هذا الاشتراط: أنه لو حصل له حابس يمنعه من إكمال النسك، فإنه يحل من نسكه ولا شيء عليه، وقد اختلف أهل العلم في الاشتراط. فنهم من قال: إنه سنة مطلقاً، أي: أن المحرم ينبغي له أن يشترط، سواء كان في حال خوف أو في حال أمن؛ لما يترتب عليه من الفائدة، والإنسان لا يدري ما يعرض له. ومنهم من قال: إنه لا يسن إلا عند الخوف، أما إذا كان الإنسان آمناً، فإنه لا يشترط. ومنهم من أنكر الاشتراط مطلقاً. والصواب: القول الوسط، وهو أنه إذا كان الإنسان خائفاً من عائق يمنعه من إتمام نسكه، سواء كان هذا العائق عاماً أم خاصاً، فإنه يشترط، وإن لم يكن خائفاً فإنه لا يشترط؛ وبهذا تجتمع الأدلة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم ولم يشترط، وأرشد ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها إلى أن تشترط (1) ، حيث كانت شاكية، والشاكي، أي: المريض_ خائف من عدم إتمام نسكه. وعلى هذا فنقول: إذا كان الإنسان خائفاً من طارئ يطرأ، يمنعه من إتمام النسك، فليشترط؛ أخذاً بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم ضباعة بنت الزبير، وإن لم يكن خائفاً، فالأفضل ألا يشترط، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحرم بدون شرط. صيغة الشرط   (1) تقدم تخريجه (344) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 السؤال (246) : فضيلة الشيخ، لكن بالنسبة للمشترط هل يلزمه أن يأتي بالصيغة التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أم يشترط بأي كلام يعبر به عما في نفسه؟ الجواب: لا يلزمه أن يأتي بالصيغة الواردة؛ لأن هذا مما لا يتعبد بلفظه، والشيء الذي لا يتعبد بلفظه يكتفى فيه بالمعنى. محظورات الإحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 السؤال (247) : فضيلة الشيخ، ما هي محظورات الإحرام؟ الجواب: محظورات الإحرام هي الممنوعات بسبب الإحرام، يعني: المحرمات التي سببها الإحرام، وذلك أن المحرمات نوعان: محرمات في حال الإحرام وحال الحل؛ وإليها أشار الله تعالى بقوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ) (البقرة: 197) . كلمة فسوق عامة تشمل ما كان الفسق فيه بسبب الإحرام وغيره. ومحرمات خاصة سببها الإحرام، إذا تلبس الإنسان بالإحرام، فإنها تحرم عليه، وتحل له في حال الحل. فمن محظورات الإحرام: الجماع، وهو أشد المحظورات إثماً، وأعظمها أثراً، ودليله قوله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) ؛ فإن الرفث هو الجماع ومقدماته، وإذا وقع الجماع قبل التحلل الأول في الحج، فإنه يترتب عليه أمور خمسة: الأول: الإثم. الثاني: فساد النسك. والثالث: وجوب الاستمرار فيه. والرابع: وجوب فدية؛ بدنة يذبحها ويفرقها على الفقراء. والخامس: وجوب القضاء من العام القادم. وهذه آثار عظيمة تكفي المؤمن في الانزجار عنه والبعد عنه. ومن المحظورات أيضاً: المباشرة بشهوة، والتقبيل، والنظر بشهوة، وكل ما كان من مقدمات الجماع؛ لأن هذه المقدمات تفضي إلى الجماع. ومن محظورات الإحرام: حلق شعر الرأس؛ لقوله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (البقرة: 196) ، وألحق العلماء بحلق الرأس حلق جميع الجسم، وألحقوا به أيضاً تقليم الأظفار وقصها. ومن محظورات الإحرام: عقد النكاح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب)) (1) ومن محظوراته أيضاً: الخطبة، فلا يحوز للإنسان أن يخطب امرأة وهو محرم بحج أو عمرة. ومن محظورات الإحرام قتل الصيد، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (المائدة: 95) . ومن محظوراته أيضاً: الطيب بعد عقد الإحرام، سواء في البدن، أو في الثوب، أو في المأكول، أو في المشروب؛ فلا يحل لمحرم استعمال الطيب على أي وجه كان بعد عقد إحرامه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته في عرفه فمات: ((لا تحنطوه)) (2) ، والحنوط: أطياب تجعل في الميت عند تكفينه. فأما أثر الطيب الذي تطيب به عند الإحرام، فإنه لا بأس به، ولا تجب عليه إزالته؛ لقول عائشة رضي الله عنها: كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم230) ، وقالت: كنت أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم (3) ومن محظورات الإحرام أيضاً: لبس الرجل القميص، والبرانس، والسروايل، والعمائم، والخفاف؛ هكذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: ما يلبس المحرم، فقال: ((لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس، ولا العمائم، ولا الخفاف، إلا من لا يجد إزاراً فيلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين)) (4) وما كان بمعنى هذه المحظورات فهو مثلها، فالكوت، والفانيلة، والصدرية، والغترة، والطاقية، والمشلح، كل هذه بمعنى المنصوص عليه، فيكون لها حكم المنصوص عليه. وأما لبس الساعة، والخاتم، والكمر، وسماعة الأذن، ونظارة العين، والكمر الذي تكون فيه الفلوس وما أشبهها فإن ذلك لا يدخل في المنهي عنه، لا بالنص ولا بالمعنى؛ وعلى هذا فيجوز للمحرم أن يلبس هذه الأشياء. وليعلم أن كثيراً من العامة، فهموا من قول أهل العلم: ((إن المحرم لا يلبس المخيط)) ، أن المراد بالمخيط ما فيه خياطة؛ ولهذا تجدهم يسألون كثيراً عن لبس الكمر المخيط، وعن لبس الأزرار، أو الرداء المرقع، وعن لبس النعال المخوذة وما أشبه ذلك، ظناً منهم أن العلماء يريدون بلبس المخيط: لبس ما كان فيه خياطة، والأمر ليس كذلك، وإنما مراد العلماء بذلك: ما يلبس من الثياب المفصلة على الجسم، على العادة المعروفة، وتأمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يلبس القميص ولا السراويل..ألخ)) يتبين لك أن الإنسان لو تلفف بالقميص بدون لبس، فإنه لا حرج عليه، فلو جعل القميص إزاراً لفه على ما بين سرته وركبته، فإنه لا حرج عليه في ذلك؛ لأن ذلك لا يعد لبساً للقميص. ومن المحرمات في الإحرام: تغطية الرجل رأسه بملاصق معتاد، كالطاقية، والعمامة، والغترة، فأما تظليل الرأس بالشمسية، أو سقف السيارة، أو بثوب يرفعه بيديه عن رأسه، فهذا لا بأس به، لأن المحرم تغطية الرأس لا تظليله، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم حصين رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم راكباً، وأسامة وبلال أحدهما آخذ بخطام ناقته، والثاني رافع ثوبه، أو قالت: ثوباً يظلله به من الحر، حتى رمى جمرة العقبة (5) ولا يحرم على المحرم أن يحمل عفشه على رأسه؛ لأن ذلك لا يراد للتغطية، وإنما المراد به الحمل. ومن محظورات الإحرام: أن تنتقب المرأة، أي: تضع النقاب على وجهها، يعني: النقاب لباس الوجه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة أن تنتقب وهي محرمة (6) ؛ فالمشروع للمرأة في حال الإحرام أن تكشف وجهها، إلا إذا كان حولها رجال غير محارم لها، فإنه يجب عليها أن تستر الوجه، وفي هذه الحال: لا بأس أن يلاصق الساتر بشرتها، ولا حرج عليها في ذلك. ومن محظورات الإحرام: لبس القفازين وهما جوارب اليدين، وهذا يشمل الرجل والمرأة فلا تلبس المرأة القفازين في حال الإحرام، وكذلك الرجل لا يلبس القفازين؛ لأنهما لباس، فهما كالخفين بالنسبة للرجل. حكم وضع شيء ملاصق لرأس المحرم   (1) أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته، رقم (1409) . (2) تقدم تخريجه (344) 230) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام، رقم (1539) ، ومسلم كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، رقم (1189) واللفظ له. (3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام، رقم (1538) ، ومسلم، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، رقم (1190) (4) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب، رقم (1542) ، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، رقم (1177) . (5) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، رقم (1298) (6) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب ما ينهي من الطيب للمحرم والمحرمة، رقم (1838) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب الاغتسال للمحرم، رقم (1840) ومسلم، كتاب الحج، باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه، رقم (1205) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 السؤال (248) : فصيلة الشيخ، قلتم: إنه لا يستر المحرم رأسه أو لا يضع على رأسه ملاصقاً؛ كالغترة والطاقية، هل يشمل ذلك أيضاً وضع قطعة ورق أو كرتون أو بطانية على رأسه؟ الجواب: نعم يشمل هذا، ولهذا إذا احتاج إلى تظليل رأسه، فليرفع هذا عن رأسه قليلاً لا يباشره. الفرق بين النقاب والبرقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 السؤال (249) : فضيلة الشيخ، ما الفرق بين النقاب والبرقع وهل يجوز للمرأة المحرمة أن تلبس البرقع؟ الجواب: البرقع أخص من النقاب؛ لأن النقاب خمار معتاد، يتدلى من خمار رأسها، ويفتح لعينيها، أما البرقع فإنه قد فصل للوجه خاصة، وغالباً يكون فيه من التجميل والنقوش ما لا يكون في النقاب، ولذلك فلا يجوز أن تلبس المحرمة البرقع؛ لأنها إذا منعت من النقاب فالبرقع من باب أولى. كيف ستر وجه المحرمة أمام الرجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 السؤال (250) : فضيلة الشيخ: قلتم بوجوب ستر المحرمة وجهها إذا حضر الرجال، فهل تستر وجهها بالنقاب أم بشيء آخر؟ الجواب: تستره بشيء ليس بنقاب، ولا برقع، تغطيه تغطيه كاملة. حكم من تلبس ببعض محظورات الإحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 السؤال (251) : فضيلة الشيخ، فصلتم في الجماع كمحظور من محظورات الإحرام، وذكرتم أنه يترتب عليه خمسة أمور، لكن بقية المحظورات ما ذكرتم لنا حكم من تلبس بشيء منها؟ الجواب: نذكر ذلك إن شاء الله: أما الصيد: فقد بين الله سبحانه وتعالى ما يترتب عليه؛ فقال: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً) (المائدة: 95) فإذا كان هذا الصيد مما له مثل من النعم، أي: من الإبل أو الفقر أو الغنم، فإنه يذبح مثله في مكة، ويتصدق به على الفقراء، أو يجعل بدل المثل طعاماً يشترى ويوزع على الفقراء، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً، هذا إذا كان له مثل، أما إذا كان لم يكن له مثل، فإن العلماء يقولون: يخير بين الإطعام والصيام، فيقوم الصيد بدراهم، ويطعم ما يقابل هذه الدراهم الفقراء في مكة، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً. هذا في الصيد. أما في حلق الرأس: فقد بين الله عز وجل أن الواجب فدية من صيام أو صدقة أو نسك، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصيام ثلاثة أيام وأن الصدقة إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك شاة يذبحها، وهذه الشاة توزع على الفقراء، وحلق الرأس حرام إلا لمن تأذى بالشعر؛ كما سنتعرض له إن شاء الله تعالى. محظورات الإحرام (تتمة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 السؤال (252) : فضيلة الشيخ، ما الذي يجب على من ارتكب محظوراً من هذه المحظورات؟ الجواب: ذكرنا فيما سبق ما يجب في فعل محظورات الإحرام، فذكرنا جزاء الصيد، وذكرنا ما يجب في الجماع أيضاً، وذكرنا ما يجب بحلق الرأس، وأنه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، والصيام بينه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه صيام ثلاثة أيام، والصدقة بأنها إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، والنسك ذبح شاة، وهذه الشاة توزع على الفقراء، ولا يؤكل منها شيء، لأنها وجبت جبراناً للنسك، حيث انتهك الإنسان ما حرم عليه فيه. وهذه الفدية تسمى عند أهل العلم فدية الأذى؛ لأن الله تعالى ذكرها في ذلك؛ حيث قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (البقرة: 196) ، قال أهل العلم: وهي واجبة - أعني فدية الأذى - واجبة في كل محظور من محظورات الإحرام، ما عدا الجماع قبل التحلل الأول في الحج، وجزاء الصيد؛ لأن في الأول بدنه، وفي الثاني المثل، أو ما يقوم مقامه، فكل المحظورات عندهم ما عدا ما ذكرنا، كل المحظورات التي فيها فدية، فديتها فدية الأذى، فدخل في ذلك: لبس القميص، والسراويل، والبرانس، وما أشبهها، وتغطية الرأس للرجل، وتغطية الوجه للمرأة، والطيب، والمباشرة، وما أشبه ذلك، هكذا قال أهل العلم في هذه المحظورات. حكم من ارتكب محظوراً من المحظورات جاهلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 السؤال (253) : فضيلة الشيخ، ما حكم من ارتكب محظوراً من هذه المحظورات ناسيا أو جاهلاً؟ الجواب: نقول: محظورات الإحرام تنقسم إلى أقسام: منها: مالا فدية فيه أصلاً، ومثل له العلماء بعقد النكاح والخطبة، خطبة النكاح، قالوا: إن هذا ليس فيه فدية. ومنها: ما فديته فدية الأذى. ومنها: ما فديته بدنة. ومنها ما فديته الجزاء. وكل شيء فيه فدية، فإن فاعله لا يخلو من ثلاث حالات: إما أن يفعله عالماً ذاكراً مختاراً، وفي هذه الحال يترتب عليه الإثم، وما يجب فيه من الفدية. وإما أن يفعله متعمداً عالماً مختاراً، لكن لعذر، فهذا ليس عليه إثم، ولكن عليه الفدية، مثل أن يحلق رأسه لأذى أو شبهه متعمداً عالماً ذاكراً، فإنه يجب عليه الفدية، ولا إثم عليه؛ لأنه معذور. وأما أن يفعل هذه المحظورات ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً، فهذا ليس عليه بشيء، لا إثم ولا فدية أيا كان المحظور؛ لعموم قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: 286) ، وقوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (الأحزاب: من الآية5) وقوله تعالى في جزاء الصيد: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم) (المائدة: 95) ، فإذا اشترطت العمدية في جزاء الصيد، مع أن قتل الصيد إتلاف، فما عداه من باب أولى. وعلى هذا فنقول: إذا فعل أحد شيئا من هذه المحظورات، ناسياً أو جاهلاً أو مكروها، فليس عليه شيء، لا إثم، ولا فدية، ولا يفسد نسكه، ولا يتعلق به شيء أصلاً، ولو كان المحظور جماعاً. حكم استبدال المحرم لباس الإحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 السؤال (254) : فضيلة الشيخ، ما حكم استبدال المحرم لباس الإحرام؟ الجواب: تبديل المحرم لباس الإحرام بثوب يجوز لبسه في الإحرام - لا باس بهن سواء فعله لحاجة، أو لضرورة، أو لغير حاجة ولا ضرورة: فأما فعله للضرورة: فمثل أن يتنجس ثوب الإحرام وليس عنده ماء يغسله به، فهنا يضطر إلى تبديله بثوب طاهر؛ لأنه لا يمكن أن تصح منه صلاته إلا بثياب طاهرة. ومثال الحاجة: أن يتسخ ثوب الإحرام، فيحتاج إلى غسل، فله أن يخلعه، ويلبس ثوباً آخر مما يجوز لبسه في الإحرام. ومثال ما لا حاجة لخلعه ولا ضرورة: أن يبدو للإنسان أن يغير لباس الإحرام بدون أي سبب، فله ذلك ولا حرج عليه، إذا غيره بما يجوز لبسه. حكم الاغتسال للمحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 السؤال (255) : فضيلة الشيخ، الترفه ممنوع منه المحرم؟ كتقليم الظافر وغيره، لكن هل يجوز للمحرم أن يغتسل من أجل النظافة؟ الجواب: المحرم يجوز له أن يغتسل من أجل النظافة؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اغتسل وهو محرم * (ويجوز للمحرم أن يغير ثياب الإحرام إلى ثياب أنظف منها أو أجد، ويجوز له أيضاً أن يترفه باستعمال المكيفات، أو بغيرها من أسباب الراحة. وأما قول بعض أهل العلم: إنه لا يجوز له أن يقلم أظفاره، وقاسوه على حلق شعر الرأس بجامع الترفه، فهذا أمر ينظر فيه، وليس محل إجماع من أهل العلم. حكم إتلاف نبات وشجر مكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 السؤال (256) : فضيلة الشيخ، بالنسبة للمحرم والنبات الذي ينبت في مكة المكرمة، في الحرم، ما حكم قلع هذا النبات والتعرض له بشيء من الإتلاف؟ الجواب: النبات والشجر، لا علاقة للإحرام بهما؛ لأن تحريمها لا يتعلق بالإحرام، وإنما يتعلق بالمكان، أي: بالحرم، فما كان داخل أميال الحرم، فإنه لا يجوز قطعة ولا حشة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مكة: ((إنه لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها)) (1) فقطع شجرها وحشيشها، حرام على المحرم وغيره، وأما ما كان خارج الحرم فإنه حلال للمحرم وغير المحرم، وعلى هذا فيجوز للحجاج أن يقطعوا الشجر في عرفة، ولا حرج عليهم في ذلك، ولا يجوز لهم أن يقطعوا الشجر أو الحشيش في مزدلفة وفي منى؛ لأن مزدلفة ومنى داخل الحرم. ويجوز للحجاج أن يضعوا البساط عل الأرض، ولو كان فيها أعشاب، إذا لم يقصدوا بذلك إتلاف الحشيش الذي تحته؛ لأن تلفه حينئذ حصل بغير قصد، فهو كما لو مشى الإنسان في طريقه وأصاب حمامة أو شيئاً من الصيد بغير قصد منه، فإنه ليس عليه فيه شيء. زمان ومكان الإحرام بالحج   (1) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الإذخر والحشيش في القبر، رقم (1349) ، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها..، رقم (1353) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 السؤال (257) : فضيلة الشيخ، إذا جاء الحاج إلى البيت، وطاف وتحلل من العمرة، ومكث في مكة، فمتى يحرم بالحج، ومن أين يحرم؟ الجواب: يحرم الإنسان بالحج يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، من مكانه الذي هو نازل فيه، ويحرم ضحى، ويذهب إلى منى، فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كما أسلفنا ذلك في بيان صفة الحج. لا يلزم الطواف أو الإحرام من البيت يوم التروية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 السؤال (258) : فضيلة الشيخ، لكن هل يلزم المحرم في يوم التروية أن يطوف بالبيت، أو يحرم من البيت؟ الجواب: لا يلزمه أن يطوف باليت، ولا أن يحرم من البيت، ولا يسن له ذلك أيضاً؛ لأن الصحابة الذين حلوا من عمرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم احرموا من مكانهم، ولم يأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يذهبوا إلى البيت فيحرموا منه، أو أن يطوفوا قبل إحرامهم. حكم من أدرك الوقوف بعرفة متأخراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 السؤال (259) : فضيلة الشيخ، عرفنا في صفة الحج أن الحاج يخرج من منى في اليوم التاسع من ذي الحجة ضحى، لكن لو لم يدرك الوقوف بعرفة إلا متأخراً فما الحكم؟ الجواب: عرفنا أن الإنسان في اليوم الثامن يخرج إلى منى، ويبقي بها إلى صباح اليوم التاسع، ثم يذهب إلى عرفة، فلو أن الحاج لم ينزل في منى اليوم الثامن، وذهب إلى عرفة رأساً، فهل يصح حجة؟ والجواب على ذلك: نعم يصح حجه، بدليل حديث عروة بن المضرس رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى معه صلاة الفجر في مزدلفة، سأله فقال: يا رسول الله، إني أتعبت نفسي، وأكريت راحلتي، فلم أدع جبلاً إلا وقفت عنده، فقال النبي عليه الصلاة والسلام،: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه)) (1) ، وهذا دليل على أنه لا يجب أن يبقي الحاج في مني في اليوم الثامن وليلة التاسع، وأنه لو ذهب إلى عرفة رأساً، لكان حجه صحيحاً، لكن الأفضل أن يبقى في منى، من ضحى اليوم الثامن إلى أن تطلع الشمس من يوم التاسع. وأما سؤالكم الذي سألتم عنه وهو حكم من ذهب إلى عرفة متأخراً، فنقول: إذا ذهب إلى عرفة متأخراً، ولكنه أدرك الوقوف بها قبل أن يطلع الفجر يوم العيد، فحجّه صحيح ولا شيء عليه، فوقت الوقوف بعرفة ينتهي بطلوع فجر يوم العيد. بداية الوقوف بالمزدلفة ونهايته   (1) أخرجه أبو داود، كتاب الحج، باب من لم يدرك عرفة، رقم (1950) ، والترمذي كتاب الحج، فيمن أدرك بجمع فقد أدرك الحج، رقم (891) ، والنسائي، كتاب الحج، باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة، رقم (3016) وأحمد في المسند (4/261، 262) ، وقال الترمذي: حديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 السؤال (260) : فضيلة الشيخ، متى يبدأ الوقوف بمزدلفة، ومتى ينتهي، وما حكمه أيضاً؟ الجواب: الوقوف بمزدلفة الذي يعبر عنه أهل العلم بالمبيت بالمزدلفة، يبتدئ من انتهاء الوقوف بعرفة، ولا يصح قبله، فلو أن حاجاً وصل إلى مزدلفة في أثناء الليل قبل أن يقف بعرفة، فوقف في مزدلفة ثم ذهب إلى عرفة، ووقف بها، ثم نزل من عرفة إلى منى، فإن وقوفه بمزدلفة غير معتبر؛ لقول الله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) (البقرة: 198) ، فجعل محل الذكر عند المشعر الحرام، أو وقت الذكر عند المشعر الحرام، بعد الإفاضة من عرفة، فيبتدئ المكث في مزدلفة من انتهاء الوقوف بعرفة، ويستمر إلى أن يصلي الإنسان الفجر، ويقف قليلاً إلى أن يسفر جداً، ثم ينصرف إلى منى. ولكن يجوز لمن كان ضعيفاً لا يستطيع مزاحمة الناس في الرمي، أن يدفع من مزدلفة في آخر الليل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للضعفة من أهله أن يدفعوا في آخر الليل وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، ترقب غروب القمر، فإذا غرب دفعت (1) . وهذا أحسن من التحديد بنصف الليل؛ لأنه هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الموافق للقواعد، وذلك أنه لا يجعل حكم الكل للنصف، وإنما يجعل حكم الكل للأكثر والأغلب، وبهذا نعرف أن قول من قال من أهل العلم: إنه يكفي أن يبقى في مزدلفة بمقدار صلاة المغرب والعشاء، ولو قبل منتصف الليل، قول مرجوح، وأن الصواب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعله، وفيما أذن فيه.   (1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من قدم ضعفه أهله بليل..، رقم (1679) ، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن، رقم (1291) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 السؤال (261) : فضيلة الشيخ، متى ينتهي الوقوف بمزدلفة بحيث إن الحاج لو أتى لا يعتبر واقفاً بها؟ الجواب: ظاهر حديث عروة بن المضرس رضي الله عنه الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع)) (1) أن الإنسان لو جاء مزدلفة بعد طلوع الفجر، وأدرك صلاة الفجر بغلس في الوقت الذي صلاها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يجزئه، ومعروف عند الفقهاء رحمهم الله أنه لابد أن يدرك جزءاً من الليل، بحيث يأتي إلى مزدلفة قبل طلوع الفجر. حكم المبيت بمني يوم النحر   (1) سبق تخريجه (360) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 السؤال (262) : فضيلة الشيخ، ذكرتم أن من الأعمال التي يقوم بها الحاج يوم النحر المبيت بمني، لكن ما حكم هذا المبيت؟ الجواب: المبيت بمنى ذكرنا فيما سبق أنه من واجبات الحج، وأن المعروف عند أهل العلم، أن من ترك واجباً من واجبات الحج، فعليه فدية ذبح شاة، تذبح في مكة وتوزع على فقرائها. حد المبيت في منى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 السؤال (263) : فضيلة الشيخ، نرى بعضاً من الناس يتهاونون في المبيت بمنى؛ فيقلون من البقاء فيها، ويذهبون خارجها معظم الوقت، ولا يأتون إليها إلا ساعات محدودة، فما هو المقدار الكافي للبقاء في منى أو المبيت في منى؟ الجواب: المشروع للحاج أن يبقى في منى طول الوقت، هكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإنسان لم يتغرب عن وطنه، ولم يتجشم المشاق إلا لأداء هذه العبادة العظيمة على وفق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يأت من بلده إلى هذا المكان ليترفه، ويسلك ما هو الأيسر، مع مخالفته لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالمشروع في حق الحاج أن يبقى في منى ليلاً ونهاراً، ولكن مقتضى قواعد الفقهاء، ومقتضى كلام الفقهاء: أن الواجب أن يبقى في منى معظم الليل في الليلة الحادية عشرة والثانية عشرة وأما بقية الليل، والنهار جميعه: فليس بواجب عندهم أن يمكث في منى، ولكن ينبغي للإنسان أن يتقيد بما جاءت به السنة، وأن يبقى في منى ليلاً ونهاراً، والمسألة ما هي إلا يومان فقط، بالإضافة إلى يوم العيد، بل يوم ونصف، وزيادة يسيره مع يوم العيد. الآداب التي ينبغي مراعاتها في منى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 السؤال (264) : فضيلة الشيخ، ما هي الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها الحاج أثناء بقائه في منى يوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر لمن أراد أن يتأخر؟ الجواب: ينبغي للحاج أن ينتهز هذه الفرصة في التعرف على أحوال المسلمين، والالتقاء بهم، وإسداء النصح إليهم، وإرشادهم، وبيان الحق المبني على كتاب الله وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم حتى ينصرف المسلمون من حجهم، وهم قد أدوا هذه العبادة، ونهلوا من العلم الشرعي المبني على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان لا يحسن لغة من يخاطب، فإنه يجعل بينه وبينهم ترجماناً، يكون أميناً عارفاً باللغتين، المترجم منها وإليها، عارفاً بموضوع الكلام الذي يتكلم فيه، حتى يترجم عن بصيرة، وفي ثقة وأمانة. وينبغي كذلك في هذه الأيام، أن يكون حريصاً على التحلي بمحاسن الأخلاق والأعمال؛ من إعانة المستعين، وإغاثة الملهوف، ودلالة الضائع، وغير ذلك مما هو إحسان إلى الخلق؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195) ويقول جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) (النحل: 90) ، ولاسيما في هذه الأماكن المفضلة؛ فإن أهل العلم: يقولون: إن الحسنات تتضاعف في الزمان والمكان الفاضل. يستمعون إلى الملاهي ويغتابون الناس في منى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 السؤال (265) : فضيلة الشيخ، بعض الناس يقضي هذه الأيام في مني: إما بالاستماع إلى الملاهي، أو بالتفكه بالحديث في أعراض الناس، فما حكم هذا العمل؟ الجواب: هذا العمل محرم في حال الحج وغير الحج؛ فإن الأغاني المصحوبة بآلات العزف، من الموسيقي، والعود والرباب وشبهها محرمة في كل زمان وفي كل مكان؛ لما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (0 ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر، والمعازف)) (1) ، قال العلماء: والمعازف: آلات اللهو، ولا يستثنى منها إلا الدفوف في المناسبات التي أذن الشارع باستعمالها فيها. وكذلك التفكه بأعراض الناس، والسخرية بهم ونحو ذلك مما يحدث في موسم الحج وغيره، وهو حرام سواء كان في موسم الحج أو في غير موسم الحج، وسواء كان في مكة أو في غير مكة؛ لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11) الحكمة من رمي الجمارالسؤال (266) : فضيلة الشيخ، في أيام التشريق ترمى الجمار الثلاث في يومين أو ثلاثة أيام، فما الحكمة من رمي هذه الجمار؟ الجواب: الحكمة من رمي هذه الجمار، بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله) (2) وفي رمي الجمار أيضاً: تحقيق لعبادة الله عز وجل؛ فإن الإنسان يرمي هذه الجمار، وهو لا يعرف حكمة بينة في رميها، وإنما يفعل ذلك تعبداً لله وذكراً له، وكذلك يرمي هذه الجمرات؛ اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه رماها، وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)) (3) . صفة رمي الجمار   (1) أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، رقم (5590) (2) سبق تخريجه (327) (3) تقدم تخريجه (325) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 السؤال (267) : فضيلة الشيخ، أيضاً بالنسبة للجمار، نود أن تذكروا لنا صفة رمي الجمار؟ الجواب: الذي ينبغي للحاج إذا ذهب إلى رمي جمرة العقبة أن يكون ملبياً، فإذا شرع في الرمي، قطع التلبية، هذا في رمي جمرة العقبة، يوم العيد، أما في رمي الجمرات الثلاث، فينبغي أن يذهب بسكينة وخضوع وخشوع لله عز وجل، وإن كبر في مسيره فحسن؛ لأن أيام التشريق، أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل، ومن ذكر الله تعالى التكبير، فإذا ذهب مكبراً، فهو حسن؛ لأن التكبير هنا مطلق، ولكنه لا يعتقد أنه مشروع من أجل الذهاب إلى الرمي، إنما يعتقد أنه مشروع مطلقاً، أما ذهابه بخشوع وتعظيم لله، فهذا أمر مطلوب، ولهذا يكبر الإنسان الله عز وجل عند رمي كل حصاة. الدعاء عند رمي الجمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 السؤال (268) : فضيلة الشيخ، لكن هل هناك أدعية عند رمي الجمرات؟ الجواب: نعم ذكرنا أنه إذا رمى الجمرة الأولى، استقبل القبلة، ورفع يديه، وقام يدعو دعاء طويلاً، وكذلك بعد رمي الجمرة الوسطي، وأما بعد رمي جمرة العقبة فلا يقف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 السؤال (269) : فضيلة الشيخ، وهل هناك دعاء مخصوص؟ الجواب: ليس هناك دعاء مخصوص فيما أعلم. لا تلزم الطهارة عند رمي الجمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 السؤال (270) : فضيلة الشيخ، هل تلزم الطهارة لرمي الجمار؟ الجواب: الطهارة لا تلزم في أي منسك من مناسك الحج، إلا الطواف بالبيت، فإنه لا يجوز للحائض أن تطوف بالبيت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: ((افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت)) (1) . حكم غسل حصى الجمار   (1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، رقم (1650) ، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، رقم (1211) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 السؤال (271) : فضيلة الشيخ، ما حكم غسل الجمار؟ الجواب: لا يغسل، بل إذا غسله الإنسان على سبيل التعبد لله، كان هذا بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله. حكم من نسي شيئاً من أشواط الطواف أو السعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 السؤال (272) : فضيلة الشيخ، ما حكم من نسي شيئا من أشواط الطواف أو السعي؟ الجواب: إذا نسي الإنسان شيئاً من أشواط الطواف أو السعي، فإن ذكر قريباً أتم ما بقي عليه، فلو طاف ستة أشواط بالبيت، ثم انصرف إلى مقام إبراهيم ليصلي، وفي أثناء انصرافه، ذكر أنه لم يطف إلا ستة أشواط، فإنه يرجع من الحجر الأسود، ليأتي بالشوط السابع، ولا حرج عليه. أما إذا يذكر إلا بعد مدة طويلة: فإن كان الطواف طواف نسك، وجب عليه إعادة الطواف من جديد؛ لأن طوافه الأول لم يصح؛ لكونه ناقصاً، ولا يمكن بناء ما تركه على ما سبق؛ لطول الفصل بينهما، فيستأنف الطواف من جديد. وهكذا نقول في السعي: إنه إذا نسي شوطاً من السعي، فإذا ذكر قريباً، أتى بالشوط الذي نسيه، وإن طال الفصل، استأنفه من جديد. هذا إذا قلنا: إن الموالاة في السعي شرط، أما إذا قلنا: إنها ليست بشرط- كما هو قول بعض أهل العلم- فإنه يأتي بما نسي ولو طال الفصل. ولكن الأحوط: أن يبدأ بالسعي من جديد إذا أطال الفصل؛ لأن ظهور كون الموالاة شرطاً أبلغ من عدم كونها شرطاً. ماذا يفعل إذا أقيمت الصلاة، وهو في الطواف أو السعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 السؤال (273) : فضيلة الشيخ، إذا أقيمت الصلاة وهو في الطواف أو السعي، فماذا يفعل؟ الجواب: إذا أقيمت الصلاة وهو في الطواف أو في السعي، فإنه يدخل مع الجماعة، وإذا انتهت الصلاة، أتم الشوط من حيث وقف، ولا يلزمه أن يأتي به من أول الشوط، فإذا قدر أنه أقيمت الصلاة وهو في منتصف الشوط الثالث من السعي، فليقف مكانه ويصلي، ثم إذا سلم الإمام أتم السعي من مكانه، وإن لم يكن حوله أحد يصلي معه في المسعى، فإنه يتقدم، ويصلي حيث يجد من يصافه، فإذا سلم من الصلاة، خرج إلى المسعى، وأتم من المكان الذي قطعه منه، ولا يلزمه أن يعيد الشوط من ابتدائه. وهكذا نقول في الطواف: لو أقيمت الصلاة وأنت بحذاء الحجر من الناحية الشمالية مثلاً، فإنك تصلي في مكانك فإذا انتهت الصلاة فأتم الشوط من المكان الذي وقفت فيه، ولا حاجة إلى أن تعيد الشوط من الحجر الأسود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 السؤال (274) : فصيلة الشيخ، لكن هل يلزمه قطع الطواف أو السعي للصلاة أو يجوز له؟ الجواب: إن كانت الصلاة فريضة، يجب عليه أن يقطع الطواف أو السعي ليصلي؛ لأن صلاة الجماعة واجبة، وقد رخص للإنسان أن يقطع سعيه من أجلها، فيكون خروجه من السعي أو الطواف خروجاً مباحاً، ودخوله مع الجماعة، دخول واجباً، فيجب عليه أن يدخل مع الجماعة. أما إذا كانت الصلاة نافلة، كما لو كان ذلك في قيام الليل في التراويح في رمضان، فمعروف أنه لا يقطع السعي أو الطواف من أجل ذلك، لكن الأفضل أن يتحرى، فيجعل الطواف بعد القيام أو قبله، وكذلك السعي؛ لئلا يفوته فضيلة قيام الليل مع الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 السؤال (275) : فضيلة الشيخ، إذا أذن للصلاة، وهو يسعى بين الصفا والمروة، وهو على غير طهارة، وهذا جائز، فهل يخرج خارج الحرم ليتوضأ، ويرجع ويصلي مع الناس، ويكمل سعيه، أم يبتدئه من جديد؟ الجواب: نعم لابد أن يخرج إلى الميضأة ويتوضأ ويصلي مع الجماعة، وفي هذه الحال؛ إن كان الفصل طويلاً استأنف السعي، وإن كان قصيراً لم يستأنف، فإذا قدر أن الميضأة قريبة من المسعى، ولم يستوعب وقتاً، وأنه من حين جاء أقيمت الصلاة، فهذا زمن قليل، فليتم السعي، وأما إذا كان الزمن طويلاً، كأن تكون الميضأة بعيدة بحيث يكون الفاصل بين أجزاء السعي فاصلاً طويلاً، فإنه يبدأ السعي من أوله. حكم التمسح بجدران الكعبة وكسوتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 السؤال (276) : فضيلة الشيخ، في أثناء الطواف يشاهد بعض الناس يتمسحون بجدار الكعبة، وبكسوتها، وبالمقام، والحجر، فما حكم ذلك العمل؟ الجواب: هذا العمل يفعله الناس، يريدون به التقرب إلى الله عز وجل والتعبد له، وكل عمل تريد به التقرب إلى الله والتعبد له، وليس له أصل في الشرع فإنه بدعة، حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)) (1) ، ولم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه مسح سوى الركن اليماني، والحجر الأسود؛ وعليه: فإذا مسح الإنسان أي ركن من أركان الكعبة أو جهة من جهاتها، غير الركن اليماني والحجر الأسود، فإنه يعتبر مبتدعاً، ولما رأى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يمسح الركنين الشماليين، نهاه، فقال له معاوية رضي الله عنه: ليس شيء من البيت مهجوراً، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: 21) وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح الركنين، يعني: الركن اليماني والحجر الأسود فرجع معاوية رضي الله عنه إلى قول ابن عباس لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: 21) . ومن باب أولى في البدعة: ما يفعله بعض الناس من التمسح بمقام إبراهيم، فإن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه تمسح في أي جهة من جهات المقام. وكذلك ما يفعله بعض الناس من التمسح بزمزم، والتمسح بأعمدة الرواق، وغير ذلك مما لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، فكله بدعة، وكل بدعة ضلالة.   (1) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، رقم (2676) ، وأبو داودد، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم (4607) ، وابن ماجه، في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، رقم (42) وأحمد في ((المسند)) (4/127، 126) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 السؤال (277) : لكن أيضاً ما حكم الذين يتمسكون بأستار الكعبة، ويدعون طويلاً؟ الجواب: هؤلاء أيضاً عملهم لا أصل له في السنة، وهو بدعة، ينبغي بل يجب على طالب العلم أن يبين لهم هذا، وأنه ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الالتزام بين الحجر الأسود وبين الكعبة: فهذا قد ورد عن الصحابة رضي الله عنهم فعله، ولا بأس به، لكن مع المزاحمة والضيق- كما يشاهد اليوم- لا ينبغي للإنسان أن يفعل ما يتأذى به أو يؤذي غيره، في أمر ليس من الواجبات. صفة الالتزام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 السؤال (278) : فضيلة الشيخ، لكن ما صفة هذا الالتزام هل هو تعلق بهذا الجزء من الكعبة الذي بين الحجر الأسود والبيت، أم أنه وقوف ودعاء؟ الجواب: الالتزام: وقوف في هذا المكان وإلصاق، يلصق الإنسان يديه وذراعيه ووجهه وخده على هذا الجدار. خصائص ماء زمزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 السؤال (279) : فضيلة الشيخ، ذكرتم أيضاً أنه لا يجوز التمسح بزمزم، أو بشيء منها، لكن ما هي خصائص ماء زمزم؟ الجواب: من خصائص ماء زمزم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ماء زمزم لمن شرب له)) (1) وأن الإنسان إذا شربه لعطش روي، وإذا شربه لجوع، شبع؛ فهذا من خصائصه. حكم التبرك بآثار مكة والكعبة   (1) أخرجه أحمد في ((المسند)) (3/357، 372) ، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب الشرب من ماء زمزم رقم (3062) ، وصحة الألباني كما في ((إرواء الغليل)) رقم (1123) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 السؤال (280) : فضيلة الشيخ، هل من خصائص مكة أو الكعبة التبرك بأحجارها أو آثارها؟ الجواب: لا، ليس من خصائص مكة أن يتبرك الإنسان بأشجارها، أو أحجارها، بل من خصائص مكة: ألا تعضد أشجارها، ولا يحش حشيشها؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، إلا الإذخر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استثناه (1) ، لأنه يكون للبيوت، وقيون الحدادين، وكذلك اللحد في القبر؛ فإنه تسد به شقوق اللبنات، وعلى هذا فنقول: إن حجارة الحرم أو مكة ليس فيها شيء يتبرك به، بالتمسح به، أو بنقله إلى البلاد، أو ما أشبه ذلك. حكم إطلاق اسم جبل الرحمة على الجبل الذي في عرفة   (1) اخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الإذخر والحشيش في القبر، رقم (1349) ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها..، رقم (1353) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 السؤال (281) : فضيلة الشيخ، أيضاً يطلق على جبل عرفة: جبل الرحمة، فما حكم هذه التسمية، وهل لها أصل؟ الجواب: هذه التسمية لا أعلم لها أصلاً من السنة، أي: أن الجبل الذي في عرفة، الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم يسمى جبل الرحمة، وإذا لم يكن له أصل من السنة، فإنه لا ينبغي أن يطلق عليه ذلك، والذين أطلقوا عليه هذا الاسم لعلهم لاحظوا أن هذا الموقف موقف عظيم، تتبين فيه مغفرة الله تعالى ورحمته للواقفين في عرفة، فسموه بهذا الاسم، والأولى ألا يسمى بهذا الاسم، وليقال: جبل عرفه، أو الجبل الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم، وما أشبه ذلك. حكم زيارة هذا الجبل والصلاة عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 السؤال (282) : فضيلة الشيخ، يلتزم بعض الحجاج زيارة هذا الجبل قبل الحج أو بعده، ويصلون في أعلاه، فما حكم زيارة هذا الجبل، وما حكم الصلاة فيه؟ الجواب: حكمه كما يعلم من القاعدة الشرعية، بأن كل من تعبد لله تعالى بما لم يشرعه الله فهو مبتدع؛ فيعلم من هذا: أن قصد هذا الجبل للصلاة عليه أو عنده والتمسح به، وما أشبه ذلك مما يفعله بعض العامة بدعة، ينكر على فاعلها، ويقال له: إنه لا خصيصة لهذا الجبل، إلا أنه يسن أن يقف الإنسان يوم عرفة عند الصخرات كما وقف النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هناك عند الصخرات، وقال: ((وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف)) (1) وبناء على ذلك فلا ينبغي أيضاً أن يشق الإنسان على نفسه في يوم عرفة، ليذهب إلى الجبل، فربما يضيع عن قومه، ويتعب بالحر والعطش، ويكون بهذا آثماً، حيث شق على نفسه في أمر لم يوجبه الله عليه. حكم استقبال الجبل واستدبار الكعبة   (1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، رقم (1218) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 السؤال (283) : فضيلة الشيخ، أيضاً بخصوص هذا الجبل، كثير من الناس في يوم عرفة، يستقبلون الجبل ويستدبرون الكعبة، فما حكم هذا العمل، وما حكم رفع الأيدي والدعاء له؟ الجواب: المشروع للواقفين بعرفة، حين ينشغلون بالدعاء والذكر، أن يتجهوا إلي القبلة، سواء كان الجبل خلفهم أو بين أيديهم، وليس استقبال الجبل مقصودا لذاته، وإنما استقبله النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه كان بينه وبين القبلة؛ إذ إن موقف الرسول عليه الصلاة والسلام كان شرقي الجبل عند الصخرات، فكان استقبال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الجبل غير مقصود. وعلى هذا: فإذا كان الجبل خلفك إذا استقبلت القبلة فاستقبل القبلة، ولا يضرك أن يكون الجبل خلفك. وفي هذا المقام- أي: مقام الدعاء في عرفة - ينبغي للإنسان أن يرفع يديه، وأن يبالغ في التضرع إلى الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو وهو رافع يديه، حتى إن خطام ناقته لما سقط، أخذه صلى الله عليه وسلم بيده وهو رافع اليد الأخرى، وهذا يدل على استحباب رفع اليدين في هذا الموضع، وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً)) (1) . *** أخطاء تقع في مناسك الحج يجب الحذر منها أخطاء تقع في الإحرام   (1) أخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، رقم (1488) ، والترمذي، كتاب الدعوات، رقم (3556) ، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، رقم (3865) ، وقال الترمذي: حسن غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 السؤال (284) : فضيلة الشيخ، هناك مواقف يقفها الحجاج، وأمور يفعلونها في الحج، وهذه المواقف والأمور يقع فيها أخطاء، ولعله من الترتيب أن نبدأ بالإحرام وما يقع فيه من أخطاء، إذا كان هناك أخطاء ترونها في ذلك؟ الجواب: قبل أن أجيب على هذا السؤال، أحب أن أبين أن كل عبادة لابد لقبولها من شرطين: الشرط الأول: الإخلاص لله عز وجل، بأن يقصد الإنسان بعبادته التعبد لله تعالى وابتغاء ثوابه ومرضاته: فإن هذه هي الحال التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما في قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً) (الفتح: 29) ، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (22) (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ) (23) (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد 22، 24) ولقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة: 5) . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كان هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)) (1) . ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه قال: ((أنا أغني الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه)) (2) . ولقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها)) (3) والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثرة جداً، كلها تفيد أن أساس العمل: الإخلاص لله عز وجل. الشرط الثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أيضاً شرط لصحة العمل؛ لقوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام: 153) ولقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31) ولقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: 7) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد)) (4) ، وفي لفظ: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد)) (5) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)) (6) ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً أيضاً. وبناء على ذلك: فإن كل من تعبد لله تعالى عبادة غير مخلص فيها، فإنها باطلة، لفقد الإخلاص منها، وكل من تعبد لله تعالى بشيء يقصد به التعبد ولم يرد به الشرع، فإن ذلك مردود عليه؛ لعدم المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناء على هذه القاعدة العظيمة، أنه من شرط العبادة أن تكون خالصة لله موافقة لشريعته وهي التي اتبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإن هناك أخطاء يفعلها بعض المسلمين في عباداتهم، وما دمنا نتحدث في موضوع الحج، وما دام السؤال الذي ورد منكم يطلب به بيان الأخطاء في الإحرام، فإني أود أن أبين شيئاً منها. فمن ذلك: ترك الإحرام من الميقات: فإن بعض الحجاج ولا سيما القادمون بطريق الجو، يدعون الإحرام من الميقات حتى ينزلوا إلى جدة، مع أنهم يمرون به من فوق، وقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت لأهلها، وقال: ((هن لأهلن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) (7) . وثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه لما شكا إليه أهل العراق أن قرن المنازل التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد جور عن طريقهم، أي: بعيدة ومائلة عن الطريق، قال رضي الله عنه: انظروا إلي حذوها من طريقكم (8) . وهذا يدل على أن محاذاة الميقات كالمرور به، والذي يأتي محاذياً للميقات من فوق بالطائرة كالمار به، فعليه أن يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يجوز له أن يتعدى الميقات لينزل في جدة ويحرم منها. والطريق لتصحيح هذا الخطأ: أن يغتسل الإنسان في بيته أو في المطار، ويتأهب في الطائرة بلباس ثوب الإحرام، وخلع ثيابه المعتادة، فإذا حاذى الميقات، أحرم منه، فلبى بما يريد أن يحرم به من عمرة أو حج، ولا يحل له أن يؤخر ذلك إلى جدة، فإن فعل فقد أخطأ، وعليه - عند جمهور أهل العلم - فدية يذبحها في مكة، ويوزعها على الفقراء، لأنه ترك واجباً من الواجبات. الأمر الثاني مما يخطئ فيه بعض الناس: أن بعض الناس يعتقد أنه لابد أن يحرم بالنعلين، وأنه إذا لم يكن النعلان عليه حين الإحرام، فإنه لا يجوز له لبسهما وهذا خطأ؛ فإن الإحرام في النعلين ليس بواجب ولا شرط، فالإحرام ينعقد بدون أن يكون عليه النعلان، ولا يمنع إذا أحرم من غير نعلين، لا يمنع أن يلبسهما فيما بعد، فله أن يلبس النعلين فيما بعد، وإن كان لم يحرم بهما. ولا حرج عليه في ذلك. الثالث: أن بعض الناس يظن أنه لابد أن يحرم بثياب الإحرام، وتبقى عليه إلى أن يحل من إحرامه، وأنه لا يحل له تبديل هذه الثياب، وهذا خطأ؛ فإن الإنسان المحرم يجوز له أن يغير ثياب الإحرام لسبب أو لغير سبب، إذا غيرها إلى شيء يجوز لبسه في الإحرام. ولا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، فكل من أحرم بشيء من ثياب الإحرام وأراد أن يغيره، فله ذلك، لكن أحياناً يجب عليه تغييره؛ كما لو تنجس بنجاسة لا يمكن غسله إلا بخلعه، وأحياناً يكون تغييره أحسن إذا تلوث تلوثاً كثيراً بغير نجاسة، فينبغي أن يغيره إلى ثوب نظيف أو إلى ثوب إحرام نظيف، وتارة يكون الأمر واسعاً، إن شاء غير، وإن شاء بدل. المهم: أن هذا الاعتقاد غير صحيح، وهو أن يعتقد الحاج أنه إذا أحرم بثوب، لا يجوز له خلعه حتى يحل من إحرامه. الرابع: أن بعض الناس يضطبعون بالإحرام من حين الإحرام، أي: من حين عقد النية، والاضطباع: أن يخرج الإنسان كتفه الأيمن؛ ويجعل طرفي الرداء على كتفه الأيسر، فنرى كثيراً من الحجاج- إن لم يكن أكثر الحجاج- يضطبعون من حين أن يحرموا إلى أن يحلو؛ وهذا خطأ؛ لأن الاضطباع إنما يكون في طواف القدوم فقط، ولا يكون في السعي ولا فيما قبل الطواف. هذه من الأخطاء التي يخطئ فيها بعض الحجاج، وتلافي هذا كله أن يدعوا هذه الأخطاء، وان يصححوا المسار على حسب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. هناك أيضاً خطأ زائد على ما قلت: وهو اعتقاد بعضهم أنه يجب أن يصلي ركعتين في الإحرام، وهذا خطأ أيضاً؛ فإنه لا يجب أن يصلي الإنسان ركعتين عند الإحرام، بل القول الراجح الذي ذهب إليه أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه لا يسن للإحرام صلاة خاصة، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا اغتسل الإنسان ولبس ثياب الإحرام، أحرم بدون صلاة، إلا إذا كان وقت صلاة مثل أن تكون صلاة الفريضة قد حان وقتها أو قرب وقتها، وهو يريد أن يمكث في الميقات حتى يصلي، فهنا الأفضل أن يكون إحرامه بعد الصلاة، أما أن يتعمد صلاة معينة في الإحرام، فإن القول الراجح: أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، هذا ما يحضرني الآن مما يخطئ فيه الناس عند الإحرام. أخطاء تقع في الإحرام بالحج يوم التروية   (1) تقدم تخريجه 219 (2) أخرجه مسلم، كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله رقم (2985) (3) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، رقم (56) ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، رقم (1628) (4) تقدم تخريجه (111) (5) أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، رقم (2697) ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718) (6) تقدم تخريجه (372) (7) تقدم تخريجه (316) (8) تقدم تخريجه (315) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 السؤال (285) : فضيلة الشيخ، بالنسبة للإحرام يوم التروية هل هناك أخطاء يرتكبها الحجاج؟ وما علاجها؟ الجواب: نعم، هناك أخطاء في الإحرام في الحج يوم التروية، فمنها ما سبق ذكره من الأخطاء عند الإحرام بالعمرة، وهو أن بعض الناس يعتقد وجوب الركعتين للإحرام، وأنه لابد أن تكون ثياب الإحرام جديدة وأنه لابد أن يحرم بالنعلين، وأنه يضطبع بالرداء من حين إحرامه إلى أن يحل. ومن الأخطاء في إحرام الحج: أن بعض الناس يعتقد أنه يجب أن يحرم من المسجد الحرام، فتجده يتكلف ويذهب إلى المسجد الحرام ليحرم منه، وهذا ظن خطأ، فإن الإحرام من المسجد الحرام لا يجب، بل السنة أن يحرم بالحج من مكانه الذي هو نازل فيه؛ لأن الصحابة الذين حلوا من إحرام العمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أحرموا بالحج يوم التروية، لم يأتوا إلى المسجد الحرام ليحرموا منه، بل أحرم كل إنسان منهم من موضعه، وهذا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ فيكون هذا هو السنة، فالسنة للمحرم بالحج أن يكون إحرامه من المكان الذي هو نازل فيه، سواء كان في مكة أو في منى، كما يفعله بعض الناس الآن حيث يتقدمون إلى منى من أجل حماية الأمكنة لهم. ومن الأخطاء أيضاً: أن بعض الحجاج يظن أنه لا يصح أن يحرم بثياب الإحرام التي أحرم بها في عمرته إلا أن يغسلها، وهذا ظن خطأ أيضاً، لأن ثياب الإحرام لا يشترط أن تكون جديدة أو نظيفة، صحيح أنه كلما كانت أنظف فهو أولى، وأما أنه لا يصح الإحرام بها لأنه أحرم بها في العمرة، فإن هذا ظن ليس بصواب، هذا ما يحضرني الآن بالنسبة للأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج في الإحرام بالحج. أخطاء تقع في التلبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 السؤال (286) : فضيلة الشيخ، إذا انتقلنا من الإحرام، فهل هناك أخطاء تقع من الحجاج بعد الإحرام وما هي؟ الجواب: هناك أخطاء في الواقع تكون بعد الميقات، أو بعد الإحرام من الميقات إلى الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك في التلبية؛ فإن المشروع في التلبية: أن يرفع الإنسان صوته بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريل، فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال)) (1) ، يعني بالتلبية، ونرى أفواج الحجيج تمر بأعداد ضخمة لا نسمع أحداً يلبي، فلا يكون للحج مظهر في ذكر الله عز وجل، بل إنه تمر بك الأفواج وكأنهم لا ينطقون، والمشروع للرجال أن يرفعوا أصواتهم بقدر ما يستطيعون من غير مشقة في التلبية؛ لأن الصحابة كانوا يفعلون هكذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ كما أشرنا إليه آنفاً. وخطأ آخر في التلبية: أن بعض الحجاج يلبون بصوت جماعي، فيتقدم واحد منهم أو يكون في الوسط أو في الخلف، ويلبي ثم يتبعونه بصوت واحد، وهذا لم يرد عن الصحابة رضي الله عنهم،، بل قال أنس بن مالك: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم _ يعني في حجة الوداع- فمنا المكبر، ومنا المهلل، ومنا الملبي، وهذا هو المشروع للمسلمين؛ أن يلبي كل واحد بنفسه، وألا يكون له تعلق بغيره. أخطاء تقع عند دخول الحرم   (1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب كيف التلبية، رقم (1814) ، والترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، رقم (829) وقال: حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 السؤال (287) : فضيلة الشيخ، بقي علينا أن نعرف- أثابكم الله- الأخطاء التي تأتي عند دخول الحرم؟ الجواب: من الأخطاء التي تكون من بعض الحجاج عند دخول المسجد الحرام: أولاً: أن بعض الناس يظن أنه لابد أن يدخل الحاج أو المعتمر من باب معين في المسجد الحرام، فيرى بعض مثلاً أنه لابد أن يدخل إذا كان معتمراً من الباب الذي يسمى باب العمرة، وأن هذا أمر لابد منه أو أمر مشروع، ويرى آخرون أنه لابد أن يدخل من باب السلام، وأن الدخول من غيره يكون إثماً أو مكروهاً، وهذا لا أصل له، فللحاج والمعتمر أن يدخل من أي باب كان. وإذا دخل المسجد، فليقدم رجله اليمنى، وليقل ما ورد في الدخول لسائر المساجد، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: ((اللهم، اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك)) (1) . ثانياً: أن بعض الناس يبتدع أدعية معينة عند دخول المسجد ورؤية البيت، يبتدع أدعية لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيدعو الله بها، وهذا من البدع، فإن التعبد لله تعالى بقول أو فعل أو اعتقاد لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بدعة وضلالة، حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: يخطئ بعض الناس- حتى من غير الحجاج- حيث إنهم يعتقدون أن تحية المسجد الحرام: الطواف، بمعنى أنه يسن لكل من دخل المسجد الحرام أن يطوف اعتماداً على قول بعض الفقهاء في ذلك: إن سنة المسجد الحرام الطواف، والواقع أن الأمر ليس كذلك؛ فالمسجد الحرام كغيره من المساجد التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) (2) ، ولكن إذا دخلت المسجد الحرام للطواف سواء كان الطواف طواف نسك كطواف العمرة والحج، أو كان طواف تطوع كالأطوفة في غير النسك، فإنك يجزئك أن تطوف وإن لم تصل ركعتين. هذا هو معنى قولنا: إن المسجد الحرام تحيته الطواف، وعلى هذا فإذا دخلت بغير نية الطواف ولكن لانتظار الصلاة او لحضور مجلس علم أو ما أشبه ذلك، فإن المسجد الحرام كغيره، يسن فيه أن تصلي ركعتين قبل أن تجلس؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. هذا الذي يحضرني الآن فيما يخطئ فيه الناس عند دخول المسجد الحرام. أخطاء تقع في الطواف   (1) أخرجه الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء ما يقول عند دخول المسجد، رقم (314) ، وابن ماجه، كتاب المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد، (771) (2) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا دخل المسلم فليركع ركعتين، رقم (444) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحية المسجد بركعتين، رقم (714) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 السؤال (288) : فضيلة الشيخ، إذا دخل الحاج أو المعتمر أو غيرهما الحرم وأراد أن يطوف، لا شك أنه يقع هناك بعض الأخطاء، حبذا لو بينتم هذه الأخطاء التي تقع في الطواف؟ الجواب: في الطواف أيضاً أخطاء كثيرة، تقع من بعض الحجاج أو غير الحجاج. فمنها: النطق بالنية عند إرادة الطواف، تجد الحاج يقف مستقبل الحجر إذا أراد الطواف فيقول: اللهم إني نويت أن أطوف سبعة أشواط للعمرة، أو اللهم إني نويت أن أطوف سبعة أشواط للحج أو: اللهم إني نويت أن أطوف سبعة أشواط تقرباً إليك، وما أشبهها. والتلفظ بالنية بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يأمر أمته به، وكل من تعبد لله تعالى بأمر لم يتعبد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر أمته به، فقد ابتدع في دين الله ما ليس منه، فالتلفظ بالنية عند الطواف خطأ وبدعة. وكما أنه خطأ من ناحية الشرع فهو خطأ من ناحية العقل، فما الداعي إلى أن تتلفظ بالنية مع أن النية بينك وبين ربك، والله سبحانه وتعالى عالم بما في الصدور، وعالم بأنك سوف تطوف هذا الطواف، وإذا كان الله سبحانه وتعالى عالماً بذلك فلا حاجة أن تظهر هذا لعباد الله، فإن قلت: أنا أقوله بلساني ليطابق ما في قلبي، قلنا: العبادات لا تثبت بالأقيسة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد طاف قبلك ولم يتكلم بالنية عند طوافه، والصحابة رضي الله عنهم قد طافوا قبلك ولم يتكلموا بالنية عند طوافهم، ولا عند غيره من العبادات؛ فهذا خطأ. الخطأ الثاني: أن بعض الطائفين يزاحم مزاحمة شديدة عند استلام الحجر والركن اليماني، مزاحمة يتأذى بها ويؤذي غيره، مزاحمة قد تكون مع امرأة، وربما ينزغه من الشيطان نزغ، فتحصل في قلبه شهوة في هذا المقام الضنك، والإنسان بشر قد تستولي عليه النفس الأمارة بالسوء، فيقع في هذا الأمر المنكر تحت بيت الله عز وجل، وهذا أمر يكبر ويعظم باعتبار مكانه؛ كما أنه فتنة في أي مكان كان. والمزاحمة الشديدة عند استلام الحجر أو الركن اليماني ليست بمشروعة، بل إن تيسر لك بهدوء فذلك المطلوب، وإن لم يتيسر فإنك تشير إلى الحجر الأسود. أما الركن اليماني: فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار إليه، ولا يمكن قياسه على الحجر الأسود أعظم منه، والحجر الأسود لأن الحجر الأسود ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار إليه (1) . والمزاحمة كما أنها غير مشروعة في هذه الحال، وكما أنه يخشى من الفتنة فيما إذا كان الزحام مع امرأة - فهي أيضاً تحدث تشويشاً في القلب والفكر؛ لأن الإنسان لابد عند المزاحمة من أن يسمع كلاماً يكرهه، أو يسمع هو كلاماً يكرهه ويتندم عليه؛ فتجده يشعر بامتعاض وغضب على نفسه إذا فارق هذا المحل. والذي ينبغي للطائف أن يكون دائماً في هدوء وطمأنينة، من أجل أن يستحضر ما هو متلبس به من طاعة الله، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله)) (2) . الخطأ الثالث مما يقع في الطواف: أن بعض الناس يظنون أن الطواف لا يصح بدون تقبيل الحجر، وأن تقبيل الحجر شرط لصحة الطواف، ولصحة الحج أيضاً أو العمرة، وهذا ظن خطأ، وتقبيل الحجر سنة، وليست سنة مستقلة أيضاً، بل هي سنة للطائف، ولا أعلم أن تقبيل الحجر يسن في غير الطواف، وعلى هذا: فإذا كان تقبيل الحجر سنة وليس بواجب ولا بشرط، فإن من لم يقبل الحجر لا نقول له: إن طوافه غير صحيح، أو إن طوافه ناقص نقصاً يأثم به، بل طوافه صحيح، بل نقول: إنه إذا كان هناك مزاحمة شديدة، فإن الإشارة أفضل من الاستلام؛ لأنه هو العمل الذي فعله الرسول عليه الصلاة والسلام عند الزحام، ولأن الإنسان يتقي به أذى يكون منه لغيره، أو يكون من غيره له. فلو سألنا سائل وقال: إن المطاف مزدحم فما ترون، هل الأفضل أن أزاحم فاستلم الحجر وأقبله، أم الأفضل أن أشير إليه؟ قلنا: الأفضل أن تشير إليه؛ لأن السنة هكذا جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. الرابع من الأخطاء التي يفعلها بعض الطائفين: تقبيل الركن اليماني، وتقبيل الركن اليماني لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعبادة إذا لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي بدعة وليست بقربة؛ وعلى هذا فلا يشرع للإنسان أن يقبل الركن اليماني؛ لأن ذلك لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد فيه حديث ضعيف لا تقوم به الحجة. وكذلك أيضاً: نجد بعض الناس عندما يمسح الحجر الأسود أو الركن اليماني يمسحه بيده اليسرى كالمتهاون به، وهذا خطأ؛ فإن اليد اليمنى أشرف من اليد اليسرى، واليد اليسرى لا تقدم إلا للأذى؛ كالاستنجاء بها، والاستجمار بها، والامتخاط بها، وما أشبه ذلك، وأما مواضع التقبيل والاحترام، فإنه يكون لليد اليمنى. الخامس من الأخطاء التي يرتكبها بعض الطائفين: أنهم يظنون أن استلام الحجر والركن اليماني للتبرك لا للتعبد، فيتمسحون به تبركاً؛ وهذا بلا شك خلاف ما قصد به؛ فإن المقصود بالتمسح بالحجر الأسود أو بمسحه وتقبيله: تعظيم الله عز وجل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استلم الحجر قال: ((الله أكبر)) ، إشارة إلى أن المقصود بهذا تعظيم الله عز وجل، وليس المقصود التبرك بمسح هذا الحجر، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك، ما قبلتك (3) ، هذا الظن الخاطئ من بعض الناس، وهو أنهم يظنون أن المقصود بمسح الركن اليماني والحجر الأسود التبرك، أدى ببعضهم إلى أن يأتي بابنه الصغير فيمسح الركن أو الحجر بيده ثم يمسح ابنه الصغير أو طفله بيده التي مسح بها الحجر أو الركن اليماني، وهذا من الاعتقاد الفاسد الذي يجب أن ينهى عنه، وأن يبين للناس أن مثل هذه الأحجار لا تضر ولا تنفع، وأن المقصود بمسحها: تعظيم الله عز وجل، وإقامة ذكره، والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم. وننتقل من هذا إلى خطأ يقع أيضاً في المدينة المنورة عند حجرة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان بعض العامة يتمسحون بالشباك الذي على الحجرة، ويمسحون به بأيديهم ووجوههم ورؤوسهم وصدورهم؛ اعتقاداً منهم أن في هذا بركة، وكل هذه الأمور وأمثالها مما لا شرعة فيه، بل هو بدعة ولا ينفع صاحبه بشيء، لكن إن كان صاحبه جاهلاً، ولم يطرأ على باله أنه من البدع، فيرجى أن يعفى عنه، وإن كان عالماً أو متهاوناً لم يسأل عن دينه، فإنه يكون آثما، فالناس في هذه الأمور التي يفعلونها: إما جاهل جهلاً مطبقاً لا يطرأ بباله أن هذا محرم؛ فهذا يرجى أن لا يكون عليه شيء، وإما عالم متعمد ليَضل ويُضل الناس؛ فهذا آثم بلا شك، وعليه إثم من تبعه واقتدى به، وإما رجل جاهل ومتهاون في سؤال أهل العلم، فيخشى أن يكون آثماً بتفريطه وعدم سؤاله. أخطاء تقع في الطواف (تتمة)   (1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من أشار إلى الركن إذا أتى عليه، رقم (1612) (2) تقدم تخريجه (327) (3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، رقم (1597) ، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، رقم (1270) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 السؤال (289) : فضيلة الشيخ، كنا نتحدث عن الأخطاء التي تقع من الحجاج في الطواف وأخذنا طرفاً منها، فهل لنا أن نسمع البقية؟ الجواب: هناك أخطاء أخرى يفعلها بعض الحجاج في الطواف غير التي سبق أن ذكرنا: منها: الرمل في جميع الأشواط: مع أن المشروع أن يكون الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمل هو وأصحابه في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، وأما الأربعة الباقية فيمشي على ما هو عليه، على عادته، وكذلك الرمل لا يكون إلا للرجال، وفي الطواف أول ما يقدم إلى مكة، سواء كان ذلك طواف قدوم أو طواف عمرة. ومن الأخطاء أيضاً: أن بعض الناس يخصص كل شوط بدعاء معين، وهذا من البدع التي لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يخص كل شوط بدعاء، ولا أصحابه أيضاً، وغاية ما في ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة: 201) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله)) (1) . وتزداد هذه البدع خطأ، إذا حمل الطائف كتيباً، كتب فيه لكل شوط دعاء وهو يقرأ هذا الكتيب، ولا يدري ماذا يقول؛ إما لكون جاهلاً باللغة العربية، ولا يدري ما المعنى، وإما لكونه عربياً ينطق باللغة العربية ولكنه لا يدرى ما يقول، حتى إننا نسمع بعضهم يدعو بأدعية هي في الواقع محرفة تحريفاً بيناً، من ذلك أننا سمعنا من يقول: اللهم أغنني بحلالك عن حرامك، والصواب: بحلالك عن حرامك. ومن ذلك: أننا نشاهد بعض الناس يقرأ هذا الكتيب، فإذا انتهى دعاء الشوط، وقف ولم يدع في بقية شوطه، وإذا كان المطاف خفيفاً، وانتهى الشوط قبل انتهاء الدعاء، قطع الدعاء. ودواء ذلك: أن نبين للحجاج، بأن الإنسان في الطواف يدعو بماء شاء، وبما أحب، ويذكر الله تعالى بما شاء، فإذا بين للناس هذا زال الإشكال. ومن الأخطاء أيضاً، وهو خطأ عظيم جداً: أن بعض الناس يدخل في الطواف من باب الحجر، أي: المحجر الذي على شمال الكعبة، يدخل من باب الحجر، ويخرج من الباب الثاني في أيام الزحام، يرى أن هذا أقرب وأسهل؛ وهذا خطأ عظيم؛ لأن الذي يفعل ذلك لا يعتبر طائفاً بالبيت، والله تعالى يقول: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 29) ، والنبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت من وراء الحجر، فإذا طاف الإنسان من داخل الحجر، فإنه يعتبر طائفاً بالبيت، فلا يصح طوافه، وهذه مسألة خطيرة، لا سيما إذا كان الطواف ركناً؛ كطواف العمرة، وطواف الإفاضة. ودواء ذلك: أن نبين للحجاج أنه لا يصح الطواف إلا بجميع البيت، ومنه الحجر. وبهذه المناسبة أود أن أبين أن كثيراً من الناس يطلقون على هذا الحجر اسم (حجر إسماعيل) والحقيقة: أن إسماعيل لا يعلم به، وأنه ليس حجراً له، وإنما هذا الحجر حصل حين قصرت النفقة على قريش، حين أرادوا بناء الكعبة، فلم تكف النفقة لبناء الكعبة على قواعد إبراهيم، فحطموا منها هذا الجانب، وحجروه بهذا الجدار، وسمي حطيماً وحجراً، وإلا فليس لإسماعيل فيه أي علم أو أي عمل. ومن الأخطاء أيضاً: أن بعض الناس لا يلتزم بجعل الكعبة عن يساره، فتجده يطوف معه نساؤه، ويكون قد وضع يده مع يد زميله لحماية النساء، فتجده يطوف والكعبة خلف ظهره، وزميله الآخر يطوف والكعبة بين يديه، وهذا خطأ عظيم أيضاً؛ لأن أهل العلم يقولون: من شرط صحة الطواف أن يجعل الكعبة عن يساره، فإذا جعلها خلف ظهره، أو جعلها أمامه، أو جعلها عن يمينه وعكس الطواف، فكل هذا طواف لا يصح، والواجب على الإنسان أن يعتني بهذا الأمر، وأن يحرص على أن تكون الكعبة عن يساره في جميع طوافه. ومن الناس: من يتكيف في طوافه حال الزحام، فيجعل الكعبة خلف ظهره أو أمامه لبضع خطوات من أجل الزحام، وهذا خطأ، فالواجب على المرء أن يحتاط لدينه، وأن يعرف حدود الله تعالى في العبادة قبل أن يتلبس بها، حتى يعبد الله تعالى على بصيره، وإنك لتعجب أن الرجل إذا أراد أن يسافر إلى بلد يجهل طريقها، فإنه لا يسافر إليها حتى يسأل ويبحث عن هذا الطريق، وعن الطريق السهل، ليصل إليها براحة وطمأنينة، وبدون ضياع أو ضلال، أما في أمور الدين، فإن كثيراً من الناس مع الأسف يتلبس بالعبادة وهو لا يدري حدود الله تعالى فيها، وهذا من القصور، بل من التقصير، نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين الهداية، وأن يجعلنا ممن يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله. ومن الأخطاء في الطواف أيضاً: أن بعض الطائفين يستلم جميع أركان الكعبة الأربعة: الحجر الأسود، والركن اليماني، والركن الشامي، والركن العراقي، يزعمون أنهم بذلك يعظمون بيت الله عز وجل، بل من الناس من يتعلق بأستار الكعبة من جميع الجوانب، وهذا أيضاً من الخطأ. وذلك لأن المشروع: استلام الحجر الأسود وتقبيله إن أمكن، وإلا فالإشارة إليه. أما الركن اليماني: فالمشروع استلامه بدون تقبيل إن تيسر، وإن لم يتيسر، فلا يشير إليه أيضاً؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما استلام الركن العراقي، وهو أول ركن يمر به بعد الحجر الأسود، والشامي، وهو الركن الذي يليه، فهذا من البدع، وقد أنكر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما استلام جميع الأركان، وقال له: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركنين اليمانيين، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال معاوية رضي الله عنه: صدقت. ورجع إلى قول ابن عباس، بعد أن كان رضي الله عنه يستلم الأركان الأربعة ويقول: ليس شيء من البيت مهجوراً (2) ومن الأخطاء في الطواف: رفع الصوت بالدعاء؛ فإن بعض الطائفين يرفع صوته بالدعاء رفعاً مزعجاً، يذهب الخشوع، ويسقط هيبة البيت، ويشوش على الطائفين، والتشويش على الناس في عباداتهم أمر منكر؛ فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات ليلة وهم يقرؤون ويجهرون بالقراءة في صلاتهم، فأخبرهم عليه الصلاة والسلام بأن كل مصل يناجي ربه، ونهاهم أن يجهر بعضهم على بعض في القرآن أو في القراءة، قال: ((لا يؤذين بعضكم بعضاً)) (3) . ولكن بعض الناس- نسأل الله لنا ولهم الهداية - في المطاف يدعون ويرفعون أصواتهم بالدعاء، وهذا كما أن فيه المحذورات التي ذكرناها، وهي إذهاب الخشوع، وسقوط هيبة البيت، والتشويش على الطائفين؛ فهو مخالف لظاهر قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف: 55) . هذه الأخطاء التي سقناها في الطواف نرجو الله سبحانه وتعالى أن يهدي إخواننا المسلمين لإصلاحها، حتى يكون طوافهم موافقاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وليس الدين يؤخذ بالعاطفة والميل، ولكنه يؤخذ بالتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الأخطاء العظيمة في الطواف: أن بعض الناس يبتدئ من عند باب الكعبة، لا يبتدئ من الحجر الأسود، والذي يبتدئ من عند باب الكعبة، ويتم طوافه على هذا الأساس، لا يعتبر متما للطواف؛ لأن الله يقول: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 29) ، وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم من الحجر الأسود، وقال للناس: ((لتأخذوا عني مناسككم)) (4) . وإذا ابتدأ من عند الباب أو من دون محاذاة الحجر الأسود ولو بقليل، فإن هذا الشوط الأول الذي ابتدأه يكون لاغياً؛ لأنه لم يتم، وعليه أن يأتي ببدله إن ذكر قريباً، وإلا فليعد الطواف من أوله. والحكومة السعودية- وفقها الله- قد وضعت خطا بنيا ينطلق من حذاء قلب الحجر الأسود إلى آخر المطاف، ليكون علامة على ابتداء الطواف، والناس من بعد وجود هذا الخط صار خطؤهم في هذه الناحية قليلاً، لكنه يوجد من بعض الجهال، وعلى كل حال فعلى المرء أن ينتبه لهذا الخطأ، لئلا يقع في خطر عظيم من عدم تمام طوافه.   (1) تقدم تخريجه (327) (2) أخرجه البخاري، ولفظه: (( ... وكان معاوية يتسلم الأركان، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنه لا يستلم هذان الركنان. فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً)) . وأما الرواية التي ذكرت أن معاوية رضي اله عنه رجع إلي قول ابن عبس وقال له: صدقت، فقد أخرجها أحمد في ((المسند)) (1/217) وذكرها الحافظ في ((الفتح)) (3/553) وعزاها لأحمد وسكت عليها.. (3) أخرجه أبو داود، كتاب التطوع، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، رقم (1332) ، وأحمد في ((المسند)) (3/94) . (4) تقدم تخريجه (325) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 السؤال (290) بعض الحجاج إذا جاء إلى هذا الخط الذي وضع علامة على ابتداء الطواف، وقف طويلاً، وحجر على إخوانه أن يستمروا في الطواف، فما حكم الوقوف على هذا الخط والدعاء الطويل؟ الجواب: الوقوف عند هذا الخط لا يحتمل وقوفاً طويلاً، بل يستقبل الإنسان الحجر ويشير إليه ويكبر ويمشي، وليس هذا موقفاً يطال فيه الوقوف، لكني أرى بعض الناس يقفون ويقولن: نويت أن أطوف لله تعالى سبعة أشواط، طواف العمرة، أو تطوعاً، أو ما أشبه ذلك، وهذا يرجع إلى الخطأ في النية، وقد نبهنا عليه، وأن التكلم بالنية في العبادات بدعة، لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، وأنت تعمل العبادة لله سبحانه وتعالى، وهو عالم بنيتك فلا يحتاج إلى أن تجهر بها. أخطاء تقع في ركعتي الطواف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 السؤال (291) : فضيلة الشيخ، سألنا عن الأخطاء التي تقع من بعض الحجاج في الإحرام، ودخول الحرم، والطواف، وبقي علينا ركعتا الطواف، هل هناك أخطاء في هاتين الركعتين يقع فيها الحجاج ينبغي التنبيه عليها؟ الجواب: بقي علينا أخطاء يقع فيها الحجاج في ركعتي الطواف وفي غيرها أيضاً، فمن الأخطاء: أن بعض الناس يظنون أن هاتين الركعتين لابد أن تكونا خلف المام وقريباً منه أيضاً ولهذا تجدهم يزاحمون زحاماً شديداً، يؤذون الطائفين، وهم ليس لهم حق في هذا المكان، لأن الطائفين أحق به منهم، ما دام المطاف مزدحماً؛ لأن الطائفين ليس لهم مكان سوى هذا، وأما المصلون للركعتين بعد الطواف، فلهم مكان آخر، المهم أننا نجد بعض الناس - نسأل الله لنا ولهم الهداية - يتحلقون خلف المقام، ويشغلون مكاناً كبيراً، واسعاً من أجل رجل واحد أو امرأة واحدة تصلي خلف المقام، ويحصل في ذلك من قطع الطواف للطائفين وازدحامهم؛ لأنهم يأتون من مكان واسع، ثم يضيق بهم المكان هنا من أجل هذه الحلقة التي تحلق بها هؤلاء، فيحصل بذلك ضنك وضيق، وربما يحصل مضاربة ومشاتمة، وهذا كله إيذاء لعباد الله عز وجل، وتحجر لمكان غيرهم به أولى، وهذا الفعل لا يشك عاقل عرف مصادر الشريعة ومواردها أنه محرم، وأنه لا يجوز؛ لما فيه من إيذاء المسلمين، وتعريض طواف الطائفين للفساد أحياناً، لأن الطائفين أحياناً باشتباكهم مع هؤلاء، يجعلون البيت إما خلفهم وإما أمامهم، مما يخل بشرط من شروط الطواف، فالخطأ هنا أن بعض الناس يعتقد أنه لابد أن تكون الركعتان خلف المقام وقريباً منه، والأمر ليس كما ظن هؤلاء، فالركعتان تجزئان في كل مكان من المسجد، ويمكن للإنسان أن يجعل المقام بينه وبين البيت، أي: بينه وبين الكعبة ولو كان بعيداً منه، ويكون بذلك قد حقق السنة، من غير إيذاء للطائفين ولا لغيرهم. ومن الأخطاء في هاتين الركعتين: أن بعض الناس يطولهما، يطيل القراءة فيهما، ويطيل الركوع والسجود، والقيام والقعود، وهذا مخالف للسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف هاتين الركعتين، ويقرأ في الأولى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) (الكافرون: 1) وفي الثانية: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الاخلاص: 1) ، وينصرف من حين أن يسلم، تشريعاً للأمة، ولئلا يحجز المكان عمن هو أحق به منه، فإن هذا المكان إنما يكون للذين يصلون ركعتين خلفه بعد الطواف، أو للطائفين إن ازدحم المطاف، ولهذا يخطئ بعض الناس الذين يطيلون الركعتين خلف المقام، لمخالفتهم السنة، وللتضييق على إخوانهم من الطائفين إذا كان الطواف مزدحماً، ولاحتجاز المكان الذي غيرهم أولى به، ممن أتموا طوافهم ويريدون أن يصلوا ركعتين خلف المقام. ومن الأخطاء أيضاً في هاتين الركعتين: أن بعض الناس إذا أتمهما، جعل يدعو؛ يرفع يديه، ويدعو دعاء طويلاً، والدعاء بعد الركعتين هنا ليس بمشروع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولا أرشد أمته إليه، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا ينبغي للإنسان أن يبقى بعد الركعتين ليدعو؛ لأن ذلك خلاف السنة، ولأنه يؤذي الطائفين إذا كان الطواف مزدحماً، ولأنه يحجز مكاناً غيره أولى به ممن أتموا الطواف وأردوا أن يصلوا في هذا المكان. ومن البدع أيضاً هنا: ما يفعله بعض الناس حيث يقوم عند مقام إبراهيم، ويدعو دعاء طويلاً، يسمى دعاء المقام، وهذا الدعاء لا أصل له أبداً في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من البدع التي ينهى عنها، وفيه مع كونه بدعه- وكل بدعة ضلالة- أن بعض الناس يمسك كتاباً فيه هذا الدعاء، ويبدأ يدعو به بصوت مرتفع ويؤمن عليه من خلفه، وهذا بدعة إلى بدعة، وفيه أيضاً تشويش على المصلين حول المقام، والتشويش على المصلين سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه. وكل هذه الأخطاء التي ذكرناها في الركعتين وبعدهما، تصويبها أن الإنسان يتمشى في ذلك على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا تمشينا عليه، زالت عنا هذه الأخطاء كلها. حكم الدعاء بعد النافلة، ومسح الوجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 السؤال (292) : فضيلة الشيخ، ذكرتم من الأخطاء في ركعتي الطواف أن يدعو الإنسان بعد الركعتين، وهناك أيضاً من يدعو طويلاً ثم يمسح وجهه، فهل هذا خاص بركعتي الطواف، أو يعم في جميع السنن التي يصليها الإنسان؟ الجواب: في سؤالك هذا مسألتان: المسألة الأولى: مسح الوجه باليدين بعد الدعاء. والمسألة الثانية: الدعاء بعد النافلة. أما الأولى- وهي: مسح الوجه باليدين بعد الدعاء -: فإنه وردت فيه أحاديث ضعيفة اختلف فيها أهل العلم. فذهب شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: إلى أن هذه الأحاديث لا تقوم بها حجة؛ لأنها ضعيفة مخالفة لظاهر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما؛ فإنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء بأحاديث صحيحة، وأنه رفع يديه في ذلك، ولم يذكر أنه مسح بهما وجهه، وهذا يدل على أنه لم يفعله؛ لأنه لو فعله لتوافرت الدواعي على نقله ونقل، وممن رأى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: إن مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء بدعة. ومن العلماء: من يرى أن هذه الأحاديث الضعيفة بمجموعها ترتقي إلى درجة الحسن لغيره، أي: درجة الحديث الحسن لغيره، ولأن الطرق الضعيفة إذا كثرت على وجه ينجبر بعضها ببعض، صارت من قسم الحسن لغيره، ومن هؤلاء ابن حجر العسقلاني في ((بلوغ المرام)) . والذي يظهر لي: أن الأولى عدم المسح، أي: عدم مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء، لأنه وإن قلنا: إن هذا الحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن لغيره، فإنه يبقى متنه شاذاً، لأنه مخالف للظاهر من الأحاديث الصحيحة التي وردت بكثرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء، ولم يرد أنه مسح بهما وجهه. وعلى كل حال: فلا أتجاسر على القول بأن ذلك بدعة، ولكني أرى أن الأفضل أن لا يمسح، ومن مسح فلا ينكر عليه؛ هذا بالنسبة للفقرة الأولى من سؤالك. أما بالنسبة للثانية - وهي الدعاء بعد النافلة - فإن الدعاء بعد النافلة إن اتخذه الإنسان سنة راتبة، بحيث يعتقد أنه يشرع كلما سلم من نافلة أن يدعو، فهذا أخشى أن يكون بدعة؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، فما أكثر ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم النفل، ولم يرد عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعده، ولو كان هذا من المشروع، لسنه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، إما بقوله أو بفعله أو بإقراره. ثم إنه ينبغي أن يعلم: أن الإنسان ما دام في صلاته، فإنه يناجي ربه، فكيف يليق بالإنسان أن يدع الدعاء في الحال التي يناجي فيها ربه، ثم يأخذ في التضرع بعد انصرافه من صلاته وانقطاع مناجاته لله عز وجل في صلاته، فكان الأولى والأجدر بالإنسان أن يجعل الدعاء قبل السلام ما دام في الحال التي يناجي فيها ربه، وهذا المعنى أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وهو معنى حسن جيد، فإذا أردت أيها الأخ المسلم أن تدعو الله عز وجل فاجعل دعاءك قبل السلام، لأن هذا هو الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في حديث عبد الله بن مسعود حين ذكر التشهد قال: ((ثم يتخير من الدعاء ما شاء)) (1) ، ولأنه أليق بحال الإنسان، لما أسلفنا من كونه في حال صلاته يناجي ربه. أخطاء تقع في الطريق إلى المسعى، وفي المسعى   (1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، رقم (835) ، ومسلم كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، رقم (402) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 السؤال (293) : فضيلة الشيخ، وصلنا في أسئلتنا عن الأخطاء التي تقع في الحج إلى الأخطاء التي تقع في ركعتي الطواف، وما يكون فيها أيضاً من دعاء وإطالة، وما إلى ذلك، الآن نريد أن نعرف الأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج أو يقعون فيها عند الخروج إلى المسعى، وفي المسعى، وفي الأدعية التي تقال فيه؟ الجواب: أما بالنسبة للأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج في المسعى فيحضرني منها الأخطاء التالية: الأول: النطق بالنية، فإن بعض الحجاج إذا أقبل على الصفا قال: إني نويت أن أسعى سبعة أشواط لله تعالى، ويعين النسك الذي يسعى فيه، يقول ذلك أحياناً إذا أقبل على الصفا، وأحياناً إذا صعد إلى الصفا، وقد سبق أن النطق بالنية من البدع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينطق بالنية لا سراً ولا جهراً، وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها)) (1) وهذا الخطأ يتلافى بأن يقتصر الإنسان على ما في قلبه من النية، وهو إنما ينوي لله عز وجل، والله تعالى عليم بذات الصدور. الخطأ الثاني: أن بعض الناس إذا صعد إلى الصفا واستقبل القبلة، جعل يرفع يديه ويشير بهما كما يفعل ذلك في تكبيرات الصلاة، صلاة الجنازة، أو عند تكبيرات الإحرام والركوع والرفع منه، أو القيام من التشهد الأول، يرفعها هكذا إلى حذو المنكبين ويشير، وهذا خطأ، فإن الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه رفع يديه وجعل يدعو، وهذا يدل على أن رفع اليدين هنا رفع دعاء، وليس رفعاً كرفع التكبير، وعليه فينبغي للإنسان إذا صعد الصفا أن يتجه إلى القبلة، ويرفع يديه للدعاء، ويأتي بالذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، ويدعو كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الخطأ الثالث: أن بعض الحجاج يمشي بين الصفا والمروة مشياً واحداً، مشيه المعتاد، ولا يلتفت إلى السعي الشديد بين العلمين الأخضرين، وهذا خلاف السنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسعى سعياً شديداً في هذا المكان، أعني: في المكان الذي بين العلمين الأخضرين، وهما إلى الصفا أقرب منهما إلى المروة، فالمشروع للإنسان إذا وصل إلي العلم الأخضر الأول الذي يلي الصفا: أن يسعى سعياً شديداً بقدر ما يتحمله، بشرط ألا يتأذى ولا يؤذي أحداً بذلك، وهذا إنما يكون حينما يكون المسعى خفيفاً، فيسعى بين هذين العلمين ثم يمشي إلى المروة مشيه المعتاد، هذه في السنة. الخطأ الرابع: على العكس من ذلك؛ فإن بعض الناس إذا كان يسعى تجده يرمل في جميع السعى، من الصفا إلى المروة، ومن المروة إلى الصفا، فيحصل في ذلك مفسدتان أو أكثر: المفسدة الأولى: مخالفة السنة. والمفسدة الثانية: المشقة على نفسه؛ فإن بعض الناس يجد مشقة شديدة في هذا العمل؛ لكنه يتحمل بناء على أن ذلك هو السنة، فتجده يرمل من الصفا إلى المروة، ومن المروة إلى الصفا، وهكذا حتى ينهي سعيه. ومن الناس: من يفعل ذلك لا تحرياً للخير، ولكن حبا للعجلة، وإنهاء للسعي بسرعة، وهذا شر مما قبله؛ لأن هذا ينبئ عن تبرم الإنسان بالعبادة، وملله منها، وحبة الفرار منها، والذي ينبغي للمسلم أن يكون قلبه مطمئنا، وصدره منشرحاً بالعبادة، يحب أن يتأنى فيها على الوجه المشروع الذي جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن يفعلها وكأنه يريد الفرار منها، فهذا دليل على نقص إيمانه، وعدم اطمئنانه بالعبادة. والمفسدة الثالثة من الرمل في جميع أشواط السعي: أنه يؤذي الساعين، فأحياناً يصطدم بهم ويؤذيهم، وأحياناً يكون مضّيقاً عليهم وزاحماً لهم، فيتأذون بذلك، فنصيحتي لإخواني المسلمين في هذا المقام: أن يتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن هديه خير الهدي، وأن يمشوا في جميع الأشواط إلا فيما بين العلمين، فإنهم يسعون سعياً شديداً؛ كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما لم يتأذوا بذلك أو يؤذوا غيرهم. الخطأ الخامس: أن بعض الناس يتلو قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية158) في كل شوط، كلما أقبل على الصفا، وكلما أقبل على المروة، وهذا خلاف السنة؛ فإن السنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلاوة هذه الآية أنه تلاها حين دنا من الصفا بعد أن أتم الطواف وركعتي الطواف وخرج إلى المسعى، فلما دنا من الصفا قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (ابدأ بما بدأ الله به)) (2) إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى أنه إنما جاء ليسعى؛ لأن هذا من شعائر الله عز وجل، وأنه إنما بدأ من الصفا؛ لأن الله تعالى بدأ به، فتكون تلاوة هذه الآية مشروعة عند ابتداء السعي، إذا دنا من الصفا وليست مشروعة كلما دنا من الصفا في كل شوط، ولا كلما دنا من المروة، وإذا لم تكن مشروعة فلا ينبغي للإنسان أن يأتي بها إلا في الموضع الذي أتى بها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. الخطأ السادس: أن بعض الذين يسعون يخصصون كل شوط بدعاء معين، وقد سبق أن هذا من البدع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخصص كل شوط بدعاء معين لا في الطواف ولا في السعي أيضاً، وإذا كان هذا من البدع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل بدعة ضلالة)) (3) . وعليه: فاللائق بالمؤمن أن يدع هذه الأدعية، وأن يشتغل بالدعاء الذي يرغبه ويريده، يدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، ويذكر الله، ويقرأ القرآن، وما أشبه ذلك من الأقوال المقربة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله)) (4) الخطأ السابع: الدعاء من كتاب لا يعرف معناه؛ فإن كثيراً من الكتب التي يأيدي الحجاج لا يعرف معناها، بالنسبة لحاملها، وكأنهم يقرؤونها تعبداً لله تعالى بتلاوة ألفاظها؛ لأنهم لا يعرفون المعنى، ولا سيما إذا كانوا غير عالمين باللغة العربية، وهذا من الخطأ أن تدعو الله سبحانه وتعالى بدعاء لا تعرف معناه. والمشروع لك: أن تدعو الله سبحانه وتعالى بدعاء تعرف معناه، وترجو حصوله من الله عز وجل؛ وعليه: فالدعاء بما تريده أنت، بالصيغة التي تريدها ولا تخالف الشرع؛ أفضل بكثير من الدعاء بهذه الأدعية التي لا تعرف معناها، وكيف يمكن لشخص أن يسأل الله تعالى شيئاً وهو لا يدري ماذا يسأله؟! وهل هذا إلا من إضاعة الوقت والجهل؟ 