الكتاب: خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية   (رسالة دكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى) المؤلف: عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني (المتوفى: 1429هـ) الناشر: مكتبة وهبة الطبعة: الأولى، 1413 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية عبد العظيم المطعني الكتاب: خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية   (رسالة دكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى) المؤلف: عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني (المتوفى: 1429هـ) الناشر: مكتبة وهبة الطبعة: الأولى، 1413 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية]ـ (رسالة دكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى) المؤلف: د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني الناشر: مكتبة وهبة الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا العمل الذي بين يديك هو - في الأصل - بحث علمي تقدمتُ به إلى كلية اللغة العربية جامعة الأزهر، للحصول على درجة الدكتوراة (العالمية) فى البلاغة: النقد.: في صبيحة يوم الاثنين 25 من شهر إبريل عام 1974 نوقش البحث في مدرج " العقاد " من العاشرة صباحاً حتى الواحدة ظهراً. وكانت الهيئة العلمية المنوط بها أمر المناقشة: التقويم مكونة من ثلاثة أساتذة مخضرمين، ولهم قدم راسخة في قادة التخصص - البلاغة والأدب والنقد - وهم رحمهم الله: الأستاذ الدكتور كامل إمام الخولي عميد كلية اللغة العربية -: وقتذاك - ورئيس قسم البلاغة والنقد بها. : الأستانج الدكتور حامد حفني داود أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية الألسن بجامعة عين شمس - حينذاك. ثم الأستاذ الدكتور يوسف البيومى البسيونى أستاذ البلاغة والنقد فى كلية اللغة العربية - إذ ذاك. وبعد المناقشة قررت الهيئة العلمية بالإجماع منع البحث: تقدير، (ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى) . وفي أثناء التقدم بالبحث كنت أعمل محرراً مراجعاً بقسم المراجعة والتصحييح بجريدة الأهرام. وفي اليوم التالى للمناقشة نشرت " الأهرام " خبراً مبروزاً فى صفحتها الأخيرة أو الأولى الثانية في العُرف الصحفي. ووضعت للخبر عنوانا لافتاً للأنظار: " ثاني دكتوراه خلال شهر لعضو بقسم المراجعة والتصحيح " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وكان زميلى الأستاذ الدكتور عبد العزيز رضوان الذي يعمل بنفس القسم قد حصل على الدكتوراة قبلى بثلاثة أسابيع. وقد تضمن الخبر عنوان البحث: " خصائص التعبير في القرآن الكريم وسماته البلاغية " ثم التقدير الممنوح عليه، وما كادت الصحيفة - الأهرام - تلامس أيدى القراء صباحاً حتى انهالت عليَّ العديد من المكالات التليفونية يطلب أصحابها أن أدلهم على كيفية الحصول على نسخ من البحث، ولم يكن لذلك من سبيل؟ لأن النسخ المطبوعة كانت محدودة للغاية، حيث جرت العادة - في ذلك الوقت - على طبع نسخ محدودة جداً بحيث لا تتعدى أعضاء لجنة البحث وبعض الإخوة الحاضرين لمشاهدة المناقشة. ومن الذين هاتفونى مستشارون بمجلس الدولة أذكر منهم الآن "المستشار محمدعطية". كما تلقيت رسائل بريدية لنفس الغرض: قد عزَّ علينا كثيراً أنى كنت عاجزاً عن تلبية هذه المطالب النبيلة التي ما كان وراءها من سبب سوى حب المسلمين لكتاب ربهم العزيز، والدراسات الجادة المتعلقة به. وبعض دور النشر أبدت إستعدإدها لطبعه انذاك، ولكن الشروط التى حددتها لم تكن موضع ارتياح. ومن ذلك أن شركة " أرامكو " الخليجية طلبت - عن طريق أحد الوسطاء - شراء حق التأليف وطبع البحث لحسابها. ورغم أن العرض كان مغرياً فإن بعض المخلصين من معارفي نصحوني بعدم الموافقة؛ لأن بيع حق التأليف سيقطع صلتى بالبحث تماماً، ولن أستطيع طبعه أو التصرف فيه مستقبلاً. ومن ذلك الوقت - صيف 1974 - ظل البحث حبيس " مكتبتى " إلا نسخاً نادرة جداً كانت باقية من لجنة المناقشة وكنت قد أهديتها لبعض الأصدقاء. والآن. . قد قيَّض الله لطبعه ونشره " مكتبة وهبة " التي نذرت نفسها لخدمة الدعوة الإسلامية أكثر من نصف قرن، وتخصصت في نشر الأعمال الجادة الهادفة، وتبنت الكلمة الصادقة والهادئة والرزينة. شكر الله لأصحابها " الأستاذ " وهبة حسن وهبة " الذى بذل من جهده وماله لإخراج هذا العمل من الظلام إلى النور، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وفى هذه المقدمة يحسن بنا أن نشير إلى عدة حقائق تتعلق بهذا العمل الذى لم نرد به إلا وجه الله الكريم والإسهام في خدمة كتابه المعجز أبد الدهر: أولاً: إن هذا النص المنشور - هنا - هو نفس النص الذي تمت مناقشته منذ ثمانية عشر عاماً، بلا حذف ولا إضافة؛ لأن هيئة المناقشة لم تبد عليه ملاحظات جوهرية تقتضى حذفاً أو إضافة. وذلك من فضل ربى ذى الجلال والإكرام. ثانياً: لم نشر في هذه المقدمة إلى منهج البحث وثماره التي أسفر عنها وأقرها أساتذتنا المناقشون رحمهم الله، لأننا أوجزنا الحديث عن ذلك فى المقدمة التالية التي كانت قد أعِدت لتلاوتها على جمهور مشاهدى المناقشة. ثالثاً: الاسم العلمي لهذا البحث المسجَّل في الوثائق الرسمية هو: " خصائص التعبير في القرآن الكريم وسماته البلاغية " وعند صدور هذه الطبعة " الأولى " اقترح علينا الناشر الأستاذ " وهبة حسن وهبة " أن يكون العنوان هكذا: " خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية " فبادرنا إلى الموافقة. وليس بين العنوانين فرق قط من حيث المعنى سوى فرق لفظي طفيف صار به " الثاني " أوجز من " الأول " مع وحدة المعنى. رابعاً: إن عنوان هذا البحث وإن لم يشر أية إشارة إلى قضية الإعجاز فإنه - أعنى البحث - تطبيق عملى موضوعى للكشف عن سر الإعجاز في القرآن الكريم على المذهب المختار من مذاهب جهات الإعجاز في القرآن الكريم. فقد تباينت وجهات النظر قديماً وحديثاً حول: بِمَ كان القرآن مُعْجِزاً؟ صال العلماء وجالوا قديماً حول معرفة وجوه الإعجاز. وحديثاً أضاف الباحثون مذاهب عدة إلى مذاهب العلماء، ومن أبرز ما قاله المحدَثون أن في القرآن - بالإضافة إلى وجوه الإعجاز عند القدماء - إعجازاً آخر في مجال الكشوف العلمية، وفي مجال التشريع، وفي مجال العلوم الإنسانية كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس. . إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ومع تسليمنا بصدق ما يقوله المحدَثون فإن أمامنا حقيقة يجب أن نبرزها بكل وضوح. . وهي: إن القرآن صالح لأنواع عدة من الإعجاز كالإعجاز العلمي الكونى، والإعجاز التشريعي. ولكن الإعجاز الذي وقع به التحدى في عصر الرسالة، لم يكن إعجازاً علمياً وتشريعياً، أو تاريخياً أو غيبياً، بل كان محصوراً فى جهة واحدة هي الإعجاز البياني البلاغى التمثل في أسلوب القرآن ونظمه وتراكيبه اللغوية. فالعرب الذين تحداهم الله تعالى بأن يأتوا بمثل كتابه - سورة أو سورتين أو عشر - لم يكونوا مشرِّعين ولا أطباء ولا كيماويين، ولا مؤرخين، بل كانوا مضرب المثل في الفصاحة والبلاغة وإحكام البيان، لذلك تحداهم الله من جهة هم فيها ضالعون. وهذا أظهر للعجز، وأمكن لقيام الحُجة عليهم حيث زعموا أن القرآن كلام بَشر. فما الذي يمنعهم وهم بَشر من أن يأتوا بمثله؟ مع شدة حاجتهم للإتيان بمثله؟ هذا هو الإعجاز الذي وقع به التحدى وترتب عليه العجز من جهتهم وصدق الرسالة من جهة صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم. وإذا تقرر هذا فإن موضوع هذا البحث يدور حول تجلية كثير من خصائص النظم القرآني، وسمات بلاغته المعجزة التي أعجزت الجن والإنس. وقد سلكنا في ذلك مسلكاً حمدنا الله تعالى عليه. وسيلم القارئ عند مطالعته للمقدمة التالية بأصول المنهج، وسيقف على كثير من التفاصيل والشروح عند مطالعته أبواب وفصول هذا الكتاب، وإنى لعلى الرحب والسعة أن أتلقى ملاحظات أهل العلم، وأعدهم بأنى سأعمل بها إن قُدِّرَ لهذا الكتاب أن يُطبع مرة ثانية وأنا على قيد الحياة. والحمد للهِ في الأولى والآخرة. البلد الطيب الأمين: مكة المكرمة. حى العزيزية. . عصر السبت 12 من شهر ربيع الثاني 1412 هـ الموافق (19 من أكتوبر 1991 م) . عبد العظيم بن إبراهيم المطعني * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القرآن الكريم هو معجزة الخلود، بل هو المعجزة الفريدة التي لم يُعرف لها مثيل، وهو معجزة خالدة فريدة لأنه لم يتقيد بما قُيدت به غيره من المعجزات، من ظهورها في لحظة معينة تتاح خلالها مشاهدتها لمعاصريها فتؤدى وظيفتها فيهم بما تحمل من الخوارق وتعيها - بعد - الذاكرة، ويظل سلطانها قوياً على النفوس ما دام مَن شاهدوها أحياء صالحين لتحملها وروايتها لن لم يحظ بتلك المشاهدة من الأجيال. أمناء في نقلها وصدق الإحساس بعظمة مدلولها: صدقاً يبدو من جدية الحديث، أو استقامة السلوك، أو رهبة الوقف وجلال الأثر. فإذا لبثت المعجزة عمراً ذهب خلاله مَن كان حياً من مشاهديها. وأغمض الموت أعيناً كانت قد شاهدتها. وفَنِىَ مَنْ فَنِىَ ممن سمعوها عنهم مشافهة فإنها حينئذ تصبح واقعة من وقائع التاريخ، لا ينكَرها مَن آمن بمصدرها لأنه يثبت له قدرة ليست ذات حدود. أما لدد الخصوم، فإن لهم جرأة حمقاء تحملهم على إنكارها ونفيها، ما دامت لم تقع تحت حاسة يمكن عن طريقها إدراكها وفحصها. فقد فلق موسى عليه السلام البحر بعصاه - هذا حق - وقد أحيا عيسى عليه السلام الميت بإذن ربه - وهذا حق كذلك - ولكن كم من المعاندين رفضوا كل ذلك، وغير ذلك مما تقدم عليه في الرسالات السابقة. وهم لا يعدمون شُبهة يتمسكون بها، لأنهم لو ذهبوا إلى البحر الذي فلقه موسى عليه السلام لوجدوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ملتئماً. ولأن مَن أحياه عيسى عليه السلام بإذن ربه، قد مات مرة أخرى. وحتى معجزات الإسلام غير القرآن - كالإسراء والمعراج - لهم في رفضها شُبَه وأحاييل. * * * أما القرآن الكريم فإنه معجزة خالدة لأنها مستمرة لا تنقطع، مشرقة لا تغرب وإن غربت الشمس، لامعة لا تأفل وإن أفلت النجوم. باقية لا تذهب وإن ذهب الكون. ليس من سبيل لإنكارها: لأنها مرئية بالبصر، ومسموعة بالأذن، وملموسة باليد. وتلك روافد هذه المعجزة إلى الإحساس المفضي بالتسليم والإذعان، المؤدي إلى التصديق والإيمان، المقنع للعقول والممتع للعواطف. ومن هنا كان اهتمام العلماء والدارسين في كل عصر ومصر بالقرآن الكريم، حفظاً ودراسة، وبحثاً واستنتاجاً. فللفقهاء والأصوليين والشرعين فيه أهداف، ولهم إليها طريقة ومنهج، وللفلاسفة والمتكلمين فيه أهداف، ولهم إليها طريقة ومنهج، وللغويين فيه أهداف، ولهم إليها - كذلك - شِرعة ووسيلة. وللبيانيين فيه أهداف، ولهم إليها طريقة ومنهج، ولغير هؤلاء من طلاب العلم والدرس أهداف ومناهج. وعلى كثرة ما كتبه الكاتبون حول القرآن، ويخصنا هنا الجانب البياني، فإن القرآن ما زال - وسيظل - جديداً فيه لكل دارس مجال، ولكل باحث مقال. ولما كان القرآن هو معجزة الإسلام. وإعجازه - في المختار - راجع إلى بيانه وأدبه، وبلاغته وفصاحته، وأسلوبه ونظمه. فإن الحاجة في هذا العصر الذى يتسم بالتنكر لحقائق الإيمان، والتمرد على سلطان الدين - تصبح ماسة إلى ما يساعد على جلاء تلك المعجزة، وتقريبها إلى الأفهام. ومن هنا كان اختياري لهذا الموضوع " خصائص التعبير في القرآن الكريم وسماته البلاغية ". على أن يكون خطوة على الطريق. وتجرية قابلة للتوجيه والتقويم. وبدهي أننى لم أبدأ من فراغ، ولذلك فإننى استفدتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 كثيراً من كتابات السابقين قدماء ومحدَثين. كما أننى أفرغت ما أملك من جهد، واستنفدت ما أجد من طاقة في التأمل والنظر في ما درستُ من نصوص قرآنية لم أجد لسابق فيها توجيهاً، أو وجدتُ ولكن لم يبلغ مرحلة الإقناع. وإن كان هناك فَرق بين هذا البحث المتواضع، وبين ما سبقه من بحوث. فإنه يهتم بالناحية الموضوعية غالباً. ولم يكتف بمجر التمثيل على فن بلاغى، أو ملحظ بياني كما صنع جُلة الكاتبين إلا ندرة منهم، ويهتم هذا البحث كذلك بتتبع الظاهرة البيانية في القرآن مع سوق الدليل عليها، ولم يكتف بمجرد التعميم والوصف دون لفت النظر إلى الحقيقة المدروسة وتحديدها وإقامة الدليل عليها. وكثير من الكاتبين يهملون هذا الجانب كالقاضي أبى بكر الباقلاني من القدماء في كتابه " إعجاز القرآن "، وكمصطفى صادق الرافعي من المحدَثين فى كتابه " إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ". ومن أبرز ما يهتم به هذا البحث الاعتماد على القرآن نفسه في استنتاج ما أمكن استنتاجه. بالنظر في طرق الصياغة، وبالرجوع إلى أسباب النزول، وبالوقوف على السابق واللاحق نزولاً، وبالتفريق بين ما هو مكى وما هو مدنى، وبقرائن الأحوال ومقتضيات المقامات، ثم بالرجوع إلى الدلالات اللغوية لألفاظه من حيث اللغة في نفسها، ومن حيث وجودها في سياق معيَّن. وسيرى القارئ أن هذا الطابع هو الغالب على وسيلة الدرس في هذا البحث في كثير من موضوعاته. * * ولعلك تسأل الآن عن الخُطة التي اتبعت في هذا العمل. وأنا أستأذنك لأختلس من وقتك قليلاً في بيان تلك الخُطة، وهي في إيجاز جاءت على الصورة الآتية: الباب الأول: مدخل إلى البحث. وتحته فصلان. الأول: وظيفة التعبير اللغوي وتطورها. وقد درستُ فيه كثيراً من المسائل كتعريف التعبير اللغوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 والحاجة الداعية إليه، وأنواعه وخصائصه ومراحل تكوينه وعناصره وفائدته. وانتهيتُ من هذا كله إلى أن اللغة لم تقف عند الجانب النقلى للأفكار من متكلم إلى سامع. بل لها وظيفة جمالية إمتاعية غير وظيفتها العملية النفعية. تبرز أولاهما في لغة الآداب والفنون الرفيعة وتكون اللغة - حينئذ - في أسمى مظاهرها. وقد تأتى وظيفة اللغة في غير هاتين فلا يُراد بها النقل ولا الإمتاع. كما في عبارات الترويح عن النفس، وعبارات التحية والتأسف، وكما فى " المنولوج ". وكان هدفى من هذا الفصل معرفة ما به تسمو وظيفة اللغة. ومنها الوجوه البلاغية التي هي محور الدراسة في هذا البحث. لذلك جاء الفصل الثاني من المدخل: الوجوه البلاغية وقيمتها في جمال التعبير. وأوجزتُ فيه القول عن البلاغة الفنية في عصورها الأولى - الجاهلى والإسلامى والأموى والعباسي - وأبنتُ كيف نشأت توأماً مع النقد توجهه وتعضده. وبينت دور النقد في تكوين الملاحظات البلاغية حتى انفصلا فى كتاب " البديع " لابن المعتز، وأبنتُ قيمة هذا الكتاب. كما تعرضتُ لجهود بعض البلاغيين من بعده كقدامة بن جعفر وأبى هلال العسكرى وابن طباطبا؛ لأضرب مثلاً بأصالة البلاغة في النقد والتوجيه. كما ذكرتُ دور البلاغة العربية فى قضايا النقد الكبرى ومنها الصراع بين القديم والجديد، والطبع والصنعة. ومنها نقد الموازنات بين نصَّين اتحدا موضوعاً واختلفا شكلاً. ومنها قضية الإعجاز التي شغلت العلماء على مختلف مناهجهم ومشاربهم. كما كان لها دور كبير في قضية اللفظ والمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 كما أوضحتُ دور البلاغة في التشريع للعمل الأدبى لفظاً ومعنى. وكان هدفى من ذلك أن بلاغتنا العربية ذات شأن عظيم في توجيه الأدب ونقده، وأن مراعاتها تسمو بالأسلوب حتى لا تكون هناك درجة يمكن أن يقصر دونها، فلا وجه إذن للطعن فيها والنقليل من شأنها، ثم تتويج ذلك كله بإشارة القرآن الكريم إلى فضل القول البليغ، ممثلة في إحدى آيه الكريمة. كان ذلك هو دور المدخل. . أما موضوع البحث فقد جاء في أربعة أبواب وثلاثة عشر فصلاً. الباب الأول - هو الباب الثاني من جملة البحث - ترجمت له بـ: " خصائص التعبير في القرآن الكريم ". وتحته أربعة فصول: الفصل الأول: في الإعجاز التشريعي والعلمي. ورددتُ في مطلع هذا الفصل على شُبهة الصرفة. . بينتُ المراد منها وفندتها تفنيداً لا يُبقى لها على أثر. كما تعرضتُ لقضية المعارضات، ولم أنسق مع القائلين بنفيها أساساً، وخلصتُ من ذلك إلى أن التسليم بوجود المعارضات يخدم قضية الإعجاز. أما الإعجاز التشريعي والعلمي. . فلم أذكرهما على أنهما من الإعجاز المقصود بالتحدى، فهما وإن كان فيهما إعجاز فليسا بمرادين للهِ حين تحدى العرب بالقرآن. واتخذت من ذلك وسيلة للحديث عن الإعجاز البياني الأدبي. وكان ذلك هو موضوع الفصل الثاني. وقد عرضتُ فيه آراء مَن وضعوا فى الإعجاز مؤلفات قديماً وحديثاً، مناقشاً لكل رأى موافقاً ومخالفاً. فمن الأقدمين عرضتُ آراء الواسطى والخطابى والرماني والباقلاني وعبد القاهر الجرجانى. . . ومن المحدَثين عرضتُ آراء الرافعي ودراز والزرقانى وعبد الكريم الخطيب وأبى زهرة وبنت الشاطئ. ثم اتبعتُ ذلك بآراء منثورة في الإعجاز للقدماء والمحدَثين وخلصتُ في النهاية إلى أن الإعجاز المقصود للهِ - سبحانه - إنما هو الإعجاز البياني الأدبي بما تحمل هاتان الكلمتان من بيان وأدب. وفي كل ذلك لم أترك رأياً إلا ناقشته نقاشاً موضوعيأ هادفاً ذاكراً لكل ذى فضل فضله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والفصل الثالث سميته " خصائص يغلب عليها جانب الألفاظ ". ودرستُ فيه خمس خصائص: فواتح السور - الفواصل - اللفظ القرآني - النغم الصوتى - التكرار. ففى مجال الفواتح كانت الخلاصة أن ذلك إشارة واضحة للإعجاز البياني الأدبي. وفي مجال الفواصل هُديتُ للفروق بين فواصل الآي الطويلة وفواصل الآي القصيرة، ولم أر أحداً تنبه إلى هذه الفروق، وفى مجال اللفظ فإن ظاهرة الترادف تكاد تكون معدومة في لغة القرآن فلكل لفظ موضع ودلالة. والقرآن يدعو إلى اختيار الألفاظ في آيتين من آياته ذكرناهما مع التوجيه. وفي مجال النغم الصوتى فإن القرآن يمتاز بخاصة صوتية فريدة كفلتها حروفه، وحركاته وسكناته، وجمله وأسلوبه - سواء المرسل منه والمسجوع - ومع هذا فإن القرآن ليس فيه موضع واحد يُصار فيه إلى حلية اللفظ أو الصوت دون أن يكون هناك معنى اقتضى هذا العمل. فهما متعانقان. لذلك ترى طائفة من الآيات مقسمة إلى مجموعات، كل مجموعة تنتهى بفاصلة متحدة، ثم تأتى آية فاصلتها مختلفة عما قبلها وعما بعدها مع اتحاد فواصل ما بعدها وذلك كالآيات: (قُتلَ الإنسَانُ مَا أكْفَرَهُ) إلى آخر سورة عبس. فإن آية: (فَليَنظرِ الإَنسَانُ إلى طعَامه) تفصل ما قبلها عما بعدها وفاصلتها في نفسها مختلفة عن جاراته. وذلك لأنها رأس موضوع جديد مؤذنة به مشروحاً فيما تلاها. أما من حيث التكرار فقد أثبتُ بالدليل أن ما جاء في القرآن مكرراً إنما هو صنع حكيم. وسردتُ أمثلة موجهة من تكرار الأداة، أو الكلمة، كما تعرضتُ للتكرار في القصة واخترتُ نموذجاً لذلك قصة آدم عليه السلام. ذكرتُ كل نصوصها في القرآن، ودرستها دراسة مقارنة أحسبها فريدة فيما يبدو. وبينت عناصر القصة في كل نص. ثم جمعتُ العناصر المشتركة في كل النصوص وتحدثتُ عنها. ثم العناصر المشتركة في مجموعة دون أخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وتحدثتُ عنها كذلك. ثم الملامح الخاصة بكل نص. وكانت النتيجة أن سياق كل نص قد اقتضاه، وأنه ما من نص منها إلا اشتمل على جديد لم يرد فى غيره ولو كان هذا النص آية واحدة كما في آية الكهف وبذلك بان للباحث نفى الفضول عما ورد في القرآن مكرراً. بل هو سر من أسرار إعجازه. والفصل الرابع. ترجمت له بـ " خصائص يغلب عليها جانب المعاني ". ودرستُ فيه كذلك خمس خصائص: ثراء معاني القرآن - دقة النظم - اختلاف الأغراض - الإقناع والإمتاع - التصوير والتشخيص. ففى مجال ثراء المعاني أوضحتُ أن القرآن قد يستعمل اللفظ الواحد في ما يقرب من عشرين معنى كلفظي: " الهدى " و " السوء "، وقد يوضع اللفظ الواحد ويراد به معان متعددة دون تعدد اللفظ ككلمة " حساب " في قوله تعالى: (يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، وأوضحت أن تلك المعاني المرادة لا تتنافى مع طبيعة اللغة ولا مع مقاصد الشرع، فهى إذن فضيلة بيانية مطلوبة. كما بينتُ دور القراءات وجمل القرآن في ثراء معانيه وتعدد جهات فهمه، وفي مجال دقة النظم ذكرتُ بعض ما قاله العلماء قدماء ومعاصرين، وخطوتُ بمثال عندهم خطوة أخرى إلى الأمام. وهو آية المحرمات من النساء وهى آية لا مجال في مثلها للإبداع المجازى وغيره، ومع هذا فقد اشتملت على أسرار آسرة، كما حللت سورة الغاشية تحليلاً شاملاً بيَّنتُ فيه جهات الترابط الوثيق بين معاني تلك السورة. كما قمتُ بعمل جديد هو البحث عن العلاقة بين سورة وبين جارتيها في المصحف وبين جارتيها في النزول، تلك السورة هى " الكوثر "، وقد أسفرت التجربة عن وجود روابط قوية بين السورة وما تقدم عليها وما تأخر عنها في المصحف،: ما تقدم وما تأخر عنها في النزول، وبذلك تبدو وحدة النسج بين سور القرآن وكلماته على أي وجه طُلِبت تلك الوحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وفى مجال اختلاف الأغراض فإن القرآن يمزج المقاصد مزجاً قوياً مؤلفاً بينها برباط آسر، ولم يقتضب في موضع فيه القول اقتضاباً، ولا حُجة لمن قال بهذا كالعز بن عبد السلام، والغانمي. وقد أثبتُ في ما ذكرتُ من نصوص قوة الربط بين جمل وفقرات القرآن كما وضح في الخاصة السابقة. كما ذكرتُ العِلَّة فى هذا الصنع الحكيم من تيسير القرآن للعظة والانتفاع. والهداية والتوجيه. وفى مجال الإقناع والإمتاع فإن القرآن يخاطب العقل ويمتع العاطفة في أسلوب واحد ومقام واحد، جامعاً بين مقصدين يعزان على طالبهما، ولو كان ذلك في تقرير حقيقة كونية، أو بيان حكم شرعى. فليس هناك موضع فيه مطلوب من ورائه موقف تأثيرى عند السامعين - أمراً أو نهياً - إلا تجد القرآن يخاطب به كل حاسة مدركة من حواس الإنسان: العقل والعاطفة، والنفس والوجدان. وقد بينتُ هذه الطريقة في كثير من المقاصد القرآنية كالتشريع والجدل. . وخاصة في قضيتي التوحيد والبعث. أما التصوير والتشخيص فإن القرآن فيها يمنح الجمادات حياة والمعدوم وجوداً: فالليل يعسعس، والصبح يتنفس، والدعاء له طول وعرض. . إلى آخر هذه الصورة الخلابة. وتلك سمة بارزة في أسلوب القرآن وظيفتها التوضيح والبيان، كما لا تخلو من الإمتاع والإقناع، إذ الفصل بين هذه السمات أو الخصائص إنما هو نسبى، وحقيقة التعبير القرآن أنه مَجْمَع أشعة يأتيك من كل ناحية أبصرته منها شعاع وضياء. والباب الثالث. . وقفته على دراسة بعض فروع علم المعاني في القرآن الكريم، وتحته ثلاثة فصول. الأول: من أسرار الحذف، وتتبعتُ فيه مظاهر الحذف المختلفة من حذف الحرف، إلى حذف الكلمة سواء أكانت مبتدأ أو خبراً، أو مفعولاً أو فاعلاً، أو موصوفاً أو صفة، أو حالاً أو تمييزاً: ذكرتُ ضابطاً جديداً لحذف الحرف في القرآن كأن يُحذف ويبقى أثره. أو يُعتبر الحرف محذوفاً لوروده في موضع مماثل مذكوراً، وأثبتُ سر ذلك كله. كما تحدثتُ عن حذف الجملة وحذف الفقرات، وأثبتُ بالدليل أن الحذف فيه يؤدى إلى فخامة العبارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ولا يؤدى إلى الغموض. وأنه أبلغ من الذكر في موضعه، ولم يُصَر إليه لهدف بلاغى أصيل. كما أثبتُ أن الحذف في الفقرات يحكمه إما ترتيب زمني بين المذكور والمحذوف وإما ترابط طبيعى بينهما. فهو إذن بلاغة آسرة، وليس تعسفاً وجرأة معيبة، وفضلاً عن بيان أسرار الحذف تحدثتُ عن منهج البلاغيين فيه، وبيَّنتُ اهتمامهم ببعض المواضع دون بعض، كما تحدثتُ عن طريقة ابن الأثير. ورددتُ - بالدليل - أن يكون مجرد الاختصار أو رعاية الفاصلة وحدهما سبباً في حذف ما يُحذف، وخرَّجت مواضع أرجعوا الحذف فيها إليهما على غير الوجه الذي ذكروه، مما ظننته أولى من صنعهم. كحذف المفعول فى قوله تعالى: (أهَذَا الذي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) ، وكحذفه أيضاً فى قوله تعالى: (أرِني أنَظرْ إليْكَ) . كما ذكرتُ قانون الحذف الذي نصَّ عليه السيوطي في كتاب له نُشر لأول مرة، وناقشتُ هذا القانون وذكرتُ في النهاية أن الحذف في القرآن يخضع لسمتين بارزتين. . أولاهما: دليل قوى يدل على المحذوف. بل ويعينه - أحياناً - وثانيتهما: داع بلاغى اقتضى ذلك الحذف. وبهذا كان الحذف فى القرآن في جميع مظاهره ومواضعه - بلاغة - فَخُمَ معه المعنى وحَسُنَ اللفظ. وكم من الإبهام والغموض نتج عن الحذف خارج دائرة القرآن. وضريتُ لذلك أمثلة مع شهادة النقاد أنفسهم. والفصل الثاني. . درستُ فيه التقديم في القرآن من خلال أربعة مناهج: منهج البلاغيين، ومنهج شمس الدين بن الصائغ الحنفى، ومنهج ابن الأثير. ثم منهج المفسرين ممثلاً في كشاف الزمخشري وتفسير أبى السعود. وناقشتُ كل منهج على حدة مبيناً محاسن كل، ومشيراً إلى القصور إن وجدا وعقدت مقارنة بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 منهجي البلاغيين وابن الصائغ ذاكراً الفروق بينهما، مسجلاً لكل ذى فضل فضله، وبيَّنتُ نواحى القصور في كل منهما. وكذلك بيَّنتُ غلو ابن الأثير - أحياناً - في تفسيره لأسرار التقديم على غير المقبول مع أن النصوص التى ذكرها لا اختلاف بينها يؤذن باختلاف توجيهها بلاغياً. أما الفصل الثالث. . فقد درستُ فيه نوعاً جديداً من التقديم أطلقتُ عليه: التقديم غير الاصطلاحى، أو: اختلاف النظم في العبارات ذات المدلول الواحد. وقد عرَّفته وذكرتُ الفَرق بينه وبين التقديم الاصطلاحى. الذي عنى به البلاغيون عناية فائقة. كما نبهتُ في مطلع هذا الفصل على نوع ثالث من التقديم اهتم به المفسرون وابن الصائغ. والتقديم غير الاصطلاحى سمة خاصة بأسلوب القرآن، وقد جمعتُ من أمثلته عشرين نصاً اختلفت الصياغة في كل نصين متقابلين منها أو أكثر، واتحد أصل المعنى. مثل: (قُلْ إن هُدَى الله هُوَ الهُدَى) مع قوله تعالى: (قُلْ إن الهُدَى هُدَى الله) .، حيث قدم " هُدَى الله " في الأولى واختلف الوضع في الآية الثانيةَ فقدم " الهدى " على " هُدَى الله ". هذا النوع من التقديم لم يهتم به أحد، لا البلاغيون، ولا المفسرون. اللهم إلا ندرة يسيرة من التوجيهات، يغلب عليها طابع التعميم قال بها جماعة من العلماء والمفسِّرين، وهي لا تُفسِّر الظاهرة ولا تقنع الباحث. وقد أفرغتُ جهدي فى هذا الفصل مستعيناً بإطالة النظر والتأمل. معتمداً على أسباب النزول والسابق واللاحق وأحوال البيئتين المكية والمدنية. وقد انتهيتُ من هذا كله إلى نتائج أطمع أن أُوافَق عليها. وحسبى أنها تجرية، خاضعة للتوجيه والأخذ والرد. على أني بعد الفراغ من توجيه تلك المواضع العشرين عثرتُ على كتاب للخطيب الإسكافى عرَّفت به في موضعه. وفي هذا الكتاب حديث عن بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تلك النصوص المتقابلة، وعند الوقوف على آرائه فيها لم أغير مما كنتُ قد هداني النظر إليه، واكتفيتُ بذكر رأيه في نهاية حديثى عن كل موضوع وجدت له فيه تعليلاً، كما نبهتُ إلى إغفاله بعض الموضوعات التي درستها. وهذا الفصل أحسبه من الجديد الذي جاء به هذا البحث. أما الباب الرابع. . فقد جعلته: سحر البيان في القرآن الكريم. وجاء فى ثلاثة فصول. . الفصل الأول: درستُ فيه التشبيه والتمثيل دراسة تقرب من الاستقصاء وقسَّمتُ فيه التشبيه والتمثيل إلى مجموعات: المجموعة الأولى: في شأن الكافرين وتحتها أربعة فروع: ضلال المعتقد - ضعف المعتقد - بطلان الأعمال - سوء المصير. والمجموعة الثانية: في شأن المؤمنين. وتحت هذه المجموعة غرضان رئيسيان تحت كل منهما صور مختلفة وهما: الترغيب: سواء أكان في عقيدة، أو سلوك، أو حسن مصير. والثاني - الترهيب: سواء أكان من عقيدة، أو سلوك، أو سوء مصير. والمجموعة الثالثة: في مظاهر القُدرة الإلهية. والرابعة: باقة من الزهور. درستُ فيها نصوصاً كثيرة وفي كل هذه لم آل جهداً في بيان قيمة التشبيه والتمثيل في القرآن، والصور الأدبية التي تشع منها متحدثاً عن خصائص كل مجموعة منها يجمعها غرض واحد، مبيناً دور التشبيه والتمثيل القرآني بيانياً ودينياً. وقد أتبعتُ هذا كله بحصر لما رأيته من خصائص التشبيه والتمثيل القرآني ونبَّهتُ في أثناء الدراسة إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها بعض المعاصرين داعماً ما ذهبتُ إليه بالدليل. على أن من أهم مباحث هذا الفصل، وهو مما أطمع أن يكون جديداً كذلك هو نوع من التشبيه لا وجود له خارج القرآن، وقد سميته: التشبيه السلبي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وذكرتُ نصوصه وعرَّفته وبيَّنتُ لماذا كان هذا النوع من أخص خصائص القرآن. ووجَّهتُ ذلك توجيهاً مستمداً من طبيعة الظاهرة نفسها. وفصل التشبيه بعامة أرجو أن أكون وُفًقتُ في دراسته على نفس الصورة التي ورد عليها، والتي أظن أنها يمكن أن تأخذ بعض ملامح الجديد. والفصلان الثاني والثالث. . درستُ فيهما المجاز القرآني في صوره المختلفة مع التركيز على الاستعارة - وإنما جعلتهما فصلين؛ لأن الثاني درستُ فيه المجاز من خلال نص " مختار " من سورة البقرة، والثالث درستُ فيه المجاز من خلال نص " مختار " من سورة الأعراف. ومنهج البحث في الفصلين واحد حيث درستُ الكلمة المستعملة مجازاً فيهما في كل صورها في القرآن، وبعد جمع تلك الصور قمت بالنظر فيها لأوجه مجازها ثم أتبع كل مادة درستها بما لاحظته على استعمالها في القرآن. وقد درستُ في هذين النصين مواد متعددة على سبيل الاستقراء التام لمواضعها في القرآن - فيما عدا مادتين اكتفيتُ ببعض أمثلتهما لورودهما كثيراً كثرة يصعب معها ذكر كل نصوصهما في بحث كهذا. على أن ما ذكرته منها كاف لإيضاح منهج القرآن فيهما، وهما: " تبع "، و " أخذ ". ومن أهم النتائج التي أسفرت عنها الدراسة في هذين الفصلين أن القرآن الكريم يستخدم كل مادة على منهج معيَّن، ولاعتبارات دقيقة. ثم يلتزم هذا المنهج في جميع صور المادة، وذلك الالتزام يكون في المجاز - مثلاً - أو المدح، أو الذم، أو غير هذه جميعاً فمثلاً: مادة " ذاق ". لم ترد في القرآن إلا مجازاً استعارياً، ولم ترد - كذلك - إلا في مواضع المخالفة والمؤاخذة. مثل: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) . ومادة " ختم " يستخدمها القرآن إذا كانت " فعلاً " في مواضع الذم والتهديد، وإذا كانت " اسماً " يستخدمها في مقام المدح والترغيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الأول مثل: (نَخْتمُ عَلى أفْوَاههمْ) ، والثاني مثل: (رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ) . ومادة " مرض " يستخدمها " فعلاً " استخداماً مجازياً استعارياً، وتختص حينئذ بمواضع الذم إلا في موضع واحد وردت فيه - فعلاً - محتملة للحقيقة والمجاز وذلك هو قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) . . أما إذا كانت " اسماً مفرداً " أو " مثنى " أو "مجموعاً " فإنه يستخدمها استخداماً " حقيقياً " لا مجازياً وتختص حينئذ بمواضع التشريع، وهكذا تجد كل مادة في القرآن لها قاعدة وقانون. وهذا شجعنى على أن أقترح أن نسمى هذا المنهج البياني الآسر ب " منهج الالتزام " وقد أشرقت بوادر هذه النظرية عند دراستنا لألفاظ القرآن في الباب السابق . وستطالعك في غضون البحث عنوانات ربما بدت غريبة في أول الأمر مثل: " الأب ليس والداً - النعمة ليست نعيماً - المرأة ليست زوجاً ". وسوف تزول تلك الغرابة عندما نقف على النصرص القرآنية التي نُسلِّم من تأملها بصحة تلك العنوانات وغيرها مما لم نذكره هنا. لتلك الاعتبارات - جميعاً - فإنى أطمع في اتفاقك معي على " نظرية الالتزام " فإن شرفتُ بذلك، فتلك مِنَّة من الله. وقد أثبتُ - بعد - ما بانَ لي من خصائص المجاز القرآني، وسماته التى تميزه من أساليب الناس. أما الباب الخامس. . فقد وقفته على دراسة " البديع " في القرآن، ووزعته فى ثلاثة فصول: الأول: درستُ فيه بعض المحسنات المعنوية، كالطباق والتورية. والثاني: درستُ فيه بعض المحسنات اللفظية، كالجُناس والمشاكلة. وكان هدفى من هذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الفصلين التدليل على أصالة " البديع " في القرآن سواء المعنوي واللفظي منه، : قد تبين من الدراسة أن أصالة " البديع " القرآني قد أخرجته من كونه حلى للمعنى أو اللفظ تأتى بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال، إلى كونه قريباً من ذلك المقتضى إن لم يكن منه. وقد استشهدتُ في بعض المواضع بآراء مَن سبقوا من علماء البلاغة، الذين لهم فيها قدم راسخة. أما الفصل الثالث. . فقد درستُ فيه " البديع " معاني وألفاظاً من خلال ثلاثة نصوص قرآنية حلَّلتُ كل ما بدا لى من صور " البديع " فيها، وقمتُ بإحصاء شامل لمظاهر " البديع " التي وردت في تلك النصوص فبلغت - بعد حذف المكرر منها - واحداً وأربعين نوعاً، فإذا علمنا أن تلك النصوص الثلاثة لم تزد في جملتها على خمس آيات فإن مقابلة هذين الرقمين تفيد أن الآيات الخمس قد حفلت بصور " البديع " وكثر هو فيها كثرة يُحَذِّرُ النقاد منها في غير القرآن لأنهم يشترطون في تناوله شرطين أساسيين هما: 1 - جريه مع الطبع. 2 - الإقلال منه. وإنما فعلوا زلك ليأمن الأديب الزلل. وهذان الشرطان سلم أحدهما في القرآن الكريم وهو: جريه مع الطبع وعدم التكلف. أما الثاني فلا مفهوم له فيه، ومع هذا فإن بديع القرآن بديع حقاً وَفَّى بحق اللفظ والمعنى. وذلك هو الفارق بين القرآن في بيانه المعجز، وبين غيره من الآداب الرفيعة. ثم ذكرتُ نصوصاً للشعراء تناولوا فيها " البديع " فأصابوا وأخطأوا حتى المقلون منهم. حيث لم يكن الإقلال منه عاصماً لهم من الزلل. ولذا سيظل الفرق بين أدب القرآن وبين الآداب الأخرى كالفرق بين الصوت صادراً من مصدره الأصيل، والصدى لا تلوى منه على شيء. كما بيَّنت في مطلع الباب خلط العلماء بين فنون " البديع "، وبيَّنتُ السبب فيما ظهر لى، وأوضحتُ في نهايته إسرافهم في أنواعه. والاعتدال كان أحوط. وبهذا تنتهى أبواب وفصول هذا البحث واضعاً أمامك صورة تقريبية فى وصف كل باب وفصل. وبقيت - بعد - كلمة أخيرة عن المراجع والرجاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فمن حيث المراجع. . فقد رجعتُ إلى كل ما أمكن الاطلاع عليه مما يتصل بالموضوع من كتب التفسير، واعتمدتُ منها على كشاف الزمخشري وتفسير أبى السعود، وهذا لم يمنع من الرجوع إلى غيرهما أحياناً. كما رجعتُ إلى مَن كتبوا في الإعجاز قديماً وحديثاً حتى المقالات التي صدرت أثناء كتابة هذا البحث وأثناء مثوله للطبع، كما رجعتُ إلى كتب البلاغة المختلفة، وإلى كتب اللغة وغيرها. وقد بلغت جملتها ما يقرب من مائة وخمسين مرجعاً متباينة فيما بينها في الأهمية من حيث صلتها بالموضوع. واستفدتُ - كذلك - من كتب النقد وقد وجَّهتني كثيراً. ولسهولة الوقوف عليها جملة وتفصيلاً أثبتها فى نهاية البحث مرتبة ترتيباً أبجدياً حسب أسمائها. هذا جهد متواضع أضعه أمامك لتشجعني على صواب، أو ترشدني إلى خطأ، فإن جلال كلام الله يجعل الثقات يضعون أيديهم على قلوبهم حين يتصدون لبيان شيء فيه، وأين أنا منهم؟ وما حملنى على الكتابة فيه - فوق ما قدمت - إلا حب أكنه لهذا البيان العالي، وإلا عظمة وعزة وروعة يحسها فيه كل مَن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد. وحسبى أنى مجتهد، والمجتهد لا يخلو من الأجر. أصاب أو أخطأ، وفرق ما بين الأجرين فرق ما بين الصواب والخطأ. وكفى هذا البحث أن يكون بناناً تومئ من بعيد إلى تلك العظمة في آفاقها، وإن البنان - على الإشارة - لأقدر من الباع على الإحاطة، وخير من عجز المحيط طاقة المشير. . والحمد لله في الأولى والآخرة. (رَثنَا لاَ تُزغ قلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لنَا من لدُنكَ رَحْمَةً، إئكَ أنتَ الوَفابُ @11!. جمادى الأولى سنة 1393 هـ (يونيو سنة 1973 م. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الباب الأول مدخل إلى البحث * وظيفة التعبير اللغوي وتطورها. * قيمة الوجوه البلاغية في جمال التعبير اللغوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الفصل الأول وظيفة التعبير اللغوي وتطورها التعبير اللغوي أسمى أنواع التعبير، وأوضحها في الدلالة على المراد، وأيسرها على المعبرين، وهو الأصل في الإبانة والكشف، وبه تتفاوت الدلالات في القوة والضعف، والغموض والوضوح، وبه تظهر الميزة بين قول وقول، ومعنى ومعنى، وهو أقدرها على تصوير المعاني الدقيقة ونقلها إلى السامعين. . وهو الذي يميز الإنسان بأسلوبه الراقى مما سواه من كائنات لها القُدرة على أن تطلق أصواتاً. ومن هنا ساغ للمناطقة أن يعرفوا الإنسان بأنه حيوان ناطق. ويريدون بالنطق التفكير وهو لا يكون إلا بوساطة عبارات تكونه وتظهره. وقد فرق المشتغلون بالدراسات اللغوية بين التعبير عند الإنسان والتعبير عند الحيوان. بأن اللغة عند الإنسان ذات مقاطع صالحة للدخول في تراكيب تدل دلالة واضحة على معان كلية. أما لغة الحيوان فهى لغة انفعالية غرزية تتكون من أصوات طولية مصحوية بحركات تدل على معان مبهمة لا تتضح إلا بالتكرار وهي غير صالحة للدخول في تراكيب تدل على معان كلية واضحة. فالتعبير الواضح الجميل خاصة من خصائص الإنسان الراقى. ولعل الآية الكريمة: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) تدل على هذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وقد عرف المجتمع البَشرى - منذ بداوته - التعبير اللغوي، لأن الإفصاح عما يحول في نفسه من معان وخيالات ضرورة من ضرورات حياته الجَماعية، وللعلماء - قديماً وحديثاً - بحوث ونظريات حول " نشأة اللغة الإنسانية " والمراحل التي مرت بها حتى وصلت إلى مرحلة الكمال أو قربت منها. * * * * الآراء حول نشأة اللغة: ويمكن إيجاز تلك البحوث في أربعة اتجاهات: الاتجاه الأول: مؤداه أن الفضل في نشأة اللغة الإنسانية يرجع إلى إلهام إلهى هبط على الإنسان وعلمه النطق وأسماء الأشياء. ومن أنصار هذا الاتجاه فى العصور القديمة الفيلسوف اليونانى " هيراكليت "، وأحمد بن فارس فى كتابه " الصاحبى " وابن جنى في " الخصائص ". . وفي العصور الحديثة طائفة من المستشرقين على رأسها الأب لامى فى كتابه "فن الكلام " والفيلسوف " دبونالد " في كتابه " التشريع القديم " وليس لهؤلاء دليل قوى يمكن الاعتداد به. الاتجاه الثاني: وفحواه أن اللغة ابتدعت بالمواضعة والارتجال وقد ذهب إلى هذا الرأي الفيلسوف اليونانى القديم،، ديموكريت " و " آدم سميث " الفيلسوف الإنجليزى وآخرون، وليس لهذا الاتجاه سند عقلي أو نقلى يمكن الاعتماد عليه. وقد نُقد بأن المواضعة لا تتم إلا عن طريق عرف لغوي سابق عليها، وهذا يلزم عليه الدورَ - كما يقولون - لأن المواضعة تحتاج إلى مواضعة يتم بها الوضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الاتجاه الثالث: وترجع فيه اللغة إلى غريزة خاصة زُودَ الإنسان بها منذ القِدَم. وهذه الغريزة كانت تحمل كل فرد من بنى الإنسان على التعبير عن كل مدرَك حسي أو معنوي بكلمة خاصة، وكانت عند جميع الأفراد متحدة فى طبيعتها ووظائفها وما يصدر عنها، لذلك اتحدت المفردات أو تشابهت في طرق التعبير. ولكن تطاول العصور أثر على تلك الغريزة فتلاشت! ؟ ومن القائلين بهذا الاتجاه العلامة " ماكس مولر " المالاني. وقد بنى هؤلاء رأيهم على أدلة مستمدة من دراسة أصول الكلمات في اللغات الهندية الأوروبية. فقد تبين لهم أن مفردات تلك اللغات ترجع إلى خمسمائة أصل مشترك. وأن هذه الأصول تمثل اللغة الأم التي تشعبت عنها اللغة. فهى لذلك تمثل اللغة الإنسانية في أقدم عصورها!! ؟ وعلى طرافة هذا الاتجاه، ودعمه بالدراسات الحية، فإنه فاسد من وجوه: 1 - أنه لا يحل المشكلة حتى يضع مكانها مشكلة أخرى هي افتراض الغريزة الكلامية. 2 - وأن ما يقرره من قبيل تفسير الشيء بنفسه. 3 - أنه لا يعالج جوهر المشكلة، لأن الهم هو معرفة أول مظهر لاستغلال هذه القدرة والانتفاع بها في تكوين الكلام الإنسانى، والأسلوب الذي احتذاه الإنسان في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة. والكشف عن العوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب. 4 - وأكبر خطأ وقع فيه هذا الاتجاه أن الأصول المذكورة التي اعتمدوا عليها فى الاستنتاج تدل على معان كلية - كما قالوا - والمعاني الكلية تحتاج إلى درجة عقلية راقية لم يجرؤ باحث منصف على إثباتها للإنسان في عصور بداوته. . فكيف يصح جعل هذه اللغة " الهندية - الأوربية " اللغة الأم للغات الإنسانية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الاتجاه الرابع: وخلاصته أن أصل اللغة نشأ من محاكاة الإنسان لأصوات الطبيعة (التعبير الطبيعى عن الانفعالات: أصوات الحيوان، أصوات مظاهر الطبيعة التي تحدث عن الأفعال الطبيعية كالشرب والقطع والكسر) وسارت فى سبيل الرقى تبعاً لارتقاء العقل وازدهار الحضارة، وممن قال به من العلماء العرب ابن جنى في الخصائص. وقد رجح المحدَثون هذا الاتجاه لاتساقه مع طبيعة التطور ودعموه بأن لغة الطفل تتفق في مراحل تكوينها وتطورها مع ما تقرره هذه النظرية من مراحل تكوين وتطور اللغة الإنسانية في الدهور السحيقة. كما دعموه بأن ما يقرره يتفق مع ما عُرِف من خصائص اللغات في الأمم البدائية. لهذا رجح المحدَثون هذا الرأي. * * * * أنواع التعبير اللغوي: التعبير اللغوي نوعان. . الأول: تعبير لغوي طبيعى انفعالى بحت. ويشمل جميع الأصوات الفطرية - مقصودة أو غير مقصودة - التي تصحب مختلف الانفعالات السارة وَالمحزنة. كالضحك والبكاء والصراخ والأنين والتأوه. وهذا النوع يتألف - في الغالب - من أصوات مبهمة تشبه أصوات الطبيعة وأصوات العجموات. مختلطة - أحياناً - بأصوات ذات مقاطع - حروف ساكنة - كالأنين والتأوه وأصوات لين (حروف مد) كالصراخ - ومن مميزات هذا النوع اتحاده عند جميع الناس لا فَرق بين جنس وجنس، ولا بيئة وبيئة. وخلوه من الوضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 والثاني: هو التعبير الوضعى الإرادى. . ويشمل جميع الألفاظ الإرادية التي يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن المعاني التي تجول في نفسه لينقلها إلى الآخرين. . ويقصدون بهذا النوع: الأصول المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات وإليه تنصرف اللغة عند الإطلاق. . وهو أسمى مظاهر التعبير اللغوى. وخصائصه كالآتى: 1 - أنه مكتسب لا فطرى 2 - أنه إرادى لا آلى. 3 - أنه يتمثل في أصوات مركبة تتألف منها كلمات وجمل (أسلوب) لا في أصوات. 4 - أنه يُعبر عن معان تجول في النفس لا عن انفعالات مبهمة. 5 - أنه يختلف باختلاف الأجناس والبيئات، ويحتاج إلى وضع واضع. 6 - أنه وسيلة سهلة ميسرة للتخاطب ونقل الأفكار ولا يتوقف الانتفاع به على وسيلة سوى السمع. * * * * تطور التعبير اللغوي: رأينا اختلاف العلماء حول نشأة اللغة الإنسانية، والبواعث التي حملت الإنسان الأول على التعبير والكيفية التي بدأ بها تعبيره. وتلك مشكلة ما زالت قابلة للبحث والدراسة، ثم هناك مشكلة أخرى متفرعة عنها، وهي: ما هى المراحل التي اجتازها التعبير اللغوي حتى أصبح لغة متكاملة اتخذها الإنسان وسيلة للتخاطب ونقل الأفكار بين أفراد المجتمع. . ويمكن حصر هذه المراحل فيما يأتى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 المرحلة الأولى: مرحلة الصراخ. وفي هذه المرحلة لم يكن في أصوات اللغة الإنسانية أصوات مد (لين) ولا أصوات ساكنة. بل - كانت مؤلفة من أصوات مبهمة كدوى الريح وخرير الماء، وحفيف الأوراق. المرحلة الثانية: مرحلة المد، وفي هذه المرحلة ظهرت أصوات المد في اللغة الإنسانية وتخلصت من الأصوات المبهمة. المرحلة الثالثة: وفي هذه المرحلة ظهرت الأصوات الساكنة في اللغة مثل الباء، والتاء، والثاء. . . وهكذا. ويعتمد الباحثون في تقرير هذه النظرية على ما هو مشاهدُ من لغة الطفل فى مراحل نموها المختلفة. وهذا التقسيم من حيث تطور الصوت اللغوي نفسه. أما من حيث دلالته على معناه فلهم فيه مذهبان: المذهب الأول: وعلى رأس القائلين به " ماكس مولر "، مؤداه أن الألفاظ بدأت دالة على معان كلية ثم تفرعت عنها المعاني الجزئية. ودليلهم عليه ما سبق ذكِره من الدراسة التي قاموا بها حول اللغات " الهندية - الأوروبية ". وقد سبق هناك أن هذه النظرية غير مسلمة، فكذلك ما أثبت - هنا - اعتماداً على صحتها. المذهب الثاني: مؤداه أن المعاني الجزئية سابقة على المعاني الكلية. لأنها - أي المعاني الكلية - مرحلة أرقى من تلك. لذلك فإن النفس ترتاح لهذا الرأي". . ويمكن الاعتماد فيه على تطور الدلالة في لغة الطفل. . كما أن المعاني الحسية سابقة على المعاني الذهنية. والمعاني الحقيقية سابقة على المعاني المجازية. . لأن كلاً من المعاني الكلية والذهنية والمجازية تتطلب رقياً فكرياً لم تتوافر أسبابه لدى الإنسان الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وفريق آخر من الباحثين يقولون - اعتماداً على نظرية تُعرف بنظرلة العلامة ريبو -: إن أول ما نشأ من اللغة الصفات. ثم أسماء المعاني. ثم أسماء الذوات، ثم ظهرت الأفعال واختتمت مراحل رقيها بظهور الحروف. * * * * اللغة - إذن - - ما هي؟ إن أشهر تعريف للغة شاع في العصور الوسطى - وما زال العلماء يرددونه حتى الآن - هو أن اللغة: أصوات يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم. وفى العصور القديمة تحدث " أرسطو " عن ماهية اللغة ووظيفتها وهي عنده وظيفة عضوية في الإنسان ورموز لمعاني الأشياء. . بدأت حسيَّة ثم صارت تجريدية فهى إذن رموز لتجارب أفادها الإنسان في حياته. والمحدَثون لم يستريحوا للتعريف الذي شاع في القرون الوسطى. ورأوا فيه قصوراً في التطبيق، ففيه التعبير بالأصوات دون الألفاظ، وهو لا يمنع من اندراج الصراخ والموسيقى في مفهوم اللغة. كما أنه لا يشمل أغراض اللغة المتطورة لأنه يحصر غرضها في التعبير عن المقاصد مع أن أغراض اللغة - كما سنرى - قد تجاوزت هذا الحد بكثير. لذلك حاول المحدَثون وضع تعريف للغة يساير تطورها كما نراه الآن. ونورد فى هذا المجال تعريفين، أحدهما للمفكرين من غير علماء النفس، والثاني لعلماء النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أما تعريف المفكرين من غير علماء النفس فهو: " اللغة ألفاظ يُعبِّر بها كل قوم عن مقاصدهم. وتتخذ أداة للفهم والتفاهم والتفكير ونشر الثقافة والمعارف الإنسانية ". وقد روعى في هذا التعريف ما تتركه اللغة من آثار في واقع الحياة وهي: 1 - التعبير عما يجول في النفس من أحاسيس وأفكار. 2 - سهولة التفاهم بين الناس. وفهم ما يتبادلونه من آراء وأفكار. 3 - ضبط التفكير ودقته. 4 - نشر الثقافة بين الناس وتسجيلها ونقلها للأجيال. وأما تعريف - علماء النفس فهو: " اللغة هي الوسيلة التي يمكن بها تحليل صورة أو فكرة ذهنية إلى أجزائها أو خصائصها بعيث يمكن بها تركيب هذه الصورة مرة أخرى في أذهاننا أو أذهان غيرنا بوساطة تأليف كلمات في وضع خاص ". هذا التعريف يبين الخصائص النفسية للغة. وقد روعى فيه جانبان: 1 - حالة التعبير أو الإرسال. 2 - حالة الاستقبال أو التلقى. * * * * عناصر اللغة: وما دامت اللغة هي ألفاظاً، فإن موضوعها يشمل العناصر الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 1 - المفرد: واللفظ المفرد هو أول ما وُضِعَ من الكلام. وفيه تبدو اللغة في أبسط مظاهرها. لأن دلالته هي الفكرة الواحدة البسيطة سواء أكانت دلالة مستقلة أو بطريق الاشتراك مع ألفاظ أخرى مثل الترادفات. . وسواء خُص اللفظ بمعنى واحد أو كانت له معان ويظهر المراد منها بالقرائن. . ونريد ب " اللفظ المفرد " - هنا - الأسماء مطلقاً. دون الأفعال أو الحروف لأن الفعل لا يقع مفرداً وإن أمكن النطق به كذلك. لاستلزام الفعل فاعله. والحروف ليست لها دلالة مستقله. والاسم المفرد - سواء أكانت دلالته حسيَّة مثل الورق، أو معنوية مثل الحرية، فإن هذه الدلالة لا يمكن استفادتها من الاسم إلا بعد تجارب يمر بها الإنسان مع اللفظ نفسه، وهذه التجارب في الغالب تعتمد على المراحل الآتية: أولاً: كثرة المشاهدة والتكرار. ثانياً: موقف الإنسان من هذا الشيء المتكرر المشاهَد. ثالثاً: اختيار الإنسان ضابطاً لهذا الشيء وإطلاقه عليه. رابعاً: اشتهار ذلك الشيء بهذا الإطلاق وارتباطه به في الذهن وجوداً أو عدماً. هذه المراحل نظنها ضرورية لمشكلة وضع الأسماء على مسمياتها. ويمكن أن نسميها تجارب أصلية عامة كان لها دور كبير - وما زال - في وضع المفردات وهناك تجارب طارئة خاصة تكتنف دلالة المفرد. وتثير في الذهن شعوراً خاصاً مفرحاً أو مقبضاً حسب تجارب الشخص ونوعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فكان لفظ يحمل معه تجربة عامة أصلية. كانت السبب المؤثر في الوضع اللغوي، ولعل هذه التجارب هي التي حدت ببعض اللغويين إلى القول بأن بين الألفاظ ومدلولاتها تلازماً طبيعياً. وقد يحمل اللفظ معه تجربة خاصة طارئه "فكلمة " سجن " أو " حبس " تثير في النفس شعور القلق والنفور. . . وهذه تجربة أصلية عامة. وقد تثير هذه الكلمة - سجن - لشعور الابتهاج السرور إذا كان بين مَن يسمعها إنسان قد عمل في السجن، وترقى في درجات الوظائف فيه. وعاد عليه نفع كبير طيلة توليه عمله به. أو تمتع فيه بإدارة عمل حققت له نجاحا وشُهرة. وهذه تجربة طارئة خاصة لا يحس بها إلا مَن كانت له هذه الصفة. فإذا سمع هذه الكلمة آخر كان قد أمضى عقوبة في السجن وذاق في أثنائها ألوان العذاب والبؤس. فإنه يكاد يطير فزعاً لما تثيره فيه هذه الكلمة من الظلال الرهيبة، والذكريات الأليمة. . وذلك لاختلاف التجرية عند الرجلين فاختلفت آثار الكلمة فى النفس، وتباينت قيمتها الشعورية. . كل حسب تجربته الخاصة فهذه كلمة واحده، لكن معناها النفسي يختلف من فرد إلى آخر، لأنه معنى ذاتى خاص مقيَّد بتجارب الشخص نفسه. فالمعنى النفسي للفظ إحساس وشعور خاص وليد التجارب، والتجارب تختلف. فهو معنى قانوى إذا ما قيس بالمعنى الواقعى لمدلول الألفاظ. ويراد بالمعنى الواقعى: الخصائص التي استفيدت من التجارب الأصلية العامة التي مَر بنا شرحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وعلى هذا فإن الدلالة الواقعية هي الأصل المعتَبر في كل تعبير وهو المعنى الثابت للكلمة أو الدلالة القاموسية. وإلى هنا يمكننا أن نوجز وظيفة اللفظ المفرد من حيث الدلالة على معناه المستفَاد من التجارب الأصلية العامة. ونحلل هذه الوظيفة إلى المظاهر الآتية: إن لكل لفظ دلالة واقعية عامة هي الأصل. وقد تكون له دلالة طارئة خاصة ناتجة عن تجربة خاصة عاناها بعض الأفراد. والدلالة الواقعية العامة ضربان: الأول: دلالة سارة بأصل وضعها مثل: السعادة، النور، الفاكهة، الورد، العسل. الثاني: دلالة مقبضة بأصل وضعها - كذلك - مثل: الشوك، الظلام الحنظل. والمرجع في هذا كله هو التجارب. فإذا وجد إنساناً لم يكون تجربة عن كلمة، أولم يدرك تجربتيا الأصلية العامة. وجهل معناها. فإنه يكون ذا شعور متبلد لدى سماعه لها لا تثير فيه شعوراً أى شعور. ويقارن علماء النفس بين الدلالتين - الأصلية العامة والطائة الخاصة - على النحو التالي أولا: أن المعنى الواقعى العام موضوعى مشترك. يدرك مغزاه الجميع، ويمكن نقله. أما المعنى النفسي. . فذاتى خاص لا يدركه إلا الشخص نفسه موضوع التجربة، ولا يمكن نقله. ثانياً: أن المعنى الخارجى العام هو الدعامة التي يقوم عليها أساس التخاطب بين الناس ليمكن تصور المعنى على وجهة لا تختلف من فريق إلى فريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 والمعنى الذاتى بمنأى عن هذه المنزلة، فهو معنى ثان قد يُثار لدى الشخص إذا توافرت عنده دواعيه. فلا يصلح أن يكون وسيلة للتفاهم. * * * * عناصر المعنى اللغوي: الدلالة بنوعيها - الواقعى والخاص - تسمى الوظيفة الإشعاعية للفظ، ويبدو الإشعاع واضحاً عندما يكون اللفظ دالاً على ذات، لأنه عند سماعه يثير فى الذهن مدلوله الخارجى بشكله وهيئته وخصائصه وهذا هو المراد بالإشعاع. إذ هو قوة الإيحاء الذهنى، ووضوح التصوير. وهذا المعنى هو ما كان شائعاً فى دلالات اللفظ في اللغة القديمة قبل مرحلة التجريد. ويعزو بعض العلماء نشوء فكرة السحر والرقيا بوسيلة الكلمات إلى تلك القوة التصورية التي كانت تشع من اللفظ فجعلهم ينظرون إليه كأنه المدلول عليه نفسه بما له من قوة تصوير. أما عناصر هذه الدلالة الإشعاعية - أو المعنى - فإن العلامة " ريتشاردز " يراها على النحو التالى: 1 - المدلول: وهو الشى المقابل للكلمة، في عالم الواقع. سواء أكان هذا المقابل ذاتاً أو معنى يحصل تصوره في ذهن السامع. 2 - الشعور الوجدانى: ويراد به شعور المتكلم نحو الشيء الذي هو موضوع الحديث. فلكل مدلول عليه شعور وجدانى خاص هو الذي يساورنا حين نذكر الكلمة الدالة عليه. مثل: أب - وطن - غول - تفاح. . ألا تحس بتغيير فى شعورك الخاص نحو مدلول كل من الكلمات السالفة؟ وهذا الشعور الوجدانى هو الذي يرتبط بمدلول كل كلمة. فهو عنصر من عناصر المعنى الذي تحمله الكلمة في مدلولها العام. وقَلَّ أن تتجرد عنه كلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 إلا إذا كانت رموزاً رياضية أو علمية لم ترتبط بشعور خاص مثل الرقم (990) والعلامة (+) . . . وهكذا. 3 - النغم: فكل متكلم يعطى اللفظ نغمة خاصة تناسب حاله النفسية وتدل عليها مثل أن تقول: أنا فلان - في حالة فخر، وفي حالة إجابة عن استفهام عادى. فإن النغمة في حالة الفخر تختلف عنها في حالة الاستفهام العادى. . حادة قوية في الأولى، رقيقة في الحالة الثانية. ولذلك كان النبر في الكلام ذا دلالة واضحة على اختلاف المعاني مع اتحاد العبارات. ولذلك فإن كتابة العبارة تجردها من ميزة النغم. وتمخضها لدلالة واحدة هي التي جرى عليها الوضع والعُرف اللغوي. 4 - القصد: وهو ما يرادف الحال في البلاغة العربية. إذ هو الأمر الذى يدعو المتكلم إلى أن يقول كلاماً ما. وهذا العنصر خارج عن مدلول اللفظ الذاتى. بخلاف العناصر الثلاثة السابقة فإنها ذاتية له. * * * * الجملة اللغوية: الجملة اللغوية - سواء أكانت اسمية أو فعلية - أول مظهر مستقل من مظاهر اللغة لأن مدلولها معنى تام غالباً. وفي الجملة يظهر نوع من براعة التعبير حيث يُضَم معنى مفرد إلى آخر. واللوحة الفنية لا تحوز الإعجاب إن كانت مصنوعة من لون واحد. وإنما تحوز نصيباً منه إذا تألفت من لونين مثلاً. وإلى هذا المعنى يشير شيخ البلاغة العربية عبد القاهر الجرجانى في كتابه " دلائل الإعجاز " إذ يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 " والألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة. ولا من حيث هي كلم مفردة، ولكن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ، ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك فى موضع آخر ". وتقوم فلسفة الجملة اللغوية على قاعدة مؤداها أن تكشف العلاقة بين مفردين حقيقة أو تقديراً. حقيقة في الاسمية وتقديراً في الفعلية. وهذا هو أبسط تصور للجملة. فإذا تجاور مفردان على جهة من جهات الارتباط المعتبرة فى تكوين الجملة. صار ذلك المفردان " جملة " أو ألفاظاً مركبة تؤدى معنى من أجله صيغ التركيب. وأنواع الكلمات المكونة للجملة اسم أو فعل. لأن الاسم والفعل لهما دلالة مستقلة كل واحد على حدة. ولا يدخل الحرف في تكوينها الأساسى لعدم دلالته على معنى مستقل يمكن جعله ركناً في جملة التركيب. وقد تنوعت الجملة فى اللغة العربية إلى هذين النوعين: جملة اسمية: وهي ما كان المسند إليه فيها اسماً مقدماً على المسند حقيقة أو تقديراً، سواء أكان المسند اسماً كذلك أو جملة أو شبه جملة. وهي تدل على ثبوت المعنى المؤدية له. وجملة فعلية: وهي ما كان المسنَد إليه فيها اسماً مؤخراً على المسنَد " الفعل " ضرورة. . وتدل على تجدد المعنى المؤدية له وعلى حدوثه. وقد تقترن كلتا الجملتين بعناصر ثانوية - بعد ركنى الإسناد - تزيد المعنى وضوحاً. . وترتيب تلك العناصر في الذكر راجع إلى قانون تنظيمى " نحوي "، أو إلى اعتبار معنوي " بلاغى ". . ولاَ يجرى العمل فيها دونما توجيه. والمنهج الذي تقوم عليه الجملة في اللغة العربية يختلف باختلاف نوع الجملة نفسها. فإن كانت فعلية كان تكوينها على النحو الآتى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الفعل + الفاعل أو ما قام مقامه + متعلقات الفعل مثل المفعول به. وقد يُذكر بعد الفعل مباشرة غير الفاعل وغير المفعول به كالظرف إذا اقتضى ذلك مقتض. وإذا كانت اسمية جاء تكوينها على الوجه الآتى: - المسند إليه مع توابعه + المسند + متعلقات الإسناد. والسير على هذا المنهج العادى ليس بلازم، لأن تكوين الجملة في اللغة العربية تراعى فيه أسس تعبيرية تقوم على اعتبارات بلاغية على هداها تكون الجملة في وضع جديد. وهذا السلوك نراه في الأنماط الأدبية الرفيعة، كالقرآن الكريم، والآثار النبوية، والحِكَم والأمثال، ونراه في الأشعار الرائعة والنثر الفنى الأصيل. فمن القرآن الكريم نذكر: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) ، و (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) . . ففى الآيتين تقديم المسند " الخبر " - وهو الظرف في الآية اَلأولى، والجار والمجرور في الآية الثانية - على المسند إليه فيها وهو: " مَفَاتِحُ الْغَيْبِ " في الأولى. . . و " دار السلام " فى الثانية. ومثلها قوله تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا) ، وقوله: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) . والحال كذلك في تقديم بعض المتعلقات كقوله تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أقْصَا المدينَة رَجُلٌ يَسْعَى) : ف " رجل ": فاعل قُدمَ عليه متعلق الفعل: " مَنَ أقصا المدينة " فاصلاً بينه وبين الفعل، والمنهج العادى يأبى مثل هذا لكن الاعتبار البلاغى يوجبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ومن الأدب النبوى قوله عليه الصلاة والسلام: " إخوانكم خَوَلكم " والتقدير: خَوَلكم إخوانكم. وقد قال الشُراح إن المراد بهذا الحديث تشبيه " الخول " بالإخوان في حسن المعاملة إليهم. وحفظ الود لهم. فهو من التشبيه البليغ المؤكد. فقدم المسند على المسند إليه اعتناءً بشأن المقدم. واهتماماً به. وفي الأدب النبوى كثير من اللفتات البلاغية من هذا النوع وغيره يطول بنا التطواف لو أرخينا العنان. . فلنكتف بما قَل ودَلَّ. ومن الشعر الرائع. . قال الشاعر: أأتركُ إنْ قَلتْ دَرَاهِمُ خَالِدٍ. . . زِيَارَتَهُ إنَى إذَنْ للئِيمُ وقال ابن المعتز: وإنَى على إشْفاقِ عَيْنِى من العِدَى. . . لتَجْمَحُ مِنَى نَظرَةٌ ثم أطرِقُ وقال أيضا: وظلتْ تُدِيرُ الراحَ أيْدى جَآزِرٍ. . . عِتَاقِ دَنَانِيرِ الوُجُوهِ مِلاَحِ هذه ثلاثة أبيات من الشعر لم تجر على النسق العادى. ففى الأول فصل بين الفعل ومعموله بجملة الشرط، والأصل اتصال العامل بالمعمول. كما فصل فى الشطر الثاني من نفس البيت بين اسم " إن " - الضمير - وخبرها بأجنبى هو " إذن ". كما فصل ابن المعتز في البيت الثاني بين اسم: " ظل " وبينها بالخبر: "تدير الراح " وفيه تقديم الخبر على المبتداً أيضاً، ففيه فصل وتقديم كما ترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وفى البيت الثاني فصل بين اسم " إن " وخبرها بأجنبى هو " على إشفاق عينى من العدى " كما فصل بين الفعل: " لتجمح " وفاعله: " نظرة " بالجار والمجرور: " منى ". . وغير ذلك كثير. والطريقة التي يعتمد عليها المنهج العادى لتكوين الجملة الاسمية - إذا خلا المقام من دواعى التقديم والتأخير - أنه يفرق بين الأعرف والأقل أعرفية من ركنى الإسناد الخبرى. فالأعرف هو المسند إليه، وتقديمه هو الأصل. والأقل أعرفيه هو المسند. وذلك لأن المسند إليه هو موضوع الحديث ومحط الحكم، والحكم على المجهول لا يفيد. فإذا تساويا في التعريف فهما سيان في صحة وقوع كل منهما مسنداً إليه أو مسنداً. والفصل في ذلك هو الاعتبار الذى يجعله المتكلم نصب عينيه - مراعياً في ذلك حال المخاطب. إن طريقة التعبير في اللغة لا تخضع لقوالب جافة. وإنما هي مرنة طوع يد العبر تصور أحاسيسه ومعانيه. على أي وجه أراد حسبما يقتضيه الحال. * * * الأسلوب اللغوي. . معناه، وأنواعه، ووظيفته: معنى الأسلوب اللغوي: تشير معاجم اللغة إلى أن مفهوم الأسلوب هو الطريقة، يقال: سلكت أسلوب فلان - أي طريقته. ويقال - كذلك -: كلامه على أساليب حسنة. كما يقال للسطر من النخيل: أسلوب، وكل طريق ممتد فهو أسلوب. والأسلوب: الطريق والوجه والمذهب. يقال: أنتم في أسلوب سوء، ويجمع على أساليب، والأسلوب: الطريق تأخذ فيه. والأسلوب: الفن، يقال: أخذ فلان في أساليب من القول: أفانين منه. هذا معنى الأسلوب في القواميس وأسفار اللغة. والمتأخرون متأثرون بهذه التوجيهات في ضبط الأسلوب. ونعرض فيما يأتى آراء اثنين فذَّين منهما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 * رأى عبد القاهر الجرجانى: الأسلوب عند عبد القاهر الجرجانى يشمل جانبين: طريقة التفكير. . ثم طريقة الأداء اللفظي الذي يتجلى في أنماط التعبير. . قال: " واعلم أن الاحتذاء عند الشعر اء، وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه. أن يبتدئ الشاعر فى معنى وغرض أسلوياً - والأسلوب: الضرب من النظم والطريقة فيه - فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب فيجيء به في شِعره ". . ويتسع معنى الأسلوب عنده فينتظم من حيث التقعيد له، ووضع أصوله نظريات علم المعاني وما قرره فيها من توجيهات بلاغية لها بالأسلوب أوثق صلة. . ولا يهمل عبد القاهر توجيهات علم " النحو " وعلم " التصريف ". بل جعل النظم - الذي يرادف الأسلوب عنده - هو توخى معاني النحو بين الكلم. وهو بهذا يضفى على النحو مفهوماً أوسع من عُرف النحاة أنفسهم. فحكم اللفظ النحوى تابع لعرفة معناه ووظيفته في الأسلوب. وتوخى النحو بين الكلمات هو معرفة مواضعها من الصياغة الأسلوبية. قال: " إنه لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى الترتيب فى الألفاظ - من حيث هي ألفاظ - ترتيباً ونظماً دون أن تتوخى الترتيب فى المعاني. وتعمل الفكر هناك. فإذا تم لك ذاك أتبعتها الألفاظ، وقفوت بها آثارها. وإنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ. بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني. وتابعة لها، ولاحقة بها. . وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق ". والخلاصة أن عبد القاهر في هذا النص يربط ربطاً محكماً بين مظهرى الأسلوب الآنفى الذكر: طريقة التفكير، ثم الأداء اللفظي. فالأسلوب - عنده - مجموع الأمرين. وتوخى معاني النحو هو الذي يجعل الأسلوب يبدو بهذه الصورة المتألقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ويرى بعض المحدَثين أن عبد القاهر تفوته سمة لها وزنها في الأسلوب لم يتحدث عنها وهي اختيار الألفاظ والتأنق في الصياغة. والمدقق في هذا النص المذكور لعبد القاهر يرى أن عبد القاهر لم يفته ما آخذوه عليه. لأنه - أي عبد القاهر - لا يمنع على الفكر أو الأديب اختيار الألفاظ. ولعله ترك النص عليها - هنا - إحالة على ما ذكره في موضع آخر مما هو صريح في الدعوة إليها. وقد نقلنا نصاً له قبل ذلك بقليل يكفى مجرد الاطلاع عليه لتبرئة عبد القاهر مما رُمِىَ به فكان تحرى الدقة في الحكم على الرجل وتوجيهاته أولى بالتعجلين. * * * رأي ابن خلدون: الأسلوب عند ابن خلدون لا يرجع إلى إفادة التراكيب أصل المعنى (النحو) ولا إلى كماله (البيان) ولا موافقته للوزن (العروض) فذلك كله خارج عن صناعة الأسلوب - شعراً ونثراً -. وإنما الأسلوب عنده هو: الأداء اللفظى المطابق للصورة الذهنية لفهوم الأسلوب الناجم عن قوة الملكة في اللسان العربي الذي هو ثمرة الاعتماد على الطبع والتمرس بالكلام البليغ. ويسوق ابن خلدون نصاً مطولا عن الأسلوب يخرج منه الباحث بالنتائج الآتية: (أ) لا يدخل النحو ولا البلاغة ولا العروض في مفهوم الأسلوب. (ب) يرجع الأسلوب إلى الصور الذهنية للتراكيب المنظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ويصيرها كالقالب أو المنوال، ثم ينتقى لها التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان. (جـ) (لكل فن من فنون الكلام أسلوب خاص يميزه عما سواه من الفنون. فأسلوب الشعر غير أسلوب النثر. . . وهكذا. (د) إن الأساليب ليست من القياس في شيء. بل هي هينة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب العربية شِعراً ونثراً. لجريانها على اللسان. حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل. ويلاحَظ أن ابن خلدون عندما تحدث عن الأسلوب إنما كان يضع نصب عينيه الأسلوب في الصناعة الشعر ية. ولكنه عاد فعمم تلك القواعد التي يراها هو للأسلوب على المنظوم والمنثور إذ يقول: " وهذه القوالب كما تكون في المنظوم، تكون في المنثور ". هذه خلاصة مفهوم الأسلوب عند أديب ناقد، هو عبد القاهر الجرجانى، وعالم مؤرخ هو عبد الرحمن بن خلدون، وإننا حين نقارن بين ما قرراه، لا نجد كبير خلاف بل هما ينزحان من دلو واحدة، وإن اختلفا في طريق الورود. فقد رأينا الشيخ عبد القاهر يجعل الأسلوب منتزعاً من توخى معاني النحو بين الكلم، وفي نفس الوقت ينكر ابن خلدون هذا الفهم. ويجعله خارجاً عن مفهوم الأسلوب. ويخص ابن خلدون الأسلوب بالصور الذهنية المنتزعة من التراكيب الصحيحة وقد رأينا عبد القاهر لا يغفل قضية هذه الصور الذهنية. بل يجعلها الأساس الذي يصنع التراكيب حين تؤدى أداءً لفظياً بحيث يكون الأداء اللفظي تابعاً لترتيب المعاني في النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 والحقيقة أن الخلاف بين الرجلين يكاد يكون لفظياً، لأنهما يلتقيان عند الركنين الأساسيين للأسلوب: المعاني والألفاظ. وأحدهما ينظر إلى الألفاظ باعتبار تأديتها للمعاني وهو عبد القاهر. والثاني ينظر إلى المعاني باعتبار صياغتها فى تراكيب منتقاة. وهو ابن خلدون. . فهما - إذن - متفقان في الجملة وقديماً نحا أرسطو منحى عبد القاهر. إذ يرى أن الأسلوب هو " طريقة الصياغة " أو الأداء اللفظي الذي يتخذه الأديب أداة للتصوير والإبانة عن مشاعره وأحاسيسه ونقل تلك المشاعر والأحاسيس إلى الآخرين. كما نحا عبد الرحمن عثمان هذا المنحى إذ يقول: " الأسلوب هو طريقة التعبير اللفظي الجارية على نسق الفكرة والعربة عن أدق خفاياها ". ولا أخفى أنني أميل إلى مدرسة عبد القاهر الجرجانى في حد الأسلوب ومقوماته. وإن كنت أرى أن كلامه فيه مفتقر إلى الصقل والتركيز. وقد قسَّموا الأسلوب اللغوي إلى قسمين هما: أولاً - الأسلوب العلمي: تتسع وظيفة الأسلوب في العصر الحديث. وتخرج عن دائرة اختصاصها إلى ميادين أوسع وأرحب فيقال: أسلوب السياسة، وأسلوب الحكم، وأسلوب الإدارة. . هذه استعمالات نقرأها اليوم في الصحف. ونسمعها في الإذاعة والتليفزيون ولم تعد الكلمة مقصورة على فن القول. ولا غرابة فإن الأسلوب ملحوظ فيه معنى الطريقة. وهذا المعنى هو الذى جوَّز التعميم في الإطلاق، ولكن العتبر من هذه الإطلاقات التي شاعت الآن نوعان: الأسلوب العلمي، والأسلوب الأدبى. . ولكل من النوعين خصائص ومميزات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 والفرق الجوهرى الذي يميز بين الإثنين هو موضوع الحديث، والفكرة التي يكشف عنها. فإن كان موضوع الحديث حقائق ثابته يراد شرحها وتلخيصها لتقر فى الأذهان، وتأخذ شكل القوانين اليقينية أو ما يقرب منها، ويهدف منها الكاتب إلى إقناع القارئ أو السامع بالنتائج التي يتوصل إليها. ومثل هذا النوع من الأفكار يتطلب من الكاتب أو الباحث عملاً مخصوصاً. . . وطريقة معيَّنة. وهذا يُعرف بالأسلوب العلمي. ويتبع فيه الكاتب الخطوات الآتية: فعليه أولاً: أن يختار الأفكار التي يريد شرحها لجدتها أو قيمتها العلمية. ثم عليه ثانياً: أن يرتب هذه الأفكار ترتيباً منطقياً ليكون ذلك أدعى إلى فهمها وحسن تنسيقها وارتباطها في الذهن. وتسلسلها المؤدى إلى فهمها وقبولها. وعليه ثالثاً: أن يختار الألفاظ الواضحة الدلالة اللائمة للفكرة ليكشف بها عما في نفسه من قيم وحقائق وأفكار. وهو يتوجه بهذه الحقاق والأفكار إلى العقل: لأنه مركز التلقى والتحليل والاستنتاج - فالأسلوب العلمي موضوعه حقائق ذهنية ومظهره العام خبرى يجلى الواقع ويوضحه مويداً حقائقه بالأدلة والبراهين - عقلية. أو نقلية. أو تجريبية - والفكرة فيه يجب أن تنمو نمواً تصاعدياً. وهذا يقتضي تقسيمها إلى أجزاء. والألفاظ فيه يجب أن تكون محددة المعنى حتى لا يؤدى ذلك إلى غموض في الاستنتاج. ومن المسلَّم به أن الأسلوب العدمى تستخدم فيه - أحياناً - بعض مظاهر الأسلوب الأدبى - كالتشبيه والمجاز، ولكن معناه - والحالة هذه - يظل ذهنياً رتيباً. يدل على حقائق جافة تخاطب العقل. ليس للعاطفة شيها أدنى نصيب. الكلمات في الأسلوب العلمي لا بدَّ أن تدل على معانيها الوضعية أو الاصطلاحية الفنية، ولهذا اشترط الناطقة تجريد الألفاظ من معاني المجاز وإبقاءها على معانيها الوضعية وعابوا على السوفسطائيين استخدامهم المجاز فى القياس لأنه يؤدى إلى المغالطة في الاستنتاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ثانياً - الأسلوب الأدبي: الأسلوب الأدبي كالأسلوب العلمي فيه " أفكار " وله " ألفاظ " تحمل تلك الأفكار، والاختلاف بينهما يأتى من حيث نوع الفكرة التي يؤديها كل منهما، والعبارات الدالة عليها ووسيلة الإدراك التي يخاطبها. والفكرة فيه غير الحقائق الثابتة. بل هي معان وليدة الإحساس والشعور، ورؤى هي في طبيعتها فردية خاصة وإن إشترك فيها كثير من الأدباء، وقد تكون الفكرة في الأسلوب الأدبي حقيقة ثابتة لكن الأديب لا يعرضها في قوالب جافة وقوانين منطقية بل يعرضها عرضاً أدبيا أخاذاً كقوله عليه السلام: " إياكم وخضراء الدمن ". . قيل: من هى يا رسول الله؟ قال: " المرأة الحسناء في النبت السوء " فالحقيقة الثابتة - هنا - معروضة مع دليل التنفير منها لكنه دليل أدبي ذوقى. . لا علمى منطقى. ولذلك اختص الأسلوب الأدبي بالخصائص الآتية: (أ) استثارة العاطفة: العاطفة هي قِبْلة العبارة الأدبية. إياها تعنى ولها تتحدث. والعاطفة تتلقى شعوراً وانفعالات. فتتأثر بها. وتتأمل ما تتأثر به. ولا بدَّ لها من موقف إزاءه. هذا الموقف قد تتفق فيه العاطفة المتأثرة مع العاطفة المؤثرة. وقد تختلف معها. ولكنه على كل موقف صنعه ذلك التأثر. وهذا الموقف هو المسمى بالاستجابة للعمل الأدبي شِعراً أو نثراً وهو - كما في الحديث - إثارة شعور النفرة من المرأة المذكورة. وقد تكون الاستجابة إمتاعاً جمالياً مستوحى من التجربة موضوع الحديث. وقد تكون إشفاقاً أو رثاءً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 (ب) الخيال: ليس من سبيل أمام الأديب عندما يريد نقل تجربته، والتعبير عن شعوره وانفعالاته إلا الخيال الخصب. والصور الأدبية الناضرة يتخذ منها وسيلة للإبانة والكشف عما في الشعور. شريعة الأديب في البيان هي المجازات والتشبيهات والكنايات، وتصيد المشاهد الحية. . فالذي يُشرك بالخالق هاو سقط من السماء فتوزع في حواصل الطيور. أو جرفته الريح إلى مهاوى الهلاك السحيقة. والرجل الشجاع القلب أسد يزأر في صحراء مخيفة. والكريم الذي يصل رفده لكل سائل بحر زاخر يروى الظامئين. والتردد في أمره كالواقف في مكان يرفع رجلاً مرة ويضع مرة أخرى. . . والأغصان تحركها النسمات عرائس تتعانق بعد غياب طال. ولعل في بيت ابن الرومى الآتى - يصف الطبيعة أيام الرييع - أكبر دليل على مانقول: تَبَرجَتْ بعدحَيَاءٍ وخَفَرْ. . . تَبَرْجَ الأنْثَى تصَدَّتْ لِلذكرْ! والآن نوجز أهم الفروق بين الأسلوبين. . * الفروق بين العلمي والأدبي: 1 - الأسلوب العلمي يخاطب العقل - وموضوعه حقائق ثابتة أو كالثابتة. وقَل أن نجد فيه أثراً للانفعال، بينما الأسلوب الأدبي يخاطب العاطفة فيثيرها بما يبسطه أمامها من تجارب وقيم شعورية، وغايته الإمتاع الجَمالى والإقناع الذوقى، أما العلمي فهدفه الإقناع العقلي بما يستخلصه من نتائج مدعومة بالدليل. 2 - العبارات في الأسلوب العلمي دقيقة محددة الدلالة لا إيحاء فيها ولا تعميم. وفي الأسلوب الأدبي نجد فخامة الألفاظ والإيحاء والإثارة والشمول، وشيوع الخيال بما في اللفظ من دلالة مجازية وتشبيهية أو كنائية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 3 - التجرية في الأسلوب العلمي وسيلة إلى غاية أكبر منها تصير فى النهاية قاعدة أو قانوناً، وليس للتجرية بعد صياغة القاعدة منها أي قيمة إلا من حيث هي مظهر " تاريخى " من مظاهر تطور العلوم. أما التجرية في الأدب فهى نفسها " الغاية ". (جـ) التكرار لا يُحمد في الأسلوب العلمي، بينما يقوم بوظيفة هامة فى الأسلوب الأدبي إذا دعت إليه ضرورة بيانية. مثاله من القرآن تشبيه المنافقين بـ " رجل استوقد ناراً " مرة" ثم تشبيههم بعد ذلك مباشرة بـ " ذى صَيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ". . .! وتشبيه أعمال الكافرين بـ " السراب يحسبه الظمآن ماءً " مرة، ثم تشبيهها بعد ذلك بـ " ظلمات في بحر لجي ". . . * * * * صلة التعبير اللغوي بالتفكير: ولتحديد المشكلة في هذا الفرع نسأل سؤالاً فحواه: هل يمكن التفكير بدون لغة؟ أم اللغة ضرورية في كل عملية تفكير؟ ويجيب على هذا السؤال فريق من العلماء بما حاصله: إن اللغة ليست ضرورية - دائماً - في كل عملية تفكير. إذ يمكن التفكير بدون لغة كما فى حالات التأمل الذاتى - حديت النفس الصامت - وتنحصر وظيفة اللغة عند هذا الفريق في نقل الفكرة إلى الآخرين. فهى مظهر خارجى للتفكير فقط. . . . وآخرون أجابوا عن السؤال بما يلى: إن اللغة ضرورلة في كل تفكير مفيد، والإنسان يفكر بمعونة الكلمات لأنها ظلال للمعاني. ولا يمكن أن نفكر تفكيراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 منتظماً سليماً إلا بإدراك العلاقات بين مدلولات الألفاظ سواء أكان ذلك تفكيراً صامتاً - حديث النفس - أو كان ذا صوت مسموع. أما التفكير بدون لغة فيمكن إذا استبدلنا باللغة رموزاً أخرى تحل محلها في الدلالة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الرموز تصير لغة بديلة. وتكن النتيجة أن اللغة ضرورية فى كل تفكير. يقول الدكتور " بلارد ": هل نستطيع التفكير بدون لغة؟ نعم. . إذا استطعنا أن نحل محل اللغة رموزاً أخرى. ولكن كلما زاد التفكير عمقاً من المقارنة والاستنباط والوصول إلى الأحكام العامة. زادت حاجة العقل إلى استخدام اللغة. وإذا أمكن التفكير بدون لغة فإن هذا التفكير لا يستمر طويلاً وهو في هذه الحالة - أي التفكير - يحتاج إلى اللغة ليعتمد عليها في تحديده ودقته. نعم إن اللغة غير ضرورلة لكل عمليات العقل. ولكنها لا بدَّ منها عند التفكير المعنوي المحض. والذي أختاره في هذا المجال أن اللغة ضرورية لكل تفكير، لأن التفكير عمل، ولكل عمل مادة ومجال، ومادة التفكير لا تتحقق إلا عن طريق وحدات تدل على أجزائها وهي - هنا - المفردات اللغوية. وإذا تطورت الفكرة فلا بدَّ من تركيب وحداتها الدالة عليها - في جمل أو أسلوب - والعقل الفكر لا يصنع تفكيره من الوهم بل لا بدَّ من ضبط أجزاء الفكرة بضوابط يستطيع إخضاعها في عملية التفكير للتصور والقياس. وإلا كان التفكير أوهاماً تتبدد سراعاً. والإنسان يفكر - أحياناً - نتيجة لا يسمعه أو يقرأه. والتفكير الاجتماعى يصحبه تعبير، والتعبير في أسمى مظاهره يتكون من جمل وأساليب، وإذن فلدينا دائرة متصلة الحلقات. تبدأ بتأثر المفرد بالمجتمع عن طريق اللغة - سمعاً أو قراءة أو رؤية - فيفكر نتيجة لهذا التأثر ثم يُعبِّر عن تفكيره وهكذا تصبح اللغة سبباً ونتيجة معاً. سبباً في التفكير ونتيجة له. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 * مناقشة سريعة: والآن هل يستطيع القائلون بجواز التفكير بدون لغة أن يجيبوا على هذه الأسئلة، وإذا أجابوا فإلى أي مدى تكون إجاباتهم صائبة؟ س: هل يمكن أن يجرى الإنسان معادلة جبرية دون أن تكون هناك رموز - نائبة عن اللغة - تمثل حدى المعادلة؟ س: هل يمكن أن يتوصل إنسان إلى نتيجة قياس منطقى ما لم تكن هناك ألفاظ أو عبارات تتكون منها مقدمتا القياس؟ س: لو عزلنا طفلاً - منذ ولادته - عن أي مؤثر خارجى يتعلم من خلاله مفردات لغوية وأهملناه من هذه الناحية حتى بلغ قادراً على الكلام. فإذا طلبنا منه أن يُكوِّن جملة لغوية فهل يمكن أن يفهم ما نقول؟. وإذا فهم - وهذا محال - فهل يستطيع أن يُكون تلك الجملة؟ لا أظن أن لدى القائلين بإمكان التفكير بدون لغة إجابات مقبولة على هذه الفروض، وغيرها كثير. ومن هنا تظهر أهمية اللغة في التفكير إذ هي وسيلته تكويناً ونقلاً. . والذين يقولون بعكس هذا يجردون اللغة من أخص خصائصها. * * * * صلة التعبير اللغوي بالذكاء: اللغة من حيث صلتها بالتفكير تكونه وتبرزه، ولها به صلة أخرى بعد الإيجاد والبروز، هي أنها تسهم في كيفيته فتجعله تفكيراً ذكياً فيكتسب الفكر عن طريقها مَلكة الذكاء. والذكاء هو سرعة الفهم والاستنتاج ودقة القياس وسلامة النتائج. وقد أشار الأستاذ " تشارلز سنكر " إلى العلاقة بين اللغة والذكاء فقال: "من المتفق عليه بين علماء اللغة عامة وجود عامل ارتباط إيجابى مهم بين نتائج قياس الذكاء والقدرة اللغوية. ذلك لأن جزءاً كبيراً من مقاييس الذكاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 المستعملة في العادة لغوي. وعلى هذا فيجوز أن يكون هذا العامل نتيجة لأن بعض اختبارات الذكاء هي أيضاً لغوية. على أن ثمة أمراً واضحاً يستفاد من وجود هذا الأمر هو أن الإجابات اللغوية نوع هام من سلوك الإنسان الذي يمكن أن يوصف بالذكاء وعدمه ". والذي يُفهم من هذا النص أن قُدرة الإنسان اللغوية تتناسب تناسباً طردياً مع قدرات الذكاء. فكلما زادت مقدرته اللغوية زادت درجة الذكاء عنده. هذه صلة، وصلة أخرى بين الذكاء واللغة باعتبار اللغة جزءاً هاماً من سلوك الذى يوصف بأنه ذكى أو غير ذكى. ولتوضيح هذا يقول الأستاذ " ألبرت " ما نصه: " فنوع الإنشاء ذو قيمة أهم من كمها، ولا يدل فقط على ما عند النشء من قدرة لغوية. ولكن يدل أيضاً على ما عنده من قدرة تربوية. بل وقبل هذا يدل على ذكاء المفرد العام، فهو إذن مقياس دقيق من غير شك ". و" ألبرت " في هذا النص يتخذ " التعبير الإنشائى " مقياساً من مقاييس الذكاء وكيفية التعبير هي الدلالة دون الكم، وكيفية التعبير المشار إليها تعتمد فى جودتها - كما يرون - على العناصر الآتية: صحة الأفكار وتنسيقها، عمقها وجدتها، ربطها ودقتها، تسلسلها وتتابعها، إصابه الهدف المقصود من الكلام (مراعاة الكلام لمقتضى الحال) ، اختيار اللفظ المناسب. ولذلك فإنهم يرون أن ضعف الذكاء عند بعض الأطفال سببه ضعف القدرات العامة عنده. ولا سيما اللغة كالقراءة والهجاء. كما يرون أن الصم البكم لا تصل نسبة ذكائهم إلى ما تصل إليه نسبة الذكاء عند الأطفال العاديين. ذلك لأنهم محرومون من استخدام اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 والواقع أن اللغة عامل هام في تنمية الذكاء وحدته. ما دامت اللغة هى الأداة في التفكير. فالأشخاص الذين يفكرون تفكيراً عميقاً مضطرون للبحث عن معلومات ومعارف، ونتيجة ذلك أنهم يحصلون على ثروة هائلة من تلك الأفكار. وبديهى أن هذه الأفكار تستدعى الكلمات التي تدل عليها. وبها يكون التحصيل والتفكير. . ونحن نطلق على مثل هؤلاء أنهم مفكرون أذكياء. * * * * وظيفة اللغة - إذن - ما هي؟ إن الشائع بين الناس - قديماً وحديثاً - أن اللغة وسيلة لنقل الأفكار. وحول هذا المعنى حام كثير من المفكرين، فهذا " هنرى سويت " يُعرِّف وظيفة اللغة تعريفاً كلاسيكياً فيقول: " إن اللغة هي التعبير عن الأفكار بوساطة الأصوات الكلامية المؤتلفة في كلمات ". ويذهب " إدوارد سابير ". نفس المذهب إذ يقول: " اللغة وسيلة إنسانية خالصة وغير غرزية إطلاقاً لتوصيل الأفكار. والانفعالات والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقه إرادية ". ويتابع الأستاذين " هنرى " و " إدوارد " كثير من المحدَثين على ما بينهم من اختلافات في الذاهب الفكرية. . . إذ يرون أن الوظيفة الأساسية للغة هى أنها وسيلة من وسائل الاتصال أو التوصيل. أو النقل أو التعبير عن طريق " الأصوات الكلامية " وأن ما توصله اللغة أو تنقله أو تعبر عنه هو الأفكار والمعاني والانفعالات والرغبات. . . إلخ، فاللغة عندهم لا تعدو أن تكون مرآة عاكسة للفكر، أو مستودعاً للفكر النعكس. . ويلخص " جوفنز "" الإنجليزي وظيفة اللغة فيما يأتى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 1 - أن اللغة وسيلة للتفكير. 2 - إنها عون آلي للتفكير. 3 - إنها وسيلة للتسجيل وللرجوع إلى ما سجل. ويقول " جوفنز ": " إن اللغة في نشأتها الأولى كانت تستعمل في الغرض الأولى على وجه المخصوص إن لم يكن استعمالها فيه وحده ". ولم يرتض الأستاذ " يسبرسن " ما قاله " جوفتز " وناقشه مناقشة خرج منها بأن الباحث المنصف لا يستطيع أن يتابع رأى " جوفنز " باعتبار ما ذكره من أن الأغراض الثلاثة هو الغاية الوحيدة للغة؛ لأن هذا لا يتحقق إلا عند المفكرين في أسمى لحظاتهم الأكاديمية. وجاءا "فالينوفسكى " العالم الأنثروبولوجى فخطا خطوات ملحوظة فى تغيير النظر إلى اللغة، فقد أدركَ عندما كان يدرس بعض المجتمعات البدائية والفطرية أن دراسته لن تصح دون معرفة الوظيفة التي تقوم بها اللغة فى المجتمع، ومن هنا كانت نظريته الهمة في اللغة. . . والتي أسهمت إلى حد كبير في تطور الفكر اللغوي. . وخلاصة نظريته: " إن اللغة ليست مجرد وسيلة للتفاهم أو التوصيل، بل هي حلقة في سلسلة النشاط الإنسانى المنتظم. وهي جزء من السلوك الإنسانى. "هى ضرب من العمل وليست أداة "عاكسة" للفكر. تبلورت هذه النظرية وتبناها الكثيرون، وذكروا أنماطاً من التعبير لم يكن المراد من اللغة فيها هو مجرد النقل. ومن تلك الأنماط التي ذكرها: 1 - المنولوج: ويُعرف بأنه حديث الإنسان لنفسه. أو الكلام الانفرادي كالتفكير بصوت مسموع، ومثله الكلمات التي تتردد على الأفواه عند فقد عزيز. أو فراق صديق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 2 - السلوك الجَماعى: ويُطلق هذا النوع على ما يدور بين الجماعات فى المواسم الدينية - مثلاً - كالحج والجُمَع والأعياد، وكالأناشيد والأدعية. 3 - لغة التأدب: ويقصدون بها ما يجرى بين الناس في مواقف معيَّنة مثل: شكراً، وآسف. 4 - عبارات التحية: ويقرب هذا النوع من سابقه مثل: " مرحباً بك "، "كيف حالك؟. لاحظ الباحثون أن هذه الأضرب من التعبير وما ماثلها، ليس ملحوظاً فيها معنى النقل، لأن المراد بها مجرد الترويح عن النفس أو العبادة، أو إظهار الأسف أو السرور. ولذلك استنتجوا أن اللغة قد تستعمل - أحياناً - في أغراض غير النقل والتوصيل ومَن يُقصر اللغة على هذه الوظيفة فقد قلل من شأنها. وبعد هذا الغرض لآراء المفكرين نوجز: وظائف اللغة فيما يأتى: أولاً: أن اللغة نشأت كضرورة من ضرورات المجتمع البَشرى، وكانت فى عصورها الأولى ذات مظاهر بدائية كبدائية الإنسان نفسه، ثم تطورت بتطور الحياة المستمر فأخذت تنمو حتى أصبحت ذات قواعد وأصول وفروع. وأنها فى نشأتها الأولى كانت مقصورة على التفاهم البسيط ونقل الأفكار من طرف إلى آخر، بعيدة كل البعد عن استخدامها في أغراض جَمالية. ثانيا: أن اللغة تؤدى دوراً هاماً في صنع الحضارة الإنسانية وإليها يعزى كل تقدم حضارى باعتبارها وسيلة هامة فيه مباشرة أو غير مباشرة. ثالثاً: وللغة - أيضاً - وظيفة نفعية، وقد كانت - كذلك - في عصورها الأولى. . ويراد بنفعية اللغة أنها كانت أداة من أدوات العمل لها علاقاتها المباشرة بالمدلول، لا يلحظ منها معنى فنى جَمالى. وعلماء النفس يسمون هذه الوظيفة: وظيفة اللغة الاجتماعية النفعية. . ويلخص " ألبرت " وظائف اللغة الاجتماعية فيما يأتى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 1 - أنها تجعل للأفكار والمعارف الإنسانية قيماً اجتماعية. 2 - أنها تحتفظ بالتراث والتقاليد الاجتماعية جيلاً بعد جيل. 3 - أنها تساعد المفرد على تكييف سلوكه وضبطه. 4 - إنها تزود الفرد بأدوات التفكير. رابعاً: وللغة - كذلك - وظيفة جَمالية - وقد وُجدَت متأخرة عن الوظيفة النفعية العملية، فجاءت الوظيفة الجَمالية نتيجة لرقى المجتمع وتطور الحياة. ولعل أول مَن فرق بين وظيفة اللغة النفعية ووظيفتها الجَمالية الفنية هو " أرسطو " حد تصدَّى للرد على الذين يقولون: إن القبيح يظل قبيحاً مهما كان التعبير عنها ويذكر أن الأشياء القبيحة قد يُعبر عنها بما يستر قبحها - كما إذا أسمينا أرسطى " قاتل أمه " أو سميناه " المنتقم لأبيه ". ووظيفة اللغة الجَمالية هي الهدف من كل الفنون والآداب. . وغايتها الإمتاع ولكنها لا تخلو من النفع غالباً، لأن الفن الجدير بالتقدير هو ما كان للمجتمع وليس للفن. وهي في " الفن للفن "، وظيفة جَمالية إمتاعية فحسب، أما في " الفن للمجتمع " فهى وظيفة جَمالية إمتاعية نفعية. ولا شك أن الوظيفة الجَمالية الإمتاعية تتفاوت في القوة والضعف بحسب النماذج اللغوية التي تؤديها، لأن الأساليب تتفاوت فيما بينها في هذا المجال . . . ولجمال الأساليب أسس ومقومات إذا توافرت في الأسلوب عُدَّ من النماذج الأدبية الرفيعة وتناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل. وسنعرض في الفصل التالى للأسس والمقومات التي تصقل العمل الأدبى وتُكسبه الأصالة والجدة الخالدة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الفصل الثاني قيمة الوجوه البلاغية في جمال التعبير اللغوي ندرس في هذا الفصل المقومات البلاغية في تكوين الأسلوب الأدبي الرفيع، ودور هذه الوجوه في توجيه النقد الأدبي في مراحله المختلفة. محاولين بذلك دفع الهجوم الظالم على البلاغة العربية ومحاولة التهوين من شأنها في مجال النماذج الأدبية ونقدها. عارضين كل ذلك في إيجاز واف. ويجب أن نُفرِّق - من الآن - بين مسألتين هامتين: الأولى: البلاغة كفن من فنون الجَمال التعبيرى. والثانية: البلاغة كعلم له قواعد وأصول. والبلاغة كفن سابقة في الوجود على البلاغة كعلم، لأن البلاغة كعلم لم تُستنبط إلا في مرحلة متأخرة عن وجود موضوعها ومجالها الذي برزت فيه. شأنها في ذلك شأن جميع العلوم اللغوية، فعلم النحو وعلم الصرف وعلم العروض إنما وجدَت نتيجة للبحث والدراسة في النصوص النثرية والشعر ية. . والعربي إنما كانَ يتكلم على هدى من علمي النحو والصرف دون وقوفهَ على تلك الاصطلاحات التي جَدت في عصور الدراسة والتدوين، والشاعر العربي كان ينطلق في شعره دون أن يدرى على أي بحر من بحور الخليل أنشأ قصيدته. ودون أن يعلَم ما شاع في شِعره من علل أو زحاف. وكذلك كان البليغ منهم يجرى في تعبيره مع سجيته. ويصور معانيه كما يحسها خياله مشبهاً ومكنياً ومستعيراً، ومقدَماً ومؤخراً. ومؤكداً أو تاركاً للتوكيد. . . إلى آخر هذه الاعتبارات دون أن يلحظ ما توصل إليه السكاكى أخيراً من تأصيل وتقعيد لعلم البلاغة: معانيها وبيانها ومحسناتها في المعنى أو اللفظ. هذه حقيقة لا يمكن أن تُنكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 * العصر الجاهلي: وقد نشأت البلاغة كعلم نتيجة للملاحظات التي برزت أمام النُقاد في التراث العربي الأصيل. بدأت هذه الملاحظات من العصر الجاهلى، ذلك لأن الرواية العربية تنقل لنا من تلك الملاحظات ضوءاً ينبئ عن إحساس العرب بمواطن الجودة والرداءة في الأساليب الأدبية. تذكر الرواية العربية أن طرفه بن العبد - الشاعر الجاهلى - عاب قول الملتمس - أو المسيب بن علس، على خلاف في هذه الرواية - لأنه قال: وقَد أتناسَى الهمَّ عند احتِضارِهِ. . . بِناجٍ عليه الصيْعَرِّيَةُ مُكْدِمُ تقول الرواية: إن طرفة حين سمع هذا البيت - وكان طفلاً - قال كلمته المشهورة: استنوق الجمل. إشارة إلى خطأ في الاستعمال اللغوي لكلمة " الصيعرية " لأن الشاعر استعملها صفة للجمل، وهي لا تكون إلا صفة للناقة في العُرف اللغوي. ومن هذه الجهة كان نقده. ويبدو أن طُرفة كان متعجلاً في نقده. لأن للشاعر مندوحة تصحح له هذا الاستعمال إذ تنص المعاجم اللغوية على أن اختصاص الناقة بهذا الوصف إنما هو فى لغة اليمن دون لغة الحجاز. والمتتبع للملاحظات التي كان يدركها النقاد الجاهليون يمكن أن يخضعها لثلاثة مظاهر. . أولها: خروج الشاعر عن الواقع أو مراعاة عنصر الصدق في الحديث. وتطبيقاً لها المبدأ عابوا قول المهلهل بن ربيعة: فَلوْلاَ الريحُ أسْمَعَ مَنْ بحُجزٍ. . . صَلِيلُ البِيضِ تُقْرَعُ بالذكُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 لاشتماله على مبالغة مستكرهة، لأن بين " حجر " وهو قصبة اليمامة وبين مكان الموقعة مسيرة عشرة أيام. ولهذا عدُّوا قوله هذا " أكذب بيت قالته العرب ". ذلك لأن العربي لا يميل إلى المبالغة والتهويل في تصوير عواطفه. وإنما يسير مع الواقع المحسوس، أو يقاربه. ولهذا - أيضاً - لم يعيبوا قول أوس بن حجر يصف السحاب: دَانٍ مسِفٌّ فُوَيْقَ الأرض هَيْدَبُهُ. . . يكادُ يَلمسُهُ مَنْ قام بالراحِ لأنه لم يُغرب في تصويره لدنو السحاب من الأرض، فذلك منظر مألوف فى صحراء العرب! والنفس العربية مولعة به دائماً لأن فيه أسباب الحياة، والشاعر حتى مع هذا الإلف، وحب النفس للسحاب، احترس من الغلو فى المبالغة فأتى بكلمة " يكاد " ليكون معناه مقبولاً. ثانيها: الربط القوى بين الألفاظ وما تدل عليه. وعليه عابوا قول الملتمس السابق لأنه خالف العُرف اللغوي فاستعمل اللفظ في غير موضعه. . وإن التمسنا وجهاً لصحته كما سبق. ثالثها: النظر في اللفظ من حيث دلالته على معناه الجمالى، ولذلك عاب النابغة الذبياني قول حسان بن ثابت: لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعْنَ بالضُّحَى. . . وأ اصْيَافُنَا يَقْطرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَما وَلدْنا بَنِى العَنْقَاءِ وابَنْى مُحَرقٍ. . . فَأكْرِمْ بِنَا خالاً وأكْرِمْ بنا أبْنمًا قال النابغة لحسان: " إنك لشاعر لولا أنك قللتَ جفانك، وفخرتَ بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، وقلتَ: " يلمعن في الضحى " ولو قلت: " يبرقن فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الدُجَى " لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً. وقلت:" يقطرن من نجدة دماً ". . . ولو قلتَ: " يجرين " لكان أكثر لانصباب الدم. هذه الملاحظات تدل - وإن تطرق إليها الشك أحياناً - على إدراك العريى لصقل الشعر ووقوفه على مواطن الجودة والجمال فيه. وقد نقلت هذه الرواية أن زهيراً كان يقلب النظر في شِعره ينقحه ويهذبه حولاً كاملاً حتى سميت قصائده بـ " الحوليات " وكان زهير هذا رائد مدرسة أدبية لها أتباعها والمعجبون بها. . مثل ابنه كعب، والحطيئة وهدبة بن الحشرم العذرى. وعنه أخذها جميل بن معمر، وعن جميل تلقاها كثير عزة. وللعرب في الجاهلية أسواقهم المعروفة (عكاظ - وذو المجاز - وذو المجنة) التي كان الشعر اء يعرضون فيها نتاجهم الأدبي ليقول النقاد فيه رأيهم. . فهى أشبه ما تكون بالمهرجانات الأدبية التي تُقام كل عام مرة في العصر الحديث. بَيْدَ أن النقد عندهم كان يعتمد على اللمحة الخاطفة والبساطة والإيجاز، ومرجعه في الغالب إلى الذوق وإلى معايير غير الذوق كالجوانب الثلاثة التى عرضنا أمثلة لها آنفاً. * * * * العصر الإسلامي: وفي العصر الإسلامى جدَّت ظاهرتان كان لهما أعظم الأثر في توجيه الأدب وتهذيب الأساليب وتربية الذوق. وهما: القرآن الكريم، والآثار النبوية الشريفة، فقد جاء القرآن حافلاً بصور البيان. وضروب البديع. وجدة المعنى. وقوة الأسلوب وجزالته ووضوح المعنى وطرافته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فالقرآن - نفسه - شاهد صدق. وآياته تفيض بالبيان الرفيع في كل حين بإذن ربها. فقد بهر العرب وتحداهم فحاولوا. وحاولوا فعجزوا واعترفوا بأنه ليس من عمل بَشر. فقد سمع الوليد بن المغيرة - أحد خصوم الرسول الألداء - الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقرأ صدر سورة " فصلت " فأعجب بها أيما إعجاب. ثم قال: " والله لقد سمعتُ من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن. وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق ". وكان من أبرز الملاحظات التي أثارها القرآن تشبيهه طلع " شجرة الزقوم " برءوس الشياطين، وهي ليست معروفة عندهم. وكانت هذه الملاحظة سبباً فى وضع أبى عبيدة كتابه " مجاز القرآن ". وأسهمت أحاديث الرسول عليه السلام في تطور الملاحظات البلاغية لأنه - عليه السلام - كان بليغاً فصيحاً - هو كما يقول الجاحظ: " لم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشَّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة. وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام. مع استغنائه عن إعادته. وقلة حاجة السامع إلى معاودته ". وكانت خطب الصحابة، مثل أبى بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم، والأمثال والحكم المأثورة عنهم وعن غيرهم نماذج رائعة للأسلوب البليغ فحفظها الناس وروتها الأجيال. * * * * العصر الأموي: وجاء العصر الأموى وهو عصر كان طابعه العام الفتن السياسية التي مزقت أوصال الأمة وفرقتها شيعاً وأحزاباً. . شيعة وزبيريين، وأمويين وخوارج، وأعادت العصبية العربية إلى الوجود مرة أخرى، وكانت ملاحظات هذا العصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ترجع إلى الذوق العربي والاحتكام إلى اللغة كالنحو والصرف واستقرت الاتجاهات النقدية في هذه الفترة في نواح ثلاث: الأولى: نقد الذوأقين من الأدباء والخلفاء والرواة. والثانية: الموازنة الدقيقة بين نصين اتحدا في الموضوع أو بين شاعرين يجمعهما مذهب شِعرى واحد. والثالثة: النقد العلمي المحتكم فيه إلى اللغة والنحو، ونذكر لكل مثالاً فيما يأتى: فمن نقد الذواقين قال أبو النجم يصف فرساً: * يسبْحُ أُخراهُ وَيطفُو أولُه* فنقده الأصمعى بقوله: إذا كان - الفرس - كذلك فحمار الكساح أسرع منه، لأن اضطراب مؤخره قبيح، وإنما الوجه ما قال أعرابى في وصف فرس أبى الأعور السلمى: مر كَلمْح البَرْقِ شامَ نَاظِرُهْ. . . يَسْبَحُ أولاَهُ وَيْطفُو آخِرُهْ فَمَا يَمَسُّ الأرضَ مِنْهُ حَافِرُهْ وقد طابق الأصمعى - هنا - بين المضمون والشكل - أو بين المعنى والصورة - فوجد اضطراباً في المعنى نجم عن تعبير الشاعر عنه بقوله: " يسبح أُخراه. فنقده نقداً جمع فيه بين ذوق اهتدى بالفكر إلى فساد ما ذهب إليه الشاعر. ومن نقد الموازنات أنشد بشار بن برد قول كثير عزة: ألاَ إنمَا ليْلى عصى خَيْزَرَانَةٍ. . . إذَا غَمزُوها بِالاكُفِّ تَلينُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فقال: لله أبو صخر، جعلها خيزرانة، فوالله لو جعلها عصا زبد لهجنها، ألا قال كما قلت: إذَا قَامتْ لحاجتِها تثنَتْ. . . كأنَ عِظامَهَا مِنْ خَيْزَرَانِ أقول: وقد فات بشاراً في نقده للبيت المذكور ملحظ آخر. . هو أن كثيراً جعل " ليلى " في قوله هذا مشاعاً بين الغامزين. . وكان الأحرى أن يثبت لها الصون والعفاف. . ومن النقد العلمي المحتكم إلى اللغة قول الحضرمى ينقد الفرزدق في قوله: وعَفى زَمانٍ يا ابْنَ مَرْوَانَ لمْ يَدَعْ. . . مِنَ الناسِ إلا مُسْحِتاً أو مُجلَّفُ فقد نقده أبو عبد الله الحضرمى النحوى بأنه عطف المرفوع: " مجلف " على المنصوب: " مسحتاً ". والاحتكام في هذا النقد راجع إلى النحو. وقال الفرزدق أيضاً: وإذَا الرجالُ رَاوا يَزِيدَ رَأيْتَهُم. . . خُضْعَ الرقابِ نَواكِسَ الأبصارِ فنقده أبو العباس محمد بن يزيد النحوى بأنه جمع " ناكس " على " نواكس " وفواعل خاص بالمؤنث. . ولم يجمع الذكر على فواعل إلا في موضعين " فوارس " و " هوالك " والمحتكَم إليه في هذا النقد هو الصرف. " والحق أن الملاحظات البيانية كثرت. في هذا العصر، وهي كثرة عملت فيها بواعث كثيرة، فقد تمصر العرب واستقروا في الأمصار وازدهرت حياتهم العقلية وأخذوا يتجادلون في جميع شئونهم السياسية والعقدية. . ونما العقل العربي نمواً واسعا، فكان طبعيا أن ينمو النظر في بلاغة الكلام، وأن تكثر الملاحظات التصلة بحسن البيان لا في مجال الخطابة والخطباء فقط. بل في مجال الشعر والشعر اء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ومع هذا الاتساع في إدراك الملاحظات البلاغية، فقد ظلت - كما هو الحال فى العصرين: الجاهلى والإسلامى - متصلة بالنقد في أدق معانيه. * * * * العصر العباسي: وفي العصر العباسي تجددت الحياة في كل جانب من جوانبها، وازدهرت الثقافة والفكر ازدهاراً عكس آثاره على كل لون من ألوان الحضارة الإسلامية، والباحث يرى خصائص العصر العباسي لم تتوافر لسواه، وهي تتمثل في ثلاث نواح: الأولى: امتداد زمانى من سنة (132 إلى سنة 656 هـ) حين سقطت بغداد فى يد المغول بزعامة قائدهم هولاكو. الثانية: امتداد مساحى اتسعت رُقعة الدولة فيه وانتظمت تحت لوائها كثير من الأقطار والشعوب الأجنبية. الثالثة: امتداد ثقافى في جميع الفنون والعلوم ونشطت حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، وامتزجت الثقافة العربية بغيرها من لغات الأمم التي شملها الفتح الإسلامى. جاء في كتاب " تاريخ آداب اللغة العربية " لجرجى زيدان تلخيص للكتب التي نقلت إلى اللغة العربية في العصر العباسي الأول (132 - 332 هـ) نوجزه فيما يأتى: بلغت الكتب التي نُقِلت إلى اللغة العربية من اللغات الأخرى بضع مئات، منها ثمانية في الفلسفة والأدب لأفلاطون، وتسعة عشر في الفلسفة والمنطق والأدب لأرسطو، وعشرة في الطب لأبقراط. وثمانبة وأربعون في الطب لجالينوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وبضعة وعشرون كتاباً في الرياضيات والنجوم لأقليدس وآخرين، ونحو عشرين كتاباً عن الفارسية في التاريخ والأدب. ونحو ثلاثين كتاباً من السنسكريتية وأكثرها في الرياضيات والطب والنجوم والأدب. ونحو عشرين كتاباً من اللغة السريانية أو القبطية، وهناك بضعة كتب نقلت من اللاتينية والعبرانية ". لهذه العوامل الثلاثة كان العصر العباسي هو العصر المذهبى بحق في مجال العلوم والفنون، وقد حفل شأن هذا العصر بفحول العلماء والأدباء والنُقاد والقُراء والخطباء. ونبغ فيه أعلام الفكر العربي الإسلامى نبوغاً منقطع النظير، ووُضِعت فيه كثير من الكتب. فقد وضع كتاب " مجاز القرآن " لأبى عبيدة معمر بن المثنى (188 هـ) الذي ألفه للفضل بن الرييع. وبعده كان كتاب " معاني القرآن " لأبى زكريا الفراء (207 هـ) وقد تحدث في كتابه هذا عن بعض الوجوه البلاغية مثل الكناية والتشبيه والتمثيل والاستعارة، ولكنه لم يُصرح بذكر اسمها. ووضع فيه الجاحظ (المتوفى 255 هـ) كتابيه "البيان والتبيين "، و" الحيوان " وفيهما - وخاصة الأول - كثير من التوجيهات البلاغية وهو أول مَنْ يُصرح باسم الاستعارة إذ يقول في قول الشاعر: وَطفِفَتْ سَحَابَة تَغْشَاها. . . تَبْكِى عَلى إِعَراصِها عَيْنَاهَا " جعل الطر بكاء من السحاب على طريق الاستعارة. وهي تسمية الشيء باسم غيره إذ قام مقامه ". وللجاحظ كتاب آخر غير المذكورين سماه " نظم القرآن " تحدث فيه عن كثير من الفنون البلاغية ولهذا يعده بعض المحدَثين بأنه واضع علم البلاغة. وجاء بعد الجاحظ تلميذه ابن قتيبة (المتوفى 276 هـ) ووضع كتابه " تأويل مشكل القرآن الكريم "، ولعله انتفع ببحوث أستاذه الجاحظ في هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 المجال وتكاد تتفق تحليلاته البلاغية للنصوص مع ما انتهى إليه الرأي عند المتأخرين من علماء البلاغة. انظر إليه يقول: " العرب تستعير الكلمة إذا كان المسمى بها بسبب من الأخرى، أو مجاوراً له، أو مشاكلاً: فيقال للنبات: " نوء "، لأنه يكون من النوء عندهم. . ويقولون للمطر: " سماء "لأنه من السماء ينزل، فيقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. . قال الشاعر: إذ نَزلَ السماءُ بِأرْضِ قَوْمٍ. . . رَعَيْنَاهُ وإنْ كانوا غِضابا ويقولون: ضحكت الأرض - إذا أنبتت - لأنها تبدى من حسن النبات وتتفتق عن الزهر كما يفتر الضاحك عن الثغر. . ولذلك قيل لطلع النخل إذا انفتق عنه كافوره: الضحك! لأنه يبدو منه للناظر كبياض الثغر ". وظاهر مما ذكره أنه لا يُفرق بين الاستعارة - التي يتحدث عنها - ويين المجاز المرسل. لأن ما ذكره في المثال الأول مجاز مرسل. وكذلك الثاني، أما المثالان الأخيران فإن أولهما يمكن حمله على الاستعارة التمثيلية أو المكنية. والثاني استعارة أصلية تصريحية. وقد استغرق باب الاستعارة أكثر من أربعين صفحة من كتابه المذكور. وهو كغيره من السابقين لا يذكر قرينة المجاز. هذه المحاولات - التي بدأت برضع أبى عبيدة كتاب " مجاز القرآن " وانتهت بابن قتيبة حيث وضع كتاب " مشكل القرآن " - مهدت لظهور مرحلة جديدة أخذ العلماء فيها يسجلون من ملاحظاتهم الاصطلاحات الفنية للبلاغة، بدأت هذه المرحلة بابن المعتز، وانتهت بالسكاكى. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 * كتاب البديع وسبب تأليفه: ألف ابن المعتز - أبو العباس عبد الله بن المعتز (المتوفى 296 هـ) كتابه " البديع " سنة 274 هـ. وكان الباعث له على تأليفه ما يوضحه هو نفسه: " قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة، وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم. . وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون بديعاً ليعلم أن بشاراً ومسلماً وأبا نواس ومَن تقبَّلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في زمانهم حتى سمى بهذا الاسم فأعرب عنه ودل عليه، ثم إن حبيب بن أوس الطائى - من بعدهم - شغف به حتى غلب عليه. . . وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض. . . وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف ". * البديع. . خمسة: وقد بحث ابن المعتز في كتابه خمسة فنون تحت اسم " البديع " هي: الاستعارة والتجنيس، والمطابقة، ورد الأعجاز على الصدور، والمذهب الكلامى. . وحد ينتهى من الحديث عنها يردف عليها فنوناً أخرى بلغ بها ثلاثة عشر فناً سماها " محاسن الكلام ". ويوضح أن هدفه من ذكر هذه الأنواع كلها لم يكن الحصر الشامل لجميع أنواع البديع ولا لجميع أنواع المحاسن، وليس لأحد أن يدعى ذلك. ويبدأ بالاستعارة فيُعرفها بأنها: " استعارة الكلمة لشيء لم يُعرف بها من شيء قد عُرف بها ". وساق لها شواهد كثيرة من القرآن منها: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) ، ومن الحديث النبوى: ". . . كلما سمع هيعة طار إليها ". ومن كلامَ الصحابة قول علىَ كرم الله وجهه: ". . . واحلل عُقد الخوف عنهم "، ومن كلام غيرهم قال: قال بعض الصالحين في ذم الدنيا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 دار غرست بها الأحزان. . . ". وتكاد تكون الأمثلة التي ذكرها من قبيل الاستعارة المكنية، كما تحدث عن الاستعارات الرديئة وذكر طائفة منها مثل! : فَضَرَبْتُ الشتا في أخْدَعَيْهِ. . . ضَربةً غَادَرَتْهُ عَوْداً ركُوبا وينتقل إلى الحديث عن التجنيس، ويُعرفه بقوله: أن تجيء الكلمة تجانس أخرى في شعر أو كلام، ومجانستها لها أن تشبهها في تأليف حروفها على السبيل الذىَ ألف الأصمعى كتاب " الأجناس " عليها. . ويقسمه إلى نوعين: ما تجانس فيه الكلمتان في الحروف والمعنى، ومثل له بقول الشاعر: يَوْمَ خَلجْتَ على الخليج نُفوسَهُمْ. . . غَضَباً وأنْتَ بِمْثِلهَا مُسْتَتامُ أو يكون تجانسهما في الحروف دون المعنى، ومثل له بقول الشاعر: يا صاحِ إنٌ أخَاكَ الصبَ مَهْمُومُ. . . فَارْفِقْ بِهِ إن لوم العَاشِقُ اللُّومُ. . . أى اللؤم. وبقوله تعالى: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) . . . وبقوله عليَه الصلاة والسلام: " عصيّة عصت الله، وغفَار غفر الله لها ". ومن الشعر بقول أبى تمام: جَلاَ ظلُلماتِ الظُلم عَنْ وَجْهِ أُمَّةِ. . . أضَاءَ لهَا مِنْ كَوكَبِ الحقِّ آفِلُهْ وقد ساق كثيراً غير الذي ذكرناه. وهو: إن لم يقسم الجناس إلى أنواعه المعروفة. فإن كثرة الأمثلة التي ساقها كانت دليلاً للمتأخرين الذين نظروا فيها وتوصلوا إلى وضع أقسام الجناس المختلفة وضبطها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وطفق يتحدث عن الطباق - أو المطابقة - ويذكر تعريف الخليل له: " يقال طابقتُ بين الشيئين إذا جمَعتهما على حذو واحد ". ويمثل له من القرآن بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) ، ويقول الرسول عليه السلام: "إنكم لتكثرون عند الَفزع، َ وتقلون عند الطمع ". ومن الشعر بقول عبد الله بن الزبير الأسدى: فَرَد شُعُورَهُن السودَ بِيضاً. . . وَرَد وَجُوهَهُن البِيضَ سُود، وبعد أن أفاض في ذكر أمثلة الطباق الجيد ذكر ما رديء منه ممثلا له بقول الأخطل: قُلتُ المقامُ وَناعِبٌ قَالَ النوَى. . . فعَصَيْتُ أمْرِى وَالمطاعُ غُرابُ ويُعلق عليه بقوله: وهذا من غث الكلام وبارده. ثم تحدث عن رد الإعجاز على الصدور، وقسمه ثلاثة أقسام. أولها ما وافق فيه آخر كلمة من البيت، آخر كلمة في نصفه الأول، ومثل له بقول الشاعر: تَلقَى إذ ما الأمْرُ كَانَ عَرَمْرَمَا. . . في جَيْشِ رَأى لاَ يُفَل عَرْمَوِمُ وثانيها: ما يوافق فيه آخر كلمة من البيت أول كلمة في نصفه الأول، ومثاله قول الشاعر: سَرِيعٌ إلى ابْنِ العَئمَ يَلطمُ وَجْهَهُ. . . وَليْسَ إلى داع الندَى بِسَرِيع وثالثها: ما يوافق فيه آخر كلمة من البيت بعض ما فيه، ومثاله قول الشاعر: عَمِيدُ بَنى سُليْم أقْصَدَتْهُ. . . سِهَامُ الموْتِ وَهِى لهُ سِهَامُ ثم ختم حديثه عن فنون البديع الخمسة بالحديث عن المذهب الكلامى، ويقول: إن الجاحظ هو الذي دعاه بهذا الاسم وإنه باب لم يجيء في القرآن منه شيء وهو ينسب إليه التكلف - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وهو - لهذا - يقتصر في أمثلته على غير القرآن والحديث. ولم يذكر له تعريفاً كما صنع في الأنواع الأربعة السابقة، وأمثلته التي ذكرناها لم تبلغ من حيث الإفاضة مثل ما أفاض في غيره. ويبدو من هذا كله أن ابن المعتز - وهو الشاعر الرقيق الحس والناقد الحاد الذكاء - لم يرتح لهذا الفن لجريه على طريقة أهل المنطق، كما جاء في كتاب " الصناعتين " لأبى هلال. ونرى أبا هلال يحذ حذو ابن المعتز في أن القرآن يخلو من استخدام المذهب الكلامى، أو هو - على الأقل - يردد ما قاله ابن المعتز، ثم يمثل له من غير القرآن ومن غير الأحاديث، والباحث المدقق إذا نظر إلى هذا الفن - المذهب الكلامى - من حيث تعريفه عندهم ومن حيث الأمثلة التي ذكروها - تطبيقاً عليه - لا يعدم له مثالاً أو أمثلة في القرآن الكريم بل والسنة. والحُجة التي ذكروها وهي " التكلف ". ليست بلازمة في المذهب الكلامى. وهي عيب اشترط النقاد براءة البديع كله منه لا المذهب الكلامى فحسب. فكلما استخدم القرآن البديع بألوانه المختلفة - خالياً من كل عيب - استخدم - كذلك - المذهب الكلامى - خالياً من عيب التكلف وغيره من العيوب الأخرى. وحسبنا أن نذكر أن له أمثلة من القرآن، لا تختلف مع ما ذكروه من أمثلة عليه من خارج القرآن، من حيث اندراجها تحت التعريف. جاء في هامش " الصناعتين " ما يأتى: " قالوا في تعريفه: هو إيراد حُجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام. وهو أن تكون المقدمات بعد تسليمها مستلزمة للمطلوب. . وعلى ذلك لم يستشهد على المذهب الكلامى بأعظم من شواهد القرآن، وأوضح الأدلة في شواهد هذا النوع قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ، قالوا فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تقرير ذلك: وتمام الدليل أن تقول: لكنهما لم تفسدا فليس فيهما آلهة غير الله. وهذا الذي ذكره حق، ومن أمثلته - أيضاً - في القرآن: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) . وقوله: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) . وقوله: (كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ) . وقوله: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) . وقوله: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) . وغير ذلك كثير، وإذا جاز لابن المعتز ومن بعده أبو هلال أن ينكرا وجود هذا النوع في القرآن، ابن المعتز بالأصالة وأبو هلال بالتقليد، فالأمر يسير لتقدم زمنيهما، فكيف يجوز لبعض المحدثين متابعتهما في ذلك؟ فقد رأينا الدكتور شوقى ضيف يذكر عن ابن المعتز هذه الشبهة - شُبهة التكلف في المذهب الكلامى وعدم وروده في القرآن لذلك - دون أن يُنبه إلى وجه الصواب فيها على كثرة معالجته لكثير من المشاكل التي تعرض لها كتاب " البديع " * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 * محاسن الكلام: أما الأنواع الأخرى التي خصئها باسم محاسن الكلام فقد ذكر منها: الالتفات - الاعتراض - الرجوع - حسن الخروج - تأكيد المدح بما يشبه الذم - تجاهل المعارف - الهزل يُراد به الجد - حسن التضمين - التعريض والكناية - الإفراط فى الصفة - حسن التشبيه - لزوم ما لا يلزم - حسن الابتداء. هذه إشارة سريعة لبديع ابن المعتز، وهو أول كتاب حاول فيه وضع ضوابط للفنون البلاغية، ولا شك أن ابن المعتز قد أفاد من إشارات السابقين مثل الجاحظ والأصمعى، خاصة وأنه نقل عن الأصمعى بعض أمثلته في الالتفات. وهى قول الشاعر: أتنْسَى إذْ تُوَدعُنَا سُليْمَى. . . بِعُودِ بَشَامَةٍ سُقِىَ البشَامُ لكنه ينفرد عن السابقين بمحاولته الجادة، وتصنيفه المتخصص. ولذلك كان لكتابه الآثار الآتية: أولاً: أنه أول كتاب صُنف في البلاغة العربية. وتخصص فيها ولم يخلطها بغيرها من فنون الأدب كما هو الحال عند الجاحظ والأصمعى. ثانياً: أنه كشف عن زيف مدرسة البديع. . وادعائها أنها صاحبة الفضل فيه، فالقرآن الكريم والأدب النبوى والأدب الجاهلى - شعره ونثره - والأدب الإسلامى - منظومه ومنثوره - هذه المصادر غنية بذكر الأمثلة التي تدل على أصالة هذا الفن وعمق جذوره في الآداب الرفيعة. ثالثاً: وكتاب " البديع " - بعد - دراسة فنية لعناصر الجمال في الفن الأدبي جُمِعَ فيه محاسن الكلام التي ازدان بها كلام الفحول من الجاهليين * والإسلاميين ووردت في الكتاب الكريم، وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 رابعاً: أنه مهَّد لنوعينِ من الدراسات: النوع الأول: البحث البلاغى نفسه. حيث كان هذا الكتاب الشعاع الذى أمسك به مَنْ جاء بعده من العلماء فعكفوا على دراسة الوجوه البلاغية وجمعها وتصنيفها والمضي بها خطوات إلى الأمام عصراً بعد عصر حتى اكتملت معالمها وأصبحت فناً مستقلاً بعد أن كانت مزيجاً مع الفنون الأخرى كاللغة والأدب، وخاصة النقد. والنوع الثاني: أنه مهَّد لنوع جديد من النقد الذي كان له عظيم الأثر فى إثراء النقد الأدبي عند العرب. واكتمال ووضوح دعائمه، هو نقد " الموازنات ". * * * * قدامة بن جعفر: وجاء قدامة بن جعفر (275 - 337 هـ) بعد ابن المعتز، ووضع كتابه المعروف " نقد الشعر " وقد تحدث فيه عن البديع وفنونه بجانب حديثه عن الشعر ومعايير الجوَدة فيه حيث - اللفظ، والوزن، والقافية، والمعنى. والذى يهمنا من هذا الكتاب حديثه عن البديع لاتصاله بموضوعنا. والبديع - عن قدامة - ثمانية وعشرون فناً وافق ابن المعتز في ثمانية منها وهى: الاستعارة، والتجنيس، والمطابقة، والالتفات، والاعتراض، ويسميه " التتميم "، والإفراط في الصفة ويسميه " الغلو والتشبيه " (1) . وينفرد قدامة بالأنواع الآتية: 1 - صحة التقسيم 2 - صحة المقابلات 3 - صحة التفسير 4 - ائتلاف اللفظ مع المعنى 5 - المساواة 6 - الإشارة   (1) وقع خطأ في المصدر المذكور إذ قال: توارد معه قدامة في سبعة. والصحيح: ثمانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 7 - الإرداف 8 - التمثيل 9 - ائتلاف اللفظ مع الوزن 10 - ائتلاف المعنى مع الوزن 11 - ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت 12 - التوشيح 13 - الإيغال 14 - اعتدال الوزن 15 - ائتلاف لفظ مع لفظ 16 - تلخيص الأوصاف 17 - التوازى 18 - المضارعة 19 - عكس اللفظ أو عكس ما نظم من بناء 20 - اتساق البناء والسجع. وليس يعنينا من قدامة أكثر من هذا فإنه أمسك بالشعاع الذي أشعل فتيلته ابن المعتز واستطاع أن يوسع دائرة الضوء في نفس الاتجاه. بَيْدَ أن ما انتهى إليه ابن جعفر لم يكن موضع رضا عند المتأخرين نقاداً وعلماء، وفضَّلوا عليه ابن المعتز في كل موضع اختلف معه فيه قدامة، ولعل السر في ذلك أن قدامة قد سلك في كتابه مسلكاً منطقياً جافاً متأثراً بالثقافة اليونانية القديمة. * * * * ابن طباطبا: وجاء بعده ابن طباطبا فوضع كتابه " معيار الشعر " وهو يشرع فيه لصناعة الشعر، وما ينبغى أن يلم به الشاعر فلا بدَّ له من طبع وذوق، قبل الوقوف على عروضه. ولا بدَّ من معرفة علمي اللغة والنحو، والوقوت على أيام العرب وشِعرهم ونثرهم وحكمهم وأمثالهم. ولا بدَّ من معرفة مناهج فن الكلام جزله وعذبه. ولا بدَّ من الوقوف على ما يشين الشعر من سخيف الكلام وقبيحه، ولا بدَّ فيه من تمكين القوافى وإصابة الألفاظ مَواضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وهو يُفرق بين حدى المنثور والمنظوم، ويتحدث عن أنواع المنظوم فيقسِّمه إلى ما حسن لفظه وجاد معناه وما حسن لفظه دون معناه. أو معناه دون لفظه، وما تأخر لفظه ومعناه. ويتحدث عن طريقة العرب في التشبيه - وهو من أهم مباحثه - ويقسمه إلى وجوه: تشبيه الشيء بالشيء صورة. . كقول امرئ القيس: كَأن عُيُونَ الوَحْشِ حَول خِبَائِنَا. . . وَأرْحُلِنَا الجِزْعَ الذِى لمْ يُثقبِ ثم تشبيه الشيء بالشيء لوناً وصورة كتشبيه الثفر بالأقحوان، إذ لونهما وصورتهما سواء، ثم تشبيه الشيء بالشيء صورة ولوناً وحركة وهيئة: كقول الشاعر: الشمْسُ كَالمِرآةِ في كَفِّ الأشلِ. . . لمَّا رَأيُتهَا بَدَتْ فَوْقَ الجَبَلِ ثم تشبيه الشيء بالشيء حركة وهيئة كقول الأعشى متغزلاً: كَأن مِشْيَتِها من يَيْتِ جَارَتِهَا. . . مَر السحَابةِ لا رَيْث وَلاَ عَجَلُ ثم تشبيه الشيء بالشيء معنى لا صورة، كتشبيه الجواد بالبحر، والشجاع بالأسد، وماضى الأمور بالسيف. ثم تشبيه الشيء بالشيء حركة وبطئاً وسرعة: كقول امرئ القيس يصف فرسه: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُدْبِرٍ مُقبِل مَعاً. . . كَجُلمُودِ صَخْرٍ حطَّهُ السيْلُ مِن عَلِ وتشبيه الشيء بالشيء لوناً كتشبيه الخمر بالدم، والليل بلون الغراب. وتشبيه الشيء بالشيء صوتاً كتشبيه صوت النبل في الحروب ببكاء الثكلى. ويتحدث عن أدوات التشبيه: الكاف، وكأنَّ، ومثل، ويكاد، وتخال. كما يتحدث عن التشبيهات المعيبة لمخالفتها لمعايير الجمال، كشدة الغلو فيها، أو نبو التشبيه عن الذوق. كما تحدث عن التشبيهات البديعة الغريبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ويتحدث عن الكناية ويسميها " التعريض ". ويعرض لطائفة من الأبيات المستكرهة الألفاظ المتفاوتة النسج. ولأخرى أفرط الشعر اء في معانيها وبالغوا مبالغة شديدة كقول أبى نواس يمدح الرشيد: وَأخَفْتَ أهلَ الشرْكِ حَتى أنَّهُ. . . لتَخَافُكَ النُّطفُ التِى لمْ تُخْلقِ وينقد قول زهير: وَأعْلمُ مَا فِى اليَوْم وَالأمْسِ قَبْلهُ. . . وَلكِنًنِى عَنْ عِلم مَا في غَدٍ عَمَىٍ فكلمة " عمى " عجيبة الوقع. ونسى أن يأخذ عليه كلمة " قبله " فقد عدَّها النقاد حشواً لا معنى لها. وفي الكتاب كثير من مسائل الأدب والنقد والبلاغة. وقد رأينا أن الأساس الذي بنى عليه ابن طباطبا نقده يعتمد في كثير من الأحيان على التوجيه البلاغى ومقاييس البيان. * * * * أبو هلال العسكرى: وتلا هؤلاء أبو هلال العسكرى، ووضع كتابه " سر الصناعتين " سنة 394 هـ، ويُعد هذا الكتاب نقطة تحول في البيان العربي تناول فيه البلاغة بروح الناقد، أو النقد بروح البليغ، وقد حدَّد أبو هلال وظيفة البلاغة في مقدمة كتابه المذكور. ونوجز ما انتهى فيها فيما يأتي: أولاً: أنها وسيدة فهم الإعجاز في كتاب الله، والإعجاز عنده يقوم عدى الحُجة والبرهان، وعلم البلاغة هو الذي يقدم ذلك البرهان ويكشف عنه. ثانياً: وصنَّاع الأدب ومنشئوه يقفون على الجيد الذي يقصدونه، والقبيح الذي ينبغى أن يتحاشوه، والأديب الذي يعدم هذا العلم يمزج الصفو بالكدر، ويستعمل الوحشى العكر، فيجعل نفسه مهزلة للجاهل، وعبرة للعاقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ثالثاً: ورواة الأدب يعتبرون هذا العلم في معرفة الجيد الذي يُروَى، والرديء الذي ينبغى أن يُطرح، وبهذا القياس عاب أبو هلال - الأصمعى - الذي اختار قصيدة للمرقش جاء فى مطلعها: هَلْ بِالدِّيَارِ أنْ تُجِيبَ صَمَمْ. . . لوأن حَيًّا نَاطِقاً كَلَّمْ يقول أبو هلال: " ولا أدرى على أي وجه صرف اختياره إليها، وما هى بمستقيمة الوزن، ولا مونقة الروى، ولا سلسة اللفظ، ولا جيدة السبك، ولا متلائمة النسج ". وبه أيضاً عاب الفضل لأنه كان يختار من الشعر ما يقل تداول الرواة له. ويكثر فيه الغريب. ويعلل نقده للمفضل كما عَلله للأصمعى فيقول: " لأن الغريب لا يكثر في كلام إلا أفسده، وفيه دلالة الاستكراه والتكلف ". رابعاً: وعلماء العربية والنقاد إفادتهم من معرفة البلاغة تفوق إفادة الأدباء والرواة، لأن البلاغة تقدم لهم المقاييس التي يعتمدونها في الحكم على الأدباء والتمييز بين آثارهم. . وصاحب العربية إذا أخل بطلب هذا العلم بان جهله، وظهر نقصه. * * * * قيمة الكتاب: وكتاب " الصناعتين " غنى بالدراسات النقدية والأدبية والبلاغية. وتظهر فيه سمة التقعيد ورسم الحدود وتقرير الموضوعات واستقلال البحث البلاغى. وقد درس المؤلف من فنون البلاغة خارج دائرة البديع الفنون الآتية: التشبيه - الإيجاز والإطناب - السجع والازدواج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ومعروف أن التشبيه من مباحث البيان، والإيجاز والإطناب من مباحث المعاني. أما السجع والازدواج فمن مباحث البديع، وللعسكرى عذره فى إخراجهما من دائرة البديع لأن مسائل العلوم الثلاثة لم تتضح كل الوضوح فى عصره. أما فنون البديع التي ذكرها في كتاب هذا فقد بلغت خمسة وثلاثين وجهاً هى: 1 - الاستعارة والمجاز 2 - التطبيق 3 - التجنيس 4 - المقابلة 5 - صحة التقسيم 6 - صحة التفسير 7 - الإشارة 8 - الإرداف والتوابع 9 - المماثلة 10 - الغلو 11 - المبالغة 12 - الكناية والتعريض 13 - العكس والتبديل، 1 - التذييل 15 - الترجيع 16 - الإيغال 17 - الترشيح 18 - رد الأعجاز على الصدور 19 - التكميل والتتميم 20 - الالتفات 21 - الاعتراض 22 - الرجوع 23 - تجاهل المعارف 24 - الاستطراد 25 - المؤتلف والمختلف 26 - السلب والإيجاب 27 - الإستثناء 28 - المذهب الكلامى 29 - التشطير 30 - المجاورة 31 - الاستشهاد والاحتجاج 32 - التعطف 33 - المضاعف 34 - التطريز 35 - التلطف. هذه أنواع البديع كما ذكرها أبو هلال وقد قال إنه زاد على ما ذكره المتقدمون ستة أنواع بينها وهي: التشطير، والمجاورة، والتطريز، والمضاعف، والاستشهاد، والتلطف. وقد أفاض في شرح هذه الفنون جميعاً وأكثر من إيراد الأمثلة عليها. وجاء سهواً في كتاب "البيان العربي " للدكتور بدوى طبانة أن أبا هلال زاد فنون البديع المعروفة عند المتقدمين سبعة فنون، وهي كما ذكرنا آنفاً ستة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وليست بسبعة. . كما وقع في نفس الكتاب المذكور خطأ آخر هو إسقاط نوع مما زاده أبو هلال وإثبات آخر مما لم يزده مكانه، ومن الخير أن نذكر ما جاء فى المصدرين ليسهل علينا إدراك الحقيقة. أبو هلال يذكر في كتابه الفنون التي زادها على الترتيب كما يلى: التشطير - المجاورة - التطريز - المضاعف - الاستشهاد - التلطف. والدكتور طبانة يذكرها كما يلى: المجاورة - الاستشهاد - التعطف - المضاعفة - التطريز - التلطف - المشتق. وبنظرة عابرة يتضح لنا أمران: أولهما: أن الدكتور طبانه أسقط مما زاده أبو هلال " التشطير " وهو النوع الأول عند أبى هلال. ثانيهما: أنه زاد على ما ذكره أبو هلال نوعين. هما: التعطف والمشتق. * * * * الطبع والصنعة: وقد كان القرن الرابع الهجرى حافلاً بجهود العلماء والنقاد، وساعد على جدية هذه الجهود وعظمة شأنها. أن وجد مذهبان في الشعر. مذهبان متقابلان لكل منهما أنصار وأتباع، ولكل منهما أعداء وقادحون. أحدهما: مذهب " المطبوعون " الذين لا يتكلفون في صناعة الشعر، بل يسيرون مع طبائعهم ويمثل هذا النوع أبو عبادة البحترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وثانيهما: مذهب " المتكلفون " الذين يبعدون في معانيهم ويحتالون لإيراد " البديع " في شِعرهم يزينونه به، وإن كان ذلك على حساب المعنى. وجودة التعبير، ويمثل هؤلاء أبو تمام. وقد رأينا أن أول مَن حمل حملة شعواء على أصحاب البديع هو ابن المعتز، بل إنه وضع كتابه للرد عليهم خاصة، وأنهم لم يأتوا بجديد لم يعرفه السابقون بل إن إسرافهم فيه جعل له بهم شبه إضافة. نقول: كانت هذه البوادر كلها سبباً في نشأة الخصومة الأدبية والفكرية بين أنصار القديم والطبع. وأنصار الجديد والصنعة. وهذه الخصومة لم تقم على غير أساس. بل كانت تعتمد على فروق في الأساليب بين المذهبين. - وهذه الفروق لم تتضح إلا من كتابات البلاغيين، ولم تعتمد على شيء مثل اعتمادها على الوجوه البلاغية التي يستخدمها الشاعر أو الناثر في أسلوبه للكشف عن معانيه. * * * * صلة البلاغة بقضايا النقد الكبرى: ونتيجة لذلك عالجت البلاغة قضيتين من أخطر قضايا النقد. وهما قضية اللفظ والمعنى، وقضية الموازنة بين معنى ومعنى. وليس من اليسير معالجة هاتين القضيتين في جزء من بحث. ولذلك فإننا نتناولهما في إيجاز نتبين من خلاله صلة البلاغة بقضايا النقد الكبرى. ومدى تأثيرها في صقل الأساليب وإجادة المعنى. أما قضية اللفظ والمعنى فإن النقاد ينقسمون حولها ثلاثة أقسام: فريق يُقدم المعنى على اللفظ. وينسب إليه كل فضل في صناعة الأدب ونقده، يقول ابن رشيق: " اللفظ جسمٌ روحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بالجسم. يضعف بضعفه ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً في الشعر، وهجنة عليه. كما يعرض لبعض الأقسام من العرج والشلل والعور، وما أشبه ذلك من غير أن تذهب الروح، كذلك إذا ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الروح. ولا نجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ، وجريه فيه على غير الواجب قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح. فإن اختل المعنى كله وفسد بقى اللفظ مواتا لا فائدة فيه وإن كان حسن الطلاوة في السمع. كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين، إلا أنه لا ينتفع به. ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لا نجد له معنى لأنا لا نجد روحاً في غير جسم ألبتَّة ". فابن رشيق - وإن بدا أنه يسوى بين اللفظ والمعنى - فإنه يقدم المعنى على اللفظ ما دام المعنى روحاً والجسم هو اللفظ. . . وكذلك يرى ابن الأثير: " اعلم أن العرب كما كانت تعنى بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأشرف قدرا فى نفوسها. فأول ذلك عنايتها بالألفاظ لأنها كانت عنوان معانيها. وطريقا إلى إظهار أغراضها، أصلحوها وزينوها وبالغوا في تحسينها ليكون ذلك أوقع فى النفس. وأذهب بها في الدلالة على القصد، فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها. ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها فلا تظن أن العناية إذ ذاك بالألفاظ فقط. بل هي خدمة منهم للمعاني. ونظير ذلك إبراز الصور الحسناء في الحلل الموشية. والأثواب الحبرة، فإنَّا قد نجد من المعاني الفاخرة ما يشوِّه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وابن الأثير - في هذا النص - أقوى دلالة على بيان مذهبه من ابن رشيق - وإن سار هو على طريقته في التقرير. ويرى الجاحظ أن أبا عمرو الشيبانى كان لا يحفل إلا بالمعنى، فمتى كان المعنى رائقا حسناً ظل كذلك في أي عبارة وُضِعَ فيها. ورأيه هذا مطابق لما حكاه " أرسطو " عن السوفسطائى " بريزون " من أنه لا حسن ولا قبح فى اللغة، ففى أي الكلمات وضعت الفكرة فالمعنى سواء. ومن أنصار المعنى، الآمدى من النقاد، وابن الرومى والمتنبي من الشعر اء، فهؤلاء يطلبون صحة المعنى. ولا يبالون - أحياناً - حيث وقع من هجنة اللفظ وخشونته على أن من هؤلاء مَن لا يهمل اللفظ في العمل الأدبي. بل ينظر إليه نظرة تقدير واحترام، ولكنها نظرة ليست مثل نظرته إلى المعنى فهو السابق. وإليه يعزَى كل فضل. والذي حمل هذا الفريق على التعصب لناحية المعنى. ما رأوه من جودة السبك دون العناية بجمال المعنى عند أصحاب التصنع الذين اتخذوا الأدب صناعة، ولم يروا فيه إلا وصف الألفاظ وجودة السبك، دون العناية بخطر الموضوع، وأهمية الموقف، وصدق المعنى وحسن الدلالة. . وهذا أمر ضاق به كثيرون من النقاد. يقول الآمدى: " وقد رأيتُ جماعة من متخلفى هذه الصناعة يجعلون كل همهم مقصوراً على الألفاظ التي لا حاصل وراءها، ولا كبير معنى تحتها. وإذا أتى أحدهم بلفظ مسجوع، على أي وجه كان من الغثاثة والبرد، يعتقد أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أتى بأمر عظيم ولا شك في أنه صار كاتباً مفلقاً. وإذا نظر إلى كتاب زماننا وجِدوا كذلك، فقاتل الله القلم الذي يجري في أيدى الجهال الأغمار ". * * * * تقديم اللفظ على المعنى: ويقابل هذا الرأي اتجاه آخر يرى القائلون به أن الصياغة هي المقوِّم الأساسى للأدب، فلا بدَّ أن يستوفى الأسلوب مقوماته اللفظية، أن تكون الجمل مستوفاة خصائص الصياغة الفنية ليدخل الكلام في باب الأدب لأن المعاني مشاع بين الأدب وغيره من العلوم، ولكن الذي يُفرق بين الأدب والعلوم الأخرى إنما هي اللغة بما فيها من فنون تعبيرية وخصائص فنية، ولذلك فإن المعاني العلمية يمكن أن تؤدى في أساليب أدبية إذا سلك كاتبها مسالك المتأدبين. وهذا الرأي يسمو بالألفاظ في نظرته لها، ويجعل المعنى دونها وإن كانت الصلة بين العنصرين وثيقة العرى. من هؤلاء الجاحظ حيث يقول: " والمعاني مطروحة على الطريق يعرفها العجمى والعربي والبدوى والقروى والمدنى، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك فإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير ". ومنهم قدامه بن جعفر، إذ يرى أن المعاني مادة الشعر، واللفظ صورته، ولا ينبغى الحكم على الشعر بمادته - أي معناه - وإنماَ يُحكم عليه بصورته - أى عباراته - كما لا يُعاب النجار من حيث رداءة الخشب في ذاته، وإنما يُمدح أو يُذم من حيث صناعته هو. ومنهم ابن خلدون إذ يعتبر الألفاظ أصلاً والمعاني تابعة لها. وهو في هذا يردد ما ذهب إليه الجاحظ ولكنه غالى في قيمته. وأفرط في حكمه. وفي هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 يقول ابن خلدون: ". . . وفي طوع كل فكر منها - أي المعاني - ما يشاء ويرضى، فلا يحتاج إلى صناعة. وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج إلى الصناعة. وكذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه. . باعتبار تطبيقه على المقاصد، والمعاني واحدة في نفسها. وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللسان - إذا حاول العبارة عن مقصوده ولم يحسن - بمثابة القعد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه ". وعند أصحاب هذا الرأي: أن الأدب عبارة جميلة وكفى. . وقد سئل الأصمعى: مَن أشعر الناس؟ . . . قال: " مَن يأتى إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيراً، أو إلى المعنى الكبير فيجعله بلفظه خسيساً ". ويقول المرزوقي: " فمن البلغاء مَن يقول: فقر الألفاظ وغررها. كجوهر العقود ودررها، فإذا رسم أغفالها بتحسين نظومها. وحلى أعطالها بتركيب شذورها فراق مسموعها وجاء ما حرر منها مصفىً من كدر العيِّ والخطل، مقوماً من أود اللحن والخطأ، يموج في حواشيه رونق الصفاء لفظاً وتركيباً. قبله الفهم والتذ به السمع، وإذا ورد على ضد هذه الصفة صدئ الفهم منه. وتأذى به تأذى الحواس بما يخالفها ". وقد بحث ابن سنان الخفاجى معايير حسن اللفظ فذكر منه تباعد الحروف فى المخرج، وذلك لأن الحروف أصوات تجرى من السمع مجرى الألوان من البصر، والألوان المتباعدة إذا جُمِعت كانت في النظر أحسن من المتقاربة. وجل كلام العرب مبنى على التأليف من الحروف المتباعدة، ولحروف الحلق الستة ميزة خاصة فى القبح إذا تقاربت مثل " الهقخع "، ومن معايير حسن اللفظ حسن وقعه على السمع فتسمية الغصن غصناً أو فنناً أحسن من تسميته عسلوجاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ومن معايير جمال اللفظ عند ابن سنان ألا تكون الكلمة وحشية غير مألوفة الاستعمال، وقد مثل لذلك بقول أبى تمام: . . . . . . . . بِلاَ طائرٍ سَعْدٍ، وَلاَ طائرٍ كَهْلِ إذ المراد بـ ((الكهل " هنا: الضخم، وليس هذا المعنى معروفاً لها. وألا تكون الكلمة مبتذلة أي أخلقها الاستعمال. ومثل لها بقول ابن نباتة: فَقَدْ رَفَعَتْ أبْصَارَهَا كُل بَلدَةٍ. . . من الشوْقِ حتى أوْجَعَتْهَا الأخَادعُ فكلمة " أوجعتها " عامية مبتذلة. وأن تكون الكلمة جارية على قواعد اللغة، وأن تكون قليلة الحروف، لذلك عاب قول ابن نباتة أيضاً: فَإياكُمو أن تَكْشِفُوا عَنْ رِءُوسِكُمْ. . . ألاَ إن مغْنَاطيسَهُن الذوَائِبُ لأن كلمة " مغناطيسهن " كثيرة الحروف. ويورد معياراً آخر لجمال اللفظ: ألا تكون الكلمة عُثر بها عن معنى يُكره ذكره، فإذا وردت غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت. مثل كلمة " جنابة " فى قول الشريف الرضى متغزلاً: سَلاَمُ على الأطلاَلِ لاَ عَنْ جنابَةٍ. . . وَلكِن يأسَاً حِينَ لم يَبْق مَطمَعُ وصفوة القول: إن اللفظ المفرد لا يكون جميلاً عند ابن سنان إلا إذا خلا من ثمانية عيوب ذكرها ومثل لها. فكان بلاغياً ناقداً في آن واحد. ويسوق قدامة بن جعفر نصاً يبين فيه مقوِّمات جمال الألفاظ فيقول: " وأحسن البلاغة الترصيع، والسجع، واتساق البناء. واعتدال الوزن واشتقاق لفظ من لفظ وعكس ما نظم من بناء وتلخيصه بألفاظ مستعارة وإيراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الأقسام موفورة التمام وتصحيح المقابلة بمعان متعادلة، وصحة التقسيم باتفاق النظوم وتلخيص الأوصاف بنفى الخلاف، والمبالغة في الرصف بتكرير الوصف. وتكافؤ المقابلة بالتوازن وإرداف اللواحق وتمثيل المعاني ". وهكذا تصرف همم هذا الفريق إلى جمال الألفاظ، وجودة السبك، ظناً منهم أن الأقدمين ذهبوا بالمعاني كلها ولم يتركوا منها ضرعاً لمحتلب. فكان لا بد من التسابق في ميدان اللفظ وروعة التعبير. * * * * قيمة هذا المذهب: ولهذا المذهب خطره في الأدب ونقده. وإن تطرف بعض دعاته كابن خلدون وقدامة، ذلك لأن الأسلوب أو الأداء اللفظي هو دليل المعنى وآلة البيان، ولولا الأسلوب ما وقفنا على ما يجول في نفس الأديب من معان وأخيلة وعواطف وصور أدبية، فليس الأديب تمثالاً صامتاً وإنما هو طائر يغرد، وتغريده هو الذي يكشف لنا عن عالمه الفسيح. والطعام الطيب إذا قُدَم فى أوانٍ نفيسة كان أشهى للنفس وأمتع للذوق. * * * نظرة عادلة: الرأيان اللذان قدمناهما متقابلان فهما يصنعان مشكلة. ومن هنا تبدو قيمة رأى فريق ثالث ويرى هذا الفريق ألا تفرقة في العمل الأدبي ونقده بين معانيه وألفاظه، فهم - إذن - يسوون بين اللفظ والمعنى، ولكل منهما معايير حسن وجمال، ولكل منهما وظيفة يؤديها لكن ليس منفرداً بل باعتبار ارتباطه بالآخر، فإذا توفرت لهما أوصاف الجمال قدما نموذجاً رائعاً من الأدب يمتع من أي جهة نظر إليه سواء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 جهة لفظه، أو من جهة معناه مثل سلكى الكهرباء السالب والموجب عندما يتماسان ينطلق منهما الشعاع الذي يبدد طبقات الظلام وإن كان كثيفاً. وإن أزيل اتصالهما فلا نحس لأى منهما أثرا. فالمعنى بدون اللفظ جنين في ضمير الغيب. واللفظ بدون معنى لا يعتبر. وهؤلاء على حق فيما ذهبوا إليه لأنهم يحلون تلك المشكلة التي رأيناها بين الفريقين السابقين. ولأنهم يمثلون الواقع. . فهى نظرة معتدلة حرية بالاعتبار. ومن أقدم النصوص في هذا المذهب صحيفة بشر بن المعتمر المعتزلى (المتوفى عام 210 هـ) وقد ذكرها الجاحظ في " البيان والتبيين ". . . وفيها ينصح بترك التوعر والتكلف " فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذى يستهلك معانيك ويشين ألفاظك. . وَمن رام معنى كريماً فيلتمس له لفظاً كريماً. فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهماً. وفي موضع آخر يقول: " أن يكون لفظك رشيقاً عذباً وفخماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً وقريباً معروفاً " والباحث يرى أنه في الموضعين يتحدث عن جمال اللفظ وجمال المعنى، ويسوى بينهما ويمضى في الصحيفة مشرعاً للأدب. وناصحاً للأديب. فهى - بحق - تشريع فريد في صناعة الأدب وبناء الأسلوب. لا فرق بين الشكل أو المضمون وكان لهذا التوجيه أثره في تقعيد البلاغة العربية. وممن يسوون بين اللفظ والمعنى ابن قتيبة. فخير الشعر - عنده - ما حسن لفظه، وجاد معناه، فإذا قصر اللفظ عن المعنى، أو حلا اللفظ ولم يكن وراءه طائل كان الكلام معيباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ويسوق نموذجاً على ذلك هو قول الشاعر: وَلمَّا قَضيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ. . . وَمسحَ بِالأركَانِ مَن هُوَ مَاسِحُ وَشُدَّتْ عَلى هُدْبِ المهَارَى رِحَالُنَا. . . وَلمْ يَنْظرِ الغَادىِ الذِى هُوَ رَائحُ أخَدنا بأطرَافِ الأحَاديثِ بِيْنَنَا. . . وَسَالتْ بِأعْنَاقِ المطِىِّ الأبَاطِحُ ثم يقول: " وهذه الألفاظ أحسن شيء مطالع ومخارج ومقاطع. فإذا نظرتَ إلى ما تحتها وجدته: ولما قضينا أيام مِنًى واستلمنا الأركان وعالينا الإبل الأنضاد ومضى الناس لا ينظر مَن غدا الرائح ابتدأنا في الحديث وسارت المطىُّ في الأباطح ". والشاعر البحترى يرى التسوية بين الألفاظ والمعاني فيقول: حَجَجٌ تُخْرِسُ الألدَّ بِألفَا. . . ظٍ فَرَادَى كَالجَهَرِ المعْدُوِد وَمَعانِ لوْ فَصًلتْهَا القَوافِى. . . هَجَّنَتْ شِعْرَ جْرَولٍ وَلبِيدِ حُزْنَ مُسْتَعْمَل الكَلاَماخْتِيَاراً. . . وَتَجَنَّبْنَ ظلمة التَّعقيدِ وركبْنَ اللفْظَ القَرِيبَ فأدْركنَ. . . بِهِ غَايةَ المرَادِ البَعِيدِ وعبد القاهر الجرجانى ممن يسوون في صناعة الأدب بين اللفظ والمعنى. وإن لم يصرح بذلك. لأنا نجده أحياناً يثنى على اللفظ دون المعنى، وأحياناً أخرى يثنى على المعنى دون اللفظ، ولعله كان يقصد الرد على المتطرفين فلامَ كلا الجانبين لنفى ذلك التطرف إلى جانب دون آخر وغرضه من ذلك إثبات التساوى بين العنصرين: الألفاظ والمعاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فتراه يقول دفاعاً عن اللفظ: " واعلم أن الداء الدوى، والذي أعيى أمره في هذا الباب، غلط مَن قدم الشعر لمعناه. وأقَلَّ في الاحتفال باللفظ، وجعل لا يعطيه من المزية - إن هو أعطى - إلا ما فضل عن المعنى، يقول ما في اللفظ لولا المعنى، وهل الكلام إلا بمعناه؟ فأنت تراه لا يقدم شِعراً حتى يكون قد أُودع حكمه وأدباً، واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر ". ويقول: ". . لأنا لا نرى متقدماً في علم البلاغة، مبرزاً في شأوها، إلا وهو ينكر هذا الرأي ويعيبه ويزرى على القائل به ". وهذا يدلنا دلالة واضحة على أن عبد القاهر ليس ممن ينحازون إلى المعاني، ويفضلونها على الألفاظ. ثم يقول بعد جولات واسعة المدى بعيدة العمق يرجع فيها المزية إلى المعنى دون اللفظ: " قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزية وأنها من حيز المعانى دون الألفاظ، وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك بل هي حيث تنظر بقلبك، وتستعين بفكرك، وتعمل رويتك وتراجع عقلك. وبلغ القول في ذلك أقصاه، وانتهى إلى مداه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 * وقفة: والناظر في هذه النصوص يرى أن الرجل - عبد القاهر - يناقض نفسه، أو أنه ما قال في شأن اللفظ والدفاع عنه إلا بعد نسيان ما قرره في جانب المعنى ونسبة الفضل إليه، وإلا لما صح أن يقع منه هذا التضارب الذي لا يخفى شأنه على إنسان، ولا مخرج من هذا الإشكال إلا أن نقرر ما قلناه في مطلع الحديث عنه من أنه حين حمل على مَن يفضل المعاني على الألفاظ إنما كان يضع نصب عينيه مغالاة القائلين بها الرأي. وعندما حمل على مَن يفضل الألفاظ على المعاني كان كل همه أن يدفع مغالاتهم وتطرفهم فيها. على أن في كتابه هذا - دلال الإعجاز - نصوصاً يمكن أخذ رأى عبد القاهر من النظر إليها في وضوح. ورأيه الذي يصل إليه الباحث هو المساواة بين العنصرين دون حيف منه على أحدهما لحساب الآخر. فهو يقول: " ولا جهة لاستعمال هذه الخصال - يقصد حسن الدلالة - غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته. . ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلاً ويظهر فيه مزية". ويقول: " فقد اتضح إذن اتضاحاً لا يدع مجالاً للشك أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلمة مفردة. . وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ولا ينسى عبد القاهر في كل ذلك فضيلة النظم التي من أجلها وضع أصول الكتاب، فإنكاره لمزية اللفظ - مفرداً - إنكار - بدلالة اللزوم - لمزية المعنى المفرد - ولذلك فهو يقول: " علمتَ - بفتح التاء - أن الفصاحة والبلاغة، وسائر ما يجرى في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني وإلى ما يدل عليه بالألفاظ دون الألفاظ أنفسها لأنه إذا لم يكن في القسمة إلا المعاني والألفاظ. وكان لا يعقل تعارض في الألفاظ المجردة إلا ما ذكرت لم يبق إلا أن تكون المعارضة معارضة من جهة ترجع إلى معاني الكلام المعقولة. . . دون ألفاظه المسموعة ". ذلك هو رأى عبد القاهر في قضية اللفظ والمعنى، وهو رأى حرى بالقبول لخلوه من التصرف ولتمثيله للواقع. وله في أسرار البلاغة ما يؤيد هذه الفكره. يقول فيه: " الألفاظ خدم للمعاني والمصرِّفة في حكمها. وكانت المعاني هي المالكة سياستها المستحقة طاعتها. فمَن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته. وأحاله عن طبيعته وذلك مظنة من الاستكراه ". وهو في هذا النص يدفع الغلو من جهة اللفظ، وإهمال المعنى. . وقبله يقول: " فقد تبين لك أن ما يعطى التجنيس من الفضيلة أمر لم يتم إلا بنصرة المعنى، إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه مستحسن ولا وُجِدَ فيه إلا معيب مستهجن ولذلك ذم الإكثار منه والولوع به ". فلكل من المعنى واللفظ دوره في روعة العمل الأدبي. ولكنا نراه فى " الأسرار " ينتصر للمعاني أكثر من إِثباته مزايا الألفاظ، وفي " الدلائل " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 كان حَكَماً عدلاً بينهما. ولعل السر أن التعصب للفظ وقت أن وضع " أسرار البلاغة " كان قد بلغ مداه. * * * * قيمة مذهب عبد القاهر: كانت فكرة النظم التي أشار إليها الجاحظ وتبناها عبد القاهر الجرجانى ففتح أكمامها وبعثها في كتابه " الدلائل " حديقة دانية القطوف. وارفة الظلال. كانت هذه الفكرة فتحاً جديداً في مجالات البلاغة والبيان والأدب والنقد. وقد سبق عبد القاهر المفكرين المعاصرين بزمن طويل حين أرسى قواعد هذه النظرية التي يتعانق فيها الشكل والمضمون وتبدو فيها قيمة الألفاظ والمعاني مجتمعة دونما تفضيل. " مذهب عبد القاهر هو أصح وأحدث ما وصل إليه علم اللغة في أوروبا لأيامنا هذه، هو مذهب العالِم السويسرى الثبت " فردنان دى سوسير " (المتوفى سنة 1913) . لقد فطن عبد القاهر إلى أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات ". وقد أخذ بنظرية عبد القاهر عالم وناقد إيطالى هو " بندتو كروتشيه " ونظريته في النقد ذات خطر عظيم. وفي هذه النظرية إجابة شافية عن سؤال مهم في مجال النقد الجمالى: هل الجمال ينحصر في المضمون وحده؟ أم في الشكل وحده؟ أم هو فيهما معاً؟ وعلى ما هو معروف بين فلاسفة الجمال من المراد من الشكل والمضمون، فإن عبد القاهر كان عالياً في منهجه إذ أرجع التذوق الجمالى إلى الشكل والمضمون كليهما. لهذا يلتقى " بندتو كروتشيه " مع عبد القاهر في هذا المنهج السليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 لأن كروتشيه " يحدد المضمون بالأحاسيس أو الناحية الانفعالية قبل صقلها صقلاً جمالياً، وأما الشكل فهو صقلها وإبرازها في تعبير عن طريق النشاط الفكرى، وعلى هذا يأبى " كروتشيه " أن تكون الحقيقة الجمالية محصورة فى المضمون. وإنما هي ترجع إلى الشكل بما يحويه من أحاسيس وخيالات وعواطف وانفعالات، لأن أهمية المضمون عنده تنحصر في التعبير عنه تعبيراً جمالياً". * * * * الموازنة بين معنى ومعنى: وأما الموازنة بين معنى ومعنى فإن الباحث يرى أن الوجوه البلاغية من أهم العناصر التي كانت تعتمد عليها هذه الموازنات. ونورد بعض الأمثلة فيما يأتى لنرى إلى أي مدى كانت الوجوه البلاغية تذكيها وتوجهها وتتخذ أساساً للحكم أو القبح فيها. فالآمدى وهو أحد رجلين وضعا أصول النقد المنهجى عند العرب، أكثر ما يقوم عليه مذهبه النقدى هو الملاحظات البلاغية فقد ذكر ابن المعتز قول أبى تمام: فَضَربْتُ الشتَاء في أخْدَعَيْهِ. . . ضَريةُ غَادَرَتْهُ عُوْداً ركوبَا على أن فيه استعارة معيبة، فجاء الآمدى يدافع عن أبى تمام فيقول: "فأما قوله - يعنى أبا تمام - " فضربتُ الشتاء في أخدعيه " فإن ذكر الأخدعين على قبحهما أسوغ، لأنه قال: " ضربة غادرته ". . وذلك أن العود المسن من الإبل يُضرب على صفحتى عنقه فيذل، فقربت الاستعارة هنا من الصواب قليلاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وللآمدى باب خاص عقده " لا عيب من الاستعارة عند أبى تمام " ويورد الآمدى بعض استعارات القرآن شارحاً لها وموضحاً أوجه الجمال فيها. وبهذا القياس نفسه - قبح الاستعارة أو حسنها - يعيب قول أبى تمام: يَا دَهَرْ قَوِّمْ مِنْ أخْدَعَيْكَ فَقَد. . . أضجَجْتَ هذا الأنامَ من خَرقِك ويتساءل: أي ضرورة دعته للأخدعين؟ وكان يمكن أن يقول: من اعوجاجك، أو: قَوم من عوج صنعتك، أو: يا دهر أحسن بنا الصنيع، لأن الأخرق هو الذي لا يحسن العمل. . وعاب - كذلك - قوله: وَحُمِّلتُ مَا لوْ حُمِّلَ الدهْرُ شَطرَهُ. . . لفَكرَ دَهْراً أَىَّ عِبْئَيْهِ أثقَلُ إذ جعل للدهر عقلاً، وجعله مفكراً في أي العبئين أثقل، وما معنى أبعد من الصواب من هذه الاستعارة، وكان الأليق بهذا المعنى لما قال: " وحملت ما لو حمل الدهر شطره " أن يقول: لتضعضح، أو لانهد، أو لأمن الناس صروفه ونوازله. ونحو هذا مما يعتمده أهل المعاني في البلاغة. والموازنة في هذه الأمثلة بين معنى قيل وفيه خطأ ومعنى كان يجب أن يقال. ويورد للبحترى بيتاً آخر وينقده. وهو قوله: قِفْ العِيسَ قَدْ أدنَى خُطاهَا كَلاَلُها. . . وَسَلْ دَارَ سُعْدَى إنْ شَفَاكَ سُؤَالُها يقول الآمدى: وهذا لفظ حسن ومعنى ليس بالجيد، لأنه قال: " أدنى خطاها كلالها ". أي قارب من خطوها الكلال، وهذا كأنه لم يقف لسؤال الديار التي تعرض لأن الوقوف يشفيه وإنما وقف لإعياء المطي. والجيد قول عنترة: فَوَقَفْتُ فِيهَا ناقَتِى وكَأنهَا. . . فَدِنٌ لأقْضِى حَاجَةً المتُلوِّمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فإنه لما أراد ذكر الوقوف احتاط بأن شبَّه ناقته بالفدن وهو القصر، ليُعلم أنه لم يقفها ليريحها. ويمضى بعد ذلك مناقشاً كل الدفوع التي يمكن أن تقال في جانب البحترى حتى ليقيم عليه الحُجة من كل وجه. بأنه خالف عادات العرب في مثل هذه الواقف. مؤيداً وجهة نظره بمأثورهم. ويعيب قول أبى تمام متغزلاً: بَيْضَاءُ تَسْرِى في الظلاَم فَيَكْتَسِي. . . نُوَراً وتُبْدُو فِى الضياء فيُظلمُ مَلطومَةٍ بِالوْردِ أُطلِقَ طرْفُهَا. . . فِى الخَلقِ فَهُوَ مَعَ المنُونِ مُحْكَمُ - فيقول الآمدى: " وقوله " ملطومة بالورد " يريد حُمرة خدها، فلِمَ لم يقل: مصفوعة بالقار يريد سواد شعرها؟ ومخبوطة بالشحم يريد امتلاء جسمها؟ ومضروبة بالقطن يريد بياضها؟ إن هذا لأحمق ما يكون من اللفظ وأسخفه وأوسخه. وقد جاء مثل هذا في كلام العرب ولكن على وجه حسن. . قال النابغة: " مقذوفة بدخيس اللحم " يريد أنها قُذفت بالشحم. أى كأنه رُمِىَ على جسمها رمياً. وإنما ذهب أبو تمام إلى قول أَبى نواس: " وتلطم الورد بعناب " وهذه كانت تلطم في الحقيقة في مأتم على ميت بأنامل مغضوبة الأطراف فجعلها عناباً تلطم به ورداً. فأتى بالظرف كله. والحُسن أجمعه. والتشبيه على حقيقته. وجاء أبو تمام بالجهل على وجهه. والحمق بأسره. والخطأ بعينه ". والحق أن الآمدى كان يصدر في نقده عن ذوق وخبرة وعلم وحكمة. وكتابه " الموازنة " حافل بما يمتع الباحث ويفتح أمامه آفاقاً واسعة للموازنة والدرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وهو كما رأينا معتمد - فى كثير من الأحيان - على الأصول البلاغية فى نقده. بل مشرع فيها وصاحب رأى. والموازنة هنا بين نصين كل منهما قد قيل. * * * * القاضي الجرجاني: وكان كتاب " الوساطة بين المتنبي وخصومه ". للقاضى أبى الحسن الجرجانى مصدراً للنقد العربي. وتوجيهه توجيهاً منهجياً، وليس من السهل وصف هذا الكتاب وما حواه من نظريات وآراء. وإنما نذكر هنا أمثلة تدل على شيوع البلاغة. وتوجيهاتها في منهج هذا العالِم الذائع الصيت. والناقد العميق النظر. * على أن عنوان كتابه يوحي بخطورة موضوعه. فإن الخصومة بين المتنبي وخصومه أمر له خطره في تاريخ النقد العربي، والفصل فيها لا يقدم عليه إلا الثقات من النقاد. المحيطون بفنون القول ووجوه الحسن والقبح في الأساليب، وقد اجتمعت هذه المؤهلات في القاضي الجرجانى وكتابه المذكور أكبر شاهد له. ومن الأمثلة التي تهمنا في هذا المجال. أن الجرجانى قد مدح أبياتاً لأبى تمام، هي: دَعْنِى وَشُرْبَ الهَوَى يَا شَارِبَ الكَاسِ. . . فإننى لِلذِى حُسيتُهُ حَاسى لاَ يُوحشَنكَ مَا اْسَتْسَمْجَت مِنْ سَفَمى. . . فَإن مُنْزِلهُ مِن أحسَنِ النَاسِ مِنْ قًطع أُوْصَالِهِ تَوْصِيلُ مَهْلكَتِى. . . وَوَصْلُ ألحَاظهِ تَقْطِيعُ أنْفَاسِى مَتَى أُعِيشُ بتأمِيلِ الرخاءِ إذَا. . . ما كان قَطعُ رجَائى في يدِ بَاسى يقول الجرجانى معلقاً عليها: " فلم يخل بيت منها من معنى بديع، وصفة لطيفة. طابق وجانس، واستعار فأحسن. وهي معدودة من المختارة من غزله وحق لها، فقد جمعت على قصرها فنوناً من الحسن وأصنافاً من البديع. ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فيها من الأحكام والمتانة ما تراه، ولكن ما أظنك تجد لها من سورة الطرب وارتياح النفس ما تجده لقول بعض الأعراب: أقولُ لِصَاحبي والعِيسُ تَهْوِي. . . بِنَا بَيْنَ المُنِيفَةِ فالضِّمَار* تمَتعْ مِنْ شِميم عَرَارِ نجْدٍ. . . فَمَا بَعْدَ العَشِيَّةِ من عَرَارِ* ألاَيا حبذَا نَفَحَات نجد. . . وَرَيا رَوْضه غِب القِطارِ وَعَيْشُك إذِْ يَحِل القومُ نجداً. . . وأنْتَ عَلَىَ زَمَانِك غَيْرُ زارِ شُهُورٌ يَنْقضينَ ومَا شَعَرنا. . . بِأنْصَافٍ لهُنَ ولاَ سِرَارِ فَأمَّا ليْلُهُنً فَخَيْرُ ليْلٍ. . . وَأقْصَرُ مَا يَكُونُ من النهارِ فهوَ كما تراه - بعيد عن الصنعة. فارغ الألفاظ سهل الأخذ قريب التناول، وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعر اء في الجودة والحُسن بشرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته، وتُسلْم السبق فيه لمن وصف فأصاب وشبَّه فقارب. . * وهو في هذين النموجين ينقد ويوازن. ويأخذ الجرجانى في إيراد أمثلة للاستعارة الحسنة والقبيحة ويتحدث - مثلاً - عن التجنيس المطلق والتجنيس المستوفى والناقص والمضاف،. إلخ. وتراه أحياناً مصححاً لأخطاء وقع فيها بعض الناس. كأن يخلطوا بين الاستعارة والتشبيه، فتراه يقول في بيت أبى نواس: وَالحُبُّ ظهْر أنتَ رَاكِبُهُ. . . فَإذَا صَرَفْتَ عَنَانَهُ انْصَرَفَا ولستُ أرى هذا وما أشبهه استعارة وإنما معنى البيت: أن الحب ظهر أو مثل ظهر. . أو الحب كظهر تديره كيف شئتَ إذا ملكت عنانه. . فهو إما ضرب مثل أو تشبيه شيء بشيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ثم يضع حداً للاستعارة يلتقى فيه مع الآمدى، إذ يطلب كل منهما فى الاستعارة أن تظهر فيها المناسبة بينة بين المستعار له، والمستعار منه. ويمضى الجرجانى بروح العالِم الناقد بعد مقدمة كتابه يتحدث عن الشعر اء المتقدمين والمتأخرين وخاصة أبا نواس وأبا تمام مصوراً ما في أشعارهم من جمال أو قبح، محتكماً إلى البلاغة والذوق واللغة والتاريخ، ثم يعمد إلى شِعر المتنبي ويذكر طائفة من أشعاره التي أخذَت عليه إما لبعد الاستعارة أو لغرابة فى اللفظ أو تعقيد في الكلام. * * * * حصيلة هذه الجولات. رأينا منذ بزوغ النقد العربي من العصر الجاهلى حتى القرن الرابع الهجرى أن النقد والبلاغة وُلِدا توأمين، وأن البلاغة كانت ذات يد على النقد غذَّته ونمَّته، وأفدته بكثير من عناصر التطور والنضوج. وأنها كانت - وما زالت - المقوم الأساسى للنقد الفنى والنقد النفسي. ورأينا أنها تشرلع للأدب. ومنارات هدى للشعراء والناثرين، تُسهم فى رسم الصورة التي ينبغى أن يكون عليها الأداء اللفظي. والأسس العامة التي ينبغى أن تورد على هداها المعاني. ورأينا أنها كانت وراء كل قضية أدبية أو نقدية لأنها كانت تشيع فى الأساليب شيوع الماء في العود الأخضر. فما استُحْسِن معنى إلا من جهتها. ولا عِيْبَ آخر إلا لمخالفته مقاييسها. بل كانت هي وراء أخطر قضية في النقد العربي لا من الناحية الأدبية فقط. بل ومن ناحية الدين أيضاً، إنها وراء قضية الإعجاز القرآني. وكتاب عبد القاهر " الدلائل " آية هذا وشاهده. وإذا نظرنا إلى عنصرى الأدب - " الألفاظ " و " المعاني " - فإن البلاغة تشرع للاثنين معاً، وتقدم لهما أثمن الإرشادات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 * الألفاظ: فمن حيث الشكل اهتمت جهود العلماء بدراسة الألفاظ وصنفوها تصنيفاً حكموا بجمال بعضها وحكموا بقبح بعضها. وأوصوا باستعمال الجميل واطراح القبيح. فقد اشترطوا في جمال اللفظ: الجزالة والاستقامة، ومشاكلته للمعنى، وشدة اقتضاء القافية له إن كان الموضوع شِعراً. وجزالة اللفظ تتوافر له إذا لم يكن سوقياً مبتذلاً ولم يكن غريباً نابياً. ومعياره عندهم أن يكون بحيث تعرفه العامة ولا تستعمله في محاوراتها. وبهذه القاعدة عابوا كثيراً من أقوال الشعر اء. واستقامة اللفظ تكون من حيث الجرس أو الدلالة أو التجانس مع قرائنه من الألفاظ، فمن حيث الجرس يكون اللفظ مستقيماً إذا لم يجاف المتكلم به أصل وضعه اللغوي ولهذا عابوا البحترى في قوله: تشُقُ عَليْهِ الريحُ كل عَشيةٍ. . . جُيُوبَ الغَمَام بَيْنَ بِكْرٍ وَأيِّمِ لأن الأيِّم هي مَن لا زوج لها، سواء سبق لها الزواج أو لم يسبق. فالمقابلة بينهما غير مستقيمة. وكذلك يكون اللفظ مستقيماً إذا تجانس مع قرائنه من الألفاظ. ولذلك عابوا قول مسلم بن الوليد: فَاذْهَبْ كَمَا ذَهَبَتْ غَوَادى مُزنةٍ. . . يَثْنِى عَليَهَا السَّهْلُ والأوْعَارُ لأن المناسب أن يقول: السَّهل والوعر، أو السهول والأوعار، ليكون البناء اللفظي واحداً، ومشاكلة اللفظ للمعنى تكون إذا وقع اللفظ موقعه بغير زيادة ولا نقص. لذلك أخذوا على المتنبي قوله: اسْتَأثَرَ اللهُ بِالوَفَاءِ وَبِالعَدل. . . وَأُولى المَلاَمة الرَّجُلاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 لأن الملامة تتجه إلى الإنسان رجلاً كان أو امرأة، فذكره الرجل - هنا - فى مكان " الإنسان " معيب. ويلحق بهذا القياس وقوع الكلمة موقعها من القافية في الشعر. ولذلك مدحوا قول الحطيئة: هُمُ القَوْمُ الذِينَ إذَا ألمَّتْ. . . مِنَ الأيام مُظلِمَة أضَاءُوا لأن الإضاءة يتطلبها ظلام الأيام. وما استجد منها من أحداث مدلهمة. وتوسعوا في أوصاف اللفظ وجعلوا لكل نوع حكماً. . فهناك اللفظ العذب، واللفظ القوى، واللفظ الرقيق. . . إلى آخر هذه الأوصاف الحسنة. وهناك اللفظ النازل، واللفظ النابى، والمستكره والقلق. . . إلى آخر هذه الأوصاف المعيبة. * * * * المعاني: أما المعنى فيطلبون فيه أن يكون شريفاً. وشرف المعنى أن يقصد الشاعر فيه إلى الإغراب: اختيار الصفات الم ثلى، إذا وصف أو مدح لا يبالى بالواقع. فإذا وصف فرساً وجب أن يكون الفرس كريماً. وإذا تغزل ذكر من أحوال محبوبه ما يمتدحه ذو الوجه الذي برح به الحب. وإذا مدح فعليه أن يذكر ما يدل على شرف المقام إبداعاً وإغراباً لا مراعاة لصدق الوقف ولصفات ممدوحه كما يراه. ويطلبون فيه أن يكون صحيحاً. وصحة المعنى عندهم أن يسلم من الخطأ التاريخى أو العُرفى. . وبالاعتبار الأول عابوا قول زهير: فتَنْتِجْ لكمْ غِلمَانَ أشْأم كُلَهُمْ. . . كأحْمَرِ عَادٍ ثم تُنْتَجْ فتُتْئِم لأن المشتوم هو قدار أحمر ثمود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وبالاعتبار الثاني عابوا قول البحترى: نَصَرْتُ لهَا الشوْقَ اللجُوجَ بأدْمُعِ. . . تَلاَحَقْنَ في أعْقَابِ وَصْلٍ تَصَرمَا وذلك لأن الآمدى يرى الشوق يشفيه البكاء ولا يزيد منه، وعلى هذا النهج سار الشعر اء قبل البحترى. كما عابوا قول أبى تمام: إذَا ما رحًى دَارَتْ أدَرَّتْ سَمَاحَة. . . رَحَى كُلً إنجازٍ عَلى كلِّ مَوْعِدِ لأنه جعل إنجاز الوعد بمثابة طحنه بالرحى. وهو قضاء عليه. وذلك فى عُرف اللغة لا يكون إلا للإخلاف. ويطلبون فيه الإصابة في الوصف. فعليه أن يذكر المعاني العامة التي هى أولى بمثال الوصوف من حيث هو مثال. فينأى عن المعاني والصفات المجهولة. ولهذا حكموا بإصابة زهير في الوصف حين مدح هرم بن سنان. لأنه وصفه بالصفات العامة التي يجب أن تكون في الرجل الكريم. كما يطلبون فيه المقاربة في التشبيه. ومناسبة المستعار منه للمستعار له، على حسب العُرف اللغوي والمجاز. ولهذا عابوا قول أبى نواس: بُح صَوْتُ المالِ مِما. . . مِنْكَ يَشْكُو ويَصِيحْ وذلك لبُعد الشبه بين المال - المشبه - والإنسان - المشبه به. كذلك يطلبون فيه الاعتدال، ويذمون المبالغة المغرقة. . . إلى آخر ما شرعوه لتصوير المعاني الكلية والجزئية. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 * منارات على الطريق: والبلاغة العربية بحثت في اللفظ المفرد وهيئته للاستعمال خالياً من العيوب فلا يكون اللفظ أو الكلمة فصيحة صالحة للاستعمال إلا إذا سلمت من أربعة عيوب: الأول: سلامتها من تنافر الحروف لتكون الكلمة رقيقة عذبة. الثاني: سلامتها من الغرابة لتكون الكلمة مألوفة الاستعمال غير قلقة. الثالث: سلامتها من مخالفة القياس لئلا تكون شاذة. الرابع: سلامتها من الابتذال فلا تكون الكلمة قد أبلاها الاستعمال. فإذا سلمت من هذه العيوب فهى فصيحة. وإذا لم تسلم فهى غير فصيحة. واستعمالها معيب ولهذه الاعتبارات ردوا كثيراً من النصوص. أما الكلام - قَلَّ أو كثر - فالفصاحة - أيضاً - شرط جماله. وهو لا يكون فصيحاً إلا إذا سلم - أيضاً - من العيوب الأربعة الآتية: الأول: تنافر الكلمات مجتمعة. الثاني: ضعف التأليف، فلا يخرج الكلام عن قواعد النحو المشهورة. الثالث: التعقيد اللفظي بحيث لا يكون الكلام على نسق غير معروف. الرابع: التعقيد المعنوي بحيث لا يظهر المعنى من الكلام إلا بعد جهد جهيد . . . هذا نصيب الكلام من الفصاحة والمقصود من ورائه أن يكون النص عذب الكلمات رشيقها وأن يكون معناه واضحاً. والوضوح دعامة من دعائم جمال النص. فإذا توافرت في الكلام - بعد الكلمة - شروط الفصاحة - فلا تظننَّ البلاغة تنتهى بك عند هذا الحد. بل تأخذ بيدك إلى مقياس آخر. هو أن يكون الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بليغاً. . . ولا يكون الكلام بليغا إلا إذا كان مطابقاً لمقتضى الحال. مع فصاحة كل كلمة فيه، ولكل مقام مقال، وعلى المتكلم أن يكون خبيراً بأحوال مخاطبيه. فطناً بطرق التعبير حتى يكون كلامه مؤثراً. وهنا تظهر صلة البلاغة بأحوال النفس. وهي صلة تشغل جانباً كبيراً فيها. فعلى المتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار السامعين. ويعرف أقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً. ولكل حالة مقاماً. وقد فصلت البلاغة القول فيما يناسب كل مقام. وأمدت المتكلم بالنماذج والأسس التي يسير على هداها في كل حال، وكان علم المعاني - وهو أحد مباحثها الثلاثة - خير معين على ذلك. ففيه التوكيد بأنواعه، وفيه ترك التوكيد عند عدم دواعيه، وفيه الحذف والذِكر، وفيه التقديم والتأخير، وفيه التعريف والتنكير، وفيه الفصل والوصل، وفيه الإيجاز والمساواة والإطناب، وفيه القصر وعدم القصر، وفيه الحقيقة العقلية والمجاز العقلي. . وهذه عناوين لأمهات مسائل تحتها كثير من الدقائق والأسرار. وعلم البيان مجال فسيح لتصوبر المعاني. وخلجات النفوس في أدق أحوالها، ففيه التشبيه والتمثيل، وفيه الاستعارة، وفيه المجاز الرسل، وفيه الكناية والتعريض، وفيه الالتفات من حالة إلى حالة لداع ومقتض. . وفيه كثير من التوجيهات. والتشبيه والمجاز وسائل إبراز الخيال والعواطف. ومكامن الإبداع والخلق فى كل عمل فنى. فليس هناك وسيلة يمكن أن يصور على هداها الخيال إلا التشبيه والمجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 والبديع ليس سمة ترف في الأسلوب متى كان جارياً مع الطبع. وإنما هو مظهر من مظاهر التناسق الصوتى في العمل الأدبي. ومظهر من مظاهر التأنق فى روعة المعنى وحسن تأديته. إن منزلة البديع من الأسلوب منزلة المكملات في الجملة بعد استيفاء ركنيها، ولم يقل أحد بتهوين شأن تلك المكملات في الإفصاح عن المعنى واكتماله. فليس في البديع مظهر ترف في البيان وإنما هو إضافات تزدان بها العبارات وتكسبها بهاءً وخلابة. تلك هي - في إيجاز - بلاغتنا العربية، دعامة الإعجاز البياني ومصدر القوة والجمال في البيان الرفيع. وصدق الله العظيم إذ يقول منوِّهاً بفضل بلاغة القول: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الباب الثاني خصائص التعبير في القرآن الكريم * الإعجاز العلمي والتشريعي. * الإعجاز البياني الأدبي. * خصائص يغلب عليها جانب الألفاظ. * خصائص يغلب عليها جانب المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الفصل الأول الإعجاز العلمي والتشريعي يعتبر الإعجاز - بعامة - خصيصة القرآن الكبرى. وجدير بالذكر أن نبئن الاتجاهات التي حاولت فهم الإعجاز. ونرجح منها ما رجحه الدليل والباحث في الإعجاز القرآني يرى أربع نظريات: 1 - مذهب الصرفة 2 - الإعجاز العلمي. 3 - الإعجاز التشريعي 4 - الإعجاز البياني الأدبي (1) . * * * 1 - الصرفة يُنسب القول بالصرفة إلى الشيخ إبراهيم بن سيار النظام، على أنه أول مَن قال به. ومعناه على وجوه ثلاثة: أحدها: أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها. ثانيها: أن الله صرف عن العرب العلوم التي تمكن بها المعارضة مع بقاء الدواعى. ثالثها: أن الله قسرهم وألجأهم إلى عدم المعارضة. وقد راق هذا القول كثيراً من المعتزلة فاتخذوه مذهباً لهم في فهم الإعجاز، وتابعهم عليه غيرهم.   (1) قصرنا الحديث في هذا الفصل على النظرلات الثلاث الأولى، أما الإعجاز البياني الأدبى فقد تحدثنا عنه في الفصل التالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ويرى بعض المحدَثين أن في نسبة الصرفة إلى المعتزلة ضعفاً في المسند وحيفاً فى الحكم. فقد تشكك الدكتور على العمارى في صحة النسبة. واستند في تشككه إلى ما كتبه عبد الهادى أبو ريدة وفحواه: إنه لا يستطيع أحد أن يزعم أن القول بالصرفة جاء صراحة في كتب المعتزلة وعلى رأسهم النظام. بل إن آراء المعتزلهَ جملة أخذت من كتب خصومهم. يقول الدكتور العمارى: " ولولا إنى رأيت الجاحظ يعرض لهذا المذهب فى كتاب " الحيوان " لكان لى مندوحة في الشك والتردد الكثير في نسبة المذهب للنظام ". وقد انتهى الدكتور العمارى إلى نتائج نوجزها فيما يلى: 1 - أن النظام قد شهد كثير من الفضلاء بنبوغه وورعه وولائه وبلائه فى الإسلام، وخالف فريق فقالوا بكفره وزندقته. 2 - أن المعتزلة - عموماً - نكبوا بضياع مؤلفاتهم في القرن الثالث الهجرى وظلت آراؤهم تلوكها الألسنة، وتناولها الخصوم بالتبديل فهى - لذلك - لا تمثل حقيقة آرائهم. 3 - أنهم - أي المعتزلة - نكبوا - كذلك - برجل لا يثبت على مذهب، ولا يستقر على حال. وكانَ واسع الأفق في الكذب والاختراع، وهو أبو الحسن أحمد بن يحيى المعروف بابن الرواندى. فهو منسوب إلى الاعتزال وقد أساء إلى المذهب بأقاويله الفاسدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ويريد أستاذنا العمارى بذكره هذه الوقائع أن يدعم شكه الذي سبقت الإشارة إليه في نسبة هذا الرأي إلى النظام. وقد عزاه إلى عيسى بن صبيح الزدار شيخ الاعتزال في بغداد. والذي يلقب براهب المعتزلة. وإلى الجعد بن درهم مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين. والجعد - هذا - كان معروفاً بالتطرف في الرأي. وعلى هذا فليس النظام هو أول مَن قال بهذا الرأي. وإنما نُسِبَ إليه المذهب وعُرِف به لأنه أكثر القول فيه. * * * * رأى آخر للنظام: وكما نُسِب القول بالصرفة إلى النظام. . فقد نُسِب إليه قول آخر هو أن القرآن معجز لا فيه من الإخبار بالأمور الماضية والآتية. كما يذكر الدكتور العمارى حقيقة أخرى. هي: أن القائلين بالصرفة - سواء أكانوا معتزلة أم غير معتزلة - لم يحطوا من شأن بلاغة القرآن. وجمال أسلوبه، لأن القول بالصرفة لا ينال من القول ببلاغة القرآن وعلو طبقته. * * * * تعقيب: لسنا في موضع دفاع عن المعتزلة والتظام. ومهما استند إليه الباحثون من التشكيك في نسبة هذا القول إليهم. فإن المعتزلة قد عُرِفوا بالجرأة في مسائل العقيدة والسياسة فلا يُستساغ: لا يُقبل أن يبرأ النظام وأشياعه عن ابتداع هذا القول في فهم الإعجاز. وإن لم يكونوا هم القائلين به فمَن يكون مبتدعه إذن؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ليكن عيسى بن صبيح المزدار، أو الجعد بن درهم، أو حتى الرواندى. أوَ ليسوا هم معتزلين؟ وكيف يُستهان بشهادة الجاحظ؟ والدكتور العمارى نفسه قد ذكرها في كتابه. والجاحظ ممن يعتد برأيه في هذا المجال؟ إن المسألة أخذت من الدكتور العمارى - فيما أرى - أكثر مما تستحق. . * * * " أشياع المذهب من غير الاعتزال: راق القول بالصرفة كثيراً من غير المعتزلة. فأخذوا به واعتنقوه مذهباً فى فهم الإعجاز. من هؤلاء الجاحظ في أحد آرائه، والرماني صاحب النكت في إعجاز القرآن وهما من المعتزلة. ومنهم الشريف الرضى، وابن سنان الخفاجى، وهما من الشيعة. وأبو إسحق الإسفرائينى من الأشاعرة. والإمام محمد بن حزم من أهل الظاهر. يقول ابن سنان الخفاجى: ". . وإذا عدنا إلى التحقيق. وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته بأسلوبه بأن سلبوا العلوم التي كانوا يتمكنون بها من المعارضة في وقت مرامهم ذلك ". ساق ابن سنان هذا الكلام، وهو بصدد الرد على الرماني وإنكاره ما ذهب إليه من تقسيم التأليف إلى ثلاثة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 1 - متنافر. 2 - متلائم في الطبقة الوسطى. 3 - متلائم في الطبقة العليا. وحيث جعل القرآن من النوع الثالث التلالم من الطبقة العليا، لمجيئه على وجه لم يكن مألوفاً عند العرب. وقد خالف ابن سنان الخفاجى رأى الرماني هذا. وأنكر أن يكون في تأليف القرآن ما يخالف كلام العرب، وسوى بين طريقة القرآن وطريقة العرب فى التأليف، وبنى على ذلك مذهبه في الرد على الرماني. إذ كيف يفصل - أى الرماني - بين كلامين خصائصهما الأسلوبية واحدة. ويُفهم من كلام ابن سنان أمور: 1 - أن العرب - بطبعهم - قادرون على محاكاة القرآن، ودواعى المحاكاة متوافرة لديهم. 2 - أن الذي منع العرب من المعارضة هو أن الله تعالى صرف المعارضة عنهم بسلب العلوم المؤدية إليها مع رغبتهم فيها. 3 - أن ذلك المنع هو وجه الإعجاز في القرآن لا غير! * * * * رأى متطرف: وقد صرَّح ابن سنان بما هو أخطر من ذلك إذ يقول: " لا فرق بين القرآن، وبين فصيح الكلام المختار في هذه القضية. ومتى رجع الإنسان إلى نفسه وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن فى تأليفه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 والحق أن الذي ذهب إليه من المساواة بين القرآن وبين كلام العرب مرفوض من وجهين: - أولاً: أنه ادعى دعوى لم يقم عليها الدليل! ؟ ثانياً: أن هذا الرأي شاذ وموضع إنكار شديد عند العلماء. * * * * ابن حزم والصرفة: يرى ابن حزم الأندلسى إمام أهل الظاهر أن إعجاز القرآن حال بالصرفة. ويرفض ابن حزم الإعجاز البياني. وقد لخص رأيه في قوله: " ووجه إعجازه أن الله رفع القوة عن العرب. وحال بين العباد وبين أن يأتوا بمثله، ويرى أن التحدى وقع بالنظم وبما في القرآن من الإخبار عن الغيوب وإن كان غير مطرد فى القرآن كله. وأن الإعجاز حاصل ببعض القرآن دون التوقف على القرآن كله كما يرى الأشاعرة. وإعجازه باق إلى يوم القيامة. والقرآن ليس من جنس كلام البَشر، ويسوق على ذلك ما رآه من أدلة مثل فواتح السور بالحروف المقطعة، والأقسام التي لا عهد للبَشر بها. ومزجه بين المعاني المتباعدة. وفي رفضه الإعجاز البياني يقول: " وقد ظن قوم أن عجز العرب ومَن تلاهم من سائر البلغاء عن معارضة القرآن إنما هو لكون القرآن في أعلى طبقات البلاغة، وهذا خطأ شديد، ولو كان كذلك، وقد أبى الله عزَّ وجلَّ أن يكون كذلك، وإن كان سبق في وقت ما فلا يؤمن أن يأتى في غد ما يقاربه أو يفوقه "! ومعنى هذا الكلام: أن ابن حزم يستند في رفضه المذهب البياني إلى أن القول به قد يفضى إلى نقض الإعجاز في المستقبل، لجواز أن يظهر في الناس نابغة يأتى بمثل القرآن أو بما يفوقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وظاهر أن هذا الاحتياط الذي لخصه مبنى على وهْم ما كان يليق بابن حزم أن يقع فيه. إن العصر الذي نزل فيه القرآن كان عصر ازدهار في البيان، وقد اقتضت حكمة الله أن تكون معجزات رسله فوق ما يستطيعه الناس. كل حسب طبيعة القوم المرسَل إليهم. إن ثبوت عجز العرب الأصلاء الذين عاصروا نزول القرآن. دليل قاطع - من الواقع لا من الوهم - على عجز اللاحقين. فالقرآن كان يتحدى آنذاك قوما لهم فى البيان قدم راسخة. كان يتحدى عصر " القمة " في البيان والفصاحة. وهذا يدفع شُبهة ابن حزم * * * * الرماني والقول بالصرفة: قلنا فيما سبق أن الرماني من القائلين بأن وجه الإعجاز في القرآن كان الصرفة. وترجع وجوه الإعجاز عنده - جملة - إلى سبعة أصول: 1 - ترك المعارضة مع توافر الدواعى وشدة الحاجة. 2 - تحدى الكافة 3 - الصرفة. 4 - البلاغة 5 - الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة. 6 - نقض العادة 7 - قياسه بكل معجزة. والبلاغة التي هي أحد وجوه الإعجاز عند الرماني - يقسمها إلى عشرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أقسام: الإيجاز - التشبيه - الاستعارة - التلاؤم - الفواصل - التجانس - التصدير - التضمين - المبالغة - حسن البيان. . وسيأتى رأيه مفصلاً. * * * * ما هو مذهب الجاحظ في الإعجاز؟ هل قال الجاحظ بالصرفة؟ حقيقة لا بدَّ من عرضها هي أن الجاحظ لم يذكر رأيه صراحة في الإعجاز. وإنما يفهم رأيه فيه من ثنايا حديثه عن القرآن. وقد جاء عنه: " وفي كتاب الله المنزل الذي يدلنا على أنه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد ". وإذا ضممنا إلى هذا القول ما كتبه الجاحظ عن القرآن - وتحليله لبعض نصوصه - قوى الرأي لدينا بأن الجاحظ يقول بإعجاز القرآن من حيث نظمه البديع. * * * * نقد مذهب الصرفة: لم تثبت لهذا الرأي حُجة، ولم يبق له دليل، منذ تعرض العلماء لنقده ورده لضعف أدلته. فهل استطاعوا جميعاً، أو استطاع واحد منهم أن يأتينا بمثال أو مثالين أو أدنى من ذلك أو أكثر من شِعر العرب أو نثرهم. مما أثبتت الرواية أنهم قالوه قبل سلب تلك العلوم، تتضح فيه الخصائص التي جاء بها الأسلوب القرآني. فيكونا سواء في القوة والروعة. لم يفعل أحد منهم ذلك، فظلت آراؤهم لا تتجاوز دائرة الظن والتخمين، وهل كان القائلون بالصرفة أدرى من العرب أنفسهم الذين تحداهم القرآن أن يأتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 بمثله فيثبتوا لهم ما يذعوه لأنفسهم. لو كان عندهم ذلك لجاءوا به ولوضعوه فى حلبة المباراة ولقالوا لمحمد عليه السلام: هذا قولنا، قلناه قبل أن تعرف القرآن. . وهو يساويه في البلاغة وقوة البيان، فما بالك تطلب جديداً وقد سبقناك؟ إن القرآن يحكى عنهم أنهم لم يدعوا هذه الدعوى بل علقوا ذلك على أن تريده مشيئتهم فيقولوه، لا أنهم قالوه فعلاً. القرآن ينقل عنهم قولهم: (قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) . وفي هذا يقول الباقلاني: " ولو كان مقدوراً للعباد، لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به، وكانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه. وتعمل نظمه في الحال. فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق وخطبة متقدمة، ورسالة سالفة، ونظم بديع، ولا عارضوه، فقالوا: هذا أفصح مما جئت به وأغرب منه أو هو مثله. عُلِمَ أنه لم يكن إلى ذلك سبيل وأنه لم يوجد له نظير ". وقد قارن العلماء بين قول العرب: " القتل أنفى للقتل " وقد كان قولهم هذا مضرب الأمثال في البلاغة والفصاحة وحسن الدلالة، لما فيه من الإيجاز وثراء المعنى، وبين قوله تعالى: (وَلكُم فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ) وجاءت نتيجة المقارنة تثبت التفوق للنص القرآني من عدة وجوه لا من وجه واحد. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 * مقارنة جديدة: وأذكر هنا مثالاً يمكن جعله موضوعاً للمقارنة وهو قوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) . إذا قارنا هذه الآية بقول السموأل وهو يتفق معه في الغرض العام: وَنُنْكِرُ إنْ شِئْنَا عَلى الناسِ قَوْلهم. . . وَلاَ يُنْكِرُونَ القَول حِينَ نَقُولُ أقول: إذا وازنا بين الآية الكريمة. . وبين قول هذا الشاعر لبان الفضل فى جانب الآية الكريمة من عدة وجوه كذلك. وها نحن أولاء نقوم بموازنة سريعة بينهما. لا على أن ما قلناه هو كل ما بينهما من فروق. ولكن لضرب المثل بما يكون في جانب النص القرآني من الخصائص والمزايا التي لا توجد في سواه مهما كان عظيماً جيداً. ونجرى الموازنة على النحو الآتى: أولاً - من حيث الأسلوب: (أ) الآية الكريمة تتكؤن من ست كلمات، بينما يتكون البيت من إحدى عشرة كلمة، وعدد حروف الآية اثنان وعشرون حرفاً، بينما البيت بلغ عدد حروفه خمسة وأريعين حرفاً. (ب) في الآية إيجاز بالحذف في أربعة مواضع هي: 1 - " يُسْئَلُ " حيث حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول وأضمر فيه نائب الفاعل. 2 - " يَفْعَلُ " وهذا الفعل صلة الموصول " ما " حذف منه عائد الصلة. والأصل " عما يفعله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 3 - " يُسْئَلُونَ " حيث فعل فيه مثل ما فعل في سابقه، فبنى الفعل للمفعول وحذف فاعله. وجيء بالضمير (واو الجماعة) وجُعِلَ نائب فاعل. 4 - الوضع الرابع. . حيث حذف معمول " يُسْئَلونَ " والتقدير: " عما يفعلونه " وهذا الحذف اعتماداً على ما ذكِرَ مع نظيره " لا يُسْئَلُ عما يفعل " فحذف من الثاني لدلالة الأولى عليه. أما البيت ففيه إطناب في موضعين أحدهما لا بأس به، والثاني جاء قيداً مضراً بالمعنى الذي يقتضيه المقام. فالأول حيث قال: " إن شئنا " معترضاً به بين العامل: " ينكر " والمعمول " قولهم "، والثاني قال: " حين نقول " وقد أضر هذا بالمعنى لما سيأتى: (جـ) كل من الآية والبيت اشتمل على محسنين بديعيين. أحدهما الطِباق، والثاني رد العجز على الصدر. والطِباق في الآية طِباق سلب وإيجاب. وفي البيت طِباق إيجاب وسلب، ولتقديم السلب على الإيجاب في هذا المقام فضيلة لا نراها لغيره - حيث نفت الآية أن يُسئل الله عن فعل يفعله فأثبتت له كمال الإرادة بما يصدر عنه أولاً. ثم أثبتت له صفة متعدية وهي أنه يُسئل عما يفعله سواه. أو أن سواه يُسئل عما يفعله سواء أكان السائل الله. أو بعضهم بعضاً. أما طِباق البيت فقد أثبت أولاً الصفة المتعدية، وثانياً الصفة الذاتية. : المقام هنا مقام فخر، فكان الأولى أن يبدأ بإثبات الصفة الذاتية. ثم يُثنى بالصفة المتعدية، ولو فعل لكان أنسب بالمقام إذ يكون الانتقال - من إحدى الصفتين إلى الأخرى - انتقالاً طبيعياً قد مهد له ورشح. لكنه خالف. فجاء أسلوبه على غير المختار. وكذلك رد العجز على الصدر، فإن الآية التي هي موضع المقارنة ردت آخر كلمة في العبارة على أول كلمة بعد أداة السلب فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بينما البيت رد أول كلمة من الشطر الثاني بعد أداة النفى على أول كلمة فى البيت. فأنت ترى أن الآية ردت العجز فعلاً على الصدر، بينما البيت إنما يعتبر فيه العجز مع شيء من التسامح. فإطلاق ضابط المحسن البديعى - رد العجز على الصدر - في " الآية " أكثر اتساقاً منه في " البيت " وهذا ملحظ دقيق جداً. (د) ليس في الآية ما في البيت من التكرار. ققد وقع التكرار في البيت فى موضعين تكرر أحدهما مرتين وهو: " ننكر "، " ينكرون "، وتكرر ثانيها ثلاث مرات وهو: " قولهم "، " القول "، " نقول ". بينما الآية لم يتكرر فيها سوى موضع واحد، وهو تكرار لا فضول فيه إذ أن الكلمة المكررة " يُسْئَل " و " يُسْئَلُون " تؤدى معنى أساسياً في الموضعين وهذا وإن جاز اعتباره في البيت في: " ننكر "، " ينكرون "، فلا يجوز بحال من الموضع الثاني: " قولهم "، " القول "، " نقول ". (هـ) في الآية موسيقى داخلية شجية تلحظها بين اللامين في " يُسئل "، و" يفعل " مع سهولة نطق ألفاظها وسلاستها. وهذا الجانب غير واضح في البيت. بل هو - على العكس من الآية - خشونة في الألفاظ. ثانياً - من حيث المعنى: (أ) في الآية التعبير بالفعل دون القول. وفي البيت التعبير بالقول دون الفعل. والفعل أعم من القول فهو يشمل، والقول لا يشمل الفعل. وهذا يسلمنا إلى الموازنة بين الموضعين من حيث المعنى، بعد أن وازنا بينهما من حيث أسلوب التعبير. فالآية أعم في المعنى من البيت، فليس هناك مأخذ يتوجه إليها إذ ثبت المراد منها في دقة وإحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فالله كامل الإرادة، مطدق التصرف، لا يسأله أحد عن فعل يفعله أو قول يقوله لأن سلطانه على العالمين قائم. أما الناس فليسوا مطلقى التصرف، ولا كاملى الإرادة، فالله يسألهم عما يقولون وعما يفعلون ولا محالة. وقد يسأل بعضهم بعضاً بما لأحدهم على الآخر من قوامة. وهذا العموم فى تعيين السائل مأخوذ من بناء الفعل للمفعول ولو ذكر الفاعل لوجب الالتزام به. فانظر إلى الأسلوب القرآني ودلالة ألفاظه كيف تكون. (ب) ثلاثة مأخذ: أما البيت ففيه ثلاثة مآخذ فيما أرى - من حيث المعنى تتنافى ومقام الفخر. أولاً: التعبير بالقول دون الفعل حصر منهم للناس فيه دون غيره. والمقام يقتضي أن تكون له سلطة تمنع الناس القول والفعل وإلا فإن مقومات الفخر عند الشاعر لم تُستكمل. ثانياً: هو يقول: " وننكر إن شئنا على الناس قولهم "، فكان الأنسب لتكون المقابلة تامة بين النظائر أن يقول في الشطر الثاني: " ولا ينكرون قولنا "، لكنه أتى بالألف واللام عوضاً عن المضاف إليه فجاء المعنى غامضاً الأنه يرد عليه سؤال مؤداه: قول مَن يا ترى الذي لا ينكرونه؟ ثالثاً: لا يدفع هذا الاعتراض بقوله في آخر البيت: " حين نقول " لأنها تبين أن المراد بالقول قولهم هم لا قول غيرهم لأن هذه العبارة المقام يقتضي حذفها إذ تخص عدم المنع في حالة القول. والأولى أن يكون عدم المنع أو النكران مستمراً قبل وأثناء وبعد القول. هذا أولى ليكونوا أجلاء مهابين في جميع الأوقات، فأنت ترى إذن أن هذه العبارة قلقة أضرت بالمعنى ولم تأت إلا للوزن الشعرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 هذا مثال نقدمه لنسأل سؤالاً: هل كان فيما قاله العرب قبل عصر نزول القرآن وتحديه لهم ما يضاهى القرآن في الحسن والجمال، أو يقاربه فضلاً عن أن يفوقه؟ والجواب: لم يكن شيء من ذلك. . . ومَن يدعه فليأتنا بمثال، وما هو بواجد. . . وإذا انتفت عنهم هذه المأثورات التي تضاهى القرآن أو تقاربه أو تفوقه - والحال أن الوسائل كانت ممكنة قبل عصر التحدى - لزم القول بالإعجاز وبهذا يبطل شق مدعاهم. وهو أن الله سلبهم العلوم التي تمكن من المعارضة. ولو بقيت لعارضوا. * * * * وهم زائل: أما الشق الثاني:: الذي يذعون فيه أن الله صرف عنهم دواعى المعارضة مع قدرتهم عليها. فوهم زائل. : ذلك لأن القرآن تحداهم أن يأتوا بمثله. في صور مختلفة، وأزمنة ممتدة. يقول الجاحظ: " فلم يزل يقرعهم بعجزهم. وينقصهم على نقصهم، حتى يتبين لحضعفائهم وعوامهم كما تبين لأقويائهم وخواصهم. وكان ذلك من أعجب ما أتاه الله مع سائر ما جاء به من الآيات وضروب البرهانات ". التحدى لم يحدث مرة واحدة، ولا في زمان واحد، ولا بصورة واحدة، والآيات الآتية تكشف لنا عن هذه المعاني: قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) وقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) . وقال: (قُل لئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ وَالجِن عَلى أن يَأتُواْ بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهِيراً) . وقال: (فَليَأتُواْ بِحَديِثٍ مِثْلِهِ إن كَانُواْ صَادقِينَ) . هذه الآيات التي تحدى فيها القرآن العرب، استثارت فيهم كل دوافع المعارضة وطلب الغلب، وهيجت شعورهم بكل صورة ممكنة. مؤذنة لهم بأن يستعينوا بما يشاءون من دون الله: شركاؤهم - أو جماعة من الإنس أياً كانوا - أو جماعة من الجن أياً كانوا، أو هم جميعاً وليناصر بعضهم بعضاً. بدأ هذا التحدى في مكة، وأخذ يقرع آذانهم في أزمان متفاوتة كما يُدْرَك من توزيع آيات التحدى على السور المختلفة: يونس. وهود، والإسراء، والطور. وهذه سور مكية. ثم استؤنف ذلك في أول سورة تنزل بالمدينة بعد الهجرة، وهي سورة البقرة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 * كيف تحدى القرآن العرب؟ القرآن لم يهادنهم في أمر التحدى وقد بدأ معهم بهذا المنهج: أولاً: طلب منهم أن يأتوا بحديث مثله، غير مقيد بالقليل أو الكثير. فلم يستطيعوا ولهم فسحة من الزمن. ثانياً: طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مفتريات مثله - كما يقولون - وفى هذا تقييد وإطلاق. تقييد في العدد: عشر سور. وإطلاق في الطول والقصر. فلم يستطيعوا كذلك. ثالثاً: خفف عنهم فطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله، سورة غير مقيدة، طويلة أو قصيرة أو متوسطة الطول والقصر. فلم يستطيعوا. فكرر لهم التحدى بها فعجزوا. رابعاً: فلما عجزوا فلم يأتوا بحديث مثلها ولا بعشر سور، ولا بسورة واحدة، وبلغوا اليأس، سجَّل عليهم هذا العجز، وتحداهم في صورة ختمت مراحل التحدى. وسجَّلت نهاية نتائج المباراة أو المناظرة فقال: (قُل لئِنِ اجْتَمَعَت الإنسُ وَالجنُ عَلى أن يَأتُواْ بمثْل هَذَا القُرْآن لا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلوْ كًانَ بَعْضُهُمْ لِبًعْضٍ ظهِيراً) . فهل مع هذا التحدى المستمر المثير، يُصدق منصف أن القوم لم تكن لديهم رغبة في المعارضة. وأن الله صرف عنهم دواعيها؟ إن العكس هو الصحيح، إن القرآن أثار فيهم تلك الدواعى. وهيج نفوسهم لها ليبذلوا أقصى ما عندهم في الإتيان بمثله. فلم يستطيعوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فلما عجزوا عن مجاراة القرآن في مجال البيان استبدلوا الطعون فيه بالمحاكاة، فمرة شِعر. ومرة سِحر يؤثر. . . لما لم تفد هذه الطعون استبدلوا بها السيف شهروه في وجه صاحب الدعوة وأتباعه، فأنزلوا بهم الأذى. وقعدوا لهم في كل طريق. فلو كان القوم مسلوبي الدواعى في مجال البيان. لكانوا مسلوبى الدواعى فى مصاولة الأقران. وهذا كاف في رد الشق الثاني من مدعاهم - أي مدعى أهل الصرفة - وإذا بطل مدعاهم بشقيه. ثبت ما حاولوا نفيه به. وهو الإعجاز البياني الذي لم يكن في مقدور العرب محاكاته مع الرغبة فيها وبقاؤهم على طبيعتهم من المعارف والعلوم. * * * * دليل آخر في إبطال القول بالصرفة: لم تترك الصرفة شيئاً ذا قيمة فيما سبق لنا من نقاش لها، ومع هذا فإن العلماء قد ردوها بدليل آخر حاصله كما يقول الباقلاني: " لو كان المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزاً، وإنما يكون المنع معجزاً فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه". وهذا رأى صائب ورد قاطع، لأننا ما دمنا متفقين على أن القرآن معجز فيجب أن يكون هذا الإعجاز في القرآن ذاته، لا مستجلباً له من خارجه. كما هو مقتضى القول بالصرفة. لأن المعجز فيها هو الله بسلب المعارف والعلوم عن العرب، أو صرف دواعى تلك المعارضة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 * هل عورض القرآن؟ رأيتُ كثيراً من الباحثين في إعجاز القرآن ينفون معارضة العرب له. ويعزون ما ورد منها إلى اختلاقات الرواة. وأول مَن حاول ذلك هو الجاحظ حيث يقول: " ولم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر ". وقد اقتدى بالجاحظ الكثير من العلماء كالخطابى وابن خلكان وغيرهم من القدماء. وقد تأثر الدكتور على العمارى - حديثاً - بهذا الرأي فبالغ في نفى المعارضات حقها وباطلها. . فلا مسيلمة عارض، ولا سجاح، ولا ابن المقفع، ولا المتنبي الشاعر، ولا أبو العلاء المعري، ولا طليحة. كل هؤلاء - عند الدكتور العمارى لم يعارضوا القرآن. بل لم تحدث المعارضة قَط. لا في عصر النزول ولا بعده. وقد بنى هؤلاء مذهبهم - في نفى المعارضات - على اختلاف الرواية والصياغة، وهذا مسلك قد يبدو وجيهاً، وحُجة قد تبدو محكمة. ولكنه لا يفيد القطع. فليس اختلاف الرواية أو الصياغة - دائما - دليل شك أو بطلان. فلم يسلم من اختلافات الرواية والصياغة حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك لم يقل أحد برفض أو بطلان ما اختلفت روايته منه، أو تباينت صياغته مع صحة سنده ومتنه. فالحديث الواحد قد يأتى على عدة أسانيد مع اختلاف العبارات، ومع ذلك فهو حُجة فقهية وأصل من أصول التشريع. ولم يسلم من اختلاف الرواية والصياغة الشعر العربي القديم - جاهليه وإسلاميه - ولم يُرفض ذلك الشعر جملة لأن رَوايته وصياغته جاءتا على أساليب مختلفة، بل للرد والرفض طرق أخرى مدونة في مصادرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وقد كان الباقلاني أسَدَّ رأياً حين لم ينف وجودالمعارضات أصلاً. بل نفى أن يكون ما ورد منها تنطبق عليه خصائص المعارضات المقبولة، ولو قال النافون على الإطلاق مثل قوله لما خالفهم أحد. والذي نأخذه على الدكتور العمارى أنه يرى أن التسليم بورود المعارضات لا يخدم قضية الإعجاز القرآني. ولذلك راح يستخدم كل حيلة وبراعة في تأييد مذهب نفى المعارضات أساساً. ونحن نميل إلى خلاف رأيه في سيء من الحيطة وما نريد إثباته هنا. أن: المعارضات التي وردت لم تكن قضية العرب كلهم لأنها لا تفيدهم في مقام التحدى لعدم ورودها على أسلوب القرآن. ولذلك لم تكن موضع اهتمام عند جميعهم حتى لا يخاطروا بما لا يحسنون في مقام يؤخذ عليهم فيه ذلك. لذلك جاءت المعارضات من الحمقى والمغامرين. فهى تمثل عندهم طابعاً فردياً لا جَماعياً. * * * * التسليم بوجود المعارضة يخدم قضية الإعجاز: وهذه المعارضات على ندرتها واختلاف الرواية فيها والصياغة، وطابعها المفردى. . هي في مجموعها تخدم الإعجاز - على نقيض ما يقوله الدكتور العمارى - ولا تنال منه، لأننا إذا عمدنا إلى شيء من نصوصها وقارناه بما يقابله من القرآن الكريم. بانَ لنا الفرق بين الأصالة والتقليد، والقوة والضعف. والجدة والذبول. كالفرق بين الزهرة اليانعة في روض أريض، وبين زهرة صناعية لا ماء فيها ولا شذا. فقد عورض قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 بقول بعضهم: " إنا أعطيناك اللحاح. فصل لربك وارتاح. إن شانئك هو العجل النطاح ". وهذا قول ساقط لا يستحق الحروف التي كتب بها. ولا المساحة التي يشغلها من رقعة ورق بالية. وهو مع سقوطه هذا يبدو عليه أثر السرقة والتقليد. لأن العارِض عمد إلى النص القرآني نفسه وجاء به رافعاً منه ثلاث كلمات، واضعاً موضعها أربع كلمات تميل إلى السقوط والابتذال والغثاثة. رفع " الكوثر " ووضع موضعها " اللحاح "، ورفع " وانحر " ووضع موضعها " وارتاح " وفيها خطأ ظاهر (1) . ورفع " الأبتر " ووضع موضعها " العجل النُطاح ". فما الذي أتى به من عنده إذن. سوى السيئ والقبيح. ليقارن الذوق وليحكم بما يرى! * * * والخلاصة: أن التسليم بورود المعارضات يخدم قضية الإعجاز ولا ينال منها ولو تابعنا الذين قالوا بنفيها ووضع ما ورد منها لكان في ذلك حُجة للذين قالوا إن الله صرف دواعى العرب إلى المعارضة، فلم يعارضوا في كثير ولا قليل. بدليل أن: المعارضات لم تصح نسبتها إليهم.   (1) إذ الصواب: وارتح. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 2 - الإعجاز العلمى وتحت هذا النوع ثلاثة فروع 1، 2 - الإعجاز التاريخى والغيبي. 3 - الإعجاز في مجال الكشوف الحديثة في الكون والطب. أولاً - الإعجاز التاريخى والغيبى: يرى فريق من الباحثين أن القرآن معجز بما فيه من أخبار ماضيهَ، وتنبؤات مستقبلة أثبت الواقع صحتها. وممن قال بهذا الرأي القاضي أبو بكر الباقلاني، والرماني، ومحمد بن حزم الظاهرى وغيرهم. وقد ذكر الباقلاني أمثلة من هذا النوع كالإخبار بانتصار الروم على أعدائهم فى مدة حددها القرآن فانتصِروا خلال تلك المدة. قال سبحانه: (غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) . فقد حدد القرآن مدة النصر بـ " بِضْعِ سِنِينَ " والبضع مختلف فيه لغة، جاء فى المختار: " وبِضع في العدد - بكسر الباء - وبَعض العرب يفتحها: وهو ما بين الثلاث إلى التسع، تقول: بِضْعِ سِنِينَ، وبضع عشرة امرأة. فإذا جاوزت لفظ العشرة ذهب البِضع ". وقال الراغب: " البِضع - بالكسر: المنقطع من العشرة. وينال ذلك ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: بل هو فوق الخمسة ودون العشرة. قال: (فِى بِضْعِ سِنِينَ) والراجح أنه بين الثلاثة إلى العشرة بخروج الغاية، وليس فوق الَخمس إلَى العشرة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ويؤيد الراغب القائل: أنه " من الثلاث إلى التسع " ما ذكره الزمخشري من أن ذلك ورد عن الرسول عليه السلام حين سأله أبو بكر في أمر المراهنة المشهورة. وقد صدق الواقع الآية فغُلِبَت الروم على رأس السنة السابعة. وهذا الصدق هو الذي حمل بعض العلماء على اعتبار الإخبار الغيبى دليل الإعجاز. ومما ذكره الباقلاني: الإخبار عن دخول المسلمين مكة فاتحين آمنين حيث قال سبحانه: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) . والإخبار بتحقيق الوعد لأهل بدر حيث تال سبعانه: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) . هذه شواهد نقلها القاضي أبو بكر لإثبات كون القرآن معجزا من هذا الوجه. وحقيقة. . . إن القرآن أخبر عن أمور غيبية مستقبَلة فوقعت كما أخبر. ولم يختلف منها شيء. أو جاء على غير الوصف الذي ورد فيه. وهذا ليس فى طاقة البَشر. ويتصل بهذا الفرع إخبار القرآن عن الأمم السابقة إخبارا صادقاً، كقصة آدم عليه السلام، وقصة ولديه قابيل وهابيل، وقصص نوح وإبراهيم وموسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وعيسى، وقصص أصحاب الجنة والإسكندر ذى القرنين وأهل الكهف والرقيم، وغير ذلك من الأمم الغابرة. بعض هذه القصص ورد في التوراة. لكن القرآن اختص بإيراد قصص لم ترد فى التوراة وليس لها مصدر تاريخى سوى القرآن. مثل قصة هود، وقصة صالح، وقصة لقمان، وقصة أهل الكهف، وقصة ذى القرنين. إذن فالقصص في القرآن نوعان: أولهما: نوع له مصدر تاريخى سوى القرآن كالتوراة، مثل قصة آدم عليه السلام. ثانيهما: نوع ليس له مصدر تاريخى سوى القرآن كقصص هود وصالح، وقصتى لقمان وأهل الكهف وفى كلا النوعين ينفرد القرآن بخاصة فريدة هى الصدق، ومطابقة القصة الواردة فيه للواقع. * * * * القيمة التاريخية لقصص القرآن: وهنا تبرز القيمة التاريخية لقصص القرآن، وهي تصحيح الوقائع التاريخية فيما كان له مصدر سواه. وإيرادها على وجه لا يتطرق إليه الشك. أو يحتمل الطعون. ثم إمداد الفكر الإنسانى بمادة وأحداث تاريخية جديدة، فيما ليس له مصدر سواه. كالقصص التي ذكرنا قبلاً. وقد قارن مالك بن نبى بين قصة يوسف - كما جاءت في القرآن - وبين نصوصها التي جاءت في التوراة (الكتاب القدس: العهد القديم: سفر التكوين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 والمنهج الذي اتبعه في المقارنة منهج دقيق حيث قابل النص القرآني بما يقابله من نصوص القصة في الكتاب المقدس. وبعد إجراء المقارنة الكاملة بين نصوص المصدرين وضع جدولاً تفصيلياً لورود عناصر القصة في المصدرين. واضعاً ملاحظاته على ما بينها من اتفاق واختلاف. وعند رصد النتائج توصل إلى ورود خطأ بين في الكتاب المقدس ويحسن أن نثبت نص المؤلف عنها دون تغيير: " والرواية الكتابية تكشف عن أخطاء تاريخية تثبت صفة الوضع التاريخى للفقرة التي نناقشها. فمثلاً فقرة: " لأن المصريين لا يجوز لهم أن يأكلوا مع العبرانيين لأنه رجس عند المصريين " يمكننا التأكيد أنها من النُسَّاغ الميَّالين إلى أن يذكروا فترة المحن التي أصابت بنى إسرائيل في مصر. وهي بعد زمن يوسف ". " وفي رواية التوراة استخدم إخوة يوسف في سفرهم حميراً بدلاً من العِير فى رواية القرآن. على حين أن استخدام الحمير لا يمكن أن يتسنى للعبرانيين إلا بعد استقرارهم في وادى النيل بعد ما صاروا حَضريين. إذ الحمار حيوان حَضرى عاجز في كل حالة عن أن يجتاز مسافات صحراوية شاسعة لكى يجيء من فلسطين. وفضلاً عن ذلك فإن ذُرية إبراهيم ويوسف كانوا يعيشون في حالة الرعاة الرُحل. رعاة المواشى والأغنام ". قصة يوسف - إذن - لها مصدر تاريخى غير القرآن. وقد وضح لنا من اطلاعنا على النص المنقول من كتاب " الظاهرة القرآنية " لمالك بن نبى أن المصادر التاريخية لم تلتزم الدقة في النص، والأمانة في النقل، كما هو الحال فى القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وهذا يدلنا بوضوح على أهمية القيمة التاريخية للنصوص الواردة في القرآن الكريم لما يختص به من تصحيح الوقائع التاريخية التي تعرضت للخطأ والتحريف في المصادر الأخرى. ولقد أشار القرآن - نفسه - إلى هذه القيمة التي قوامها الصدق والأمانة فيما قَصَّ وأخبر فقال: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) . كما أشار إلى وجه الإعجاز في تلك الأخبار الغيبية حيث قال: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) . وقال: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) . وقال: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) . * * * * حكمة أُميًة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقومه: ولكى يقطع القرآن كل شُبهة يمكن أن يتذرع بها المبطلون في استقاء هذه الأنباء من مصادر سابقة. سجَّل أمية النبي عليه السلام فقال: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فليس النبي عليه السلام كاتباً، ولا قارئاً، وإذا ثبت له ذلك استحال فى حقه أن يكون قد استلهم تلك الأخبار والمعارف من سجلات الغابرين لو وُجِدَت، وثبت أن مرشده الوحيد هو القرآن الكريم. ولم يكتف القرآن بإثبات أمية النبي عليه السلام بل أتبع ذلك " تسجيل " أمية قومه - وهم الوسط المحيط به، المخالِط له - حتى لا يقال: إنه استقى معلوماته منهم مشافهة ثم راح يصوغها بعبقريته الخاصة، وأسلوبه الفريد. قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) . وعلى هذا الأساس يمكن فهم حكمة الله التي أرادت للنبى عليه السلام أن يكون أمياً من قوم أميين. * * * والخلاصة: إن القرآن تناول من الأحداث التاريخية نوعين: نوع له مصدر تاريخى سواه لكنه فيه على أصح الوجوه. وأدق الأحوال. وربما صحح ما جاء فيه خطأ واقعاً فيما سواه وهذه خاصة أولى له. ونوع ليس له مصدر تاريخى سواه، وليس لدى البَشر من سبيل إلى الوصول إليه لبُعد وقوعه وانطماس آثاره. فهم عنه عاجزون. وهذه خاصة ثانية. * * * ثانياً - الإعجاز من حيث الكشوف العلمية: يرى فريق من الباحثين المحدَثين أن إعجاز القرآن راجع إلى الإشارات العلمية التي فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فقد ورد في مواضع مختلفة حديث القرآن عن المعارف الكونية. والعلوم الطبيعية والإنسانية كالطب وعلم النفس. وقد جاء القرآن بهذه الإشارات منذ عهد طويل تلاحقت بعده الكشوف العلمية على نحو لم يختلف عما أشار إليه القرآن الكريم منذ قرون طويلة. فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) . وقد رجع بعض المفسرين بالنظرية السديمية إلى هذه الآية: لأنها أبانت أن السماء قبل تكوينها كانت دخاناً. " والنظرية السديمية فكرة قال بها " سويدنبرج " ثم فصلها " لابلاس " وخلاصتها أن المنظومة الشمسية نشأت من السديم، أى من مادة غازية ملتهبة، وتجمدت وأفلتت من جُرمها الكبير أجزاء كثيرة تفرقت فدارت حول نفسها وحول الجُرم الكبير بفعل الجاذبية والحركة المركزية. وأن نشأة النجوم في السماء مماثلة لهذه النشأة وإن لم تكن من قبيل المنظمات التي تشبه منظومتنا الشمسية ". والمتأمل في النظرية لا ينكر أخذها من الآية على إجمالها فيها. وذلك لأن نهج القرآن الإشارة الموجزة الدالة إلى مثل هذه الحقائق العلمية دون الخوض فى التفاصيل. على أن تفسير النظرية السديمية لا تُفهم من الآية على سبيل الإلزام بحيث تحجر على الفهم المتجدد لكتاب الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وأيًّا كان الأمر فإن القرآن؟ بما اشتمل عليه من إشارات علمية صالح لمثل هذا الفهم، على ألا يؤخذ مأخذ اليقين لأن العلم دائماً في تطور، وفهم النص القرآني على أنه دليل قاطع على مسألة علمية من طبيعتها التطور والتغير، تحميل للقرآن بما ليس من طبيعته. فلا تؤخذ هذه البحوث وما شابهها مأخذ الجزم واليقين. وصلة هذه الإشارة العلمية بالإعجاز القرآني ظاهرة. ولكنها ليست الإعجاز الذي تحدى الله به العرب. ثالثاً - الإعجاز التشريعي: ويرى فريق آخر أن القرآن مُعجِز بما فيه من أحكام تشريعية خالدة. لم تحتج على تطاول الدهور إلى تعديل في أُصولها العامة، وأنها تستهدف خير الإنسانية، والحفاظ على الحقوق والواجبات، والقاعدة التي يبنى عليها الحكم قائمة على أساس المصلحة فالنافع مباح، والضار ممنوع. . يقول عبد الرزاق نوفل: " فقد أثبت التقدم الفكرى في العلوم في العصر الحديث أن القرآن كتاب علم قد جمع أصول كل العلوم والحكمة. وكل مستحدَث من العلوم، نجد أن القرآن قد وجه إليه أو أشار إليه ". ويقول العقاد: " وقد استوعب الإسلام مذاهب الاقتصاد - كما استوعب مذاهب الاجتماع - في عصر المصارف والشركات وقروضها وفوائدها، دون أن يعوق مصلحة من مصالحها البريئة في العُرف المشروع، وتمضى هذه المذاهب كما مضى غيرها فلا يؤوده بعدها أن يستوعب مذاهب الثروة في أيدى الآحاد، لا يمنع منها إلا ما يمنعه أولاً وآخراً من ضرر وضِرار ". يستشهد " نوفل " على الإعجاز العلمي التشريعي بآية الحيض التى نصها: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وتحدث " نوفل " عن عِلَّة تحريم النساء زمن الحيض. ونلخص ملاحظاته منقولة من كتاب " القرآن والعلم الحديث " فيما يأتى: (أ) أن إفرازات الدم وقت الحيض تتكون من مواد سمية قاتلة، رحم الله الحائض بإخراجها منها. ولو بقيت في رحمها لقتلتها عن طريق التسمم. (ب) أن الأنثى في وقت الحيض تكون أعضاؤها التناسلية في حالة احتقان وأعصابها في حالة اضطراب، وتصاب في نفس الوقت بأعراض أمراض كالصداع وآلام الظهر وهبوط في الجسم. والاختلاط الجنسى في هذه الحالة يضر بها ضرراً كبيراً، فقد يمنع من نزول الحيض، وفي ذلك خطر عليها، وقد تُصاب باضطراب عصبى يصعب علاجه، أو التهابات في الأعضاء التناسلية لا يتيسر الشفاء منها. (ب) وقد يُصاب الرجل بالأمراض القاتلة، إذا غشى المرأة وقت الحيض إذا كانت به أعراض مرض غير ملحوظ. كالتهاب الخدوش أو الجروح وهنا تحدث الكارثة. (د) أن القرآن قد أوجب الاغتسال على الرجل والمرأة من الحيض والجنابة للتخلص من الإفرازات الضارة العالقة بالجسم وهي مواد سمية لأن بقاءها مضر. ثم يقول نوفل: " وهكذا قرر الطب وأفصح عما تهدف إليه آية لا تزيد على أربعة ألفاظ قصار جمعت أصول الطب الوقائى والعلاجى ". ونقول: إن في الآية إعجازاً من جهتين: علمية، وتشريعية في وقت واحد معاً وذلك ظاهر وقد استشهد الباقلاني ومالك بن نبى على الإعجاز التشريعي بآية المحرمات: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ. . .) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 * قيمة هذه النظريات: هل ما تقدم من الإعجاز العلمي بمظاهره الثلاثة: الخبر الصادق عن الماضي، والتنبؤ الصادق عن المستقبل، والإشارات العلمية، والأحكام التشريعية. هل هذا هو الإعجاز المقصود؟ لا ريب أن فيما ذكروه من الفروع الثلاثة إعجازاً من حيث أن البَشرية لم تصل ولن تصل طاقاتها إلى شيء من ذلك. ولكنه في الوقت نفسه ليس هو الإعجاز المقصود بالتحدى؟ لأننا لو قلنا به للزم أن يكون بعض القرآن غير مُعجز، فليس القرآن كله إخباراً عن الماضي، أو تنبؤات عن المستقبل، وليس القرآن كله إشارات علمية، وليس القرآن كله أحكام تشريعية. القرآن كتاب جامع لشتى الفنون والعلوم. فإعجازه إذن كائن في غير ما ذكروه. " إنما هو تحد بلفظ القرآن ونظمه وبيانه، لا بشيء خارج عن ذلك. فما هو بتحد بالإخبار عن الغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتى تصديقه بعد دهر تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان ". وهذا يسلمنا إلى الحديث عن المقصود الحقيقي بالإعجاز. وهو الإعجاز البياني الأدبي. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الفصل الثاني الإعجاز البياني الأدبى لم يرتض أهل النظر أن يكون واحد مما سبق وجهاً من وجوه الإعجاز المقصود بالتحدى. فقد رفضوا الصرفة مطلقاً حين لم يَرْوا فيها معنى للإعجاز، ورفضوا غيرها كذلك. حتى ولو كان في نفسه مُعجِزاً. مثل الإشارات العلمية الصادقة التي طابقها العلم الحديث بعد قرون. ومثل الإخبار الغيبى عما سيكون وقد كان. ومثل الإخبار عن الماضي الذي ليس لمعرفته سبيل عند البَشر. ومثل التوجيه التشريعي الذي لم ينقض ولن ينقض لأنه تشريع حكيم عليم. رفضوا كل ذلك، وكان الحق معهم. وقد طلبوا للإعجاز وجهاً آخر أو وجوهاً تشمل القرآن كله من الفاتحة حتى الخاتمة. ولم يكن بدٌّ عند هؤلاء الحققين إلا أن يكون الإعجاز القرآني إعجازاً بيانياً أدبياً كامناً في أسلوبه ونظمه، وبلاغته وفصاحته، وحول هذا المعنى وضع كثير من العلماء مصنفات متخصصة فى بيان الإعجاز، واكتفى بعضهم بالإشارة دون البسط، فلم يضعوا في ذلك مصنفات. ونُبين في هذا الفصل آراء العلماء في ذلك مقدمين أصحاب المصنفات قديماً وحديثاً على غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 أولاً - أصحاب المصنفات 1 - الواسطى: وضع الواسطى كتاباً في الإعجاز ذكره ابن النديم وابن العماد وحاجى خليفة، وعنوانه: " إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه". وعنوان الكتاب موح بأن الواسطى كان يقول بالإعجاز البياني الأدبي رافضا ما عداه. ويؤيد هذا المحمل أن عبد القاهر الجرجانى شرح كتاب الواسطى شرحين، وعبد القاهر من أبرز القائلين بالإعجاز الأدبي البياني، وبحوثه في نظرية النظم معروفة. وهذا يدل على أن عبد القاهر كان معجباً بآراء الواسطى، وأنه ربما انتفع بها في وضع كتابه " دلائل الإعجاز " فهما إذن متفقان مذهباً. وقد مال إلى هذا الرأي بعض المحدثين. ومع هذا فإن الجزم بهذا الحكم غير مستساغ لضياع كتاب الواسطى نفسه، ولضياع شرحى الجرجانى عليه. * * * 2 - الرماني: سبقت الإشارة إلى أن الرماني يرجع وجوه الإعجاز إلى سبع جهات. إحداها الصرفة وهي أمر خارج عن حقيقة القرآن كما سبق، لكنه لم يتحمس للصرفة كما تحمس لغيرها خاصة البلاغة التي جعلها وجهاً من وجوه الإعجاز، ثم قسمها عشرة أقسام وتناول كل قسم منها بالشرح والتمثيل فكان بارعاً فى ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 * اضطراب الرماني في الرأي: لكن ذكره الصرفة مع الوجوه الأخرى جعله كالمتناقض مع نفسه؟ لأن الصرفة ترفع ما عداها فسواء أريد بها سلب العلوم الممكنة من المعارضة، أو سلب الدواعى، أو القسر والإلجاء. فإن القائل بها لا يسوغ منه القول بغيرها في آن واحد. والرماني يعترف بتوافر الدواعى لدى العرب لكنهم مع هذا تركوا المعارضة. إذن فإن معنى الصرفة عند الرماني هو سلب العلوم أو القسر والإلجاء ولولاهما لكان من المكن معارضة القرآن؟!. هذا لازم مذهبه وإن لم يُصرح هو به. فكيف يصح عند الرماني أن يكون للإعجاز منزع آخر مع الصرفة؟ - وعلى أية حال فإن الرماني قد اضطرب في رأيه وربما كان ذكره الصرفة نقليداً ومتابعة أو لم يتضع له خطل الرأي فيها. وعند شرحه لبلاغة القرآن فإنه لخص رأيه تلخيصاً وافياً وحسناً حيث يرى أن الكلام من حيث التلاؤم ثلاثة أقسام: متنافر، ومتلائم في الطبقة الوسطى، ومتلالم في الطبقة العليا. وقد ذكر للأول مثالاً قول الشاعر: وَقَبْرُ حَرْب بِمَكَان قَفْرُ. . . وَليْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبِ قَبْرُ أما الثاني فقد ساق له ثلاثة أبيات من الشعر هي: وَمَتْنِى وَستْرُ اللهِ بَيْنِى وَبَيْنَهَا. . . عَشِيةَ آرام الكُنَاسِ رَمِيمُ رَمِيمُ التِىَ قَالتْ لِجيِرانِ بَيْتِهَا. . . ضَمَنْتُ لكُمْ ألا يَزالُ يَهِيمُ ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لوْ رَمَتْنِى رَمَيْتُهَا. . . وَلكِن عَهْدِى بِالنِّضَالِ قَدِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أما المتلائم في الطبقة العليا فهو القرآن وحده. كله لا بعضه ونص عبارته: " والتلائم في الطبقة العليا القرآن كله، وذلك بَينٌ لمن تأمله ". * * * * نماذج من تحليلاته: قال في باب الإيجاز: " والإيجاز على وجهين: حذف وقصر. فالحذف إسقاط كلمة للاجتزاء عنها، بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام. والقصر بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف. فمن الحذف: (وَاسْأل القَرْيَةَ) ، و (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) . . ومنه حذف الأجوبة وهذَا أبلغ من الذِكر وما جاء منه فى القرآن كثير ". " وأما الإيجاز بالقصر دون الحذف فهو أغمض من الحذف وإن كان الحذف غامضاً. . فمن ذلك: (وَلكُمْ في القصَاص حَيَاةٌ) ، ومنه: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) . . وهَذا الضرب من الإيجاز في القرآن كثير. وقد استحسن الناس من الإيجاز قولهم: القتل أنفى للقتل. ويينه ويين لفظ القرآن تفاوت في البلاغة والإيجاز. وقال في باب التشبيه: ". . ونحن نذكر بعض ما جاء في القرآن من التشبيه وننبِّه على ما فيه من البيان بحسب الإمكان. فمن ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كفَرُواْ أعْمَالُهُمْ كسَرابٍ) ، فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحَاسة إلى ما تقع عليه. وقد اجتمعا في بطلان التوهم مع شدة الحاجة، وعظم الفاقة. ولو قيل: يحسبه الرائى ماء، ثم يظهر أنه على خلاف ما قدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 لكان بليغاً. وأبلغ منه لفظ القرآن: لأن الظمآن أشد حرصاً عليه، وتعلق قلبه به. ثم بعد هذه الخيبة، حصل على الحساب الذي يصيره إلى عذاب الأبد فى النار. . . وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن التشبيه فكيف إذا تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ وكثرة الفائدة، وصحة الدلالة ". وقال في باب الاستعارة: "ونحن نذكر ما جاء في القرآن من الاستعارة على جهة البلاغة. قال الله عزَّ وجلَّ: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) : حقيقة " قدمناَ " هنا: عمدنا. و " قدمنا " أبلغ منه، لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر، لأنه من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم. ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم. وفى هذا تحذير من الاغترار بالإمهال، والمعنى الذي يجمعهما العدل، لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل. والقدوم أبلغ لما بيَّنا. وأما " هباءً منثوراً " فبيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه حاسة ". وعلى هذا النمط الرائع يمضى الرماني في كثير من الأمثلة التي ذكرها شواهد على الفنون البلاغية في الأبواب الثلاثة المذكورة، وفي غيرها من الأبواب السبعة الأخرى. وفي كل موضع ينتصر لأسلوب القرآن ويكشف مظاهر الجمال فيه، ويخلص إلى أحكام نقدية مهمة حتى أصبح ما كتبه مصدراً غنياً للاحقين سواء أكان ذلك في فنون البلاغة نفسها، أو هي من حيث صلتها بإعجاز القرآن. ومن هنا فإن فكرة الإعجاز البياني الأدبي كانت هي المسيطرة على منهج الرجل حتى وإن ذكرها ضمن ما يناقضها - الصرفة - ويكفيه أنه رائد في هذا السبيل فيما كتبه ابتكار وغناء وإن قَل. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 3 - الخطابي: الخطابى ناقد موضوعى، وأديب مرهف الحس، صادق الذوق، وكتابه فى الإعجاز ذو قيمة خاصة في موضوعه. وقد بدأ كتابه بمناقشة الآراء التى قيلت في الإعجاز ولم تكن منه. ثم رفضها. رفض أن يكون وجه الإعجاز الإخبارى عن الغيوب، كما رفض بدعة ْ- الصرفة وهكذا، ثم أخذ في بيان وجوه الإعجاز في نظم القرآن وتأليفه. وقد وصل إلى نتائج عظيمة الأثر في فهم الإعجاز. فقد بنى رأيه فيه على خصائص الأسلوب نفسه، وحددها في ثلاث جهات هى: 1 - لفظ حامل 2 - معنى به قائم 3 - رباط لهما ناظم. ثم حدَّد بعد ذلك أسباب عجز العرب عن محاكاة القرآن في ثلاث جهات أيضاً هي: 1 - عجزهم عن الإحاطة بأسماء اللغة العربية وألفاظها التي هي ظروف المعاني وحواملها. 2 - جهلهم بجميع المعاني التي تحملها تلك الألفاظ. أي جهلهم بالمعاني كلها على سبيل الاستقصاء لا جهلهم بها مطلقاً. وإن لم يصرح هو بهذا إلا أن المقام يقتضيه. 3 - عدم إدراكهم لجميع وجوه النظومِ التي يكون بها ائتلافها وارتباط بعضها ببعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ويسششهد على هذا فيقول: " فقد روى أن عمر بن الخطاب - وهو من الفصاحة بمكان - كان يقرأ قوله عزَّ وجلَّ: (وَفَاكِهَةً وَأبًَا) ، فلا يعرفه فيراجع نفسه ويقول: ما الأبُّ؟ وكان ابن عباس رحمه الله يقول: لا أعرف " حناناً "، ولا " غسلين "، ولا "الرقيم ". ثم يقول: " فأما المعاني التي تحملها الألفاظ، فالأمر في معاناتها أدق، لأنها نتائج العقول، وولائد الأفهام. وبنات الأفكار ". ثم يقول: " وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر، لأنها لجام الألفاظ، وزمام المعاني، وبه تنتظم أجزاء الكلام، ويلتئم بعضه ببعض، فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان ". ويخلص من هذا كله إلى رأيه في الإعجاز على الوجه التالى: 1 - " أن القرآن إنما صار مُعجِزاً، لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمناً أصح المعاني ". 2 - صنيعه في القلوب، وتأثيره في النفوس. فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً أو منثوراً إذا قرع السمع خلص إلى القلب. من اللذة والحلاوة فى حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى. ما يخلص من القرآن إليه ". وبهذا يتضح رأى الخطابى في الإعجاز البياني، إعجاز القرآن عنده كامن فى روعة لفظه. وحسن معناه، ودقة نظمه، وفي تأثيره في النفوس وسريانه إلى القلوب. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 4 - الباقلاني: يعتبر كتاب الباقلاني - بحق - أهم ما كُتِبَ قديماً في هذا الموضوع، وقد حاز رضا المتأخرين، فأكثروا من الثناء عليه والذي يهمنا - الآن - أن نستوضح رأيه في الإعجاز، ونبين قيمته في إيجاز لاستفاضة ما كُتِبَ في هذا المجال. لم يهجم الباقلاني على المشكلة هجوماً. بل مهَّد للوصول إليها. فذكر ما ذهب إليه غيره. وذكر من ذلك ثلاثة آراء: 1 - الإخبار عن الغيوب المستقبلة. 2 - الإخبار عن الأمم والأحداث الغابرة. 3 - القول بالصرفة. ولكنه لم يرتض أن يكون واحد منها وجهاً من وجوه الإعجاز. وبعد أن فرغ من الرد عليها بدأ يذكر خصائص الأسلوب القرآني على الوجه الآتى: أولاً - خروج نظم القرآن عن سائر كلام العرب ونظومهم، وفي ذلك يقول: " إن قدر ما يقتضيه التقدم والحذق في الصناعة قدر معروف لا يخرق العادة مثله. ولا يعجز أهل الصناعة. ولا المتقدمين فيها عنه مع التحدى والتقريع بالعجز والقصور، لأن العادة جارية بجمع الدواعى والهمم على بلوغ منزلة الحاذق التقدم في الصناعة، وما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج عن حد ما يُكسب بالحذق. ويقول: " إن عجز القوم عن معارضته دليل خروجه عن نمط كلامهم ". ثانياً - انفراده بالحسن رغم طوله، وفي ذلك يقول: " إنه ليس للعربى كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع والمعاني اللطيفة، والفوائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الغزيرة والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة والتشابه في البراعة، على هذا الطول. وعلى هذا القدر. وإنما تُنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها ما يغنيه بعد من الاختلال ". ثالثاً - بديع تأليفه، وفي ذلك يقول: " إنه عجيب نظمه، وبديع تأليفه، لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص، ومواعظ، واحتجاج. وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد. وتبشير وتخويف، وأوصاف وتعليم، وأخلاق كريمة، وشيمة رفيعة. . . . ونجد كلام الناس البلغاء الكاملين، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع يختلف حسب اختلاف هذه الأمور ". رابعا - حسن الربط، وفي ذلك يقول: " إن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بينا في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظام، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع. على أن القرآن على اختلاف ما يتصرف إليه من الوجوه الكثيرة، والطرق المختلفة يجعل المختلف كالمؤتلف، والتباين كالتناسب، والتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب، تتبين به الفصاحة وتظهر به البلاغة. ويخرج به الكلام عن حد العادة ويتجاوز العُرف ". (ملاحظة: يمكن دمج هذه الخاصة مع السابقة عليها دون أن يمس ذلك جوهر الموضوع لأن الموضعين متشابهان إلى حد كبير كما ترى) . خامساً - بلاغته، وفي ذلك يقول: " إن نظم القرآن وقع موقعاً من البلاغة، خرج به عن حد العادة في كلام الإنس والجن، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 سادساً - اشتماله على طرق تعبيرهم مع تفوقه، وفي ذلك يقول: " إن الذى ينقسم إليه الخطاب من البسط والاختصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم موجود في القرآن. وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم العتاد في الفصاحة والبلاغة والإبداع ". سابعاً - خلابة عباراته دائماً، وفي ذلك يقول: " إن المعاني التي تتضمن فى أصل وضع الشريعة، والأحكام، والاحتجاج في أصل الدين، والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها لبعض في اللطف والبراعة مما يتعذر على البَشر ". ثامناً - تألق التعبير القرآني إذا قُرِنَ بتعبير آخر، وفي ذلك يقول: " إن الكلام بين فضله، ورجحان فصاحته، بأن تذكر منه الكلمة، في تضاعيف الكلام، أو تُقذف بين شِعر فتأخذه الأسماع، وتتشرف إليه النفوس، ويرى وجه رونقه بادياً عامراً سائر ما يقرن به كالدُّرَّة التي تُرى في سلك الخرز وكالياقوتة فى واسطة العقد ". تاسعاً - فواتح سوره، وفي ذلك يقول: " إن الحروف التي بنى عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفاً، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون، وحملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة وهي أربعة عشَر حرفا ليدل بالمذكور على غيره. وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينتظم بها كلامهم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 عاشراً - سهولته وامتناعه، وفي ذلك يقول: " إنه سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشى المستكره، والغريب المستنكَر، وعن الصفة التكلفة، وجعله قريباً إلى الأفهام يبادر معناه لفظه إلى القلب ويسابق المغزى منه العبارة إلى النفس، وهو مع ذلك ممتنع الطلب عزيز المنال ". * * * * وقفة مع الباقلاني: هذه نقول موجزة للوجوه التي بلغت عشراً عند الباقلاني اختص أسلوب القرآن بها عما سواه. وبها - عنده - وقع الإعجاز. وقد أطال المؤلف في شرح هذه الوجوه واستطرد في ذكر الشواهد استطرادا أخذَ عليه. لكنه ناقد ثاقب الفكرة قد يشفع له حُسن تحليَله للنصوص، وغوصه وَراء أسرار التعبير، مما وقع فيه من إطالة واستطراد. وقد رأينا تداخل بعض الوجوه التي ذكرها بعضها مع بعض. ويمتاز منهج الباقلاني في أنه يتخذ من وحدة العمل النظمى أساساً لدراسته فهو لم يعتبر الآية المفردة - بله الجملة - موضعاً للإعجاز، أو ظهور الروعة البيانية فيها، فإعجاز القرآن عنده يبدأ بالسورة المتكاملة، لأنها وحدة كملت لها عناصر وحدة الفكرة والشكل، وينتهى بالقرآن كله من حيث نفى الإعجاز عن الآية الواحدة وما دونها ويبدو عنده الإعجاز أكثر وضوحاً وتألقاً. وليس بلازم - فيما نرى - أن هذه الطريقة تقلل من قيمة الإعجاز المفهوم من الكلمة الواحدة في موضعها من الآية وفي موضعها من السورة. ولا شك أن خصائص العمل الفنى تكون أظهر وضوحاً في الوحدة الكاملة: القصيدة في الشعر، والقصة في النثر، والسورة في القرآن. ومن هنا اكتسب منهج الباقلاني عمقاً وأصالة إذ هو يقوم بدور الوسيط بين النص وقارئه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ولهذا فإنه عمد إلى سورة كاملة هي سورة النمل، وحللها تحليلاً جميلاً رائعاً ليكشف مواطن الجمال فيها. * * * * البديع والإعجاز عند الباقلاني: الباقلاني يرفض أن يكون " البديع " الذي ذكروه وسيلة من وسائل كشف النقاب عن أسرار الإعجاز، وإن كان البديع فيه على أبهى صورة، وفي أجمل موقع. والأساس الذي بنى عليه المؤلف رأيه في البديع من حيث دلالته على وجوه الإعجاز هو أن هذه الأمور تنقسم، فمنها ما يمكن الوقوف عليه، والتعمل له، ويُدرك بالتعلم فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به، وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغة. فذلك هو الذي يدل على إعجازه. وعلى هذا فإن بعض وجوه الإعجاز عنده يمكن أن تُفهم من جهة البلاغة. مثل الفواصل، والتصرف في الاستعارة البديعة، والإيجاز، والبسط، وما إلى ذلك من مظاهر البلاغة. * والخلاصة : أن ما كتبه الباقلاني - مهما أخذَ عليه - ثروة نقدية عظيمة، ولفتات فنية رائعة. ولهذا فإن كتابه في الإعجَاز هو خير ما كُتِبَ فى عصره في هذا الموضوع، ولم يُرَ حتى الآن ما يقاربه أو يساويه. * * * 5 - عبد القاهر الجرجانى: فى مقدمة " الدلائل " يحدد عبد القاهر المراد بالنظم وهو أنه: تعليق الكلم بعضها ببعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وهذا التعلق بين الكلم يعتمد على ثلاث حالات: أولاً: تعلق اسم باسم (الجملة الاسمية) ليكون خبرا عنه أو حالاً. أو تابعاً له (متعلقات الإسناد) . ثانياً: اسم بفعل، ليكون فاعلاً له، أو مفعولاً مطلقاً أو فيه أو له أو معه. ثالثاً: حرف بواحد منهما - أي الاسم والفعل - ويقع ذلك على وجوه مختلفة. ويرى أنه من الضرورى في معرفة الفصاحة أن نضع اليد على الخصائص التى تعرض في نظم الكلام وأن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة. وإنما تثبت لها المزية وخلافها من ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ. فإدراك العلاقات بين الكلمة المفردة من حيث وضعها في جملة، وما ينشأ عنها من معان أصلية أو ثانوية، ووضع المفردات في تظام معين حسب ترتيب المعاني في النفس مع اختيار تلك المفردات ليلائم بعضها بعضاً، وتتناسب من حيث هي نظم مع ما من أجله صيغ النظم. كل ذلك جهات ضرورية يعلو بها الكلام ويتفاضل في الدلالة وحسن البيان. وهذه المعاني إنما تأتى من مراعاة قوانين النحو، وتطبيقها عند وضع الكلمة فى أسلوب. . قال: " وليس النظم في مجمل الأمر إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه فلا تزيغ عنهاً. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 * الإعجاز كائن في النظم: وعلى هذا الأساس مضى عبد القاهر في " الدلائل " يعرض لوجوه تركيب الكلام ويحلل الأساليب والنصوص المختلفة. سائراً في دراسته على المنهج الذى وضع أصوله هو محتكماً إلى الذوق والعُرف اللغوي كثيراً. لافتاً إلى مواطن الحسن والقبح في الأسلوب على أساس من التوجيه العلل. فكان بهذا رائداً من رواد النقد الجمالى والذوق المصفى دون منازع. وتراه يقترب من الحديث عن وجه الإعجاز في القرآن. فيقول: " فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه لم يبق إلا أن يكون الاستعارة، ولا يمكن أن تكون الاستعارة الأصل في الإعجاز، وأن يقصد إليها. لأن ذلك يؤدى إلى أن يكون الإعجاز في آى معدودة، في مواضع من السور الطوال مخصوصة. وإذا امتنع ذلك فيها لم يبق إلا أن يكون في النظم - والتأليف ". * * * * استداراك منصف: ويستدرك عبد القاهر سؤالاً عن وظيفة الاستعارة حين رفض أن تكون الأصل فى الإعجاز هل هي خارجة عنه؟ ويجيب عن هذا السؤال فيقول: (فإن قيل: قولك: " إلا النظم " يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز؟ وذلك ما لا مساغ له؟ قيل: ليس الأمر كما ظننت بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النظم، وعنها يحدث وبها يكون لأنه لا يُتصور أن يدخل شيء منها في الكلام وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو. فلا يُتصور أن يكون ههنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 دون أن يكون قد ألف مع غيره. أفلا ترى أنه إن قدر في " اشتعل " من قوله تعالى: (وَاشْتَعَلَ الرأسُ شَيْباً) أن لا يكون " الرأس " فاعلاً له، ويكون " شيباً " منصوباً عنه على التمييز لم يتصور أن يكون مستعارا وهكذا السبيل في نظائر الاستعارة فاعرف ذلك ". * * * * والخلاصة : فالإعجاز إذن عند عبد القاهر في النظم والتأليف على طريقة مخصوصة وليس شيئاً خارجا عنه. وأن الوجوه البلاغية ليست أصلاً فى الإعجاز. وإنما تدخل في مقدماته من حيث إنها دعامة في بناء الأسلوب أو النظم الرفيع، والقرآن إنما أعجز العرب بهذا الوصف دون ما سواه. وقد حلل عبد القاهر في مواضع مختلفة بعض نصوص القرآن الكريم مبينا ما فيها من سمات أسلوبه الدقيق. ونظمه الرائع. مثل قوله تعالى: (وَقيلَ يَا أرْضُ ابْلعِى مَاءَكِ. . . . . .) . وقوله تعالى: (وَاشْتَعَلَ الرأسُ شَيْباً. . . .) . وكان في تحليله لهما بارعاً كل البراعة. فاهما كل الفهم لجودة الأسلوب ومواطن الجمال فيه. ولهذا كان منهج عبد القاهر ذا خطر عظيم في فهم النصوص ونقدها منتهيا من كل ذلك إلى نتائج تكاد تشبه القوانين الرياضية لا يكاد يختلف معه فيها منصف. وكان كتابه " دلائل الإعجاز " فتحاً جديدا في النقد الجمالى، ومن أوضح وأعمق ما كُتِبَ في دلائل الإعجاز. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 6 - جلال الدين السيوطي: وضع السيوطي كتاباً في إعجاز القرآن أسماه " معترك الأقران في إعجاز القرآن " ويقع في ثلاثة أجزاء كبار وقام بتحقيقه لأول مرة الأستاذ على محمد البجاوى، وبلغت صفحات الجزء الأول منه " ستمائة وثلاثاً وأربعين صفحة"،وهو الجزء الذي تمكن لى الاطلاع عليه. وعنوان الكتاب يوحى بموضوعه. فقد جمع فيه السيوطي آراءً وأقوالاً مستفيضة حول إعجاز القرآن وعلومه المختلفة. والكتاب مليء بالمعارف والتوجيهات العلمية فهو بحق سفر من أسفار الدراسات القرآنية الجادة. وبلغت وجوه إعجاز القرآن في هذا الجزء خمسة وثلاثين وجهاً قال السيوطي فى مقدمة ذكرها: " وقد أفرد علماؤنا - رضى الله عنهم - بتصنيف إعجاز القرآن، وخاضوا في وجوه إعجازه كثيراً، منهم الخطابى والرماني، والزملكانى، والإمام الرازى، وابن سراقة، والقاضي أبو بكر الباقلاني (1) . وأنهى بعضهم وجوه إعجازه إلى ثمانين. والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه كما قال السكاكى في الفتاح: " اعلم أن إعجاز القران يُدرك ولا يمكن وصفه. كاستقامة الوزن تُدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة. وكما يُدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت، ولا يدرك تحصيله لغير ذوى الفطر السليمة، إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيهاً. ويؤخذ من هذا النص ما يأتى: أولاً: أن السيوطي مؤمن بأن ما ذكره من الوجوه الخمسة والثلاثين التي عزا إليها   (1) فات المؤلف ذكر عبد القاهر الجرجانى والجاحظ من قبله. وهو وإن كان له العذر في إغفال الجاحظ لضياع كتابه " نظم القرآن " فليس له عذر في إغفال عبد القاهر وكتابه " الدلائل " ذائع الصيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الإعجاز القرآني، والتي أنهاها بعضهم إلى ثمانين كما ذكر هو، مؤمن بأن هذه الوجوه كلها تصلح توجيها لبيان الإعجاز القرآني. ثانياً: ومما يراه السيوطي كذلك أن وجوه الإعجاز لا تقف عند هذا الحد. بل هى لا نهاية لها. ثالثاً: أنه يتخذ من عبارة السكاكى التي نقلها دليلاً على رأيه. والحق أن عبارة السكاكى لا يُفهم منها صراحة أن السكاكى يرى تعدد وجوه الإعجاز على الوجه الذي نهج عليه السيوطي. فقد يكون الإعجاز عنده - السكاكى - وجهاً واحداً يُدرك ولا يمكن ضبطه وجعله تحت مقياس معين. وقد يكون وجوها كثيرة لا تخضع لقواعد الحساب. وعلى كل فإن استشهاد السيوطي بكلام السكاكى غير مسلم. فهل لاستقامة الوزن عامل واحد أدى أن يكون جميلاً آسراً. أم له عوامل متعددة. الذي أفهمه أن السكاكى يرى أن الجمال الفنى - وفي قمته الإعجاز - إحساس نفسي لا تتيسر العبارة عنه، وذلك شأن الحقائق الكبرى. فإذا رجعنا إلى ما ذكره السيوطي فإننا نجد بين ما ذكره وجوهاً هي قطعاً ليست من الإعجاز في شيء. وإن كانت لازمة من لوازم القرآن. من ذلك أنه ذكر أول وجه من وجوه إعجازه " العلوم المستنبطة منه "، ثم " كونه محفوظاً من الزيادة والنقصان "، و " مشتبهات آياته "، و" ورود مشكله "، و "وقوع ناسخه ومنسوخه "، ثم " ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات "، ثم " إخباره بأحوال القرون السالفة والأمم البائدة "، ثم " تيسيره تعالى حفظه وتقريبه " هذه وجوه ثمانية، ولها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 مماثل لم نذكره، أوردها السيوطي ضمن وجوه إعجاز القرآن وهي ليست من الإعجاز المقصود بالتحدى. وقد راح بما له من سعة إطلاع يشرح كل وجه ذكره مدعوماً بالأمثلة. وإذا صرفنا النظر عما وقع في الكتاب من وجوه ليست للإعجاز. فإن جل الوجوه التي ذكرها هي في الواقع شرح وتفصيل للإعجاز البياني الأدبي. وقد أورد من ذلك الكثير مثل: حسن تأليفة والتئام كلمه (1/27) . ومناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض (1/54) . وافتتاح السور وخواتيمها (1/ 171) . إفادة حصره واختصاصه (1/ 181) . كما ذكر من ذلك وجوه مخاطباته، ووقوع الحقائق والمجاز. والتشبيهات والاستعارات فيه والتعريض ووقوع البدائع البليغة فيه واحتواءه على الخبر والإنشاء. . . . إلخ، ولهذا فإن الباحث الذي يطلع على ما كتبه السيوطي يدرجه مع الجمهرة المحققة القائلة بأن إعجاز القرآن في نظمه وأدبه وبيانه، وإن جمع هو بين وجهات النظر المختلفة في هذا المجال. على أن السيوطي - على كثرة ما ذكر من وجوه - لم يذكر الصرفة واحداً من بينها، وهذا يدل دلالة قاطعة على أنه يرفض هذا الرأي رفضاً جعله ينأى عن مجرد ذكره. * * * * نماذج من تحليلاته البيانية: قال في باب الاستعارة: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) استعير الحبل المحسوس للعهدَ وهو معقول. (فَاصدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) استعير الصدع وهو كسر الزجاجة وهو محسوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 للتبليغ وهو معقول. والجامع التأثير وهو أبلغ من " بَلغ ". وإن كان بمعناه؛ لأن تأثير الصدع أبلغ من تأثير التبليغ، والصدع يؤثر جزماً ". وقد فاته أن يحلل المجاز في " ضُرِبَتْ " وهو تعبير له دور مهم في رسم الصورة الأدبية التي أوحت بها الآية الكريمة. أما تحليله للآية الثانية: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) فقد كان رائعاً كما ترى. وقال في باب التشبيه: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ. .) فإن فيه عشر جُمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه. إذ المقصود تشبيه حال الدنيا - في سرعة تعفيها وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها - بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العُشب، وزُيِّنَ بزخرفها وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها، وظنوا أنها مسلَّمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة، فكأنها لم تكن بالأمس. وقال بعضهم: وجه تشبيه الدنيا بالماء أمران: أحدهما: أن الماء إذا أخذتَ منه أكثر من حاجتك تضررتَ، وإن أخذت قدر الحاجة انتفعتَ به، فكذلك الدنيا. والثاني: أن الماء إذا أطبقتَ عليه كفك لتحفظه لم يحصل فيه شيء، فكذلك الدنيا ". وفي هذا القول تسامح لأن المشبه به هو جملة التركيب لا الماء وحده. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 7 - الرافعي: الرافعي رائد من رواد النهضة الحديثة، وكتاباته تتسم بالعمق والأصالة ومنها ما كتبه حول إعجاز القرآن والبلاغة النبوية. وقد خصهما بكتاب، كتب فيه فصولاً عن الإعجاز القرآني بعد أن سرد أقوال السابقين فيه. وقد أبان في مقدمتها أنه سيتناول الإعجاز القرآني من غير الجهة التي مضى عليها الأقدمون، بعد أن أوضح أن الإعجاز القرآني إنما يرجع إلى الأسلوب والنظم والتأليف. قال: " وهذا الأسلوب. إنما هو مادة الإعجاز العربي في كلام العرب كله، ليس من ذلك شيء إلا وهو مُعجِز. . وهو الذي قطع العرب دون المعارضة واعتقلهم عن الكلام فيها. وضربهم بالحُجة، من أنفسهم وتركهم على ذلك يتلكأون ". وبقول: " ورد عليهم من طرق نظمه، ووجوه تركيبه، ونسق حروفه فى كلماتها، وكلماته في جملها، ونسق هذه الجمل في جملته، وما أذهلهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة وروعة مخوفة ". والإعجاز عند الرافعي - كما يبدو من نصيه المذكورين - إنما هو في النظم والتألف، وعندما عمد الرافعي إلى الحديث الفصل عن الإعجاز نراه قد جمع فى آرائه بين ما قاله الأولون. وبين ما اتفق له ولم يسبق لغيره. فهو - إذن - لم يتحدث عنه من وجهة جديدة كما قال. ولذلك فسنوجز آراءه إيجازاً غير مخل فيما يأتى: * وجوه الإعجاز البياني عند الرافعي: 1 - الكمال اللغوي: وذلك بالنزول عن التحدى بمثل القرآن كله. . إلى عشر سور مثله مفتريات - كما زعموا - إلى سورة واحدة من مثله. . ولو هم أرادوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 هذه السورة الواحدة ما استطاعوها. لأن إحساسهم منصرف إلى أصل الكمال اللغوي في القرآن، مستغرق فيه. فلا يرون المعارضة تكون إلا على هذا الأصل وهو شيء لا تناله القُدرة. 2 - التكرار: الذي يجيء في بعض آيات القرآن فتختلف في طرق الأداء وأصل المعنى واحد في العبارات المختلفة. وهو مذهب للعرب معروف ولكنهم لا يذهبون إليه إلا في ضروب من خطابهم للتوكيد والتهويل. بَيْدَ أن وروده فى القرآن مما حقق للعرب عجزهم بالفِطرة عن معارضته، وأنهم يخلون عنه لقوة غريبة فيه لم يكونوا يعرفونها إلا توهماً، ولضعف غريب في أنفسهم لم يعرفوه إلا بهذه القوة، لأنهم عجزوا عن السورة الواحدة. فكان عجزهم عن السورتين، وما عداهما أبين وأظهر. 3 - وجه تركيبه: فإنه مباين بنفسه لكل ما عُرِف من أساليب البلغاء فى ترتيب خطابهم وتنزيل كلامهم، على أنه يؤاتى بعضه بعضاً، وتناسب كل آية منه كل آية أخرى في النظم والبلاغة. على اختلاف المعاني وتباين الأغراض. . . إذ يبدو كأنه قطعة واحدة، والبلغاء تختلف أساليبهم في أنفسها من القوة إلى الضعف لأسباب. وعِلل لا يصعب الكشف عنها في نفس القائل. 4 - لأنه ليس وضعاً إنسانياً ألبتة، ولو كان من وضع إنسان لجاء على طريقة تشبه أسلوباً من أساليب العرب، أو مَن جاء بعدهم إلى هذا العهد، ولا من الاختلاف فيه بين في طريقته ونسقه ومعانيه. وقد كان هذا سبباً من أسباب ضعف المعارضة فيهم. لأنهم لم يبلغوا شأواً يؤهلهم للإتيان بمثل القرآن. 5 - سلامة أسلوبه من القلق والاضطراب، فليس فيه من الغرابة التى يكسوها البلغاء كلامهم في تجويد وصفه وحبكه. إنما فيه غرابة الانسجام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 والسهولة التي يسيل بها القرآن، وهي سهولة الأوضاع الإلهية، التي يعرفها كل الناس ويعجز عنها كل الناس. 6 - ليس فيما بين الدفتين إلا رهبة ظاهرة، وإلا أثر من التمكن يصف لك منزلة المخلوق من أمر الخالق، ولا تجد من أغراضه إلا ما كان في وصفه مادة لتلك الرهبة. ولذلك الأثر والروح. 7 - ما في أسلوبه من اللين والمطاوعة على التقليب والمرونة في التأويل بحيث لا يصادم الآراء الكثيرة المتقابلة، التي تخرج بها طبائع العصور المختلفة، وكلام الناس لا يحتمل مثل هذه الوجوه. بل إنه كلما كان أدنى إلى البلاغة كان نصاً في معناه، ثابتاً في حيزه. 8 - ما فيه من البلاغة والفصاحة يقتضيه اقتضاءً طبيعياً. بحيث يبنى هو عليها ولا تبنى هي عليه فكل ما فيه من مجاز وتمثيل وكفاية لا يصح فى الجواز أو فيما يسعه الإمكان أن يصلح غيره في موضعه، ولو أدرت اللغة على هذا الوضع. 9 - أن موسيقى ألفاظه نمط فريد ليس معروفاً لهم في كلامهم، حتى لم يكن لمن يسمعه بدٌّ من الاسترسال إليه، فإنه إنما يسمع ضرباً خالصاً من الموسيقى اللغوية، كأنما يوقع إيقاعاً لا يتلى تلاوة. 