1 ولو شئت لقلت: إن هذا من سوء الأدب مع الله عز جل؛ أن تدعو الله سبحانه وتعالى بأمر لا تدري ما تريد منه!! الخطأ الثامن: البداءة بالمروة؛ فإن بعض الناس يبدأ بالمروة جهلاً منه يظن أن الأمر سواء فيما إذا بدأ من الصفا أو بدأ من المروة، أو يسوقه تيار الخارجين من المسجد، حتى تكون المروة أقرب إليه من الصفا فيبدأ بالمروة جهلاً منه وإذا بدأ الساعي بالمروة، فإنه يلغي الشوط الأول، فلو فرضنا أنه بدأ بالمروة، فأتم سبعة أشواط، فإنه لا يصح منها إلا ستة، لأن الشوط الأول يكون لاغياً، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجوب البداءة بالصفا حيث قال: ((أبدأ بما بدأ الله به)) (5) الخطأ التاسع: أن بعض الناس يعتبر الشوط الواحد من الصفا إلى الصفا، يظن أنه لابد من إتمام دورة كاملة كما يكون في الطواف من الحجر إلى الحجر، فيبدأ من الصفا وينتهي إلى المروة، ويجعل هذا بعض الشوط لا كله، فإذا رجع من المروة إلى الصفا اعتبر هذا شوطاً واحداً، وعلى هذا فيكون سعيه أربعة عشر شوطاً، وهذا أيضاً خطأ عظيم، وضلال بين؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، لكنه ابتدأ بالصفا واختتم بالمروة، وجعل الذهاب من الصفا إلى المروة شوطاً، والرجوع من المروة إلى الصفا شوطاً آخر، وهذا الذي يقع من بعض الحجاج إنما يكون جهلاً منهم بالسنة، وتفريطاً منهم في عدم التعلم، وقد أشرنا مراراً إلى أنه ينبغي- بل يجب- على المسلم إذا أراد أن يفعل عبادة، أن يتعلم حدود ما أنزل الله فيها قبل أن يفعلها، وهذا التعلم من فروض الأعيان، لأنه لا يستقيم دين المرء إلا به، أعني تعلم حدود ما أنزل الله في عباده يريد الإنسان أن يفعلها، هو من فرض الأعيان، يجب عليه أن يتعلم حدود ما أنزل الله في هذه العبادة؛ ليعبد الله تعالى على بصيرة. الخطأ العاشر: السعي في غير نسك، يعني أن بعض الناس يتعبد لله تعالى بالسعي بين الصفا والمروة في غير نسك، أي: في غير حج ولا عمرة، يظن أن التطوع بالسعي مشروع كالتطوع بالطواف، وهذا أيضاً خطأ، والذي يدلنا على هذا أنك تجد بعض الناس في زمن العمرة- أي: في غير زمن الحج يسعى بين الصفا والمروة بدون أن يكون عليه ثياب الإحرام، مما يدل على أنه محل، فإذ سألته لماذا تفعل ذلك؟ قال: لأني أتعبد لله عز وجل بالسعي، كما أتعبد بالطواف، وهذا جهل مركب؛ جهل مركب؛ لأنه صار جاهلاً بحكم الله، وجاهلاً بحاله، حيث ظن أنه عالم وليس هو بعالم. أما إذا كان السعي في زمن الحج بعد الوقوف بعرفة، فيمكن أن يسعى الإنسان وعليه ثيابه المعتادة؛ لأنه يتحلل برمي جمرة العقبة يوم العيد، وبالحلق أو التقصير، ثم يلبس ثيابه ويأتي إلى مكة ليطوف ويسعى بثيابه المعتادة. على كل حال أقول: إن بعض الناس يتعبد لله تعالى بالسعي من غير حج ولا عمرة، وهذا لا أصل له، بل هو بدعة، ولا يقع غالباً إلا من شخص جاهل، لكنه يعتبر من الأخطاء في السعي. الخطأ الحادي عشر: التهاون بالسعي على العربة بدون عذر؛ فإن بعض الناس يتهاون بذلك، ويسعى على العربة بدون عذر، مع أن كثيراً من أهل العلم قالوا: إن السعي راكباً لا يصح إلا لعذر، وهذه المسألة مسألة خلاف بين العلماء، أي: أنه هل يشترط في السعي أن يكون الساعي ماشياً - إلا من عذر- أو لا يشترط؟ ولكن الإنسان ينبغي له أن يحتاط لدينه، وأن يسعى ماشياً ما دام قادراً، فإن عجز فلا يكلف الله نفساً إلا وسعاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة حين قالت: إني أريد أن أطوف وأجدني شاكية. قال: ((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)) (6) فأذن لها بالركوب في الطواف؛ لأنها مريضة، وهكذا نقول في السعي: إن الإنسان إذا كان لا يستطيع أو يشق عليه السعي مشقة تتعبه، فلا حرج عليه أن يسعى على العربة، هذا ما يحضرني من الأخطاء في السعي. صعود المرأة الصفا ومزاحمتها الرجال   (1) أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (867) (2) تقدم تخريجه (132) (3) تقدم تخريجه (321) (4) تقدم تخريجه (327) (5) تقدم تخريجه (132) (6) تقدم تخريجه (341) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 السؤال (294) : فضيلة الشيخ، من المعروف أن الصفا ضيق والمروة أضيق منه، ومع ذلك نرى النساء يصعدن إلى الصفا والمروة ويزاحمن الرجال، فهل من السنة صعود المرأة على الصفا؟ الجواب: المعروف عند الفقهاء: أنه لا يسن للمرأة أن تصعد الصفا والمروة، وإنما تقف عند أصولهما، ثم تنحرف لتأتي ببقية الأشواط، لكن لعل هؤلاء النساء اللاتي يشاهدن صاعدات على الصفا والمروة يكن مع محارمهن، ولا يتسنى لهن مفارقة المحارم؛ لأنهن يخشين من الضياع، وإلا فإن الأولى بالمرأة ألا تزاحم الرجال في أمر ليس مطلوباً منها. صفة السعى بين العلمين الأخضرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 السؤال (295) : فضيلة الشيخ، أيضاً ذكرتم من الأخطاء ترك السعي الشديد بين العلمين الأخضرين، وذكرتم أنه أقرب إلى الصفا، وذكرتم أن السعي يكون في الذهاب من الصفا إلى المروة، فهل يلزم أيضاً السعي الشديد في العودة بين العلمين الأخضرين من المروة إلى الصفا؟ الجواب: نعم، السعي الشديد ليس بلازم، لكن الأفضل أن يسعى سعياً شديداً بين العلمين، في ذهابه من الصفا إلى المروة، وفي رجوعه من المروة إلى الصفا، لأن كل مرة من هذه شوط، والسعي بين العلمين مشروع في كل الأشواط. هل يقول الساعي: ((أبدأ بما بدأ الله به)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 السؤال (296)) فضيلة الشيخ، أيضاً ذكرتم أن من الأخطاء أن بعض الناس يدعو أو يتلو الآية: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ..) عند الصعود إلى الصفا أو المروة كل شوط، وقلتم، إن الرسول صلى الله عليه وسلم تلا أول الآية: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (أبدأ بما بدأ الله به)) (1) ، فهل يقول مثل الرسول: ((أبدأ بما بدأ الله به)) ، أو يكمل الآية؟ الجواب: الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث جابر قوله - أي: جابر- فلما دنا من الصفا قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) فيحتمل أنه قرأ الآية كلها، ويحتمل أنه قرأ هذا الجزء منها، فإن كمل الآية فلا حرج عليه. وأما قوله: ((أبدأ بما بدأ الله به)) فيقولها الإنسان أيضاً، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإشعاراً لنفسه أنه فعل ذلك طاعة لله عز وجل، حيث ذكر الله أنهما من شعائر الله، وبدأ بالصفا. واجب المطوفين تجاه الحجاج   (1) تقدم تخريجه (132) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 السؤال (297) : فضيلة الشيخ، أيضاً ذكرتم من الأخطاء التي تقع في السعي: الدعاء من خلال كتاب، فهل ينطبق هذا أيضاً على الذين يطوفون بالناس ويسعون بهم، ويقولون أدعية ويرددها الناس خلفهم؟ الجواب: نعم، هو ينطبق على هؤلاء؛ لأن هؤلاء أيضاً كانوا قد حفظوا هذه الأدعية من هذا الكتاب، ولعلك لو ناقشت بعضهم- أي بعض هؤلاء المطوفين- لو ناقشته عن معاني ما يقول، لم يكن عنده من ذلك خبر، ولكن مع ذلك قد يكون الذين خلفه لا يعلمون اللغة العربية، ولا يعرفون معنى ما يقول، وإنما يرددونه تقليداً لصوته فقط، وهذا من الخلل الذي يكون في المطوفين. ولو أن المطوفين - أمسكوا الحجاج الذين يطوفونهم، وعلموهم تعليماً عند كل طواف وعند كل سعي، فيقولون لهم مثلاً: أنتم الآن سوف تطوفون، فقولوا كذا، وافعلوا كذا، وادعوا بما شئتم، ونحن معكم نرشدكم إن ضللتم، فهذا طيب، وهو أحسن من أن يرفعوا أصواتهم بتلقينهم الدعاء الذي لا يعرفون معناه، والذي قد يكون فيه تشويش على الطائفين. وهم إذا قالوا: نحن أمامكم، وأنتم افعلوا كذا، أشيروا مثلاً إلى الحجر، أو استلموه إذا تيسر لكم، أو ما أشبه ذلك، وقولوا كذا، وكبروا عند محاذاة الحجر الأسود، وقولوا بينه وبين الركن اليماني: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة: 201) ، إلى غير ذلك من التوجهيات، لكان هذا أنفع للحاج وأخشع، أما أن يؤتى بالحاج وكأنه ببغاء يقلد بالقول والفعل هذا المطوف، ولا يدري عن شيء أبداً، وربما لو قيل له بعد ذلك: طف. ما استطاع أن يطوف، لأنه لا يعرف الطواف؛ لأنه كان يمشي ويردد وراء هذا المطوف، فهذا هو الذي أرى أنه أنفع للمطوفين وأنفع للطائفين أيضاً. أخطاء تقع في الحلق والتقصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 السؤال (298) : فضيلة الشيخ، بالنسبة للتقصير والحلق بعد السعي للعمرة، أو للإحلال من الحج في منى، هل هناك أخطاء؟ الجواب: نعم، في الحلق أو التقصير في العمرة يحصل أخطاء. منها: أن بعض الناس يحلق بعض رأسه حلقا تاما بالموسى، ويبقي البقية، وقد شاهدت ذلك بعيني، فقد شاهدت رجلا يسعى بين الصفا والمروة، وقد حلق نصف رأسه تماما، وأبقى نصفه، وهو شعر كثيف أيضا بين، فأمسكت به وقلت له: لماذا صنعت هذا؟ فقال: صنعت هذا؛ لأني أريد أن أعتمر مرتين، فحلقت نصفه للعمرة الأولى، وأبقيت نصفه لعمرتي هذه، وهذا جهل وضلال؛ لم يقل به أحد من أهل العلم. ومن الخطأ أيضا: أن بعض الناس إذا أراد أن يتحلل من العمرة، قصر شعرات قليلة من رأسه، ومن جهة واحدة، وهذا خلاف ظاهر الآية الكريمة؛ فإن الله تعالى يقول: (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) (الفتح: 27) ، فلابد أن يكون للتقصير أثر بين على الرأس، ومن المعلوم أن قص شعره أو شعرتين أو ثلاث شعرات لا يؤثر، ولا يظهر على المعتمر أنه قصر، فيكون مخالفا لظاهر الآية الكريمة. ودواء هذين الخطأين: أن يحلق جميع الرأس إذا أراد حلقه، وأن يقصر من جميع الرأس إذا أراد تقصيره، ولا يقتصر على شعرة أو شعرتين. ومن الناس: من يخطئ في الحلق أو التقصير خطأ ثالثا، وذلك أنه إذا فرغ من السعي ولم يجد حلاقا يحلق عنده أو يقصر، ذهب إلى بيته، فتحلل ولبس ثيابه ثم حلق أو قصر بعد ذلك، وهذا خطأ عظيم؛ لأن الإنسان لا يحل من العمرة إلا بالحلق أو التقصير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر أصحابه في حجة الوداع، أمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، قال: ((فليقصر وليحلل)) (1) ، وهذا يدل على أنه لا حل إلا بعد التقصير. وعلى هذا: فإذا فرغ الحاج من السعي ولم يجد حلاقا أو أحدا يقصر رأسه، فليبق على إحرامه حتى يحلق أو يقصر، ولا يحل له أن يتحلل قبل ذلك، فلو قدر أن شخصا فعل هذا جاهلا بأن تحلل قبل أن يحلق أو يقصر، ظنا منه أن ذلك جائز، فإنه لا حرج عليه لجهله، ولكن يجب عليه حين يعلم أن يخلع ثيابه ويلبس ثياب الإحرام؛ لأنه لا يجوز له التمادي في الحل مع علمه بأنه لم يحل، ثم إذا حلق أو قصر تحلل. هذا ما يحضرني الآن من الأخطاء في الحلق أو التقصير. أخطاء تقع في منى   (1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من ساق البدن معه، رقم (1691) ، ومسلم كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع..، رقم (1227) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 السؤال (299) : فضيلة الشيخ، نود أيضا أن نعرف الأخطاء التي تكون في منى، وفي المبيت فيه؟ الجواب: من الأخطاء التي تكون في الذهاب إلى منى: ما سبق ذكره من الخطأ في التلبية؛ حيث إن بعض الناس لا يجهر بالتلبية مع مشروعية الجهر بها، فتمر بك أفواج الحجاج، ولا تكاد تسمع واحداً يلبي، وهذا خلاف السنة، وخلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فالسنة للإنسان في التلبية أن يجهر بها، وأن يرفع صوته بذلك، ما لم يشق عليه، وليعلم أنه لا يسمعه شيء من حجر أو مدر، إلا شهد له يوم القيامة عند الله سبحانه وتعالى. ومن ذلك أيضا: أن بعض الحجاج يذهب رأسا إلى عرفة ولا يبيت في منى، وهذا وإن كان جائزاً ـ لأن المبيت في منى قبل يوم عرفة ليس بواجب ـ لكن الأفضل للإنسان أن يتبع السنة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث ينزل في منى من ضحى اليوم الثامن، إلى أن تطلع الشمس من اليوم التاسع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)) (1) . لكنه لو تقدم إلى عرفة، ولم يبت في منى ليلة التاسع، فلا حرج عليه؛ لحديث عروة بن المضرس أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر بعد العيد في مزدلفة، وقال: يا رسول الله، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، فلم أر جبلا إلا وقفت عنده ـ يعني: فهل لي من حج؟ ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه)) (2) . ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم المبيت في منى ليلة التاسع، وهذا يدل على أنه ليس بواجب. ومن الأخطاء في بقاء الناس في منى في اليوم الثامن: أن بعض الناس يقصر ويجمع في منى، فيجمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، وهذا خلاف السنة؛ فإن المشروع للناس في منى أن يقصروا الصلاة بدون جمع، هكذا جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الجمع جائزا؛ لأنه في سفر، والمسافر يجوز له الجمع حالا وسائرا، لكن الأفضل لمن كان حالا ونازلا من المسافرين، الأفضل ألا يجمع إلا لسبب، ولا سبب يقتضي الجمع في منى، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجمع في منى ولكن يقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين في وقتها، والمغرب ثلاثا في وقتها، والعشاء ركعتين في وقتها، والفجر في وقتها. هذا ما يحضرني الآن فيما يكون من الأخطاء في الذهاب إلى منى والمكث فيها في اليوم الثامن. أخطاء تقع في الذهاب إلى عرفة وفي عرفة   (1) تقدم تخريجه (325) (2) تقدم تخريجه (360) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 السؤال (300) : فضيلة الشيخ، بالنسبة للأخطاء التي يمكن أن يقع فيها بعض الحجاج في الخروج إلى عرفة، والوقوف بها؟ الجواب: من الأخطاء في الذهاب إلى عرفة: أن الحجاج يمرون بك ولا تسمعهم يلبون، فلا يجهرون بالتلبية في مسيرهم من منى إلى عرفة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة في يوم العيد (1) . ومن الأخطاء العظيمة الخطيرة في الوقوف بعرفة: أن بعض الحجاج ينزلون قبل أن يصلوا إلى عرفة، ويبقون في منزلهم حتى تزول الشمس، ويمكثون هناك إلى أن تغرب الشمس، ثم ينطلقون منه إلى مزدلفة، وهؤلاء الذين وقفوا هذا الموقف ليس لهم حج؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((الحج عرفة)) (2) . فمن لم يقف في عرفة في المكان الذي هو منها، وفي الزمان الذي عين للوقوف بها، فإن حجه لا يصح، للحديث الذي أشرنا إليه. وهذا أمر خطير، والحكومة السعودية - وفقها الله عز وجل - قد جعلت علامات واضحة لحدود عرفة لا تخفى إلا على رجل مفرّط متهاون، فالواجب على كل حاج أن يتفقد الحدود حتى يعلم أنه وقف في عرفة لا خارجها. ومن الأخطاء في الوقوف بعرفة: أن بعض الناس إذا اشتغلوا بالدعاء في آخر النهار، تجدهم يتجهون إلى الجبل الذي وقف عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن القبلة تكون خلف ظهورهم أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم، وهذا أيضا جهل وخطأ؛ فإن المشروع في الدعاء يوم عرفة أن يكون الإنسان مستقبل القبلة، سواء كان الجبل أمامه أو خلفه، أو عن يمينه أو عن شماله، وإنما استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الجبل، لأن موقفه كان خلف الجبل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة، وإذا كان الجبل بينه وبين القبلة، فبالضرورة سيكون مستقبلا له. ومن الأخطاء التي يرتكبها الحجاج في يوم عرفة: أن بعضهم يظن أنه لابد أن يذهب الإنسان إلى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي عند الجبل ليقف هناك، فتجدهم يتجشمون المصاعب، ويركبون المشاق، حتى يصلوا إلى ذلك المكان، وربما يكونون مشاة جاهلين بالطرق؛ فيعطشون ويجوعون إذا لم يجدوا ماء وطعاما، ويضلون ويتيهون في الأرض، ويحصل عليهم ضرر عظيم بسبب هذا الظن الخاطئ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف)) (3) ، وكأنه صلى الله عليه وسلم يشير إلى أنه ينبغي للإنسان أن لا يتكلف ليقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم، بل يفعل ما يتيسر له؛ فإن عرفة كلها موقف. ومن الأخطاء أيضا حال الوقوف بعرفة: أن بعض الناس يعتقدون أن الأشجار في عرفة كالأشجار في منى ومزدلفة، أي: أنه لا يجوز للإنسان أن يقطع منها ورقة أو غصنا أو ما أشبه ذلك؛ لأنهم يظنون أن قطع الشجر له تعلق بالإحرام كالصيد، وهذا ظن خطأ؛ فإن قطع الشجر لا علاقة له بالإحرام، وإنما علاقته بالمكان، فما كان داخل حدود الحرم، أي: داخل الأميال من الأشجار، فهو محترم، لا يعضد ولا يقطع منه ورق ولا أغصان، وما كان خارجا عن حدود الحرم، فإنه لا بأس بقطعه، ولو كان الإنسان محرما. وعلى هذا: فقطع الأشجار في عرفة لا بأس به، ونعنى بالأشجار هنا الأشجار التي حصلت بغير فعل الحكومة، وأما الأشجار التي حصلت بفعل الحكومة، فإنه لا يجوز قطعها، لا لأنها محترمة احترام الشجر في داخل الحرم، ولكن لأنه اعتداء على حق الحكومة وعلى حق الحجاج أيضا؛ لأن الحكومة ـ وفقها الله ـ غرست أشجارا في عرفة؛ لتلطيف الجو، وليستظل بها الناس من حر الشمس، فالاعتداء عليها اعتداء على حق الحكومة وعلى حق المسلمين عموما. أخطاء تقع في الوقوف بعرفة ((تتمة))   (1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الركوب والارتداف في الحج، رقم (1543، 1544) ، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، رقم (1281) . (2) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، رقم (1949) ، والترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، رقم (899) ، والنسائي، كتاب الحج، باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة، رقم (3044) ، وابن ماجه، كتاب ((المناسك)) باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، رقم، (3015) ، وأحمد في ((المسند)) (4/309، 310) ، والحاكم في ((المستدرك)) (1/464) ، والبيهقي في ((سننه)) (5/1116، 173) ، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في (0 الإرواء)) رقم (1064) (3) تقدم تخريجه (377) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 السؤال (301) : فضيلة الشيخ، هل هناك أخطاء أيضا في عرفة يفعلها الحجاج غير ما ذكرتم؟ الجواب: نعم هناك أخطاء أخرى في الوقوف بعرفة غير ما ذكرنا. منها: أن بعض الحجاج يعتقدون أن للجبل الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم قدسية خاصة؛ ولهذا يذهبون إليه، ويصعدون، ويتبركون بأحجاره وترابه، ويعلقون على أشجاره قصاصات الخرق، وغير ذلك مما هو معروف، وهذا من البدع؛ فإنه لا يشرع صعود الجبل ولا الصلاة فيه، ولا أن تعلق قصاصات الخرق على أشجاره؛ لأن ذلك كله لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه شيء من رائحة الوثنية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شجرة للمشركين ينوطون بها أسلحتهم، فقالوا يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((الله أكبر، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) (الأعراف: 138) (1) ، وهذا الجبل ليس له قدسية خاصة بل هو كغيره من الروابي التي في عرفة، والسهول التي فيها، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام وقف هناك، فكان المشروع أن يقف الإنسان في موقف الرسول عليه الصلاة والسلام إن تيسر له، وإلا فليس بواجب، ولا ينبغي أن يتكلف الإنسان الذهاب إليه لما سبق. ومن الأخطاء في الوقوف بعرفة أيضا: أن بعض الناس يظن أنه لابد أن يصلي الإنسان الظهر والعصر مع الإمام في المسجد؛ ولهذا تجدهم يذهبون إلى ذلك المكان من أماكن بعيدة ليكونوا مع الإمام في المسجد، فيحصل عليهم من المشقة والأذى والتيه ما يجعل الحج في حقهم حرجا وضيقا، ويضيّق بعضهم على بعض، ويؤذي بعضهم بعضا، والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الوقوف: ((وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)) (2) ، وكذلك أيضا قال ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً)) (3) ، فإذا صلى الإنسان في خيمته صلاة يطمئن فيها بدون أذى عليه ولا منة، وبدون مشقة تلحق الحج بالأمور المحرجة، فإن ذلك خير له وأولى. ومن الأخطاء التي يرتكبها الناس في الوقوف بعرفة: أن بعضهم يتسلل من عرفة قبل أن تغرب الشمس، فيدفع منها إلى مزدلفة، وهذا خطأ عظيم، وفيه مشابهة للمشركين الذين كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، ومخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يدفع من عرفة إلا بعد أن غابت الشمس وذهبت الصفرة قليلا؛ كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه (4) ، وعلى هذا: فإنه يجب على المرء أن يبقى في عرفة داخل حدودها حتى تغرب الشمس؛ لأن هذا الوقوف مؤقت بغروب الشمس، فكما أنه لا يجوز للصائم أن يفطر قبل أن تغرب الشمس، فلا يجوز للواقف بعرفة أن ينصرف منها قبل أن تغرب الشمس. ومن الأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج في الوقوف بعرفة: إضاعة الوقت في غير فائدة، فتجد الناس من أول النهار إلى آخر جزء منه وهم في أحاديث قد تكون بريئة سالمة من الغيبة والقدح في أعراض الناس وقد تكون غير برئيه لكونهم يخوضون في أعراض الناس ويأكلون لحومهم، فإن كان الثاني فقد وقعوا في محذورين: أحدهما: أكل لحوم الناس وغيبتهم، وهذا خلل حتى في الإحرام؛ لأن الله تعالى يقول: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَج) (البقرة: 197) . والثاني: إضاعة الوقت. أما إذا كان الحديث بريئا لا يشتمل على محرم، ففيه إضاعة الوقت، لكن لا حرج على الإنسان أن يشغل وقته بالأحاديث البريئة فيما قبل الزوال، وأما بعد الزوال وصلاة الظهر والعصر: فإن الأولى أن يشتغل بالدعاء والذكر وقراءة القرآن، وكذلك الأحاديث النافعة لإخوانه إذا مل من القراءة والذكر، فيتحدث إليهم أحاديث نافعة، في بحث من العلوم الشرعية أو نحو ذلك مما يدخل السرور عليهم، ويفتح لهم باب الأمل والرجاء لرحمة الله سبحانه وتعالى، ولكن لينتهز الفرصة في آخر ساعات النهار، فيشتغل بالدعاء ويتجه إلى الله عز وجل متضرعا إليه، مخبتا منيبا، طامعا في فضله، راجيا لرحمته، ويلح في الدعاء ويكثر من الدعاء الوارد في القرآن وفي السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا خير الأدعية؛ فإن الدعاء في هذه الساعة حري بالإجابة. أخطاء تقع في الطريق إلى مزدلفة، وفي مزدلفة   (1) أخرجه أحمد، والترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، رقم (2180) وقال: حسن صحيح. (2) تقدم تخريجه (377) (3) تقدم تخريجه (162) (4) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم (1218) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 السؤال (302) : فضيلة الشيخ، بعد أن عرفنا أهم الأخطاء التي تقع من الحجاج في عرفة نود أن نعرف أيضا إذا كان هناك أخطاء يقع فيها بعض الحجاج في الطريق إلى المزدلفة وفي المزدلفة نفسها؟ الجواب: تقع أخطاء في الانصراف إلى المزدلفة، منها ما يكون في ابتداء الانصراف، وهو ما أشرنا إليه سابقا من انصراف بعض الحجاج من عرفة قبل غروب الشمس، ومنها أنه في دفعهم من عرفة إلى المزدلفة تحدث المضايقات بعضهم لبعض، والإسراع الشديد حتى يؤدي ذلك أحيانا إلى تصادم السيارات، وقد دفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة بسكينة، وكان عليه الصلاة والسلام دفع وقد شنق لناقته القصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب موضع رحله، وهو يقول بيده الكريمة: ((أيها الناس، السكينة السكينة)) ، ولكنه صلى الله عليه وسلم مع ذلك إذا أتى فجوة أسرع، وإذا أتى حبلا من الحبال (1) أرخى لناقته الزمام حتى تصعد (2) ، فكان عليه الصلاة والسلام يراعي الأحوال في مسيره هذا، ولكن إذا دار الأمر بين كون الإسراع أفضل أو التأني، فالتأني أفضل. ومن الأخطاء في مزدلفة والدفع إليها: أن بعض الناس ينزل قبل أن يصلوا إلى مزدلفة، ولا سيما المشاة منهم، يعييهم المشي ويتعبهم، فينزلون قبل أن يصلوا إلى مزدلفة، ويبقون هنالك حتى يصلوا الفجر ثم ينصرفوا منه إلى منى ومن فعل هذا فإنه قد فاته المبيت في المزدلفة، وهذا أمر خطير جدا، لأن المبيت بمزدلفة ركن من أركان الحج عند بعض أهل العلم، وواجب من واجباته عند جمهور أهل العلم، وسنة في قول بعضهم، ولكن الصواب: أنه واجب من واجبات الحج، وأنه يجب على الإنسان أن يبيت في مزدلفة، وألا ينصرف إلا في الوقت الذي أجاز الشارع له فيه الانصراف كما سيأتي إن شاء الله تعالى، المهم: أن بعض الناس ينزلون قبل أن يصل إلى مزدلفة. ومن الأخطاء أيضا: أن بعض الناس يصلي المغرب والعشاء في الطريق على العادة، قبل أن يصل إلى مزدلفة، وهذا خلاف السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل في أثناء الطريق وبال وتوضأ، قال له أسامة بن زيد وكان رديفه: الصلاة يا رسول الله قال: ((الصلاة أمامك)) (3) ، وبقي عليه الصلاة والسلام ولم يصل إلا حين وصل إلى مزدلفة، وكان قد وصلها بعد دخول وقت العشاء؛ فصلى فيها المغرب والعشاء جمع تأخير. أخطاء تقع في مزدلفة ((تتمة))   (1) الحبل: هو التل اللطيف من الرمل. (2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم (1218) وهو جزء من حديث جابر السابق. (3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب النزول بين عرفة وجمع، رقم (1669) ومسلم، كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة، رقم (1280) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 السؤال (303) : فضيلة الشيخ، هل هناك أخطاء أخرى غير ما ذكرتم في الطريق إلى مزدلفة والمبيت بها؟ الجواب: نعم، هناك أخطاء منها عكس ما ذكرناه في الذين يصلون المغرب والعشاء قبل الوصول إلى مزدلفة؛ فإن بعض الناس لا يصلي المغرب والعشاء حتى يصل إلى مزدلفة ولو خرج وقت صلاة العشاء، وهذا لا يجوز وهو حرام من كبائر الذنوب؛ لأن تأخير الصلاة عن وقتها محرم بمقتضى دلالة الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: 103) وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوقت وحدده، وقال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (الطلاق: 1) (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 229) . فإذا خشي الإنسان خروج وقت العشاء قبل أن يصل إلى مزدلفة، فإن الواجب عليه أن يصلي وإن لم يصل إلى مزدلفة، يصلي على حسب حاله، إن كان ماشياً وقف وصلى الصلاة بقيامها وركوعها وسجودها، وإن كان راكباً ولم يتمكن من النزول، فإنه يصلي ولو كان على ظهر سيارته، لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16) ، وإن كان عدم تمكنه من النزول في هذه الحال أمراً بعيداً، لأنه بإمكان كل إنسان أن ينزل ويقف على جانب الخط من اليمين أو اليسار ويصلي. وعلى كل حال: فإنه لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة المغرب والعشاء حتى يخرج وقت صلاة العشاء، بحجة أنه يريد أن يطبق السنة، فلا يصلي إلا في مزدلفة؛ فإن تأخيره هذا مخالف للسنة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أخر، لكنه صلى الصلاة في وقتها. ومن الأخطاء أيضاً في الوقوف بمزدلفة: أن بعض الحجاج يصلون الفجر قبل وقته، فتسمع بعضهم يؤذن قبل الوقت بساعة أو بأكثر أو بأقل، المهم أنهم يؤذنون قبل الفجر ويصلون وينصرفون، وهذا خطأ عظيم؛ فإن الصلاة قبل وقتها غير مقبولة، بل محرمة؛ لأنها اعتداء على حدود الله عز وجل، فإن الصلاة مؤقتة بوقت حدد الشرع أوله وآخره، فلا يجوز لأحد أن يتقدم بالصلاة قبل دخول وقتها، فيجب على الحاج أن ينتبه لهذه المسألة، وأن لا يصلي الفجر إلا بعد أن يتيقن أو يغلب على ظنه دخول وقت الفجر، صحيح أنه ينبغي المبادرة بصلاة الفجر ليلة المزدلفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بادر بها، ولكن لا يعني ذلك- أو لا يقتضي ذلك- أن تصلى قبل الوقت، فليحذر الحاج من هذا العمل. ومن الخطأ في الوقوف بمزدلفة: أن بعض الحجاج يدفعون منها قبل أن يمكثوا فيها أدنى مكث، فتجده يمر بها مروراً ويستمر ولا يقف، ويقول: إن المرور كاف، وهذا خطأ عظيم؛ فإن المرور غير كاف، بل السنة تدل على أن الحاج يبقى في مزدلفة حتى يصلي الفجر ثم يقف عند المشعر الحرام يدعو الله تعالى حتى يسفر جداً، ثم ينصرف إلى منى، ورخص النبي عليه الصلاة والسلام للضعفة من أهله أن يدفعوا من مزدلفة بليل (1) وكانت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - ترقب غروب القمر، فإذا غاب القمر دفعت من مزدلفة إلى منى (2) . وهذا ينبغي أن يكون هو الحد الفاصل؛ لأنه فعل صحابي، والنبي عليه الصلاة والسلام أذن للضعفة من أهله أن يدفعوا بليل، ولم يبين في هذا الحديث حد هذا الليل، ولكن فعل الصحابي قد يكون مبيناً له ومفسراً له، وعليه فالذي ينبغي أن يحدد الدفع للضعفة ونحوهم ممن يشق عليهم مزاحمة الناس، ينبغي أن يقيد بذلك، أي: بغروب القمر، وغروب القمر في الليلة العاشرة، يكون قطعاً بعد منتصف الليل، يكون بمضيّ ثلثي الليل تقريباً. وهذا ما يحضرني الآن من الأخطاء التي تقع في المبيت بمزدلفة. أخطاء تقع عند الرمي   (1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل..، رقم (1676) ، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى مني..، رقم (1295) (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 السؤال (304) : فضيلة الشيخ، ما هي الأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج في الرمي؟ الجواب: من المعلوم أن الحاج يوم العيد يقدم إلى منى من مزدلفة، وأول ما يبدأ به أن يرمي جمرة العقبة، والرمي يكون بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكمة من رمي الجمار في قوله: (إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله) (1) ، هذه هي الحكمة من مشروعية رمي الجمرات، والخطأ الذي يرتكبه بعض الناس في رمي الجمرات يكون من وجوه متعددة: فمن ذلك: أن بعض الناس يظنون أنه لا يصح الرمي إلا إذا كانت الحصاة من مزدلفة، ولهذا تجدهم يتعبون كثيراً في لقط الحصى من مزدلفة، قبل أن يذهبوا إلى منى وهذا ظن خاطئ، فالحصى يؤخذ من أي مكان من مزدلفة، من منى، من أي مكان كان يؤخذ، المقصود أن يكون حصى. ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه التقط الحصى من مزدلفة حتى نقول: إنه من السنة، إذن فليس من السنة، ولا من الواجب أن يلتقط الإنسان الحصى من مزدلفة؛ لأن السنة إما قول الرسول عليه الصلاة والسلام، أو فعله، أو إقراره، وكل هذا لم يكن في لفظ الحصى من مزدلفة. ومن الخطأ أيضاً: أن بعض الناس إذا لقط الحصى غسله، إما احتياطاً لخوف أن يكون أحد قد بال عليه، وإما تنظيفاً لهذا الحصى، لظنه أن كونه نظيفاً أفضل، وعلى كل حال: فغسل حصى الجمرات بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، والتعبد بشيء لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم بدعة، وإذا فعله الإنسان من غير تعبد كان سفهاً وضياعاً للوقت. ومن الأخطاء أيضاً: أن بعض الناس يظنون أن هذه الجمرات شياطين، وأنهم يرمون شياطين، فتجد الواحد منهم يأتي بعنف شديد وحنق وغيظ، منفعلاً انفعالاً عظيماً، كأن الشيطان أمامه، ثم يرمي هذه الجمرات، ويحدث من ذلك مفاسد: أولاً: أن هذا ظن خاطئ، فإنما نرمي هذه الجمرات إقامة لذكر الله تعالى؛ واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقيقاً للتعبد، فإن الإنسان إذا عمل طاعة وهو لا يدري فائدتها، إنما يفعلها تعبداً لله، كان هذا أدل على كمال ذله وخضوعه لله عز وجل. ثانياً: مما يترتب على هذا الظن: أن الإنسان يأتي بانفعال شديد وغيظ وحنق وقوة واندفاع، فتجده يؤذي الناس إيذاء عظيماً، حتى كأن الناس أمامه حشرات لا يبالي بهم، ولا يسأل عن ضعيفهم، وإنما يتقدم كأنه جمل هائج. ثالثاً: مما يترتب على هذه العقيدة الفاسدة: أن الإنسان لا يستحضر أنه يعبد الله عز وجل أو يتعبد لله عز وجل بهذا الرمي، ولذلك يعدل عن الذكر المشروع إلى قول غير مشروع، فتجده يقول حين يرمي: اللهم غضباً على الشيطان، ورضا للرحمن، مع أن هذا ليس بمشروع عند رمي الجمرة، بل المشروع أن يكبر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. رابعاً: أنه بناء على هذه العقيدة الفاسدة تجده يأخذ أحجاراً كبيرة يرمي بها، بناء على ظنه أنه كلما كان الحجر أكبر كان أشد أثراً وانتقاماً من الشيطان، وتجده أيضاً يرمي بالنعال والخشب وما أشبه ذلك مما لا يشرع الرمي به، ولقد شاهدت رجلاً قبل بناء الجسور على الجمرات جالساً على زبرة الحصى التي رمي بها في وسط الحوض، وامرأة معه يضربان العمود بأحذيتهما، بحنق وشدة، وحصى الرامين تصيبهما، ومع ذلك فكأنهما يريان أن هذا في سبيل الله، وأنهما يصبران على الأذى على هذه الإصابة ابتغاء وجه الله عز وجل. إذن: إذا قلنا: إن هذا الاعتقاد اعتقاد فاسد، فما الذي نعتقده في رمي الجمرات؟ نعتقد في رمي الجمرات أننا نرمي الجمرات تعظيماً لله عز وجل، وتعبداً له، واتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخطاء تقع عند الرمي ((تتمة))   (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 السؤال (305) : فضيلة الشيخ، ذكرتم شيئاً من الأخطاء التي تقع عند الرمي منها: الظن بأن الحصى لابد أن تلتقط من مزدلفة، وأيضاً غسل الحصى، وأنه خلاف السنة والظن بأن الجمرات شياطين، والرمي بالأحجار الكبيرة والرمي بالأحذية والخشب وما شابهها، فهل هناك أخطاء أخرى تقع من بعض الحجاج في الرمي ينبغي التنبيه عليها والاستفادة من تجنبها؟ الجواب: نعم، هناك أخطاء في الرمي يرتكبها بعض الناس، منها ما سبق، ومنها أن بعض الناس لا يتحقق من رمي الجمرة من حيث ترمى؛ فإن جمرة العقبة ـ كما هو معلوم في الأعوام السابقة ـ كان لها جدار من الخلف، والناس يأتون إليها من نحو هذا الجدار، فإذا شاهدوا الجدار رموا، ومعلوم أن الرمي لابد أن تقع فيه الحصى في الحوض، فيرمونها من الناحية الشرقية من ناحية الجدار، ولا يقع الحصى في الحوض؛ لحيلولة الجدار بينهم وبين الحوض، ومن رمى هكذا فإن رميه لا يصح؛ لأن من شرط الرمي أن تقع الحصاة في الحوض، وإذا وقعت الحصاة في الحوض، فقد برئت بهذا الذمة سواء بقيت في الحوض أو تدحرجت منه. ومن الأخطاء أيضا في الرمي: أن بعض الناس يظن أنه لابد أن تصيب الحصاة الشاخص، أي: العمود، وهذا ظن خطأ؛ فإنه لا يشترط لصحة الرمي أن تصيب الحصاة هذا العمود، فإن هذا العمود إنما جعل علامة على المرمى الذي تقع فيه الحصى، فإذا وقعت الحصاة في المرمى، أجزأت سواء أصابت العمود أم لم تصبه. ومن الأخطاء العظيمة الفادحة أيضا: أن بعض الناس يتهاون في الرمي، فيوكّل من يرمي عنه مع قدرته عليه، وهذا خطأ عظيم؛ وذلك لأن رمي الجمرات من شعائر الحج ومناسكه، وقد قال الله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (البقرة: 196) ، وهذا يشمل إتمام الحج بجميع أجزائه، فجميع أجزاء الحج يجب على الإنسان أن يقوم بها بنفسه، وألا يوكل فيها أحدا. يقول بعض الناس: إن الزحام شديد، وإنه يشق عليّ. فنقول له: إذا كان الزحام شديدا أول ما يقدم الناس إلى منى من مزدلفة، فإنه لا يكون شديداً في آخر النهار، ولا يكون شديدا في الليل، وإذا فاتك الرمي في النهار فارم في الليل؛ لأن الليل وقت للرمي، وإن كان النهار أفضل، لكن كون الإنسان يأتي بالرمي في الليل بطمأنينة وهدوء وخشوع أفضل من كونه يأتي به في النهار، وهو ينازع الموت من الزحام والضيق والشدة، وربما يرمي ولا تقع الحصاة في المرمى، المهم أن من احتج بالزحام نقول له: إن الله قد وسع الأمر، فلك أن ترمي في الليل. يقول بعض الناس: إن المرأة عورة ولا يمكنها أن تزاحم الرجال في الرمي. نقول له: إن المرأة ليست عورة، إنما العورة أن تكشف المرأة ما لا يحل لها كشفه أمام الرجال الأجانب، وأما شخصية المرأة فليست بعورة، وإلا لقلنا: إن المرأة لا يجوز لها أن تخرج من بيتها أبدا، وهذا خلاف دلالة الكتاب والسنة، وخلاف ما أجمع عليه المسلمون، صحيح أن المرأة ضعيفة، وأن المرأة مرادة للرجل، وأن المرأة محط الفتنة، ولكن إذا كانت تخشى من شيء في الرمي مع الناس، فلتؤخر الرمي إلى الليل؛ ولهذا لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة من أهله؛ كسودة بنت زمعة، وأشباهها، لم يرخص لهم أن يدعوا الرمي ويوكلوا من يرمي عنهم، مع دعاء الحاجة إلى ذلك ـ لو كان من الأمور الجائزة ـ بل أذن لهم أن يدفعوا من مزدلفة في آخر الليل ليرموا قبل حطمة الناس، وهذا أكبر دليل على أن المرأة لا توكل لكونها امرأة. نعم، لو فرض أن الإنسان عاجز ولا يمكنه الرمي بنفسه، لا في النهار ولا في الليل، فهنا يتوجه القول بجواز التوكيل؛ لأنه عاجز وقد ورد عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم كانوا يرمون عن صبيانهم؛ لعجز الصبيان عن الرمي، ولولا ورود هذا النص ـ وهو رمي الصحابة عن صغارهم ـ لولا هذا لقلنا: إن من عجز عن الرمي بنفسه، فإنه يسقط عنه: إما إلى بدل وهو الفدية، وإما إلى غير بدل؛ وذلك لأن العجز عن الواجبات يسقطها، ولا يقوم غير المكلف بما يلزم المكلف فيها عند العجز؛ ولهذا من عجز عن أن يصلي قائما مثلا، لا نقول له: وكل من يصلي عنك قائما، على كل حال: التهاون في هذا الأمر ـ أعني: التوكيل في رمي الجمرات إلا من عذر لا يتمكن فيه الحاج من الرمي ـ أمر خطأ كبير؛ لأنه تهاون في العبادة، وتخاذل عن القيام بالواجب. ومن الأخطاء أيضا في الرمي: أن بعض الناس يظنون أن الرمي بحصاة من غير مزدلفة لا يجزئ، حتى إن بعضهم إذا أخذ الحصى من مزدلفة، ثم ضاع منه أو ضاع منه بعضه، وبقي ما لا يكفي: ذهب يطلب أحدا معه حصى من مزدلفة ليسلفه إياه، فتجده يقول: أقرضني حصاة من فضلك. وهذا خطأ وجهل، فإنه كما أسلفنا: يجوز الرمي بكل حصاة من أي موضع كانت، حتى لو فرض أن الرجل وقف يرمي الجمرات، وسقطت الجمرات من يده، فله أن يأخذ من الأرض من تحت قدمه، سواء حصاه التي سقطت منه أو غيرها، ولا حرج عليه في ذلك؛ فيأخذ من الأرض التي تحته وهو يرمي ويرمي بها حتى وإن كان قريبا من الحوض؛ لأنه لا دليل على أن الإنسان إذا رمى بحصاة رمي بها لا يجزئه الرمي، ولأنه لا يتيقن أن الحصاة التي أخذها من مكانه قد رمي بها فقد تكون هذه الحصاة سقطت من شخص آخر وقف في هذا المكان، وقد تكون حصاة رمى بها شخص من بعيد ولم تقع في الحوض، المهم أنك لا تتيقن، ثم على فرض أنك تيقنت أن هذه قد رمي بها، وتدحرجت من الحوض وخرجت منه، فإنه ليس هناك دليل على أن الحصى الذي رمي به لا يجزئ الرمي به. ومن الخطأ في رمي الجمرات: أن بعض الناس يعكس الترتيب فيها في اليومين الحادي عشر والثاني عشر؛ فيبدأ بجمرة العقبة، ثم بالجمرة الوسطى، ثم بالجمرة الصغرى الأولى، وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رماها مرتبة، وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)) (1) ؛ فيبدأ بالأولى، ثم بالوسطى، ثم بجمرة العقبة. فإن رماها منكسة، وأمكنه أن يتدارك ذلك، فليتداركه، فإذا رمى العقبة ثم الوسطى ثم الأولى، فإننا نقول: ارجع فارم الوسطى ثم العقبة؛ وذلك لأن الوسطى والعقبة وقعتا في غير موضعهما؛ لأن موضعهما تأخرهما عن الأولى، ففي هذه الحالة نقول: اذهب فارم الوسطى ثم العقبة. ولو أنه رمى الأولى ثم جمرة العقبة ثم الوسطى، قلنا له، ارجع فارم جمرة العقبة؛ لأنك رميتها في غير موضعها، فعليك أن تعيدها بعد الجمرة الوسطى. هذا إذا أمكن أن يتلافى هذا الأمر، بأن كان في أيام التشريق، وسهل عليه تلافيه، أما لو قدر أنه انقضت أيام الحج، فإنه لا حرج عليه في هذه الحال؛ لأنه ترك الترتيب جاهلا، فسقط عنه بجهله، والرمي للجمرات الثلاث قد حصل، غاية ما فيه اختلاف الترتيب، واختلاف الترتيب عند الجهل لا يضر، لكن متى أمكن تلافيه بأن علم ذلك في وقته، فإنه يعيده. ومن الخطأ أيضا في رمي الجمرات في أيام التشريق: أن بعض الناس يرميها قبل الزوال، وهذا خطأ كبير؛ لأن رميها قبل الزوال رمي لها قبل دخول وقتها فلا يصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد)) (2) ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمها إلا بعد زوال الشمس، وإنما رماها بعد الزوال وقبل صلاة الظهر، مما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يرتقب الزوال ارتقابا تاما، فبادر من حيث أن زالت الشمس قبل أن يصلي الظهر، ولقول عبد الله بن عمر: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا. ولأنه لو كان الرمي جائزا قبل زوال الشمس، لفعله النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أيسر للأمة، والله عز وجل إنما يشرع لعباده ما كان أيسر، فلو كان مما يتعبد به لله ـ أعني الرمي قبل الزوال ـ لشرعه الله سبحانه وتعالى لعباده؛ لقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185) ، فلما لم يُشرع قبل الزوال، علم أن ما قبل الزوال ليس وقتا للرمي، ولا فرق في ذلك بين اليوم الثاني عشر والحادي عشر والثالث عشر، كلها سواء، كلها لم يرم فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد زوال الشمس. فليحذر المؤمن من التهاون في أمور دينيه، وليتق الله تعالى ربه، فإن من اتقى ربه، جعل له مخرجا، ومن اتقى ربه، جعل له من أمره يسر؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال: 29) . وينبغي للإنسان ـ ونحن نتكلم عن وقت الرمي ـ أن يرمي كل يوم في يومه، فيرمي اليوم الحادي عشر في اليوم الحادي عشر، والثاني عشر في اليوم الثاني عشر، وجمرة العقبة يوم العيد في يوم العيد، ولا يؤخرها إلى آخر يوم، هذا وإن كان قد رخص فيه بعض أهل العلم، فإن ظاهر السنة المنع منه إلا لعذر. أخطاء تقع عند الرمي ((تتمة))   (1) تقدم تخريجه (325) (2) تقدم تخريجه (111) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 السؤال (306) : فضيلة الشيخ، سألنا عن الأخطاء التي تقع عند رمي الجمار أو في الرمي، وذكرتم من هذه الأخطاء: الظن بأن الحصى لابد أن يكون من مزدلفة، وغسل الحصى، والظن بأن الجمرات شياطين، والرمي بالأحجار الكبيرة، والرمي بالأحذية والخشب وما إلى ذلك، وأيضا: الرمي دون تحقق وقوع الحصى في الحوض، والظن بأنه لابد من إصابة العمود، والتهاون أيضا في التوكيل في الرمي مع القدرة، وعكس الترتيب في الرمي ورمي الجمرات قبل الزوال، فهل هناك أخطاء أيضا غير هذه الأخطاء التي ذكرتم؟ الجواب: نعم، هناك أخطاء بقيت من الأخطاء التي تقع من بعض الحجاج في الرمي، لكن ورد فيما ذكرتم أن من الأخطاء عدم تحقق وصول الحصاة في المرمى، والواقع: أن المقصود هو أن بعض الناس يرمي جمرة العقبة من الخلف، من خلف الجدار، فيقع الحصى في غير المرمى؛ لأن الجدار يحول بينه وبين الحوض، وتحقق وقوع الحصاة في المرمى ليس بشرط؛ لأنه يكفي أن يغلب على الظن أنها وقعت فيه، فإذا رمى الإنسان من المكان الصحيح وحذف الحصاة، وهو يغلب على ظنه أنها وقعت في المرمى: كفى؛ لأن اليقين في هذه الحال قد يتعذر، وإذا تعذر اليقين، عمل بغلبة الظن، ولأن الشارع أحال على غلبة الظن فيما إذا شك الإنسان في صلاته: كم صلى، ثلاثا أم أربعا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((ليتحر الصواب، ثم ليتم عليه)) (1) ، وهذا يدل على أن غلبة الظن في أمور العبادة كافية وهذا من تيسير الله عز وجل؛ لأن اليقين أحيانا يتعذر. نرجع الآن إلى تكميل الأخطاء التي تحضرنا في مسألة الرمي، أعني رمي الجمرات: فمنها: أن بعض الناس يرمي بحصى أقل مما ورد، فيرمي بثلاث أو أربع أو خمس وهذا خلاف السنة بل يجب عليه أن يرمي بسبع حصيات؛ كما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه رمى بسبع حصيات بدون نقص، لكن رخص بعض العلماء في نقص حصاة أو حصاتين؛ لأن ذلك وقع من بعض الصحابة رضي الله عنهم، فإذا جاءنا رجل يقول: إنه لم يرم إلا بست ناسيا أو جاهلا، فأننا في هذه الحالة نعذره ونقول: لا شيء عليك، لورود مثل ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، وإلا فالأصل أن المشروع سبع حصيات؛ كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الحجاج في الرمي، وهو سهل لكن ينبغي أن يتفطن له الحاج: أن كثيرا من الحجاج يهملون الوقوف للدعاء بعد الجمرة الأولى والوسطى في أيام التشريق، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رمى الجمرة الأولى، انحدر قليلا، ثم استقبل القبلة، فرفع يديه يدعو الله تعالى دعاء طويلا، وإذا رمى الجمرة الوسطى فعل ذلك، وإذا رمى جمرة العقبة، انصرف ولم يقف، فينبغي للحاج أن لا يفوت هذه السنة على نفسه، بل يقف ويدعو الله تعالى دعاء طويلا إن تيسر له، وإلا فبقدر ما تيسر، بعد الجمرة الأولى والوسطى. وبهذا نعرف أن في الحج ست وقفات للدعاء: على الصفا وعلى المروة ـ وهذا في السعي ـ وفي عرفة، ومزدلفة، وبعد الجمرة الأولى، وبعد الجمرة الوسطى. فهذه ست وقفات كلها وقفات للدعاء في هذه المواطن، ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الأخطاء التي يرتكبها بعض الناس: ما حدثني به من أثق به من أن بعض الناس يرمي رميا زائدا عن المشروع ـ إما في العدد، وإما في النوبات والمرات؛ فيرمي أكثر من سبع، ويرمي الجمرات في اليوم مرتين أو ثلاثا، وربما يرمي في غير وقت الحج، وهذا كله من الجهل والخطأ، والواجب على المرء: أن يتعبد بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لينال بذلك محبة الله ومغفرته؛ لقول الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31) . هذا ما يحضرني الآن من الأخطاء في رمي الجمرات أخطاء تقع في المبيت بمنى أيام التشريق   (1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو ذلك القبلة حيث كان، رقم (401) ، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (572) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 السؤال (307) : فضيلة الشيخ، كنا قد سألنا عن الإقامة بمنى في اليوم الثامن قبل الخروج إلى عرفة، وذكرتم الأخطاء التي تقع فيها، لكن حبذا أيضاً لو عرفنا الأخطاء التي قد تقع من بعض الحجاج في الإقامة بمنى في أيام التشريق؟ الجواب: الإقامة في منى في أيام التشريق يحصل فيها أيضا أخطاء من بعض الحجاج، وأنا أعود إلى مزدلفة، فإن فيها بعض الأخطاء التي لم ننبه عليها سابقا: فمنها: أن بعض الناس في ليلة مزدلفة يحيي الليلة بالقيام والقراءة والذكر، وهذا خلاف السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة لم يتعبد لله عز وجل بمثل هذا، بل في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى العشاء، اضطجع حتى طلوع الفجر، ثم صلى الصبح، وهذا يدل على أن تلك الليلة ليس فيها تهجد أو تعبد أو تسبيح أو ذكر أو قرآن. ومنها ـ أي من الأخطاء في مزدلفة ـ أنني سمعت أن بعض الحجاج يبقون في مزدلفة حتى تطلع الشمس ويصلون صلاة الشروق أو الإشراق، ثم ينصرفون بعد ذلك، وهذا خطأ؛ لأن فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وموافقة لهدي المشركين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفع من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس حين أسفر جدا، والمشركون كانوا ينتظرون حتى تطلع الشمس ويقولون: ((أشرق ثبير، كيما نغير)) ؛ فمن بقى في مزدلفة تعبدا لله عز وجل حتى تطلع الشمس، فقد شابه المشركين وخالف سنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه. أما الأخطاء في منى: فمنها: أن بعض الناس لا يبيتون بها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر، بل يبيتون خارج منى من غير عذر، يريدون أن يترفهوا، وأن يشموا الهواء - كما يقولون- وهذا جهل وضلال، ومخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإنسان الذي يريد أن يترفه لا يأتي للحج، فإن بقاءه في بلده اشد ترفها وأسلم من تكلف المشاق والنفقات. ومن الأشياء التي يخل بها بعض الحجاج في الإقامة بمنى، بل التي يخطئ فيها: أن بعضهم لا يهتم بوجود مكان في منى، فتجده إذا دخل في الخطوط ووجد ما حول الخطوط ممتلئاً قال: إنه ليس في مني مكان، ثم ذهب ونزل في خارج منى، والواجب عليه أن يبحث بحثاً تاماً فيما حول الخطوط وما كان داخلها، لعله يجد مكاناً يبقى فيه أو يمكث فيه أيام منى؛ لأن البقاء في منى واجب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لتأخذوا عني مناسككم)) (1) ، وقد أقام صلى الله عليه وسلم في منى، ورخص للعباس بن عبد المطلب من أجل سقايته أن يبيت في مكة ليسقي الحجاج (2) ومن الأخطاء أيضاً: أن بعض الناس إذا بحث ولم يجد مكاناً في منى، نزل إلى مكة أو إلى العزيزية، وبقي هنالك، والواجب إذا لم يجد مكاناً في منى أن ينزل عند آخر خيمة من خيام الحجاج ليبقى الحجيج كلهم في مكان واحد متصلاً بعضه ببعض؛ كما نقول فيما لو امتلأ المسجد بالمصلين، فإنه يصلي مع الجماعة حيث تتصل الصفوف ولو كان خارج المسجد. ومن الأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج في الإقامة بمنى، وهو يسير، لكن ينبغي المحافظة عليه: أن بعض الناس يبيت في منى ولكن إذا كان النهار نزل إلى مكة، ليترفه في الظل الظليل، والمكيفات والمبردات، ويسلم من حر الشمس ولفح الحر، وهذا- وإن كان جائزاً على مقتضى قواعد الفقهاء حيث قالوا: إنه لا يجب إلا المبيت- فإنه خلاف السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في منى ليالي وأياماً، فكان عليه الصلاة والسلام يمكث في منى ليالي أيام التشريق وأيام التشريق، نعم لو كان الإنسان محتاجاً إلى ذلك- كما لو كان مريضاً، أو كان مرافقاً لمريض- فهذا لا بأس به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يبيتوا خارج منى، وأن يبقوا في الأيام في مراعيهم مع إبلهم (3) هذا ما يحضرني الآن من الأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج في الإقامة في منى. أخطاء تقع في الهدي   (1) تقدم تخريجه (325) (2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب سقاية الحاج، رقم (1634) ، ومسلم، كتاب الحج، باب وجوب المبيت بمني ليالي أيام التشريق، رقم (1315) (3) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب في رمي الجمار، رقم (1975) ، والترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في الرخصة للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً، رقم (955) ، والنسائي، كتاب الحج، باب في رمي الرعاة، رقم (3068، 3069) ، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب تأخير رمي الجمار من عذر، رقم (3037) ، وقال الترمذي: حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 السؤال (308) : فضيلة الشيخ، تحدثنا عن الأخطاء التي يقع فيها الحجاج في بعض أعمال الحج، وفي بعض المشاعر أيضاً، بقي علينا أن نعرف إذا كانت هناك أخطاء يقع فيها الحجاج بالنسبة للهدي؟ الجواب: نعم يرتكب بعض الحجاج أخطاء في الهدي. منها: أن بعض الحجاج يذبح هدياً لا يجزئ، كأن يذبح هدياً صغيراً لم يبلغ السن المعتبر شرعاً للإجزاء، وهو في الإبل خمس سنوات، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الضأن ستة أشهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) (1) ومن العجب أن بعضهم يفعل ذلك مستدلاً بقوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (البقرة: 196) ، ويقول: إن ما تيسر من الهدي فهو كاف، فنقول له: إن الله قال: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) و ((أل)) هذا لبيان الجنس، فيكون المراد بالهدي: الهدي المشروع ذبحه، وهو الذي بلغ السن المعتبر شرعاً، وسلم من العيوب المانعة من الإجزاء شرعاً، ويكون معنى قوله: (فَمَا اسْتَيْسَرَ) أي: بالنسبة لوجود الإنسان ثمنه مثلاً، ولهذا قال: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) (البقرة: 196) فتجده يذبح الصغير الذي لم يبلغ السن، ويقول: هذا ما استيسر من الهدي، ثم يرمي به، أو يأكله أو يتصدق به، وهذا لا يجزئ؛ للحديث الذي أشرنا إليه. ومن الأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج في الهدي: أنه يذبح هدياً معيباً بعيب يمنع من الإجزاء، والعيوب المانعة من الإجزاء ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام حين تحدث عن الأضحية وسئل: ماذا ينقّى من الضحايا؟ فقال: ((أربع)) وأشار بيده عليه الصلاة والسلام: ((العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والهزيلة - أو العجفاء- التي لا تُنقي)) (2) ، أي: التي ليس فيها نِقْي، أي: مخ، فهذه العيوب الأربعة مانعة من الإجزاء، فأي بهيمة يكون فيها شيء من هذه العيوب أو ما كان مثلها أو أولى منها، فإنها لا تجزئ في الأضحية ولا في الهدي الواجب؛ كهدي التمتع والقران والجبران. ومن الأخطاء التي يرتكبها الحجاج في الهدي: أن بعضهم يذبح الهدي ثم يرمي به، ولا يقوم بالواجب الذي أوجب الله عليه في قوله: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج: 28) فقوله تعالى: (وَأَطْعِمُوا) أمر لابد من تنفيذه؛ لأنه حق للغير، أما قوله: (فَكُلُوا مِنْهَا) فالصحيح أن الأمر فيه ليس للوجوب، وأن للإنسان أن يأكل من هديه، وله أن لا يأكل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث بالهدي من المدينة إلى مكة ولا يأكل منه، فيذبح في مكة ويوزع ولا يأكل منه؛ لكن قوله: (وَأَطْعِمُوا) هذا أمر يتعلق به حق الغير، فلابد من إيصال هذا الحق إلى مستحقه. وبعض الناس ـ كما قلت يذبحه ويدعه؛ فيكون بذلك مخالفا لأمر الله تبارك وتعالى، بالإضافة إلى أن ذبحه وتركه إضاعة للمال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال (3) ، وإضاعة المال من السفه؛ ولهذا قال الله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5) . وهذا الخطأ الذي يقع في هذه المسألة يتعلل بعض الناس بأنه لا يجد فقراء يعطيهم، وأنه يشق عليه حمله؛ لكثرة الناس والزحام والدماء واللحوم في المجازر، وهذا التعليل ـ وإن كان قد يصح في زمن مضى ـ لكنه الآن قد تيسر؛ لأن المجازر هذبت وأصلحت، ولأن هناك مشروعا افتتح في السنوات الأخيرة، وهو أن الحاج يعطي اللجنة المكونة لاستقبال دراهم الحجاج؛ لتشتري لهم بذلك الهدي وتذبحه وتوزعه على مستحقه، فبإمكان الحاج أن يتصل بمكاتب هذه اللجنة، من أجل أن يسلم قيمة الهدي، ويوكلهم في ذبحه وتفريق لحمه. ومن الأخطاء أيضا: أن بعض الحجاج يذبح الهدي قبل وقت الذبح، فيذبحه قبل يوم العيد، وهذا ـ وإن كان قال بعض أهل العلم في هدي التمتع والقران ـ فإنه قول ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذبح هديه قبل يوم العيد، مع أن الحاجة كانت داعية إلى ذبحه، فإنه حين أمر أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ أن يحلوا من إحرامهم بالحج ليجعلوه عمرة ويكونوا متمتعين، وحصل منهم شيء من التأخر، قال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)) (4) ، فلو كان ذبح الهدي جائزا قبل يوم النحر، لذبحه النبي عليه الصلاة والسلام، وحل من إحرامه معهم تطييبا لقلوبهم، واطمئنانا لهم في ذلك، فلما لم يكن هذا منه صلى الله عليه وسلم، علم أن ذبح الهدي قبل يوم العيد لا يصح ولا يجزئ. ومن العجب: أنني سمعت من بعض المرافقين لبعض الحملات التي تأتي من بلاد نائية عن مكة، أنه قيل لهم ـ أي لهذه الحملات ـ: لكم أن تذبحوا هديكم من حين أن تسافروا من بلدكم إلى يوم العيد، واقترح عليهم هذا أن يذبحوا من الهدي بقدر ما يكفيهم من اللحم لكل يوم، وهذا جرأة عظيمة على شرع الله وعلى حق عباد الله، وكأن هذا الذي أفتاهم بهذه الفتوى يريد أن يوفر على صاحب هذه الحملة الذي تكفل بالقيام بهذه الحملة، أن يوفر عليه نفقات هذه الحملة؛ لأنهم إذا ذبحوا لكل يوم ما يكفيهم من هداياهم، وفروا عليه اللحم، فعلى المرء أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن لا يتلاعب بأحكام الله، وأن يعلم أن هذه الأحكام أحكام شرعية، أراد الله تعالى من عباده أن يتقربوا بها إليه على الوجه الذي سنة لهم وشرعه لهم؛ فلا يحل لهم أن يتعدوه إلى ما تمليه عليه أهواؤهم. حكم ذبح الهدي في غير مكة   (1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب سنن الأضحية، رقم (1963) (2) أخرجه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، رقم 02802) ، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما لا يجوز من الأضاحي، رقم (1497) ، وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحي به، رقم (3144) ، وقال الترمذي: حسن صحيح. (3) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال، رقم (7292) ، ومسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجه، رقم (593م) . (4) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب عمرة التنعيم، رقم (1785) ، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الحج.. رقم (1216) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 السؤال (309) : فضيلة الشيخ، هناك بعض الحجاج إذا أراد أن يحج، دفع نقوداً لبعض المؤسسات الخيرية التي تتولى ذبح هديه في أماكن المجاعة في شرق الأرض وغربها، فما حكم هذا العمل، أثابكم الله؟ الجواب: أقول: إن هذا عمل خاطئ مخالف لشريعة الله وتغرير بعباد الله عز وجل؛ وذلك أن الهدي محل ذبحه مكة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما ذبح هديه بمكة، ولم يذبحه في المدينة، ولا في غيرها من البلاد الإسلامية، والعلماء نصوا على هذا وقالوا: إنه يجب أن يذبح هدي التمتع والقران والهدي الواجب لترك واجب يجب أن يذبح في مكة، وقد نص الله على ذلك في جزاء الصيد، فقال: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) (المائدة: 95) ، فما قيد في الشرع بأماكن معينة لا يجوز أن ينقل إلى غيرها، بل يجب أن يكون فيها، فيجب أن تكون الهدايا في مكة، وتوزع في مكة، وإن قدر أنه لا يوجد أحد يقبلها في مكة وهذا فرض قد يكون محالاً فإنه لا حرج أن تذبح في مكة، وتنقل لحومها إلى من يحتاجها من بلاد المسلمين، الأقرب فالأقرب، أو الأشد حاجة فالأشد، وهذا بالنسبة للهدايا. حكم ذبح الأضحية في غير مكان المضحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 السؤال (310) فضيلة الشيخ، هل ينطبق هذا الحكم على الضحايا أيضاَ؟ الجواب: نعم ينطبق على الأضحية ما ينطبق على الهدي؛ لأن الأضحية المشروع أن تكون في مكان المضحي؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذبح أضحيته في بلده، وبين أصحابه، حيث كان يخرج بها إلى المصلى فيذبحها هناك؛ إظهار لشعائر الله عز وجل، والدعوة إلى أن تؤخذ الدراهم من الناس، وتذبح الضحايا في أماكن بعيدة دعوة إلى تحطيم هذه الشعيرة وخفائها على المسلمين؛ لأن الناس إذا نقلوا ضحاياهم إلى أماكن أخرى لم تظهر الشعائر ـ الأضاحي ـ في البلاد، وأظلمت البلاد من الأضاحي، مع أنها من شعائر الله عز وجل. ويفوت بذلك: أولا: مباشرة المضحي لذبح أضحيته بنفسه؛ فإن هذا هو الأفضل، والسنة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يذبح أضحيته بيده عليه الصلاة والسلام. ثانيا: يفوت بذلك سنية الأكل منها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأكل من الأضاحي، كما أمر الله بذلك في قوله: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج: 28) ؛ فإن هذا أمر بالأكل من كل ذبيحة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل، ولما أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة ذبح منها ثلاثاً وستين بيده الكريمة، وأعطى عليا رضي الله عنه الباقي فوكله في ذبحه، ووكله أيضا في تفريق اللحم، إلا أنه أمر أن يؤخذ من كل بدنة بضعة ـ أي: قطعة من لحم ـ فجعلت في قدر، فطبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها (1) ؛ وهذا يدل على تأكد أكل الإنسان مما أهداه من الذبائح، وكذلك مما ضحى به. نحن نقول: إنه لا يجوز التوكيل، أن يوكل الإنسان من يذبح أضحيته، لكن لابد أن تكون الأضحية عنده وفي بيته أو في بلده على الأقل، يشاهدها ويأكل منها، وتظهر بها شعائر الدين. وليعلم أنه ليس المقصود من الأضاحي المادة البحته وهي اللحم فإن الله تعالى يقول: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج: 37) ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن ذبح قبل الصلاة: ((فإنما هو لحم قدمه لأهله)) (2) ، وقال لأبي بردة: ((شاتك شاة لحم)) (3) ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الأضحية وبين اللحم. وأيضا: فإن العلماء يقولون: لو تصدق بلحم مائة بعير، فإنه لا يجزئه عن شاة واحدة يضحي بها؛ وهذا يدل على أن الأضحية يتقرب إلى الله تعالى بذبحها، قبل أن ينظر إلى منفعة لحمها. نصائح تتعلق بالهدي   (1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب الذبح بعد الصلاة، رقم (5560) ، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها رقم (1961) . (3) أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: ((ضح بالجذع..)) رقم (5556) ، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (1961) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 السؤال (311) : فضيلة الشيخ، تحدثنا عن الذين يرسلون نقودا لبعض البلاد الإسلامية ليذبح هديهم هناك أو أضحيتهم هناك، وذكرتم أن ذلك مخالف لمقاصد الشريعة، فهل من إضافة أو نصيحة تتعلق بهذا الموضوع؟ الجواب: الأمر كما ذكرتم؛ أن بعض الناس أو بعض المؤسسات تطلب من المسلمين أن يسلموا لها قيمة الهدي أو قيمة الأضاحي ليذبح في بلاد متضرر أهلها ومحتاجون إلى الطعام والغذاء، وذكرنا أن الهدايا لها محل معين وهو مكة المكرمة، وأنه يجب أن يكون الذبح هناك في جزاء الصيد، وفي هدي التمتع والقران وفي الفدية الواجبة لترك الواجب، وأما الواجبة لفعل محظور: فإنها تكون حيث وجد ذلك المحظور، ويجوز أن تكون في الحرم، أي: في مكة، وأما دم الإحصار: فحيث وجد سببه، هكذا ذكر أهل العلم، رحمهم الله، ولا يجوز أن تخرج عن مكة وتذبح في مكان آخر. وأما تفريق لحمها: فيكون في مكة إلا إذا استغنى أهل مكة، فيجوز أن تفرق في البلاد الإسلامية، في أقرب البلاد، هذا بالنسبة للهدي أما الأضاحي: فإنها في بلاد المضحين؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه ضحى إلا في محل إقامته في المدينة عليه الصلاة والسلام، والأفضل أن يباشرها بنفسه، فإن لم يستطع، فإنه يوكل من يذبحها أمامه ليشهد أضحيته، وسبق لنا ما يحصل من المحظور في نقل الأضاحي إلى بلاد أخرى. وإنني بهذه المناسبة أوجه نصيحة إلى إخواني المسلمين؛ ليعلموا أنه ليس المقصود من ذبح الهدايا والأضاحي مجرد اللحم؛ فإن هذا يحصل بشراء الإنسان لحما كثيرا يوزعه على الفقراء، لكن المقصود والأهم هو التقرب إلى الله تعالى بالذبح؛ فإن التقرب إلى الله تعالى بالذبح من أفضل الأعمال الصالحة بالذبح؛ كما قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162، 163) وقال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2) . وقال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج: 37) ، وكون الإنسان يدفع دراهم لتذبح أضحيته في مكان الحاجة من بلاد المسلمين، يغني عنه أن يدفع دراهم ليشترى بها الطعام من هناك ويوزع على الفقراء، وربما يكون هذا أنفع لهم حيث يشترى ما يليق بحالهم ويلائمهم، وربما تكون الأطعمة هناك أرخص. فنصيحتي للمسلمين أن يتولوا ذبح ضحاياهم في بلادهم، وأن يأكلوا منها ويطعموا منها ويظهروا شعائر الله تعالى بالتقرب إليه بذبحها، وأن لا ينسوا إخوانهم المسلمين المتضررين في مشارق الأرض ومغاربها المحتاجين لبذل الأموال والمعونات لهم، فيجمعوا في هذه الحال بين الحسنيين، بين حسنى ذبح الأضاحي في بلادهم، وحسنى نفع إخوانهم المسلمين في بلادهم. أخطاء تقع في الوداع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 السؤال (312) : فضيلة الشيخ، آخر أعمال الحج الوداع، فهل هناك أخطاء ترون أن بعض الحجاج يقعون فيها، ما هي هذه الأخطاء جزاكم الله خيرا؟ الجواب: طواف الوداع يجب أن يكون آخر أعمال الحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا ينصرف أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)) (1) ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض (2) . فالواجب أن يكون الطواف آخر عمل يقوم به الإنسان من أعمال الحج، والناس يخطئون في طواف الوداع في أمور: أولا: أن بعض الناس لا يجعل الطواف آخر أمره، بل ينزل إلى مكة، ويطوف طواف الوداع، وقد بقى عليه رمي الجمرات، ثم يخرج إلى منى فيرمي الجمرات ثم يغادر، وهذا خطأ، ولا يجزئ طواف الوداع في مثل هذه الحال؛ وذلك لأنه لم يكن آخر عهد الإنسان بالبيت الطواف، بل كان آخر عهده رمي الجمرات. الثاني: ومن الخطأ أيضا في طواف الوداع: أن بعض الناس يطوف للوداع، ويبقي في مكة بعده، هذا يوجب إلغاء طواف الوداع، وأن يأتي ببدله عند سفره، نعم لو أقام الإنسان في مكة بعد طواف الوداع لشراء حاجة في طريقه أو لتحميل العفش أو ما أشبه ذلك، فهذا لا باس به. ومن الخطأ في طواف الوداع: أن بعض الناس إذا طاف للوداع وأراد الخروج من المسجد، رجع القهقري، أي: رجع على قفاه، فيزعم أنه يتحاشى بذلك تولية البيت ظهره، أي: تولية الكعبة ظهره، وهذا بدعة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أشد منا تعظيما لله تعالى ولبيته، ولو كان هذا من تعظيم الله وبيته، لفعله صلى الله عليه وسلم وحينئذ فإن السنة إذا طاف الإنسان للوداع أن يخرج على وجهه ولو ولى البيت ظهره في هذه الحالة. ومن الخطأ أيضا: أن بعض الناس إذا طاف للوداع، ثم انصرف ووصل إلى باب المسجد الحرام، اتجه إلى الكعبة وكأنه يودعها، فيدعو أو يسلم أو ما أشبه ذلك، وهذا من البدع أيضا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولو كان خيرا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم. هذا ما يحضرني الآن. حكم زيارة المسجد النبوي، وهل لها تعلق بالحج   (1) تقدم تخريجه (328) (2) تقدم تخريجه (135) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 السؤال (313) : فضيلة الشيخ، إذن بعد أن عرفنا الشيء الكثير عن الحج وأعماله والأخطاء التي تقع فيه، نود أن ننتقل مع الإخوة الحجاج إلى ما يهمهم في الزيارة، زيارة المسجد النبوي الشريف، فما حكم زيارة المسجد النبوي، وهل لها تعلق بالحج؟ الجواب: زيارة المسجد النبوي سنة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) (1) فيسافر الإنسان لزيارة المسجد النبوي؛ لأن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام (2) . ولكنه إذا سافر إلى المدينة فينبغي أن يكون قصده الأول الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا وصل إلى هناك، زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، على الوجه المشروع في ذلك من غير بدع ولا غلو. وقولك في السؤال: هل له علاقة بالحج؟ جوابه: أنه لا علاقة له بالحج، وأن زيارة المسجد النبوي منفصلة، والحج والعمرة منفصلان عنه، لكن أهل العلم رحمهم الله يذكرونه في باب الحج، أو في آخر باب الحج؛ لأن الناس في عهد سبق يشق عليهم أن يفردوا الحج والعمرة في سفر وزيارة المسجد النبوي في سفر، فكانوا إذا حجوا واعتمروا، مروا على المدينة لزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإلا فلا علاقة بين هذا وهذا. الآداب المشروعة في زيارة المسجد النبوي   (1) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، رقم (1189) ، ومسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، رقم (1397) . (2) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، رقم (11190) ، ومسلم، كتاب الحج باب فضل الصلاة في بمسجدي مكة والمدينة، رقم (1394) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 السؤال (314) : فضيلة الشيخ، أشرتم إلى زيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام إذا وصل المسلم إلى المدينة المنورة وأيضاً قبر صاحبيه، فما الآداب المشروعة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: الآداب المشروعة: أن يزور الإنسان قبره صلى الله عليه وسلم على وجه الأدب، وأن يقف أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسلم عليه فيقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، صلى الله عليك وسلم وبارك، وجزاك عن أمتك خير الجزاء، ثم يخطو خطوة ثانية، خطوة عن يمينه؛ ليكون مقابل وجه أبي بكر رضي الله عنه، ويقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله ورحمة الله وبركاته، جزاك الله عن أمة محمد خيراً، ثم يخطو خطوة عن يمينه، ليكون مقابل وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، جزاك الله عن أمة محمد خيراً، ثم ينصرف، هذه هي الزيارة المشروعة. وأما ما يفعله بعض الناس من التمسح بجدران الحجرة، أو التبرك بها، أو ما أشبه ذلك، فكله من البدع، وأشد من ذلك وأنكر وأعظم: أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لتفريج الكربات، وحصول المرغوبات؛ فإن هذا شرك أكبر مخرج عن الملة، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا، ولا يملك لغيره كذلك نفعاً ولا ضرا، ولا يعلم الغيب، وهو صلى الله عليه وسلم قد مات كما يموت غيره من بني آدم، فهو بشر يحيا كما يحيون، ويموت كما يموتون، وليس له من تدبير الكون شيء أبداً، قال الله تعالى، أي: للرسول صلى الله عليه وسلم: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (21) (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجن: 21/22) ، وقال الله تعالى له: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إلا ما شاء الله) (لأعراف: 188) وقال الله له: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام: 50) . فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر محتاج إلى الله عز وجل، وليس به غنى عنه طرفة عين، ولا يملك أن يجلب نفعاً لأحد أو يدفع ضرراً عن أحد، بل هو عبد مربوب مكلف كما يكلف بنو آدم، وإنما يمتاز بما من الله به عليه من الرسالة التي لم تكن لأحد قبله ولن تكون لأحد بعده، وهي الرسالة العظمى التي بعث بها إلى سائر الناس إلى يوم القيامة. حكم زيارة البقيع وشهداء أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 السؤال (315) : فضيلة الشيخ، أيضاً ما حكم زيارة بعض مقابر المدينة؛ كالبقيع، وشهداء أحد؟ الجواب: زيارة القبور سنة في كل مكان، ولا سيما زيارة البقيع التي دفن فيه كثير من الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقبره هناك معروف، وكذلك يسن أن يخرج إلى أحد ليزور قبور الشهداء هنالك، ومنهم حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ينبغي أن يزور مسجد قباء، يخرج متطهراً فيصلي فيه ركعتين؛ فإن في ذلك فضلاً عظيماً، وليس هناك شي يزار في المدينة سوى هذه، زيارة المسجد النبوي، زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، زيارة البقيع، زيارة شهداء أحد، زيارة مسجد قباء، وما عدا ذلك من المزارات، فإنه لا أصل له. يجد في قلبه ميلاً إلى طلب الشفاعة من المقبورين فماذا يفعل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 السؤال (316) : فضيلة الشيخ، سألنا عن حكم زيارة بعض المقابر في المدينة التي تزار، وذكرتم أن المزارات في المدينة خمسة، وقلتم: إنه لا يجوز للإنسان أن يدعو أصحاب هذه المقابر أي دعاء، لكن ما الذي يلزم من وجد في قلبه ميلاً إلى طلب الشفاعة من أصحاب هذه القبور، أو قضاء الحوائج أو الشفاء، أو ما إلى ذلك؟ الجواب: الذي يجد في قلبه ميلاً إلى طلب الشفاعة من أصحاب القبور، فإن كان أصحاب القبور من أهل الخير، وكان الإنسان يؤمل أن يجعلهم الله شفعاء له يوم القيامة بدون أن يسألهم ذلك، ولكنه يرجو أن يكونوا شفعاء له، فهذا لا بأس به؛ فإننا كلنا نرجو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم شفيعاً لنا، ولكننا لا نقول له: يا رسول الله، اشفع لنا، بل نسأل الله تعالى أن يجعله شفيعاً لنا، وكذلك أهل الخير الذين يرجى منهم الصلاح؛ فإنهم يكونون شفعاء يوم القيامة؛ فإن الشفاعة يوم القيامة تنقسم إلى قسمين: قسم خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يشركه فيه أحد، وهي الشفاعة العظمى التي يشفع فيها صلى الله عليه وسلم للخلق إلى ربهم ليقضي بينهم؛ فإن الناس يوم القيامة ينالهم من الكرب والغم ما لا يطيقون، فيقولون: ألا تذهبون إلى من يشفع لنا عند الله عز وجل، يعني: يريحهم من هذا الموقف، فيأتون إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام، وكلهم لا يشفع، حتى يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنتهي الشفاعة إليه، فيشفع عند الله عز وجل أن يقضي سبحانه وتعالى بين عباده، فيجيء الله عز وجل ويقضي بين عباده. والشفاعة الثانية: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة. أما الشفاعة العامة التي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم ولغيره من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهذه تكون فيمن دخل النار أن يخرج منها؛ فإن عصاة المؤمنين إذا دخلوا النار بقدر ذنوبهم، فإن الله سبحانه وتعالى يأذن لمن شاء من عباده من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين أن يشفعوا في هؤلاء، بأن يخرجوا من النار. المهم أن الإنسان إذا رجا الله عز وجل أن يشفع فيه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أو يشفع فيه أحد من الصالحين بدون أن يسألهم ذلك، فهذا لا بأس به، وأما أن يسألهم فيقول: يا رسول الله، اشفع لي، أو يا فلان، اشفع لي، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز، بل هو من دعاء غير الله عز وجلن ودعاء غير الله شرك. حكم زيارة المساجد السبعة وغيرها من المزارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 السؤال (317) : فضيلة الشيخ، ذكرتم أن المواضع التي تزار في المدينة خمسة، لكن لم ترد إشارة مثلاً للمساجد السبعة أو مسجد الغمامة، أو بعض هذه المزارات التي يزورها بعض الحجاج، فما حكم زيارتها؟ الجواب: نحن ذكرنا أنه لا يزار سوى هذه الخمسة التي هي: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقبره، وقبر صاحبيه، وهذه القبور الثلاثة في مكان واحد، والبقيع وفيه قبر عثمان رضي الله عنه، وشهداء أحد وفيهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، ومسجد قباء، وما عدا ذلك فإنه لا يزار، وما أشرت إليه من المساجد السبعة، أو غيرها مما لم تذكر، فكل هذا لا أصل لزيارته، وزيارته بقصد التعبد لله تعالى بدعة؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لأحد أن يثبت لزمان أو مكان أو عمل، أن فعله أو قصده قربه إلا بدليل من الشرع. ما ينبغي لمن وفق لأداء الحج؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 السؤال (318) : فضيلة الشيخ، ما الذي ينبغي لمن وفقه الله تعالى لإتمام نسكه من الحج والعمرة؟ وما الذي ينبغي له بعد ذلك؟ الجواب: الذي ينبغي له ولغيره ممن منّ الله عليه بعبادة أن يشكر الله سبحانه وتعالى على توفيقه لهذه العبادة، وأن يسأل الله تعالى قبولها، وأن يعلم أن توفيق الله تعالى إياه لهذه العبادة نعمة يستحق سبحانه وتعالى الشكر عليها، فإذا شكر الله، وسأل الله القبول، فإنه حري بأن يقبل؛ لأن الإنسان إذا وفق للدعاء فهو حري بالإجابة، وإذا وفق للعبادة فهو حري بالقبول، وليحرص غاية الحرص أن يكون بعيداً عن الأعمال السيئة بعد أن من الله عليه بمحوها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) (1) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: كفارة لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر)) (2) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((العمرة إلي العمرة كفارة لما بينهما)) (3) ، وهذه وظيفة كل إنسان يمن الله تعالى عليه بفعل عبادة، أن يشكر الله على ذلك، وأن يسأله القبول.   (1) أخرجه البخاري، كتاب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها، رقم (1773) ، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، رقم (1349) . (2) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلي الجمعة..، رقم (233) (3) تقدم تخريجه في الحديث قبل السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 السؤال (319) : فضيلة الشيخ، هل هناك علامات يمكن أن تظهر على المقبولين في أداء الحج والعمرة؟ الجواب: قد تكون هناك علامات لمن تقبل الله منهم من الحجاج والصائمين والمتصدقين والمصلين، وهي انشراح الصدر، وسرور القلب، ونور الوجه؛ فإن للطاعات علامات تظهر على بدن صاحبها، بل على ظاهره وباطنه أيضاً، وذكر بعض السلف أن من علامة قبول الحسنة: أن يوفق الإنسان لحسنة بعدها؛ فإن توفيق الله إياه لحسنة بعدها يدل على أن الله عز وجل قبل عمله الأول، ومن عليه بعمل آخر يرضى به عنه. الواجب على من عاد إلى بلاده تجاه أهله بعد أداء الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 السؤال (320) : فضيلة الشيخ، ما الذي يجب على المسلم إذا انتهى من حجة وسافر عن هذه الأماكن المقدسة ما الذي يجب عليه تجاه أهله وجماعته ومن يعيش في وسطهم؟ الجواب: هذا الواجب الذي تشير إليه واجب على من حج ومن لم يحج، واجب على كل من ولاه الله تعالى على رعية؛ أن يقوم بحق هذه الرعية، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: ((الرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته)) (1) ، فعليه أن يقوم بتعليمهم وتأديبهم، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أو كما كان يأمر بذلك الوفود الذين يفدون إليه أن يرجعوا إلى أهليهم فيعلموهم ويؤدبوهم، والإنسان مسؤول عن أهله يوم القيامة، لأن الله تعالى ولاه عليهم وأعطاه الولاية، فهو مسؤول عن ذلك يوم القيامة؛ ويدل لهذا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6) ، فقرن الله تعالى الأهل بالنفس، فكما أن الإنسان مسؤول عن نفسه يجب عليه أن يحرص كل الحرص على ما ينفعها؛ فإنه مسؤول عن أهله؛ كذلك يجب عليه أن يحرص كل الحرص على أن يجلب لهم ما ينفعهم ويدفع عنهم بقدر ما يستطيع ما يضرهم. آثار الحج على المسلم   (1) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة في القرى والمدن، رقم (893) ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، رقم (1829) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 السؤال (321) : فضيلة الشيخ، ما هي آثار الحج على المسلم؟ الجواب: سبق لنا الإشارة إلى شيء منها؛ حيث سألت: ما هي علامة قبول الحج؟ فمن آثار الحج: أن الإنسان يرى من نفسه راحة وطمأنينة، وانشراح صدر، ونور قلب. وكذلك قد يكون من آثار الحج: ما يكتسبه الإنسان من العلم النافع الذي يسمعه في المحاضرات وجلسات الدروس في المسجد الحرام، وفي المخيمات في منى وعرفة. وكذلك من آثاره: أن يزداد الإنسان معرفة بأحوال العالم الإسلامي، إذا وفق لشخص ثقة يحدثه عن أوطان المسلمين. وكذلك من آثاره: غرس المحبة في قلوب المؤمنين بعضهم لبعض؛ فإنك ترى الإنسان في الحج وعليه علامات الهدى والصلاح فتحبه وتسكن إليه وتألفه. ومن آثار الحج أيضاً: أن الإنسان قد يكتسب أمراً مادياً بالتكسب بالتجارة وغيرها؛ لقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (الحج: من الآية28) ، ولقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) (البقرة: من الآية198) ، وكم من إنسان اكتسب مالاً بالتجارة في حجه، شراء وبيعاً، وهذا من المنافع التي ذكرها الله سبحانه وتعالى. ومن آثار الحج: أن يعود الإنسان نفسه على الصبر وعلى الخشونة والتعب، لا سيما إذا كان رجلاً عادياً من غير أولئك الذين تكمل لهم الرفاهية في حجهم، فإنه يكتسب بذلك شيئاً كثيراً، أعني: الذي يكون حجه عادياً يكتسب خيراً كثيراً بتعويد نفسه على الصبر والخشونة. نصيحة لمن أدى الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 السؤال (322) : فضيلة الشيخ، ما هي نصيحتكم لمن أدى فريضة الحج؟ الجواب: نصيحتي له: أن يتقي الله عز وجل في أداء ما ألزمه الله به من العبادات الأخرى؛ كالصلاة والزكاة، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الخلق، وإلى المملوكات من البهائم، وغير هذا مما أمر الله به، وجماع ذلك كله: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (90) (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل: 90/91) . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404