10 - أنه لا يخلق على كثرة الرد، وطول الدهر، ولا تجد لذلك سراً إلا دقة النظم وإعجازه، وخصائصه الموسيقية، وتساوق حروفه على أصول مضبوطة من بلاغة النغم بالجهر والهمس والمد والغن، ثم اختلاف ذلك في الآيات بسطاً وإيجازاً وإفراداً وتركيباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 11 - أن القرآن انفرد بصوت الحس الذي خلت من صريحه لغتهم وهو الذى يتكون من دقة التصوير المعنوي، والإبداع في تلوين الخطاب، بمجاذبة النفس مرة ومداهنتها منها مرة أخرى، والتنقل بها من شأن إلى شأن حتى تتصل بالمعنى وتصبح كأنها هي التي تطلبه فتقع في أسره. هذا الصوت خَلتْ منه لغتهم وانفرد به القرآن. لأنه من الكمال اللغوى الذى تعاطوه ولم يعطوه. 12 - أن بلاغة القرآن لا تعتمد على الخيال الشعرى، أو العادة الثابتة، أو العاطفة المطمئنة، وإنما يرجع الأسر فيها إلى جرس الحروف في الكلمات ومواقع الحروف والكلمات وطريقة نظمها. 13 - أنه يتلطف في تحريك الشاعر والرفق بها فلا تضيق به النفس، ولا تتخونها منه ملالة. 14 - أن القرآن بمادته اللغوية أصبح فوق اللغة التي يحذقها اللسن من الناس لأنها في القرآن في تركيب ممتنع أن يأتي بمثله الناس. فخرجت من لغة الاستعمال إلى لغة الفهم. وكونت طبقة عقلية من اللغة ومن ثَم تتنزل الأفكار منزلة التوهم الطبيعى الذي يؤثر بالصفة ما يؤثر بالشيء الموصوف. بل بما وفَّى وزاد. 15 - أن الحركات النحوية والصرفية في القرآن لها من حكم البلاغة والفصاحة ما للكلمات والتركيب، لشدة ما بينها من تلازم واتساق. وهذا سر من أسرار الإعجاز فيه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 * إيضاح لازم: هذه خلاصة سريعة لما انتهى إليه الرافعي من خصائص أسلوب القرآن نقلناها من كتاب " إعجاز القرآن "، متصرفين في كثير من عباراته توخيا للإيجاز وشمول الأفكار حتى يمكننا أن نتصور رأيه في الإعجاز تصورا واضحاً. على أن الباحث - إذا رجع إلى كتابه يجد المؤلف لم يحدد لكل خاصة من الخصائص التي ذكرها مجالاً معيناً، بل التعميم كان طابعه فيما يقول. وقد أخذ عليه هذا أحد المعاصرين (1) . فمثلاً: الكمال اللغوي يمكن أن يندرج تحت بعض ما ذكره من الخصائص الأخرى مثل ما للحركات النحوية والصرفية من البلاغة، والنغم الموسيقي، واختصاص القرآن بطريقة في استعمال الكلمات كالإفراد دائماً، أو الجمع دائماً. وهكذا فهو شبيه بالباقلاني في تعدد الأقسام مع إمكان دمج بعضها مع بعض يُسر وانسجام. * * * * قيمة ما انتهى إليه الرافعي: ليس من الإنصاف أن نُقلل من شأن ما كتبه الرافعي، ففيه جدة وطرافة وعمق نظر. ومن الجديد الذي له ما يأتى: (أ) ما أسماه: صوت الحس، وقد سبق شرحه. (ب) ما أسماه: التوهم الطبيعى. (ب) ما أسماه: الاقتصاد في التأثير على النفس. أما ما عدا هذه الثلاث فإن الرافعي يدور معها في فلك السابقين. وإن زعم هو غير ذلك كما تقدم.   (1) هو عبد الكريم الخطيب في كتابه " إعجاز القرآن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فإن ما بقى بعد هذا الوجوه الثلاثة قد تطرق إليها مَنْ قبله. وخاصة الباقلاني مع اختلاف في الأسلوب عند كل منهما. * * * * ما يؤخذ عليه: أولاً: أنه ينهج في كتابه منهج التعميم ولم يذكر أمثلة تدعم فكرته. وكان حرياً به أن يفعل. ثانياً: نفيه اعتماد القرآن على الخيال الشعرى. فإن كان قصده من ذلك صور المجاز والتمثيل والتشبيه، فهو قطعاً غير موفق فيما ذهب إليه. ولا إخاله قد قصد ذلك وإن كان قصده ما يجنح إليه بعض الشعراء من التصورات الوهمية كأطراف النار في أعواد كبريت، وما إلى ذلك مشبهاً بهما صوراً من الواقع. إن كان يريد ذلك فنحن معه في شيء من الحيطة. وإلا فإنه قد أثبت نظيره لما سماه: اللغة العقلية التي تتنزل المعاني منها منزلة التوهم الطبيعى. وعلى كل فإنه لم يفصح عن مراده ولم يضرب أمثلة كعادته في منهج الكتاب. ثالثاً: أنه لم يضع فواصل دقيقة بين الوجوه التي أوردها. ولهذا فإن الباحث لا يعرض للخطأ إذا دمج بعضها في بعض. * * * * دفاع عنه: قال الرافعي: " فالقرآن معجز في تاريخه، دون سائر الكتب، ومعجز فى أثره الإنسانى، ومعجز كذلك في حقائقه. وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء فهى باقية ما بقيت ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 لم يرض هذا القول عبد الكريم الخطيب، ونقده على أساس أننا لو قلنا إن القرآن مُعجِز في تاريخه لكان معنى ذلك أن القرآن نزل خالياً من صفة الإعجاز واكتسب هذا الإعجاز بمرور الزمن أياماً ودهوراً. وهذا نقد وجيه - كما ترى - إذ لا يمكن أن يكون الإعجاز المتحدَى به هو هذا الوجه. ولكن يمكن حمل كلام الرافعي على أن تلك الوجوه المعجِزة التى أفاض في الحديث عنها لم ينتقض منها وجه على مر الأيام والدهور. فهى باقية كيوم تحدى بها. وعلى هذا فلا حُجة للخطيب في نقده. * * * 8 - محمد عبد الله دراز: وضع دراز كتاباً دعاه " النبأ العظيم "، أو " نظرات جديدة في القرآن ". وقدم في هذا الكتاب دراسة غنية جداً عن القرآن الكريم، وقد قسمها قسمين: القسم الأول: خاص بتحديد معنى القرآن. وقد استغرق منه اثنتى عشرة صفحة من القطع الكبير. والقسم الثاني: وقفه على بيان مصدر القرآن. أهو من صنع بَشر؟ وهل فى المواهب البَشرية ما يمكن أن يصدر عنها بيان في صفة هذا الكتاب العظيم؟ ناقش هذه الفكرة متتبعاً جميع فروضها. وانتهى من المناقشة إلى أن القرآن ليس له مصدر بَشرى لا في نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا في نفس غير محمد. بل ذلك تنزيل العزيز الحكيم. وقد استبد هذا القسم ببقية صفحات الكتاب البالغ عددها مائتين وعشر صفحات. قدم خلالها بحوثاً عظيمة ونظريات رائعة في محيط القرآن وإعجازه، والذي يهمنا من هذا الكتاب ما أجمله المؤلف من خصائص الأسلوب القرآني فى قطعة قطعة منه. وكانت عنده على الوجه الآتى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 * خصائص أسلوب القرآن عند دراز: (أ) ، (ب) القصد في اللفظ. . والوفاء بحق المعنى: هذه خاصة لم تُعرف لغير القرآن. فإن أبلغ البلغاء من الناس لا يستطيع أن يأتى بكلام لفظه قليل، ومعناه واف وهو إن اتفق له في الموضع الواحد والموضعين، فلا يتفق له في جملة كلام. شعراً أو نثراً. وما هو بحاصل إلا على كلام نسبى غير مطرد، بحسب ما أوتِىَ من إلهام وتوفيق. فأبلغ البلغاء إذا حفل باللفظ أضر بالمعنى، وإذا حفل بالمعنى أضر باللفظ. نهايتان مَن حاول أن يجمع بينهما وقف منهما موقف الزوج بين ضرتين، لا يستطيع أن يعدل بينهما دون ميل إلى إحداهما. خذ من القرآن مقداراً من الكلام. وقارنه بما يساويه من كلام البلغاء تجد عجباً. ثم انظر أي الكلامين تستطيع أن تتناوله بالتعديل أو التبديل دون أن تخل بمعناه؟ ولو نزعتَ منه - أي القرآن - لفظة. ثم أدرت لسان العرب لتضع موضعها لفظة أحسن منها لم تجد ". (جـ) ، (د) خطاب العامة. . وخطاب الخاصة: وهاتان غايتان تقصر عنهما همم الناس، فمَن يخاطب منهم الأذكياء بالواضح المكشوف نزل بهم مستوى لا يرضونه. ومَن يخاطب العامة باللمحة والإشارة حملهم على ما لا يطيقون. فلا بدَّ من التفرقة في الخطاب بين المقامين،. ولا يوجد في الناس مَن يُحسن هذا كائناً مَن كان. لا تجد ذلك على أتمه إلا في القرآن الكريم. هو متعة العامة ونزهة الخاصة، ميسَّر لكل مَن أراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 (هـ) (و) إقناع العقل. . وإمتاع العاطفة: فى النفس قوتان، قوة تفكير وقوة وجدان. وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة الأخرى. ولا تجد بليغاً يفى لك بحاجة القوتين في عبارة واحدة. ولكنك تجد ذلك في القرآن الحكيم. في أجمل صورة وأوضح بيان. (ز) ، (ح) البيان. والإجمال: وهذه عجيبة أخرى لا تجدها في غير القرآن؛ لأن الناس إن عمدوا إلى تحديد أغراض لم تتسع لتأويل. وإذا أجملوها ذهبوا إلى الإبهام والإلباس، أو اللغو الذي لا يفيد، ولا يكاد يجتمع لهم هذان الطرفان في كلام واحد. أم القرآن فإنه يستثمر برفق أقل ما يمكن من الألفاظ في أكثر ما يمكن من المعاني يستوى في ذلك مواضع إجماله. التي يسميها الناس مقام الإيجاز، ومواضع تفصيله التي يسمونها الإطناب. . . ولذلك نسميه إيجازاً كله لأننا نراه فى كِلا المقامين لا يجاوز سبيل القصد، ولا يميل إلى الإسراف. * * * * تعقيب: هذه خلاصة أمينة لخصائص القرآن كما ذكرها دراز، حاولتُ قدر المستطاع أن أحافظ على عبارته إلا ما قَل من التصرف توخياً للإيجاز. ونحن مع المؤلف في نتائجه، لكننا لا نرى سنداً يمكن أن يُعتمد عليه فى عده أسلوب القرآن إيجازاً كله. وذلك للأسباب الآتية: 1 - أنه خرقٌ لما أجمع عليه العلماء من أن في القرآن إيجازاً وإطناباً ومساواة وقد أقاموا الدليل القاطع على كل أولئك. 2 - أن القرآن نفسه حين يقارن بين موضعين فيه اتحدا في الفكرة نجد فروقاً بين ذينك الموضعين أحدهما: ملحوظ فيه الإطناب في موضع، والثاني: الإيجاز، ومن أمثلة ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ما ورد في قصة آدم عليه السلام في سورة " أهل الكهف " حيث لم يتعد الآية الواحدة، بينما جاء في مواضع أخرى " الحجر " و " سورة ص " - مثلاً - مطنباً إذا ما قسناه بآية الكهف. 3 - أن هذا الرأي - اعتبار القرآن إيجازاً كله - فيه خروج بالأسلوب عن طبيعته، وقد علمنا انقسام الكلام إلى هذه الأنواع الثلاثة. . وأن كلا منها مقتضى حال له دواعيه. ومجاراة المؤلف على رأيه عجلة لا مبرر لها. ولو أنه قال: " إن ما فى اللفظ أو التركيب القرآني من ثراء المعنى وتعدد جهاته ما يكاد يعتبر القرآن على ما فيه من إطناب ومساواة إيجازاً كله " لكان له مندوحة من القول، أما وقد أصرَّ على رأيه إصراراً. فإن الحيطة تقتضى النظر إليه بحذر فلا ننساق. ومهما كان في هذا الجانب من مغالاة، فإن درازاً عالم ضليع. وفيلسوف عميق النظر استطاع أن يخرج لنا كتاباً في القرآن فيه جدة. ومتعة. وتوجيه. * * * 9 - محمد عبد العظيم الزرقاني: وضع الزرقانى كتاباً في جزءين أسماه " مناهل العرفان في علوم القرآن " وهو كتاب غنى بالمعلومات الوفيرة، والاجتهادات الصائبة التي تختص بعلوم القرآن المختلفة. وقد تحدث في الجزء الثاني منه عن إعجاز القرآن وذكر لذلك أربعة عشر وجها هي على الترتيب: لغته وأسلوبه - طريقة تأليفه - علومه ومعارفه - وفاؤه بحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 البَشر - موقف القرآن من العلوم الكونية - سياسته في الإصلاح - أنباء الغيب فيه - آيات العتاب - ما نزل بعد طول انتظار - مظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند هبوط الوحي عليه - آية الباهلة - عجز الرسول عن الإتيان بمثله! - الآيات التي تجرد الرسول من نسبته إليه - تأثير القرآن ونجاحه. ذلك وجه الإعجاز عنده. وما رأيتُ بين من كتب في إعجاز القرآن مَن يخلط مثل هذا الخلط. فيُدخل في الإعجاز ما ليس منه. وهذه الأوجه التى ذكرها لا يدخل في باب الإعجاز منها سوى الأولين وإن أمكن دمجهما تحت " الأسلوب ". وإلا فما صلة ما نزل بعد طول انتظار بالإعجاز؟ وما صلة مظهر النبي عند نزول الوحى بالقرآن به؟ كذلك وما صلة آية الباهلة به؟ ثم كيف ساغ للمؤلف أن يجعل " عجز النبي عن الإتيان بمثله " عنواناً لوجه من وجوه الإعجاز؟ وهذا العنوان يوحى في ظاهره أن النبي عليه السلام حاول أن يأتى بمثله فكبا!! والآيتان اللتان استشهد بهما وهما قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 هاتان الآيتان صريحتان في أن الله - سبحانه - علم الرسول أن يرفض مثل هذه الاقتراحات، والرسول إنما ردد ما أمره به ربه. ولم يحاول المحاكاة فعجز كما يوحى العنوان. فكان حرياً بالمؤلف أن يتوخى الدقة فيما كتب. * * * * اجتهد فخالف نصاً!؟ وبعد هذا نجد المؤلف يورد عنواناً أسماه " وجوه معلولة " قال بعده مباشرة: " ذكر بعضهم وجوهاً أخرى للإعجاز، ولكنها لا تسلم في نظرنا من الطعن، لأن منها ما يتداخل بعضه في بعض. ومنها ما لا يجوز أن يكون وجهاً من وجوه الإعجاز بحال. ونمثل لهذا الذي ذكروه بتلك الأوجه العشرة التي عدها القرطبى وهي. . . " ثم ذكرها ثم أعقب ذلك بدمج بعضها في بعض وخالف القرطبى في وجهين منها هما: الحكَم المبالغة وعدم الاختلاف والتناقض بين معانية. وقال: " إن واحداً منهما لاَ يصلح وجهاً من وجوه الإعجاز لأنهما لا يخرجان عن حدود الطاقة. ولأن كثيرا من الناس لا يخلو كلامهم من حكم، ولا يتعرض لتناقض أو اختلاف "!. هذا فحوى كلامه. والمتأمل يرى أنه في نفيه عدم الاختلاف من بين وجوه الإعجاز قد خالف نصاً قرآنياً، لأن الله يقول: (وَلوْ كانَ مِنْ عند غَيْر الله لوَجَدُواْ فيه اخْتلاَفاً كَثيِراً) فها هو القرآن يُصرح بأن سلامَةَ القرآنَ منَ الاختلافَ دليَل عَلى كونه من عند الله. فهو إذن وجه أصيل من وجوه الإعجاز البياني. خاصة وأن القرآن استغرق إنزاله ثلاثاً وعشرين سنة، لكنك لا تلمح خلافا بين أول ما نزل وآخر ما نزل من حيث استواؤه موضوعاً وشكلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ونحن نحسب للمؤلف الوجهين الأولين وهما إشارة واضحة إلى الإعجاز البياني. كما لا نخالفه في الوجه الأخير وهو تأثير القرآن باعتباره لازماً من لوازم أسلوبه. وبلاغته الآسرة. أما ما عدا هذا فليس من الإعجاز في شيء وإن تحمس لرأيه وحاول أن يقنع به الآخرين. على أن ما أورده هو يمكن دمج بعضه في بعض مثل أسلوبه وطريقة تأليفه فكان حرياً به أن يجتنب ما على مثله عاب الآخرين. * * * 10 - عمد الكريم الخطيب: قد سبقت الإشارة إلى أن عبد الكريم الخطيب وضع كتاباً في إعجاز القرآن وقد أخرج هذا الكتاب في جزءين: الجزء الأول: وقفه على دراسة الإعجاز في أقوال السابقين، وفيه تحدث عن كثير من الموضوعات التي قد لا تتصل بالإعجاز مباشرة، كالمعجزة والنسخ وما أشبه هذه البحوث. أما الجزء الثاني: فقد دل عنوانه " الإعجاز في مفهوم جديد " على أن الخطيب سيدرس أو درس فيه وجوهاً جديدة للإعجاز لم يعرفها أحد قبله. والذي يهمنا بالطبع ما ذكره في هذا الجزء، لأنه يمثل الجديد - كما يُشعر به العنوان - كذلك - يمثل رأى الخطيب نفسه في الإعجاز. إذن فما هو ذلك الجديد الذي اهتدى إليه؟ ننظر. . . يرى الخطيب أن الجديد في الإعجاز هو: 1 - الصدق المطلق الذي نزل به القرآن، وهو صدق لا تعلق به ذَرة من شك وقد جعل هذا الصدق والأثر القوى على النفوس والسلطان التمكن من القلوب، جعل كثيراً من الناس يُقبلون على الإسلام عندما يسمعون القرآن فترق له قلولهم. كقصة إسلام عمر رضى الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 2 - علو الجهة التي نزل منها القرآن: وأن هذا العلو ليطلع عليه كل مَن يتصل بالقرآن قارئاً أو مستمعاً أو دارساً، مؤمناً أو غير مؤمن. وهكذا. 3 - حسن الأداء: ويعنى به الوً لف روعة النظم، وحسن الصورة البيانية وقد اهتم الخطيب بهذا الوجه اهتماما فائقاً، ومما ذكره فيه: أن ألفاظ القرآن مختارة للدلالة على المعنى، ومختار للفظ القرآني موضعه فى الجملة أو التركيب الذي هو فيه. ولذلك فإن نظم القرآن يخالف نظوم البيان عند العرب لأنه نظم مفصل - بآيات مفصلة بفواصل. ثم تحدث عن الفواصل القرآنية باعتبارها مظهراً من مظاهر حُسن الأداء وأطال في هذا الفرع، لكنه لم يأت فيه بأكثر مما ذكره السابقون اللهم إلا اختلاف طريقة العرض التي لا يسلم منها كاتب. 4 - روحانية القرآن: وهذا وجه رابع يرى الخطيب أنه جديد لم يقل به أحد، وصلة هذا الوجه بالوجوه الثلاثة المتقدمة أن القرآن روح وتلك الوجوه (الصدق، علو الجهة، وحسن الأداء) كل أولئك تجليات الروح القرآنية. ولعل المؤلف يقصد بهذه الروحانيهَ أثر القرآن على النفوس وما تجده من نشوة فرح، أو جزعة خوف عندما تسمع أو تقرأ القرآن. * * * * ليس في الجديد جديد! هذه الأربعة هي ما ذكره الخطيب على أنها فتوح جديدة في قضية الإعجاز. وبعد. . فهل أضاف الخطيب جديداً كما قال؟ لا. . . لم يأت الخطيب بجديد، وإن اعترف هو بذلك قائلاً إن الجديد الذي جاء به هو حُسن العرض. . ليكن هذا صحيحاً. أوَ ليس هذا تناقضاً مع ما يدل عليه العنوان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 إن القرآن كله صدق، لكنه ليس للإعجاز. ولو كان كذلك لعارضوه بحديث كله صدق كوصف صحراء أو ليلة مقمرة. . ولما عجزوا. والقرآن نازل من أعلى جهة. . ولكنه ليس للإعجاز. ولو كان كذلك لا عابهم أن عجزوا عن معارضته، لأن المعارضة تكون حينئذ أن يعلوا هم ويأتوا بكلام مثله. لأن هذا مستحيل والإعجاز كان في أمر ظاهره الإمكان. وحُسن الأداء عبارة لروعة النظم والتأليف، وهذا كاد يجمع عليه السابقون الذين سبقوا الخطيب. فليس ما جاء به بجديد، إلا التسمية! وروحانية القرآن قال بها الرماني منذ عهد طويل، والخطيب يعلم هذا. فكان أجدر به أن يلتزم الدقة في عنوان كتابه ما دام لم يأت بجديد! * * * 11 - أبو زهرة: وضع محمد أبو زهرة كتاباً في إعجاز القرآن آسماه " المعجزة الكبرى. . القرآن ". وقد تحدث فيه عن نزوله وكتابته، جمعه وإعجازه، جدله وعلومه، تفسيره وحكم الغناء به. وهو من الكتب ذات النفع في هذا المجال. والذي يهمنا من هذا الكتاب رأى أبى زهرة نفسه في الإعجاز، وهو يلخصه فى العبارات الآتية، قال: " إن كل شيء في القرآن مُعجِز، من حيث قوة الموسيقى في حروفه، وتآخيها فى كلماته وتلاقى الكلمات في عباراته، ونظمه، الحكم في رنينه. وما وصل إليه من تأليف بين الكلمات. وكون كل كلمة لفقاً مع أختها، وكأنما نسيج كل واحدة قطعة منه تكمل صورته، وتُوَخَد غايته. ومعانيه بحدها مؤتلفة مع ألفاظه. وكأن المعاني جاءت مؤاخية لللأفاظ، وكأن الألفاظ قُطعت لها وسُوِيت على حجمها. . ". وهذا تفصيل للإعجاز البياني الأدبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ثم قال: ". . وإنه لأجل هذا يصعب على الكاتب أن يأتى بكل وجوه الإعجاز البياني، ولكنه يقارب ولا يباعد. ولنذكر ستة وجوه نتكلم فيها عسانا نصل إلى تقريب معاني الإعجاز من غير حد ولا استقراء كامل وهي: 1 - الألفاظ والحروف 2 - الأسلوب وما يكون من صور بيانية. 3 - التصرف في القول والمعاني 4 - النظم وفواصل الكلمة. 5 - الإيجاز المعجز والحِكَم والإمثال والإخبار عن الغيب. 6 - جدل القرآن ". ونراه في هذا يخلط بين الإعجاز البياني الأدبي، وبين ما يراه فريق من وجوه إعجاز أخرى مرفوضة عند التحقيق، كالإخبار عن الغيب. هذا. . وقد أخذ المؤلف في بيان الأوجه التي ذكرها مستفيداً من كتابات السابقين القدماء مثل الرماني والخطابى والباقلاني وعبد القاهر، ومحدَثين مثل الرافعي. والباحث يرى أن أبا زهرة في مذهبه الإعجازى بياني أدبي، وإن جمع إلى الأدب والبيان خصائص أخرى للقرآن خارجة عن نطاق الإعجاز أدباً وبيانا". * * * 12 - عائشة عبد الرحمن: أحدث كتاب وُضِعَ في إعجاز القرآن هو " الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق " إعداد عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 واسم الكتاب مشعر برأى المؤلفة في فهم الإعجاز، وهو كامن في بيان القرآن بقدر ما تتسع له هذه الكلمة " البيان " من معان وأفانين يسمو بها التعبير حتى يصل إلى مرحلة الإعجاز. والكتاب من أثمن ما وقفتُ عليه حديثاً من الكتب الموضوعة في هذا المجال إذ لم تنح فيه المؤلفة منحى الوصف غير العلل ولم يكن وصفها للإعجاز أكثر من توجيهها وتعليلها لخصائصه، كما هو الحال عند غيرها. بل إن قارئ هذا الكتاب يرى المؤلفة تذكر كثيراً من نصوص القرآن ثم تقارن وتدرس وتنتهى إلى نتائج مسلمة في كثير من الأحيان. وموضوعات الكتاب: مدخل وثلاثة مباحث وخاتمة. البحث الأول: يشتمل على المعجزة، الجدل والتحدى. وجوه الإعجاز والبيان القرآني، البلاغيون والإعجاز (ص 33 - 121) . والبحث الثاني يشمل: فواتح السور وسر الحروف، إضافة إلى جهد السَّلف، حروف قرآنية، دلالات الألفاظ وسر الكلمة، الأسلوب وسر التعبير (ص 123 - 265) . والبحث الثالث. . وقفته على مسائل ابن الأزرق (ص 267 - 507) . والذي يهمنا هنا هو رأى المؤلفة في الإعجاز وقد علمنا إشارة اسم الكتاب إلى رأيها، وهو كذلك في تضاعيفه. وقد قامت بدراسة كثير من النصوص القرآنية وعالجت كثيراً من خصائص التعبير القرآني. ونذكر فيما يلى نماذج مختصرة لنتائجها مع الإشارة إلى موضعها من الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 1 - فهى ترى - مثلاً - أن القرآن يُفرق بين كلمتى " حلف " و " أقسم " ونصها في ذلك: ". . لا يهون أبداً أن نفسر القَسَم بالحلف وصنيع القرآن يلفت إلى فرق وثيق بينهما. فإن لم نقل إن القَسَم اليمين الصادقة حقيقة أو وهماً - والحلف لليمين الكاذبة على إطلاقها. فلا أقلَّ أن يكون بين دلالتهما الفرق بين العام والخاص فيكون القَسَم لمطلق اليمين بعامة. ويختص الحلف بالحنث فى اليمين على ما اطرد استعماله في البيان القرآني ". وكان مبنى هذا الاستنتاج عندها استعراض الآيات القرآنية التي وردت فيها الكلمتان. ومن العرض ظهر أن القرآن لم يستخدم " حلف " إلا في مواضع الحنث، بينما استخدم " أقسم" في مواضع الصدق الحقيقي أو ما كان مبعثه الاعتقاد المجرد. فمن النوع الأول قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ كل حَلافٍ مهِينٍ) . وقوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إنَّهُمْ لمِنكُمْ وَمَا هُم منكُمْ) ْ ومن الثاني قوله تعالى: (وَإنَّهُ لقَسَمٌ لو تَعْلمُونَ عَظِيمٌ) . وقوله تعالى: (هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لذِي حِجْرٍ) . 2 - وهي ترى - مثلاً - أن القرآن الكريم كثيراً ما يستغنى عن الفاعل فى سياق الحديث عن القيامة وأهوالها. إما ببناء الفعل للمجهول، وإما بالإسناد المجازى. أو بالمطاوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ومثال الأول قوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) . ومثال الثاني قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) . والآية صالحة للدلالة على الإسناد المجازى في إسناد الاقتراب إلى الساعة والمطاوعة في انشقاق القمر. وقد حاولت المؤلفة توجيه ذلك بيانياً ونصها فيه: " فبناء الفعل للمجهول فيه تركيز الاهتمام على الحَدَث بصرف النظر عن محدثه والمطاوعة فيها بيان للطواعية التي يتم بها الحَدَث تلقائياً أو على وجه التسخير وكأنه ليس في حاجة إلى فاعل. والإسناد المجازى يعطى المسند إليه فاعليه محققة يستغنى بها عن ذكِر الفاعل الأصلى ". وعلى هذا المنهج الموضوعى تمضى الكاتبة في دراستها فلا تعتسف القول اعتسافاً. بل تستخرج ملاحظاتها من النص. وهذه طريقة مجدية وعملية فى دراسة البيان القرآني، ومحاولة الاقتراب من خصائصه ووجوه إعجازه. كما نراها تنهج نفس الطريقة في دراستها لمسائل ابن الأزرق وبها استطاعت أن تُخرجها على صورة ممتعة لم تُسبَق إليها. وليس معنى هذا أن كل ما وصلت إليه الكاتبة بمنأى عن الأخذ والرد فتلك قضية أخرى. فقد يختلف معها غيرها بحق أو بغير حق. وإنما أردتُ أن أبين رأيها في الإعجاز، وطريقتها في تناوله. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 * تنويه: قد يبدو للقارئ أننى اقتديتُ بالكاتبة في منهج هذا البحث في كثير من موضوعاته لتشابه المنهجين إلى حد كبير. والواقع غير ذلك، إذ تقدمت ببحث الماجستير للكلية وموضوعه: سحر البيان في مجازات القرآن، نحوتُ فيه هذا المنحى في فصلين كبيرين، وذلك منذ ست سنوات. وكتاب المؤلفة ظهر منذ سنتين. بَيْدَ أننى مدين للجاحظ فى هذا السبيل حيث لمح فَرْقاً بين استعمال القرآن لكلمتى " المطر " و "الغيث ". الأولى في مقام العذاب، والثانية في مقام الإنعام. كما لمح فَرْقاً بين كلمتى " الجوع " و " السغب ". كما أنى مدين للخطابى حيث لمح فَرْقاً بين " العلم " و " العرفة " و " القعود " و " الجلوس ". ووجه كل هذه الكلمات توجيهاً فاقهاً. ومن هنا كان توجيهى إلى هذا المورد العذب، والخصائص الآسرة كما نحا فتحى رضوان هذا المنحى في مقالات له نشرها الأهرام في رمضان الماضى (1392 هـ) . والظاهر أن اتجاه الباحثين قد تزايد إلى دراسة القرآن دراسة موضوعية شاملة. ولهذا لزم التنويه. * * * * آراء منثورة في الإعجاز القرآني: ذكرنا في الصفحات السابقة آراء أصحاب المؤلفات في الإعجاز القرآني. وبدهى أن كثيراً من العلماء لم يصنعوا رسائل أو كتباً في الإعجاز. ولكنهم أدلوا بآرائهم فيه ضمن بحوث أو مقالات منشورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وهؤلاء لم يأتوا بجديد إنما وقفوا من الآراء السابقة موقف الأرجحية والترجيح. وها نحن نسجل هنا مواقفهم حسب موافقتهم على رأى منها ورفضهم ضمناً للآخر. أولاً - النظم والتأليف: أيَّد هذا الاتجاه القائل بأن الإعجاز كائن في النظم والتأليف كثير من العلماء قديماً وحديثاً. منهم الأصبهاني والرملكاني والقاضي عِياض. فقد تحدث الأصبهانى عن مراتب تأليف الكلام ثم قال: " فظهر من هذا أن الإعجاز المختص بالقرآن متعلق بالنظم المخصوص، وبيان كون النظم معجزاً يتوقف على بيان نظم الكلام ثم بيان أن نظم هذا الكلام مخالف لنظم ما عداه ". ويُفَرق الأصبهانى بين النظم المخصوص الذي هو صورة القرآن، واللفظ والمعنى الذي هو أثره وعنصره. وباختلاف الصورة يختلف حكم الشيء لا بعنصره كالخاتم والقرط والسوار. فإنه باختلاف صورها اختلفت أسماؤها لا بعنصرها الذي هو المذهب أو الفضة. والقرآن عنده جامع لمحاسن جميع فنون الكلام، على نظم ليس مثل نظومهم كما نقل السيوطي عن الزملكانى قوله: " وجه الإعجاز راجع إلى التأليف، بأن اعتدلت مفرداته تركيباً وزنة ". أما القاضي عياض فإن نظم القرآن يمثل عنده الجانب الأهم في الإعجاز، من حيث حُسن التأليف، والتئام الكلام وبلاغته الخارقة عادة العرب. كما يرى أن للإخبار عن الغيوب حيث جاءت مطابقة لما أخبر به القرآن وما أشار إليه من أخبار الماضين مما يعثر طليه على البَشر، ولتأثير القرآن على السامعين والقارئين يرى لكل هذه العوامل أثراً إضافياً في الإعجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فهو من القائلين بأن الإعجاز راجع إلى النظم والتأليف وإن رأى وجوهاً إضافية للإعجاز. ويرى ابن عطيه أن الإعجاز واقع بالنظم وصحة المعاني. وقال: " إن هذا ما عليه الجمهور ". فالنظم، وصحة المعاني، وتوالى فصاحة ألفاظه هي وجوه الإعجاز في هذا الكتاب الحكيم. قال: " ووجه إعجازه أن الله قد أحاط بكل شيء علماً، وأحاط بالكلام كله علماً، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظه تصلح أن تلى الأولى، ويتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبَشر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم بالضرورة أن أحداً من البَشر لا يحيط بذلك، ولهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة ولهذا يبطل قول مَن قال: إن العرب كان في قُدرتها الإتيان بمثله. فلما جاءهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صُرِفوا عن ذلك وعجزوا. والذي يظهر من هذه النقول أن القول بأن الإعجاز راجع إلى النظم والتأليف يغلب على الاتجاهات الأخرى، ويكاد يمثل الرأي الذي لا يصح فيه خلاف. وحتى الذين ذهبوا إلى وجوه أخرى غير النظم والتأليف لم ينسوا فضل نظم القرآن وتأليفه الخاص. هذا عند الأقدمين. . أما المحدَثون فلا نكاد نرى مَن يخالف هذا الرأي منهم وإن أضافوا إليه إعجازا آخر في مجال العلوم والتشريع فهو ما زال الرأي السائد في القديم والحديث. ثانياً - البلاغة والفصاحة: يتشكك كثير من الباحثين قديماً وحديثا أن تكون البلاغة والفصاحة من وجوه الإعجاز في القرآن مع اعترافهم بأن كلأ منها يؤدى دوراً هاماً في سمو الأسلوب ووضوح المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 من هؤلاء أبو بكر الباقلاني، وعبد القاهر الجرجانى، من الأقدمين، وفريد وجدى من المحدَثين. وسبب هذا الحكم - كما سبق - أن هذه الفنون يمكن التعمل لها. والاحتيال عليها. وما كان ممكناً أن يُتعلم ويُحذق بالصنعة. فلا يكون وجهاً من وجوه الإعجاز. وعلى العكس من هذا. . فإن فريقاً آخر قد اعتبر البلاغة والفصاحة، وجهاً من وجوه الإعجاز. ومن هؤلاء القاضي عبد الجبار المعتزلى، وفخر الدين الرازى، وحازم، والمراكشى. قال الرازى: " ووجه الإعجاز الفصاحة وغرابة الأسلوب، والسلامة من العيوب ". ويقول حازم: " وجه الإعجاز في القرآن حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه جميعه. استمراراً لا يوجد له فترة، ولا يقدر عليه أحد ". ويقول المراكشى: " إن الإعجاز حاصل ببلاغة القرآن، وروعة نظمه، ليس إعجازه بمفرداته ولا بمجرد تأليفه، ولا بحركات إعرابه، ولا بصرف العرب عنه ". هذان رأيان متقابلان والصحيح الذي يمكن قبوله أن المسألة وَسَط بين الفريقين. فلا يمكن عزل البلاغة والفصاحة عن وجوه الإعجاز ولا يمكن كذلك جعل الإعجاز كله راجعاً إليهما. بل هما - أي الفصاحة، والبلاغة - عاملان من عوامل الإعجاز. وليستا أوحديتين فيه: لأن المختار أن الإعجاز راجع إلى النظم والتأليف، والفصاحة والبلاغة من أهم سمات النظم البليغ والتأليف المحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أما عبد الجبار فقد رفض أن يكون للقرآن نظم مخصوص هو مرجع الإعجاز: " لأن العادة لم تجر بأن يختص واحد بنظم دون غيره. فصارت الطرق التى عليها يقع نظم الكلام الفصيح معتادة. كما أن قدر الفصاحة معتاد فلا بدَّ من مزيد فيهاً. " ولذلك لا يصح عندنا (يعنى المعتزلة) أن يكون اختصاص القرآن بطريقة فى النظم دون الفصاحة التي هي جزالة اللفظ، وحسن المعنى ". فعبد الجبار يُرجع الإعجاز إلى الفصاحة. . وقد فسَّرها بجزالة اللفظ وحسن المعنى. متأثراً في ذلك بشيخ المعتزلة أبى هاشم الجبائى الذي نقل هو نصاً عنه متضمناً هذا المعنى. ومع هذا. . فإن عبد الجبار لا يلغى أهمية النظم في فهم الإعجاز، بل ينظر إليه باعتباره مظهراً من مظاهر الفصاحة، التي عليها المعول عنده في هذا المجال، وقد انتهى إلى أسس جمالية قيمة: فقد قرر أن الفصاحة من صفات الأسلوب. ولا تظهر في المفردات. " بل في الكلام بالضم. ولا بدَّ مع الضم من اعتبار صفة لكل كلمة. هذه الصفة قد تكون بالوضع، أو بالإعراب أو بالوقع. وإذا روعى هذا في بناء الأسلوب ظهرت فيه الفصاحة ". والباحث يرى أن عبد الجبار قد شرع للأسلوب الرفيع، وهذا يجعلنا نقول: إنه قائل بأن الإعجاز يرجع إلى النظم والتأليف وإن حاول هو أن يتهرب من هذا. لأن تفسيره للفصاحة تضمن هذا القول. . ولا خلاف عنده إلا في العبارة أما المؤدى فواحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وكذلك يرى الزمخشري في " الكشاف " والسكاكى في " مقدمة الفتاح " حيث أوصيا بالبلاغة معاني وبياناً من أجل فهم القرآن ومعرفة خصائصة. وكذلك كان رأى الإمام محمد عبده. ثالثاً - روحانية القرآن: قال بهذا الوجه كثيرون. منهم مَن جعله وجهاً ضمن وجوه أخرى للإعجاز كالرماني وعبد الكريم الخطيب، ومنهم مَن جعله الوجه الوحيد في فهم الإعجاز، وقد قال بهذا الفكر فريد وجدى، فقد تحمس وجدى لهذا الرأي ورفض كل ما عداه من آراء السابقين. وله في إثبات رأيه محاولات كثيرة، فنراه يقول: " حصر المتكلمون في إعجاز القرآن كل عنايتهم، في بيان الإعجاز من بلاغته فكتبوا في ذلك فصولاً ضافية الذيول. وبعضهم خصها بالتأليف - وإننا وإن كنا نعتقد أن القرآن قد بلغ الغاية من هذه الوجهة، إلا إننا نرى أنها ليست هي الجهة الوحيدة لإعجازه. بل ولا هي أكثر جهات إعجازه سلطاناً على النفس، فإن للبلاغة على النفس سلطاناً محدوداً لا يتعدى حد الإعجاب بالكلام، والإقبال عليه. ثم يأخذ هذا الإعجاب والإقبال يضعف شيئاً فشيئاً بتكرار سماعه حتى تستأنس به النفس، فلا يعود يُحدث فيها ما كان. يُحدثه مبدأ توارده عليها. . وليس هذا شأن القرآن. فإنه قد ثبت أن تكرار تلاوته تزيده تأثيراً، ولكنه تسلط على النفس والمدارك. فوجب على الناظر في ذلك أن يبحث عن وجه إعجازه في مجال آخر يكفى لتعليل ذلك السلطان البعيد الدى الذي كان للقرآن على قلوب الملحدين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ثم يكشف هو عن تلك العِلَّة فيقول: " العلة نفى نظرنا واضحة لا تحتاج إلى كثير تأمل، وهي أن القرآن روح من أمر اللَه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) ، فهو يؤثر بهذا الاعتبار تأثير الروح في الأجساد فيحركها ويتسلط على أهوائها. أما تأثير الكلام في الشعور فلا يتعدى سلطانه حد إطرابها والحصول على إعجابها ". ثم ينتهى إلى قوله: " نعم. إن جهة إعجاز الكتاب الإلهى المقدس هي تلك الروحانية العالية التي قلبت شكل العالم ". ويرى وجدى أن هذا الرأي يحل كثيراً من المشكلات فيقول: " هذا رأينا في جهة إعجاز القرآن. وهو - فيما نعلم - يحل كثيراً من المشاكل في هذا البحث ويمكن الاستدلال عليه بالحس والواقع. أما ما ولع به الناس من أن القرآن معجز لبلاغته، وتجاوزه حدود الإمكان، حتى وقع الإعجاز ببلاغته، دون وجوه إعجازه الأخرى فلم نقف له على أثر في ذات القرآن. مع أنه ورد ذكر القرآن في آيات عدة لم نر في واحدة فيها ما يوافق ما يذهب إليه الآن الكثيرون ". والآن - وبعد أن ذكرنا رأيه ونصوصه - نسأل سؤالاً. مؤداه: ماذا يقصد وجدى بأنه لم يجد في آيات القرآن ما يدل على هذا المذهب؟ إن كان يقصد عدم ورود شيء من الصور البلاغية في القرآن - وهذا بعيد جداً - فقد وَهِم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وإن كان يقصد أن القرآن لم يُشر إلى أن وجه إعجازه مأخوذ من السمات البلاغية التي فيه - وهذا بعيد كذلك - فإنه أشد وقوعاً في الوهم، لأن القرآن لم يقل أن وجه إعجازه كذا. وإن كان يريد أن ليس في آيات القرآن ما يشير إلى امتداح الكلام البليغ - وهذا ممكن إرادته - فإنه قصور من الكاتب. لأن في القرآن الكريم آية هى أظهر ما تكون امتداحاً للقول من جهة بلاغته. ألم يقل سبحانه لرسوله عليه السلام: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) . والخلاصة. . إن وجدى قد بالغَ في نفى أن يكون للبلاغة دور في الإعجاز، وبالغَ في إثبات رأيه في أن القرآن معجز لأنه روح من الله. . لأننا لو جاريناه على رأيه فمن أين تُدَرك هذه الروح؟ أليست من خلال كلام وأسلوب ونظم. . أم تُدَرك من الفراغ؟ رابعاً - الإعجاز لا يمكن وصفه: هذا رأى اثنين من العلماء: أبو يعقوب السكاكى، وأبو حيان التوحيدى. فقد قال السكاكى: " إن إعجاز القرآن يُدرَك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تُدرَك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة. كما يُدرَك طيب النغم العارض لهذا الصوت. ولا يدرَك تحصيله لغير ذوى الفطرة السليمة. إلا بإتقان علمي المعانى والبيان والتمرين فيهما ". وقال أبو حيان التوحيدى: " سُئِل بندار الفارسى عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: هذه مسألة فيها حيف وذلك أنه شبيه بقولك: ما موضع الإنسان من الإنسان؟ فليس في الإنسان موضع من الإنسان. . بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته. ودللت على ذاته. كذلك القرآن لشرفه لا يُشار إلى شيء منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 إلا وكان ذلك آية في نفسه. ومعجزة لمحاوله. وهدىً لقائله. وليس في طاقة البَشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه. فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده". ولابن خلدون رأى شبيه بهذا. إلا أن الممتنع عنده هو فهم جميع أسرار الإعجاز. أما بعضها فجائز لمن توافرت له وسيلة الفهم. قال ابن خلدون: " وهذا الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه، وإنما يدرك بعض الشيء منه مَن كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول مَلكته. فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه ". والذي يظهر من النظر في قولي السكاكى وأبى حيان يجد النزعة الفلسفية غالبة عليهما وإن ظهرت إلى حد الإسراف فيما نقله أبو حيان. . ورأيهما متطرف. أما رأى ابن خلدون فهو أقرب إلى الحقيقة كما ترى. " الأسلوب النطقى والعلمي: ويذهب بعض الباحثين إلى أن من وجوه إعجاز القرآن الأسلوبين المنطقى والعلمي، لأن العرب لم يكونوا يحسنون غير الأسلوب الخطابى من بين فنون النثر، وقد حاول صاحب هذا الرأي أن يستدل على صحته جهد المستطاع. وعلى طرافة ما ذهب إليه فقد رده بعض معاصريه. " الموضوعية والتجرد: وهو أحدث رأى في الإعجاز حتى الآن. قال به الدكتور محمد البهي في مقال طويل نشرته له الوعي الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ويراد من الموضوعية شمول مبادئ القرآن، ومن التجرد نزاهة أحكامه من الهوى. وقد أقام الأدلة الواضحة والكثيرة مهتدياً بالنصوص القرآنية نفسها. وهذا مظهر من مظاهر إعجاز القرآن البياني ألا يعدم باحث دليلاً منه على رأى يرتئيه فيه. وجهة تتضح فيه. * * * * تعقيب ونقد: قدمنا حصيلة سريعة لآراء العلماء في الإعجاز القرآني. وقد اقتصرنا فى هذا البحث على المسائل الرئيسية في هذه المشكلة. وغضضنا الطرف عن كثير من المسائل الجزئية التي وُجدَت في كتب الأقدمين مثل: بِمَ يقع الإعجاز؟ بالقرآن كله أم بأقل شيء فيهَ؟ ، والإعجاز خاص بالعرب أو شامل لغيرهم من الأمم؟ ، وهل الإعجاز خاص بالقرآن؟ أو شامل لغيره من الكتب السماوية؟ . . . إلى آخر هذه المسائل. والذي يبدو واضحاً أمام الباحث من الآراء السابقة أن الإعجاز القرآني إنما هو قائم بنظمه وتأليفه بكل ما تحتمل هذه العبارة من مزايا النظم والتأليف. فيدخل فيه اختيار اللفظ للدلالة على معنى معيَّن، ثم موضعه من الجملة. ثم أثره الصوتى الذي يمثل إيقاعاً ينتظم مع غيره فتتكون بذلك ظاهرة الإيقاع الصوتى الذي يمتاز القرآن بها عن سواه. ويدخل في هذا الاعتبار ما في القرآن من اللمحات البلاغية من مجاز وتشبيه وتمثيل وكناية وتقديم وتأخير، وفصل ووصل، وإيجاز وإطناب ومساواة، وذكِر وحذف وتوكيد وغير توكيد. . . إلى آخر هذه الفنون. ولستُ مع الذين ينقصون من قَدْر البلاغة العربية لا في مجال الإعجاز ولا فى مجال غيره من الأساليب. فالبلاغة تشريع وتوجيه لصياغة الأسلوب الجميل. فليس الباقلاني، وفريد وجدى بمنصفين حين أقصيا البلاغة والفصاحة عن ميدان فهم الإعجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ولستُ مع عبد الجبار وأستاذه الجبائى حين يقرران أن روعة النظم شيء، والفصاحة شيء آخر. ولستُ أفهم على أي أساس بنيا هذه الفكرة فالأسلوب ذات. . وكل من الفصاحة والبلاغة عَرَض. ولا بدَّ للعَرَض من ذات حاملة. . فلو كنا نعثر على بلاغة أو فصاحة في غير نظم وأسلوب: جاز لنا هذا التفريق. أما ونحن غير واجدين البلاغة والفصاحة إلا وصفاً لكلام، فإن هذه الآراء تبدو شيئاً قريباً من المغالطات التي لن يقبلها منصف. . * * * * دور البلاغة في الأسلوب الجميل: ولقد اهتمت البلاغة العربية بتوجيه الأسلوب ابتداءً من الحرف، فالكلمة، فالجملة، فالأسلوب كله. ولم تقصر في هذا الشأن. وفصلت الكلام على أقدار المخاطبين، فكان اختلاف المقامات الذي يتبعه اختلاف في الكلام نفسه من إيجاز وإطناب ومساواة. . . إلى آخر هذه الاعتبارات. ومن توكيد مختلف الدرجة، إلى خلو من التوكيد، من ذكر إلى حذف، من تقديم إلى تأخير، من إظهار إلى إضمار، من وصل إلى فصَل، ولم تحجر على المتكلم بقوالب جامدة فأعطته الحرية في حُسن تقديره للاعتبارات المناسبة. وجعلت من حقه أن يخالف الظاهر له من أحوال المخاطبين ويسلك بهم طريقا غير الظاهر ما دام قد رأى اعتباراً آخر مناسباً يحسن أن يورد عليه الكلام، فكان علم المعاني كفيلاً بهذه التوجيهات. كما وُضِعَت الوسائل الكاشفة عن صور الخيال والمبالغة في إيراد المعاني ميسَّرة أمام المتحدث فيستعير، ويتجور ويُكَنى ويُمَثِّل. ولا شك أن البليغ الذي يوفق لأن يضع أسلوبه على هدى من توجيهات البلاغة والفصاحة موضع إعجاب كبير عند العالِمين بجودة الأسلوب وأثره القوي في النفس. وكان علم البيان خير معين في هذا المجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وأمام التحدث وصايا عدة لتحسين اللفظ أو المعنى كفلها علم البديع الذى ليس هو مظهر ترف في الأسلوب وإنما هو دعامهَ من دعائم إجادته وصقله. إن عبد القاهر الجرجانى قد أقام نظرية كاملة في كتابه " دلائل الإعجاز " لم ينحرف وهو يضع أسسها عن توجيهات البلاغة. وما زال كتابه فتحاً جديداً فى هذا المجال. كما كان كتابه " أسرار البلاغة " ذا أهمية خاصة في التوجيه البلاغى والنقد الجمالى الفنى. إننا ما دمنا نقول ونرجح أن إعجاز القرآن إنما هو بنظمه وروعة تأليفه فإن البلاغ والفصاحة تمثلان لنا أكبر دعامتين في بيان جودة النظم وروعة التأليف فى حقائقه ومجازاته وبدائعه. في معانيه وييانه. وقد أبان السكاكى وظيفة البيان والمعاني في بناء الأسلوب وسلامة الحكم عليه فقال: " إن الوقوف على تمام مراد الحكيم تعالى، وما تقدس من كلامه، مفتقر إلى هذين العلمين - أي البيان والمعاني - كل الافتقار، فالويل لمن يتعاطى التفسير وهو فيهما راجل ". وقد أشار الزمخشري إلى هذا المعنى، وبنى عليه منهجه في التفسير. فكانت التوجيهات البلاغية طابعاً غالباً على تفسيره كما أخذ بها العلامة أبو السعود فحفل تفسيره بالكشف عن مواطن الجمال في القرآن الكريم على هدى من توجيهات البلاغة. ويقول أبو هلال: " وحُسن الرصف أن توضع الألفاظ مواضعها. وتُمكن فى أماكنها، ولا يُستعمل فيها التقديم والتأخير. والحذف والزيادة - إلا حذفاً لا يفسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الكلام - ولا يعمى المعنى، ويضم كل لفظة منها إلى شكلها. وتضاف إلى لفقهاً. هذه سمات الأسلوب الجيد كما يراها أبو هلال العسكرى. . وهل هذه التوجيهات خارجة عن مفهوم البلاغة؟ ومن هنا يُعلم أن كل أسلوب جميل لا غِنى فيه عن توجيهات البلاغة، ودقة التزام الإرشاد البلاغى هو الذي أبدى الأسلوب في شكله الجميل الرائع. على أننا نرى أن هناك مواضع في القرآن الكريم لا بدَّ من تخريجها بلاغياً وإلا وقعنا فيما يشبه المحظور. وذلك في المواضع التي أثبتت لله - سبحانه - جارحة كقوله تعالى: (يَدُ اللهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ) . وقوله: (ثُم استَوَى عَلى العَرْشِ) . فإذا نحينا مذهب " السَّلف " القائل بالتسليم. فإن منهج " الخَلف " الآخذ بالتأويل يقول بأنها القُدرة. ففى التعبير مجاز مرسل علاقته المحلية. لأن القُدرة محلها اليد. وفسَّروا: " استوى " - بالاستيلاء بمعنى سلطان الله المسيطر على العرش، وعلى كل شيء، كما فسَّروا الظروف التي تدل على المكان مضافة إلى الله مثل " عند " في قوله تعالى: (وَإنهُمْ عندَنَا لمِنَ المصْطفَيْنَ الأخْيَارِ) . بالعلم - أي في علمنا. وكثير من هذَه المشاكل التي تمس العقيدة قد تخرجت تخريجاً بلاغياً ارتاحت معه النفس واطمأنت إليه العقول أيما اطمئنان. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 * رأي جامع: بقى رأى آخر ذكره الزركشي وقال: إن أهل التحقيق على هذا الرأي، ومحصله أن الإعجاز وقع بكل ما سبق من الأقوال. لا بواحد على انفراده. فإنه جمع ذلك كله فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع. بل وغير ذلك مما لم يسبق. فمنها الروعة التي في قلوب السامعين وأسماعهم سواء المقرُّون والجاحدون، ثم إن سامعه إن كان مؤمنا به يداخله روعة في أول سماعه وخشية. ثم لا يزال يجد في قلبه هشاشه إليه ومحبة له، وإن كان جاحداً وجد فيه مع تلك الروعة نفوراً لانقطاع مادته بحسن سمعه. ومنها: أنه لا يزال غضاً طرياً في أسماع السامعين وعلى ألسنة القارئين. ومنها: جمعه بين صفتى الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالباً فى كلام البَشر، لأن الجزالة من الألفاظ التي لا توجد إلا بما يشوبها من القوة وبعض الوعورة، والعذوبة منها ما يضادها من السلاسة والسهولة. فمَن نحا نحو الصورة الأولى فإنما يقصد الفخامة والروعة في الأسماع. . ومَن نحا نحو الثانية قصد كون الكلام في الأسماع أعذب وأشهى وألذ. . وترى ألفاظ القرآن قد جمعت في نظمه كلتا الصفتين. . وذلك أعظم وجوه البلاغة في الإعجاز. ومنها: جعله آخر الكتب غنياً عن غيره، وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد يحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه كما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) . فأنت ترى - حتى مع هذا الرأي الموفق بين جميع الآراء - قد نوَّه بما للبلاغة من أثر في الإعجاز. فقال: " وذلك أعظم وجوه البلاغة في الإعجاز ". ونحن لا نرى حَرَجاً أن يُضاف إلى الإعجاز البياني إعجاز آخر. ما دام النظم هو موضع الإعجاز الأول. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الفصل الثالث خصائص يغلب عليها جانب الألفاظ فى القرآن الكريم خصائص امتاز بها من غيره. وذلك أمر مسلم، وقد كانت تلك الخصائص - وما زالت - مثار الإعجاب، ومصدر الإعجاب من عصر ْالنزول حتى الآن، وحتى تقوم الساعة. وقد لحظ العرب الخُلص في عصر النزول، هذه الخصائص التي بدت لهم فوق ما يحسنون فراحوا - رغم عدائهم للقرآن وصاحبه - يثنون عليه، ويصفونه بما يستطيعون من أوصاف الجمال والروعة. وما حديث الوليد بن المغيرة في وصف القرآن ببعيد عن الأذهان (1) . وفي دراستنا لهذه الخصائص قسمناها - تسهيلاً للضبط - إلى قسمين كبيرين. . أحدهما: خصائص يغلب عليها جانب الألفاظ - وهو ما ندرسه في هذا الفصل - وليس المراد بغلبة اللفظ طغيانه على المعنى، بل المراد أن الملحظ فيها إنما يرجع إلى اللفظ. مع وفاء العبارة بالمعنى على أكمل وجه.   (1) نريد بهذه الخصائص أمرين: ما لا وجود له خارج القرآن. كفواتح السور. وما له وجود خارج القرآن، لكنه في القرآن على أكمل وج اوأدق تصوير. فحرى ألا يعتبر ما في سواه، وذلك كالتكرار المحكم. وفي كل فإن ما نذكره تمثيل وليس استقصاء، فكتاب الله لا تنتهى عجائبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وذلك مثل فواتح السور، والتكرار الحكم. والفواصل بين الآي. وثانيهما: خصائص يغلب عليها جانب المعاني، لأنه الملحوظ فيها مع روعة اللفظ وتوافر مقومات الحسن فيه. وذلك مثل ثراء معاني اللفظ في القرآن. اختلاف الأغراض في السورة الواحدة. دقة النظم بين تراكيبه. وفي هذا الفصل ندرس الخصائص الآتية: فواتح سور القرآن - فواصل آى القرآن - ألفاظ القرآن - النغم الصوتى لألفاظ القرآن - التكرار المحكم في القرآن. 1 - فواتح السور: ذكر السيوطي أن ابن أبى الإصبع قد أفرد فواتح السور القرآنية في كتاب سماه " الخواطر السوانح في أسرار الفواتح ". ثم قال: " وأنا ألخص هنا ما ذكره مع زوائد من غيره " ثم عرض أن فواتح سور القرآن تنحصر فى عشرة أصول وهي: الثناء: مثل: (الحَمْدُ لله) و (تَبَارَكَ) و (سُبْحَانَ) وجاء الثناء فواتح لأربع عشرة سورة. حروف التهجى: مثل: " ألم " و " حم " وقد جاءت هذه الحروف فواتح لتسع وعشرين سورة سنعرض لها في شيء من التفصيل. النداء: - مثل: (يَا أيُهَا الناسُ) و (يَا أيُهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) وقد - جاء النداء فواتح لعشر سور: خمس بنداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي: الأحزاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 والطلاق، والتحريم، والمزمل، والمدثر. وخمس بنداء الأمة وهي: النساء، والمائدة، والحج، والحجرات، والمتحنة. الخبر: مثل: (يَسْألُونَكَ) و (ألهاكُمُ) وقد جاء الخبر فواتح لثلاث وعشرين سورة من سور القرآن. القَسَم: مثل: (وَالسمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ) و (والنجْم إذا هَوَى) وقد جاء القَسَم فواتح في عشر سور. الشرط: مثل: (إذَا جَاءَك المنَافِقُونَ) و (إذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ) وقد جاء الشرط فواتح لسبع سور. وسيأتى الحديث عنها في شيء من التفصيل كذلك. الأمر: مثل: (قُلْ أُوحِىَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وكان الأمر فواتح لست سور ثنتين من طوال المفصل، وأربع من قصاره. الاستفهام: مثل: (هَلْ أتَى عَلى الإنسَانِ حِينٌ مَنَ الدهْرِ) و (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) وكان الاستفهام فواتح لست سور أيضاً. الدعاء: مثل: (وَيْلٌ لَكُلً هُمَزَةٍ) و (تَبَّتْ يَدَا أبِى لهَبٍ) وجاء فواتح لثلاث سور. التعليل: وقد جاء فاتحة لسورة واحدة هي قوله تعالى: (لإيلافِ قُرَيْش) . هذا. . وقد ذكر السيوطي في نهاية الحديث عن هذه الأصول قوله: " هكذا جمع أبو شامة قال: وما ذكرناه في قسم الدعاء يجوز أن يُذكر مع الخبر، وكذا الثناء كله خبر إلا " سَبِّحْ " فإنه يدخل في قسم الأمر، و" سُبْحَانَ " يحتمل الأمر والخبر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ومعنى هذا أن مرد هذه الأصول نوعان: نوع لا يحتمل توجيهاً غير المذكور فيه، ونوع يمكن التصرف فيه حسب ما بيَّنه. وليس هذا يعنينا. إنما الذي أريد ذكره هنا أن الحديث عن هذه الأصول ليس بمستطاع: لأن موضوعها القرآن كله، ولذلك فإننى أعمد هنا إلى نوعين لأفصل الحديث عنهما وهما: ما كانت فواتحه حروفاً هجائية مقطَّعة، ثم ما كانت فواتحه شروطاً. * * * 10 لحر وف: جاءت الحروف الهجائية غير المؤتلفة فى كلمات ذات معنى متفَق عليه وضعاً لتسع وعشرين سورة على الوجه الآتى: (أ) ما بدئ بحرف واحد، وهي ثلاث سور: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) . (سورة ص - مكية النزول) (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) (سورة ق - مكية النزول) . (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) . (القلم - مكية النزول) (ب) ما بدئ بحرفين، وهو نوعان: 1 - ما اختلف فيه حقيقة الحرفين وهو ثلاث سور: (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) (طه - مكية النزول) . (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) (النمل - مكية النزول) . (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) (يس - مكية النزول) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 2 - ما اتحد فيه حقيقة الحرفين، وهو ست سور هى: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) (غافر - مكية النزول) . (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) (فصلت - مكية النزول) . (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) . (الزخرف - مكية النزول) (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) (الدخاَن - مَكيةَ النَزول) (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) . (الجاثية - مكية النزول) (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) (الأحقاف - مَكية النزول) . (ب) ما بدئ بثلاثة أحرف. وهو ثلاثة أقسام بالنسبة لحقيقة الحروف المفتتح بها: 1 - " الم " وجاءت فاتحة لست سور: (الم* ذلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لَلمُئقِينَ) . (البقرة - مدنية النزول) (الم* اللَهُ لا إلْهَ إلا هُوَ الحَيُّ القَيُومُ) (آل عمران - مدنية النزول) . (الم* أحسِبَ الناسُ أن يُتْركُواْ أن يَقُولُواْ آمَنا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) . - -) العنكبوت - مكمِة النزول) (الم* غُلِبَتِ الرومُ) (الروم - مكية النزول) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 (الم* تِلكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيم) (لقمان - مكية النزول) . (الم* تَنزِيلُ الكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن ربِّ العَالمِينَ) . (السجدة - مكية النزول) 2 - " الر " وجاءت فاتحة لخمس سور هي: (الر، تِلكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيم) (يونس - مكية النزول) . (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) . (هود - مكية النزول) (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (يوسف - مكية النزول) . (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . (إبراهيم - مكية النزول) (الر تِلكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (الحجر - مكية النزول) . 3 - " طسم " وجاءت فاتحة لسورتين: (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) (الشعراء - مكية النزول) . (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) (القصص - مكية النزول) . (د) ما بدئ بأربعة أحرف وهو سورتان كذلك: (المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ. .) . (الأعراف - مكية النزول) (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ. .) . (الرعد - مكية النزول) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 (هـ) ما بدئ بخمسة أحرف وهو - كذلك - سورتان: (كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) (مريم - مكية النزول) . (حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) (الشورى - مكية النزَول) * * * ويسيرٌ من النظر يُبين أن الحروف التي بدأت بها هذه السور، تبلغ - بعد حذف المكرر - أربعة عشر حرفا هي: ا - ح - ر - س - ص - ط - ع - ق - ك - ل - م - ن - هـ - ى. وقد أثار هذا النوع من الفواتح دهشة العرب النازل بلغتهم القرآن، كما أثار جدلاً كبيراً بين العلماء والمفسرين: لأنهم رأوا فيه غرابة وعزة غير معهودتين فى متعارف القول ومشهور الأساليب. ونتج عن هذا الخلاف اتجاهان رئيسيان. . الأول: يقضى بتفويض السرِّ في ذلك إلى الله، ويرى عدم الخوض فيه، ويعده من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلا الله. ومن القائلين به خليفة الرسول أبو بكر الصديق، وعلىَ بن أبى طالب، وعمر ابن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد اللهَ بن مسعود. فقد نقل السمرقندى أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يُفسَّر. وقال أبو حاتم: لا ندري ما أراد الله عزَّ وجلَّ بها. وقد تابع الشعبى هذا الرأي وقال: إن لكل كتاب سراً. وإن سر هذا القرآن فواتح السور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 هذه خلاصة هذا الاتجاه. أما الاتجاه الثاني. . فيرى ضرورة تخريجها والبحث عن معانيها ومدلولاتها * وقد تشعبت آراء هذا الفريق حول فهم معناها. ويمكن تلخيص حصيلة ما قالوا به فيما يأتى: 1 - منهم مَن يرى أنها - أي الحروف المبدوءة بها السور - أسماء لله سبحانه أو هي الاسم الأعظم. ويُعزَى هذا القول لابن عباس رضى الله عنه وقد تابعه الكلبى وجعلها مقسماً بها. وفي كشاف الزمخشري كلام طويل حول رأى الكلبى في موضعها من الإعراب. 2 - ويرى آخرون أنها أسماء للسور التي صدرت بها. ويُنسب هذا الرأي إلى زيد بن أسلم. 3 - وقال آخرون إنها رموز دالة على كلمات هي بعض حروفها. و "الم " مثلاً بعض حروف كلمة هي: أنا الله أعلم. . . . وهكذا. وقد اختار الزجاج هذا الرأي حيث قال: أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدى عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة. نظماً لها ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها. وقد استدل على مذهبه بمأثور كلام العرب. من ذلك: قُلتُ لهَا قِفِى. . . قَاَلتْ: قَافْ يعنى: وقفتُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وذكر السيوطي نصوصاً أخرى وردت عن العرب استعملت فيها الحروف المقطعة بدل الكلمات. وكذلك ابن جنى في الخصائص. 4 - ويرى آخرون أن هذه الفواتح رموز يراد بها قيمتها العددية على طريقة " أبجد "، وممن يرى هذا الرأي السهيلي حيث يقول: " لعل عدد الحروف التي فى أوائل السور - مع حذف المكرر - للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة. وقد تعقب هذا الرأي ابن حجر، وحكم عليه بالبطلان كما ثبت عن ابن عباس رضى الله عنه النهي عن عد " أبجد ". 5 - وفريق آخر يرى أن هذه الحروف إشارة لورودها أكثر من غيرها فى السور التي بدئت بها. 6 - ونقل زكى مبارك في كتابه " النثر الفنى " أن هذه الحروف هي وحدات صوتية تكوًن لحناً موسيقياً يراد به تحريك الشعور وإيقاظ الوجدان. كما يكون ذلك في التراتيل الدينية لتهيئة النفوس لتلقى النصائح والإرشادات. ويعزى هذا الرأي إلى مستشرق فرنسى يدعى " بلانشو ". 7 - ويرى فريق أنها أدوات للتنبيه، عمد إليها القرآن ليكون في غرابتها ما يثير الالتفات. . ولكى يكون أبلغ في قرع الأسماع. وقد اختلف القائلون بهذا الرأي في مَن هو المنبَّه؟ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أم المشركون؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فأبو حيان يرى أنها تنبيه للمشركين إلزاماً لهم بالحُجة، ليستغرق بها المشركون فيفتحوا لها أسماعهم، فتجب عليهم الحُجة بسماع القرآن. ويرى الفخر الرازى أن المنبَّه هو الرسول عليه السلام؟ لأنه إنسان قد تشغله بعض الأمور. وقد ارتضى الإمام الجويني - فيما حكاه عنه السيوطي - هذا الرأي. وأخذ يعرض ما يراه مبرراً له. وذهب الزركشي إلى أن مجيء هذه الحروف في أوائل السور إشارة إلى غلبة مجيئها في كلمات هذه السورة. كما حاول أن يثبت وجه اختصاص كل سورة بما بدئت به بحيث لا تصلح (الم) بدءاً لسورة قد افتتحت بـ " الر ". . ذكر ذلك في تفصيل واف. من ذلك تكرار الخصومات في " سورة ص " حيث بدئت به. ففيها خصومة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار، والخصمان اللذان عند داود عليه السلام، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم. 8 - وذهب الشيخ طنطاوى جوهرى إلى ما خلاصته: أن القرآن كتاب سماوى. والكتب السماوية تُصرح تارة وترمز أخرى. وساق على ذلك دليلين: أحدهما: أن اليهود كان لهم رمز، يتضح ذلك من حساب الجُمَّل حيث جعلوا الحروف رموزاً للأعداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ثانيهما: كذلك فإن النصارى قد اتخذوا الحروف رموزاً دينية معروفة فيما بينهم أيام نزول القرآن، وكانت اللغة اليونانية هي الرسمية في مصر، وكانوا يرمزون بلفظ " إكسيس " عن: يسوع المسيح ابن الله المخلِّص. فالألف من " إكسيس " هي الحرف الأول من " إبسوس " يسوع. والكاف هى الحرف الأول من " كرستوس " المسيح. والسين مبدلة من حرف الثاء فى " ثبو " الله. والياء تدل على " إيوث " ابن. والسين الثانية منها تشير إلى " توتير " المخلص. ومجموع هذه الكلمات عندهم هو: يسوع المسيح ابن الله المخلِّص "! ؟ وهذا الرأي يبدو في ظاهره دفاعاً عن مبدأ الرمز بالحروف الوارد في القرآن الكريم وليس محاولة لفهم هذه الظاهرة الفريدة. 9 - ويروى مالك بن نبى، نقلاً عن " النقد الحديث "، أن هذه الفواتح ترجع إلى حالة اضطراب عضوى يحدث للنبى عليه السلام في حالة الكشف والتلقى. لكنه يدفع هذا الفرض بما هو معروف عن النبي عليه السلام؟ لأنه كان يمثل أكمل المعادلات الشخصية في نواحيها الثلاثة: الخلقية، والعقلية، والبدنية. ولم يدع التاريخ أدنى ريب في هذه النقطة. فلا مجال إذن لأن نتخيل أى افتراض عن الذات المحمدية، حتى نشرح هذا الإبهام أو ذلك المرض العضوى. " ومن وجهة أخرى لسنا نجد في أدب هذه الذات الشخصى الغنى - وهو " الحديث " - أي أثر لتلك المغلقات، ولا توجد أية رواية مشافهة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشتملة عن مثل هذا التصدير الرمزى ". هذا رده. وهو دفع ناجح بلا شك. ولكننا نرى في المسألة دفعاً آخر مستمداً من طبيعة الظاهرة نفسها لا من شيء خارج عنها ذاتاً، أو أدب ذات. وحاصل هذا الرد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 " فقد تنبه السَّلف إلى أن مجموع هذه الحروف - بغير المكرر منها - أربعة عشر حرفاً هي نصف الحروف العربية. كما أطال بعضهم النظر في هذه الحروف، فلفتهم عنها أنها نصف الحروف الهجائية على أي وجه من الوجوه التي اصطلح عليها علماء اللغة بعد نزول القرآن بزمن طويل. ففيها خمسة حروف مهموسة، وعدد المهموس من الحروف عشرة، وفيها نصف الحروف المهجورة وفيها ثلاثة من حروف الحَلق. هي نصف الحروف الحلقية، كما أن فيها نصف الحروف غير الحلقية. وفيها نصف الحروف الشديدة، كما أن فيها نصف الحروف الرخوة، وفيها حرفان من الأحرف الأربعة المطبقة، كما أن فيها نصف الحروف الأخرى المنفتحة غير المطبقة. وفيها نصف الحروف المستعلية، كما أن فيها نصف الحروف المنخفضة". فهل هذه الدقة الرائعة، والتوزيع السحرى بين جمل الحروف وأنصافها يمكن أن يعزى إلى ذات مريضة، أو أعصاب مضطربة؟! هذا ما يرفضه العقل والواقع معاً. ولا يمكن أن يُعزَى مثله إلا إلى الوحى. 10 - وذهب قطرب والفراء إلى أن هذه الحروف إشارة إلى حروف الهجاء لا تتعداها، أعلم الله بها العرب حين تحدَّاهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هى التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عن محاكاته أبلغ في الحُجة عليهم. إذ لم يخرج عن طريقة كلامهم في أصل التأليف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 هذا عرض سريع لأهم الآراء في توجيه هذه الظاهرة. وليست كلها مقبولة. وقد ناقشنا فيما مضى رأيين منها ورددناهما. وهما ما ورد عن طنطاوى جوهرى، وما نقله صاحب الظاهرة القرآنية. أما الآراء الأخرى فيمكن النظر فيها على الوجه الآتى: * نقد وتحليل: أولاً: إن القول بأنها أسماء لله أو للسور التي هي فيها مردود لاعتبارات: أما كونها أسماء لله. . فإن أسماء الله معدومة من السُّنَّة كما في الحديث الشريف: " إن لله تسعة وتسعين اسماً "، وكانت السُّنَّة مقررة لما جاء فى القرآن الكريم وليست هذه منها. لأن أسماء الله توقيفية. لا يجوز إطلاقها إلا بإذن من الشرع. وهذه اجتهادات مفسرين. أما كونها أسماء للسور. . فإن ذلك يؤدى إلى الخلط بين المسميات فـ (الم) مثلاً وردت فواتح لست سور. فأيها ألف لام ميم؟ أم هي أسماء للست فى آن واحد؟! وهذه السور قد أطلق عليها العلماء أسماءها لاعتبارات مناسبة كالبقرة. .، وآل عمران. . إلخ. من هذا ترى أن كلا الاحتمالين - أسماء لله، أو للسور - مردود. أما القول باعتبار القيم العددية لهذه الحروف. فرأى يبدو عليه الجفاف. وقد صح النهي عنه كما أشرنا مثلاً إلى قول ابن عباس فيه. وقد صح مثله عن القاضي أبى بكر في فوائد رحلته. حيث جاء في الإتقان للسيوطى: ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 " والذي أقوله: إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول مَن أنكر ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - بل تلا عليهم (حم) و (ص) وغيرهما فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوقهم إلى عثرة. وحرصهم على زَلة. فدل على أنه كان أمراً معروفاً بينهم لا إنكار فيه. ومما يضعف هذا الرأي أن منشأه جماعة من اليهود. ظنوا الأمر كذلك حين سمعوا القرآن. ثم لم يلبثوا أن تبينوا خطأ ظنهم. كذلك - فإن القول بأنها رموز لكثرة ورودها في السور التي هي فيها أكثر من غيرها من الحروف الأخرى. لا عمق فيه. وما يمكن أن يُثار حوله من نقد. ما هي القيمة البيانية لهذه الإشارات؟! وهل هذا القول لائق بجلال القرآن وعلومنزلته؟ ؟ * * * * أرجح الآراء في هذا المجال: وبعد هذه المناقشة السريعة يبدو واضحاً أن أرجح هذه الاتجاهات على الإطلاق ما ذهب إليه قطرب والفراء من أن تلك الحروف علامات دالة ورموز منصوبة فحواها أن هذا القرآن الذي أعجز العرب أمره. وبانَ لهم وجه التحدى فيه ليس بلغة غير لغتهم بل هو مؤتلف من مادة اللغة التي يحذقونها. ويجيدون التبارى فيها. ولهم تفنن في أساليب وطرق تعبيرها. إذ لو كان بغير لغتهم لما صح به التحدى ولكان لهم عذر في الإعجاز من أوسع طريق. وأغنى مورد. ويرجِّح هذا الرأي أمور: أ - أن ستاً وعشرين سورة مما فواتحه حروف مقطعة مكية النزول، والعلة أن مظاهر العناد والتحدى للدعوة الجديدة في مكة قد بلغ نهايته فناسب ذلك أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 يورد القرآن كثيراً من النماذج التي تؤيد صحة الدعوة، وتؤكد نسبتها إلى الله تعالى. 2 - أن معظم هذه السور فيها حديث - بعد الفواتح مباشرة - عن سمو القرآن وعلو طبقته: (ذَلِكَ الكتَابُ لَا رَيْبَ فيه هُدىً لّلمُتقينَ) ، و (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلتْ) . . . إلىَ آخر هذه الآيات والمطالع. وقد تنبه العلماء قديماً إلى هذه الظاهرة، فنص عليها الرازى، والزركشى وغيرهما. قال الزركشي: " واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن. . وقد جاء بخلاف ذلك في العنكبوت والروم فيُسأل عن حكمة ذلك ". والمشكلة تتصور في العرض الآتى: فقد حرص القرآن الكريم في كل سورة بدئت بالحروف المقطعة أن يذكر معها ما يتعلق بالقرآن. وتخلف هذا المنهج فى ثلاث سور هي: مريم - العنكبوت - الروم. فقد جاءت مطالعها هكذا: (كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) . (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) . (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) . والحق أن المتتبع لهذه السور الثلاث يجد في غضونها ذكراً وحديثاً عن القرآن، أو الانتصار للقرآن كما يقول الحافظ ابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ففى مريم تكرر قوله تعالى خطاباً للنبى عليه السلام: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ. . .) خمس مرات. ثم تأتى في نهاية السورة هذه الآية: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) . وكذلك الحال في سورة العنكبوت فقد وردت فيها الآيات الآتية: (اتْلُ مَا أوحِىَ إليْكَ مِنَ الكِتَابِ. . .) . (وكَذَلِكَ أنَزْلنَا إليْكَ الكِتَابِ) . (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أوتُواْ العِلمَ) . (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) . وجاء - كذلك - في سورة الروم: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) . وبهذا يمكن أن نخرج بما يأتى: أولاً: أن كل سورة بدئت بالحروف المقطعة، فيها حديث مباشر عن روعة القرآن الكريم وإعجازه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ثانياً: إذا لم يكن ذلك الحديث مباشراً. فإنه يأتى في غضون السورة مبيناً فضل القرآن وأثره. ومنتصراً له على سواه، ولذلك يطرد هذا الملحظ في التسع والعشرين سورة التي جاءت فواتحها حروفاً مقطعة. 3 - أن هذا الرأي أبعد ما يكون عن النقد فضلا عن لياقته بجلال القرآن. ووجوه الإعجاز البياني فيه. 4 - أن الزمخشري - وهو خبير بنقد الأساليب وجهات الجمال والقبح فيها - يُرجح هذا الرأي ويقويها ويورد في ذلك كلاماً حسناً. إذ يرى أن مجموع الحروف التي بدئت بها هذه السورة يبلغ أربعة عشر حرفاً. وهي نصف حروف المعجم. كما تحتوي هذه الحروف على لطيفة أخرى -. هي أنها تشتمل على أنصاف أنواع الحروف: المجهورة. . . والمهموسة، والشديدة، والمستعلية. . ويعلق على هذا فيقول: " فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته فكأن الله - عَزَّ اسمه - عدَّد على العرب الألفاظ التي منها تركيب الكلام. إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحُجة إياهم ". ويقول أيضاً: " وهذا القول من الخلاقة والقبول بمكان ". 5 - ولعل مما يقوى هذا الرأي أنه يلتقى مع غيره من الآراء. إذ لا مانع أن تؤدى هذه الحروف - بالإضافة إلى معنى التحدى - معنى آخر مما ذكروه كالتنغيم الصوتى والدلالة على ورودها أكثر من غيرها. * * * تمثيل وإيضاح: هذه خلاصة ما قيل في هذا الأصل من الفواتح. . وخلاصة ما أراه فيها كذلك. ومثله عندى كمثل صانع ماهر. أعدَّ مواد مما يراه الصانعون ويألفونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ويعدون منه أشكالاً متفاوتة في الجودة والحسن كل حسب ما أوتِىَ من مهارة وحذق في الصناعة. فجاء هذا الصانع الذي ليس له نظير في الإبداع فطرح مواده التي أعدها أمام الصانعين وصنع منها شكلاً يحسونه في هيئته ونظامه ودقته أروع أمثلة جمال الفن مما ليس لهم قُدرة على الإتيان بمثله مع علمهم بأن مواده المصنوع منها طوع يد الجميع. فالحذق والمهارة إنما هما في الصنعة لا فى المواد المستعملة فيها. إن هذا أدعى إلى إقرارهم بالتفوق لهذا الصانع وأنه ليس من طبقتهم وإن اتحد العمل عند الجميع. . " ولله المثل الأعلى ". * * * * المجموعة الشرطية: جاء الشرط فاتحة لسبع سور، هي: " المنافقون، الواقعة، التكوير، الانفطار، الانشقاق، الزلزلة، النصر ". هذه السور السبع يمكن أن نصطلح على تسميتها: المجموعة الشرطية - أو القسم الشرطي من سور القرآن الكريم - والباحث يرى أنها تشترك في عدة خصائص: * خصائص المجموعة الشرطية: أولاً: أن الطابع الغالب عليها أنها مكية النزول، ما عدا " الزلزلة " فهى مدنية باتفاق، وما عدا " النصر " ففيها رأيان. مكية باعتبار المكان لنزولها بعد الهجرة. وما عدا " المنافقين " فمدنية باتفاق. ثانياً: أن في معظم هذه السور حديثاً عن القيامة ومقدماتها. مع ما اقترن به الحديث عنها من أغراض أخرى لها بالمقام نسب ورحم. ثالثاً: أن الشرط فيها قد تردد كثيراً في السورة الواحدة، ولم يقتصر وروده على مطلع السورة فحسب وذلك أمر ظاهر من مجرد تلاوة هذه السور السبع وتتبع أساليب التعبير فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 رابعاً: أن هذه السور السبع - المجموعة الشرطية أو القسم الشرطي - موضوعاتها أمور مستقبَلة في الغالب. استقبالاً حقيقياً كما سيحدث من مقدمات القيامة وأهوال الحشر، أو استقبالاً باعتبار الحكاية كمجيء نصر الله فى مطلع سورة " النصر ". إلا ما دعا إليه المقام من الأغراض الأخرى كتقرير أمر واقع، أو لمحة من أخبار تكمل بها الصورة ويتضح بها المقام. خامساً: أن الحديث فيها إذا كان عن مشهد من مشاهد القيامة. أو عن أمر يتكرر من مظاهر الطبيعة وسُنة الله في الكون، أو عن مصير عام محتوم، أو ما قارب هذه الأمور فالأداة المفضلة هي " إذا " المؤذنة بتحقيق شرطها وجوابها. وإن لم يكن الحديث عن هذه الأمور بل غيرها: فالأداة غيرها " إن " أو " لو " وما شابه ذلك. والقيمة البيانية لهذا المطلع الشرطي التي من أجلها - والله أعلم - آثر القرآن افتتاح هذه السور بها. هي أن الأسلوب الشرطي يمتاز بربطه بين أجزاء الكلام ربطاً ملاحَظاً فيه ترتب السبب على السبب. . فإذا ذكِرت أداة الشرط وأردفت بفعل الشرط تشوقت النفس إلى ذكر ما سيكون. . فإذا ذكِر الجواب بعد هذه الإثارة وهذا التشويق تمكن أيما تمكن. والذي يزيد من هذه القيمة البيانية لأسلوب الشرط في القرآن الكريم أمران: الأول: أن القرآن في غالب الفواتح من هذا النوع لا يكتفى بفعل شرط واحد - كما هو الحال في غيره - بل يقرن به أشباهاً ونظائر يطول تأمل السامع فيها وتضاعف من تشوقه إلى الجواب كلما انتقل من جزء إلى جزء. فيأتيه الجواب بعد تلهف وطول ترقب. الثاني: أن أجزاء الأسلوب الشرطي في القرآن ليست من جنس ما يستعمله الناس من أمور عادية قد لا يهتم بها إنسان. أو ليس للوقوف عنده على مدلولاتها كبير معنى - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أو ربما تنبأ - سَلفاً - بما سيكون عليه الحال فلا يفيد منها فائدة جديدة. وليس الحال كذلك في القرآن. بل فيه - فوق دقة النظم وجمال التركيب - غرابة وجزالة. ولنأخذ لذلك - مثلاً - سورة التكوير: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) . لنَتْل هذه السورة حق التلاوة، ولنتأمل الشرط الذي بدئت به. وللننظر إلى الأشباه والنظائر التي عطفت عليه. ولتستحضر معاني هذه الصور التي ترمز إليها كل وحدة من وحدات الشرط وأشباهه ونظائره. ولنحاول تأملها كأنها واقعة - الآن بالفعل - ولندرك كم من المراحل سبحنا فيها. وكم من المشاهد تجددت أمامنا كل مشهد غريب غريب في هيئته وصورته رهيب رهيب في حدوثه وظهوره. يعلو ويسفل. . مرة في السماء وأخرى على الأرض. إنها رحلة طويلة شاقة تقطعها النفس حتى تقف على حقيقة المرحلة والغاية التي من أجلها شُدَّت الرحال: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (1) .   (1) تأمل تنكير* نفس " وتذوَّق ما توحي به العبارة من جلال الوقف وخطره - والآية من سورة التكوير: 14 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 هنا تستريح النفس من عناء رحلة بهرت الأنفاس. ولكنها استراحة " ليست بالطويلة " فهى على موعد مع رحلة طويلة أخرى تبتدئها من هنا. رحلة من رحلات الكون ليس المقطوع فيها مسافة أرض بل وحدات زمن وتجدد ظواهر: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) . . . . .) . هاتان رحلتان، أولاهما أطول من الثانية، وبين الرحلتين نسب وثيق وعرى محكمة. فالسورة كلها مسوقة لبيان وتقرير حقيقتين كبيرتين. وهما: أولاً: وقوف الإنسان على حقيقة أمره يوم القيامة. ثانياً: وصف القرآن بما هو حقيق به من أوصاف الكمال. وكل من هاتين الحقيقتين ذكِرَ معها ما يمهد لها ويناسبها. ففى جانب الحقيقة الأولى أديت المعاني المقصودة منها بشرط (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، ثم تتابعت نظائره وأشباهه حتى بلغت اثنتى عشرة صورة من صور البعث. وبلغت الوحدات في هذا الجزء من السورة أربع عشرة وحدة محسوباً فى ذلك جواب الشرط، والوحدة اللاحقة بالحديث عن الموؤدة. وكل هذه الصور من مشاهد القيامة وأهوالها. وكلها آيات دالة على قُدرة الله الفائقة. * * * * سر الحروف الساكنة: وانتهت فواصل الآيات بالتاء الساكنة. وهي من الحروف المهموسة، وتساوت الوحدات الصوتية فصارت كالأنغام الموسيقية سريعة الحركة لاهثة الإيقاع تشترك بتصوبرها الصوتى في تجسيم المشهد وتمثيله للخيال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ولعل السر في ختم هذه الفواصل بالتاء الساكنة الهامسة الإشارة إلى انقضاء حركة الحياة الأولى في الكون. والإيذان بسيطرة الخوف والدهشة على النفوس والوجوم الذي يغشى الناس. . . وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً. وداعي هذا الخوف المسيطر على النفوس، أوضاع الكون الغريبة التي صار إليها. . وليس في النفوس البَشرية استعداد لتحملها في وعيٍ وإدراك. والإنسان يومئذ سيرى حقيقة عمله ويقف على نوع مصيره: (عَلمَتْ نَفْسٌ مَا أحْضَرَتْ) ، والنفوس عندما تصل إلى هذا الموقف تتهَيأ لامتثال الأوامر، وتتطلع إلى حسن التوجيه وتهفو إلى الإرشاد المنجي من هذه الويلات. * * * حقيقة كبرى: لهذا - والله أعدم - يعقب القرآن هذا المشهد المثير المخيف بعرض حقيقة كبرى من حقائق الإيمان. وهو لا يكتفى بتهيئ النفوس الذي شرحناه آنفاً. بل يمهد لهذه الحقيقة الثانية بذكر آيات لله في الكون من كواكب خُنس كُنس. تسير في فلكها بنظام دقيق. ومن ليل يقبل بظلامه فيسكن كل متحرك. ويختفى كل ظاهر، وصبح ترسل أشعته هادية باصرة فيتحرك كل ساكن ويظهر كل مختف. . . إنه بعث. إنه حياة. بعد هذا كله يعرض القرآن حقيقة الإيمان الكبرى: القرآن كتاب الله ووحى أوحاه: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) . * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 * معان إضافية موحية: هذا وصف حقيق به القرآن. . وقد تضمن هذا الجزء معاني إضافية بالنسبة إلى الهدف الرئيسي من الكلام عن القرآن. ولكن حين ننظر إلى هذه المعاني الإضافية نجد لها أروع الدلالة على تأكيد المعنى الرئيسي. . وهو وصف القرآن بأنه وحى الله إلى رسوله. وتلك المعاني الإضافية هي: أولاً: وصف جبريل عليه السلام - وهو سفير الوحى - بما ينبئ عن كرمه عنده. . . ونباهة شأنه فقال: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) . وقد جاء ضمن هذه الأوصاف وصفه بالأمانة. وهَذا الوصف هام حَيث إن جبريل أحد مصادر القرآن. إذ يُشعِر ذلك بصيانة القرآن من التحريف. فجبريل مبلغ له كما تلقاه من ربه لم يُغير أو يبدل فيه لأنه أمين. ثانياً: وصف محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو المتلقي للقرآن عن جبريل كما أمره ربه. ثم المبلغ به الناس بصفة الرشد والسلامة من الآفات التي تنقص من قدر أصحاب الرسالات وعلى رأسها الجنون: (وَمَا صَاحبُكُمْ بمَجْنُونِ) ، وهذا الوصف هام أيضاً ينبئ أن محمداً عليه السلام قَد بلغناَ القرآن كَما أنزله ربُّه. لم يخلط فيه. ولم يلتبس عليه منه شيء لأنه عاقل رشيد. والجنون المنفي عنه هو مظنة الخلط والإلباس. وقد عدل عن اسمه الصريح إلى (صَاحِبُكُمْ) لأن فى هذا التعبير إشعاراً بإلزامهم بالحُجة إذ هو ملازم لهم وهم يعرفون تماماً رجاحة عقله وحدة ذكائه وكريم سيرته. ألم يسموه قبلاً: الصادق الأمنِ. وبهذين الوصفين، وصف جبريل بأنه أمين. ووصف محمد عليه السلام بالرشد ونفي الجنون عنه سلم مصدران من مصادر القرآن من أي عيب يكون مظنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 التحريف والتبديل، وسلم القرآن نفسه من كل عيب يتقوله المتقولون عليه. ثالثاً: إن فعل القَسَم (لا أقْسِمُ) صدر بحرف النفي، ثم ذكر القسَم به وهو عدة مظاهر كونية: كواكب خُنس كُنس، وليل عسعس. وصبح تنفس. ثم ذكر المقسَم عليه. وهو كون القرآن وحياً من عند الله نزل به أكرم مَلك على أشرف رسول. فلماذا نفى القسم إذن والحقيقة المراد إثباتها جديرة بأن يُقسَم عليها لأن كثيرا من المعاندين حاولوا التشكيك فيها؟ لقد حاول كثير من العلماء أن يُخَرِّجوا العبارة على إثبات القسم. وليس من ضير أن نبقى القَسَم منفياً على ظاهره وسره البياني حينئذ أن الحقيقة ظاهرة لا تحتاج إلى أن يُقسَم على إثباتها إجراء لإنكار المعاندين كلا إنكار. لأنه لم يصادف موضعاً يتوجه إليه على وجه مقبول. ويكون فائدة ذكر القَسَم منفياً للإشارة إلى هذه النكتة توصلاً لذكِر المقسَم به في الظاهر باعتبار أنها آيات ناطقات. رابعاً: إن قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ، وفي قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) وهذا نمط بياني بالغ الدقة فكأن الله يريد أن يقول: القرآن في هدايته للناس كالصبح في إشراقه وبث الحياة في الكائنات بعد سكون وظلام. . خامساً: إن فواصل المرحلة الثانية. تنتهى بحرف السين المتحرك. وهو من أحرف التصغير، والتصغير حركة دائبة مستمرة. والكلمات في أنفسها حركة عنيفة يحتاج عضو النطق إلى مجهود في تأديتها بخلاف فواصل المرحلة الأولى المنتهية بحروف ساكنة. ولعل الفرق بين الحالتين واضح. فقد علمنا السر هناك، أما في هذه المجموعة القسمية فإن المخاطبَين فيها ليسوا على مشارف البعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وأهوال القيامة وإنما هم في فسحة من الأمل في الحياة بطولها وعرضها وحركتها وصخبها لذلك جاءت الكلمات متموجة مدوية والفواصل متحركة سافرة. وهذا هو صنيع القرآن: لكل جملة بل لكل كلمة بل لكل حرف وحركة مكان ودلالة. ولكل مقام مقال. وهاتان الحقيقتان اللتان دار عليهما رأس الأمر في السورة كلها - مع توابعهما - أديتا في عبارتين جزلتين: شرط. وقَسَم. * * * مطالع سور المجموعة الشرطية: وهذا ما يمكن ملاحظته في سورة التكوير، وما يمكن ملاحظته في بقية هذه المجموعة الشرطية. وقد ألمحنا إليها. أن القرآن تحدث فيها عن مظاهر القيامة. فكان أسلوب الشرط هو وسيلته المفضلة والأداة هي " إذا " المؤذنة بتحقيق جوابها. لأن الساعة آتية لا ريب فيها، ومظاهر القيامة موضع اهتمام فيها لأنها صُدرت بها وعليها أدار الحديث. فمن ذلك مطلع سورة الواقعة: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) . . .) . ومطلع سورة الانفطار: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ومطلع الانشقاق: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) . وسورة الزلزلة: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) . * * * * سِرُّ " إذا ": فى مطالع هذه السور يتحدث القرآن عن مشاهد القيامة. فلم يستخدم من أدوات الشرط غير " إذا " وقد تقدم وجهه في حديثنا عن سورة التكوير. وفواصلها منتهية بالتاء الساكنة مثل فواصل سورة التكوير. وهذا يؤيد ملاحظتنا التي أشرنا إليها هناك. ولا تظن أن سورة " الزلزلة " خرجت عن هذا النظام. فإننا نلحظه في غير الفواصل في موضعين: " زلزلت " و " أخرجت "، أما فواصلها فلا يخفى أنها منتهية بالألف الساكنة. والحال كذلك - أعنى استخدام الأداة " إذا " - إذا كان الحديث عن منظر متكرر من مناظر الطبيعة ومثاله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) . .) ، ومثله: (وَالقَمَرِ إذَا اتسَقَ) . وكذلك الحال إذا كان الحديث عن مصير محتوم، سواء أكانت حتميته لسنن خاص أو عام. ومثال الأول: (إذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ) لأن مجيء النصر أمر محتوم لأنه وعد الله لرسوله، والله لا يخلف الميعاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ومثال الثاني: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) لأن مجئ الأجل أمر محتوم كذلك لأنه سُنة الله في الخلق لا فرق بين كائن وكائن. فالأمر هنا يجرى على سنن عام. * * * إيثار غير " إذا ": وإذا خرج الحديث عن هذه الواقف وأشباهها لأن المجال فسيح أمام أدوات الشرط غير " إذا " كل حسب ما يقتضيه المقام. ومن ذلك قوله في سورة الواقعة: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) وقوله: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) . ومثله من سورة المنافقين: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) . اختلفت الأداة في هذه النصوص لاختلاف الأغراض إذ المراد من الأول التهديد بتبديل النِعم وذلك أمر متوقف على المشيئة الإلهية إذا أرادته كان وإلا فلا. والمراد من الثاني: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ) حكاية حال للمنافقين وهم غير ضامنى رجوعهم إلى المدينة وذلك - في تصورهم - لو حدث لترتب عليه ما دبروه من آثار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 والتفرقة بين أدوات الشرط على هذا الأساس ليست خاصة بمجموعة السور الشرطية بل عامة في جميع سور القرآن، ولا يخالف إلا لداع بلاغى. وإنما آثرنا الحديث عما جاء منه في هذه المجموعة لأن المجال خاص بها. * * * * ظاهرتان عامتان: والذي أريد إثباته - هنا - أن مجموعة كل نوع تحكمها ظاهرتان: الأولى: أن كل مجموعة من هذه السور انتظمت تحت أصل واحد من هذه الأصول العشرة بينها مناسبات وخصائص كانت سبباً في أن تكون هذه المجموعة جدولاً متميزاً يتقدمه مطلع واحد متحد السمات أو متقاربها. بحيث يتضح عند التأمل أن انتظامها تحت ذلك الأصل لم يكن محض صدفة. بل هو تدبير حكيم. وصنع خبير. الثانية: أن تلك الأصول - في جملتها - ضرب من البيان رفيع، ونمط من التعبير معجز، ولون من البلاغة فريد، إذ هي آنق، وأنسب الكلام مطالع، وأجزلها وأعذبها ألفاظاً، وأشرفها وأنبلها مقاصد، وأحسنها وأجودها سبكاً، وأدقها وأروعها نظماً. ومطالع الكلام هي أول ما يقرع السمع ويصل إلى النفس. فإذا توافرت لها خصائص التعبير الجميل خفت النفس لسماعه. وأقبلت على فهم معناه. وانتهاج نهجه وصارت معه حيث يكون. وقد جاءت هذه الفواتح كلها وافية بهذا الغرض عامرة بتلك الخصائص وهو أمر شهد به أرباب القول وحُذاق الكلام حتى من أعداء القرآن أنفسهم. والحق ما شهدت به الأعداء. والآن. . فقد بانَ لنا أن كلتا المجموعتين - ما بدئت بحروف الهجاء، وما بدئت بأساليب شرط - لم يكن هذا السلوك في أي منهما أمراً صنعته الصدفة. بل كان لخصائص تعم أفراد المجموعة. وتربط بينها فتجعلها قسماً ذا ملامح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 خاصة. وقد حاولت جهد ما أستطيع أن أكشف عن شيء من تلك الخصائص التي تسرى بين وحدات كل مجموعة وكان مرجعى في ذلك هو القرآن نفسه. وهذه براعة استهلال. ذات دلالات بيانية تضاف إلى وجوه إعجازه وجمال أسلوبه وسحر بيانه. * * * 2 - فواصل القرآن: فاصلة الآية هي آخر كلمة فيها. وللعلماء تعريفات متعددة في تحديد معنى الفاصلة فمرة يُعرفونها بأنها كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينية السجع، وقال الدانى: هي كلمة آخر الجملة. والفرق بين التعريفين واضح. الأول يخص الفاصلة بآخر الآية وهو ما عليه العمل، والثاني يعتبر الفاصلة كلمة آخر الجملة سواء أكانت هذه الجملة في أول الآية أو وسطها أو آخرها فهو غير مانع إذ تدخل فيه الفاصلة اللغوية مع الفاصلة الاصطلاحية وهذا عيب في التعريف. لذلك نقده الجعبرى فقال: " وهذا خلاف المصطلح ولا دليل له في تمثيل سيبويه بـ (يَوْمَ يَأتِ) و (مَا كُنا نَبْغِ) . وليسا رأسي آية لأن مراده الفواصل اللغوية لا الصناعية ". وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: " الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع يقع بها إفهام المعنى. ولعل عِلَّة التسمية " فاصلة " لأنها تفصل بين الآي، وتميز بينهاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 * آراء العلماء حول السجع في القرآن: وقد سموا التشاكل الواقع بين الحروف في أواخر الآي فواصل. وسموا نظيره في الأساليب الأخرى سجعاً. لأن مجيء السجع في القرآن لم يكن محل إتفاق بين العلماء، فانقسموا إزاء هذه القضية قسمين: الأول: يمنع أن يكون في القرآن سجع. ولهم في ذلك حجج وأسباب ذكروها وبنوا مذهبهم عليها. الثاني: يرى جواز مجيء السجع في القرآن، بل هو وارد فيه فعلاً. ولهم ردود على حجج وأسباب المانعين. وأسباب أخرى مهَّدوا بها لمذهبهم. . وبنوا فكرتهم عليها. ومن أدلة المانعين: 1 - أن القرآن وصف لله. فلا يجوز وصفه بما يرد به إذن شرعاً. 2 - أن السجع من قولهم: " سجع الطير " وشرف القرآن ألا يُستعار لشيء فيه لفظ أصله مهمل. 3 - أن السجع يُقصد ثم يُحال المعنى عليه وفي هذا ضرب من التكلف، أما الفاصلة فيُقصذ بها المعنى أولاً. ثم يُحال عليه اللفظ. فالسجع عيب والفواصل بلاغة. 4 - لو كان في القرآن سجع لما كان خارجاً عن أساليب كلامهم. ولو كان كذلك لما كان فيه إعجاز ولو كان جاز أن يقال: إنه سجع معجز لجاز أن يقال: إنه شعر معجز، وكيف والسجع مما كانت تألفه الكهان من العرب. ونفيه عن القرآنَ أجدر أن يكون حجة من نفى الشعر. لأن الكهانة تنافى النبوات. وليس كذلك الشعر. 5 - ولو سلمنا بأن في القرآن سجعاً لكان مذموماً في بعض المواضع لمجيئه على غير شرط السجع الحسن. وهو ما كان متقارب الحروف. ولعدم استواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 مقاطعه في الطول - أحياناً - وهذا غير مرضٍ. ولا محمود. لأن للسجع منهجاً محفوظاً وطريقاً مضبوطاً مَن أخل به وقع الخلل في كلامه (1) . وهذه خلاصة أدلة المانعينِ وكان أولهم الأشاعرة، ثم تابعهم كثير من العلماء مثل ابن خلدون والرماني والباقلاني. . وغيرهم. يقول ابن خلدون: ". . . . أما القرآن - وإن كان من النثر - إلا أنه خارج عن الوصفين ليس يسمى مرسلاً مطلقاً ولا مُسْجعاً. بل تفصيل آيات ينتهى إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يُعاد الكلام في الآية الآخرى بعدها. ويثنى من غير التزام حروف تكون سجعاً ولا قافية. ويسمى آخر الآيات منها فواصل إذ هي ليست أسجاعاً. ولا التزم فيها ما التزم في السجع، ولا هي قوافى أيضاً. ويبدو أن ابن خلدون أول مَن أطلق هذه التسمية وقد طرق في نصه هذا أهم قضايا هذه الفكرة وكان موفقاً أيما توفيق حيث اشتق تسمية: " الفاصلة " من استعمال القرآن نفسه لهذه المادة في حديثه عن القرآن اسماً وفعلاً. . ولذلك فإن هذه التسمية ليست بغريبة عن روح القرآن ولغته. أما المجيزون لورود السجع في القرآن. فكثيرون كذلك. منهم أبو هلال العسكرى وضياء الدين ابن الأثير. والعلوى صاحب الطراز وابن سنان الخفاجى. والفراء من النحاة والزركشي صاحب " البرهان " والسعد وابن النفيس. . وغيرهم. وكان على هؤلاء أن يقوموا بعملين لإثبات مذهبهم. . أولاً: الرد على شُبه المانعين. وأقوى أدلتهم - فيما نرى - أن السجع من المحسنات اللفظية، والفواصل من المحسنات المعنوية، وبين النوعين بون شاسع.   (1) ردد هذه الشُبه القاضي أبو بكر الباقلاني فى كتابه " إعجاز القرآن؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ثانياً: أن يأتوا بجديد من الأدلة التي تؤيد وجهتهم فضلاً عن رد شُبه المانعين. وهذا هو الذي فعلوه فلننظر في أقوالهم. يقول ابن الأثير: ". . وإلا لو كان مذموماً - يعنى السجع - لما ورد فى القرآن الكريم. فإنه قد أتى منه بالكثير حتى إنه ليؤتى بالسورة كلها مسجوعة. كسورتى الرحمن والقمر. وغيرهما. . وبالجملة فلم تخل منه سورة من السور ". ويقول أبو هلال العسكرى: " جميع ما في القرآن الكريم مما يجرى على التسجيع والازدواج مخالف في تمكين المعنى وصفاء اللفظ، وتضمن الطلاوة والماء لما يجرى مجراه من كلام الخلق ". وكذلك يقول صاحب " الطراز "، وابن النفيس، وهما إنما يدفعان ما ذكره المانعون من شُبَه ولم يأتيا بجديد يؤيد هذه الوجهة. أي أنهما يدوران فى مجال العمل الأول فحسب. وجاء ابن سنان الخفاجى فأتى بالعملين معاً. رد شُبه المانعين. وإِثبات جديد من الأدلة ليس في وسع منصف إنكارها، فكان أكثر النقاد حسماً للخلاف. وأشدهم حماساً لإثبات السجع في القرآن الكريم. ك ان منهجه على النحو التالى:. 1 - بدأ بذكر مذاهب المانعين. وذكر عبارة الرماني: " الفواصل بلاغة، والسجع عيب ". وفند أدلتهم واحداً واحداً. 2 - فرق بين الفواصل والأسجاع تفرقة فنية بأن الأسجاع حروف متماثلة فى مقاطع الفصول أما الفواصل فمنها ما يكون متماثل الحروف ومنها ما يكون متقارب الحروف. فالأول سجع والثاني فاصلة. وكلا النوعين إما أن يأتى طبعاً سهلاً تابعاً لمعناه، وإما أن يأتى على الضد. فالأول محمود والثاني مذموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 والقرآن الكريم. ورد فيه النوعان: المتماثل الحروف، والتقارب. وكلاهما فيه من المحمود ويمثل لذلك بمطالع السور: الطور - طه - العاديات - الفجر - القمر - ويعقب على ذلك بقوله: " وكل أولئك جائز أن يسمى سجعاً لأن فيه معنى السجع ولا مانع في الشرع يمنع ذلك "، ويمثل للمتقارب بأم الكتاب. و " ق "، ويقول: " مثل ذلك لا يسمى سجعاً لأن حروفه غير متماثلة ". 3 - خطأ الرماني في قوله: " الفواصل بلاغة والسجع عيب " لأنه إن أراد بالسجع ما يكون تابعاً للمعنى وكان غير مقصود. فذلك بلاغة والفواصل مثله، وإن كان يريد بالسجع ما تقع المعاني تابعة له، وهو مقصود متكلف. فذلك عيب والفواصل مثله. 4 - ويرد على شُبهة تنزيه القرآن عما سواه فيقول: " وهذا غرض فى التسمية قريب، فأما الحقيقة فما ذكرناه لا فرق بين مشاركة بعض القرآن لغيره فى كونه عرضاً وصوتاً وحروفاً وكلاماً عريياً ومؤلفاً. وهذا مما لا يخفى فلا يحتاج إلى زيادة في البيان ". ومما يؤيد به المجيزون مذهبهم فوق ما ذكر. أن السجع من الفنون التي يبين بها فضل الكلام ويقع لها التفاضل في البيان والفصاحة. كالجناس. والالتفات ونحوهما من الفنون البلاغية التي هي محل اتفاق من حيث ورودها فيه. فكما جاز ورود هذه الفنون فيه جاز ورود السجع. * * * دليل السجع من القرآن نفسه: ثم لجأوا إلى القرآن نفسه يستخرجون منه أمثلة تدعم فكرتهم. منها أن القرآن ورد فيه تقديم موسى على هارون في موضع، وفي آخر قُدِّمَ هارون على موسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وموسى إذا قُدِّمَ على هارون فذلك جار على الأصل عندهم. لان موسى أفضل من هارون. فإذا قُدِّمَ هارون على موسى. وهو مفضول بالنسبة له فذلك عندهم - أي تقديم هارون على موسى - ليس إلا لفضيلة السجع. لأن الفواصل فيه جارية على " الإلف ". ومنها: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) حيث فصل بين المعطوفَ والمعطوف عليه من أجل السجع. لأن تقدير الكلام: " ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً ". * * * * رد هذا الدليل: وقد رد الباقلاني على الشُّبهة الأولى - وهو من نُفاة السجع كما علمنا - فقال: " إن تقديم موسى على هارون مرة وتأخيره عنه أخرى. ليس من أجل السجع. وإنما هو إيراد للقصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدى معنى واحداً. وهذا من الأمر الصعب الذي تظهر فيه البلاغة ". وهناك اعتباران - لم يفطن لهما الباقلاني - يؤيدان مذهبه وهما أن أفضلية موسى على هارون ليست على الإطلاق. لأن هارون يفضل موسى بفصاحة اللسان وكمال هيئة النطق وتقدمه في السن عليه. إذ يكبره بثلاث سنوات كما جاء ذلك في العهد الجديد. وكمال هيئة النطق وفصاحة البيان أمر له قيمته في مقام التبليغ، وقد شهد به موسى نفسه كما حكى عنه القرآن: (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) ، فلا يبعد أن يكون تقديم هارون على موسى من أجل هذا الاعتبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 هذا على اعتبار أن التقديم يجرى في القرآن على حسب الأفضلية. ولكن الواقع أن ليس كل تقديم في القرآن جارياً على أن القدم أفضل من المؤخر بل للتقديم فيه أسرار أخرى غير هذا. فالأولى عدم التمسك بها والتماس وجه آخر ينطلق معه الفهم في آفاق رحبة. أما الشُّبهة الأخرى فلم يتعرض لها الباقلاني. وقد عثرتُ في كشاف الزمخشري على توجيه للآية يحسن بنا الإشارة إليه. وتوجيه الزمخشري للآية ذو شقين: الأول: أن يكون " أجل مسمى " معطوفاً على " كلمة " وعليه ففى الآية فصل بين المتعاطفين. الثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير في " لكان " وعليه فلا فصل فى الآية. وتقدير المعنى حينئذ: " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان الأخذ العاجل والآجل لازمين لهما كما كانا لازمين لعاد وثمود ". والوجه الثاني هو الذي يهمنا من أجل قضيتنا هذه لأنه لا يلزم عليه تقديم ولا تأخير فيسقط الاستدلال به. والمسألة بعد - في رأى الإنصاف - بين نفاة السجع ومجوزيه لا تعدو أن تكون خلافاً لفظياً ما دام الاثنان متفقين على تنزيه القرآن عن التكلف والتوعر والتقليد. فلا ضَير أن يقال: إن في القرآن سجعاً لكنه فصيح غير متكلف كما يقول أبو هلال: " مخالف في تمكين المعنى وصفاء اللفظ وتضمن الطلاوة والماء لما يجرى مجراه من كلام المخلوقين " ولا سبيل إلى إنكار السجع ففيه منه القدر الكثير والاتفاق في التسمية لا يضير مادامت التفرقة بينه وبين غيره مقيسة بمعايير الجودة والحسن وخلوه من العيوب التي ألفوها في غيره. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 * وظيفة الفواصل اللفظية: للفاصلة في القرآن الكريم وظيفتان، إحداهما لفظية - وسنتحدث عنها الآن، وأخرى معنوية - وسيأتى الحديث عنها قريباً. أما وظيفتها من حيث اللفظ فتعتمد على العوامل الآتية: أولاً: أنها تحسين للكلام وراحة للنفس عند التلاوة. حيث يحسن السكوت عليها وقد كمل المعنى أو قارب الكمال، بحيث يشهد الذوق بذلك ويدركه. ثانياً: تؤذن بانتهاء الآية وتميز بينها وبين التي تليها كما تميز قافية الشعر بيتاً من بيت مع اختصاص الفاصلة بأحكام الربط ودقة النظم وجمال التلاؤم. ثالثاً: تساعد الفاصلة على تلاوة القرآن مرتلاً مجوداً بأنغام آسرة ذات إيقاع جميل. . " وهذا الجمال التوقيعى في القرآن لا يخفى على أحد ". ومن أجل هذه الوظيفة - اختصت الفاصلة بأمور. وهي: (أ) ختمها - في الغالب - بحروف المد واللين - وإلحاق النون والميم بها. وحكمته التمكن من التطريب. قال سيبويه: " إنهم - أي العرب - إذا ترنموا يلحقون الألف والياء والنون يريدون مد الصوت. ويتركون ذلك إذا لم يترنمواً. وقد جاء في القرآن على أسهل موقع، وأعذب مقطع. (ب) أن الحروف التي تقع بها الفواصل إما متماثلة أو متقاربة، ولا تخرج عنهما كما قال فخر الدين الرازى، وبهذا استكملت أداة الغناء وتم لها حسن التناسق وجمال الإيقاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 (جـ) أنها تتقدم عليها ألفاظ تُمهد لها، وتُعظم من وقعها في السمع. وتلك الألفاظ سماها المتقدمون رد الأعجاز على الصدور. وسماها المتأخرون التصدير. (د) أن تتكرر في بعض المواضع فاصلة بعينها كما في سور: الرحمن والقمر والمرسلات، لكن هذا التكرار ليس مختصاً بهذه الوظيفة الصوتيه. بل لها وللوظيفة المعنوية كما يبدو عند البحث والتأمل. * * * * وظيفة الفواصل المعنوية: لا بدَّ للباحث عند الكشف عن وظيفة الفواصل من حيث المعنى أن يتبع جميع فواصل الآي فيه حتى يتسنى له أن يحصل على نتائج وقوانين لهذه الوظيفة. وهذا ليس له من سبيل في بحثنا هذا. ولذا نكتفى بذكر ما يتيسر منها فيما يأتي: قال تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) . والمعنى العام لهاتين الآيتين أن الناس غفلوا عن آيات الله. وهي ظاهرة أمامهم يمرون عليها دون تذكر أو تدبر. وهذه الآيات التي غفلوا عنها نوعان: آيات تاريخية تُدرَك عن طريق السمع والرواية. وأخرى حاضرة تُدرَك عن طريق الرؤية والبصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وقد ذكر القرآن مع كل نوع ما يلائمه. فجاءت الفاصلة مع الآيات التاريخية والأثرية " أفلا يسمعون " وجاءت مع الآيات الحاضرة " أفلا يبصرون ". ففى الأولى نفى للسمع على سبيل التوبيخ. وفي الثانية نفى للبصر الذي هو سبيل المشاهدة والتبصر. وقال: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) . * * * * اختلاف الفواصل لاختلاف المعاني: سيقت هذه الآيات الثلاث تذكيراً للناس بنعَم الله عليهم كل آية تُصور لوناً من ألوان النعيم. ومع ذلك جاءت فواصلها مختلفة وكل منها واقع موقعه من البيان البليغ. فحساب النجوم والأفلاك في الأولى مختص بالعلماء فناسب أن تكون فاصلته: " لقوم يعلمون ". وخلق الإنسان من نفس واحدة. وتكثيره ونهيئة الرزق له. وتدبير أمره فى الحياة ثم القضاء عليه بالموت. أمور لا تقوم على حدود رياضية. بل على التأإمل والاستنتاج، وإمعان النظر وتكرار التأمل والفكر، فناسب أن تكون فاصلته: " لقوم يفقهون " لأن الفقه أدق من مجرد العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أما الثالثة: فقد اختصت بالنعَم التي عليها تقوم مطالب الحياة الدنيا من إنزال الماء من السماء وسلكه فى الأرض عيونا، وإنبات النبات به والزروع والأشجار. فيأكل الناس والأنعام مما تنبت الأرض. وهذه النعَم تقتضى شكر المنعِم بها من المنعَم عليه. فكان - بحسب الظاهر - أن تكون فَاصلته: " لقوم يشكَرون " فعدل عنها إلى: " لقوم يؤمنون " لنكتة أوجبت ذلك. لأنها كما تقتضى شكر المنعم بما تقتضى الإيمان بواهبها. والإيمان أصل فى الشكر فأوثر على الفرع. واكتفى به لتضمنه إياه. ومثل هذا التضمين يسمى " المضاعفة " في علم البديع قلنا: إن اختلاف الفواصل هنا كان لاعتبارات فيما هي فاصلة له من اختلاف فى جنس المنعَم به وقد تختلف الفاصلتان والمعنى واحد! * * * * اختلاف الفواصل مع اتحاد المعنى: ولكن في القران ما هو مثير للدهشة. ذلك أن الفاصلتين قد تختلفان والمحدَّث عنه واحد في الموضعين. ومن هذا قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) . وقوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) . وقد أجاب ابن المنير على هذا الاختلاف في الفاصلتين مع اتحاد الموضوع فقال: " كأنه - أي الله - يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة. فأنت آخذها. وأنا معطيها فحصل لك عند أخذها وصفان كونك ظلوماً وكونك كفاراً. " وحصل لى عند إعطائها وصفان: أنى غفور وأني رحيم، أقابل ظلملت بغفرانى وكفرك برحمتى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وتخريج ابن المنير لاختلاف الفاصلتين مقبول، لكنه لم يعالج الموضوع من جميع أطرافه لأن فيه سؤالاً ما زال قائماً حاصله: لماذا أوثر وصف الإنسان فى سورة إبراهيم على وصف الله؟ ثم لماذا أوثر - كذلك - وصف الله في سورة النحل على وصف الإنسان؟ وعندى. . أن إيثار وصف الإنسان في سورة إبراهيم لأن السورة عددت كثيراً من مظاهر النعم، فروعى جانب الإنسان فيها. وقليل من الناس الشكور. فقررت السورة موقف سواد الناس من النعم. وإيثار وصف الله في سورة النحل. لأن السورة تحدثت عن كثير من صفات الله في موطن يدَّعي فيه المضللون وجود شريك لله - سبحانه - فناسب أن يراعى فيها وصف الله دون الإنسان. وعلى عكس هذه المسألة قد يختلف موضوعا الحديث وتأتى الفاصلتان متفقتين في الموضعين، ومثال ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) . وسر اتفاق الفاصلتين أن الغرض من الكلامين واحد. هو أدب الاستئذان، والمناسبة في الموضعين واضحة لأن المعنى. الله عليم بما فيه صلاحكم حكيم فيما شرعه لكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وتكرير الفاصلتين بألفاظ واحدة فيه تأكيد للإنذار من المخالفة ومبالغة فى امتثال المكلفين بما أرشدوا إليه. * * * فواصل تحتاج إلى تأمل: وقد تبدو الفاصلة - بحسب الظاهر - غير ملائمة للمقام - فإذا ما تؤملت ظهرت دقة الحكمة فيها. وقد مثَّلوا لها بقوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) . وكان الظاهر يستلزم أن تكون الفاصلة هنا: " إنك أنت الغفور الرحيم ". وسر العدول: أنه لا يغفر لمن يستحق العقاب إلا مَن ليس فوقه أحد يَرُدُّ عليه حكمه. عزيز لا يُغلب. وإذا كان الأمر - كذلك - فـ " الحكيم " لا يضع الشيء إلا في موضعه فلا يُتهم في غفرانه لمن يستحق العقاب. ففى " الحكيم " احتراس حسن لأن الحكمة فيما فعل. ومن روائع الفواصل في القرآن الكريم قوله تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) . والمناسب بحسب الظاهر أن يُقرن الجوع بالظمأ لأنهما نظيران، والعري بالضحاء لأنهما نظيران كذلك، لكن خولف هذا الظاهر ولهذه المخالفة أسباب: (أ) فقد روعى مناسبة اللبس للشبع في أنهما أمران ضروريان لا غنى لأحد عنهما، وروعى مناسبة الاستظلال للري في كونهما تابعين لهما. فالري تابع للشبع. والاستظلال تابع للباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 (ب) أجرى الخطاب بمقتضى العادة لأن العادة أن يقال: جوعان عريان. كما أن الضاحى الذي لا يستر جسمه ساتر، متعرض لحرارة الشمس فيشعر كثيراً بالعطش. . فصار " الضحاء " كأنه سبب فيه فقُرِنَ به. (جـ) في هذه المخالفة لمحة من لمحات البيان الآسر، سماها البديعيون: " قطع النظير عن النظير " والغرض من ذلك تحقيق تعداد النِعَم. ولو قرن كل بمماثله لتوهم متوهم أن المعدود نعمتان لا أربع. * * * * دليل من الشعر العربي: وهذا السلوك البياني معروف لدى فحول الشعراء جاهليين وإسلاميين. وقد أثار النقاد حوله جدلاً كثيراً. واحتكموا فيما بعد إلى القرآن فيما نحن بصدد ذكره. فاتخذوه معياراً للقياس فيما قاله الشعراء. فقد قال امرؤ القيس الشاعر الجاهلى: كَأنًىَ لمْ أركَبْ جَواداً للذةٍ. . . وَلمْ أتَبَطنْ كَاعباً ذاتَ خُلخَال وَلمْ أسْبأ الزِّقَ الروِيَّ وَلمَْ أقُلْ. . . لِخَيْلِىَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إجْفَالِ فقطع ركوب الخيل عن كره، وقطع تبطن الكاعب عن اشتراء الخمر، مع أنه المناسب وغرضه تكثير ملاذه. . والفخر بها. وقد تبعه المتنبي وهو شاعر إسلامى فقال يمدح سيف الدولة: وَقَفْتَ وَمَا فِى الموت شَلٌّ لِوَاقِف. . . كَأنكَ فِى جَفْنِ الردَى وَهُوَ نَائِمُ تَمُر بِكَ الأبْطالُ كَلْمَى جَرِيَحة. . . وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ ويذكر الثعالبى أن سيف الدولة عاب قول الشاعرين امرئ القيس والمتنبى لأن الوجه - عنده - أن يقول امرؤ القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 كَأنًىَ لمْ أركَبْ جَواداً وَلمْ أقُلْ. . . لِخَيْلِىَ كُرى كَرة بَعْدَ إجْفَالِ وَلمْ أسْبأ الزقَ الروِي لِلذةٍ. . . وَلمْ أتَبَطنْ كَاعِباً ذاتَ خُلخَالِ وأن يقول المتنبي: وَقَفْتَ وَمَا فِى الموتِ شَكٌّ لِوَاقِف. . . وَوَجْهُكَ وَضاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ تَمُر بِكَ الأبْطالُ كَلمَى جَرِيَحةً. . . كَأئكَ فِى جَفْنِ الردَى وَهُوَ نَائِمُ وقد صوب بعض النقاد نقد سيف الدولة، منهم ابن طبَاطبَا إذ يقول: " هما بيتان حسنان، ولو وضع مصراع كل واحد منهما مكان الآخر لكان أشكل وأدخل في استواء النسيج ". لكن المتنبي لم يُسَلِّم بهذا الحكم في شِعره، وشِعر امرئ القيس ولم يمنعه صدوره من السلطان أن يدفع التخطئة الموجهة إليهما. وابن رشيق في " العمدة " ينتصر لقول المتنبي بعد أن ساق الرواية بأسلوب آخر فقال: " قول امرئ القيس أصوب، ومعناه أعز وأغرب، لأن اللذة التي ذكرها إنما هي للصيد، ثم حكى عن شبابه وغشيانه النساء، فجمع في البيت معنيين ولو نظمه على ما قال المعترض لنقص فائدة عظيمة وفضيلة شريفة تدل على السلطان، وكذلك البيت الثاني لو نظمه على ما قال لكان ذكر اللذة حشواً لأن الزِّق لا يُسبأ إلا للذة. فامرؤ القيس وصف نفسه بالقتوة والشجاعة. بعد وصفها بالتملك والرفاهة". وقد رجح بعض النقاد قول الشاعرين على ما هما عليه لورود نظيرهما فى القرآن الكريم وكان دليله في ذلك آيتى (طه) المتقدمتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ذلك عرض موجز لدور الفواصل القرآنية من حيث الشكل " الألفاظ " والموضوع " المعنى "، على أن لنا ملاحظة جديدة لم أر أحداً أشار إليها. وسأرجئ الحديث عنها بعد إيجاز ما ذكره ابن أبى الإصبع من تقسيم الفواصل فى القرآن. * * * أقسام الفواصل: قسَّم ابن أبى الإصبع فواصل القرآن أربعة أقسام وهي: 1 - التمكين: وحقيقته أن يمهد للقرينة تمهيداً تأتى به السجعة متمكنة فى مكانها غير نافرة ولا قلقة متعلقاً معناها بمعنى الكلام تعلقاً تاماً. بحيث لو طرِحت لاختل المعنى. ولو سُكتَ عنها لأدركها السامع بطبعه. . ومثال ذلك من القرآن: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) . فقد تقدمَ في الآية ذكر العبادة. ثم تلاه ذكر التَصرف فَى الأموال. فجاءت الفاصلة على الترتيب، " الحليم "، " الرشيد ". فالحليم باعتبار العبادة، والرشيد باعتبار التصرف في الأموال. ومثله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) . فاللطيفَ يناسب عدم إدراك الأبصاَر له. والخبير يناسب إدرَاكه لما سَواه ومنه الأبصار. 2 - التصدير: وهذه تسمية المتأخرين، والمتقدمون - كابن المعتز - سموه رد الأعجاز على الصدور. وقد قسَّمه ابن المعتز ثلاثة أقسام: (أ) توافق آخر الفاصلة مع آخر كلمة في صدر ما قبلها مثل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 (ب) توافق الفاصلة مع أول كلمة. في صدور ما قبلها ومثاله: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) . (جـ) توافق الفاصلة مع إحدى كلمات الوسط، ويسمى تصدير الحشو، ومثاله: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) . ًً 3 - التوشيح: وهو أن يتقدم في أول الكلام ما يدل على الفاصلة دلالة معنوية. ومثاله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) . لأن لفظ " اصطفى " يقتضي أن تكون الفاصَلة " العالَمين " لأن المصطفىَ منه يجب أن يكون جنس المصطفى، ويفرق بين التصدير والتوشيح - بهذا المعنى - أن التوافق في التصدير لفظي. وفي التوشيح معنوي. 4 - الإيغال: وهو أن يختم الكلام بزيادة يتم المعنى بدونها. ولكنها لا تخلو من الفائدة والتوكيد. وقد خصَّه ابن رشيق بالشعر، والصحيح خلافه. ومثاله من القرآن الكريم: (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) . فقولهَ تعالى: (وهم مهتدون) تأكيد لذلك المعنى، وتقرير له على وجه أمكن وأمثل، لأن اتباع المهتدي أمر مستحسن في نفسه تميل إليه النفوس ولا يختلف في فضله منصفان. وقد تواترت الأخبار التي تدل على ما للفواصل من دور في خدمة المعاني تأكيداً وتقريراً وتوضيحاً ورمزاً. ومؤدى تلك الأخبار واحد هو أن الفاصلة واقعة موقعها من الكلام بحيث لا يسد غيرها مسدها. ولشدة تمكنها فإن الكلام الذي يتقدمها يستدعيها فنجد السامع يتوقعها ويكاد يحدد نوعها متى أدرك معنى سابقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ولا أرى ضرورة ذكر هذه الأخبار وأسانيدها هنا. فإن التأمل في فواصل القرآن أكبر شاهد عليه. وقد ضربنا له بعض الأمثلة، والآن أريد أن أتعرض لتلك الناحية التي أشرتُ إليها من قبل والتي لم أعثر على إشارة إليها من أحد وبالله التوفيق. . * * * * بحث جديد في الفوصل القرآنية: ذلك أننى ألاحظ - وهذه فكرة أطرحها للدراسة والبحث الأوسع - أن الفاصلة القرآنية في الآيات الطويلة - سواء أكانت في السور الطوال أو القصار أو المتوسطة الطول والقصر - تأخذ سمة الاستقلال بمعنى أنها تأتى بعد تمام معنى أو معان رئيسية في الآية. فتكون هي بمثابة تعليق عليها وتؤدى حينئذ وظيفة التعليل أو الإنكار، أو التوكيد أو الترغيب، أو زيادة الإيضاح. وهى غالباً ما تكون في هذا النوع جملة مستوفية الأركان. ويغلب عليها أن تكون اسمية. أما في الآيات القصيرة، سواء أكانت في السور الطوال أو القصار، أو المتوسطة الطول والقصر، فتكون كلمة مكملة لمعنى الآية التي هي فيها معمولة من حيث الحكم النحوى لعامل فيها. وليس لها سمة الاستقلال لأنها ليست جملة. وقد تكون جملة قصيرة خاطفة، فعلية أضمر فيها فاعلها. ويغلب مجئ هذه الفواصل في السور القصار مما يسمونه " قصار الفصل " وما قارب ذلك. ونذكر الآن بعض الأمثلة لهذين النوعين. ثم نحاول توجيه هذا الصنيع الأدبى توجيهاً بيانياً، وبالله التوفيق. . * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 * فواصل الآي الطوال: قال الله تعالى من سورة البقرة: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) . فهذه خمس فواصل في خمس آيات وقعت الفاصلة فيها كلمة في جملة مستقلة بعد استيفاء المعاني الرئيسية لكل آية. إلا فاصلة الآية الخامسة. فقد بنى المعنى الرئيسي عليها ودخلت في أصل الدلالة. وقال في سورة آل عمران: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) . وهاتان آيتان جاءت الفاصلة فيهما كذلك كلمة في جملة أفادت معنى جديداً بعداستيفاء معنى ما تقدمها. وقال في سورة النساء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) . فأنت ترى في هذه الآيات الثلاث - وقد اختلفت فيما بينهما في الطول - أن فاصلة كل آية امنها مستقلة. فجملة الفاصلة في الأولى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) لأنها أعقبت تشريعاً خالصاً. وفي الثانية: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لأنها أعقبت تشريعاً في حالات المخالفات التي توجب حدًّا يُقام على المخالف. وذلك يُشعر بوقوع الخطأ من بعض المكلفين. وفي الثالثة كانت الفاصلة: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) متفقة مع الأولى إلا فى حكم الإعراب لأنها أعقبت بياناً لما يريدَه الله من التشريع للناس، والغاية العظمى للشارع من فرض الأحكام. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 * فواصل الآي القصار: ذلك شأن الفاصلة الغالب عليها في الآيات الطوال. وفي السور الطوال أو ما قاربها، أما في الآيات القصار أو ما قاربها - وكثيراً ما يقع هذا فى السور القصار أو ما قاربها فإن الشأن مختلف. فنجد الفاصلة فيها كلمة معمولة لعامل تقدم في بناء الآية قبل استيفاء معناها الرئيسي فهى - إذن - داخلة في تأديته. وإذا وردت الفاصلة في هذه الحالات " جملة " فهى جملة قصيرة قد يكتفى فيها بذكر أحد ركنيها. ويضمر الثاني إن كانت فعلية وقد تتعلق بكلمة الفاصلة معمولات لها فتحذف تلك المعمولات. وتبقى الفاصلة ملحوظاً فيها ما أضمر أو ما حذف متعلقاً بها. وقد ينتظم هذا المنهج سورة كاملة. وقد يقتصر على معظم آياتها. هذا إجمال لا بدَّ له من تفصيل، ودعوى لا بدَّ لها من دليل، فلنأخذ فى سوق الأمثلة، ولعل خير شاهد على ذلك سورة الواقعة، فهى تكاد آياتها كلها تكون من هذا النوع ونكتفى منها بما يأتي: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 هذه الآيات تمثل مطلع السورة ثم الحديث عن أحد الأزواج الثلاثة حديثاً تفصيلياً بعد الإثارة إليها إجمالاً في صدر السورة. والمتأمل يلحظ في فواصل هذه الآيات - كما هو الشأن في آيات السورة كلها تقريباً - أن دلالة الفاصلة جاءت جزءاً من المعنى الأصلى للآية. ومكملة له. وكلمة " الفاصلة " خاضعة في الحكم النحوى لعامل في الآية. إلا فى ثلاثة مواضع بدت فيها الفاصلة ذات دلالة مستقلة. وهذه المواضع الثلاثة: ". . ولا ينزفون ". . ثم ". . يتخيرون " ثم " يشتهون " وفيما عدا ذلك فإن الفاصلة تختلف، فهى فاعل في الآية الأولى. وهي صفة لمحذوف واقع اسماً لـ " ليس " في الآية الثانية، وهي صفة أو خبر بعد خبر في الثالثة. ومفعول مطلق في الرابعة والخامسة، وصفة في السادسة والسابعة. وهكذا تجد الفاصلة جزءاً أساسياً من الآية ودلالتها جزءاً من المعنى الأساسى الذي من أجله سيقت الآية. وقبل سورة الواقعة. فإن " القمر " و " الرحمن " يغلب عليهما هذا الطابع لأن العِلَّة - وهي قصر الآيات - مشتركة في المواضع الثلاثة. ومثل هذه السور سورة الغاشية: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) . * * * غرضان من سورة " الغاشية ": هذه السورة تحقق لنا غرضين. أحدهما: أن فاصلتها - غالباً - كلمة معمولة نحوياً لعامل في الآية، فدلالتها - إذن - دلالة رئيسية بالنسبة للآية. إذ هي مضاف إليه في الآية الأولى. والمضاف فاعل لحديث الذي هو المعنى الرئيسي فيها. لأنه المقصود بالتشويق بعد الاستفهام. وخبر أو صفة فى الثالثة، وصفة لـ " نار " في الرابعة، ولـ " عين " في الخامسة، ومستثنى فى السادسة، ومتعلق بـ " يغنى " في السابعة. وهكذا لو تتبعنا آى السورة كلها. وهذا هو الشأن الغالب في فواصل الآيات القصار أن تكون كلمات مفردة لها دور أساسى في تصوير المعنى الرئيسي في الآية أو المعاني الرئيسية إذا تعددت معانيها. وثانيهما: أن خمس آيات منها جاءت فاصلتها جملة وهي لم تخرج عن أداء الدور الأساسى في بيان المعنى الرئيسي كذلك. والذي نلاحظه عليها أنها جملة قصيرة قد أضمر فيها فاعلها. وتلك الآيات هي: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) . فهذه الآيات الخمس جاءت فاصلتهَا جملةَ قصيرة ذكر أحد ركنيها " الفعل "، وأضمر فيها الثاني: نائب الفعل في أربع، والفاعل في واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بقى النوع الثالث من هذه الفواصل. وهو ما تعلق فيه بكلمة الفاصلة معمولات غير الفاعل. وحذفت مقدراً ذكِرها، أو ذكِرت ومع ذكرها لم تطل جملة الفاصلة بل حافظت على سرعة إيقاعها وقصرها. وظاهر من هذا العرض أن هذا النوع على ضربين. أولهما: ما ذكرت فيه تلك المتعلقات وأمثلته كثيرة. منها قوله تعالى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) . وقوله: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) . بنيت فواصل هذه السورة جميعها على الهاء الذي هو ضمير المؤنثة الغائبة وقد اختلف موقع هذا الضمير من الإعراب لكنه لا يخرج عن حالتين: الأولى: أن يكون في محل الجر بالإضافة. الثانية: أن يكون في محل النصب على المفعولية - وهذا هو الغالب عليه - وهو في الحالتين معمول لعامل أساسى في بناء الآية. ومثل هذه السورة فى اتحاد الفاصلة على حرف واحد سورة " الناس ". وثانيهما: وهو ما حذف فيه المتعلق ومثاله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) . " وهذا النوع أقل وروداً من سابقه. وهو موجود متناثراً مع غيره من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الفواصل من النوع الأول ومثله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) . وقوله: (فَحَشَرَ فَنَادَى) . وقوله: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) . * والسر فيما أرى: ولعل السر البياني في نظام الفواصل السابقة على النحو الذي شرحناه ما يلى: أولاً: أن السور القصيرة تشتمل على آيات قصيرة كذلك، والآية القصيرة تهدف إلى بيان معنى واحد أو عدة معان سريعة التصور والإدراك. وهي بذلك ليست مجالاً لذكر الأفكار الطويلة التي تحتاج إلى إطالة بناء الجملة أو الآية التي تصورها. ومن هنا فإن الفكرة الأساسية تتطلب انتظام جميع الألفاظ لتأدية تلك الفكرة الخاطفة الموجزة، أما في الآيات الطوال - كما في آية التداين من سورة البقرة - فإن الفكرة فيها ذات أصول وفروع. وهي أصل من أصول التشريع عالجت مشكلة كثيراً ما تحدث للناس فلم تترك فيها ثغرة أو تهمل جانباً، ومثل هذه المعاني المتشابكة حرى بأن يعقب بجملة أو أكثر تؤكد تلك المعاني أو تحثُّ عليها. أو توبخ المخالفين لها. ومن الخير أن نذكر الآية التي اتخذناها مقياساً هنا لتعدد المعاني وكثرتها. * نص آية التداين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) . * * * تحليل آية " التداين ": فانظر كم مسألة تشريعية عالجتها الآية. وكم معنى صوَّرته. ولم تنس أن تُبين علل بعض الأحكام الواردة فيها كعلة اشتراط اجتماع المرأتين في الشهادة مع الرجل الواحد وهي أن تُذكِّر إحداهما الأخرى إذا ضلت. وذلك حرص من الإسلام على صيانة المرأة حيث لم يبح للرجل - وهو شريك لها في شهادة الواقعة - أن يذكرها. فاحتاط لذلك بشهادة اثنتين لهذا الغرض. وكاشتراط الرضا بشهود الواقعة من الطرفين المتعاقدين وكبيان العِلَّة في التشريع نفسه فهو أقسط عند الله. وأقوم للشهادة وأدنى ألا نرتاب في نفى الحق أو أجله المضروب. وقد مزجت الآية التشريع في المعاملات بالتوجيه الأخلاقى فى مواضع كثيرة منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ولذلك احتاجت الآية إلى فاصلة مستقلة. وقد مهَّد لها - أي لهذه الفاصلة - بما هو في قوة الفاصلة: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) . * * * دليل يؤيد هذه الفكرة: ويؤيد هذه الفكرة أن الغالب في الآيات القصار أن سورها مكية النزول. وللقرآن في مكة مجال غير مجاله في المدينة. فالقرآن المكي كان يهدف إلى محاربة الضلال في العقيدة والسلوك فجاء بموضوعات تخدم هذا الغرض من التبشير والإنذار. والترغيب والترهيب. لذلك كانت آياته قصيرة العبارة حادة سريعة الإيقاع عنيفة الوقع. وفي المدينة كان مجاله التشريع وإرساء قواعد المجتمع الإنسانى من حيث العبادات والمعاملات والأخلاق الإنسانية فاتجهت سوره وآياته إلى الطول والاستقصاء إلا أن يخاطب اليهود أو المنافقين فيكر. والدعوة إلى الإسلام في بدء أمرها كانت لا تطلب من الناس وقوفاً طويلاً لتأملها فساقت لهم الإرشاد والتوجيه الإلهى في سورة وآيات قصار لسهولة فهمها وسرعة استيعابها. لأنه كان بصدد تربية أمة خالية من أسس التربية القويمة فخاطبتهم بأوضح العبارات وأوجز المعاني كما يُفعل الآن في تريية النشء حيث يتدرج معهم المربي من تصور وإدراك الحرف الواحد. إلى الكلمة الواحدة السهلة التركيب إلى الجملة القصيرة وما يزال يرقى بهم من طور إلى طور حتى يصل بهم إلى فهم الفقرات ودراسة النصوص. والمتأمل في قصار السور المكية يتبين هذه الحقيقة دون ما شك أو ريب. وسبحان الله إذ يقول: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 3 - ألفاظ القرآن: لألفاظ القرآن جانب كبير في سموه فوق أنماط التعبير الأخرى. وتقوم هذه الألفاظ القرآنية على اعتبارات لم تتحقق لغيرها. لذلك فإن النظر فيها لم يقتصر على جانب واحد، بل يجد الباحث المجال فسيحاً أمامه حين يعمد إلى دراسة ألفاظ القرآن. ولذلك فإننا نحدد منذ الآن الجوانب التي سندرسها فى هذا البحث الذي خصصناه لدراسة اللفظ القرآني وتلك الظواهر يمكن إجمالها فى الآتى: (أ) روعة اللفظ القرآني في نفسه. (ب) إصابته المقتل في الدلالة على معناه. (ب) خاصته التعبيرية في القرآن. وجدير بالذكر أن هذه الجوانب سيأتى الحديث عنها ممزوجاً بعضه ببعض. على أن نثير إلى كل ظاهرة حين ورودها في النماذج التي سنذكرها لبيان قيمة الألفاظ القرآنية الجمالية ودورها في قضية الإعجاز. . . * روعة اللفظ القرآني في نفسه: " القرآن يتأنق في اختيار الألفاظ. ويستخدم كلا حيث يؤدى معناه في دقة فائقة تكاد تؤمن معها بأن هذا المكان إنما خلقت له هذه اللفظة دون سواها ولذلك لا تجد في القرآن ترادفاً. بل كل كلمة تحمل إليك معنى جديداً. فالألفاظ فيه قولة عنيفة في مقام التهديد والوعيد، رقيقة عذبة في مجال الترغيب والتهذيب. وهادئة حسنة في مقام التشريع والتفريع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ولهذا فإنك لا تجد في القرآن كلمة معيبة من حيث الصورة أو الاستعمال. ولا تجد فيه لفظاً قلقاً مضطرباً أو نابياً في موضعه. إلى آخر تلك العيوب التي يرددها نقاد الشعر وخبراء الأساليب. وسلامة اللفظ القرآني من العيوب نعنى بها أن الألفاظ في القرآن مختارة منتقاة لم يأت لفظ فيه حيثما اتفق. بل تدبير حكيم عليم. وإلى جانب انتقاء اللفظ القرآني من حيث صورة اللفظ نفسه - حروفه وحركاته وسكناته - فإن القرآن يؤثر استخدام الألفاظ القصار الثلاثية الأصول أو الرباعية الأصول. والثلاثية الأصول فيه أوفر عدداً من الرباعية. " أما أن اللفظة خماسية الأصول فهذا لم يرد منه في القرآن شيء. لأنه مما لا وجه للعذوبة فيه. إلا ما كان من اسم عُرِّب ولم يكن في الأصول عريياً. كإبراهيم. . . . وإسما يل. . . . وطالوت. . . وجالوت. . ونحوها. ولا يجيء فيه كذلك إلا أن يتخلله المد كما ترى. فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان ". وتحقيقاً لهذه الصفة - انتقاء الألفاظ وعذوبتها في القرآن - فإن القرآن يعمد إلى تهذيب ما قد يُعاب من اللفظ إذ دعا داع بلاغى لوروده فيه. ولهذا فإنك ترى في القرآن كلمات يشهد الذوق بحسنها لأنها هُذِّبت ووُضعَت وضعاً مُحْكماً فيه. بينما تراها في غيره معيبة شاذة. . وذلك بشهادة النقاد أنفسهم. وليس ذلك مجاملة منهم للقرآن لما له من قداسة، بل لأسباب فنية أوضحوها ووجهوا إليها الأنظار. * * * ألفاظ حسنت في القرآن وعيبت في غيره: من ذلك كلمة " مقاعد ". فقد عابها النقاد في شِعر الشريف الرضي حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أعْزِزْ عَلى بِأنْ أرَاكَ وَقَدْ خَلتْ. . . مِنْ جَانِبَيْكَ مَقَاعِدُ العُوادِ قال ابن سنان الخفاجى ينقده: " فإيراد - مقاعد - في هذا البيت صحيح. إلا أنه موافق لما يُكره ذكره في مثل هذا الشأن. لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل إضافته إليهم. وهم العُواد. ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلاً. فأما إضافته إلى ما ذكره ففيها قبح لا خفاء فيه ". ونقد ابن سنان لهذه الكلمة وجيه لا أظن أحداً يخالفه فيه لأن المقام يقتضي العدول عن مثل هذه الكلمة جرياً مع الذوق وصحة المعنى. والأساس الذي بنى عليه الخفاجى نقده هو أن الكلمة يُشترط في فصاحتها - عنده - ألا يسبق التعبير بها عن معنى يُكره ذكره. وقد حكم بسلب الفصاحة عن كثير من الكلمات نزولاً على هذا الاعتبار. وقد وردت هذه الكلمة - مقاعد - في القرآن الكريم عذبة رشيقة. وذلك فى مواضع منها: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ) ، وقوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) . فالمقاعد - هنا - في الموضعين بمعنى المنازل، ولا يمكن أن يُفهم منهما المعنى الذي من أجله كره النقاد استعمال هذه الكلمة. لأنها لم تضف إلى ما يمكن أن يُفهم من إضافتها إليه ذلك المعنى المستكره. . وذلك سر الجمال في هذين الموضعين. ومن ذلك - أيضاً - كلمة " تؤذى ". فقد عابوها في قول المتنبى: تَلُذُّ لهُ المرُوءَةُ وَهِىَ تُؤْذِى. . . وَمَنْ يَعْشَقْ يَلُذُّ لهُ الغَرامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 والسبب أن الشاعر قطع الكلمة - وهي ثقيلة - عن الإضافة على العكس من كلمة " مقاعد " فإن عيبها جاء من إضافتها. ولو أضافها لخفف من ثقلها. وقد جاءت في القرآن في مواضع هي فيها حسنة رائقة. وذلك في قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) . لذلك كانت هذه الكلمة. - هنا - أجمل منها في بيت المتنبي. والحكم في ذلك للأذن الموسيقية ". فالقرآن - كما ترى - استعمل الكلمة واقعة على مفعول " النبي " فخفت ورشقت وهي في قول المتنبي مقطوعة عن الإضافة. ومن ذلك كلمة " ضيزىَ "، وهي أغرب ما في اللغة من كلمات. بله القرآن. ولقبح هذه الكلمة لم يستعملها عريى فيما وصل إلينا من أقوالهم وأشعارهم. ومع ذلك فإنك تجد لها من الحسن في القرآن أضعاف ما ترى لها من القبح والغرابة في غيره. قال تعالى في سورة النجم موبخاً أهل الشرك: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) . . " ولحسن هذه الكلمات في هذا الموضع عدة اعتبارات: 1 - أن السورة التي وردت فيها فاصلة لإحدى آيها الفية الفواصل، فجاءت الكلمة ذات نغم صوتى ملتئم. مع فواصل الآي الأخرى. ولو وضع موضعها " جائرة " وهي قسيمتها في الدلالة لجارت على الموضع وفاتت المناسبة وحسن الجوار. فجيء بها - أي ضيزى - لذلك الالتئام والتناسق الصوتى الذي لا يخفى أثره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 2 - أنها جاءت معلقة على سلوك معيب حيث جعلوا لله الإناث - سبحانه - ولهم الذكور، مع الإصرار على قتلهم البنات. 3 - أن الآية الأولى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى) اشتملت على استفهام إنكارى. والآية الثانية: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) اشتملت خاتمتها على التهكم. وهما معنيان متناسبانَ، أولهما كالمقدمة لثانيهما. وهذه الكلمة الغريبة - ضيزى - أليق ما تكون دلالة على التهكم. لأنها وضعت حالة التهكم في إنكاره من إمالة الرأس واليد بهذين المدين منها إلى الأسفل والأعلى * وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية. 4 - وإن تعجب فعجب نظم هذه الكلمة نفسها. وائتلافها مع ما قبلها إذ هي مقطعان أحدهما مد ثقيل، والآخر مد خفيف. وقد جاءت عقب غنتين فى " إذن " و" قسمة " إحداهما خفيفة حادة، والأخرى ثقيلة متفشية. فكأنها بذلك ليست إلا مجاوبة صوتية لتقطيع موسيقى. وهذا معنى رابع للمعاني الثلاثة الأول ". 5 - وخامس هذه المعاني أن هذه الكلمة الدالة على المعاني الأربعة المذكورة إنما هي أربعة أحرف أيضاً. * * * سمات أخرى لحسن اللفظ في القرآن: ومن مظاهر تهذيب الألفاظ في القرآن أن الحركات النحوية والصرفية. تجرى فى الوضع والتركيب مجرى الحروف والكلمات فيما يثبت لها من أمر الفصاحة. إذ يهيئ بعضها لبعض. ويمهد له، حتى إن الحركة الثقيلة لسبب من أسباب الثقل المعروفة تعذب وتستساغ في التركيب القرآني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وذلك مثل كلمة " النُذُر " في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) . فكلمة " النُذر " ثقيلة منفرة. بما فيها من تشديد النون، وتوالى الضمات. فكان التمهيد في صدر الآية لذلك بالقلقلة في الدال من " لقد " والطاء من " بطشتنا " وبثلاث عشرة فتحة متناثرة على الحروف من واو " ولقد " إلى راء " فتماروا "، وبالمد في ألف " بطشتنا " كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات. وترويض للسان عليه ليكون ثقل الضمة مستخفاً بعد ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة. وقد جاءت راء " تماروا " مساندة لراء " النُذر " حتى إذا انتهى اللسان من هذه انتهى إلى مثلها. فتخف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه. ثم انظر لتلك الغنة التي سبقت الطاء في نون " أنذرهم " وفي ميمها. وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في " النُذُر ". وقد تمهد الحروف لإيثار كلمة على أخرى تشترك معها في أصل الدلالة. ومن ذلك فيما يبدو قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) . . حيث لم يقل " في بطنه ". كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) ، وكان يمكن أن تقول: " في جوفى " وذلك لأن حرف الجيم تكرر في الآية الأولى مرتين - كما ترى - فناسب ذلك إيثار الكلمة التي تبدأ بالجيم " جوفه " على ما خلت منه " بطنه "، وقد غفل أحد الباحثين عن هذا التوجيه عند حديثه عن الفروق بين الكلمتين في الاستعمال القرآني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ومن مظاهر التهذيب في ألفاظ القرآن أن ما يختل فيه شرط الفصاحة بالطول من الكلمات يأتي عذباً جميلا فيه لبناء تلك الكلمات في أسلوبه على نسق بديع يجنبها ثقل التطويل. ففى القرآن كلمتان بلغت حروف إحداهما عشرة أحرف وهي: (ليَسْتَخْلفَنَّهُمْ) ومثلها ثقيل على اللسان ناب في السمع، أما هي فقد وقعت موقعَا عذبا لا ثقل فيه ولا نبو وذلك لأن مخارج حروفها فيما بينها متباعدة. ونظم حركاتها ساحر. إذ تتكون من أربعة مقاطع - ينتهى كل مقطع بسكون يسكن معه النفس فتخرج الكلمة متجزئة كأنها أربع كلمات لا كلمة واحدة. والكلمة الأخرى بلغت حروفها تسعة أحرف. وهي: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) ، وجاءت ذات ثلاثة مقاطع. وقد تكرر فيها الياء والكاف. وتوسط الكافين مد هو سر الفصاحة في الكلمة كلها. لأنه خفف من اجتماع المثلين. كما فصل بين اليائين بالكاف الأولى والفاء. وانتهى كل مقطع من مقاطعها الثلاثة بالسكون كذلك. فنزلت منزلة ثلاث كلماتا كما ترى. وعذبت رغم طولها. * * * سياسة لغوية: وهذا - أعنى سكون المقاطع - سياسة لغوية مطلوبة في تهذيب بعض الألفاظ التي يُلمح فيها نوع من الثقل بسبب الطول. أو توالى الحركات. ألا ترى أن النحاة يلجأون إلى مثل هذا حينما يُسكَنون ما أصله التحريك فراراً من ذلك الثقل. وبذلك حكموا بتسكين آخر الماضي إذا اتصل به ضمير رفع متحرك مثل: " ذهبت ". وعِلتهم في ذلك كراهة توالى أربعة متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ولك أن تقيس على هاتين الكلمتين في سياسة التقطيع والتسكين في المقاطع كلمتين أخريين جاءتا في القرآن إحداهما ذات عشرة أحرف - مثل الأولى - والثانية ذات سبعة أحرف. أما الأولى فهى قوله تعالى: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) ، وأما الثانية فهى قوله تعالى حكاية عن إبليس يخاطب أولياءهَ يوم القيامة: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) . ولك أن تدير اللسان بهما جميعاً فهل تجد من ثقل أو نبو، إن اللسان ليكرهما كرًّا وقد مُهِدَ السبيل له ليسهل عليه ذلك الكر. * * * توجيه القرآن لانتقاء الألفاظ: وأعجب العجب أن القرآن لا يكتفى بانتقاء الألفاظ في نماذجه. بل هو يشرع في ذلك صراحة وينبه إلى خطأ وقع لاستعمال اللفظ في غير موضعه ويرشد إلى بديله. وذلك في موضعين فيه: أحدهما قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) . وثانيهما قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) . ولقد أبانت كتب التفسير سر هذا الخطأ في الموضعين. ففى سورة البقرة نهى القرآن المسلمين أن يقولوا: " راعنا ". لأن هذه الكلمة كانت لليهود كلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 مثلها يستعملونها في السب. وأصلها كلمة عبرانية معناها " أحمق "، فلما سمع اليهود المسلمين يقولون هذه الكلمة افترصوها، ومن هنا ورد النهي عنها وجيء لهم بلفظ يعدله في المعنى لا شُبهة فيه لأحد، وهو " أنظرنا " لعدم التشبه باليهود فيما يقولون. ولكى يسد عليهم منافذ الطعن والسباب. فالخطأ - هنا - مُلاحَظ فيه تنزيه مخاطبات المسلمين عما يردده أعداؤهم من اليهود مما له معنى مشين. أما الخطأ في قول الأعراب: " آمَنا " فإن اللغة والشرع يفرقان بين معنى اللفظين، فالإيمان الذي اشتقوا منه الفعل " آمَنا " مطلوب في تحقيقه أمران: نطق باللسان، وتصديق بالقلب ليواطئ القول الاعتقاد. وهم لم يكونوا كذلك لأن نصيبهم من الشريعة حين ادعوا ذلك لا يجاوز القول باللسان والمتابعة الظاهرين بدليل: (وَلمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِى قُلوبِكُمْ) . وحالهم هذه ينطبق عليها معنى الإسلام - الذي اشتق القرآن منه في توجيههم " أسلمنا " - إذ هو حقيقة الامتثال الظاهرى للشريعة من قول أو عمل. لذلك وجههم القرآن إلى أن يقولوا قولاً مطابقاً لحالهم وهو " أسلمنا ". * * * ملحظ بياني دقيق: والخطأ هنا لغوي اصطلاحى كما ترى. وفي الآية ملحظ بياني دقيق إذ أمر الله رسوله أن يقول لهم: " لم تؤمنوا " وعَطف قوله تعالى: " ولكن قولوا أسلمنا " يقتضي أن يكون المعطوف عليه: "لا تقولوا أمنا " ليعطف القول على القول. وإنما عدل عنه كراهة أن يقع النهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 بحال على ما هو محمود ومطلوب. ولذلك لم يأت مما شأنه كذلك إلا مع القرينة القوية الصارفة عن كل وهم مثل قوله تعالى: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) وقوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) . * * * إيثار أحد اللفظين للمناسبة: ولعل من روائع اختيار القرآن لألفاظه ما ذكره ابن أبى الإصبع في قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ) فإنه سبحانه وتعالى لما نفى عن رسولَه وحبيبه - صلى الله عليه وسلم - كونه بالمكان الذي قضى له فيه بكلمة الأمر، عرَّف المكان بالجانب الغربي. ولم يصفه بـ " الأيمن " كما قال في أمر موسى عليه السلام: (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِب الطُور الأيْمَنِ) أدباً منه سبحانه وتعالى مع نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن ينفى عنه كونه بالجانب الأيمن. فالمكان الذي نودى من منه موسى عليه السلام يمكن أن يدل عليه بوصفين: كونه الجانب الأيمن، وكونه الجانب الغربي. فاَثر القرآن في الإخبار عن موسى " الجانب الأيمن. " في تعريف المكان لأنه كان قاراً عليه. وفيه قضى إليه ربُّه أمرَ الرسالة، ففى ذلك تشريف له. وكان في خطاب محمد - صلى الله عليه وسلم - التعريف بالجانب الغربي لأنه لم يكن قاراً عليه والكلام مسوق لنفى الكينونة. واستعمال الجانب الغربي دون الجانب الأيمن فى حال نفى للكينونة أليق بمقام الرسول الكريم لخلوه من نفى كونه بالأيمن. ففى العبارة أعجب احتراس كما يقول ابن أبى الإصبع " * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 * كنايات القرآن عما يقبح التصريح به: ومن شواهد اختيار اللفظ في القرآن الكريم أنه يُكَنى عما يكون بين الرجل وزوجه بألفاظ غاية في النزاهة والشرف. فمرة يُكَنى عنه بالإتيان. وذلك فى قوله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) . ومرة يُكَنًى عنه بالرفث. قال: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) وأخرى بالتغشية قال: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ) . وتارة بالقربان قال: (. . وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتى يَطهُرْنَ. . .) . وأخرى باللمس، قال: (أوْ لَامَسْتُمُ النِّساءَ) . كما كنى عنه بالمس وذلك في الموضعين الآتيين: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) . وقال: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) . وظاهر أن هذه الإطلاقات إنما هي في جانب الحلال. ومثلها التكنية عنه بالنكاح في مواضع كثيرة. كقوله تعالى في سورة النساء: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) . ويطول بنا الحديث لو رحنا نذكر مواضع ورود هذه الكلمة فلنكتف بهذا المثال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 والنكاح في عُرف الفقهاء فيه مذهبان: حقيقة في الوطء. مجاز في العقد أو العكس، وجاء في مفردات الراغب: " أصل النكاح للعقد، ثم استُعير للجماع. ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استُعِير للعقد. لأن أسمَاء الجمَاع كلها كنايات لاستقباحهم ذكِره كاستقَباح تعاطيه. ومحال أن يستعير مَن لاَ يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه ". فالراغب يمنع أن يُراد بالنكاح غير العقد حقيقة. والاستعمال القرآني لا يمنع من إرادة هذا المعنى. فالنكاح فيه صالح لحمله على كلا المعنيين: العقد والوطء. وقد يقوى حمله فيه على الوطء مثل قوله تعالى: (. . . فَإن طلقَهَا فًلا تَحلُ لهُ من بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، إذ يرى الفقهاء أن الزوج الثانى لا يحللها للأول بمجرد العقد عليها. بل لا بدَّ من الخلوة بها. ويقوى من هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة تسأل هل تحل لزوجها الأول بدخول الثاني دون الوطء: " لا. . حتى تذوقي عُسَيْلته ويذوق عُسَيْلتك ". ومن أبدع تعبيرات القرآن عن هذا المعنى قوله تعالى: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) ، فإن السر مجاز عن الوطء. والوطء مجاز عنَ العقد ولذا فهم يسمونه مجاز المجاز. والعلاقة في الأول الملازمة. لأن الوطء لا يحدث إلا سراً، وفي الثاني السببية لأن الوطء مسبب عن العقد. كما يُطلق عليه المباشرة قال: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) . ذلك في جانب الحلال. أما في جانب الحرام فقد شاع استعمال كلمة " الزنا " وهى كلمة لا ابتذال فيها وتقابل كلمة " النكاح " في جانب الحلال. قال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) . وقد تستعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 كلمات أخرى في الدلالة على هذا المعني مثل الفاحشة والبهتان والبغاء والسوء والسفاح والإفك. قال: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) . وقال: (وَبكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً) . وقال: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) . وقال: (مَا جَزَاءُ مَنْ أرَادَ بِأهْلِكَ سُوءاً) . وقال. (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) . وقال: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) . قارن بين كنايات النوعين - الحلال والحرام - تجد ما أطلقه القرآن على الحلال كلمات تبعث في النفس الرغبة والارتياح. وما أطلقه على الحرام كلمات تثير فى النفس شعور النفرة والارتياع، ومتى بلغ أسلوب ما هذه المنزلة من التأثير القوى كان نموذجاً ناجحاً وأدباً رفيعاً. فما بالك بالقرآن وهو في أعلى درجات البلاغة والقوة. * شُبه مردودة: ولعل قائلاً يقول: إذ حالفكم التوفيق فيما ذكرتموه من نزاهة ألفاظ القرآن وشرفها فيما سقتم من أمثلة. فماذا تقولون في ذكر القرآن " الفَرْج " و" الفروج " مراداً بها مواضع يُكره ذكرها؟ وماذا تقولون في قوله تعالى: (. . . أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) ؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وللإجابة على هذه الشُبه نقول: وردت كلمة " الفرج " في القرآن الكريم مراداً بها موضع العرض فى المواضع الآتية: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) . ومثل هذه جاء قول تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) . وهاتان الآيتان في شأن مريم لإثبات العفة لها. وصونها عن كل قبيح فهما إخبار عن أمر قد كان. وقريب منه في الإخبار عما هو واقع قوله تعالى: (والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظونَ) . . وقد وردت هذه الآية مرتين في القرآن الكرَيم. ومثله قوله تعالى: (والحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظاتِ) . ووردت هذه الكلمة في سياق أمر تشريعي على طريقة الإنشاء لا الإخبار عما وقع ولا عن ما هو واقع. وذلك في قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) . كما وردت فيه مراداً بها غير هذا المعنى. قال تعالى: (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وقال: (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) . وظاهر من الآيتين الفرق بين المعنى الذي تعنيه الآيات الأولى. . والمعنى الذى تعنيه هاتان الآيتان. إذ المراد فيهما ب " الفروج ": الشقوق والفتوق. * * * وجوه الرد: وليس ورود هذه الكلمة في القرآن بخارج عما ثبت لألفاظه من النزاهة والشرف وذلك لعدة أمور: أولاً: أن هذه الكلمة لم توضع وضعاً خاصاً للدلالة على موضع العِرض. بل هى كناية عنه شاعت فيه حتى قربت من الحقيقة العُرفية. هذا لأن الكلمة في اللغة تقع مشتركاً لفظياً بين عدة مسميات. وقد جاء فى المفردات: " الفرج، والفرجة: الشق بين الشيئين كفرجة الحائط. والفرج ما بين الرجلين وكنى به عن السوأة حتى صار كالصريح فيها. قال تعالى: (وَالتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) ، (لفُرُوجهِمْ حَافظونَ) ، (وَيَحْفَظن فُرُوجَهُن) واستعير الفرج للثَغر. وكَل موضع مَخافة. . وقوله: (وَمَا لهَا مِن فُرُوج) أي شقوق وفتوق، قال: (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ) : أى انشقت. والفَرَج: انكشاف الغم، يقال: فرَّجَ الله عنك. ورجل فرج: لا يكتم سره. . . ". فأنت ترى من هذا العرض أن هذه المادة: " فرج " تُطلق على عدة معان. وموضع العِرض من الإنسان واحد منها، وقد علمنا أن إطلاقها عليه من قبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الكناية لا التصريح. وأن عِلَّة الإطلاق ملحوظة فيه بحسب الوضع العام فى اللغة. ثانياً: أن هذه الكلمة لم تُستخدم في القرآن إلا في سياق الإحصان أو الحفظ بحسب ما كان كما في الحديث عن مريم ابنة عمران. أو بحسب ما هو كائن كقوله تعالى: (وَالذينَ هُمْ لفُرُوجهمْ حَافِظونَ) . أو بحسب ما ينبغى أن يكون كقوله تعالَى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) . ثالثاً: أن ورود هذه الكلمة في القرآن إما في موضع مدح أو تشريع، المدح فيما كان أو فيما هو كائن. والتشريع فيما ينبغى أن يكون، فلذكرها - إذن - داع قوى لأنها في مقام المدح - حيث قرنت بالإحصان أو الحفظ - هى دليل العفة التي من أجلها كان المدح. ولأنها في مقام التشريع: الوضع الذي يجب أن يُصان: يُحفظ فصرَّح بها اعتناءً بأمرها وحتى لا يحتمل المقام سواها. أما قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) : فإن " الغائط " هو المكان الذي تُقضى فيه الحاجات، فالتعبير كنائي - كما ترى - والمقام مقام تشريع؟ مع هذا فقد عدل القرآن عن الاسم الصريح إلى ما هو وارد مورده حفظاً للفظه من الابتدْال. ولو فعل لكانت الضرورة التشريعية خير مبرر. ثم انظر إلى قوله تعالى في شأن آدم وحواء حين أضلهما الشيطان فأكلا من الشجرة التي حرمها الله عليهما: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 فإن أكل كان سبباً فى التبرزَ فعدل عنَه إلى ذكرَ السوءات. ويبدو في هذا التعبير لون من القسوة لأن المقام مقام معصية وعقاب فهل ترى أدبا في الحديث أروع من هذا الأدب. * * * * إصابة اللفظ القرآني: ومن ذلك قوله تعالى: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) فقد آثر الاستواء على غيره ولم يقل: رست أو استقرت، لأن الاستواء يدل على معنى لا يدل عليه واحد من نظيريه المذكورين. فالاستواء يدل على الاستقرار أو الرسو المطمئن مع اعتدال الوضع. أما الرسو والاستقرار فقد يكونان على غير وضع الاعتدال كأن ترسو السفينة أو تستقر وهي منكسة مثلاً على الشاطئ. والاستقرار المعتدل الوضع هو المعنى المطلوب في جانب نجاة المؤمنين من الهلاك وسلامتهم من الطوفان. ونفى التنكس - مثلاً - مطلوب في مكان عَمَّ الطوفان فيه وجه الأرض. وغمر الماء النازل من السماء، والمتفجر من الأرض كل سهل ووعر. لئلا يقع فى الظن أو الاعتقاد أن تكون السفينة قد تعرضت لشيء من الصعوبات، والله قد صور لنا خطورة المجرى إذ يقول: (وَهىَ تَجْرى بهمْ في مَوْجٍ كَالجِبَالِ) . لذلك كان إيثار لفظ " الاستواء " على غيره أنسب لمقتضى الحال. حتى يعلم المخاطبون كيف صنعت عناية القادر بعباده المؤمنين. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 * طريق الدلالة في اللفظ القرآني: إن القرآن حين يختار لفظاً تجده دالاً على معناه ب الجرس، أو بالظل - أو بالجرس والظل معاً - وفي هذا المنهج يبدو لونٌ من التناسق أعلى من البلاغة الظاهرية وأوقع من الفصاحة اللفظية. اللذين يحسبهما بعض الباحثين في القرآن أعظم مزايا القرآن. والفروق بين هذه المواضع جد دقيقة. قد يصعب العزل بينها. ولكنها سمة من سمات التعبير القرآني. ولنأخذ - الآن - في ذكر بعض النماذج: * الظل: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) . الهدف من الآية: بيان أن المكذبين بأيات الله والمستكبرين عن عبادته لن يحظوا بالقبول عند الله. ولن يدخلوا الجنة، وقد رتب حصول هذه المنافع لهم على أمر مستحيل هو دخول الحبل الغليظ في الثقب الدقيق لآلة الخياطة. والمرتب على المستحيل مستحيل كذلك. لكنه لم يذكر لفظ " الحبل " بل وضع موضعه لفظ " الجمل " وهو مشترك لفظي بين الحبل والحيوان الضخم المعروف. وإنما أوثر لفظ " الجمل " مراداً منه " الحبل " لأن فيه دلالة ليست فى الحبل، فالحبل مهما كان غليظاً لا يبلغ ضخامة الجمل. وهو - أي الحبل - متفاوت في الدقة والغلظ. ولو صرّح به لوقع في الوهم أنه الحبل الدقيق. فتقرب المسألة حينئذ من الإمكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 بَيدَ أن هذا الإمكان غير متصور مع " الجمل " ذلك الحيوان الضخم الذى نشاهده مثل الصخرة العظيمة. ولتأكيد حرمانهم وشقائهم اختاره القرآن ليقطع عندهم كل أمل ما داموا فى شقاق مع ربهم. وإن السامع ليقع في خلده حين يسمع هذه الآية أن المراد بـ " الجمل " هو الحيوان ذلك الضخم، ولا يكاد يتصور منه " الحبل الغليظ " لاشتهاره في الأول. ونُدرة إطلاقه على الثاني. فهذا جدير بأن يسمى معنى ثانياً للفظ يدركه الخيال. واللفظ - هنا - دال على هذا المعنى الثاني بظله كما ترى. * * * الجرس: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا) ونقصد في هذا النص كلمة " يصطرخون " بالذات لأنها تُبين جأرهم باللجوء إلى الله أن يخلصهم مما هم فيه. وهي بجرسها الغليظ الصاخب ورنينها الخشن الصاك، الذي يكاد يخترق صماخ الأذن، تمثل الوقف أدق تمثيل. فإن الصراخ المنبعث من نفوس تئن تحت وطأة العذاب صراخ عال مدو يختلط بعضه ببعض - بدءاً ونهاية - ويملأ المكان صخباً ورنيناً. وإنك لتلحظ أثر " الصاد " و " الطاء " في إبراز الصوت بمثل هذه الصورة الغليظة، فهل كنت تحس شيئاً من ذلك لو وُضعَت كلمة " يدعون " الهادئة الوديعة مكان " يصطرخون " - الهادرة العنَيفة. وهل كنت تقف على بلوغ قلقهم الدى لولا كلمة " يصطرخون " الملائمة لجوهم النفسي أدق ملاءمة وأبرعها. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 * الظل والجرس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) والهدف من الآية الإنكار على المتقاعدين عن الجهاد. واستثارة هممهم للغزو فى سبيل الله لأنهم كلما دُعوا إلى القتال تراخوا وفترت عزماتهم. فجاءت كلمة " اثَّاقَلْتُمْ " تصور المعنى أبدع تصوير لأن التثاقل يقاوم حركات الرافعين له. كلما رُفِعَ تساقط وهوى إلى الأرض. والذين قعدوا عن الجهاد مثلهم مع الداعي إليه مثل التثاقل مع رافعيه هذه صورة يدركها الخيال. ومنظر ماثل أمام الناظرين تصوره كلمة واحدة هى " اثَّاقَلْتُمْ " بما تثيره من خيال " ظل "، وبما توحى به نغماتها من رنين " جرس " فهى تتكون - بحسب نطقها - من أربعة مقاطع صوتية. وكل مقطع منها مكون من فتح وسكون، والفتح والضم حركة تشبه دعوة الداعي. والسكون على المقاطع تملص من تلك الحركات الرافعة، وإخلاد إلى الأرض. ولنا أن نقارن بين الكلمة المدعوين إليها " انفروا " والكلمة الجانحين هم إليها " اثَّاقَلْتُمْ " فللأولى خفة. توحي بمعنى الإنطلاق. وللثانية ثقل يوحى باللصوق بالأرض، فبينهما ما بين الحركة السريعة والبطء المتثاقل! وخذ إليك قوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) وتأمل الصورة تأملاً تدرك منه سر اختيار هذه الكلمات: " حُمُر " و" مستنفرة " و " فرت " و "قسورة " وإذا وصلتَ إلى ذلك أدركتَ إلى أى مدى كان الكافرون يُعرضون عن الدعوة ويشردون منها شروداً بالغاً مداه كما تشرك الحُمُر المستنفرة إذا هاجها الصياد أو الأسد المفترس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وهم يشرودن خائفين منها لا فيها من نُذُر تطير منها قلوبهم التي غمرها الشيطان بغوايته ونفوسهم التي أسرها الهوى بضلاله. وكلمة " مستنفرة " تزيد المعنى دقة ووضوحاً لأن من الحُمُر حُمُراً أهلية تأنس إلى مَن تراه وليست هذه منها بل هي مستنفرة تفزعها مجرد الرؤية بله الطلب وتوقع الخطر. وكذلك كلمة " فرت " إذ تبين هذه الكلمة أنهم لشدة إعراضهم لم يشردوا من الداعي ماشين على أقدامهم فوق الأرض. بل طائرين في الفضاء كلما يصنع الطير المهيج. وقد اشترك الظل مع الجرس في دلالة هاتين الكلمتين " مستنفرة "، " فرت " كما ترى. * * (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) َ. هذه الآية تصور - كذلك - تملص رجل من الإذعان لهدى الله. وقد اختير للدلالة على هذا المعنى كلمة " انسلخ " وهذا اللفظ يرسم لنا الصورة عنيفة فظيعة ولهذه الصورة رمز ومعنى. فالانسلاخ لغة: إزالة الستور. يقال: انسلخ الرجل من ثيابه إذا طرحها، والشاة إذا أزيل عنها جلدها. فكان خروج هذا الرجل عن طاعة الله إلقاء لستوره وما يحفظ عليه أمره، فهو - بعد - لا يلوى على شيء من أسباب الكرامة ودواعى التوقير. . قال الزمخشري في توجيه هذا المعنى: " فحططناه ووضعنا منزلته ". ومعنى آخر يُفهم من هذا التعبير. ذلك أن الانسلاح للشاة لا يكون إلا بعد الذبح ومحال أن يُسلخ جلد شاة وهي على قيد الحياة. وفي هذا تضمين يوحى بأن هذا الرجل ومَن كان على شاكلته أموات غير أحياء. وليس هذان المعنيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 بغربيين عن البيان القرآني. فهو حافل بالصور التي يوصف الكفار فيها بالضعة وبالأموات. * * (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) : الحديث - هنا - عن أهل النار حينْ يُساقون إلي مأواهم فلا تساعدهم أقدامهم على السير رهبةً وفزعاً. . . فتدفعهم الزبانية في أعلى ظهورهم مما يوازى صدورهم. ومَن شأنه ذلك يُسمع لصدره صوت غير إرادى يتكون من هذا المقطع " أع " ولهذا كانت هذه الكلمة مصورة للمعنى بجرسها ورنينها. * * * * تناسب اللفظ القرآني مع معناه: ومما يتصل بهذا المعنى أن ألفاظ القرآن تأتى عنيفة قوية في مقام التهديد والوعيد وما أشبه ذلك، ورقيقة عذبة في الترغيب والتبشير وما أشبههما. هادئة ثرية في مقام التشريع والتوجيه وما قاربهما. فمن أمثلة التهديد والوعيد: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فانظر إلى عنف الألفاظ إلى أي مدى يصل. وإن العنف ليبلغ مداه فى مواطن الحُكم من النص الذي أثبتناه من سورة المدثر. وذلك في موضعين: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) - (سَأُصْلِيه سَقَرَ) وقد بدأ هذا النص بكلمة أعنف ما تكون في هذا الموضع: (ذَرْنىَ) ويا ويل مَن كان هذا تهديداً له. إنهن كلمات قاتلات أوقع في النفس من أَمضى سلاح. ومثله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) . تأمل هذا النص، ثم أنعم نظرك في هذه التعبيرات: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) - (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) - (أَنْكَالًا وَجَحِيمًا) - (طَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا) - َ (تَرْجُفُ الأرْضُ وَالجبالُ) - (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) - (أخْذاً وَبِيلاً) - (مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) . . ألم تجدَها ذاهبة في القوة والإرهاب إلى أبعد أثر. ومثله: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) . إن موجة العنف تبدأ من أول كلمة في النص. ولكنها لا تنتهى حتى بآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 كلمة تصوره، فقد اشتملت الآية الأخيرة على الفعل المضارع الواقع في حيز النفى (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ (وهنا ربما وهم الواهمون أن جزاء هؤلاء مقصور على ما ذكرَ فيما مضى من النص. ولكن هذا الوهم مدفوع بالاستثناء (إلا عَذَاباً) . فالزيادة المنفية هي الزيادة التي من جنس الرحمة. أما الزيادة التي من جنس العذاب فلاحقة بهم ما دامت السموات والأرض. وفي هذا من تبكيتهم وحسرتهم ما لا يخفى. ومثله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) . هذه مثل. وغيرها كثير. لم نرد بذكرها الاستقراء التام. بل نماذج وشاهد صدق على ما نقول. * * * الذم: ويقرب من مقام التهديد والوعيد، مقام الهجاء والذم، ومن أمثلة ذلك: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ومثله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) . ومثله: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56. وهذا نهج القرآن حين يتحدى. ولنذكر لذلك بعض النماذج: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) ومثله: َ (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) . ومثله: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) . * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 * إجمال: هذا تصريف القرآن في القول بحسب المقام. ولكل مقام مقال، فترى كل لفظة وقعت موقعها. بحسب السياق. وبحسب ما يناسب كل حالة من حالات المخاطبين. فما من موضع مما ذكرنا نلمس فيه مداهنة أو ليونة. أو تقصيراً فى أي جانب من جوانب القول. قوة وفخامة في الألفاظ. ورهبة وعنفاً فى المعاني. لذلك كان الكافرون يرهبون سماعه ويصدون عنه صدوداً. ويفرون منه كما تفر الحُمُر من رميات السهام. ألم يحك عنهم القرآن قولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) . أوَ لم يضع الوليد بن المغيرة يده على فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليكف عن القراءة رهبة منه حين سمعه يتلو قوله تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) . وهو يقول: بحسبك يابن أخى. هذا لما كانوا يرونه فيه من آيات النذر المؤثر، والوعيد المخيف. ولو تأملنا ما نزل من القرآن بمكة، موطن الصدود والتحدى لوجدناه حافلاً بهذا اللون من التعبير. خاصة في قصار سوره ومتوسطها. * * * الترغيب: فإذا خرج القرآن عن مقامات التهديد والوعيد، والتحدى والهجاء. إلى الترغيب والتوجيه أو العتاب والتنبيه. فإن له مسلكاً غير هذا المسلك. وسبيلاً غير تلك السبيل. فانظر إليه في مقام الترغيب كيف يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) . َ فى الآية الكريمة ترغيب في الإنفاق والبذل لمستحقيه. وقد جاءت الألفاظ سلسة عذبة. فيها إثارة لعمل الخير، وترغيب بعد ترغيب، ففى مطلع الآية يأتى التعبير: (أُولُو الْفَضْلِ) . وهو أنسب مطلع بالنسبة لموضوع الحديث. ثم عطف عليه (السَّعَةِ) لأنه - مع ما عُطفَ عليه - تذكير بنعمة الله على المخاطبين. والفضل والسَعة نعمتان تستوجبانَ شكر مَن أولاهما. ومن مظاهر شكرهما الإنفاق الذي يدور عليه محور الآية الكريمة. وجاء التعبير ب (أُولِي الْقُرْبَى) - (وَالْمَسَاكِينَ) - (وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . وهي أوصاف تثير في النفس شعوَر العطف والحنان. ثم يأتى قولَه تعالىَ: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) . . حاثاً النفوس حتى لايعوقها عن الإنفاق عائق. ويأتى قوله تعالى: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) حاثاً المؤمنين على المغفرة. . وكانت (أَلَا) مهيئةَ الشعور لهذاَ الترغيب والعرض الجميل. ومَن الذي يغفر؟ الله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . إن السامع لهذه الكلمات يشعر بالأمن يملأ جوانب نفسه. وبالمغفرة تمحو كل خطاياه فينطلق منفقاً في السر والعلانية. ومثله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 والآيتان دعوة إلى التمسك بالدين وآدابه. وقد خدمت الألفاظ الفكرة المرجوة من النص خدمة جليلة: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) - (نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) - (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) - (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) - (أَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) - (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) - (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) - (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) - (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) . كلمات مفصلات لمواقف تتطلبها. . ومعان تشع منها. ومثله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) . وهذا النص كسابقه يتسلل إلى خفايا النفوس بندائه الذين آمنوا في المطلع. والعرض اللطيف في: (هَلْ أَدُلُّكُمْ) ، وتمثيل الأعمال الصالحة بالتجارة التى تنجى من عذاب أليم، ويذكر الإيمان بالله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. والحكم على هذه الأعمال بأنها خير للمخاطبين يدركون خيرها لو حصلت لهم أسباب العلم النافع. ثم انظر إلى الجزاء الذي أشارت إليه الآية الأولى: (تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) ، وفصلته الآيتان الأخيرتان: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ثم انظر إلى قمة التشويق والإثارة في قوله: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ. . فالأخرى محبوبة. والنصر من اللهَ لا من غيره. والفتح قريب. وقد أجمل " الأخرى " في صدر الآية ثم فصلها فيما بعدها. وذلك شرط الفخامة وعنصر التشويق. ومن حسن المطلع، وحسن الختام أن النص بدأ بنداء المؤمنين. واختتم ببشارة المؤمنين. ويين النداء والبُشرى جنات ورياحين. ويسلك القرآن هذا المسلك إذا وصف مادحاً. ونكتفى بمثال واحد فيه غناء أيما غناء: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) . صورة بهيجة، ومنظر ضاحك. ترسمه ألفاظ فتبدع في الرسم. وتترك للخيال حرية التصور ذاهباً فيه إلى أبعد مداه. * * * العتاب: والقرآن ينتهج في العتاب نهجاً فريداً. جامعاً فيه بين العذوية والرقة والقوة، وهذان أمران أساسيان في كل عتاب ناجح. لأن العتاب مقام يقتضي نوعين من المعاني والألفاظ لأنه لا يكون إلا عن تقصير أو خطأ. هذا أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 سببيه الأقوى. ولا يكون إلا حين يُرجى من العاتَب عود إلى الجادة. وتوخى الصواب. وعتاب القرآن الذي يهمنا هنا نوعان: أولهما: عتاب الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ثانيهما : عتاب المؤمنين. وفي كِلا النوعين جاء عتابه ناجحاً. لاشتماله على الخاصتين المذكورتين: تذكير قاس بما كان مما استوجب العتاب. وإغراء على الرجوع إلى الحق والحث عليه بما يُثيره النص من بوارق الأمل وأسباب العفو. * عتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: فمن عتاب الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) . وهذا أقصى عتاب وجَّهه الله لرسوله عليه السلام. وبَيَّنَ له فيه كثيراً من الحقائق، وفي هذا العتاب - مع قسوته - اشتمل القرآن على كثير مما يخففه. ويُبين حُسن نية الرسول عليه السلام فيما بدر منه حين أعرض عن عبد الله ابن أم مكتوم وأقبل على وفد قريش يحاورهم. فقد خفف من قسوة هذا العتاب أن الله لم يسند العبوس والتولي للرسول مواجهاً له به فجاء مُسنَداً إليه على طريقة الغيبة: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) ، ولم يقل له: عبستَ وتوليتَ وهو مقتضى الحال. ترقيقاً له في العتاب حتى لكأنَّ العابس والمتولي شخص آخر غير محمد عليه السلام. والجمهور يسمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 هذا السلوك القولي: وضع الغيبة موضع الخطاب. ويسميه السكاكى: التفاتاً، إذ لا يُشترط أن يسبقه التعبير بواحد من طرقة الثلاثة، وأياً كان الخلاف بينهم فإن المؤدى واحد هو كراهة إسناد ما لا يليق بالرسول على سبيل الخطاب. وخفف منه - أيضاً - أن القرآن أبان أن ما حدث من الرسول لم يكن لغرض شخصى بل لباعث من بواعث الرسالة التي جاء بها. وهو حرصه الشديد على هداية هؤلاء الناس فكأنه أراد أن يستميلهم بحديثه وإقباله عليهم. أما ابن أم مكتوم فمؤمن لا يتأثر بمثل هذه الأعمال التي بدرت من الرسول عليه السلام لمصلحة دينية توقعها هو. ولطف العتاب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر ملحوظ في القرآن انظر إليه يقول: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)) . فَمبالغة في لطف عتاب الله له. صدَّرَ العتاب بالعفو من أول الأَمَر. وقُدًم على ما استحق من أجله العتاب: (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ، وأن العتاب الرقيق يدل على عظم منزلة المعاتَب عند المعاتِب، أن يَبادره بالعفو. ثم يأخذ معه في بيان ما خالف فيه مما ينبغى ألا يكون. . وقد غلا الزمخشري في توجيه هذه الآية حيث قال: (عَفَا اللهُ عَنكَ) كناية عن الجناية، لأن العفو رادف لها. ومعناه: اخطأتَ وبئس ما فعلتَ. وغلوه في هذا التوجيه ظاهر. لأنه حفل الكلمة ما ليس من طبيعتها وصرخ بما لم يصرخ به الله في كتابه، ولو كان هذا الذي يقوله الزمخشري مطلوباً لله من هذه الآية لما منع مانع من ذكره. ولو أنه فسَّر قوله تعالى: (لمَ أَذنتَ لهُمْ) بما قاله في تفسير: (عَفَاَ اللهُ عَنكَ) لكان لقوله شُبهة قبولَ لأن (لمَ أَذنتَ لهُمْ) هو موضوع المخالفة. وقد تعقب ابن المنير قول الزمخشري، وخطأه فيه. ثم قال: " ولقد أحسن مَن قال في هذه الآية: إن من لطف الله تعالى بنبيه أن بدأ بالعفو قبل العتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ولو قال له ابتداءً: (لِمَ أَذنتَ لهُمْ) لتفطر قلبه عليه السلام. فمثل هذا الأدب يجب احتذاؤه في حق سَيد البَشر عليه الصلاة والسلام ". * * * عتاب المؤمنين: وجاء في عتاب المؤمنين حين خاضوا في حديث الإفك ولم يتثبتوا: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) . وفي هذا النص الحكيم تتعانق مظاهر القسوة مع اللين. والخوف مع الرجاء. والصفح مع العقاب. . فقد وردت في هذا النص هذه الكلمات: (الإفْك) - (الإثْم) - (تَوَلَّى كبْرَهُ) - (عَذَابٌ عَظِيمٌ) - (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) - (إفْكٌ مبينٌ) - َ (لَوْلَا جَاءُوا عَليْه) - (فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) - (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) - (أن تَعُودُواْ لِمِثلِهِ أبَدَاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وهذه كلها كلمات عامرات بقذائفها. لأن الذنب الذي ارتكبوه عظيم الأثر. إذ المرمى به أُمَّ من أُمهات المؤمنين. وزوج النبي الكريم. فهذا اجتراء على الله وعلى رسوله -. وعلى المحصنات المؤمنات الغافلات. لذلك كله جاءت مظاهر العنف في هذا العتاب بالغة القوة. ووجهت إليهم الجناية من طرق عديدة. ولأن الخطاب مع مؤمنين. ويُرجى منهم الخير والعودة إلى سواء السبيل. خففت حدة هذا العتاب. فسرت فيه روح الأمل وأخرجته من الوعيد إلى العتب المرجو منه التوجيه والإثابة. الْظر إلى هذه الإشراقات: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) - (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لكُمْ) - (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) - (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ) - والتَعبير بالمس دون غيره تخفيف من اللهَ في العتاب - (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا) (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) . * * * التشريع: أما في التشريع فإن اللفظ القرآني يأتى وسطاً بين النوعين إلا أن يقتضي المقام عنفاً أو لطافة. ولنذكر مثالاً للنص التشريعي في القرآن الكريم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) . هذا نص تشريعي خالص أدى بكلمات هادئة - كما ترى - حتى في مواضع الإثارة من النص فأنت ترى فيه هذه التعبيرات وهي في مواطن الإثارة والحث على عمل الخير: (لعَلكُمْ تَتقُونَ) - (فَمَن تَطوع خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) - (وأن تَصُومُواْ خَيْرٌ لكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلمُونَ) - (وَلعَلكُمْ تَشْكُرُونَ) . وصفوة القول في ذلك أن ألفاظ القرآن فضلاً عن اختيارها وروعتها فى أنفسها تأتى ملائمة للمقام الذي وردت فيه. ولو أدرتَ اللغة من ألفها إلى يائها لتضع موضع اللفظ آخر يسد مسده من كل الوجوه رجوتَ مستحيلاً. وعُدتَ كليلاً. أما خواص اللفظ القرآني من حيث التعبير، بعد انتقائه في نفسه، وإصابته المقتل في الدلالة على معناه. . فإننا منذ الآن يجدر أن نصطلح على نظرية نحن بصدد التدليل عليها. وهذه النظرية هي: * منهج الالتزام: ولهذه النظرية عدة جوانب: فمن التفرقة الدقيقة بين الألفاظ واستعمال كل لفظ في معنى دون غيره مع استعمال نظيره فيه دون ما خلط بين استعمال اللفظين. وهذا المنهج غير مألوف في أساليب الناس، وقد تقع تلك التفرقة الدقيقة بين الألفاظ في استعمالات المادة الواحدة كأن يختص استعمالها فعلاً فى معنى ويطرد ذلك الاستعمال فيه. ويختص استعمالها اسماً في معنى آخر كذلك. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 إلى التزام جمع الكلمة دون أن يأتى منها مفرد أو مثنى. أو التزامها مفردة دون أن يستعملها مجموعة أو مثناة. أو التزام استعمالها منفية. ولم ترد فيه مثبتة بحال من الأحوال. إلى غير ذلك من الاعتبارات مما لا يقع تحت حصر إلا باستقراء الألفاظ القرآنية كلها في بحث متخصص في هذه الناحية. وهذا إجمال لا بدَّ له من تفصيل. وسنحاول عند التنبيه على هذه الخصائص فى نماذجها توجيه هذا السلوك بقدر ما يهدى إليه النظر. مفوضين علم ذلك إلى الله فهو وحده المستأثر بأسرار كتابه. - التزام الجمع: فقد التزم القرآن جمع كلمتى: " الأرجاء " و " الألباب ". ولم يأت منهما بمفرد ولا بمثنى. قال: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) . وقال: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) . - التزام الإفراد: والتزم الإفراد في كلمة " الأرض " في كل موضع ذكِرَت فيه. وما أكثر مواضع ذكرها فيه مصاحبة للسماء. أو السموات. وهي سواء أفردت السماء أو جُمِعتَ مذكورة معها فإن الإفراد هو طابعها في كل موضع. قال: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) . وقال (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وحين يريد القرآن صيغة الجمع من الأرض فإنه لا يخرج عن مبدأ هذا الالتزام فيأتى بالأرض مفردة. ويدل على الجمع منها بالوصف. قال: (وَمِنَ الأرْضِ مِثْلهُن) . أي مثل السموات سبع أرضين. وقال: (وَفِى الأرْضِ قِطعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ. . .) . ومما التزم فيه صيغة الجمع كلمة " أكواب " وكلمة " الظلمات ". فلم تأت واحدة منهما في موضع منه مثناة أو مفردة. قال: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) . وقال: (فَنَادَى فِى الظُلُمَاَتِ) . وكذلك التزم الجمع في كلمة " الأرائك " قال: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) . وقالَ: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) . وفي مظاهر الكون التزم الإفراد في " الشمس " و " القمر ". و " الضحى " و" النهار ". قال: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) . وقال: (وَالضُحَى (1) وَاللَيْلِ إذَا سَجَى) . ووجه الإفراد في الشمس والقمر ظاهر، إذ لا ثاني لهما في الوجود. والتأمل إنما في الضحى والنهار. فإذا أُريد بالنهار الجمع عدل عن لفظه إلى لفظ " الأيام " قال: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 كذلك التزم الإفراد في لفظ " النور "، عكس التزامه الجمع في لفظ " الظلمات ". والتزم التعريف في كلمتى " الناس " و " الصدور " مجموعاً أو مفرداً. قال: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) . وقال: (يَا أيُّهَا الناسُ إنَّا خَلقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى) . وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) . وقال: (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) . وقال: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) . وقال: (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلَامِ) . وقال: (أَلمْ نَشْرَحْ لكَ صَدْرَكَ) . - التزام التنكير: والتزم التنكير في كلمة " شيء " في كل موضع وردت فيه. قال: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . وقال: (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) . وقال: (وَمِن كُل شَىءٍ خَلقْنَا زَوْجَيْنِ لعَلكُمْ تَةَبهرُونَ) . وقال: (فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) . وقال: (. . . لا تَسْألُواْ عَنْ أشْيَاءَ إن تُبْدَ لكُمْ تَسُؤكُمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وقد كثر ورود هذه الكلمة " شيء " في القرآن الكريم، ولا تخرج عن هذا المنهج الذي التزمه القرآن فيها ما دام قد صرح بلفظها الدال عليها. - التزام النفى: وقد التزم القرآن كذلك النفى في كلمة " يشعرون " في كل موضع وردت فيه. فلم يأت إلا في سياق النفى. قال: (وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) . وقال: (لَايَحْطِمَنَّكُمْ سُليَمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) . وهذا النفى كثيراً ما يأتى في مواضع الذم - مثل الآية الأولى - وقليلاً ما يأتى في غيره مثل الآية الثانية. - التزام الإثبات: والتزم الإثبات في بعض الكلمات مثل كلمة " طبع " مستخدماً لها فى موضع الذم في كل موضع وردت فيه. قال: (بَلْ طبَعَ اللهُ عَليْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلا قَلِيلاً) . وسيأتى تفصيل ذلك في فصل المجاز. تلك ملاحظة دقيقة يجدها الباحث فى ألفاظ القرآن. أنها ذات خواص تعبيرية لم تشترك معها فيها أية أساليب أخرى. . * * * وجه آخر لنظرية الالتزام: وللفظ القرآني خاصة أخرى غير الخواص التي ذكرناها غير التزام الجمع أو الإفراد وغير التزام التعريف أو التنكير، وغير التزام النفى أو الإثبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وهذه الخاصة هي أن القرآن يُفرِّق بين الكلمتين المتفقتين في المعنى فيستعمل إحداهما في موضع لا يتعداه. ويستعمل الأخرى في موضع آخر لا يتعداه إلى موضع الأولى. وهما عند الناس - خاصتهم وعامتهم - تستويان في الدلالة فلا يجدون بينهما فرقاً. وقد فطن إلى هذا الملحظ الدقيق في ألفاظ القرآن الجاحظ حيث يقول: " وقد يستخف الناس ألفاظاً، ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها. ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن " الجوع " إلا في موضع العقاب أو فى موضع الفقر المدقع. والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون السغب. ويذكرون الجوع في حالة القُدرة والسلامة. وكذلك كلمة " المطر "، لأنك لا تجد القرآن يأتى به إلا في موضع الانتقام * والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث". ولبيان ذلك نقول: * الأب ليس والداً؟ خذ كلمتى " والد " و " أب " واستعرض استعمالات الناس لهما تجد أنهما سواء في الدلالة فهما مترادفتان. فكلا اللفظين يصح إطلاقه على المولود له " الذكر " فهو أب وهو والد. فإذا تتبعتَ استعمالات القرآن لهذين اللفظين تجده مخالفاً لما ألفه الناس وعلمتَ وجه الصواب فيه، والخطأ في غيره. فالقرآن لم يطلق كلمة " الوالد " على الأب الذكر إذا ذكره منفرداً أو مجموعاً جمعاً مقصوداً به الذكور دون الإناث. بل يطلق عليه أو عليهم كلمتي " الأب " و " الآباء " ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام: (قَالُواْ يَا أبَانَا مَالكَ لَا تَأمَنَّا على يُوسُفَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وقوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أبَا أحَد مِن رجَالكُمْ) . وقوله تعالى: (وَإذْ قَالَ إبْراهِيمُ لأبِيهِ) . وهذا في حال الإفراد. وكذلك المواضع التي ورد فيها مجموعاً. ومنها: (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) . وقوله: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) . وقوله: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) . وقوله: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) . وقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) . . وغير ذلك كثير. إذن فكلمة " الأب " هي الأداة المفضَّلة في أسلوب القرآن للدلالة على الذكر أو المذكور. المولود لهم. أما كلمة " الوالد " فلم تُطلق على الذكر المولود له إلا مندرجاً مع الأم " الوالدة "، والقرآن يسلك هذا المسلك في مقام الإحسان إليهما. وصنع المعروف معهما. ومن ذلك قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) . وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) . فالأب - هنا - والد على أسلوب التغليب. لأن الوالد الحقيقي هي الأم. وحفاظاً على هذه الدقة في اللفظ القرآني. نرى القرآن عندما استدعى المقام معنى " الولادة " لكونه سبباً في حكم شرعى نراه - أي القرآن - قد عدل عن اسم الفاعل: " والد " إلى اسم المفعول: " مولود له " فقال: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) . * * * ملحظان هامان: وهذه الآية تفيدنا من ناحيتين: أولاهما: أن القرآن أتى باسم المفعول مكنياً به عن الأب على وجه الحقيقة لأن الأب مولود له حقيقة. وليس بوالد. وذلك في موضعين منها: (وَعَلى المولودَ لهُ) . ثم: (وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) . ثانيتهما: أنه أتى باسم الفاعل المؤنث في الدلالة على الأم على وجه الحقيقة لأنها والدة فعلاً. وذلك في موضعين منها كذلك: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ) . ثم: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلدِهَا) . فالأب في جميع الأحوال ليس والداً، وإنما هو مولود له. وهذه لغة التنزيل التي تكاد تخلو من ظاهرة الترادف في هذه المواضع. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 * اعتراض مدفوع: ولا يقدح في هذه القاعدة قوله تعالى: (. . لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا) . لأن الوالد هنا ليَس المراد به الأب وحده. أو الأم وحدها فالسياق مقتض للعموم فهو قريب من أسلوب التغليب الذي أشرنا إليه. حيث غلب فيه جانب الوالدية على المولودية. . فأطلق " الوالدان " عليهما. * * * والوالدة. . أب؟! وإذ كان الأب " والداً " على أسلوب التغليب. فإن الوالدة - كذلك - أب على أسلوب التغليب. قال تعالى: (وَوَرثَهُ أَبَواهُ) . . أي أبوه وأمه. وقال: (وَرَفَعَ أبًوَيْه عَلى العَرْشِ) . . أي أبا يوسف وأمه عليهم السلام. فهنا غلب جانبَ الذكورة على جانب الأنوثة فأجرى على الأم وصف " الأبوة " وسر هذا التغليب في الموضعين - فيما يبدو - أن تغليب جانب الأنوثة في مقام الإحسان ملحوظ فيه ضعف الأنثى. فهى بالإحسان أولى. . . وللمعروف أهل. وتغليب جانب الذكورة في جانب الإرث فلأن الأب الذكر أقوى من الأم لأنه عصبة الميت. والذكر - غالباً - حظه من الإرث مثل حظ الأنثيين. * سر التغليب: فالتغليب في كل من الموضعين جار على نسق حكيم - كما ترى - فصاحب الجانب الأقوى في المقام المسوق من أجله الكلام هو صاحب الجهة الغلبة المطوي معها الجانب الأضعف. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 * النعمة ليست نعيماً: النعمة في القرآن خاصة بما أنعم الله به على عباده في الدنيا لا الآخرة. . سواء أكانت خيراً مادياً كالمال والجاه والصحة. أو هداية وإرشاداً إلى الصواب والتوفيق للعمل به، وقد جاء بهذا المعنى في تسعة وأربعين موضعاً. مضافة إلى الله - سبحانه - أو إلى ضميره أو مقطوعة عن تلك الإضافة لكنها منسوبة إلى الله بطريق آخر من طرق التعبير غير الإضافة. ولنذكر بعض مواضعها مشيرين إلى ما بقى منها: قال: (اذكُرُواْ نعْمَتِىَ التِى أَنْعَمْتُ عَليْكُمْ) ، وجاءت فيها فى موضعين آخرين وهما آيَتا (47 - 122) . وقال: (رَبً أوْزِعْنِى أَنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِى أَنْعَمْتَ عَليَّ) . وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) . وقال: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) . وقال: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) . وقال: (وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمه اذكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَليْكُمْ) . وقال: (وَإن تَعُدُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) . وقال: (واشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 هذه عشرة مواضع يستخدم فيها القرآن " النعمة " مراداً بها ما أنعم الله به فى الدنيا وهكذا في جميع مواضع استعمالات هذه الكلمة سواء أكانت مفتوحة النون. أو مكسورتها. ْوالجمع فيها مثل المفرد. قال: (وَأسْبَغَ عَليْكُمْ نعَمَهُ ظاهرَةً وَبَاطِنَةً) . وقال: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُم اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لبَاسَ الجُوع وَالخَوْف) . وقال: (شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيم) . وكذلك جاءت " نعماء " خاصة بالدنيا في آية هود: (وَلئنْ أذقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ) . أما كلمة " النعيم " فقد أطرد القرآن استعمالها فيما أنعم الله به على عباده المقرَّبين في الآخرة دونما غير ونذكرها على وجه الاستقراء: قال: (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) . وقال: (إن المتقينَ فى جَنات وَنَعِيم) . وقالَ: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) . وقالَ: (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) . وقال: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وقال: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) وقال: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) . وَقال: (نَعيماً وَمُلكاً كَبِيراً) . وقال. (وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وقال: (فى جَنات النعيم) . وقال: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَملواْ الصالحَات فىَ جَنات النعيم) . وقال: (فى جنات النعيمَ) . وَقال: (فى جَناتَ النعَيمِ) . وقال: (لهمْ جَنات النعَيم) . وقال: (واجْعَلنى من وَرثَة جَنة النعيم) . وقال: (إن للمتقينَ عندَ رَبهمْ جَناتِ النعِيم) . وقالَ: (ثُم لتُسْأَلن يَوْمَئِذ عَنِ النعَيم) . لا خلاف بين المفسرين في المراد بـ " النعيم " في هذا المواضع. إلا الموضع الأخير. موضع التكاثر فقد ذهبوا يخصونه بنعم الدنيا وتأولوا ذلك على عدة وجوه. "معنى النعيم في " التكاثر ": فبعضهم يرى - كما يذكر الرازى في تفسيره - أن المراد بالنعيم هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعضهم يقول: هو تخفيف الشرائع. أو هو صحة الأبدان. أو هو الطعام والشراب. وقد ذهب بعضهم أن المراد به النعلان اللذان يمشى بهما الإنسان. ولعل هذا الرأي مبعثه أن الله يُحاسب على جلائل النعم وصغائرها. وأمام هذا الحشد الهائل من تعدد الآراء اختارَ الرازى أن يكون المراد به جميع ما أنعم الله به على الناس. قال: " والأولى عندى أنه يجب حمله على جميع النعم. وأن تكون الألف واللام فيه للاستغراق". وخصه الزمخشري بنعيم المترف الذي عكف نفسه على استيفاء اللذات. ولم يعش إلا ليأكل ويشرب ويقطع أوقاته باللهو والطرب. . فأما من تمتع بنعم الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلا لعباده وتقوى بها على دراسة العلم. والقيام بالعمل. وكان ناهضاً بالشكر. فهو عن ذاك بمعزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 والطبرى يخصه كذلك بنعيم الدنيا قال: " ثم ليسألنكم الله عزَّ وجلَّ عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا ماذا عملتم فيه؟ ومن أين وصلتم إليه؟ وفيم أصبتموه "؟. وأنا مع مَن يحمل المراد بالنعيم في آية التكاثر على نعيم الآخرة. جرياً مع العُرف القرآني في استعمال هذه الكلمة على المنهج الذي شرحناه. ولكن ما معنى السؤال - حينئذ - عن نعيم الآخرة؟ الذي يبدو وجيهاً في هذا السؤال " أنه سؤال توبيخ وحسرة ". فقد كان مطلع السورة: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) . ناعياً على هؤلاء حظهم من الحياة الباقية. حيث شغلوا أنفسهم بالدنيَا ورأوا فيها كل متع الحياة. ولم يفيقوا من ضلالهم حتى أنزلهم الموت قبورهم بعد أن ضيعوا على أنفسهم كل مسعى ناجح. وحين يرى هؤلاء ما أعده الله لعباده الطائعين من نعيم مقيم. يسألهم الله عن النعيم الحق. ما هو؟ أهو ما يرونه أمامهم من جنات تجرى من تحتها الأنهار. وحور عين. وولدان مخلدين. فيها ما تشتهيه الأنفس وتقر به الأعين. أم هو ما كانوا يحظون به في الحياة الدنيا من نعمة زائلة. وعرض هالك. . أى النوعين أحرى أن يسمى نعيماً. * مغزى السؤال: وهذا السؤال يحقق غرضين: أولهما: بيان خطأ مسعاهم وضلال ما كانوا به يتمسكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وثانيهما: إدخال الحسرة عليهم حين يرون هذا النعيم الخالد وهم منه محرومون. وليس هذا التوجيه بقريب عن منهج القرآن. أعنى: سؤال الكفار للتقرير والتوييخ فقد ورد في مواضع عدة مما سيكون يوم القيامة. قال سبحانه: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) ؟. وقال موبخاً ومقرراً: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) ؟. * * * والمرأة. . ليست زوجاً: ومثل هذه الكلمات كلمة " امرأة " فإن القرآن يستعملها في المواضع التى تفقد فيها الحياة الزوجية بعض مقوِّماتها. سواء أكان ذلك من جانب الرجل. أو من جانب المرأة، ويؤثر كلمة " الزوج " متى استقامت تلك الحياة. وكذلك إذا انفصمت عرى الزوجية بموت وما أشبه الموت. ولنذكر النصوص الواردة في ذلك: قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) . وقال: (وَإن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالةً أَوِ امْرَأُةٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وقال: (وَإن امْرَأة خَافَتْ من بَعْلهَا نُشُوزاً أوْ إعْرَاضاً فَلَا جُنَاحَ عَليْهِمَا) . وقال: (وَقَالَ نسْوَة في المدينَة امْرَأتُ العَزيز تُرَاودُ فَتَاهَا عَن نفْسِه) . وقاَل: (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) . وقال: (إنًى وَجَدت امْرَأةً تَمْلِكُهُمْ وَأوتِيَتْ مِن كُلً شَىْء) . وقال: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) . وقال: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) . وقال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) . وقال: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلذِينَ آمَنُواْ امْرَأتَ فرْعَوْنَ) . وقال: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) . وقال: (إنَّا مُنَجوكَ وَأهْلكَ إلا امْرَأتَكَ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ) . وقال: (فَأنجَيْنَاهُ وَأهْلهُ إلا امْرَأتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ) . وقال: (وَامْرَأتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناهَا بِإِسْحَاقَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وقال: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) . وقال: (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) . وقال: (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) . وقال: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) . وقال: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) . وقال: (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) . وقال: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) . وقال: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) . وقال: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) . وقال: (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ) . * * * * استعمال كلمة " المرأة ": هذه مواضع استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم. وقد سبق لنا القول بأن القرآن يؤثر استعمالها إذا فقدت الحياة الزوجية بعض مقوَماتها. أو مقوماتها كلها. وهذه الآيات يمكن تصنيفها من حيث الأساس الذي بيناه إلى المجموعات الآتية: الأولى: أن يُفرق الموت بين الزوجين كما في آية " امرأة عمران " لأن قولها: (إنى نَذَرْتُ لكَ مَا فِى بَطنِى مُحَرراً) كان بعد موت زوجها عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الثانية: ألا يكون للمرأة زوج أصلاً. كما في قصة بلقيس وبنتي شعيب وذلك واضح. الثالثة: أن يكون العُقم هو الملاحَظ في الحديث. كما في امرأة العزيز وامرأة زكريا عليه السلام. الرابعة: أن يكون الاختلاف في الدين هو السبب الداعي إلى عدم اعتبار الحياة الزوجية قائمة من كل الوجوه كامرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون. الخامسة: أن تكون الخلافات الزوجية هي السبب وهي في قوله تعالى: (وَإنِ امْرَأةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً) . السادسة: أن يكون الحديث عنها ليس باعتبارها زوجة لأحد، بل باعتبار حقيقتها المقابلة لحقيقة الرجل. مثل: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) . السابعة: أن يكون الزوجان ممن يحادون الله ورسوله. فكأن القرآن - هنا - يعتبر الروابط الزوجية غير قائمة بينهما. وذلك في قوله تعالى: (وَامْرَأتُهُ حَمَّالةَ الحَطبِ) . * * * * شُبهة وردها: هذه طريقة القرآن في استعمال كلمة " امرأة ". . لكن الباحث قد يعثر فى آيات الكتاب على استعمال كلمة " زوج " مكان " امرأة ". مع وجود ما يهدد الروابط الزوجية أو يفيد عدم قيامها مثل قوله تعالى: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) . ومثل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) . فيقع في الظن أن كلمة " امرأة " لا تُستعمل إلا في المواضع التي يعترى الزوجية فيها خلاف أو سبب مما ذكرناه. أما " زوج " فتستعمل في الموضعين جميعاً. والذي أراه أن هذا الاحتمال مدفوع لإمكان توجيه النصوص المخالفة على وجوه تطرد بها القاعدة. ففى نصح الرسول عليه السلام لزيد حين دَبَّ الخلاف بينه ويين زينب كَرِهَ الرسول ذلك الخلاف واعتبره كأن لم يكن ونصحه بالتمسك بها. وما دمنا قد عرفنا طريقة القرآن في استعمال كلمة " امرأة " فإنه لا يسوغ فيه أن يقال: " أمسك عليك امرأتك " لما بين هاتين الكلمتين: " أمسك " و " امرأة " من جفاء. وأما قوله تعالى: (وَيَذَرُون أزْواجاً) فذلك في مقام " الجمع " وحديثنا فى مقام الإفراد وإنما أوثر جمع " زوج " على جمع " امرأة " لأن الثانية " امرأة " لم يستعمل لها جمع لثقله. وبهذا تطرد القاعدةِ، وتأكيداً لهذه الاعتبارات نسوق قوله تعالى: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) . والشاهد أن امرأة زكريا حين أصبحت صالحة للإنجاب آثر القرآن أن يطلق عليها " زوجه " دون " امرأته " وكانت " امرأة " إذ كانت " عاقراً ". * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 * استعمال كلمة " زوج ": ولعل السر البياني في كل أؤلئك أن ضَنَّ القرآن بكلمة " زوج " فى المقامات التي يسود فيها الحياة الزوجية ما يجعلها قليلة الإثمار لأن هذه الكلمة نفسها تدل على " الزوجية " لأنها ما سميت زوجاً إلا مضافاً إليها الرجل وما سمى الرجل زوجاً إلا مضافة إليه هي. ودبيب الخلاف ينافى هذا الاعتبار. أما "امرأة " فهى خالية من تلك الدلالة إذ هي إطلاق عليها باعتبار حقيقتها المقابلة لحقيقة الرجل. * * * 4 - النغم القرآني: تقدم الحديث عن هذه الخاصة متفرقاً في ثنايا الموضوعات السابقة ولا سيما فى بحث الفواصل. وما نذكره الآن وصف عام لأسلوب القرآن الكريم. من حيث موسيقاه ونغمه الصوتى. وهي خاصة فريدة لم يُشركه فيها غيره على الإطلاق. وهذه الخاصة أتاحت قراءة القرآن مرتلاً مجوداً. * دعائم النغم القرآني: وقد ساعد على روعة النغم القرآني - أو الإيقاع الصوتى لألفاظه - عوامل أهمها: أولاً: فواتح سوره مثل: (الَم) ومثل: (يَا أيُّهَا الناسُ) ومثل: (حم) ومثل: (سُبْحَانَ الَّذِي أسْرَى بعَبْدِهِ) . ثانياً: فواصل الآيات. مثل: (يَعْلمُونَ) ومثل: (يُؤمنُونَ) ، (عَصِيَاً) ومثل: (نَجِيَاً) ومثل: (مُنْبَثا) و (ثَلَاثَة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ثالثاً: أدب تلاوته من مد وإدغام وغن وقلقلة ووصل ووقف وإظهار وإخفاء وتفخيم وترقيق. . . إلخ. رابعاً: بناء جمله بناءً موسيقياً شجياً من تقابل بين الكلمات، وتساوٍ بينها فى الحروف. مثل: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) . فبين كل كلمة وأخرى تقابل موسيقى في عدد الكلمات والحروف والحركات. خامساً: والعبارات تتألف من جُمل ليست مرسلة تماماً، ولا مسجوعة تماماً. إذ ليس في آخرها قرائن ولا تخلو من التقسيم الذي يشبه جُمل السجع. وهذا البناء الفريد لكلمات وجُمل القرآن وفقره وسوره، جعله يمتاز بخاصة سما بها فوق النثر الفنى. والكلام المنظوم. فليس هو بواحد منهما: ليس شعراً لأنه ليس على مناهج الشعر من بحور وتفاعيل وعلل وزحاف. وليس نثرا مما اعتاد الناس حذقه لأنه يباين طرقهم في التعبير وأخذهم في فنون القول. والنثر وإن اشترك معه في بعض الظاهر كالسجع والإرسال فإنه دونه بمراحل. * * "أثر هذه الخصائص في التسمية: وهذه الخصائص جعلت الدكتور طه حسين يعد القرآن، نمطاً ثالثا فوق الشعر وفوق النثر. فهو " قرآن ". فإطلاق هذه اللفظة عليه: " قرآن " كاف في تحديده عما سواه. وتمييزه من فنون القول الأخرى. وهذا نصه: " إن القرآن ليس نثراً، كما إنه ليس شِعراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 إنما هو قرآن ولا يمكن أن يسمى بغير هذا الاسم. ليس شِعراً، وهذا واضح فهو لم يتقيد بقيود الشعر، وليس نثراً لأنه مقيد بقيود خاصة به. لا توجد في غيره * وهي القيود التي يتصل بعضها بأواخر الآيات وبعضها بتلك النغمة الموسيقية الخاصة. فهو ليس شعراً ولا نثراً. ولكنه: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) . وأجدنى ميالاً لهذا المذهب الذي يراه الدكتور طه حسين. ويمكن أن نسجل - هنا - فارقاً آخر بين النثر والقرآن. * فرق جديد بين القرآن وغيره: الأدب - عموماً - متأثر بظروف البيئة السياسية والاجتماعية والفكرية التى قيل فيها. وعاش صاحبه أحداثها. ولذلك فأنت ترى لأدب كل عصر خصائصه ومميزاته. وإذا عرف الباحث خصائص أدب كل عصر، استطاع أن يرجع كل ما يقع تحت بصره من نصوص مجهولة القائل والعصر إلى عصرها. أما القرآن الكريم فإنه - بمادته وفكره، وألفاظه وأسلوبه - لا يمثل عصراً من عصور الأدب تأثر بها. واقتبس منها. ودار في فلكها. بل هو سام فى كل عصر بما له من خصائص وسمات. ويختص القرآن الكريم بأن له إيقاعاً صوتياً فريداً سواء المرسل منه والمسجوع، وقد يدق الوزن - أحياناً - حتى يشبه الشعر، وما هو بشِعر، فى بعض أعاريضه وأضربه وفي بحوره المعروفة. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 * مجيئه على تفاعيل الشعر في الظاهر: ومن ذلك: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) . . فقد جاءت هذه الآية على نظام بحر الرمل وتفاعيلهَ: َ فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن. . . فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فإذا جاز لنا أن نُقطع الآية تقطيعاً عروضياً. وجدنا تفاعيلها على النحو الآتى: فعلاتن فاعلاتن. . . فعلاتن فاعلاتن فهى - إذن - على غرار مجزوء الرمل، لحذف إحدى تفاعيله من كل شطر. كما نرى أن التفعيلة الأولى حُذِفَ منها الحرف الثاني الساكن. ويسمى هذا " خبناً "، ونلاحظ أن التفعيلة الأولى فيما أشبه الشطرين تساوتا في الحذف الذي سُمِىَ خبناً في عُرف العروضيين أما التفعيلتان الباقيتان فقد سلمتا من جميع ما أطلقوا عليه زحافا أو عِللا. وبهذا قابلت " جفان ": " قدور " من حيث الوحدات الصوتية فيهما. وقابلت " كالجواب ": " راسيات " فيها كذلك. ومن ذلك أيضاً: (وَمَن تَزكى فَإنما يَتَزكى لنَفْسه) . . فقد جاء على مجزوء الخفيف. وتفاعيله كاملاً: ً فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن. . . فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن أما مجزوؤه فيصبح: فاعلاتن مستفع لن. . . فاعلاتن مستفع لن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 هذا باعتبار سلامته من الزحافات والعلل، وتفاعيل الآية كالآتى: فاعلاتن متفع لن. . . فعلاتن متفع لن ومنه أيضاً قوله تعالى: (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) فقد وزنوه على بحر الوافر. وتفاعيله: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن. . . مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن فقد تساوت فيه التفعليتان الثانية والثالثة في الجزء الأول مع نظيرتيهما فى الجزء الثاني. واختلفت الأولى في الجزء الأول مع الأولى في الجزء الثاني حيث جاءت الثانية سليمة من الحذف والإسكان واعترى الأولى بعض ذلك. كما وزنوا قوله سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) . ونسبوه إلى بحر المتقارب. وقوله تعالى: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لمَا تُوعَدُونَ) وقالوا: إنه على غرار بحر السريع. ومما أشبه الشعر أيضاً قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) . وبدهى أن موافقة هذه الآيات لبعض أوزان الشعر لا تُسوَغَ إطلاق كلمة الشعر عليه ولا المواضع التي جاء الشبه فيها. لأن الشعر لا بدَّ من قصد الوزن فيه والقافية والقرآن فوق ذلك. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 * النغم القرآني عند المحدَثين: وقد سطر المرحوم محمد عبد الله دراز في كتابه " النبأ العظيم " فقرات جد رائعة في هذا المجال من الخير أن نجتزئ ما تيسر منها: قال: " دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلاً بنفسه على هوى القرآن وليس نازلاً بالقرآن على هوى نفسه. ثم انتبذ منه مكاناً قصياً " لا تسمع فيه جرس حروفه ولكن تسمع حركاتها وسكناتها. ومداتها وغناتها. واتصالاتها وسكناتها. ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية. وقد جُردت تجريداً. وأرسلت ساذجة في الهواء. فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لوجود هذا التجويد ". وقال: " لا عجب إذن أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنه شِعر لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئاً منها إلا في الشعر. ولا عجب أن ترجع إلى نفسها فتقول: ما هو بشِعر، لأنه - كما قال الوليد - ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده. . ثم لا عجب أن تجعل مرد هذه الحيرة أخيراً إلى أنه ضرب من السحر لأنه جمع بين طرفى الإطلاق والتقييد في حد وسط. فكان لها من النثر جلالته وروعته. ومن الشعر جماله ورونقه ". هذا كلام حق، ووصف دقيق يمسه كل عاقل متأمل في كتاب الله. وقد أثار الكاتب في الجزء الأخير الذي نقلناه عنه قضية لها خطورتها في مجال بحثنا هذا. * مطاعنهم في القرآن. . مبعثها الإعجاب: وهى أن العرب الذين لم يستجيبوا لدعوة الإسلام. وعارضوا الدعوة وصاحبها عليه السلام حين تلمسوا وجوه الطعن في القرآن الكريم لم يخرجوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 عن كونه أساطير الأولين. . . أو سحراً يؤثر. أو رِئياً من الجن، أو هو شِعر. وقالوا مرة: إنما يُعلِّمُه بَشر. ْوهذه النسب - كما زعموا - إنما صاروا إليها لأنهم وجدوا في القرآن عِزة وغرابة فقالوا: إنه سحر أو أساطير الأولين. والسحر - كما هو معروف - يُنسب إليه ما لا تجرى به العادة فدلت هذه النسبة على أنهم كانوا يرون أنفسهم دونه. أما الغرابة التي أحسوها فيه فهى تتمثل في نسبته إلى أساطير الأولين. والأسطورة ذات دلالة غنية من أجلها تتناقلها الأجيال. وما زال العُرف يطلق كلمة أسطورة على كل غريب خارق، أما نسبته إلى الجن فهم كانوا يعتقدون أن للإجادة في فن القول شيطاناً ملهماً. وهذا يفسر لنا - أيضاً - إحساسهم القوى بسمو القرآن وبلوغه حداً في الإعجاز جفَّت دونه الأقلام. وحتى عندما سؤلت لهم أنفسهم أن ينسبوا تعليمه - عليه السلام - إلى بَشر . . نسبوه إلى مَن هو خارج عن بيئتهم، بدليل رد القرآن عليهم: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) . * * * لماذا سموه شِعرا: إنهم حين نسبوه إلى فن من فنونهم لم يتجاوزوا به حد الشعر. فلم يقولوا إنه خطب ولا نثر مسجوع كسجع الكهان. لم يقولوا شيئاً من ذَلك. وإنما قالوا هو شِعر. والعِلَّة واضحة هي ما لمسوه فيه من إيقاع موسيقى شجى. ونغم صوتى ساحر يحسونه ويتذوقونه ويسجدون إعجاباً به بينهم وبين أنفسهم وإن عاندوا وكابروا ظاهراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وللشعر في دولتهم دولة. وفي حياتهم حياة. وهذه النسبة - كذلك - ترينا - أحبوا أم كرهوا - ما للقرآن عندهم وفي قرارة أنفسهم من منزلة صغروا أمامها. ونبأت طعونهم عنها من حيث لا يشعرون. والخلاصة. . . أن قريشاً حين أرادت أن تنفى عن القرآن كونه وحياً من عند الله لم تنسبه إلا إلى ما تدين له أنفسهم بالولاء لأنه فوق الطاقة بعزته وغرابته. وما من شأنه أن يستولى على شعور الناس ويأسر ألبابهم. * * * خاصتان بارزتان: فى القرآن خاصتان صوتيتان بارزتان. هما: الإطلاق والتقييد، أو الإرسال من القيود والتسجيع. في القرآن إرسال. وفيه سجع. ولا يتنافى هذا مع جلال القرآن وإعجازه. لأن إطلاقه فريد لم يأت إلا فيه. وسجعه - كذلك - فريد لم يحظ بشرفه غيره. هما مخالفان لا يتناوله الناس من قول. القرآن يلتزم حرف السجع في أكثر من موضعين متجاورين. وهو أدنى حد للسجع وقد يأتى بالسورة كلها مسجوعة على حرف واحد خذ - مثلاً - سورة القمر، تجد أنها مسجوعة على حرف الراء من أول آية فيها حتى آخر آية: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) . . إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وقد جاءت في سورة " عبس " عشر آيات مسجوعة على حرف واحد هو " الألف " كما لازم حرف السجع فيها قصر الآيات وجزالة الألفاظ. لأن المقام مقام عتاب وتوجيه. * * *. * النغم في الآيات القصار: وتزداد ظاهرة الإيقاع الصوتى في القرآن وضوحاً إذا قصرت الآيات وكان السجع ملحوظاً في فواصلها. وقد تفصل جمل السجع بجملة غير مسجوعة. أو جمل. ويلحظ ألباحث - أحياناً - في الجملة غير المسجوعة التي توسطت جملاً مسجوعة معنى خاصاً أبرزها في ذلك المظهر الفريد بين أخوات لها وأشباه. ولننظر في النص الآتى من سورة عبس: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) . فى هذا النص الحكيم جاءت كلمة " طعامه " فاصلة بين مجموعتين من الآيات. الأولى مسجوعة على حرف واحد هو الهاء. والأخرى مسجوعة على الألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وحرف السجع في النوعين قد يلتزم معه حرف آخر يزيد به الإيقاع وضوحاً. والنظر في النص كان لإدراك هذا الملحظ. كذلك فإن كلمات السجع قد تتساوى في الوزن من حيث عدد الحروف والحركات والسكنات، ولعل السر في الفصل بين هاتين المجموعتين المسجوعتين بالفاصلة " طعامه " مع آيتها لأن هذه الآية رأس موضوع جديد وإجمال مشوق أعقبه تفصيل حكيم: (فَليَنظرِ الإنسَانُ إلى طعَامِهِ) ؟ هذه إثارة وتهيئة للشعور حتى يخلو من كل شاغل يلهيه عن تقرير واستيعاب شرح هذه الفكرة. * مراحل إعداد الطعام: وقد صدرت هذه الإثارة بلام الأمر ولفت الأنظار لفتاً قوياً إلى الطعام الذى هو عند الإنسان قوام حياته وضسان أمنه وعدة مستقبله. فهذا التباين في المعنى حمل - والله أعلم - على التباين في اللفظ. ثم جاءت الآيات تترى واحدة إثر أخرى تبين مراحل إعداد الطعام. بادئة بالمرحلة الأم: (أَنا صبَبْنَا الماءَ صَباً) والتعبير ب " الصب " موح بكثرة الماء النازل من السماء لتحيا به الأرض وتنبت من كل زوج بهيج. ثم ثنت بالمرحلة الثانية: (ثُم شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقَاً) والتعبير بحرف العطف " ثم " دون غيره من حروف العطف صنع حكيم؛ لأن انشقاق الأرض بالنبات لا يكون عقب صب الماء مباشرة بل هناك زمن فاصل بين المرحلتين فجاءت " ثم " لإفادة الترتيب مع التراخى اللازم. ثم كانت المرحل الثالثة: (فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَباً) وبين هذه المراحل الثلاث ترتيب في الوجود كما رتبت في الأسلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ولما كان إنبات الحَب وما أشبه يُرى إثر انشقاق الأرض لأنها لا تنشق إلا به، وكان الفاصل بينهما دقيقاً إلى درجة التلازم في الوجود جاء حرف العطف " الفاء " المفيد للتعقيب مع الترتيب. وبهذا تنتهى مراحل إعداد الطعام الثلاث. ولما كان العطف فيما بقى ليس عطف مرحلة على مرحلة. وإنما عطف جزء من المرحلة - الأخيرة - على جزء آخر منها. وهذه الأجزاء لا يتصور فيها سابق ولا لاحق بل قد تنبت متصاحبة أو متفرقة دون أن يكون لتفرقها في الإنبات دور وعظي تؤديه. لهذه الاعتبارات كلها كان حرف العطف " الواو " إذ هى أليق بالمقام لأنها لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً ولا تراخياً. بل هي - كما هو معلوم - لمجرد العطف. وفي تقديم الحَب على النِعَم المذكورة معه. وجعله أصلاً صالحاً للعطف عليه سر دقيق. ذلك لأن الحَب يُصنع منه الخبز وهو أهم ما يعتمد عليه الإنسان فى حياته وحفظها. أما الأخرى فهى نعم - وإن كان لها دور كبير في حياة الإنسان - فإنها دونه. وكما خولف في فاصلة رأس الموضوع: (فَليَنظر الإنسَانُ إلى طعَامه) خولف - كذلك - في نهايته: (متَاعاً لكُمْ وَلأنْعَامَكُمْ) . * * * مشاهد مطوية: وانتهت مراحل إعداد الطعام عند هذا الحد. ولم يدخل فيها جمع الزرع وحصده. . . ودرسه وتذريته ثم طحنه وخبزه. وهذه خطوات سابقة ضرورة لانتفاع الإنسان بما يطعم. لكن القرآن طوى ذكرها ولم يتعرض لها. والسر: أن هذه الخطوات إنما يقوم بها الإنسان نفسه. وليست من مراحل التكوين بل هي مراحل ثانوية مختصة بتهيئة " الذوات " بعد تكوينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وإيجادها وغرضها إدخال صفات عليها تجعلها قابلة للانتفاع بها فهى مراحلها النهائية. وبعد هذا البيان الراشد. نجد أنفسنا أمام رأس موضوع آخر. وإجمال أعقبه تفصيل كذلك. * * "مشهد أخروى مثير: (فَإذَا جَاءَت الصَّاخةُ) وقد صنع بفاصلته كما صنع بفاصلة رأس الموضوع السابق. فجَاءت مخالفة لما سبق وما لحق. ثم سلك القرآن في تفصيله وبيانه. مثل ما سلك فهى تفصيل وييان رأس الموضوع السابق. آيات كاشفة ذات وزن متحد - تقريباً - وفواصل متحدة موزونة زنة واحدة كذلك. وقد جاء هذا التفصيل في مجموعتين من الآيات. كل منهما تُصور جانباً خاصاً. المجموعة الأولى: تتحدث عما ينتاب الناس - جميعاً - من أهوال تزول تحت وطأتها الروابط الوثيقة التي كانت بينهم في الحياة الدنيا. والمجموعة الثانية: تتحدث عن صفات الفريقين التي سيصير إليها الناس. حسب ما قدموه من أعمال: صالحين، وطالحين. وقد اختصت كل من المجموعتين بفاصلة خاصة. الأولى كانت فاصلتها " هاء المفرد الغائب " تالية لحرف مد " الياء " وهي: " أخيه - أبيه - بنيه - يغنيه ". والثانية جاءت فاصلتها " التاء المربوطة " تالية للراء المفتوحة. وهي: "مسفرة - مستبشرة - غبرة - قترة - الكفرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فانظر لهذه السياسة الحكيمة في بناء الأسلوب. والملاءمة التامة بين ألفاظه ومعانيه وتوزيع الحركات والسكنات على نهج فريد، " يُدرَك بالذوق والحس. ولا تحده الرسوم ولا الضوابط ". * * * * هندسة الجمل: وقد تكون الجملتان المسجوعتان متوازنتين في القصر، كما فىِ مطلع سورة " التكويرِ ": (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) . وكما في مطلع سورة " الواقعة ": (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) . وقد يكون التوازن بينهما في الطول، ومرسلتان في ما عدا الفواصل. وهما فى إرسالهما مخالفتان لرسل الناس لوجود الفاصلة المتحدة أو المتماثلة فى آخرها. ومن هذا النوع أغلب آى القرآن الكريم. * * * ثلاث فواصل متحدة: ومنه مثلاً قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 هذه ثلاث آيات اتحدت فواصلها فجاءت كلمة واحدة: (رَبِّ العَالمينَ) ومع هذا التكرار في الفاصلة لم تحس في التعبير إلا جمالاً وجدة خرجَ معها التكرار مخرج الجودة والحسن. نعم. . الفاصلة متحدة لفظاً ومعنى في المواضع الثلاثة. ولكن ما قبل الفاصلة مختلف من موضع إلى آخر. ففى الآية الأولى جاءت: (رَبِّ العَالمينَ) بدلاً، أو صفة لاسم الجلالة. وهى على كلا الاحتمالين مرفوعة الصدر. وفي الموضع الثاني جاءت مجرورة علمِهما أيضاً، وكذلك في الموضع الثالث. هذا من حيث ضبطها في اللفظ. وأما من حيث تعلقها مع ما جاءت بدلاً منه أوصفة له. ففيه سر آسر. فى الأولى: (فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ) . وفي الثانية: (الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ) . وفي الثالثة: (وَأُمْرِتُ أُنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالمِينَ) . والمتأمل يجد بين المواضع الثلاثة تسلسلاً مرتباً ترتيب المسبب على السبب فالتبارك مستوجب للحمد ومَن تحقق له هذان الغرضان وشعر بعظمة الله وفضائله وحمده عليها وجب أن يسلم له ويخضع لإرادته. وهذا التغاير فى المعنى هو موطن السر في خفة روح التكرار فيه وخلابة أثره لفظاً ومعنى. وهذه الجدة في المواضع الثلاثة وقفت أمام كثير من الأهواء الزائفة التي تتخذ من صور التكرار في القرآن وجوهاً للطعن فيه. ونحن نعلم أن التكرار غير المفصول بين مواضعه بفاصل طويل. يعد عيباً من عيوب القافية. وقد سماه العروضيون " الإيطاء "، لكن هذا العيب لا مفهوم له هنا على رغم ما هو وجيه هناك. لأن التصرف في الشكل إذا تطلبه المعنى كان بعيداً عن كل نقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وقد جاء هذا التكرار في الفاصلة في سورة البقرة في ثلاث آيات متتابعة هى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) . وإن كان لا بدَّ من كلمة - هنا - فإننا نلاحظ: أولاً: أن (يَعْلمُونَ) في الآية الأولى واقعة في حيِّز النفى من حيث الظاهر وإلا فالمقام مقام إثبات إذ هم يعلمون. وإنما شبَّه حالهم لكونهم قد صدر منهم فعل لا يصدر إلا ممن لا يعدم - وهو نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم - بحال مَن لا يعلم وفي الواقع هم عالمون. فنزل علمهم حيث لم ينتفعوا به منزلة الجهل. ثانياً: أن الآية الثانية قد طالت بحيث لا يظهر مع طولها تكرار الفاصلة مع ما قبلها - هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن لفظ " العلم " قد تكرر فيها مرات. لكنه يتردد بين المدوح والمذموم كتعلم السحر. ثم ذكر لفظ، " العلم " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 قبل الفاصلة ليمهد للحكم عليهم فقال: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) . وكون الفاصلة هنا - كذلك - مسلك اقتضته البلاغة، ودعا إليه المعنى توبيخاً لهم وإظهاراً لحقارة ما تعلموه من فن السحر والأباطيل. وجاءت الفاصلة في الآية الثالثة مماثلة للثانية تماماً: (لوْ كَانُواْ يَعْلمُونَ) لأن الآية الثالثة تأكيد لما جاء في عجز الثانية. لذلك اتحدتا في الفاصلة. وهذا - كما سبق - أمر اقتضاه المعنى في المواضع الثلاثة. وهذا شرط حسنها والحرص على الإتيان بها متماثلة. * * * * مغزى الفاصلة معنوي أولاً: قال الزمخشري في كشافه القديم: " إنه لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سدادها على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه - كما لا يحسن تخير اللفظ المونق في السمع، السلس على اللسان إلا مع مجيئه منقاداً للمعاني الصحيحة المنتظمة. فأما أن تهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ وحده. غير منظور فيه إلى مؤداه على بال. فليس من البلاغة فى فتيل أو نقير. ومع ذلك يكون قوله: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) . وقوله: (وَمما رَزَقْنَاهُمْ يُنفقُونَ) لا يتأتى فيه ترك التناسب في العطف بين الجمل الفعَلية إيثاراً للفاصَلة لأن ذلك أمر لفظي لا طائل تحته. إنما هذا إلى قصد الاختصاص ". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 * شمس الدين ابن الحنفى، والفواصل القرآنية: ولما كانت الفواصل تؤدى دوراً مهماً في الإيقاع الصوتى في القرآن الكريم. إلى جانب دورها المهم في تأكيد المعاني وإيضاحه فقد سلك بها مسلك خاص. وقد جمع شمس الدين ابن الحنفى أربعين ملحظاً لغوياً روعيت من أجل المعنى. وكانت أنسب من حيث النغم الصوتى في رءوس الآي.، ونحن نوجز ما ذكره مع تعليق لنا عليه: 1 - تقديم المعمول. إما على العامل نحو: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) . أو على معمول آخر أصله التقديم نحو: (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى) . . والأصل عنده: " لنريك الكبرى من آياتنا " هذا ما يُفهم من كلامه. وإما على الفاعل نحو: (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) وكذلك تقديم خبر كان على اسمها نحو: (وَلمْ يَكُن لَهُ كفُواً أَحَدٌ) . 2 - تقديم ما هو متأخر في الزمان نحو: (فَلِلهِ الآخِرَةُ وَالأْولى) . 3 - تقديم الفاضل على الأفضل نحو: (بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) . 4 - تقديم الضمير على ما يفسره نحو: (فَأَوْجَسَ فِى نَفْسه خيفَةً مُوسَى) . 5 - تقديم الصفة الجملة على الصفة المفردة نحو: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 6 - حذف ياء المنقوص: (الكَبِيرُ المتَعَالِ) و (يَوْمَ التنَادِ) . 7 - حذف ياء الفعل غير المجزوم نحو: (والليْلِ إذا يَسْرِ) . 8 - حذف ياء الإضافة نحو: (فَكَيْفَ كَانَ عَذابِي وَنُذُرِ) . 9 - زيادة حرف المد، مثل: (الظُنُونَا) و (السبيلَا) و (الرسوَلا) قال: ومنه إبقاؤه مع الجازم نحو: (لَا تخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى) و (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى) على القول بأنه نهى. 10 - صرف ما لا ينصرف نحو: (قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ) . 11 - إيثار تذكير اسم الجنس كقوله: (أَعْجَازُ نَخْل منقَعِرٍ) . 12 - إيثار تأنيثه نحو: (أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة) . 13 - الاقتصار على أحد الوجهين الجائزين اللذين قرئ بهما في السبع فى غير ذلك نحو: (فَأُوْلئكَ تَحَرواْ رَشَداً) قال: " ولم يجئ رشداً فى السبع "، وكذا: (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) لأن الفواصل في السورتين محركة الوسط " يقصد أن فتح " الشين والراء " في هذين الموضعين لم يجمع عليهما القراء السبعة وقد جاء خلاف ذلك في غير هذين الموضعين نحو: (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ بضم الراء وسكون الشين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 قال: ونظير ذلك قراءه: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) بفتح الهاء وسكونها، ولم يقرأ: (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) إلا بالفتح لمراعاة الفاصلة. 14 - إيراد الجملة التي رد بها ما قبلها على غير وجه المطابقة في الاسمية والفعلية نحو: (وَمنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنا بالله وَيِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) لم يطاَبق فيقولَ: " لم يؤمنوا " لذلكَ. 15 - إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر كذلك. نحو: (فَليَعْلمَن اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَليْعَلمن الكَاذبِينَ) لم يقل: " كذبوا ". 16 - إيراد أحد جزئ الجملتين على غير الوجه الذي أورد عليه نظيرها من الجملة الأخرى نحو: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَئِكَ هُمُ المتقُونَ) . 17 - إيثار أغرب اللفظين نحو: (تلكَ إذاً قِسْمَة ضيَزى) ، ونحو: (ليُنَبَذَن في الحُطمَةِ) بدل: " جنهم ". وقالَ في المدثر: (سأصْليهِ سَقَرَ) ، وفي سأل: (إنهَا لظى) ، وفي القارعة: (فَأمُهُ هًاوِيَة) لمراعاة الفواصل في كل سورة. 18 - اختصاص كل من المشتركين بموضع نحو: (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) . وفي طه: (إن فِى ذَلكَ لآيَات لأولِى النُّهَى) . 19 - حذف المعقول نعو: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) ، (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ومنه حذف متعلق أفعل التفضيل: (يَعْلمُ السر وَأخْفَى) و (خَيْرٌ وَأَبْقَى) . 20 - الاستغناء بالإفراد عن التثنية نحو: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) 21 - الاستغناء به عن الجمع. نحو: (واجْعَلنَا للمُتقينَ إمَاماً) . ونحو: (إن المتقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) لمَ يقلَ: " أئمة "، ولا "أنهار" كما ورد في غير هذين الموضعين. 22 - الاستغناء بالتثنية عن الإفراد نحو: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) فثنى لأجل الفاصلة، ومثله: (إذ انبَعَثَ أشْقَاهَا) فإنهما رجلان. ولم يقل: " أشقياها " للفاصلة. 23 - الاستغناء بالتثنية عن الجمع نحو قوله: (ذَواتَا أفْنَانٍ) . 23 - الاستغناء بالجمع عن الإفراد نحو: (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ) أى: ولا خلة، فجمع للفاصلة 25 - إجراء غير العاقل مجرى العاقل: (كُل في فَلك يَسْبَحُونَ) و (رَأيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ) 26 - إمالة ما لا يمال كآي طه والنجم. 27 - الإتيان بصيغة المبالغة نحو: " قدير " و " عليم " مع ترك ذلك فى بعض المواضع. ومنه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 28 - إيثار بعض أوصاف المبالغة على بعض. نحو: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) . 29 - الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. نحو: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) . 30 - إيقاع الظاهر موقع الضمير. نحو: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) َ 31 - وقوع مفعول موقع فاعل. نحو: (حِجَاباً مسْتُوراً) أي ساتر. 32 - وقوع فاعل موقع مفعول. نحو: (فَهُوَ في عيشَة راضيَة) ، وقوله: (خُلِقَ مِن ماء دافِقٍ) . 33 - الفصل بين الصفة والموصوف. نحو: (فَجَعَلهُ غُثَاءً أحْوَى) . إن أعرب " أحوى " صفة للمرعى أي حالاً. 34 - إيقاع حرف مكان غيره. نحو: (بَأن رَبَّكَ أوْحَى لهَا) أى إليها. 35 - تأخير الوصف الأبلغ. ومنه: (الرَّحْمَنِ الرحِيم) . وفي هذا الموضع قصور في التعبير. لأن الأولى أن يقول: تأخير الوصف الأبلغ عما هو دونه. 36 - حذف الفاعل ونيابة المفعول. نحو: (وَمَا لأحَد عندَهُ مِن نِّعْمَةً تُجْزَى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 37 - إثبات هاء السكت. نحو: (هَلكَ عَنًى سُلطانيَهْ) . 38 - الجمع ببن المجرورات. نحو: (ثُمَّ لَاْ تَجدُوا لكُمْ عَلَيْنَا به تَبِيعاً) قال: " فإن الأحسن الفصل بينها إلا أن الفاصَلة اقتضت عدمه وَتَأخير تبيعا. 39 - العدول عن صيغة المضى إلى الاستقبال: (فَفَريقاً كَذبْتُمْ وَفَريقاً تَقْتُلونَ) . 40 - تغيير صيغة الكلمة. نحو: (وَطور سينينَ) والأصل: سيناء * * * وقفة ناقدة: الحقيقة التي يجب التسليم بها - ولا بديل لذلك أبداً - أن تحقيق الانسجام الصوتى في القرآن الكريم قد اختص بمثل هذه العوامل. على أن هذه الحقيقة يجب أن تُشفع بحقيقة أخرى. مؤداها: أن هذه التسهيلات لم تكن لرعاية اللفظ على جانب المعنى وإلا ما كنا نرى في آى القرآن مواضع كثيرة - وكثيرة جداً - تركت تلك الرعاية اللفظية وخولف بين الفواصل فيها مع إمكان مجيئها على نسق واحد. فهذه التسهيلات إنما أوفت بحق المعنى كما أوفت بحق اللفظ ولا شك في أن ما كان شأنه كذلك كان بالجودة والحسن أولى. ولنذكر لذلك مثلاً: قال تعالى في سورة الإسراء: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) . جاءت هذه الآية في سياق فاصلتها الراء المسبوَقة بحرف مد. والحجاب يكون ساتراً لا مستوراً، فكان أن يقال: " ساتراً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وهذا أغرى صاحب الملاحظات أن يقول: إن وقوع مفعول مكان فاعل إنما جاء من أجل الرعاية اللفظية. وهذا وهْمٌ. وإنما الداعي إلى ذلك هو المبالغة في قوة المعنى. وأن الحجاب الذي جُعِلَ بين الكافرين وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما يتلوه من آيات بينات. لعدم انتفاعهم بها وشدة نفورهم عنها. كاد يكون لقوة ستره مستوراً. أي أن أثره تعدى موضعه حتى شمل الحجاب نفسه ففى التعبير تخييل على حد قول الشاعر: وَمَا أنَا وَحْدِى قُلتُ ذا الشِعْرَ كلهُ. . . وَلكِنْ لِشِعْرِى فِيكَ مِن نَفْسِهِ آياتُ شِعْرِ ففى العبارة مجاز عقلي. وكذلك يقال في قوله تعالى: (فَهُوَ فِى عِيشَةٍ راضِيَةٍ) مما أطلق عليه: إيقاع فاعل موقع مفعول. وقد ذهب - كذلك إلى أن إجراء غير العاقل مجرى العاقل من أجل رعاية الفاصلة. والواقع يخالفه. لأن العِلَّة في إجرائه هذا الجرى أن أسند إليه من الأعمال ما لا يصدر إلا عن العاقل، وواضح أن السجود والسبح من أعمال العاقلين. ذلك هو السبب. وليس رعاية الفاصلة وحدها كما زعم. والتعبير بهذا الأسلوب فيه تحقيق للمعنى وتقوية. فالسجود المصادر من الشمس والقمر والكواكب مماثل لما يصدر ممن هو أهل له في الفهم والإدراك. والسبح المصادر منهما مماثل لسباحة السباحين الماهرين في السهولة والانبساط والانتظام حيث لا اضطراب فيه. ولا اختلال في سيره. وهذه ظاهرة أسلوبية في القرآن لم تقف عند ما ذكره. فقد جاء فيه عن الأرض والسماء: (قَالتَا أتَيْنَا طائِعِينَ) وغير ذلك كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 على أن بعض المواضع التي ذكرها تبدو عليها سمة الضعف. إذ لا دليل له فيما ذكره من حذف الياء لأجل الفاصلة مستشهداً بقوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) إذن فماذا يصنع بقوله: (ذَلكَ مَا كُنا نَبْغِ) ، وقوله: (مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهتَدِي) وليسا بَرأسيي آية؟ ومثلها في الضعف ما ذكره من تقديم هارون على موسى. وقد ناقشنا هذا فى البحث السابق. بما لا حاجة إلى ذكره هنا. وكذلك ما ذكره دليلا على الفصل بين الصفة والموصوف: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) . حيث جوز أن يكون " أحوى " صفة للمرعى ليسلم له الدليل وما الداعي لذلك؟ ولماذا لا يكون " أحوى " صفة "غثاء"؟ """ " توجيه ابن أبى الإصبع لوضع مماثل: والذي يجب التنبيه عليه هنا - أيضاً - أن القرآن الكريم يُرى - أحياناً - قد سلك مسلكاً يبدو مخالفاً للعرف اللغوي والنحوى حسبما هو مشهور عند العلماء. لكن كل موضع حدث فيه ذلك يتضح من البحث العميق فيه ألا مجافاة ولا مخالفة لغوية ولا نحوية وإنما هو أسلوب محكم قد بدت فيه اللغة فى أسمى ما تكون. ونسوق مثالاً على ذلك: قال الله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 قال ابن أبى الإصبع في توجيه هذه الآية: " فإن على ظاهر هذه الآية إشكالين: أحدهما من جهة الإعراب. والآخر من جهة المعنى. فأما الذي من جهة الإعراب فعطف ما ليس بمجزوم على المجزوم، والذي من جهة المعنى أن صدر الآية يغنى عن فاصلتها لأن توليهم عند القاتلة دليل على الخذلان. . . والخذلان والنصر لا يجتمعان ". " والجواب أن الله سبحانه وتعالى أخبر المؤمنين بأن عدوهم هذا إن قاتلهم انهزم. ثم أراد - وهو أعلم - تكميل القوة بإخبارهم أنه مع توليه الآن لا يُنصر أبداً في الاستقبال. فهو مخذول أبداً ما قاتلهم. فيثق المؤمنون بنصر الله تعالى لهم على هذا العدو. ويتيقنوا أنه متى قاتلهم كان مخذولاً. فيقدموا على لقائه كلما أرادوا ذلك بثبات قلوب، وقوة نفوس. لا يتوقفون في لقائه ولا يخشون مغبة قتاله. ولو وقع الاقتصار على دون الفاصلة لم يوف الكلام بهذا المعنى. لأنه لا يعطى: (وَإن يُقَاتِلوكُمْ يُوَلُوكُمُ الأدبارَ) أنهم متى قاتلوهم كان الأمر ذلك. . . ولا علم سبحانه - وهو أعلم - أن الاقتصار على ما دون الفاصلة لا يُفهم منه دوام هذه البشارة إلى آخر الأبد. والمقصود دوامها قال: (ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) . ومنع الفعل الجزم. وإن عطف على مجزوم ليبقى المعنى الذي وضعت له صيغة المضارع من الدلالة على الحال والاستقبال. فيُعلم أنه أراد - وهو أعلم - أنهم لا يُنصرون في الحال. ولا في الاستقبال. ونوى من الفعل الاستئناف لا العطف على ما تقدم فيُقدر أنه قال: " ثم هم لا يُنصرون ". . وأحسن ما وقع في هذا النظم اختيار لفظة " ثم " دون سائر حروف العطف لا تدل عليه من التراخى والمهلة الملائمة لما قصد من الاستقبال فاتضح المعنى وارتفع الإشكال. وتضمنت هذه اللفظات السبع: ستة عشر ضرباً من البديع: " التعليق، والمطابقة المعنوية، والاحتراس، والتكميل، والتنكيت، والمقارنة، والإيضاح، والإدماج، والترشيح، والإيغال، والإيجاز، والافتنان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وحسن النسق، والتهذيب، وحسن البيان، والمثل السائر ". وأعجب ما وقع فيها أن حرفاً واحداً منها وقع فيه - على انفراده - ثمانية أضرب. والحرف لفظة " ثم " وقع فيها الاحتراس والتنكيت والمقارنة والإيضاح. والإدماج والتكميل. وحسن النسق والترشيح. توجد هذه الضروب بوجودها وتعدم بعدمها. وبيان هذا أنَّا لو قدَّرنا موضعها " الواو " لسقط ذلك كله. وقد فات هذا الموضع ابن الصائغ ولو وقف عليه لسماه: " عطف المرفوع على المجزوم "، كما فات صاحب " البرهان " الذي راح يردد ما قاله متفقاً ومخالفاً. * * * * التكرار: يقع التكرار في القرآن الكريم على وجوه: 1 - مرة يكون المكرر أداة تؤدى وظيفة في الجملة بعد أن تستوفى ركنيها الأساسيين. 2 - وأخرى تتكرر كلمة مع أختها لداع، بحيث تفيد معنى لا يمكن الحصول عليه بدونها. 3 - فاصلة تكرر في سورة واحدة على نمط واحد. 4 - قصة تتكرر في مواضع متعددة مع اختلاف في طرق الصياغة وعرض الفكرة. 5 - بعض الأوامر والنواهي والإرشادات والنصح مما يقرر حكماً شرعياً أو يحث على فضيلة أو ينهى عن رذيلة أو يرغب في خير أو ينفر من شر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وتكرار القرآن في جميع هذه المواضع التي ذكرناها، والتي لم نذكرها، مما يُلحظ عليها سمة التكرار. في هذا كله يباين التكرار القرآني ما يقع في غيره من الأساليب لأن التكرار وهو فن قولى معروف. قد لا يسلم الأسلوب معه من القلق والاضطراب فيكون هدفاً للنقد والطعن. لأن التكرار رخصة في الأسلوب - إذا صح هذا التعبير - والرخص يجب أن تؤتى في حذر ويقظة. * * * وظيفة التكرار في القرآن: مع هذه المزالق كلها جاء التكرار في القرآن الكريم محكماً. وقد ورد فيه كثيراً - فليس فيه موضع قد أخذ عليه - بله دعاوى المغالين فإن بينهم وبين القرآن تارات فهم له أعداء - وإذا أحسنا الفهم لكتاب الله فإن التكرار فيه - مع سلامته من المآخذ والعيوب - يؤدى وظيفتين: أولاهما: من الناحية الدينية. ثانيتهما: من الناحية الأدبية. فالناحية الدينية - باعتبار أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وتشريع - لا يخلو منها فن من فنونه، وأهم ما يؤديه التكرار من الناحية الدينية هو تقرير المكرر وتوكيده وإظهار العناية به ليكون في السلوك أمثل وللاعتقاد أبين. أما الناحية الأدبية فإن دور التكرار فيها متعدد وإن كان الهدف منه فى جميع مواضعه يؤدى إلى تأكيد المعاني وإبرازها في معرض الوضوح والبيان. وليكن حديثنا عنه على حسب المنهج الذي أثبتناه في صدر هذا البحث. "في تكرار الأداة: ومن أمثاتها قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وقوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) . والظاهر من النظر في الآيتين تكرار " إن " فيهما. وهذا الظاهر يقتضي الاكتفاء بـ " إنٌ " الأولى. ولم يطلب إلا خبرها. وهو في الموضعين - أعنى الخبر - " لغفور رحيم " لكن هذا الظاهر خولف وأعيدت " إن " مرة أخرى. ولهذه المخالفة سبب. وهذا السبب هو طول الفصل بين " إن " الأولى وخبرها. وهذا أمر يُشعِر بتنافيه مع الغرض المسوقة من أجله " إن " وهو التوكيد. لهذا اقتضت البلاغة إعادتها لتلحظ النسبة بين الركنين على ما حقها أن تكون عليه من التوكيد. على أن هناك وظيفة أخرى هي: لو أن قارئاً تلا هاتين الآيتين دون أن يكرر فيهما " إن " ثم تلاهما بتكرارها مرة أخرى لظهر له الفرق بين الحالتين: قلب وضعف في الأولى، وتناسق وقوة في الثانية. ومن أجل هذا الطول كررت في قول الشاعر: وَإن امرأ طالتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ. . . عَلى مِثْلِ هَذا إنهُ لكَرِيمُ يقول ابن الأثير رائياً هذا الرأي: ". . . فإذا وردت " إنْ " وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام. فإعادة " إن " أحسن في حكم البلاغة والفصاحة كالذي تقدم من الآيات ". * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 * تكرار الكلمة مع أختها: ومن أمثلتها قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) فقد تكررت " هم " مرتين، الأولى مبتدأ خبرها: " الأخسرون ". والثانية ضمير فصل جيء به لتأكيد النسبة بين الطرفين وهي: هم الأولى بالأخسرية. وكذلك قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) . تكررت - هنا - " أولئك " ثلاث مرات. ولم تجد لهذه الكلمة المكررة مع ما جاورها إلا حسناً وروعة. فالأولى والثانية: تسجلان حكماً عاماً على منكرى البعث: كفرهم بربهم وكون الأغلال في أعناقهم. والثالثة: بيان لمصيرهم المهين. ودخولهم النار. ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذي لا يعقبه خروج منها. ولو أسقطت (أُؤلئكَ) من الموضعين الثاني والثالث لرك المعنى واضطرب. فتصبح الواو الداخلة على: (الأغْلَالُ في أُعْنَاقِهِمْ) واو حال. وتصبح الواو الداخلة على: (أصْحَابُ النارِ هُمْ فَيهَا خَالِدُونَ) عاطفة عطفاً يرك معه المعنى. لذلك حسن موضع التكرار في الآية لما فيه من صحة المعنى وتقويته. وتأكيد النسبة في المواضع الثلاثة للتسجيل عليهم. * * * تكرار الفاصلة: سبق أن ذكرنا في مبحث الفواصل صوراً من تكرار الفاصلة مرتين بدءاً وثلاث مرات نهاية. وقد وجهنا أسلوب التكرار في تلك الصور. ولكنا - هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 - أمام فاصلة لم تقف في تكرارها عند حد المرات الثلاث. بل تعدت ذلك بكثير. لذلك آثرنا أن نبحثها هنا إذ هي بهذا الموضع أنسب. . ونعتمد في دراستنا لتكرار الفاصلة على ثلاث سور هي: " الرحمن - القمر - المرسلات "، وهي السور التي برزت فيها هذه الظاهرة الأسلوبية. بشكل لم يبد في غيرها، كما ورد فيها. فقد تكررت: (فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في " الرحمن ". وتكررت (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابىَ وَنُذُرِ) في " القمر ". وتكررت: (وَيْل يَوْمئِذ للمُكَذبِينَ) في " المرسلات ". * تكرار الفاصلة في " القمر ": ولهذا التكرار في المواضع الثلاثة أسباب ومقتضيات. ففى سورة " القمر " نجد العبارة المكررة وهي: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُر) قد صاحبت فى كل موضع من مواضع تكرارها قصة عجيبة الشأن، وكان أولَ موضع ذكِرت فيه عقب قصة قوم نوح. وبعد أن صوَّر القرآن مظاهر الصراع بينهم وبين نوح عليه السلام ثم انتصار الله لنوح عليهم. حيث سلط عليهم الطوفان. فأغرقهم إلا مَن آمن وعصمه الله. ونجد أن الله نجَّى نوحاً وتابعيه. ولكن تبقى هذه القصة موضع عظة وادكار. ولتلفت إليها الأنظار وللتهويل من شأنها جاء قوله تعالى عقبها: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) مُصدراً باسم الاستفهام " كيف " للتعجيب مما كان، ولقد مهَّد لهذا التعجيب بالآية السابقة عليه. وهي قوله تعالى: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) ؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 والموضع الثاني لذكرها حين قصَّ علينا القرآن قصة عاد وعتوها عن أمر ربها. وفي " عاد " هذه نجد العبارة اكتنفت القصة بدءاً ونهاية. قال تعالى: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) ؟. وتكرار العبارة - هكذا - في البداية والنهاية مخرج لها مخرج الاهتمام. مع ملاحظة أن أحداث القصة - هنا - صُورت في عبارات قصيرة ولكنها محكمة وافية. . ولم يسلك هذا المسلك في قصة نوح - أعنى قصر العبارات - والسبب - فيما يبدو لى - أن إهلاك قوم نوح كان بالإغراق في الماء. وهي وسيلة كثيراً ما تكون سبب هلاك. فقد كانت سبب هلاك فرعون وملئه. . أما أن يكون الإهلاك بالريح فذلك أمر يدعو إلى التأمل والفكر. ولعل مما يقوى رأينا هذا. أن هذه القصة - قصة عاد - وردت في موضع آخر من القرآن يتفق مع هذا الموضع من حيث الفكرة، ويختلف معه - قليلاً - من حيث طريقة العرض وزيادة التفصيل. جاء في الحاقة: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) ؟. فإرسال الريح - هكذا - سبع ليال وثمانية أيام حسوماً مدعاة للعظة والاعتبار. ومثله: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) . فقد بطرت " عاد " نعَم ربها عليها. وغرها ما هي فيه من أسباب التمكين فى الأرض وقوة البطش أن تبارز ربها ومولى نعمها بالمعاصي، فأهلكها الله بما لا قِبَل لها به. وفي كل موضع يذكر القرآن فيه قصة هؤلاء تأتى عباراته قوية هادرة واعظة زاجرة. . جاء في موضع آخر: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) . وكانت عاقبتها خسراً وهلاكاً مع مَن طغى في الأرض بغير الحق: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) . أما الموضع الأخير الذىَ ذكِرت فيه هذه العبارة: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ) فحين قصَّ الله علينا قصة " ثمود "، وقد جاءت فيها كذلك مهيئة لتلقى صورة العقاب بعد التشويق إليها عند السامع. ولفت نظره إليها: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) . ومن هنا ندرك شدة اقتضاء المقام لهذا التكرار. فليست إحدى العبارات فى موضع بمغنية عن أختها في الموضع الآخر. إنما هو اتساق عجيب تطلبه المقام من الناحيتين: الدينية والأدبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 من الناحية الدينية حيث تحمل المؤمنين على التذكر والاعتبار عقب كل قصة من هذه القصص، ومن الناحية الأدبية لأن العبارة: (فَكَيْفَ كانَ عَذَابِى وَنُذُرِ) تأتى عقب كل قصة - أيضاً - لافتة أنظار المشاهدين إلى " كنه " النهاية وختام أحداث القصة. وقد مهَّد القرآن لهذا التكرار حيث لم يأت إلا بعد خمس عشرة آية تنتهى كلها بفاصلة واحدة تتحد نهاياتها بحرف " الراء " مع التزام تحريك ما قبلها. وذلك هو نهج فواصل السورة كلها. وقد أشاع هذا النسق الشاجى نوعاً من الموسيقى الصاخبة العنيفة التي تتلاءم مع جو الإنذار أيما تناسب. والسورة فوق كل هذا مكية النزول والموضوع. كما أن الطابع القصصى هو السائد في هذه السورة. فبعد أن صوَّر القرآن الكريم موقف أهل مكة من الدعوة الجديدة. وبيَّن ضلال مسلكهم. وقد كان الرسول عليه السلام حريصاً على هدايتهم في وقت هم فيه أشد ما يكونون إعراضاً عنه. لهذا اقتضى الموقف العام سوق عِبَر الماضين - ليكون في ذلك تسلية للرسول عليه السلام ومن اتبعه وزجر لمن عارضه وصَدَّ عنه. وما دام هذا هو طابع السورة فإن أسس التريية - خاصة تربية الأمم - تستدعى تأكيد الحقائق بكل وسيلة ومنها التكرار الذي لمسناه في سورتنا هذه. حتى لكأنه أصيل فيها وليس بمكرر. * تكرار آخر في " القمر ": وفي هذه السورة " القمر " مظهر آخر من مظاهر التكرار، هو قوله تعالى: (وَلقَدْ يَسَّرْنَا القُرآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ) ؟ حيث ورد في السورة أربع مرات، وهذه دعوة صَالحة للتأمل فيما يسوقه الله من قصص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وقد اشتملت هذه الآية: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) على خبر واستفهام، والخبر تمهيد للاستفهام الذي فيها وإغراء عليه. * * * التكرار في " الرحمن ": أما التكرار الوارد في " الرحمن " في قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) حيث ذكر فيها إحدى وثلاثين مرة فله أسبابه كَذلك. وَيمكن أن نسجل هذه الملاحظات. . أولاً: أن هذا التكرار الوارد في سورة " الرحمن " هو أكثر صور التكرار الوارد في القرآن على الإطلاق. ثانياً: أنه - أي التكرار في هذا الموضع - قد مُهَّدَ له تمهيداً رائعاً. حيث جاء بعد اثنتي عشرة آية متحدة الفواصل. وقد تكررت في هذا التمهيد كلمة " الميزان " ثلاث مرات متتابعة دونما نبو أو ملل: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) . وهذا التمهيد قد أشاع - كذلك - لحناً موسيقياً عذباً كان بمثابة مقدمة طبيعية لتلاؤم صور التكرار ولتألفها النفس وتأنس بها فلا تهجم عليها هجوماً لأن القرآن قد راعى في فواصل المقدمة التمهيدية ما انبنت عليه فواصل الآية المكررة. ثالثاً: أن الطابع الغالب على هذه السورة هو طابع تعداد النعَم على الثَقَلين: الإنس والجن، وبعد كل نعمة أو نعَم يعددها الله تأتى هذه الَعبارة: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وعلى هذا الأساس يمكن بيسر فهم عِلَّة التكرار الذي حفلت به سورة الرحمن أنه تذكير وتقرير لنعمه. وأنها من الظهور بمكان فلا يمكن إنكارها أو التكذيب بها " فتكرار الفاصلة في الرحمن. . يفيد تعداد النِعَم والفصل بين كل نعمة وأخرى لأن الله سبحانه عدد في السورة نعماءه وذكر عباده بآلائه. ونبههم على قدرها وقدرته عليها ولطفه فيها. وجعلها فاصلة بين كل نعمة لتعرف موضع ما أسداه إليهم منها. ثم فيها إلى ذلك معنى - التبكيت والتقريع والتوبيخ - لأن تعداد النِعَم والآلاء من الرحمن تبكيت لمن أنكرها كما يبكت منكر أيادى النعَم عليه من الناس بتعديدها. ولقائل أن يسأل: إن هذه الفاصلة قد تكررت بعد ما هو ليس بنعمة من وعيد وتهديد. فكيف يستقيم التوجيه إذن بعد هذه الآيات: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) . (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) . ً (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) . وظاهر هذه الآيات بلاء وانتقام وليس بنِعَم؟ والجواب: ولكن المتأمل يدرك أن في الإنذار والوعيد وبيان مآل الضالين عصمة للإنسان من الوقوع فيما وقعوا فيه فيكون مصيره مصيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ومن هذا الاعتبار يتبين أن هذه المواضع مندرجة تحت النعَم، لأن النعمة نوعان: إيصال الخير. ثم دفع الشر. والسورة اشتملت عَلى كلا النوعين. فلذلك كررت الفاصلة. * * * التكرار في " المرسلات ": بقى التكرار الوارد في سورة المرسلات. وقد صُنِعَ فيه ما صُنع في نظيريه فى " القمر " و " الرحمن " من التقديم له بتمهيد. . وله - مثلهما - هدف عام اقتضاه. بَيْدَ أن التمهيد يختلف عما سبق في " القمر " و " الرحمن ". فقد رأينا فيهما اتحاد الفاصلة في الحروف الأخيرة مع التزام نهج معيَّن فيما قبله. أما هنا فإن الأمر يختلف. فقد اشتمل التمهيد على مجموعتين من الآيات أولاهما لها فاصلة تختلف عن ثانيتهما وهي: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) . وختمت هذه المجموعة بقفلة هي سر الجمال كله: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) . ما قبلها مُقْسَم به. وهي جواب القَسَم. والمقْسَم به متعدد كأجزاء الشرط إذا بدئت بها السور. وهي - كما تقدم - خصائص تعبيرية آسرة. وبجواب القَسَم تنتهى هذه المجموعة - ثم تبدأ المجموعة الثانية وهي: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وهذه المجموعة تتكون من: أولاً: شرط يتكرر أربع مرات محذوف الجواب. وكله حديث عن أهوال القيامة ومقدمات البعث. ثانيا -: استفهام يعتبر مدخلاً لحقيقة هامة تقودنا إلى الهدف المنشود. وهو التوصل إلى مصير المكذبين يوم الدين. ثالثاً: جواب هذا الاستفهام الذي اشتمل على كلمة: " يوم الفصل " وكانت هذه الكلمة الشعاع الذي قادنا إلى الساحة الكبرى: ساحة القضاء العادل والقصاص الحكيم: (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) . فانظر إلى هذا التمهيد الحكيم الذي مهَّد القرآن به لهذه العبارة. حتى لكأنها هي المقصودة. ثم تكررت هذه الآية: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) عشر مرات بعد هذه المرة وهى في كل مواضعها تتلو مشهداً من مشَاهد القياَمة. وصورة من صور الحشر. أو مشاهد القُدرة الإلهية. * * سبب عام: أما السبب العام الذي اقتضى هذا التكرار فإن الآية أعقبت ما من شأنه أن يكون أكبر داع من دواعى الإيمان والتصديق. بحيث يكون الخارج عن هذا السلوك والمكذب به صائراً - لا محالة - إلى الويل، والعذاب الأليم. فويل للمكذبين بيوم الفصل. وويل للمكذبين بهلاك المجرمين. . وويل للمكذبين بقُدرة الله وتقديره أرزاق الخلق. وعلى هذا المنهج يمضى التكرار فى السورة كلها. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 * التكرار في القصة: أما تكرار القصة في القرآن فذلك سمته الغالبة على معظم قصصه. إذ لم يأت فيه غير مكرر إلا القليل مثل قصة يوسف عليه السلام. وللعلماء توجيه فى سردها مرة واحدة دون تكرار، أهم ما في هذا التوجيه أن حرص الإسلام على صيانة الأعراض كان سبباً في ذلك لأن في قصة يوسف محاولة إغراء على جريمة خُلقية. لذلك فرغ القرآن من سوقها للعظة والاعتبار مرة واحدة. والقصص القرآني في جملته مسوق لغرضين أساسيين: أولاً: تسلية الرسول عليه السلام وتثبيت فؤاده. وأنه لم يكن بدعاً من الرسل خولفوا مثل مخالفته. وحق على المخالفين العذاب. ونصر الله رسله وجنده. ثانياً: تهديد وزجر المخالفين. وييان لمصير أمثالهم. علهم يرتدعون ويقلعون عن غيهم. ودواعى هذين الغرضين متكررة مرات ومرات. فالرسول - عليه السلام - لم يكف عن الدعوة إلى الإسلام. والكفار لم يكفوا عن الإعراض والمخالفة. فإذا اعتبرنا أن مجموع هذين الأمرين هما الحال المقتضية لإيراد القصة في القرآن. فإن تكرارهما يستدعى تكرار مقتضى الحال. وهو تكرار القصص مقدراً فى كل قصة على عدة مناسبات دقيقة لمقام الحديث. فتكرار القصة القرآنية في أكثر من موضع ظاهرة فنية ودعامة تربوية. كان لا بدَّ أن تكون. . ومع هذا المقتضى فإن تكرار القصة في القرآن لم يكن على نمط واحد. أعنى أن هناك فروقاً بين مواضع تكرارها. ولم تكرر فيه قصة واحدة على وجه واحد فى الصياغة أو الفكرة - أو فيهما معاً. فهناك اختلاف في الصياغة، وهناك اختلاف في الطول والقصر. واختلاف فى الأحداث التي تتناولها. وطريقة عرض تلك الأحداث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وهى بهذا - جديدة متجددة دائماً - لا مدعاة للسآمة والملل - كما يزعم المغرضون - بل فيها روح وطرافة. كذلك فإن المعاني التي تتحدث عنها القصة القرآنية لم تكن لمجرد التهديد أو التسلية. ولكنها حقائق يُراد إثباتها لتؤدى دورها في كل عصر، متى توافرت دواعيها. والتكرار كما يقول جوستاف لوبون: " يُحولَ المكرر إلى معتقد ". ولذلك كان التكرار وسيلة من أهم وسائل التربية والتثقيف. * * * دواعي التكرار في القصة: يقول صاحب " البرهان " موجهاً لتكرار القصة في القرآن: " إن عادة العرب في خطابتها إذا اهتمت بشيء - أرادت تحقيقه وقرب وقوعه أو قصدت الدعاء إليه. كررته توكيداً وكأنها تقيم تكراره مقام المقسَم عليه أو الاجتهاد فى الدعاء بحيث تقصد الدعاء. والقرآن نزل بلسانهم فكانت مخاطباته فيما بين بعضهم وبعض. وبهذا المسلك تستحكم الحُجة عليهم في عجزهم عن المعارضة ". ويمضى الزركشي بعد هذا موضحاً لظاهرة التكرار في القرآن. ويسوق أدلة من القرآن نفسه لبيان صحة ما يقول هو عنه. بَيْدَ أنه لم يأت بمثال واحد يحلل فيه التكرار في الأسلوب القرآني وإن لم يفته أهم غرض فيه وهو إفادته التقرير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 والتوكيد قال: " وفائدته العظمى التقرير وقد قيل: إن الكلام إذا تكرر تقرر". وهناك شيء هام غفل عنه الزركشي. إذ لا يكفى أن يكون مجرد التوافق فى أسلوب القرآن وأسلوب العرب من حيث إن في كل منهما تكراراً، لا يكفى أن يكون هذا سبباً في الحكم على التكرار يالجودة، فنحن لسنا في موضع يُراد فيه إثبات مشروعية التكرار، وإنما في موضع يبحث عن مزايا وخصائص التعبير القرآني، ومنها التكرار. ويرى الزمخشري رأياً يقرب من رأى الزركشي لكنه أعمق فهماً منه. قال: " إن في التكرير تقريراً للمعاني في الأنفس. وتثبيتاً لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يرام تحفظه منها. وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلوب، وأرسخ له في الفهم، وأثبت للذكر، وأبعد من النسيان ". وهنا لا بدَّ أن نقرر حقيقة هامة. هي: أن الإشادة بجمال التكرار في القرآن لم يقتصر على العلماء العرب. بل إن كثيراً من المستشرقين قد شهدوا بذلك منهم " جرونيبادم " - كما نقل عنه عبد الكريم الخطيب في كتاب " الإعجاز القرآني " (جـ 1: ص 385) - ومع هذا الحق الذي يشهد به الأصدقاء والأعداء فإننا نستنطق القرآن نفسه. وهو خير وأعدل، ولنأخذ لهذا كله - مثلاً - قصة آدم عليه السلام. وقد كُرِرت في سبع سور سبع مرات. * * دراسة تحليلية لقصة آدم * نصوص القصة في القرآن الكربم: 9 - البقرة من الآية 30 إلى الآية 38: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 قال سبحانه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) . * 2 - الأعراف من الآية 11 إلى الآية 25: قال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) . * 3 - الحِجْر من الآية 26 إلى الآية 44: قال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) . * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 4 - الإسراء من الآية 61 إلى الآية 65: قال سبحانه: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) . * 5 - الكهف الآية الخمسون: تال سبحانه: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) . * 6 - طه من الآية 115 إلى الآية 127: تال سبحانه: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) . * 7 - سورة " ص " من الآية 71 إلى الآية 85: قال سبحانه: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) . * ونسجل أولاً حقيقة هامة، وهي ترتيب السور التي وردت فيها نصوص القصة حسب نزولها وهي: أولاً - في مكة: سورة ص - الأعراف - طه - الإسراء - الحجْر - الكهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ثانياً - في المدينة: البقرة. ومن هذا نعلم: أن أول سورة تتحدث عن قصة آدم عليه السلام. هي سورة " ص "، وأنها مكية النزول، وأن نصيب العهد المكي من قصة آدم عليه السلام كان وفيراً. حيث وردت في ست سور. بدأت بسورة " ص "، واختتمت ب " الكهف "، وأن الكهف كانت خاتمة المطاف بالنسبة للعهد المكي. أما العهد المدنى فلم ترد فيه القصة إلا في سورة واحدة. هي سورة البقرة. وأن سورة البقرة هذه أول ما نزل بالمدينة بعد الهجرة الشريفة. ولهذا فإننا سنحلل عناصر هذه القصة في كل موضع وردت فيه. حسب هذا الترتيب النزولي. * عناصر القصة في سورة " ص ": 1 - إخبار الله الملائكة بخلقه بَشراً من طين. 2 - أمر الله الملائكة بالسجود لهذا البَشر. إذا سواه ونفخ فيه من روحه، ثم امتثال الملائكة هذا الأمر. 3 - إخبار الله تعالى بمخالفة إبليس وإبائه السجود وصيرورته من الكافرين. 4 - سؤال الله - وهو أعلم - إبليس عن سبب مخالفته وامتناعه عن السجود. 5 - اعتذار إبليس عن مخالفته أمر ربه بالسجود لآدم. وحجته التي استند عليها. 6 - طرد الله إبليس من الجنة وإحقاق لعنته عليه إلى يوم الدين. 7 - طلب إبليس من ربه أن ينظره إلى يوم البعث. 8 - استجابة الله له، وجعله من المنظرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 9 - عناد إبليس وإعلانه - مقسماً - أن يغوى الناس أجمعين. إلا عباد الله المخلصين. 10 - توعد الله إبليس ليملأن جهنم منه ومن أتباعه. * . عناصر القصة في " الأعراف ": 1 - الإخبار بأمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم. وامتثالهم هذا الأمر. 2 - مخالفة إبليس. 3 - سؤال الله - وهو أعلم - إبليس عن مخالفته. 4 - إعتذار إبليس من مخالفته أمر ربه. وحُجته التي استند عليها. 5 - أمر الله إبليس بالهبوط من الجنة منكراً عليه أن يتكبر فيها. وتكرار الأمر بالخروج وزمه. 6 - طلب إبليس من الله أن ينظره إلى يوم البعث. 7 - استجابة الله له. 8 - عناد إبليس وإعلانه الترصد للناس لإغوائهم وإيتاؤه إياهم من كل مدخل ينزلون فيه. - 9 - تكرار الأمر له بالخروج مع ذمِّه وتوعده بأن يملأ الله جهنم منه ومن كل من يتبعه. 10 - أمر الله آدم أن يسكن الجنة هو وزوجه ويتمتعا بكل نعيم فيها إلا شجرة واحدة عيَّنها لهما. وحرَّمها عليهما. فإن أكلا منها صارا ظالمين. 11 - وسوسة الشيطان لهما. وغرضه منها. وأسلوب خداعه لهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 12 - ذوقهما الشجرة المحرمة. وظهور سوءاتهما. ومحاولتهما سترها بورق الجنة. 13 - نداء الله وتذكيره لهما بنصائحه. 14 - ندمهما على ما فعلا. واستغفارهما الله. 15 - أمر الله لهم بالهبوط إلى الأرض مع تحقق العداوة بينهم. واستقرارهم فى الأرض. . والاستمتاع بها إلى حين معلوم. 16 - إخبار الله لهم بما سيكون عليه حالهم في الأرض: حياة، فموت، فبعث. * * عناصر القصة في " طه ": 1 - مدخل القصة. 2 - إخبار الله بأمره الملائكة بالسجود لآدم. وامتثالهم الأمر. 3 - مخالفة إبليس أمر ربه. 4 - نصح الله لآدم وتحذيره له من الشيطان. 5 - بيان النِعَم التي سيُنعم بها آدم وزوجه في الجنة. 6 - وسوسة الشيطان له. وأسلوب خداعه. 7 - أكلهما من الشجرة المحرمة. وظهور سوءاتهما. ومحاولتهما سترها بورق الجنة. 8 - حكم الله على مسلك آدم حيث خالف هو وزوجه أمر الله وأطاعا إغراء الشيطان لهما. 9 - اجتباء الله آدم. وتوبته عليه. وهدايته له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 10 - أمر الله لهم بالهبوط وترقب هُداه، فمَن اتبع هُداه فهو في هدى وسعادة، ومَن أعرض عن هدى الله شقي في الدنيا. وساء مصيره في الآخرة. * * عناصر القصة في " الإسراء ": 1 - إخبار الله بأمره الملائكة بالسجود لآدم. وامتثالهم الأمر. 2 - مقولة إبليس ومحاجته ربه. مبرراً لماذا لم يسجد لآدم؟ 3 - عناده وإعلانه لو أُخِّرَ إلى يوم القيامة ليُضِلن ذُرية مَن كرَّم اللهُ عليه - يقصد آدم - إلا قليلاً منهم. 4 - إمداد الله لإبليس في الغواية والإغواء متوعداً له ولمن تبعه بإدخالهم النار. 5 - بيان أن وعد الشيطان أولياءه ما هو إلا غرور. 6 - عصمة الله عباده - الأحقاء - من غواية إبليس - وسلبه كله سلطان عليهم. فهم في مأمن منه. * * عناصر القصة في " الحِجْر ": 1 - مدخل القصة. 2 - إخبار الله الملائكة أنه خالق بَشراً من صلصال من حمإ مسنون. 3 - أمره الملائكة بالسجود له إذا سواه. وامتثالهم هذا الأمر. 4 - مخالفة إبليس أمر ربه. 5 - سؤال الله - وهو أعلم - إبليس عن سبب مخالفته أمره بالسجود لآدم عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 6 - اعتذار إبليس وحُجته. 7 - أمر الله إبليس بالخروج من الجنة وإحلال لعنة الله على إبليس. 8 - طلب إبليس من الله أن يجعله من المنظرين إلى يوم البعث 9 - استجابة الله له. 10 - عناد إبليس وإعلانه تزيين المعاصي وإغواء الناس إلا المخلصين من عباد الله. 11 - إعلام الله إبليس بحصانة عباده المخلصين من إغوائه. 12 - أن جهنم مصير مَن يتبع إبليس. وأن الله أعد لهم سبعة أبواب يدخلون منها النار لكل باب منها فريق مقسوم. * * عناصر القصة في " الكهف ": 1 - إخبار الله بأمره الملائكة بالسجود لآدم. وامتثالهم هذا الأمر. 2 - مخالفة إبليس. 3 - إنكار أن يتخذ الناس إبليس وذُريته أولياء من دون الله، وهو لهم عدو. 4 - مَن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله، فبئس البدل بدله. وبسورة الكهف تنتهي مصادر القصة في العهد المكي. وتبدأ مرحلة جديدة فى العهد المدني تتمثل في سورة البقرة. * * عناصر القصة في سورة " البقرة ": 1 - إخبار الله الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة. 2 - تعجب الملائكة من هذا الجعل، وسببان لهذا التعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 3 - رد الله عليهم. 4 - تعليم الله آدم الأسماء كلها. 5 - عرضهم على الملائكة، ومطالبتهم بالإنباء بأسمائهم على سبيل الاختبار المؤدي إلى العجز. 6 - تنزيه الملائكة الله. وتفويضهم الأمر إليه. 7 - أمر الله آدم أن يخبرهم بالأسماء. وامتثال آدم عليه السلام هذا الأمر. 8 - استئثار الله بغبب السموات والأرض. وعلمه بظواهر الأمور وبواطنها. 9 - أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم وامتثالهم هذا الأمر. 10 - مخالفة إبليس واستكباره وصيرورته من الكافرين. 11 - أمر الله آدم أن يسكن هو وزوجه الجنة وأن يتمتعا بما فيها من أنعام. 12 - تحريم الله عليهما قربان شجرة فيها عيَّنها لهما. فإن قرباها صارا ظالمين. 13 - إغواء الشيطان لهما. وأكلهما من الشجرة المحرمة. وإخراجه لهما مما كانا فيه. 14 - أمر الله لهم بالهبوط من الجنة إلى الأرض مع تحقق العداوة بينهم واستقرارهم في الأرض واستمتاعهم فيها إلى حين. 15 - تلقى آدم كلمات من ربه. وتوبة الله عليه. 16 - تكرار الأمر بالهبوط وترقب هدى الله فمَن اتبع هدى الله آمن وسلم. ومَن عصاه أدخله النار وأخلده فيها. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وبعد هذا التحليل لعناصر القصة في مصادرها الأصلية ننظر فيها على الوجه الآتى: أولاً: المعاني المشتركة في جميع المصادر، مع التعرض لفروق الصياغة ما أمكن. ثانياً: المعاني المشتركة في مجموعة دون أخرى، مع التعرض لفروق الصياغة كذلك. ثالثاً: المعاني التي لم تتكرر قط. 1 - المعاني المشتركة في جميع المصادر: المتأمل في نصوص القصة في جميع مصادرها يدرك أن المعاني التي لم يخل نص منها - بل هي مشتركة بينها كلها - هي المعاني الآتية: أمر الله الملائكة بالسجود لآدم. امتثال الملائكة هذا الأمر. مخالفة إبليس أمر ربه ففى " البقرة " جاء قوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وفي " الأعراف " جاء قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) . وفي " الحجْر " جاء قوله: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وفى " الإسراء " جاء قوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) . وفي " الكهف " جاء قوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) . وفي " طه " جاء قوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) . وفي سورة" ص "جاء قوله: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) . فهذه المعاني الثلاثة وردت - كما ترى - في جميع المصادر لأنها العناصر الكبرى التي تدور حولها أحداث القصة. ونلحظ من النظر في النصوص أن سجود الملائكة قد عطف في جميع المواضع على القول لهم بالسجود. قد عطف بالفاء. وهذا يفيد سرعة امتثال الملائكة لأمر ربهم وأنهم لم يترددوا قيد أنملة. أما مخالفة إبليس فقد صورت بصياغة مختلفة ففى " البقرة ": (أبَى وَاسْتَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ) . وفي " الأعراف ": (لمْ يَكُن منَ السَّاجِدِينَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وفى " الحِجْر ": (إلا إبْلِيسَ أبَى أن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) . وفي " الإسراء ": (قَالَ أأسْجُدُ لِمَنْ خَلقْتَ طِيناً) . وفى" الكهف ": (إلا إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِن فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ) . وفي " طه ": (إلا إبْلِيسَ أبَى) . وفي سورة " ص ": (إلا إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ) . والتفنن في العبارة قد أفاد إسناد أقبح أوصاف الذم للَّعين إبليس. كما نجد فروقاً - كذلك - في التمهيد: ففى " البقرة " لم يتقدم عليها تمهيد. أما في " الأعراف " فقد كان التمهيد صدر آية: (وَلقَدْ خَلقْنَاكُمْ ثُم صَورناكُمْ (، ثم قال: (ثُمَّ قُلنَا لِلمَلائكَة اسْجُدُواْ لآدَمَ) . والعطف بـ " ثم " المفيدة للترتيب مع التراخى يدلَ علَى أن في التَعبير تجوزاً. إذ ليس المخلوق والمصور هم المخاطبنِ بل آدم عليه السلام ليصح الترتيب. والمعنى: " خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوَّر ثم صورناه بعد ذلك ". والمجاز فيها مرسل والعلاقة المصححة هي السببية. إذ وجود المخاطبين مسبب على وجود المراد بالحديث وهو آدم. كذلك مهَّد لها في " الحجْر " بالحديث عن خلق الجان والإنسان: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) . ثم قال: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 أما " الإسراء " فلم يأت فيها تمهيد مثل " البقرة ". وكذلك " الكهف ". و" طه " تقدم القصة فيها تمهيد هو في الواقع إجمال بديع للقصة كلها. ومدخل لسرد أحداثها بالغ الجودة: (وَلقَدْ عَهدنا إلى آدَمَ من قَبْلُ فَنَسِىَ وَلمْ نَجدْ لهُ عَزْمًا) كان هذا هو مدخل القَصة في " طه ". كما سردت بعده أحدَاثها سرداً محكماً. وكذلك خلت سورة " ص " من التمهيد المباشر للقصة. وبذلك تكون القصة قد مُهِّدَ لها في ثلاثة مواضع هي: الأعراف - الحِجْر - طه. ولم يُمهد لها تمهيداً مباشراً في أربعة مواضع هي: البقرة - الإسراء - الكهف - سورة " ص ". وكذلك نجد فروقاً في الأمر بالسجود. فتارة يكون بصريح الأمر من الفعل " سجد " نفسه وذلك في خمسة مواضع هي: البقرة - الأعراف - الإسراء - طه - الكهف. أما في الحِجْر وسورة " ص " فلم يأت بالأمر الصريح من الفعل. بل تقدم عليه " أمر " من فعل آخر " وقع " وجعل السجود حالاً. من فاعل ذلك الفعل الذين هم الملائكة. ومن دقة النظم أن هذه العبارة جاءت في السورتين فى سياق حديث واحد: (فَإذَا سَويْتُهُ وَنَفَخْتُ فيه من رُوحي فَقَعُواْ لهُ سَاجِدِينَ) ولعل السر في هذا التصرف - (فَقَعُواْ لهُ سَاجدينَ) بدلاً من: (اسْجُدُواْ لآدَمَ) - أن التفصيل في هاتين السورتين في هذاَ الموضوع بالذات حيث قال: (فَإذا سَويْتُهُ وَنَفَخْتُ فيه من رُوحي) بعد قوله في الحِجْر: (إنًى خَالق بَشَراً مًن صَلصَالِ مًنْ حًمَإٍ مَسْنُونٍ) وبعد قوله في سورة " ص ": (إنًى خَالِق بَشَرًا مًن طِيَنٍ) أن هذا التفصيل فيه شرح أكثر لبيان قُدرة الله سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وذلك أمر أدعى إلى تعظيم الله القادر. والانكباب من عَلَّ على الجباه تقديراً له حق قدره. وذلك لأن: (فَقَعُواْ لهُ سَاجدينَ) في معنى الانكباب الفورى وهو معنى زائد على مجرد الأمر الوارد في المواضع الأخرى: (اسْجُدُواْ لآدَمَ) . ويلاحَظ - كذلك - أن إحدى هاتين العبارتين جاءت في سورة " ص "، وسورة " ص " هذه هي أول سورة تحدثت عن القصة، وهي مكية. فإن سورة الحجْر مكية كذلك. والقوم في مكة شديدو العناد للإسلام. فناسب حالتهم هذه التفصيل في القول والاتجاه به نحو القوة. وذلك ما تكفلت به السورتان: سورة "ص " و "الحِجْر ". * * * ملاحظة جديرة بالتسجيل: هذه خلاصة وجيزة لما اشترك من عناصر القصة في جميع المصادر. ونرى أن نذكر ملاحظة جديرة بالتسجيل هي أن الإشارة جاءت عابرة عن قصة آدم فى سورة الكهف. وهي وإن اشتملت على العناصر الثلاثة التي لم يخل منها مصدر من مصادر القصة. فإن جانب القصص غير ظاهر فيها. وإنما جيء بها تمهيداً لإنكار أن يتخذ الناس إبليس وذُرِّيته أولياء من دون الله . . والعهد المكي لم يكن في حاجة إلى تفصيل بعد أن تحدثت عنها خمس سور مكية في تفصيل ووضوح. لذلك جاءت آية " الكهف " لمحة عابرة إلى حديث طويل معلوم وذائع أمره. كما أن هذه السورة على وجازة ما جاء في آيتها من حديث القصة فإنها اشتملت على جديد لم يُصرَّح به في غيرها. وذلك الجديد هو: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فنسبته إلى الجن. والحكم علَيه بالفسق لَم يرَد إلا في آية " الكهَف ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وهذا يعطينا قيمة عظيمة هي أن القصة المتكررة في القرآن لم تخل من جديد وإن قصرت في موضع دون آخر. 2 - المعاني المشتركة بين مجموعة دون أخرى: من المعاني المشتركة بين مجموعة دون أخرى: سؤال الله - سبحانه - إبليس عن عدم امتثاله لأمره وما ترتب على ذلك من أمور. وقد ورد هذا السؤال في ثلاثة مصادر. الأول - الأعراف، قال سبحانه: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) . الثاني - الحجْر، قال سبحانه: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الثالث - سورة " ص "، قال سبحانه: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) . والباحث يرى أن السؤال قد اختلف في صياغته من موضع إلى آخر. وأنه قد ترتب عليه أمور: 1 - اعتذار إبليس وحُجَّته إنه مخلوق من نار، وآدم من طين مع اختلاف فى الصياغة. ْ2 - رد عليه من الله. رافض لعذره وآمر له بالخروج أو الهبوط من الجنة، منكر عليه أن يتكبر فيها، موجب عليه اللعنة مع الاختلاف في طرق تعريف اللعنة. مرة بـ " الـ ". وأخرى بالإضافة إلى الله. 3 - طلب إبليس أن ينظره ربه إلى يوم البعث. واستجابة الله له. 4 - إعلان إبليس - مقسماً مرة، ومعللاً أخرى - ليغوين الناس إلا مَنْ يعصمه الله. 5 - إعلام الله إبليس بحصانة عباده المخلصين. وتوعده لإبليس بأن يملأ منه جهنم وممن اتبعه أجمعين. 6 - إن في المواضع الثلاثة فروقاً دقيقة في الصياغة. وفي تصوير المعاني. سواء فيما قاله الله لإبليس أو فيما حكاه القرآن من مقولة اللعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 7 - إن سورة الإسراء تشترك معها فيما ترتب على السؤال دون أن يرد فيها ذكر له لأن مقولة إبليس فيها نزلت منزلة إبائه السجود: (إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) . * * * ملاحظات: ويرى الباحث - كذلك - أن هذه العناصر التي اشتركت فيها كل من الأعراف. والحجْر. وسورة (ص) . والإسراء. كان مهدها مكة لأن هذه السور مكية النزوَل. وحال القوم في مكة من الإعراض والصدود والجدل العقيم في محاربة الدعوة الجديدة تناسبه عناصر القصة المذكورة بما فيها من قوة وعنف في الرد على إبليس وتوعده بالعذاب هو ومَن اتبعه. كما أن رفض الحُجة التي بنى عليها اللعين اعتذاره وإهدارها من الأساس شبيه برفض الإسلام لدعاوى وحجج المعاندين من مشركى مكة. كما يرى الباحث أن اختلاف الصياغة من موضع إلى آخر أمر اقتضاه المقام ولم يكن مجرد اتفاق. ونضرب لذلك مثلاً: قال إبليس في " الحِجْر " معتذِراً عن مخالفته أمر ربه: (قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) . . بينما نسب خلقه إلى الطينَ في كل من الأعراف والإسراء وسورة " ص ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 والطين سابق على الصلصال والحمأ المسنون. قال الراغب: الصلصال تردد الصوت مِن الشيء الجاف ومنه قيل: صل المسمار، وسمي الطين الجاف صلصالاً قال: (مِن صَلصَالٍ كَالفَخَّارِ) ، (مِن صَلصَالٍ مَنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) . فأوثر الصلصال في " الحِجْر " لتقدمه في قوله تعالى: (إنِّي خَالِق بَشَراً مِن صَلصَالٍ مًنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ولعل إيثار هذا أيضاً على أن يقول: " من طين " لأن مبدأ خلق الإنسان هنا قوبل بمبداأ خلق الجانِّ، ولما قال فِى خلق الجان: (مِن نارِ السَّمُوم) ناسب أن يكون القابل له: (صَلصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) لأن الطين إذا قوبل بالنار جف ويبس وسُمِعَ له صوتَ إذا حُرك. ومما يؤيد هذا قوله في الرحمن: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) . فآثر الصلصال في مقابلة المارج الذى من نار. أما إيثار الطين في الأعراف والإسراء وسورة " ص " فحيث لم يقتض المقام سواه ولأنه أسبق وجوداً من الصلصال. هذا مثل أذكره للقياس ولبيان أن كل اختلاف في الصياغة إنما هو لسبب وداع. وليس لمجرد التعبير الخالى من الدقائق والأسرار. ومن المعاني التي اشتركت فيها مجموعة دون أخرى: أمر الله آدم وحواء أن يسكنا الجنة بعد طرد إبليس منها. وهذه مرحلة تالية في بناء القصة للمرحلة السابقة من مخالفة إبليس وعناده وما ترتب عليها. فلننظر في مصادرها وصياغاتها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 * سكنى الجنة: جاء أمر الله لآدم عليه السلام أن يسكن الجنة هو وزوجه في ثلاث سور: الأولى: " البقرة "، قال سبحانه: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) . الثانية: " الأعراف "، قال سبحانه: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) . الثالثة: " طه "، قال سبحانه: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (1) (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) . ولعل أول ما يلاحظه الباحث في هذه النصوص الثلاثة "أن الأمر بالسكنى فى الجنة جاء صريحاً في آيتى البقرة والأعراف. وخولف ذلك في طه لأن ما فيها نصح وتحذير لآدم وزوجه من إغواء الشيطان لهما. لأنه لهما عدو. فجاء قوله تعالى: (فَلَاَ يُخْرِجَنكُمَا مِنَ الجَنة فَتَشْقَى) دليلاً على تمكنهما من الجنة. حيث نهاهما الله أن يخرجهما منها الشَيطان. وفي طه - كذلك - تفصيل لمظاهر النعيم التي كانا ينعمان بها فى الجنة. ويقابل هذا التفصيل في البقرة والأعراف الإذن لهما بأن يتمتعا بما شاءا حيث كانا فيها مع زيادة وصف الأكل بـ " الرغد " في البقرة.   (1) الراجح في إفراد الخطاب هنا - كما أرى - هو أن آدم بما يحصل من مسئولية القوامة وتدبير أمر الأسرة يكون أول مَن يشعر بالشقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 كما يلاحظ الباحث أن آية البقرة قد صُدِّرَت بقوله: (وَقُلنَا يَا آدَم) ، أما الأعراف فقد حُذفَ منها القول وصُدِّرَت بالنداء وحده: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أنتَ وَزَوْجُكَ الجَنةَ) ، كما صُدِّرَت آية طه بالقول مسبوقاً بالفاء دون الواو كما فى البقرة: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) . ولعل السر في ذلك أن القول في البقرة عطف على نظيره في صدر الآية السابقة: (وَإذْ قُلنَا لِلمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ) . أما في الأعراف فقد حُذفَ القول. وبُدِئَ في خطاب آدم بالنداء لأنه قد سبق عليه قوله تعالى: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) . فلو قال بعده: " وقلنا. . " لتَوهم متوهم أن " قال " في الآية السابقة ليست عن قول الله لإسناده إلى ضمير الغائب وإسناد " قلنا " لضمير المتكلم، وقد عرفنا حرص القرآن على إسناد القول إلى ضمير المتكلم في موضع الأمر بالسكنى لآدم وزوجه. والأظهر هنا أن الواو للاستئناف في: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ) حتى تظهر المغايرة التامة بين مأمور بالخروج مذءوماً مدحوراً، ومأمور بالتمكن معرزاً مكرماً. أما العطف في طه بـ " الفاء ": (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) فلما في " الفاء " من الترتيب والتعقيب. وما تفيده كذلك من معَنى السببية. إذ تقدم عليها امتناع إبليس عن السجود له. فأبان العطف بـ " الفاء " ترتب نصح الله لآدم على امتناع إبليس عن السجود. وأن ذلك حدث دونما فصل بين الامتناع والنصح - هذا من حيث الترتيب والتعقيب - أما من حيث السببية فإن كون إبليس ممتنعاً عن السجود لآدم. فذلك سبب في أنه عدوهما والحقود عليهما. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 * وسوسة الشيطان لهما وما ترتب عليها: وهذه المرحلة من القصة قد اشتركت في الحديث عنها مجموعة من السور هي: " البقرة " قال سبحانه: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) . " الأعراف " قال سبحانه: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) . تلك هي مواضع ورود مرحلة وسوسة الشيطان لآدم وزوجه. حسداً منه وحقداً عليهما على أن بقيا في الجنة وطُرِدَ منها. والذي نلاحظه هنا أمور: أولاً: أن السورتين المكيتين اتفقتا في التفصيل والتعبير عن إغواء الشيطان لهما بالوسوسة، بينما عبَّرت عنه السورة المدنية بالإزلال. كلما جاءت فيها المعاني مجملة. ثانياً: أن التفصيل في كلتا السورتين المكيتين - مع اختصاص الأعراف بنصيب وافر فيه - صوَّرَ لنا - لقطات هامة هي: الغرض من الوسوسة - أسلوب الخداع الذي سلكه اللعين في الإضلال، وهذا الأسلوب اعتمد على الإغراء والتأكيد بالقسم - بدو سوءات آدم وحواء - اجتهادهما في سترها بورق الجنة، تأنيب الله لهما على ما بدر منهما. ومخالفتهما نصحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ثالثاً: أن البقرة وطه اتفقتا في الإشارة إلى توبة الله عن آدم واجتبائه له. وانفردت الأعراف بالحديث عن تندمهما ودعائهما ربهما بالمغفرة والرحمة. فكأن ما في البقرة وطه من الإشارة إلى التوية واجتباء الله لآدم استجابة لذلك الدعاء الذي انفردت به الأعراف خاصة وأن كُلاًّ من السورتين - طه والبقرة - نزلتا بعد الأعراف. إذ أن الأعراف هي السورة الثانية التي تحدثت عن قصة آدم بعد سورة " ص "، وهذا يفسر لنا سر التفصيل فيها لهذه المرحلة أكثر مما ورد فى طه. وهي قسيمتها فيه. . * * * أمر الله لهم بالهبوط إلى الأرض: وهذه مرحلة جاءت في بعض المصادر دون بعضها. . ومصادر ورودها هي: " البقرة " قال سبحانه: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) . " الأعراف " قال سبحانه: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) . " طه " قال سبحانه: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 من التأمل والمقارنة بين هذه النصوص يخرج الباحث بما يأتى: أولاً: أن الأمر ب " الهبوط " جاء بصيغة الجمع في البقرة والأعراف لأن المخاطب ثلاثة: آدم وزوجه وإبليس. وجاء بصيغة التثنية في طه. ولعل سره أن المأمور بالهبوط فريقان: آدم وزوجه فريق، وإبليس فريق آخر. ثانياً: أن الأمر في البقرة وطه قد اقترن ضمير المخاطب فيه بالتوكيد بلفظ: " جميعاً " ولم يرد ذلك في الأعراف. ثالثاً: أن التصريح بـ " ثبوت العداوة بينهم " أمر مشترك بين الأعراف وطه، أما آية البقرة هنا فقد خلت منه. لأنها جاءت تاكيداً بالهبوط للآية التي قبلها. وفيها صرَّح الله بثبوت تلك العداوة. فاكتفى بها. رابعاً: أن ترقب هُدى الله قد صُرِّحَ به في كل من البقرة وطه. . ولم يأت فى الأعراف إطلاقاً. خامساً: أن بيان أن " مَن اتبع الهدى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون "، أو " فلا يضل ولا يشقى " من خصائص سورتى البقرة وطه مع اختصاص طه بشيء من التفصيل إذا ما قورنت بالبقرة. هذا البيان لم يرد في الأعراف. لأنه تابع لترقب الهُدى الذي لم يرد فيها كما مَر. سادساً: التصريح بـ " الاستقرار في الأرض والتمتع فيها إلى حين " من خصائص سورتى البقرة والأعراف. فيما تقدم عن هذه الآية. والأعراف فى الآية المذكورة مع اختصاص الأعراف بشرح تفصيلى لأدوار سُنَّة الله التى سيخضعون لها في الأرض قال: (فيهَا تَحْيَوْنَ وَفيهَا تَمُوتُونَ وَمنْهَا تُخْرَجُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ولكل من هذه الفروق دواع ومقتضيات يطول بنا الحديث لو تتبعناها. على أن هناك فروقاً دقيقة بين الألفاظ المتقابلة في هذه المواضع. نضرب مثلاً بواحد منها. فقدجاء فى البقرة: (. . فَمَن تَبِعَ هُدَايَ) . وجاء فى طه: (فَمَن اتبَعَ هُدَايَ) . الفعل " تبع " مخفف في البقرة ومُشدد في طه. يقول جماعة: " إن تشديد الاتباع لسبق التصريح بمعصية آدم. وقد سبقه أيضاً الاتباع مشدداً في نفس السورة في قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ) ، وفى توجيه التشديد وعدمه آراء أخَر لعَل هذَا أقواها. وتوجيه آخر أراه حرياً بالقبول، هو أن القرآن في مكة كان يتجه كثيراً نحو القوة والعنف لغلظة القوم وتماديهم في الضلال. بخلاف المدني الذي كان يميل إلى الهدوء والشرح والتفصيل. هذه آخر مرحلة يتحدث عنها العهد المكي - مرحلة الهبوط من الجنة والاستقرار في الأرض - وقد اشترك العهد المدني معه في بيان هذه المراحل مع الفروق التي لحظناها بين النصوص جميعاً. لكن بقى هناك شيء هام. وهام جداً لم ترد إليه إشارة واحدة في العهد المكي، وإنما استأثر به العهد المدني. شيء هام تكاد حكاية القصة في المدينة تختلف به عن حكايتها في مكة اختلافا أساسياً. أن العهد المدني قد أضاف جديداً إلى هذه القصة. . فما هو ذلك الجديد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 * الجديد في القصة في العهد المدني: إن الجديد الذي ورد في العهد المدنى عناصر بارزة في القصة أرجأها الله تعالى فلم ترد في المكي. وهي تتمثل فيما يلى: أولاً: جاء فيه أنه قال للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، ولم يقل لهم كما قال في المكي: (إنَى خَالِقٌ بَشًراً مِن طِيَن) - مثلا - كما في سورة " ص ". وجعل آدم خليفة مرحلة أرقى من خلقه ولاحقة به في الوجود. ثانياً: جاء فيه أن الملائكة تعجبوا من هذا الجعل وبنوا تعجبهم على وصفين فى المجعول. ووصفين فيهم. أما الوصفان اللذان في المجعول: فكونه مفسداً في الأرض وسافكاً للدماء. وأما الوصفان اللذان فيهم: فكونهم مسبِّحين بحمد الله ومقدِّسين له. فرد الله عليهم بأنه يعلم ما لا يعلمون. ثالثاً: وجاء فيه تعليم الله آدم الأسماء كلها ومسمياتها وأعدَّه بذلك لمباراة بينه وبين الملائكة ليتحقق له الانتصار عليهم. رابعاً: وجاء فيه أن الله عرض المسميات على الملائكة وطلب منهم أن ينبئوه بها فلم يستطيعوا وفوَّضوا الأمر إلى الله مسبِّحين له. خامساً: وجاء فيه أن الله أمر آدم أن ينبئهم بالأسماء ففعل. فلما أنبأهم بأسمائهم قال الله لهم: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) . وأول ما يلاحظه الباحث - هنا - أن نص السورة (البقرة) حين اشتمل على معان جديدة لم ترد في غيره قبلا. كما وضحناها آنفاً. واشتمل على معان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 تحدثت عنها السور المكية، فإنه في بناء القصة في المدينة قدم القرآن المعاني الجديدة، وبعد الفراغ منها ساق المعاني التي وردت في العهد المكي. وبذلك اكتمل بناء القصة. ولم يعد فيها موضع لإضافة جديدة. فى المدني كانت عبارة: (إنِّي جَاعلٌ في الأرضِ خَليفَةً) بديلا عن عبارة: (إنًى خَالِقٌ بَشَراً) لأن العهد المكي كان عهد تكوين في كل شيء. . تكوين للعقيدة الصالحة، تكوين للأخلاق الإنسانية الفاضلة، تكوين لجماعة تؤمن بالحق وترفض الباطل. فناسبه من قصة آدم عليه السلام مراحل التكوبن الأولى. مراحل الخلق والإيجاد من الطين أو الصلصال والحمأ المسنون. أما " الجعل " فمناسب للعهد المدني لأنه طور لاحق للإيجاد والخلق. ولأن مفعوله خليفة، والخلافة مجعولة لآدم متنقلة في ذُريته جيلاً بعد جيل لأن فى الجعل معنى التحويل من شيء إلى شيء. قال العلامة العمادي في تفسير أول سورة الأنعام: " والجعل هو الإنشاء والإبداء كالخلق. خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكوينى وفيه معنى التقدير والتسوية. وهذا عام له كما في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظلمَاتِ والنورَ) ، وللتشريعي كما في قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) . وأياً ما كان فهو إنباء عن مَلابسةَ مفعوله بشئَ آخًر يكونَ فيه أو له أو منه ". فالخلق لا يُطلق إلا على الإيجاد والإبداع. أما الجعل فقد يُستعمل في معنى الخلق. وقد يفارق ذلك المعنى إلى معان أخرى كما ذكره العمادي. ولذلك وضع بإزاء الخلافة لأن الخلافة مجعولة لا مخلوقة.   (1) في الكتاب المطبوع النص هكذا: " والجعل هو الإنشاء والإبداء كالخلق. خلا إن مختص بالإنشاء التكوينى. وتم التصويب من تفسير أبي السعود (صاحب النص) . اهـ مصحح النسخة الإلكترونية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ومن ملائمات القصة في البقرة للعهد المدنى أن اليهود كانوا في المدينة وهم أهل كتاب. ولهم بماضى الأمم وحقائق الخلق دراية. فجاءهم القرآن بتفاصيل دقيقة من جعل الخلافة لآدم. ومحاورة الملائكة ربهم. وتعليم آدم الأسماء. وعجز الملائكة عن التنبؤ بها. وتحقيق ذلك لآدم. ومن تلك الملاءمة أيضاً قوله تعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) . فهذه للعبارة تؤدى إلى جانب المقصود منها معنى آخر هو تهديد ظاهرة النفاق التي جدَّت في المدينة ولم تعرف عنها مكة شيئاً. فيها تهديد لهم بكشف أسرارهم وإظهار خفاياهم لأن النفاق يقوم على كتمان الكفر وإظهار الإيمان والطاعة. * * * ملاحظة مهمة أخرى: ومن الملاحظات الهامة في نصوص القصة كلها في جميع مصادرها أن بعض المعاني تُذكر مع بعض معيَّن. فإذا لم يُذكر ذلك البعض المعيَّن لم يذكر - كذلك - ما جرى المنهج القرآني على كره معه. فسؤال الله إبليس عن عدم السجود يُذكر معه بعد اعتذاره طلب إبليس من ربه أن يجعله من المنظرين. ويُذكر معه - كذلك - إعلان إبليس تصديه لإضلال الناس إلا عباد الله المخلصين. وهذا المعنى جاء في كل من سورة " ص " - والحجْر - والإسراء. ولم يرد فى هذه السور الثلاث الأمر لهم بالهبوط من الجنة إلى الأرض. وإذا ذكر الهبوط من الجنة إلى الأرض، ذكر معه ترقب الهُدى. فمَن اتبعه هَداه إلى الحق. ومَن خالفه هلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وقد ذكِر هذا المعنى في سورتى البقرة وطه. ولم يخالف هذا المنهج إلا فى الأعراف حيث ذكِر فيها الهبوط ولم يُذكر ترقب الهُدى. ولعل السر في ذلك أن طه نزلت بعد الأعراف مباشرة فأُرجئ ذلك إليها. كذلك فإن إعلان توبة الله على آدم عليه السلام قرينة ذكر الهُدى وترقبه ذلك فى البقرة وطه. إن المنهج القرآني يسبر على اعتبارات دقيقة في بناء القصة وائتلاف أجزائها، وتظهر هذه الجوانب الحكيمة كلما أطال الباحث النظر في نصوصه وقارن ودرس واستنتج. وفوق هذه العناصر المشتركة بين كل النصوص. ثم المشتركة بين مجموعة دون أخرى نجد لكل نص ملامح خاصة لم تأت فيما عداه. فما هي إذن؟ * * * * الملامح الخاصة بكل مصدر من مصادر قصة آدم: نضرب مثلا، ولا نستقصي. وليكن ذلك بحسب وضع السور فى المصحف، ولنبدأ بسورة البقرة. إن العهد بهذه السورة ليس ببعيد. إذ يكاد ما جاء بها يكون ملامح خاصة لها. . فليس فيها مكرر سوى أمر السجود والهبوط وترقب الهُدَى. وما عدا ذلك فخاص بها. والأعراف: اختُصت فيما اختُصت به بذكر تندم آدم وحواء ودعائهما الله بالمغفرة والرحمة وإلا كانا من الخاسرين. والحِجْر: اختُصت بذكر الصلصال والحمأ المسنون. وبذكر السبعة الأبواب للنار وأن لكل باب جزءاً مقسوماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 والإسراء: اختُصت بوضع مقولة إبليس موضع إبائه السجود. وبالتصريح بحقده على آدم: (أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) وبالإمداد له فى الضلال، وأن يجلب عليهم بخيله ورجِلَه، وأن يشاركهم في الأموال والأولاد. وأن وعده لهم ما هو إلا غرور. والكهف: اختُصت بوِصف إبليس بأنه كان من الجن وأنه فسق عن أمر ربه، وبإنكار أن يتخذ هو وذُرَيته أولياء من دون الله. وطه: اختُصت بإجمال جامع ورد على وجه التمهيد للقصة: (وَلقَدْ عَهدنا إلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلمْ نَجِدْ لهُ عَزْماً) . وبتفصيل النعيم الذي سيلقاه آدم وحواء في الجنة. وبأن الله اجتبى آدم وهداه. وسورة " ص ": اختُصت بقوله تعالى: (لمَا خَلقْتُ بِيَدَيَّ) . . . إلى غير هذه الأمور يطول بنا الحديث لو تتبعناهَا جزئية جزئية. وكم في هذه النصوص من الحِكم والأسرار؟ * * * لماذا اختلفت أساليب الحكاية والمحكي عنه واحد؟ هذا سؤال نعيده مرة أخرى بعد أن أشرنا إليه في مدخل البحث. فما جوابه إذن؟ * الجواب: أولاً: أن الاختلاف راجع في الأغلب إلى اختلاف الأحوال. ففى كل عبارة جائت على نهج معيَّن رعاية ومناسبة لمقام الحديث. ويتصل بهذا المظهر من مظاهر التحدى حيث يكون المعنى الأصل واحداً. وتحدث بتكراره زيادات ومعان ثانية لم يزدد بها إلا حلاوة وطلاوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 على خلاف المعهود في بلاغة الناس. فإن التكرار فيه يُعرضه للقوة والضعف والتهافت وإن وُفقَ في موضع خُذِلَ وسقط في موضع آخر. ثانياً: الفروق اللفظية التي يجيء عليها المكرر عندما نبحث عن أسرارها يتجلى لنا بوضوح لماذا آثر القرآن لفظاً على لفظ. وأسلوباً على أسلوب مما يؤدى في النهاية إلى الإقرار اليقينى بإعجاز القرآن. ثالثاً: يقول الإمام البقاعى في تفسيره سورة البقرة: " إن المقصود من حكاية القصص في القرآن إنما هي المعاني. فلا يضر اختلاف اللفظ إذا أدى جميعها ولم يكن هناك تناقض. فإنها كانت حين وقوعها بأوفى المعاني، ثم إن الله تعالى يُعبر لنا في كل سورة يذكر القصة فيها بالألفاظ المناسبة للمعاني، ويطرح ما لا يقتضيه المقام. * * * * خلاصة: ذلك هو جانب التكرار في القرآن الكريم. فليأت قصاصو العالم بأدب مثله، وليرنا الطاعنون أين موضع العيب فيما جاء في القرآن مكرراً؟ وإلا فكفى لغواً. فإن كانوا مكابرين قلنا لهم: كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَهَا. . . فَلمْ يَضِرْهَا وَأوْهَى قَرْنهُ الوَعِلُ وإن كانوا ضالين قلنا لهم: وَإذا كُنْتَ لمْ تَرْ الهِلَالَ فَسَلِّمْ. . . لأنَاسٍ رَأَوْهُ بِالأبْصَارِ * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الفصل الرابع خصائص يغلب عليها جانب المعنى 1 - ثراء معاني القرآن: وهذه خاصة من خصائص التعبير القرآني. فيها يقول الجاحظ: " إنه - أي القرآن - قد يدل بالكلمة الواحدة والكلمات المختصرة على معان متعددة يطول شرحها. وإذا أراد المتكلم العادى التعبير عن المعاني التي أرادها القرآن لم يصل إلى بغيته إلا بلفظ أطول. وأقل دلالة ". فالقرآن ينتقى من الألفاظ جوامعها وأغناها بالدلالة، ويختار من أدوات التعبير ما يعطيك من المعنى ما هو دائماً - متجدد متدفق، بحيث يسع وجهات النظر المختلفة. " وهكذا يخيل إليك أنك قد أحطت خُبراً به، ووقفتَ على معناه محدوداً، ولو رجعتَ إليه كَرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد، غير ذلك الذي سبق إلى فهمك أول مرة، وكذلك حتى ترى للفظة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوهاً عدة. كلها صحيح أو محتمل للصحة، وكأنما هي فص من الماس يعطيك كل ضلع فيه شعاعاً، فإذا نظرتَ إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها فلا تدرى ما تأخذ عينك وماذا تدع ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 لذلك فإنك ترى الناس يذهبون مذاهب شتى في بيان المراد من لفظ فيه، أو جملة. والاختلاف في بيان المراد من ألفاظ القرآن وجمله كان مورداً غنياً للمفسرين والمشرِّعين والفقهاء. وجهودهم في ذلك معروفة لا تحتاج إلى بيان. وذكر مقاتل في صدر كتابه حديثاً مرفوعاً: " لا يكون الرجل فقيهاً كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة ". * * لماذا كان المعنى في القرآن ثريا؟ ساعد على ثراء معاني القرآن أمور نوجزها فيما يلى: 1 - ما في طبيعة بعض ألفاظه من مرونة وغنى بحيث ترى للكلمة الواحدة عدة معان، لا تنكرها اللغة بحسب الوضع، ولا يرفضها الدين من حيث العمل والاعتقاد. 2 - ما في طبيعة بعض تراكيبه من عموم وشمول فيما يحسن فيه العموم والشمول. فتختلف وجهات النظر حول المراد، ويشمل هذا الفهم التعدد وصف " واحد "، هو أنه فهم لا يتنافى مع طبيعة النصوص، ولا يتنافى مع حقائق الشرع كاختلافهم حول ليلة القَدر، والليلة المباركة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم، والمراد بالليالى العَشر في سورة الفجر، والمراد بالشفع والوتر. . . وغير ذلك كثير لا يكاد يخلو منه موضع في القرآن. 3 - ما في وجوه قراءاته من تباين يختلف معه المعنى ويتعدد ويتكاثر مثل قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) - برفع اسم الجلالة مرة على أنه فاعل، وإسناد الَخشيةَ إليَهَ يكون حينئذ بمعنى: التجلة والتكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وينصب اسم الجلالة مرة على أنه مفعول به قُدِّمَ على الفاعل الذى هو " العلماء " لإرادة الاختصاص. وكثير من وجوه القراءات الصحيحة تضفى معاني جديدة متسقة مع أغراض الشرع وقواعد اللغة. 4 - صلاحية ما في جمله من قيود لتعلقها بأكثر من جهة، فيتعدد المعنى بتعدد جهات التعلق، حيث لا مانع من ذلك شرعاً. وسنضرب لذلك بعض الأمثلة فيما يأتى. 5 - ما في فواتح سوره من غرابة اختلف الفهم حولها. وساعد التعبير على ذلك الاختلاف، وما زالت تلك الفواتح حتى الآن نوعاً من المكنون الذي لا يقف على حقيقة معناه إلا الله. ونقدم فيما يأتى بعض النماذج: * توارد المعاني على اللفظ الواحد: القرآن يستخدم اللفظ الواحد في مواضع متعددة، وكل موضع يراد به معنى غير الذي أُريد به في الموضع الآخر. ومن ذلك كلمة " هُدَى " وما اشتق منها. فقد ورد فيه هذا اللفط في سبعة عشر موضعاً مراداً به سبعة عشر معنى كذلك. وهاك أمثلتها: بمعنى " البيان " كقوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) . وبمعنى " الدين " كقوله تعالى: (إن الهُدَى هُدَى اللهِ) . وبمعنى " الإيمان " كقوله تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) . وبمعنى " الداعي " كقوله تعالى: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) . وبمعنى " الرسل " قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) (1) .   (1) ويجوز أن يراد به: " كتاب أو بيان ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وبمعنى " المعرفة " كقوله تعالى: (وَبِالنجْم هُمْ يَهْتَدُونَ) . وبمعنى " الرشاد " كقوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) . وبمعنى " القرآن " كقوله تعالى: (وَلقَدْ جَاءَهُم مًن ربهمْ الهُدَى) . بمعنى " التوراة " كقوله تعالى: (وَلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهُدَى) . وبمعنى " الاسترجاع " كقوله تعالى: (وَأؤلئِكَ هُمُ المهتَدُونَ) . وبمعنى " الحُجة " كقوله تعالى: (واللهُ لَا يَهْدِى القَوْمَ الظالِمِينَ) . وبمعنى " التوحيد " كقوله تعالى: (إنِ نتبِع الهُدَى مَعَكَ) . وبمعنى " السُّنَّة " كقوله تعالى: (وَإنا عَلى آثَارِهِم مُهْتَدُونَ) . وبمعنى " الإصلاح " كقوله تعالى: (وَأَن اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ) . وبمعنى " الإلهام " كقوله تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) . وبمعنى " التوبة " كقوله تعالى: (إنا هُدْنَا إِليَكَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وبمعنى " النبي - صلى الله عليه وسلم - " وذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) . نص على هذا صاحب البرهان. على أن بعض المعاني هنا يمكن أن تتداخل، وممكن كذلك أن تُفسَّر بمعنى غير ما أثبتناه نقلاً عن صاحب البرهان. والتفرقة بين هذه المواضع قائمة على اعتبارات دقيقة ونسبية. * * * السوء: ومثل هذا اللفظ في الاستعمال على وجوه كثيرة: لفظ " السوء "، ولنضرب لذلك أمثلة: بمعنى " الزنا " كقوله تعالى: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) . وبمعنى " الضر " كقوله تعالى: (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) . وبمعنى " الذنب " كقوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) . وبمعنى " الهلاك " كقوله تعالى: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ) . وبمعنى " العذاب " كقوله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) . وبمعنى " الأذى " كقوله تعالى: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وبمعنى " المنكر " كقوله تعالى: (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) . وبمعنى " القبح "كقوله تعالى: (يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ) . وبمعنى " البلاء " كقوله تعالى: (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) . وبمعنى " الحزن " كقوله تعالى: (إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَة تَسُؤْهُمْ) . وبمعنى " العورة " كقوله تعالى: (يُوارِي سَوْءاتِكُمْ) . وبمعنى " الجثة " كقوله تعالى: (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ) . وبمعنى " الهزيمة " كقوله تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) . وبمعنى " الظلم " كقوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) . وبمعنى " الخيانة " كقوله تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) . وبمعنى " الميل إلى النساء "كقوله تعالى: (مَا عَلِمْنَا عَليْهِ مِن سُوء) . وبمعنى " الكفر " كقوله تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وبمعنى " السباب " كقوله تعالى: (وَيَبْسطواْ إليْكُمْ أيْديَهُمْ وَألسنَتَهُم بِالسُّوءِ) . وبمعنى " الجنون " كقوله تعالى: (اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) . وبمعنى " السواد "كقوله تعالى: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) . فقد بلغت المعاني التي استخدم القرآن فيها هذه المادة عشرين وجهاً كما ترى، والتفرقة بينها تعتمد على اعتبارات دقيقة مثل " هُدَى " السابقة. وكفى بهذين الموضعين دليلاً على طريقة القرآن في استخدام الكلمة الواحدة فيه على معانٍ شتى. فى الموضعين السابقين استخدم القرآن كلمة واحدة - مع اختلاف صيغها - فى معان متعددة كما رأينا. وذلك إحدى طريقتين له في استثمار اللفظ. * * * احتمال اللفظ لمعان متعددة: والآن نعرض طريقة أخرى له في استثمار اللفظ أيضاً وهي الطريقة التى يحتمل اللفظ فيها أكثر من معنى في تركيب واحد بخلاف الطريقة المتقدمة. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . هذا جزء آية البقرة المذكورة، وهي تذييل على ست كلمات - كما ترى - فيهن واحدة وهي موطن السر فيما نهدف إليه فيها وهي كلمة " حساب " فانظر إلى ما تحمله هذه الكلمة من معان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فقد يكون المعنى: أن الله يرزق مَنْ يشاء من عباده دون أن يحاسبه أحد لماذا رزقه؟ لأنه يعطى عن حرية تامة. وقد يكون المعنى: أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير محاسبة لنفسه، خشية نفاد ما بيديه لأنه غني. وقد يكون المعنى: أن الله يرزق مَن يشاء، حيث لا يكون في حسبان المرزوق جهة وكيفية الأرزاق، لأن ذلك قد اختص الله به. وقد يكون المعنى: أن الله يرزق مَن يشاء بغير معاقبة أو محاسبة له على عمله لأنه يغفر لمن يشاء، ويعذب مَن يشاء لا معقب لحكمه. وقد يكون المعنى: أن الله يرزق مَن يشاء رزقاً كثيراً، لا يدخل تحت حساب أو حصر. هذه خمسة معان احتملتها هذه الكلمة الجامعة لا يشذ واحد منها عن طبيعتها وإن بدا بينها - أي المعاني - التباين في الأرجحية والمرجوحية. فأقواها فيما يبدو: الرزق الكثير، وأقلها قوة - فيما يبدو كذلك - أن يترك الله حسابه ومعاقبته إذ لا ضرورة تقتضيه، هو وجه محتمل فقط. * * * الجمل والفقرات: ذلك شأن مفرداته. أما شأن تراكيبه فعجب عاجب. ومن ذلك قوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) . فقد حَكى الزمخشري في بيان قوله تعالى: (سَوَاء فحْيَاهُمْ) ثلاثة آراء: الأول: إنكار أن يستوى المسيئون والمحسنون محياً، وأن يستووا مماتاً، لافتراق أحوالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 إحياءً: حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي. ومماتاً: حيث مات هؤلاء على البشر بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه وأولئك على اليأس من رحمة الله، والوصول إلى هول ما أعد لهم. الثاني: إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، لأن المسيئين مستو محياهم في الرزق والصحة. كما يرزق المحسنون ويصحون. وإنما يفترقون في الممات. الثالث: أن يكون: (سَواءً محْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) كلاماً مستأنفاً على معنى: أن محيا المسيئين ومماتهم سواء، وكذلك محيا المحسنين ومماتهم. كل يموت على حسب ما عاش عليه. وقال سبحانه: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) . قال العلامة أبو السعود في بيان هذه الآية: ". . والمعنى أنه تعالى ناصر لرسوله في الدنيا والآخرة. من غير صارف يلويه وعاطف يثنيه. فمَنْ كان يغيظه ذلك من أعاديه وحساده، ويظن أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور، ومباشرة ما يردده من المكايد فليبالغ في استفراغ المجهود وليجاوز في التحدي كل حد معهود، فقصارى أمره وعاقبة مكره أن يختنق خنقاً مما يرى من خلال مساعيه، وعدم إنتاج - مقدماته ومباديه، (فَليَمْدُدْ بسَبَبٍ إلى السماء) - يعنى حبلاً إلى سقف بيته: (ثُمَّ لْيَقْطعْ) أى ليَختنق من قطع إذا اخَتنق لأنه يقطع نفسه بحبس مجاريه وقيل: ليقطع الحبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 بعد الاختناق، على أن المراد به فرض القطع وتقديره، كما أن المراد بالنظر فى قوله تعالى: (فَليَنظرْ هَلْ يُذْهبَن كَيْدُهُ مَا يَغيظُ) تقدير النظر وتصويره. أى فليصور في نفسه النظر، هل يذهب كيده ذلك الذي هو أقصى ما انتهت إليه قُدرته في باب المعنادة والمضارة ما يغيظه من النُصرة. كلا. ويجوز أن يراد: فلينظر الآن أنه إن فعل ذلك هل يذهب ما يغيظه؟ وقيل: المعنى: فليمدد حبلاً إلى السماء المظلة، وليصعد عليه ثم ليقطع الوحى، وقيل: ليقطع المسافة حتى يبلغ شأنها فليجتهد في دفع ضرره. ويأباه - يعنى هذا الرأي الأخير - أن مقاصد النظم الكريم بيان أن الأمور المفروضة على تقدير وقوعها وتحققها بمعزل من إذهاب ما يغيظ، ومن البيِّن أن لا معنى لفرض وقوع الأمور الممتنعة وترتيب الأمر بالنظر عليه لا سيما قطع الوحى. فإن فرض وقوعه مخل بالمرام قطعاً. وقيل: كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام من النُصرة، وآخرون من المشركين يريدون إتباعه - عليه السلام - ويخشون أن لا يثبت أمره، فنزلت. وقد فُسر " النصر " بالرزق، فالمعنى أن الأرزاق بيد الله تعالى، لا تُنال إلا بمشيئته تعالى فلا بدَّ للعبد من الرضا بقسمته. فمن ظن أن الله تعالى غير رازقه، ولم يصبر ولم يستسلم. فليبلغ غاية الجزع، وهو الاختناق، فإن ذلك لا يغلب القسمة ولا يرده مرزوقاً. * * * * القراءات وتعدد المعنى: أما أثر القراءات في تكثير المعنى القرآني وثراء ما يستنبط منه، فيتضح من الأمثلة الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 أولاً: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) . فقد تعددت. القراءات في كلمة " غير " فجاءت مرفوعة، ومنصوية، ومجرورة، فالرفع على أنه صفة للقاعدين، والنصب على الاستثناء، والجر على أنه صفة للمؤمنين. والمعنى على الأول: " لا يستوى القاعدون الأصحاء من المؤمنين والمجاهدون ". وعلى الثاني: " لا يستوى القاعدون من المؤمنين إلا أولى الضرر ". والمستثنى منه: إما " القاعدون " وإما " المؤمنون ". وعلى الثالث: " لا يستوى القاعدون من المؤمنين الأصحاء " (1) . ثانياً: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) . فقد قرئت كلمة " أنفُسكم " على وجهين. أولهما: ضم الفاء والمعنى عليه: قد جاءكم رسول من جنسكم وأنفسكم ليسِ بغريب عليكم. ومصداق هذا قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) .   (1) مصدرنا في هذه النقول كتاب: الحجة في علل القراءات السبع لأبى على الحسن بن أحمد الفارسي: 1/119، تحقيق على النجدى وآخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 والوجه الثاني - أنفَسكم بفتح الفاء والمعنى عليه: " لقد جاءكم رسول من أذكاكم وأطهركم قلباً ونفساً ". . وكلا المعنيين لائق به عليه السلام. ثالثاً: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) . الآيتان تتحدثان عن أهل سبأ. وعن النعمة التي وهبهم إياها الله. حيث أدنى منهم مواطن النفع، وحقق لهم الأمن في سيرهم وجعل القرى التي تقع على طريق سفرهم متقارية بحيث يقيلون في قرية، ويبيتون في أخرى حتى يصلوا القرية التي بارك الله فيها. وهذا معنى قوله: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) والشاهد في الآية الثانية فى قوله تعالى: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) بنصب " رَبَّنَا " على أنه منادى مضاف. وبناء " باعد " عَلى السكون أمراً من المباعدة وهي قراءة حفص. وقد أخرج الزمخشري وغيره من المفسرين المعنى على هذا الوجه فقال: " بطروا النعمة، وبشموا من طيب العيش، ومَلوا العافية. فطلبوا الكد والتعب كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المن والسلوى، وقالوا: لو كان جنى جناننا أبعد كان أجود أن نشتهيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها، ويتزودوا الأزواد. فعجل الله لهم الإجابة ". وقد أورد الزمخشري في الآية قراءات أخرى نتعرض لواحدة منها لأنها هى التي تدخل في موضوعنا لاختلاف المعنى معها. وهي: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) . برفع " رَبنا " على الابتداء وفتح الدال والعين من " باعد " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ماض من المباعدة والمعنى على هذا يختلف من حيث الصياغة، ومن حيث المقصود. فعلى القراءة الأولى تكون العبارة إنشاءً طلبياً، وعلى الثانية خبر لا إنشاء. وقد خرَّج الزمخشري المعنى على هذا الوجه فقال: " والمعنى خلاف الأول هو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوها لفرط تنعمهم وترفههم، كأنهم يتشاجون على ريهم ويتحازنون عليه ". إنهم في الأول يشكون من قرب أسفارهم ويطلبون بعدها. وفي الثاني يمثكون من بعد أسفارهم، على الوجه الذي ذكره الزمخشري، ويطلبون قربها. * * * القيود وتعدد المعنى: قال سبحانه: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) والشاهد في قوله " حُبِّهِ " فقد اختلفوا في مرجع الضمير على رأيين: أولهما: أن يكون الضمير راجعاً للطعام لذكره قبله. والمعنى: أنهم يطعمون الطعام وهم يحبونه لاحتياجهم إليه، وتعلق أغراضهم به، وهذا عملاً بقوله تعالى: (لن تَنَالُواْ البِر حَتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) . وقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) . وثانيهما: أن يكون الضمير راجعاً إلى اسم الجلالة من باب الإضمار ولا ذكر لقوة ظهوره. والمعنى عليه: ويطعمون الطعام على حب الله لا حب غيره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 أي لا يريدون عليه جزاءً ولا شكوراً. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى بعده: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) . أي أنهم يطعمَونهم مخَلصيَن العَمل للهَ. وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) . والشاهد في هذه الآية: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) . فإن الله سبحانه - لما بيَّن لرسوله نوعي الآيات المنزلة عليه: نوع واضح فى الدلالة لا يُختلف فيه، ونوع محتمل لعدة وجوه. . لما بيَّن له ذلك قال: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) . . ثم قال: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) . والعلماء في تفسير هذا لهم وجهان: الأول: أن الواو للعطف. والمعنى عليه: أن تأويل المتشابه شركة بين الله وبين " الراسخين " في العلم. فهم يعلمونه بإلهام منه سبحانه، وعليه أيضاً فإن موضع الجملة بعدها: " يقولون " استئنافية، أو هي حال من الراسخين ". الثاني: أن الواو استئنافية. فهى ليست عاطفة. والمتشابه هو الذي استأثر الله وحده بعلمه دون سواه. وعلى هذا فإن موضع الجملة " يقولون " خبر " الراسخون " وهذا الرأي - فيما يبدو - أقوى من السابق، لخلوه من الاعتراض لأن الأول اعترض عليه بعضهم فقال: " كيف يجوز في اللغة أن يعلم الراسخون، والله يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) وإذا أشركهم في العلم انقطعوا عن قوله " يقولَون " لَأنه ليس هنا عطفَ حتى يوجب للراسخين فعلين". ولهذا حاول بعض العلماء الرد فقالوا: إن " يقولون " هنا في موضع الحال. كأنه قال: " والراسخون في العلم قائلين: آمنا به ". . كما قال الشاعر: الرِّيحُ تَبْكِى شَجْوَها. . . والبَرْقُ يَلمَعُ فِى غمَامِهْ أى لامعاً. وقيل: المعنى: " يعلمون ويقولون " فحذف واو العطف كقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئذ نَاضرَةٌ) والمعنى: يقولون: علمنا وآمنا. لأن الإيمان قبل العلم محال. إذَ لا يتصور الإيمان مع الجهل: وأيضاً لو لم يعلموها لما كانوا من الراسخين، ولم يقع الفرق بينهم وبين الجهال وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) . نسوق هذه الآية دليلاً من نوع آخر على ما تحتمله القيود من وجوه فى الإعراب، يتبعها اختلاف في المعنى. قال صاحب الكشاف: " تلقون ": فإن قلت: بِمَ يتعلق؟ يجوز أن يتعلق ب " لا تتخذوا " حالاً من ضميره وبـ " أولياء " صفة له ويجوز أن يكون استئنافاً. والباء في " بالمودة " إما زائدة مؤكدة للتعدي مثلها في: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وإما ثابتة على أن مفعول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 " تلقون " محذوف. معناه: تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودة التي بينكم وبينهم. . . فإن قلت: " وقد كفروا " حال مِمَ؟ قيل: إما من " لا تتخذوا " وإما من " تلقون " أي لا تتولوهم أو توادونهم وهذه حالهم . . و " يخرجون " استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوهم. أو حال من " كفروا ". فأنت ترى إلى أي مدى كانت القيود في هذه الآية محتملة للوجوة الإعرابية التي تبعها اختلاف في المعنى. * * * سر هذه الظواهر: لماذا جاء القرآن على هذه الوجوه؟ نرى الزمخشري يجيب على هذا السؤال فيقول: فإن قلتَ: " هلَّا كان القرآن كله محكماً "؟ يعنى دلالته قطعية في كل موضوع. قلت: لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال. ولو فعلوا ذلك لعطدوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به. ولما فى المتشابه من الاستيلاء والتمييز بين الثابت على الحق، والمتزلزل فيه. ولما فى تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله. هذا كلامه. وهو - وإن كان في الدفاع عن ورود المتشابه في القرآن - فإن له بما نحن فيه نسباً وصلة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 2 - دقة النظم: وهذه - أيضاً - خاصة من خصائص الأسلوب القرآني، يغلب فيها جانب المعنى على جانب اللفظ. ونضرب لذلك ثلاثة أمثلة. . . أولاً - في تاريخ الأمم: قال سبحانه: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ) . فى هذه الآية نجد خمسة أسماء مسرودة سرداً إجماليا. والشأن في مثلها ألا تكون موضعاً للجمال. ولا مجالاً للتصرف في القول. ولكنها في هذا الوضع تجد فيها نوعاً من الجمال التأليفى المبنى على قاعدة وقانون. لأن هذه الأسماء الجوامد تتفاوت فيما بينها خفة وثقلاً. فأخفها على اللسان: الطوفان والجراد والدم، وأثقلها: القُمَّل والضفادع. فقدم الطوفان لخفته، ولمكان المدين فيه، ليأنس اللسان بخفتها، ثم الجراد لأنها تلى الطوفان في الخفة. وفيها مد كذلك. فهما بمثابة ترويض للسان متدرجة في النطق، وبعدهما جاء بالاسمين الثقيلين - القُمَّل والضفادع - بادئاً بأخفهما: " القُمل " اطراداً على السُّنَّة التي شرحناها، ولمكان الغنة فيه. ثم جاء بالاسم الخامس: " الدم " وهو أقلها حروفاً، وأكثرها خفة ليسرع اللسان بها بعد ذلك الجهد الطويل. وما أشبه هذا برحلة طائر يبدأ سيره وئيداً وئيداً فإذا ما اقترب من بُغيته، قبض من جناحيه، وبطأ من سيره تأبياً للنزول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 إذن فقد راعى القرآن في هذا السرد الذي تكاد تنعدم فيه الروابط إلا رباط العطف المجرد راعى فيه قاعدة فنية جمالية. بنيت على هيئات الكلم أنفسها وأحوالها من حيث الخفة والثقل. وعلى هذا التناسق الذي كان مثار العجب. قدم ما هو جدير بالتقديم. وأخر ما هو جدير بالتأخير. ويمكن أن نفهم النص على وجه آخر، وعلى قانون آخر غير الذي تقدم الحديث فيه. وهذا القانون هو ما سبق أن ذكرناه: " قطع النظير عن النظير ". فقد سبق أن خرجنا عليه قوله تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) . حيث قطع الظمَأ عن الجوع وهما نظيران، والضحاء عن العِرى وهما نظيران كذلك. وقلنا: إن الداعي إلى هذا العمل هو تكثير النِعَم. ويرى بعض الباحثين أن الآية تضمنت ضرورات الحياة الأربع: الطعام، والكساء، والمسكن، والشراب. وفي آيتنا هذه قطع للنظير عن النظير، فقد ذكر الطوفان أولاً. وكان الظاهر يقتضي أن يذكر بعده الضفادع لأنه تعيش - غالباً - في الماء، ويكثر وجودها فيه، ثم الدم، لأنه كان يظهر - حسب ما اقتضه حكمة الله - في الماء. لكنه خالف هذا الظاهر لأنه لئلا يتوهم متوهم تقليل الآيات بحسبان الطوفان والضفادع والدم كالآية الواحدة. ففصل بينها لهذا الغرض. ثم قدم الجراد على القُمل لظهوره أمام النظر أكثر ولأنه شيء خارجى عن الإنسان. وأخر القُمل لاختفائه وعدم وقوع الرؤية عليه كثيراً. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ثانياً - في التشريع: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) . قال صاحب الظاهرة القرآنية بعد أن ذكر هذا النص: " هذا نص أساسى يقرر في نفثة واحدة من الوحى، تشريع الزواج بجميع تفاصيله وشروطه القانونية الضرورية، وهو ينظم بصورة ما الحرمات من النساء مشتملاً بذلك على حكمين جوهريين. هما: الاستيعاب والحصر الشامل للحالات المشار إليها، وتصنيفها في نظام منطقى. وترينا مناقشة النص تصنيفاً للحالات المحرمة بدرجة القرابة العصبية والترتيب النزولى: الأم والبنت والأخت - والعمة والخالة - وبنت الأخ، وبنت الأخت من القرابة المباشرة. والمرضعة وأخت الرضاعة من القرابة الرضاعية، ولا يحل للرجل أن يتزوج أم امرأته، أو ابنتها أو أختها. فدرجة القرابة هنا مقيسة بالنسبة للمرأة، ويمكن أن نلحظ - أيضاً - في هذا التصنيف أفضلية رباط المذكورة على رباط الأنوثة، فابنة الأخ تُذكر قبل ابنة الأخت، والقرابة المتصلة بالزوج تُذكر قبل القرابة المتصلة بالزوجة، مع أسبقية رباط المذكورة ". (انتهى كلام صاحب الظاهرة القرآنية) . ويمكن تلخيص الأسس التي بنى عليها تحليله للآية الكريمة في العناصر الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 1 - القرا بة المباشرة 2 - الترتيب النزولى. 3 - أفضلية علاقة الذكورة ولا يستطيع أحد أن يقلل من قيمة هذه الاعتبارات التي أوردها الكاتب. وقد أشار القاضي أبو بكر الباقلاني - قبل صاحب الظاهرة القرآنية - إلى شيء من هذا التفصيل في هذه الآية في كتابه المعروف " إعجاز القرآن ". ونحن مع الرجلين فيما ذهبا إليه. ولكننا نرى إمكان تحليل الآية على وجه آخر لا يختلف عما ذهبا إليه. وإن اشتمل على جديد لم يلحظاه هما. وهذا الوجه هو: أن هذه الحالات الثلاث عشرة المحرَّمة المنصوص عليها في الآية الكريمة ترجع إلى عنصرين أساسيين هما: أولاً - حُرمة ذاتية: ويدخل تحت هذا الضابط سبع حالات هي: الأم - البنت - الأخت - العمة - الخالة - بنت الأخ - بنت الأخت. وقد روعى في ترتيب هذه الحالات السبع ما يأتى: 1 - أهمية الحُرمة. 2 - ثم علاقة الذكورة. ولهذا ذكِرت الأم في صدر الحالات لعظم حُرمتها، ولأن المخاطب جزؤها، ثم البنت لأنها تلى الأم في عظم الحُرمة، ولأنها جزء المخاطب. ثم الأخت لاتحادهما في أصل الولادة. ثم العمة، لأنها أقرب النساء إلى المخاطب بعد المذكورات. ثم الخالة لنفس السبب. وقُدمت العمة على الخالة - مع اتحاد درجة القرابة - لنفضيل علاقة الذكورة على الأنوثة. إذ القرابة في العمة من جهة الأب، وفي الخالة من جهة الأم (أخت الأب ثم أخت الأم) . كذلك قُدِّمت بنت الأخ على بنت الأخت لعلاقة الذكورة مع الاتحاد في درجة القرابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وأخرتا عن العمة والخالة - فوق ما ذكِر - لأن القرابة في العمة والخالة من جهة الأصول - الآباء والأمهات - وفي بنت الأخ وبنت الأخت من جهة الفروع: الأخوة والأخوات. . . وهكذا. ثانياً - حُرمة عارضة: وتحت هذا الضابط ست حالات وهي فيما بينهما نوعان: 1 - ما كانت العِلَّة فيه الرضاعة. 2 - ما كانت العِلَّة فيه الزواج. والنوع الأول تحته حالتان: الأم من الرضاعة. والأخت من الرضاعة. وقد ذكِرتا على هذا الترتيب، فقُدً مت الأم على الأخت تشبيهاً لها بالأم الحقيقية من حيث الحُرمة وما ثبت لها هناك من أحكام. وتلتها الأخت لما تقدم وقد صُدِّرَ هذا القسم بما صُدرَ به القسم الأول. الأم هناك هي أول من ذكِر وهى هنا كذلك مع مراعاة الترتيب النزولى في جميع الحالات. وقُدِّم سبب الرضاع على سبب الزواج لأسبقية الأول وجوداً. والنوع الثاني تحته أربع حالات: أ - أم الزوجة 2 - بنت الزوجة. 3 - حلائل الأبناء. 4 - الجمع بين الأختين. وقُدِّمت الأم هنا - كما قُدمت في القسمين الأولين - فالنظم يجرى - كما ترى - على نسق واحد. ثم بنت الزوجة المدخول بها. تشبيهاً لها بالبنت المولودة من الزوج، ثم حلائل الأبناء، وأخيراً الجمع بين الأختين. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 * سؤال لا بدَّ منه: وهنا يمكن أن يرد سؤال مؤداه: إن ما ذهبتم إليه من أسبقيه علاقة المذكورة على الأنوثة غير ملحوظ هنا بل النظم يخالفه صراحة. إذ قُدمت بنت الزوجة - والعلاقة فيها الأنوثة - على حليلة الابن - والعلاقة فيها الذكورة - فما دفاعكم - إذن - عما تقولون؟ وكان مقتضى منهجكم أن تُقدم حليلة الابن على بنت الزوجة؟ * وجواب من ثلاثة وجوه: الأول: أن التقديم - هنا - جار على اعتبار بنت الزوجة المدخول بها مثل بنت المخاطب فهى - إذن - جزؤه. حيث إنها تربى في حجره، وتحت رعايته، وقد أشار إلى هذا المعنى الزمخشري حيث يقول: " فإن قلت: ما فائدة قوله: (فى حُجُوركمْ) ؟ قلت: فائدته التعليل للتحريم وأنهن لاحتضانكم لهن، أو لكونهن بصَدد احتضانكم وفي حكم التقلب فى حجوركم إذا دخلتم بأمهاتهن، وتمكن بدخولكم حكم الزواج، وثبتت الخُلطة والألفة وجعل الله بينكم المودة والرحمة وكانت الحال خليقة بأن تجروا أولادهن مجرد أولادكم، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم ". ويرى العلامة أبو السعود ما يرى الزمخشري. فقد قال في توجيه عِلَّة التحريم فيها: " فإن كونهن بصدد احتضانهم لهن، وفي شرف التقلب فى حجورهم، وتحت حمايتهم وترييتهم مما يقوى الملابسة والشبه بينهن وبين أولادكم ويستدعي إجراءهن مجرى بناتهم ". الثاني: يمكن جعل هذين الحالين - أي حُرمة حلائل الأبناء، والجمع بين الأختين - نوعاً مستقلاً. وعليه فإن النسق يجرى على منهج واحد من تقديم عِلَّة الذكورة على الأنوثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 والأساس الذي يمكن صحة هذا الاعتبار عليه هو كونه ابتدأ هذا النوع بما علاقته الذكورة. والذكورة مقدمة على الأنوثة في هذا النظم. لذلك أرى جعله نوعاً مستقلاً جرى فيه النظم على المنهج المألوف. الثالث: أن النظم الكريم حين تحدث عن أصل الزوجة - وهي الأم - ناسب ذلك الحديث عن فرعها. وهي البنت، حتى لا يكون الكلام مقطوعاً حيث يجب اتصاله لو أقحم حليلة الابن بينهما. وحين أخرت الحليلة جاء النظم دقيقاً محكماً. والظاهر أن أقوى هذه الوجوه هو الوجه الأول، يليه الثاني، ثم الثالث فالترتيب بينها نزولى. وأياً كان التوجيه فإننا نرى في هذه الآية إعجازاً في الأسلوب ودقة فى النظم. قد وضح لنا وجه الحكمة فيها. ونذكر فيما يلى نصين لرجلين تباينت عصورهما، والتقت أفكارهما فيما للقرآن من قوة السبك وروعة البناء وإحكام الروابط بين مفرداته وجمله. أولهما: للقاضي أبى بكر الباقلاني معقباً على الآية التي درسناها من عدة زوايا. * الباقلاني وبلاغة القرآن: يقول الباقلاني: ". . . والكلام في ذكر حكم هذه الآية وفوائدها يطول. ولم نضع كتابنا لهذا، وسبيل هذا أن نذكره في كتاب " معاني القرآن " إن سهَّل الله دنا ملاءه وجمعه. فلم تنفك هذه الآية من الحكم التي تخلف حكم الإعجاز والتأليف والفائدة التي تنوب مناب العدول عن البراعة في وجه الترصيف . . ثم في جملة الآيات ما إن لم تراع البديع البليغ في الكلمات الأفراد والألفاظ الآحاد. فقد تجد ذلك مع تركيب الكلمتين والثلاث. ويطرد ذلك في الخروج والابتداء والفواصل، وما يقع بين الفاتحة والخاتمة من الواسطة أو باجتماع ذلك، أو في بعض ذلك مما يخلف الإبداع في أفراد الكلمات ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 فى هذا النص يسوق القاضي ثلاث حقائق: أولاها: أن هذه الآية مليئة بالحكم وليس كتابه " الإعجاز " موضعاً لتقصيها، بل موضعها كتاب في عزمه أن يضع أصوله إن سهَّل لله. ثانيها: أن القرآن في بعض المواضع لا يستعير، ولا يُشبِّه، ولا يستخدم شيئاً من البديع في الكلمات المفردة، وليس معنى هذا خلو هذه المواضع من الإعجاز. ثالثها: بل يكون فيها ما يخلف بلاغة الكلمات المفردة، ويؤدى مؤداها فى ثبوت الإعجاز لا فيه من الحكم والدقائق والأسرار - مثل الآية المتقدمة - فقد حفلت بدقائق النظم، وقوة التأليف الذي يقوم مقام وجوه البلاغة الظاهرة. * * الرافعي وبلاغة القرآن: والنص الثاني للناقد الأديب مصطفى صادق الرافعي. يقول فيه: " ومن أظهر الفروق بين أنواع البلاغة في القرآن، وبين كلام البلغاء. أن نظم القرآن يقتضي كل ما فيه منها اقتضاءً طبيعياً. بحيث يبنى هو عليها. لأنها فى أصل تركيبه، ولا تبنى هي عليه. فليست فيه استعارة ولا مجاز ولا كناية ولا شيء من مثل هذا يصح في الجواز، أو فيما يسعه الإمكان أن يصلح غيره فى موضعه إذا تبدلته منه، فضلاً عن أن يفى به، وفضلاً عن أي يربى عليه. ولو أدرت اللغة كلها على هذا الوضع ". وهنا - كذلك - ثلاث حقائق هامة: أولاً: أن بلاغة القرآن ليست مستجلبة مقسورة في مواضعها. بل هي من روح التعبير نفسه، لا مارقة عنه، ولا غريبة فيه. خالية من كل مظاهر التكلف البغيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ثانياً: بهذا يفارق القرآن كلام البلغاء. فهم إن أحسنوا في موضع أساءوا فى آخر، وإن قوى أسلوبهم في حالة ضعف في حالات. فما من أديب بارع إلا أنت واجد فيما يقول ما هو له، وما هو عليه. وليس كذلك القرآن فهو سامٍ فى كل مواضعه. ثالثاً: إنك لو ذهبت تضع لفظاً في القرآن بدل لفظ طلبت محالاً إن زعمتَ أن ما وضعته ساد مسد ما رفعت، أو زائد عليه. ولو خدمتك اللغة بكل ما فيها من أدوات التعبير وقوانين الجمال. فالرجلان ينهلان من معين واحد. وإن اختلفت لدى كل منهما ملامح الفكرة واختلفت - كذلك - طرق الصياغة. فالهدف واحد. هو أن القرآن معجز بأسلوبه وطرق نظمه، مباين لكلام البلغاء، لا فرق فيه بين مجاز وحقيقة، وتفصيل وإجمال. * * ثالثاً - في مقالات اليهود: والمثال الثالث نذكره ملخصاً من كتاب " النبأ العظيم " وضع الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز - رحمه الله - فإن فيه علامات ناطقة وآيات حق شاهدة على روعة النظم القرآني. وإحكام الربط بين كلماته ومعانيه. وقد أدار الباحث تحليله حول هذه الآية الكريمة: (وَإذَا قيلَ لهُمْ آمِنُواْ بمَا أنزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 * نصح وعناد: هذه قطعة من فصل من قصة بنى إسرائيل، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص في: 1 - مقالة ينصح بها الناصح اليهود. إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن. 2 - إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوى على مقصدين. 3 - الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه. قال الناصح لليهود: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة. ألستم آمنتم بها لأن الله أنزلها. فالقرآن - كذلك - أنزله الله. هذه المعاني كدها ضمنها القرآن هذه الكلمات (آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) تفسير ذلك أنه عدل عن صريح اسم القرآن إلى كنايته (أَنْزَلَ اللَّهُ) فجعل دعاءهم إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته. فأخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد. * * طى اسم الرسول: ولم يذكر المنزل عليه - محمد - صلى الله عليه وسلم - مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة. أتدرى لماذا؟ لأنه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائداً، وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسداً. أما الأول: فلأن الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام. فأدير الأمر على القَدْر المشترك وعلى الحد الوسط الذي هو عمود الدليل. وأما الثاني: فلأن ذكر هذا الاسم - محمد - على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج الضغائن ويثير أحقادهم فيؤدى إلى عكس ما قصده الداعي من التآلف، والإصلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وفى هذا الحذف - فوق ما ذكِر - إشارة إلى طابع الإسلام وأنه ليس دين تفرقة وخصومة، بل هو دين جامع لما فرَّقه الناس من الأديان، داعياً إلى الإيمان بالكتب كلها على حد سواء، لأن الله أنزلها. كما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتِىَ موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا يفرق بين أحد منهم. * * * جواب اليهود: وكان جواب اليهود: أن الذي دعانا إلى الإيمان بالتوراة. ليس كونها أنزلها الله فحسب، بل لأنها أُنزلت علينا. والقرآن لم ينزل علينا. فلكم قُرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شِرعة ومنهاج هذه المعاني أوجزها الله في قوله: (نُؤْمنُ بمَا أُنزلَ عَليْنَا) وهذا هو المقصود الأول، وقد زاد في إيجاز هذه العبارة أن حَذف منَها فاعل الإنزال: " الله " لتقدم ذكره في نظيرها. ومن الواضح أن الإيمان بما أُنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم - ومنه القرآن - وهذا هو القصد الثاني. ولكنهم تحاشوا التصريح به لا فيه من شفاعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يبرزه ويفضح أمرهم. فكيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهباً لهم، ولم يُنقل عنهم ذلك نقلاً ضمن ما قالوه. لأنهم لم يقولوه صراحة. بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم. فقال: (وَيَكْفُرُونَ بمَا وَرَاءَهُ) أليس ذلك هو غاية الأمانة فى النقل؟ وجاء التعبير (بمَا وَرَاءَهُ) محدداً للجريمة أبين تحديد. لأنهم كما كفروا بالقرآن كفروا بالإنجيَل، وكلاهما وراء التوراة. ولكنهم لم يكفروا بما قبل التوراة لعدم تزاحمه لهم فيما بين أيديهم. وهذا لفظ جامع مانع، وغاية في توخي الصدق في الاتهام. فعداوة اليهود الحاقدة للقرآن لم تمنع القرآن من الإنصاف والعدالة. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 * دور الرد والمناقشة: وجاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه فترى القرآن لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم. بل يتركها مؤقتاً كأنها سليمة ليبنى عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب فيقول: " كيف يكون إيمانهم بكتابهم باعثاً على الكفر بما هو حق مثله؟ لا بل (هُوَ الحَق) كله وهل يعارض الحق الحق. فيكون الإيمان بأحدهما موجباً للكفر بالآخر "؟ ثم يترقى فيقول: " وعجيبة العجائب أن الحق الذي كفروا به جاء (مُصَدِّقاً) لما سبق من الكتب المنزلة - ومنها التوراة التي آمنوا بها - فكيف يُكَذِّب به مَنْ يؤمن بهاً؟ ثم يستمر مفنداً حالتهم فيقول: " لو أن هذا الكتاب جاء مصدقاً لمقاصد فى الكتب المنزلة بعده، وكانت هذه المقاصد مما طمسها التحريف لكان لهم عذر فى كفرهم. لكن كيف يكون لهم عذر وقد جاء هذا الكتاب (مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ) مما يتلونه ويدرسونه ويعلمونه "؟ فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان. إنما هي كلمة رُفِعَت وأخرى وُضِعَت فى مكانها عند الحاجة إليها. فكانت حَسْماً لكل عذر، سادة لكل باب من أبواب الهروب، بل كانت بمثابة حركة تطويق للخصم أتت في خطوة واحدة هادئة رزينة. * * * إفحام الخصم: وبعد هذا التعليق الفاضح للخصم، الكاشف لنواياه السيئة، القاطع عليه طريق النجاح. انبرى القرآن للرد على المقصد الأصلى الذي تبجحوا بإعلانه. وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم فأوسعهم إكذاباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وبيَّن أن الكفر والجحود داء دفين فيهم، ومرض مزمن توارثوه جيلاً عن جيل. فليس الذي أتوه اليوم إلا حلقة متصلة السلسلة بماضيهم اللعين. وساق على ذلك الشواهد والوقائع التاريخية بما لا سبيل لإنكارها. جهلٌ بالله، وانتهاك حُرم الأنبياء وتمرد على الأوامر: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) . هنا تبرز حقائق يجب أن نتأملها: 1 - تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة لأن السامع يفهم من تكذيبهم بما يُصدِّق كتابهم أنهم صاروا مُكذِّبين لكتابهم نفسه، وهل الذي يُكَذِّب مَنْ يصدقك يبقى مُصدِّقاً لك؟ غير أن هذا المعنى إنما أُخذَ، استنباطاً من أقوالهم، وإلزاماً لهم بمآل مذاهبهم، ولم يؤخذ بطريق مباشر من واقع أحوالهم. فكانت هذه هي مهمة الرد الجديد. وهكذا كانت كلمة: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) مغلاقاً لما قبلها مفتاحاً لما بعدها، وكانت آخر درجة في سلم الغرض الأول هي أول درجة في سلم الغرض الثاني. فما أوثق هذا الالتحام بين أجزاء الكلام، وما أرشد هذه القيادة للنفس بزمام البيان، تدريجاً له على مدارجها وتنزيلاً له على قدر حاجتها. وفي وقت تلك الحاجة. 2 - وانظر كيف عدل بالإسناد عن وضعه الأصلى. وأعرض عن ذكر الكاسب الحقيقي لتلك الجرائم. فلم يقل: فلمَ قتلَ آباؤكم أنبياء الله واتخذَوا العجل وقالوا: (سَمعْنَا وَعَصَيْنَا) لأَنه لو جاء القول - كذلك - لقالوا: تلك أمة قد خلت. ولو زاد: وأنتم مثلهم. لجاء هذا التدارك بعد فوات البيان. فكان اختصار الكلام على هذا الوجه إسراعاً بتسديد الحُجَّة إلى هدفها. وأنهم سواسية فى الجُرم فعلى أيهم وضعتَ يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 3 - وقد زاد هذا المعنى ترشيحاً بإخراج الجريمة الأولى - وهي جريمة القتل - فى صيغة الفعل المضارع تصويراً لها بصورة الأمر الواقع الآن، وكأنه - بذلك - يعرض على النظارة هؤلاء المجرمين أنفسهم، وأيديهم ملوثة بتلك الدماء الزكية. 4 - ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح باباً من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم، وباباً من الإطماع لأعدائه في نجح تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله. فانظر كيف أسعفنا بالاحتراس عن ذلك كله بقوله: (منْ قَبْلُ) فثبَّت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقطع أطماعهم، كما أشارت هذه الكلمة إلى إرادة التجوز في الكلام. 5 - وانظر كيف جيء بالأفعال في الجرائم التالية على صيغة الماضي بعد أن وطأ لها بهذه الكلمة: (منْ قَبْلُ) فاستقام التاريخ على وضعه الطبيعى حين لم تبق حاجة إلى مثل التعبير الأول. 6 - وانظر إلى الآداب العالية في عرض الجريمة الثانية - وهي جريمة الشرك - فإنها لما كانت أغلظ من سابقتها وأشد نُكراً في العقول نبَّه على ذلك ألطف تنبيه بحذف أحد ركنيها. فلم يقل: اتخذتم العجل إلهاً، بل طوى هذا المفعول الثاني للتصريح به في صحبة الأول وبياناً لما بينهما من مفارقة. وكم في هذا الحذف من تعبير وتهويل. 7 - ثم انظر إلى النواحى التي أوثر فيها الإجمال على التفصيل، إِعراضاً عن كل زيادة لا تمس إليها الحاجة البيانية في الحال. فقال: (مُصَدَقاً لِمَا مَعَهُمْ) ولم يبين مدى هذا التصديق. أفى أصول الدين فحسب؟ أم فى الأصول وبعض الفروع؟. وإلى أي حد. . فليبحث علماء التشريع. وقال: (تَقْتُلونَ أنبِيَاءَاللهِ مِن قَبْلُ) فمَنْ هؤلاء الأنبياء؟ وكم عددهم؟ . . فليبحث علماء التاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وقال: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) فكم هي؟ . . وما هي؟ . . . وقال: (وَإذْ أخَدنا مِيثَاقَكُمْ) فما صيغة هذا الميثاق؟ وعلى أى شيء أعطوه؟ . . . لا أحد يدرى. إن حكمة البيان القرآني لأجلُّ من أن تعرض لمثل هذه التفاصيل في مثل هذا الوضع. وليس في تركها عيب أو نقص. 8 - إنك تلمح وراء هذا البيان قوة قوية. أعلى من أن تنفعل بمثل هذه الأغراض. قوة تؤثر ولا تتأثر. تصف لك الحقائق في أمانة خيرها وشرها فى عزة مَن لا ينفعه خير. واقتدار مَن لا يضره شر. وهذا شأن القرآن أبداً وسمته التي لا يشركه فيها قسيم. انظر إليه حين يجادل عن القرآن فلا يزيد في وصفه على هذه الكلمة: " هو الحق "، نعم. . إنها كلمة تملأ النفس، ولا يتطلب الموصوف بها وصفاً أشرف من هذا الوصف الذي يحوى كل الفضائل (1) . ولنكتف بهذه الأمثلة الثلاثة دليلاً على ما في القرآن من دقة النظم. وقوة الربط حتى في المواضع التي ليست هي مظنة لذلك. ولقد تعمدنا أن تكون أمثلتنا الثلاثة من هذا القبيل. * * * 3 - اختلاف الأغراض: وهذه خاصة من خصائص القرآن الكريم، يعمد فيها إلى الجمع بين الأغراض المختلفة في موضع واحد، ويمزج بينها مزجاً فنياً قوياً لا تحس فيه بقلق أو اضطراب. بل تحس بالتناسب والالتئام. وليس ذلك في مقدور أحد من الناس.   (1) انتهى ملخصاً من كتاب " النبأ العظيم " ص 114 - 125 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 فالشعراء الفحول كانوا يجمعون في أشعارهم بين النسيب والمدح، أو الفخر والهجاء، وهم إذ يفعلون ذلك كانوا يسلكون فيه مسالك الاستعانة ببعض الألفاظ والعبارات التقليدية. مثل: دع عنك ذا. . . وما أشبهه. وأحياناً كانوا يقتضبون القول اقتضاباً فتجيء أشعارهم مفككة ركيكة، ومعانيهم مضطرية قلقة، وأساليبهم متنافرة. وفحول الخطباء والكُتَّاب حتى يومنا هذا إذا حاولوا الجمع في مقال أو خطبة بين معاني متعددة احتالوا واستعانوا. فيحسنون حيناً، ويخطئون أحياناً. ذلك شأنهم في المعاني المتقارية، والأغراض المتناسبة. ويركبون لكل شطط إن حاولوا الجمع بين الأضداد أو الأمور المختلفة في أنفسها من غير تضاد. * * * * صناعة القرآن: أما صناعة القرآن فقد أرت نُقاد الفنون وخبراء الأساليب روعة الانسجام بين المعاني المختلفة في جوهرها. المنفصلة بطبيعتها. فهو - على ما امتاز به أسلوبه من اجتناب سبيل الإطالة، والتزام جانب الإيجاز بقدر ما يتسع له جمال اللغة - قد جعله أكثر الكلام افتناناً في شئون القول، وأسرعه تنقلاً بينها. من وصف إلى قصص إلى تشريع إلى جدل. . . إلى ضروب شتى من المعاني والفنون تبدو وكأنها وحدة واحدة، شديدة التماسك. " وعلى هذه القاعدة ترى القرآن يعمد تارة إلى الأضداد، ويجاور بينها فيخرج بذلك محاسنها ومساويها في أحلى مظاهرها. ويعمد تارة أخرى إلى الأمور المختلفة في أنفسها من غير تضاد فيجعلها تتعاون في إحكامها يسوق بعضها إلى بعض مساق التنظير والتفريع، والاستشهاد أو الاستنباط، أو الاحتراس *. . إلى غير ذلك، وربما جعل اقتران معنيين في الوقوع التاريخى، أو تجاور شيئين في الوضع المكاني دعامة لاقترانهما في النظم. فيحسبه الجاهل بأسباب النزول وطبيعة المكان خروجاً وما هو بخروج، فإن لم يكن بين المعنيين نسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ولا صهر بوجه من تلك الوجوه - رأيته يتلطف في الانتقال من أحدهما إلى الآخر إما بحسن التخلص والتمهيد، وإما بإمالة الصيغ التركيبية على وجه يتلاقى فيه المتباعدان ويتصافح المتنافران ". فالطريقة المفضَّلة في القرآن أنه لا يسترسل في الحديث عن الجنس الواحد من المعاني استرسالاً يرده إلى الإطالة المملة، بل يعرض في الوحدة - السورة - الواحدة مجموعة من المعاني يربط بينها برباط خاص. هذا هو الرأي الصائب الذي عليه جُلة العلماء وفضلاؤهم، والذي يؤيده الواقع وتنطق به الآيات. * * * * هل في القرآن اقتضاب؟ وقد خالف فريق من الباحثين - بحسن نية وضعف إدراك - ما أجمع عليه السَّلف والخَلف فادعوا غير ذلك، وهم واهمون. قال أبو العلاء بن غانم: " إن القرآن إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم. وأن ليس في القرآن شيء من حسن التخلص ". وقال العز بن عبد السلام: " المناسبة علم حسن، ولكن يُشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره. فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيها ارتباط. ومَن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك، يُصان عن مثله حسن الحديث فضلاً عن أحسنه فإن القرآن نزل فى نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة. وما كان كذلك لا يتأتى فيه ربط - بعضه ببعض. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 * مبنى الشُّبهة: وقد بنى هؤلاء فكرتهم على ثلاثة اعتبارات: أولها: ما في القرآن من تعدد الأغراض والمقاصد. ثانيها: الامتداد الزمني والمكاني. حيث استغرق نزوله ثلاثاً وعشرين سنة فى موطنين مختلفين لهما اعتبارات متعددة، وهما: مكة، والمدينة، وقد اختلفت الموضوعات التي عولجت في كل منهما عن الأخرى. ثالثهاً: نزوله مفرقاً مُنَجَّماً حسب المناسبات والدواعى، فسورة البقرة - مثلاً - استغرق نزولها تسع سنوات. وجمعت في آياتها أحداثاً كان الفارق الزمني بين وقوعها كبيراً. وقد وهم الغانمي والعز بن عبد السلام في ذلك وهماً كبيراً. ولو أنهما لجأ إلى الفكر وأحسنا النظر بدارسة عقد المعاني في القرآن نفسه لرجعا عما قالاه، ولاستغفرا الله ربهما. * * رد الشبهة: وقد فنَّد المتأخرون شُبهات هذه الفكرة، وضربوا أمثلة كثيرة لجودة الربط بين المعاني في القرآن، من المواضع التي يظن المتعجل أن الربط معدوم بينها. من هؤلاء ضياء الدين بن الأثير في " المثل السائر "، والزركشي فى " البرهان ". جاء في المثل السائر: " وقال أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي " إن كتاب الله خال من التخلص. وهذا قول فاسد، لأن حقيقة التخلص إنما هى الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره بلطيفة تلائم بين الكلام الذي خرج منه، والكلام الذي خرج إليه. وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة كالخروج من الوعظ والتذكير والإنذار والبشارة بالجنة إلى أمر ونهي ووعد ووعيد، ومن محكم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 متشابه، ومن صفة إلى نبى مرسل ومَلك منزل إلى ذم شيطان مريد وجبار عنيد بلطائف دقيقة ومعان آخذ بعضها بركاب بعض ". * * * * حسن التخلص في القرآن: فمما جاء من التخلص في القرآن الكريم قول الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قال ضياء الدين معلقاً على هذا النص الحكيم: " فانظر أيها المتأمل في هذا الكلام الشريف الآخذ بعضه بركاب بعض مع احتوائه على ضروب من المعاني، فيخلص من كل واحد منها إلى الآخر بلطيفة ملائمة حتى كأنه أُفرِغَ في قالب واحد. فخرج من ذكر الأصنام وتنفير أبيه وقومه من عبادتهم إياها مع ما هى فيه من التعرى عن صفات الإلهية حيث لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، إلى ذكر الله تعالى فوصفه بصفات الإلهية فعظم شأنه، وعدد نعمه ليُعْلِم بذلك أن العبادة لا تصح إلا له. ثم خرج من ذلك إلى ذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه. فتدبر هذه التخلصات اللطيفة في أثناء هذا الكلام ". وهذا أحد مواضع ذكرها ابن الأثير للتدليل على ما للقرآن من قوة الربط والانتقال من معنى إلى آخر انتقالاً مناسباً لا اقتضاب فيه. وما أرانا في حاجة إلى ذكِر بقية الأمثلة التي أشار إليها بقوله: " وفي القرآن مواضع كثيرة من التخلصات ". وابن الأثير موفق كل التوفيق فيما أوضحه، وهو على طوله، لم يف بما يمكن أن يستخلصه الباحث للربط بين تلك المعاني التي ذكرها. ومع هذا القصور الملحوظ في توجيهه فإن فيه كفاية لحاجة التعجل، ودفعاً لشُبه التطفل. وقال الزركشي: ". . . وبهذا يظهر لك اشتمال القرآن على النوع المسمَّى بالتخلص، وقد أنكره أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي. وقال: ليس فى القرآن منه شيء لا فيه من التغلف. وليس كما قال: " ومن أحسن أمثلته قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، فإن فيه خمس تخلصات. وذلك أنه جاء بصفة النور وتمثيله، ثم تَخلص منه إلى ذكر الزجاجة وصفاتها. ثم رجع إلى ذكِر النور والزيت يستمد منه. ثم تخلص منَه إلى ذكِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الشجرة، ثم تخلص من ذكرها إلى ذكر الزيت - ثم من ذكِر الزيت إلى صفة النور وتضاعفه. ثم تخلصَ منه إلى نعمة الله بالهدى على مَنْ يشاء ". ثم قال: ومنه قوله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) . فإنه سبحانه ذكر أولاً عذاب الكفار وأن لا دافع له من الَله. ثم تخلص إلى قوله: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) بوصف: (اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ) . ومنه قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) . . . إلى قوله: (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) . فهذا تخلص من قصة إبراهيم وقومه إلى قوله هذا. وتمنى الكفار في الدار الآخرة الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسل، وهذا تخلص عجيب. ثم أخذ يسوق أمثلة كثيرة موضحاً ما فيها من اختلاف الأغراض وحسن الربط بينها شأنه شأن ابن الأثير. بَيدَ أن ابن الأثير أطول منه باعاً، وأوسع تحليلاً فيما عرض له. هذه هي النظرة الصائبة إلى أسلوب القرآن، وبذلك يُدرك خطأ المخالفين. * * * * قانون الربط بين الكلام: ويضع الإمام بدر الدين الزركشي قانوناً لهذه الروابط في الجمل والمعاني غير المعطوف بعضها على بعض، وكانت موضع توهم ألا ارتباط بينها. ويُجمل هذا القانون في ثلاثة اعتبارات هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 أولاً - التنظير: فإن إلحاق النظير بالنظير دأب العقلاء، ومن أمثلته قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) . عقب قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) . فإن الله سبحَانه وتعالى أمر رسوله أن يمضى لأمره فى الغنائم على كره من أصحابه، كما مضى في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون. وذلك أنهم اختلفوا يوم " بدر " في الأنفال، وحاجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وجادلوه فكره كثير منهم ما كان من فِعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في النفل، فأنزل الله هذه الآية، وأنفذ أمره بها. وأمرهم أن يتقوا الله ويطيعوه، ولا يعترضوا عليه فيما يفعله فى شيء ما. بعد أن كانوا مؤمنين. ووصف المؤمنين ثم قال: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) . يريد أن كراهتهم لما فعلته من الغنائم ككراهتهم للخروج معك. وقيل معناه: أولئك هم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. كقوله تعالى: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) . وقيل: الكاف صفة لفعل مضمر وتأويله: افعل في الأنفال كما فعلت فى الخروج إلى بدر وإن كره القوم ذلك. . . فشبَّه كراهتهم فيما جرى من أمر الأنفال وقسمتها بالكراهة في مخرجه من بيته. . . وكل ما لا يتم الكلام إلا به من صفة أو صلة فهو من نفس الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وقد ذهب الزمخشري مذهباً قريباً من مذهب الزركشي. وننقل فيما يأتي توجيهه للآية الحكيمة. قال: " أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال كحال إخراجك. يعنى أن حالهم في كراهة ما رأيتَ من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. وأن ينتصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله: (الأنفَالُ لله والرَسُول) أي الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثلَ ثبات إخرَاج ربك إياك من بيتك وهم كارهون ". وعلى ما ذكره صاحبا " البرهان " و " الكشاف " فالمناسبة واضحة. إذ الكلام لم يخرج عن طريقة التشبيه، ولا يقال إن الجمع في الصورة التشبيهية بين المشبه والمشبه به، مع وضوح وجه الشبه، اقتضاب أو جمع بلا تلاؤم. ثانياً - المضادة: ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) . فإن أول السورة كان حديثاً عن القرآن الكريم وأن من شأنه كيت وكيت. وأنه لا يهدى الذين من صفاتهم كيت وكيت. فرجع إلى الحديث عن المؤمنينِ، فلما أكمله عقب بما هو حديث عن الكفار. ففيهما جامع وهمي بالتضاد من هذا الوجه وحكمته التشويق والثبوت على الأول كما قيل: " وبضدها تتبين الأشياء ". فإن قيل: هذا جامع بعيد، لأن كونه حديثاً عن المؤمنين بالعرض لا بالذات، والمقصود بالذات الذي هو مساق الكلام؛ إنما هو الحديث عن الكتاب لأنه مفتتح القول. قلنا: لا يُشترط في الجامع ذلك. بل يكفى التعلق على أي وجه كان، ويكفى في وجه الربط ما ذكرنا، لأن القصد تأكيد أمر القرآن والعمل به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 والحث على الإيمان به. ولهذا لما فرغ من ذلك قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا. . . .) فرجع إلى الأول. ثالثاً - الاستطراد: ومنه قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) . قال الزركشي: قال الزمخشري: " هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد. عقب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليها. إظهاراً للمنَّة فيما خلق الله من اللباس. ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة. وإشعاراً بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى ". والزركشي - هنا - لم يتعرض لتعريف الاستطراد، معتمداً على ما ذكره الزمخشري في توجيه الآية. * * * فيما بين الزركشي والباقلاني: كما حكى عن القاضي أبى بكر الباقلاني أنه جعل من قبيل الاستطراد قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) . قال: كأنَ المراد أن يجرى بالقول الأول إلى الإخبار عن كل شيء يسجد للهِ. وإن كان ابتداء الكلام في أمر خاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ثم علق الزركشي على كلام القاضي بقوله: " انتهى. وفيه نظر ". . لكنه لم يبين وجه النظر المخالف ولعله أراد أن بين الآيتين ارتباطاً ظاهراً، وليستا من قبيل الاستطراد، فإن كانت هذه وجهة نظر الزركشي فنحن معه. وإلا فإن عبارته في حاجة إلى إيضاح والحق يقال. . فصاحب البرهان قد أشار إلى مقصد عام وهام في مسألة الجمع بين المعاني التي يبدو عليها عدم التناسب في الظاهر. وإن كان عزا ما ذكره إلى أنه نوع من الاستطراد. قال: " ومنه الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطاً للسامع كقوله تعالى: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) . فإن هذا القرآن نوع من الذكر لما انتهَى ذكر الأنبياء، وهو نوع من التنزيل أراد أن يذكر نوعاً آخر وهو ذكرَ الجنة وأهلها فقال: (هَذَا ذكْر) فأكد تلك الإخبارات باسم الإشارة. * * * رد جديد على الشُّبهة: فيما مضى قدر كاف مما ذكره العلماء في هذا الموضوع. فلندل بدلونا فيه بأمثلة غير التي تقدمت لهم. ولنعمد أولاً إلى وحدة كاملة (سورة) من وحدات القرآن نتخذ منها شعاعاً لمعرفة ما في التنزيل الحكيم من أسس قوية للربط بين المعاني والأحكام بين الصياغات المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 بسم الله الرحمن الرحيم هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) . والمتأمل في هذه السورة يستطيع أن يحللها إلى العناصر الآتية: 1 - مقدمة قصيرة من آية واحدة مصدرة باستفهام تشويقي لما بعدها. ولإثارة الشعور والاستعداد النفسي لموضوع الحديث. 2 - إجابة على هذا الاستفهام التشويقي المثير، وقد استعدت النفس لتلقى هذه الإجابة واشتاقت إليها. وهذه الإجابة تشتمل على جزئين أساسيين: أولهما: حديث عن المكذبين وما يعتريهم يوم الحشر من أسى. وما أُعِد لهم فى النار من شراب وطعام. ثانيهما: حديث عن المؤمنين الصادقين وما يغمرهم من سرور يوم الجزاء، وما أعد الله لهم من مظاهر النعيم في دار الرضوان. 3 - عود للحديث عن المكذبين موبخاً لهم في أنهم صائرون إلى ما صاروا إليه، وعندهم من الآيات ما لو تأملوها لآمنوا وصدقوا، ولأنقذوا أنفسهم من العذاب المؤلم والمصير المهين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 4 - إرشاد للنبى عليه الصلاة والسلام، يبيِّن له حدود وظيفته، ويحثه على المضي في الدعوة غير آبهٍ بكفر مَنْ كفر، ولا إعراض مَنْ أعرض. 5 - خاتمة فيها للنبى تسلية. وللمكذبين وعيد شديد. لو تدبروه لكفوا عما هم فيه ولدخلوا في زُمرة المهتدين. هذه أغراض خمسة رئيسية اشتملت عليها السورة الواعظة منذرة ومبشرة ومرشدة. والمتأمل يدرك في وضوح أن علاقة العنصر الثاني بجزئيه - عقاب العصاة، وإثابة المصدِّقين - بالمقدمة القصيرة المثيرة هي علاقة الجواب بالسؤال لأن هذا الاستفهام: (هَلْ أتَاكَ حَديثُ الغَاشيَة) ؟ يلزمه سؤال من النبي عليه السلام. فكأنه قال: لا. لم يأَتني. فكان الجواب: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) . وهذا هو الجزء الأول من العنصر الثاني. أما الجزء الثاني فهو: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) . وبهذا استوفى الحديث أركانه: سؤال وجواب عن أهل النار، أو كالسؤال والجواب. ويلاحظ الباحث أن الجزء الثاني - وهو الحديث عن أهل الإيمان - لم يعطف عن نظيره المقدم عليه. وهو الحديث عن أهل الكفر. وكان من حقه أن يعطف عليه لأنه قسيمه. فلماذا إذن قدم الحديث عن أهل النار. وأخر الحديث عن أهل الجنة ولم يعطف اللاحق على السابق؟ سؤال هام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 أما التقديم فبداهة أنه ليس للتكريم. . بل لداع بياني أراه فيما يأتى: فقد تصدر السورة هذه الآية: (هَلْ أتَاكَ حَديثُ الغَاشيَة) . والغاشية هى القيامة بأهوالها الشداد أو هي النار المحرقة. كما نص على ذلك المفسرون، وفي التنزيل ما يقوى كلاَ التفسيرين فقد جاء فيه: (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العَذَابُ) ، وجاء فيه: َ (وَتغْشَى وُجُوهَهُمُ النارُ) بَيْدَ أن إرادة القيامة هنا أولى للتقسيم الذي بعدها. فإذا استقر ذلك فإن الأولى بالتقديم من الفريقين هو فريق النار لتتلاءم الألفاظ، فالشدائد يناسبها خشوع الوجوه لا نعومتها. إرهاقها لا سرورها ورضاها. أما ترك العطف بين القسمين فأرجح أن يكون لتغاير الفريقين تغايراً تاماً في جميع الأحوال: كفر وإيمان، صلاح وفساد، ذل وإرهاق، وكرامة وسرور، نار حامية وجنة عالية، عين آنية وعين جارية. . . ولو عطف الفريق الثاني على الفريق الأولى لتوهم متوهم اشتراكهما في شيء أى شيء من أجله صح العطف. ولدفع هذا التوهم ترك العطف في الظاهر، وإن بقى مقدَّراً منوياً كما يرى بعض العلماء. ولما كان القرآن كتاب هداية وإرشاد. فإن منهج التريية الدينية والخُلقية فيه يقتضي تقديم بعض النصح ليهتدي الضال بعد أن بانَ له ما أُعدَّ لأمثاله من العذاب. لذلك ناسب أن يلفت القرآن أنظارهم لفتاً قوياً إلى آيات القُدْرة التي تهدى إلى الإيمان فجاء قوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) . ذلك نصحه لمن ضَلَّ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 والآن أفتظن أن القرآن يهمل صاحب الدعوة - محمداً عقلي - وقد أجهد نفسه في هداية هؤلاء. لقد ذكر القرآن على سمعه هذه الآيات العظام التي يشاهدونها ولا يتأملونها ، يمرون عليها صباح مساء وهم عنها غافلون. إنه متابع باهتمام هذه النُّذُر، وهذا التبشير واع لما ذكره الله من آيات وأعرض عنها القوم. ألم يذكرهم بها فلم يهتدوا. ماذا بقى الآن؟ أيستخدم معهم أسلوباً آخر غير الكلمة والذكرى؟ أيترك هذه الذكرى التي لم يقدروها حق قدرها؟ لم يترك القرآن صاحب الرسالة في حيرة من أمره. بل يقدم له التوجيه الرشيد فيلتفت إليه قائلاً: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) . وهذا تثبيت لنفس النبي عليه السلام. حين يبيِّن له ربه أن سلطان الذكرى هو عنوان الرسالة، ولكن هناك خاطراً لم يزل في نفس الداعي الحريص على هداية الناس المخلص لهم في النصح. . . . وهؤلاء يا رب. . . هؤلاء العتاة الذين لم يثمر فيهم نصح. ولم يزعنوا لإصلاح. . وهنا يواصل القرآن إتمام الصورة: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) . ولكن كيف ذلك؟ (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) . وهنا يُسدل الستار. مرحلة بدأت ثم انتهت. وبين البدء والنهاية صور ومشاهد تلتئم كلها برباط وثيق. كل مشهد يسلم للذى وراءه. . وهكذا تتابع المناظر في إطار واقعى أو إرشادى أو نفسي. إطار مهما كانت خيوطه فإنه من وحدة واحدة. ذلك دأب القرآن في الربط بين المعاني في السورة الواحدة. * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ولنذكر مثالاً آخر من غير هذا النوع. سورة نبحث عن العلاقة بينها وبين السورة التي قبلها والسورة التي بعدها حسب ترتيبها في المصحف. وعن العلاقة التي بينها وبين السورة التي قبلها والسورة التي بعدها حسب ترتيبها فى النزول. أي نبحث فيها من جانبين. هما اللذان أشرنا إليهما: * الكوثر وجارتاها في المصحف: أما السورة فهى قوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) ." صدق الله العظيم هذه السورة، هي أقل سور القرآن الكريم في عدد الكلمات والجُمَل. وتتكون من خبر، ثم أمرين معطوف ثانيهما على أولهما. ثم خبر أيضاً. ومع قصرها هذا فإنها جمعت بين الأغراض الآتية: 1 - الامتنان والمدح: (إِنَّا أعْطيْنَاكَ الكَوْثَرَ) المخاطب محمد - صلى الله عليه وسلم - يمتن الله عليه بأن أعطاه الخير الكثير. ومن كان كذلك فهو للمدح أهلٌ وموضع. 2 - الأمر بالطاعات من صلاة ونحر وتقرب لله وشكر له على نعمه: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) . 3 - الذم: فإن مَنْ كان أبتر لا عقب له فهو مذموم: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) . هذه ثلاثة أغراض اشتملت عليها هذه السورة القصيرة. ولا شذوذ في هذا الجمع. وإنما إحكام والتئام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 فالمشركون كانوا يُعبرون النبي محمداً عليه السلام بأنه أبتر لا عَقَبَ له. فبيَّن الله أنه أعطى محمداً عليه السلام الخير الكثير. ثم أمره أن يصلي لله وينحر من أجله شكراً له على هذه النعم. . جاء في كتب التفسير: " أعطيتَ ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يُعطه أحد غيرك. ومعطى ذلك كله: أنا إله العالين. فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان. إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط وأعظم منعم. فاعبد ربك الذي أعزَّكَ بعطائه. وشرفك وصانك من سوء الخُلق. مراغماً لقومك الذين يعبدون غير الله. وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرتَ مخالفاً لهم في النحر للأوثان ". وبهذا تبدو قوة المناسبة بين: (إنا أعْطيْنَاكَ الكَوْثَرَ) و: (فَصَل لِرَبكَ وَانْحَرْ) ، أما مناسبة الخاتمة: (إن شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) لما تقدمها من الآيتين المذكورتين فواضحة. وذلك من وجهين:. أولهما: تكملة السرور للنبى عليه السلام ودفع أقاويل الشرك عنه. فبعد أن بيَّنَ له أنه أعطاه الخير الكثير، وأمره بفعل الطاعات شكراً له. أعلمه أن الأبتر هو مبغضك وراميك بالبتر. لأن مَنْ شأنه مثل شأنك ليس بأبتر. فجاءت الآية تذييلاً تعليلياً لما قرر وثبت. وثانيهما: رد على مَنْ رمى النبي عليه السلام بالبتر، والسورة مسوقة لتنفى عن النبي عليه السلام هذه الصفة. ذلك هو نظام عقد المعاني في نفس هذه السورة. وحدات متآلفة ملتئمة لا ينكر قوة ربطها لا جاهل أو معاند. فما هما - إذن - جارتاها في المصحف، وفي النزول. وما الرابط بينهما؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 والجواب: سبقت سورة " الماعون " سورة " الكوثر " في المصحف. وسورة " الماعون " تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) . " صدق الله العظيم ". ولحقت بها سورة " الكافرون " وهي تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) . " صدق الله العظيم ". فى سورة " الماعون " جاء تفسير الذي يُكذبُ بالدين بأنه الذي يَدُع اليتيم ويزجره ولا يعطف على المسكين ولا يحض على طعامه. وفي هاتين الصورتين إهانة وحرمان. وجاء فيها - كذلك - الدعاء بالويل والهلاك للمصلِّين الذين يسهون عن صلاتهم ويراءون الناس بعملها. ولا يمدون يد العون لأحد. وفي هاتين الصورتين - السهو والرياء - مخالفة لمبادئ الدين، وفي منع الماعون بخل بغيض. فجاءت سورة " الكوثر " تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة، تلك التي أضاعها الكذب بالدين، وتأمره بالنحر للهِ ليتصدق على المحتاجين، وفي هذه رعاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 لحق اليتيم والمسكين اللذين أضاعهما المكذب بالدين. وفيه أيضاً تعريض بالمرائين في قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) حيث أمره الله بأن يصلى له لا لغيره. . . وبأن ينحر لوجهه، لا ليقال إنه كريم معطاء. . أرأيت إلى أى مدى تتوثق عرى السورتين هذه هي علاقة " الكوثر " بما قبلها: " الماعون "، فما هي: - إذن - علاقتها بما بعدها: " الكافرون ". لقد جاءت خاتمة " الكوثر ": (إن شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) ، وشانئ الرسول عليه السلام هو الكافر وليس بينه وبين الرسول أسباب عداء سوى الإيمان الذى يدعو إليه الرسول. والكفر الذي عليه الكافر. وهذا النقص الذي كانوا يرمون به النبي عليه السلام - وهو منه براء - نوع من الحرب النفسية كانوا يوجهونها ضده عله يهون أو يلين. ذلك هو ختام " الكوثر " فجاء مطلع " الكافرون " نداء إلى أولئك الكفار الشانئين قاطعاً عليهم كل أمل في مصالحة صاحب الرسالة مهما بلغوا من الكيد له: (قُلْ يَا أيُّهَا الكَافِرُونَ* لاَ أعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) . . . الآيات. وهذه علاقة " الكوثر " بما بعدها - أرأيت نسجاً من القول محكماً كهذا النسج.؟ لا. . . إنه القرآن وحده. * * الكوثر وجارتاها في النزول: ثم ما هي علاقة " الكوثر " بما سبقها وما لحقها بحسب النزول. لنرى ذلك. جارتاها في النزول: " العاديات " و " التكاثر "، الأولى سابقة عليها نزولاً * والثانية لاحقة بها نزولاً، وهي واسطة العقد. والمناسبة بين الجارتين واضحة. فـ " العاديات " تقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) . " صدق الله العظيم " ففى " العاديات " هذه حكم على الإنسان بأنه كافر بنعمة ربه لا يشكرها. وأنه شاهد على نفسه بذلك. وأنه مولع بحب الخير العاجل راء فيه كل أسباب السعادة والحياة المرضية. فجاءت " الكوثر " تقول للرسول: إن الله أعطاك خيراً كثيراً. فاعبده وانحر وتصدق، فإنك لست مثلهم تُعطى فتبطر. وتجمع المال وتحب منه المزيد. لكن اشكر نعمة ربك بالطاعة والإنفاق. أليست هذه أوثق رابطة. وأنسب علاقة؟ وتقول " التكاثر ": (بسم الله الرحمن الرحيم أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) . " صدق اللهْ العظيم " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الشانئ في سورة " الكوثر " يقول إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صنبور ليس له ولد ولا عقب. وهم يفتخرون بما لديهم من مال. وما لهم من عترة وأولاد وأحفاد، يتكاثرون فيما بينهم بعدد رجالهم وفرسانهم. ذلك عندهم مقياس الفضيلة: مال وولد. فجاءت هذه السورة تبين لهم ضلال ما هم فيه. وأن ما عندهم من الولد والمال لاهٍ لهم عن عمل الخير، شغلهم حتى ماتوا، أو شغلهم التكاثر بعَدِّ الرجال حتى ذهبوا يعدون مَنْ مات منهم، وسيكون ذلك حسرة عليهم يوم القيامة. أما محمد عليه السلام الذي يعيرونه بعدم العقب، فقد أعطاه لله خيراً كثيراً فهو فيه لربه طائع غير شحيع ولا بخيل، ولا هو شاغل له عن عمل الخير من طاعات لله كالصلاة والإنفاق وكالنحر. أوَ ليست هذه رابطة جامعة وثقت عرى الجار بالجار. فبدتا - أي السورتان - كأنهما وحدة واحدة. ذلك منهج القرآن الحكيم. انسجام والتئام بين الألفاظ ومعانيها. التئام وانسجام بين الكلمة والكلمة. التئام وانسجام بين الجملة والجملة. التئام وانسجام بين الفقرة والفقرة. التئام وانسجام بين السورة والسورة. التئام وانسجام ساريان فيه جميعه. وتلك دعامة من دعامات الإعجاز وآية من آيات الحكمة. * * * ملاحظتان مهمتان: أولاهما: أن القرآن يُفضِّل الجمع بين المعاني في الموضع الواحد دفعاً للسآمة وتجديداً للنشاط من أن تسترسل النفس في معنى واحد يستبد بها ما دامت قارئة أو سامعة. فقارئ القرآن وسامعه هما دائماً في جديد من المعاني والمشاهد من قصص إلى تشريع. ومن تشريع إلى تبشير، ومن تبشير إلى إنذار. ومن إنذار إلى عتاب. ومن عتاب إلى تهديد، ومن تهديد إلى تذكير. وهكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 هو شيبه بالروضة الفيحاء لا تزال أمام ناظريك منها ألوان شَتى من الزهور، وأنسام عذبة تحمل إليك أجمل الروائح وأطيب الشذا فتدفع عنك الإيحاش، وتملأ نفسك سروراً وبهجة، وتشجيك أنغام طيورها بأعذب الألحان. وثانيتهما: أن الله تعالى - جَلت حكمته - يريد أن يُيَسِّر للناس الانتفاع بكتابه الكريم ويسَهِّل لهم الاستفادة منه. ولما كانت مقاصد القرآن متعددة فحرى به أن يبث تلك المقاصد في ثناياه وتضاعيفه. حتى لا يتوقف الإلمام بها - كلها أو بعضها - على تتبع ما لا يتيسر تتبعه منه. فأي سورة تقرأ تضع أمام ناظريك هدفين أو ثلاثة أهداف. أو عدداً أي عدد من المواعظ والأحكام والقصص والتهذيب والتوجيه والإرشاد، وهو - بهذا - يلبي حاجة التعجل، ويلبى حاجة التأنى على حد سواء فقد رأينا أقصر وحداته: " الكوثر " أبت إلا أن تعرض عدداً من المعاني والمقاصد. * * * سياسة حكيمة: وتزيد هذه المقاصد والأهداف كلما طالت السورة. كالبقرة وآل عمران والنساء. وهذه سياسة حكيمة فارق القرآن بها مؤلفات البَشر من أبعد طريق، وصدق الله إذ يقول: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) . * * 4 - الإقناع والإمتاع: " في النفس الإنسانية قوتان، قوة تفكير، وقوة وجدان. وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة الأخرى. فأما إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به. وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 والبيان التام هو الذي يوفى لك هاتين الحاجتين. ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين فتجد حظها من الفائدة العقلية. ومن المتعة الوجدانية معاً ". * الناس ثلاثة أنواع: وليس هذا القدر في السلوك الإنسانى القولى بمستطاع. فالناس - هنا - كيف كانوا أنواع ثلاثة: الأول: فريق يجلو لك الحقيقة ناصعة بيضاء - هذا همه - ولا يبالى ما أصاب تعبيره من جفاف. ونبو عن الطباع. وأنت حين تقرأ لهذا الفريق تكون كمن ينحت في الصخور بأطراف أصابعه. ليستخرج منه معدناً نفيساً قَلَّ أو كثر. ورواد هذا الفن هم الفلاسقة والعلميون والعقليون. ومَن على شاكلتهم. الثاني: فريق يمتع عاطفتك بما يثيره من صور وخيالات في ذهنك وشعورك، ولا ينفك يسبح بك بين صور الفن والخيال حتى ينسيك - إذا صدق في الشعور - حدود الزمان والمكان فتنطلق معه في دنيا غير دنياك، يسحرك بيانه، وتطويك أنغامه. فإذا سرى عنك وأُبْتَ من سبحك لم تجد في حوزتك شيئاً إلا ظلالاً باهتة لمؤثر غامض. الثالث: فريق يمسك العصا من الوسط - كما يقولون - فيجمع بين النزعتين. ويمزج بين الطريقتين ولكنه بمنأى عن التوفيق - مع شدة حرصه عليه - فأحياناً تأتى عباراته عاطفية على حساب العقل، وأخرى تأتى عقلية على حساب العاطفة. فإن رأيتَ مَن يقضى بينهما بالعدل في موضع، فاعلم - مقدماً - أن عهده بذلك لن يطول. وأن ما رأيته منه من توفيق للعدل فلتة لم يجر بها طبع. وندرة لا تتكرر كثيراً. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 * المستحيل. . ممكن! ؟ وهذا الذي استحال على الناس. أو كان في حكم المحال، تراه أروع ما يكون فى الذِكر الحكيم. فيه حظ النفس وعواطفها ومشاعرها. وفيه مطلب العقل وحججه وبراهينه، تراهما متجاورين متآلفين دون أن يطغى أحدهما على الآخر. وإن برز أحدهما في موضع فإن تلك سياسة بيانية. ومقتضى مقام. * * * منهج خُلقى حي: اقرأ - مثلاً - قوله تعالى في تشريع القصَاص: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) . وانظر إلى الاستدراج إلى الطاعة في افتتاح الآية: (يَا أيُهَا الَّذِينَ آمَنُواْ. . .) . وترقيق العاطفة بين الواترين والموتورين في قوله: (أخيه) وقوله: (بِالمعْرُوفِ) ، وقوله: (بِإِحْسَانٍ) . والامتنان في قوله: (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) . والتهديد في ختام الآية: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) . ثم وازن بين الاستدراج إلى الطاعة في مطلع الآية. والتهديد في خاتمتها. وأنزل ذلك من نفسك. . وانظر حالها كيف تكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ثم انظر في أي شيء يتكلم القرآن - هنا - أليس في فريضة مفصلة، وفى مسألة دموية. وجناية من أخطر جنايات النفس؟ وسبيل هذا أن يُصاغ في قوانين، تحدد الجريمة، وتضع أساس العاقبة عليها فى كلمات جافة لا تعرف الليونة. ولا تميل إلى المهادنة. لكن منهج التريية والتوجيه الخُلقى في القرآن الحكيم هو سر ذلك البيان الرفيع الذي يتيح لصاحب الحق الأخذ بحقه. وفي نفس الوقت يهديه للتى هى أقوم. (فَمَنْ عَفَا وَأصْلحَ فَأجْرُهُ عَلى اللهِ) . وقد نهجَ القرآن هذا المنهج في جميع تشريعاته: في الطلاق والظهَار والإيلاء، فى تقسيم الإرث والتركات، في تشريع الصيام والحج والزكاة، في إبرام العقود ووضع المواثيق، في مباشرة الحقوق ومعاملة الأسرى والرقيق. في كل أولئك يضع ضمانات العدالة، وأسس ضبط النفس. فتراه يقول عندما أباح للمعتدى عليه أن يأخذ بحقه: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) . فالآية هنا تبيح لمن اعُتدَى عليه أن يَعتدى على المعتدي. . ولكن استعمال هذا الحق أُحيط بثلاث ضمَانات أو ضوابط: 1 - أن يكون الاعتداء الواقع من المعتدَى عليه، مثل الواقع من المعتدِي حسما للتمادى من أيهما. 2 - وقد سمى الثاني اعتداءً، وكان حقه أن يسمى: جزاءً. لماذا؟ . . لأن اللفظ الثاني يغري المظلوم على التمادي. أما الأول فإنه يشعر وهو يباشر حقه فى الرد على مَن ظلمه، أنه يباشر اعتداء. فيكف ولا يطيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 3 - الأمر باتقاء الله، ليقف المجازِى عند حده فلا يزيد في انتصاره لنفسه من ظالمه عما وقع به هو من الظلم. وقد أكَّد هذا المعنى بقوله تعالى: (وَاعْلمُواْ أن اللهَ مَعَ المتقين) ترغيباً لهم في العدل، والوقوف عند المطلوب المباح ومَنْ مِنَ المخاطبينَ لا يريد أن يكون الله معه. ومثل هذا التوجيه قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) . وقد لا تكون هنا غرابة فالنزاع بين مسلمين مطلوب منهم أن يحسنوا المعاملة فيما بينهم. * * * التسامح مع المخالفين: لكن الباحث يرى أن هذا منهج عام للقرآن فيما يحسن فيه ترقيق العواطف. قال سبحانه: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) . فالعفو والصفح مطلوبان حتى مع المخالفين، ما دام الموضع ليس قتالاً ومناجزة مطلوباً فيه الغِلظة والعنف. وانظر أيضاً إلى هذا التوجيه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 فالجار - هنا - مشرك، والمجير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والآمر بالإجارة هو الله. هذه أُسس عامة في المعاملة. * عودة للتشريع: ثم انظر إلى القرآن حين يُشرَّع الطلاق. فإن الأمر بالمعروف، والتسريح بالإحسان، والعفو. . مواقف لا يكاد ينفك عنها نص من نصوص التشريع فيه. قال تعالى في سورة البقرة: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) . هذه أحكام الطلاق وآدابه، تتحدث عنها هذه الآيات. فلم يسلك في بيانها الأسلوب التقريرى الجاف. كما هو الشأن في الحديث عن الأحكام خارج القرآن. وإنما جعلت الآيات للعاطفة والنفس نصيبها من الخطاب. حثاً لها على التيقظ والعمل، كلما اقتضى المقام ذلك. وقد استعان القرآن على حمل المخاطبين والمتنازعين للاعتراف بالحقوق والإنصاف في الخصومة بعبارة تُشوق النفس إلى الإنصاف، لأنه يثيرها ويستكشف ما في خبايا النفس من أسرار لا يُتوصل إليها بالعنف كما يُتوصل إليها بالملاينة والإثارة كما جاء في هذه الآيات. * * * لقطات مثيرة: تأمل هذه اللقطات: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) . (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) . (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) . (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) . (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) . (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) . * * * نصيب العاطفة: ونصيب العاطفة من هذا البيان جانبان: 1 - أن يذكر الأمر الأولى بالاعتبار فيثير القرآن في العاطفة مشاعر النبل للإقبال عليه والعمل به. 2 - أن يذكر الأمر الأولى بالترك أو الذي لا يليق. فيثير فيها مشاعر النفور لتنأى عنه وفي بعض الألفاظ دلالة مشعة على كلا الجانبين: الترغيب والتنفير. فعند حدوث النزاع يسمَّى الإبقاء على الحياة الزَوجية " إمساك "، والإنسان لا يمسك إلا بشيء له فيه منفعة. * إغراء: وهذا إغراء على الحفاظ بكيان الأسرة، والعدول عن الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله. . . وضرورة تشريعية لا يُلجأ إليها إلا في حالة اليأس التام من إصلاح الأمور. وقد صرَّح القرآن نفسه بهذا المعنى في موضع آخر، فقال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 كما سمى القرآن الطلاق " تسريح " لا ترغيباً فيه، وإنما لا يجب على المسلمين من حُسن المعاملة، وجمال الكيفية التي يوقعون بها الطلاق حيث اقتضته الضرورة ولا بديل له. لأن التسريح في الأصل: الإرسال للمرعى. ففيه إيحاء للأزواج العازمين على الطلاق أن يُحسنوا معاملة زوجاتهم، ولا يُسيئوا إليهن. ولم يكتف القرآن بالدلالة اللغوية للفظ " تسريح " حتى اشترط أن يكون: " تسريح بإحسان " كما وصفه على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - يخاطب زوجاته: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) . قال الراغب: " السرح: شجر له ثمر - وسرحت الإبل: أصله أن ترعيه السرح، ثم جُعِلَ لكل إرسال في الرعى. . والتسريح في الطلاق نحو قوله تعالى: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ) . وقوله: (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) مستعار من تسريح الإبل كالطلاق في كونه مستعاراً من إطلاق الإبل ". وقال في مادة " م س ك ": " إمساك الشيء المتعلق به وحفظه قال تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) ، وقال: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) ، وقال: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) فهذان اللفظان اللذان يترددان كثيراً في تشريع الطلاق حظ النفس منهما أكثر من حظ العقل. وهما مختاران اختياراً دقيقاً للدلالة على المراد منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ثم انظر مرة أخرى إلى هذه الصورة: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) . وتأمل كلمات: " تعضلوهن "، " تراضوا "، " بالمعروف ". قال الراغب فى مادة " ع ض ل ": " العضلة: كل لحم صلب في عصب، ورجل " عضل ": مكتنز اللحم، وعضلته: شددته بالعضل المتناول من الحيوان نحو: عصبته. وتجوز به في كل منع شديد قال: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) قيل: خطاب للأزواج. وقيل: للأولياء ". والظاهر أن حقيقة التعبير هنا هو المنع. لكنه استعير له اللفظ الوارد فى الآية لا فيه من إيقاظ العاطفة، وتحردك النفس نحو ما هو مطلوب. * * * ترقيق العاطفة: وهذه صورة أخرى من صور ترقيق العاطفة عند النزاع في الطلاق: قال سبحانه: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) . الآية الأولى خطاب للمتنازعين قبل المس، والحال أنهم لم يفرضوا للنساء فريضة فالملابسة هنا بينهم ضعيفة. ومع أن الآية قد نفت عنهم الحَرَج إذا طلَّقوا فى هذه الحال فإنها أوجبت عليهم إمتاعهن كل حسب قُدرته غنياً أو فقيراً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وسمى هذا المتاع: (مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) . وهذا التعبير يثير عند الأزواج مشاعر المروءة والنخَوة ويستل من النفوس السخائم فتبذل ما وجب عليها في رضا وحنان، والمستفيد هنا المطلقات. والآية الثانية خطاب لهم - كذلك - والحال أن الطلاق وقع قبل المس وقد فرضوا لهن فريضة. فعلى الزوج - إذن - أن يبذل لها نصف ما فرض. هذا حق للمطلقة واجب على المطلِّق. فلها أن تستمسك بحقها. وعليه أن يؤديه لها. ذلك أصل المسألة وأساس القضاء الذي لا يجوز له أن يعدل عنه، لأنه مأمور بأخذ الحقوق وإعطائها لمستحقيها. * * * الدعوة إلى الإصلاح: لكن القرآن الذي يفسح المجال دائماً أمام المتنازعين للتسامح والتصالح، لأنهما في النهاية يؤديان إلى الموَدة والإخاء بينهم، لم يقف عند حد بيان أصل المسألة. فتراه بعد أن قررها يقول: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. .) . فأداء النصف واجب على المطلق. وللمطلقة أن تعفو عنه كله أو جزئه، أو يعفو وليها. فهذا الاستثناء أول درجة في سلم المصالحة. ولكن هل القرآن وقف بالمسألة عند حد الاستثناء؟ لو كان الأمر كذلك لكان وافياً في الإذن بالتصالح، والأخذ بالحسنى من جانب صاحب الحق. لكن القرآن لم يقف بها عند هذا الحد. بل ذكر بعد الاستثناء ما يُرَجِّح العمل به، ويُرَغب المطلقات أو أولياءهن فيه. فقال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 أليس في ذلك ترغيب شديد إلى العفو بين المتنازعين. إنه كذلك. وهنا تبدو المسألة قد كملت من جانبيها القضائى والاستثنائى، أو القانونى والأخلاقى، مع الترغيب في الثاني دون الأول وليس عند هذا الحد - أيضاً - يقف القرآن. بل يُوجِّه إرشاده إلى طرفى النزاع لا صاحب الحق منهما، ولا مَن عليه الحق. إرشاد جامع للأخذ بالحُسنى: (وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ) . نصيحة غالية لا أتصور المتنازعين عند سماعها إلا آذاناً واعية، وقلوباً فسيحة. وأنفساً صافية لم يبق فيها من آثار الخصومة إلا الذِكرى. وتأتى - بعد ذلك - الفاصلة فتضع المتنازعين تحت رقابة دقيقة لا يعزب عنها شيء، تكافئ الحسن بالإحسان. . والسيئ بمثل ما فعل: (إن اللهَ بمَا تَعْمَلونَ بَصِير) . وهنا يُسدل الستار، وتتم الصورة من جميع مقوماتها: وضوح التشريع وأصول الحكم، والترغيب في العفو والإحسان. والتنفير من الظلم والإساءة. هذه مُثُل من الأحكام والتشريع القرآني، لمسنا فيها - بإيجاز - المنهج الذى يسير عليه القرآن في بيان تلك الأحكام، إنه لم ينح بها النحو التقريرى كما هو الشأن في مثل هذه القضايا. وإنما خاطبَ بها النفس الإنسانية بكل مدركاتها: العقل والمنطق والعواطف والمشاعر. دون أن تحس بضعف في الصياغة، ولا قصور في المعنى. يبين للإنسان فيه مصادر أخذه، ومجالات إعطائه. مُحبِّباً إلى نفسه ومشاعره وروحه عمل الخير، ومُكَرِّهاً لها عمل ما هو دون الخير، من شر خالص. أو خير خلاف الأولى. * * * * الجدل القرآني: ولكنتا لا نقف عند حد الأحكام والتشريع فيه. لتأييد هذه السمة الأسلوبية فى القرآن التي أسميناها: الإقناع والإمتاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 بل نستعرض مثلاً في مجال آخر، غير الأحكام والتشريع، وإن كان الشأن فيه أن يسلك في بيانه المنهج التقريرى العقلي. ذلك المجال هو: الجدل القرآني لخصوم الدعوة الإسلامية. وموضوعات هذا الجدل متعددة لكننا نختار منها موضوعين اثنين لنرى كيف جادلهم فيها القرآن، وأى منهج سلك. وهذان الموضوعان هما: قضية التوحيد، وما يتعلق بها، ثم قضية البعث ومايتعلق بها. * قضية التوحيد: جاء القرآن ينكر على المشركين ما هم فيه من عبادة الأصنام، وفكرة تعدد الآلهة، وأن يكون هناك صلة بين الخالق الحقيقي المخصوص بالعبادة، وبين هذه الأصنام التي يتقربون بها - في زعمهم - إلى الله. كما حكى عنهم القرآن: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وكانت هذه هي القضية الأولى التي يواجهها الإسلام. ولقد قطع القرآن - فى مكة - شوطاً كبيراً في محاربة هذا الضلال. لافتاً الأنظار إلى الحقيقة. ممثلاً وواعظاً، مجادلاً ومحاوراً، منذراً ومبشراً، مناقشاً وهادياً. كان القوم يبررون ما هم عليه بحجج واهية تتلخص في: 1 - التقليد الأعمى لما وجدوا عليه آباءهم. 2 - أن هذه الآلهة وسيلة للتقرب إلى الله. 3 - أن فكرة وحدة الخالق أمر مستحدَث. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 * عرض مقولة المشركين: ولقد حكى القرآن طرفاً من شُبهاتهم لأول مرة في سورة " ص " المكية. حيث إن السور التي نزلت قبلها وهي: " اقرأ - القلم - المزمل - المدثر - المسد - التكوير - الأعلى - الليل - الفجر - الضحى - الشرح - العصر - العاديات - الكوثر - التكاثر - الماعون - الكافرون - الفيل - الفلق - الناس - الإخلاص - النجم - عبس - القدر - الشمس وضحاها - البروج - التين - قريش - القارعة - القيامة - الهُمزة - المرسلات - سورة ق - البلد - الطارق - القمر ". لم يرد فيها شيء من مقولاتهم في هذا المجال. وقد صوَّر لنا القرآن فى سورة " ص " اعتراضهم وما استندوا عليه من دليل فقال: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) . فكرة التوحيد عند هؤلاء القوم فكرة عجيبة، صاحبها مختلق لها، لأن الرواية لم تنقلها لهم. إنها لمؤامرة. . فليثبتوا على آلههتهم. هذا تصورهم للموضوع. والملة الآخرة التي اتخذوها سنداً هي مِلة عيسى عليه السلام. لأن النصارى حرَّفوهَا فصاروا مثلثين لا موحدين. أو هي مِلة قريش وما كانت عليه من عبادة الأصنام. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 * موقف القرآن من هذه الشُّبهة: وكان موقف القرآن من هذه الدعاوى هو موقف المنكر المبطل لا يدُعون. قال: (. . بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) . وفي هذا الرد يبدأ القرآن بحقيقة هامة. ثم يمضى في الإنكار والتوبيخ لهؤلاء المعاندين فيبيِّن أولاً أنهم في شك من ذكر الله. وأن هذا الشك سيزول إذا ذاقوا العذاب ثم يأخذ في توييخهم فيقول: أهؤلاء يملكون خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب فيصيبوا بها مَن يشاءون ويصرفوها عمَّن يشاءون؟ ويتخيروا النبوة لبعض صناديدهم ويترفعوا بها عن محمد عليه السلام؟ لا. . . هم لا يملكون ذلك. إذن فليس لهم من الأمر من شيء فليخسأوا. أم لهؤلاء مُلك السموات والأرض وما بينهما؟ إن كان لهم فليرتقوا فى الأسباب ويصعدوا المعارج إلى العرش فيستولوا عليه، ويدبروا الأمر. إذن فليس لهم مُلك السموات والأرض وما بينهما فلذلك لم يرتقوا فى الأسباب. . إذن فليخسأوا. ثم يبين لهم حقيقة أمرهم، وسوء مصيرهم، فيقول: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وفى هذا تسلية وقوة عزم للرسول عليه الصلاة والسلام ألا تبال بما يقولون فإن مصيرهم الهزيمة، ولن ينتصروا عليك بحال. ويكمل الرد بسوق أمثلة ووقائع تاريخية حيث كذبت أقوام الرسل. فهلكوا. وينتهي دور سورة " ص " في أن هؤلاء ضالون في عقيدتهم متطفلون فيما ليس لهم فيه، عاجزون عن امتلاك أمرهم فضلاً عن عجزهم عن امتلاك شئون غيرهم. وأنهم لا محالة مهزومون. ثم يجول معهم القرآن جولات أخرى مبيناً لهم أن هذه الأصنام التي يتخذون منها آلهة يعبدونها ما هي إلا أشكال جامدة لم ولن تنفع، ولم ولن تضر. * * * طريقان لدعوة الناس إلى الحق: وهذه الحقيقة مرة يخاطبهم بها خطاباً مباشراً، ومرة يسوقها لهم على لسان الأنبياء والرسل السابقين: أولاً: الخطاب المباشر. قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) . أى وربي لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية في إبطال عقيدة الأصنام لكان القرآن قد أبطلها من أساسها بحيث لم تقم لها حُجة بعد. لا عند عابديها، ولا عند غيرهم من الناس. ولما وسع المخالفين - لو أنصفوا - إلا التسليم والإذعان. عرض واضح ودليل قاطع. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 * استدراج يؤدى إلى العجز: فقد نصبت الآية التماثيل والأصنام أمام النظَّارة. لافتة أنظار أتباعها إليها. وقد حضرت في الذهن والخيال أشكالاً جامدة صماء خالية من كل سبب للحياة. أُحضرت - هكذا - ليحكم عليها وهي حاضرة. أجل هذه هي: تماثيلكم وأصنامكم التي تدعونها من دون الله. أليس كذلك؟ إذن فإنَّا سائلوكم أسئلة فأجيبوا عليها. ولتكن إجاباتكم مقرونة بالدليل والشاهد. . اسمعوا إذن: 1 - هذه هي الأرض ممتدة واسعة، فيها أنهار وبحور، فيها زروع وكروم، فيها منازل وجبال وصحارى، فيها ذلك وفيها غير ذلك. فأرونى ماذا خلق أصنامكم منها. كلها أو بعضها.؟ إن زعمتم أن شيئاً من ذلك لهم قأقيموا الدليل. .؟ لندع الأرض وما عليها. . . هذه السموات الطِباق، خلقها الله ورفعها - هكذا - في الفضاء ليست لها عمد ترتكز بها على الأرض. نبئونى ألأصنامكم شِرك فيها؟ ما هو نصيبهم منها؟ وكيف؟ إن زعمتم ذلك فأتوا بالدليل. . وإلا فأنتم مضللون مخدوعون. ولا يحق لكم أن تستمروا على هذا الضلال، والداعي يدعوكم إلى الصواب. أتدرون ما هو الدليل الذي نطلبه منكم على صحة دعواكم؟ إن هذا الدليل يتلخص في خطوتين أيسرهما عسير؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 الأولى: (ائْتُونِى بكَتَابِ مَن قَبْلِ هَذَا) هل في مقدوركم ذلك؟ ألا فافعلوا وإنا لمنتظرون. أعجزتم؟ . . نحن نعذركم لأننا نعلم أنكم عاجزون. فنخفف عنكم في كيفية الدليل، دعوا الكتاب. . . . حيث لم تأتوا ولن تأتوا به. . وأتوا بأيسر الأمرين. الثانية: (أوْ أثَارَةٍ مًنْ عِلمٍ) أثارة أية أثارة من عدم تؤيدكم. أهذه صعبة؟ صعبة كذلك - أم مستحيلة. . إنها مستحيلة. أعجزتم عن هذه وتلك. فاعلموا الآن أنكم كاذبون في دعواكم. . لأنكم لم تشفعوها بدليل. فكفوا إذن ولا تسترسلوا في أباطيلكم. . وضعوا نُصب أعينكم قول الشاعر: والدَّعَاوِىَ مَا لمْ يُقِيمُواْ عَليْهَا. . . بَينَاتٍ أبْنَاؤُهَا أدْعِيَاءُ هذه جولة حكيمة مفحمة. لم يحاورهم القرآن فيها محاجياً أو ملغزاً، وإنما حاورهم في وضوح، وفي سهولة. . اتخذ من الأرض ومن السماء وحدات للقياس، وألزمهم الحُجة في نص لم تزد كلماته على التسع والعشرين كلمة. . انتصر عليهم وتركهم منهزمين. * * * نماذج أخرى فيها دلالة التوحيد: ثم تتوالى بعد الجولات على نفس الصورة من الوضوح والسهولة، ولفت الأنظار إلى حقائق الكون، ومظاهر الطبيعة التي هي وحدات القياس الوجدانى والنطق الروحي. بعيداً عن التعقيد والغموض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) . أو: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أو: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) . * * * حوارٌ حيٌّ: أرأيتَ حواراً مثل هذا الحوار؟ أرأيتَ بياناً أوضح من هذا البيان. أرأيت قياساً أصوب من هذا القياس. أرأيتَ براهين أقطع للشبهات، وأفحم للخصم وأثبت للمطلوب من هذه الأقيسة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قل لى بربك: أي جزئية من هذا القياس يمكن أن ينكرها الخصم إنكاراً يستطيع أن يجازيه عليه منصف. أليست هذه حقائق مسلمة. وقوانين راسخة رسوخ الجبال: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا. . .) . انظر كيف اجتمع الاستدلال والتهويل والاستعظام في هذه الكلمات القليلة . . بل الدليل نفسه جامع بنِ عمق المقدمات ووضوحها. ودقة التصوير لما يعقب التنازع من الفساد الرهيب. إن الدليل هنا: برهانى خطابى شعرى معاً. فهل نجد مثل هذا في كتاب من كتب الحكمة النظرية؟ لكن القرآن ينهى الخلاف في هذه القضية في كلمات لا تبلغ عدد أصابع اليدين. فوازنها بما كتب عنها في أسفار الفلسفة. وبحوث الحكماء. * * * منطق تصويري: نحن لا نشاهد في الكون فساداً، وإنما نظاماً ودقة. وحياة وحركة. كواكب تدور في أفلاكها في نظام عجيب. وسموات مظلة، وأرضاً مقلة، وأنهاراً جارية وريحاً سارية. ذلك هو النظام. . إذن فالله واحد لا شريك له، وإلا لسقطت السموات على الأرض ولتعطلت الكواكب، وغار الماء. مقدمات الدليل ثابتة مسلمة. فالنتائج - كذلك - ثابتة مسلمة. . . وليس وراء ذلك مطلب. والمثال الثاني مثل الأول. . لو كان لله ولد، لكان معه إله. ولو كان مع الله إله - سبحانه - لحدث النزاع ولذهب كل إله بما خلق. لكن شيثاً من ذلك لم يحدث. . إذن فالله واحد لا شريك له. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 * الكون دلالة التوحيد الكبرى: أما المثال الثالث، فقد طوَّف في أرجاء السموات والأرض والتقط وصور واستدل وذكر. في أسلوب خطابى العبارات. استدلالى الموضوعات. يقينى المقدمات. الصورة تلو الصورة، والمشهد إثر المشهد. والدليل عقب الدليل. فى حركات سريعة خاطفة. . ووثبات صائبة. " وهكذا تشترك مشاهد الأض والسماء مع ما يقع لهم من الأحداث كل يوم . . مع الأحاسيس الفطرية التي تلجئ الإنسان إلى القوة الكبرى عند الشدة تشترك في مخاطبة الحس والخيال ولمس البصيرة والوجدان، لتركيز عقيدة التوحيد في النفوس. . ومثل هذا كثير جداً في القرآن، مكرر مع تنوعه - تكرر صور القيامة ومشاهد النعيم والعذاب ". * * * ضعف الأصنام: ونذكر مثلين ضربهما القرآن لضعف الأصنام، بعد أن شنع على هذه الأباطيل مما خاطب الله به المشركين خطاباً مباشراً: أولهما: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) . ذلك مثلهم. . . فهل بيت العنكبوت بغريب عن أفكارهم، أم هو شيء مألوف لهم يرونه صباح مساء. وهل في بيت العنكبوت قوة يأوى إليه ضعيف أم حصانة يلوذ بها واجف؟ ليفكروا. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ثانيهما: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) . ذلك مثلهم في عدم النفع. وهذا مثلهم في عدم الإيجاد أو جلب النفع لأنفسهم، وإن شاءوا فليجربوا فعناصر القصة تتألف من الأصنام والذباب وفتات الطعام فليغروا الذباب بحمل شيء منه، وليطلبوا من الأصنام إعادته. فهل يمكنهم ذلك؟ فليفكروا. * * * نُذُر على ألسنة الرسل: ثانياً - ما ساقه الله على لسان رسله. . قال سبحانه على لسان إبراهيم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) . * إبراهيم يجادل قومه: هذا طرف من قصة إبراهيم مع قومه. إنه يسألهم عمن يعبدونه ليبيِّن لهم أن هذا المعبود لا ينفع ولا يضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 قال لهم: ما تعبدون؟ قالوا له: نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين. قال لهم: هذه الأصنام التي تعبدونها، وقد اتخذتموها أرباباً من دون الله هل لهم سمع يسمعونكم به إذا دعوتم؟. وهل لهم قدرة على النفع والضر فتعبدوها طمعاً فى النفع وخوفاً من الضر. قالوا له: بل وجدنا أباءنا كذلك يفعلون. وهنا يظهر التقليد الأعمى فى فكرة الأصنام. . مجرد أن أباءهم كانوا يفعلون ذلك. والتقليد حجة ضعيفة. . استدرجهم إليها إبراهيم في حواره معهم. ومشركو مكة يسمعون ويرقبون الأحداث إلى أيِّ مصيرٍ تنتهي. فالقضية قضيتهم. والليلة بنت البارحة. ثم يتابع إبراهيم عليه السلام الحوار بعد أن استدرجهم إلى الاعتراف بعجز آلهتهم: أرأيتم هذه الأصنام التي تعبدونها أنتم وأباؤكم الأقدمون. إنهم عدو لى إلا رب العالمين. وقوله: " عدو لى " تصوير للمسألة في نفس ليعلموا أنه نصحهم بما نصح به نفسه. لأن رب العالمين هو الذي خلقنى، وهو الذي خلق كل شيء، وهدانى، وهو القادر على أن يؤتى كل نفس هداها. وهو يطعمنى ويسقين. ويطعم كل شيء ويسقيه. ويشفينى إذا مرضت، ويشفى كل مريض. وهو الذي يميتنى ويحيينى، ويميت كل حى ويحييه، والذي أطمع أن يغفر لى خطاياى يوم الدين. وذلك لأنه " الله " القادر على كل شيء، المالك لكل شيء. . فليس ما تدعونهم - وقد علمتم شأنهم - مثله، وليس كمثله شيء. أفى هذا التوجيه قسر للعقول؟ أو فيه إلغاء لفكر الإنسان الحر، مهما كان موقفه من العقيدة التي يدعو إليها الداعي. فليقارنوا بين مَن دَعوهم آلهة. وبين الإله الحق وليختاروا لأنفسهم ما يحلو. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 * و (هودٌ) يجادل قومه: وقال سبحانه على لسان هود: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) . فى هذه الآيات الثماني تبدأ حياة أُمة، ثم تنتهى. أمة ضلت طريق الحق ورسولها يدعوها إلى ذلك الطريق. أخلص لهم رسولهم - هود - في النصح والإرشاد ونهاهم عن عبادة الأصنام. وأمرهم أن يعبدوا الله - وحده - ويستغفروه. فإذا فعلوا هطلت عليهم نعمه: يرسل السماء عليهم مدراراً فتجود الأرض بالخيرات ليأكلوا هم وأنعامهم من فضله ويحيوا حياة سعيدة. ويزدهم قوة إلى قوتهم. فلا يطمع فيهم طامع، ولا ينال منهم عدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 لكنهم لووا أعناقهم قائلين: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) . ويرمونه بالسوء من بعض أصنامهم، فيبرأ منهم، ويُشهد الله ويُشهدهم على براءته من شركهم. ثم يغريهم على أن يكيدوه مجتمعين إن استطاعوا هم وآلهتهم، وليفاجئوه بهذا الكيد دون أن ينظروه. وبيَّن لهم أنه توكل على الله ربه وربهم، الذي هو آخذ بناصية كل دابة. ربٌّ له الغلب وجنده هم المنصورون. وصراطه هو المستقيم. وبيَّن لهم - كذلك - أنه قد أبلغهم رسالة ربه فإن أعرضوا أهلكهم الله وبدَّل غيرهم ولا يضروه شيئاً. * نجاة وهلاك المخالفين: وتنتهى القصة بأن الله نجى هوداً والمؤمنين معه. نجاهم من عذاب غليظ. وهلكت عاد. فلم يستطيعوا أن يدفعوا الشر عن أنفسهم، ولم تستطع آلهتهم أن ينصروهم. نصره الله ونجاه ومَن آمن معه. لأنه قادر عظيم آخذ بناصية كل شيء. وخذلتهم آلهتهم لأنها عاجزة حقيرة تتأثر بعوامل الدهر، ولا تؤثر فى شيء، وهذا هو موضع العبرة في كلمات قصار، فليتدبرها مشركو مكة والملحدون في كل زمان ومكان: (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) . فى الأمثلة السابقة جميعاً يجرد القرآن الأصنام من كل صفات القوة والتأثير، ويضعها في مكانها الحقيقي من عالم الجمادات، فهى لا تنفع عابداً لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 ولا تضر عاصياً، ويستهدف القرآن من وراء هذا صرف الناس عن هذه النزعة الضالة، موجهاً لهم الوجهة السليمة في الاعتقاد القلبى والسلوك العملى. * * * السخرية من الأصنام : وفي مواضع أخرى يسخر القرآن الكريم سخرية لاذعة من الأصنام وعابديها، ونذكر من ذلك مثالين: * مثال على لسان إبراهيم: أولهما: قول إبراهيم عليه السلام لقومه حينما واجهوه بتحطيمه أصنامهم: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) . لقد أفلح إبراهيم عليه السلام في رسم هذه الخطة التي أفحم بها خصومه. وأراهم عجز آلهتهم عياناً حيث لم يدفعوا الضر عن أنفسهم. ثم استدرجهم من هذه الواقعة إلى أن يلقنهم الحقائق التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 إن هذه الأصنام فاقدة القدرة على النطق، كما أنها فاقدة القدرة على أى شيء فهى جماد. إن المعبود الذي يستحق العبادة مَن ينفع ويضر، وهؤلاء حيث ثبت عجزهم عن نفع أنفسهم فحرى ألا يُعبدوا لعجزهم عن نفع غيرهم وضره. إن قومه مسلوبو العقل الرشيد. إذ لو كانوا عقلاء لصرفهم تفكيرهم عن هذا الضلال المبين. أما السخرية اللاذعة فإننا نراها في العبارات الآتية: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) . وقد علم وعلموا أنهم لا ينطقون. (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ) . وفي هذا توييخ لهم وسخرية بأصنامهم. وإنكار أن يكونوا عابدين لهاء. وهى لا تنفع ولا تضر. (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) . * * * * ومثال على لسان موسى: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) . يا لسخرية القَدَر. إله. . . إله يُحرق - هكذا بالتكثير - ثم يُنسف ويذرى فى اليمِّ. . ما أتفه هذا الإله. وما أتعسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وما أضل وأتعس مَن اتخذه إلهاً. . إن كان إله فليدفع عن نفسه التحريق والنسف. . وكيف له ذلك؟ ما موقف النفس والعقل معاً من هذا الإله المحرَّق المنسوف نسفاً. إن النفس لتسخر منه وتحتقره. وإن العقل ليرفضه، ويصد عنه. العقل والنفس معاً ينفضان أيديهما منه. إنه لخيال. بل إنه لوهم. ويعد أن يستقر في العقل والنفس هذا المعنى، تأتى العقيدة الصحيحة لتتمكن أيما تمكن بعد تجرية أثبتت فشل فكرة التعدد واتخاذ الأصنام آلهة من دون الله. . جاء دور الحق. ليؤمن به العقل، وتعظمه النفس: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) . * * * منهج تربوي: ثم انظر إلى هذا المنهج التربوي الرشيد، والاستدراج الحكيم الذي ساقه القرآن على لسان النبي إبراهيم عليه السلام. قال سبحانه في سورة الأنعام: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) فقد أنكر إبراهيم على أبيه وقومه أن يتخذوا أصناماً آلهة، ورماهم بالضلال المبين ثم سلك معهم مسلك مجاراة الخصم فيما يزعم من باطل ليستعرض شُبهة واحدة تلو الأخرى. فيبطلها. وهكذا حتى إذا ما بقى له شيء يمكنه التمسك به دفع شُبهه مرة واحدة وأثبت المطلوب الذي يريد إثباته. * * * * عرض ونقد: ولستُ مع بعض المفسرين والكُتَّاب الذين يُجوِّزون أن يكون إبراهيم قال ذلك فى فتوته على سبيل الاعتقاد متدرجاً من صورة إلى أخرى. حتى اهتدى إلى الحق. لستُ مع هؤلاء لأسباب. . أولاً: إن هذا يتنافى مع الرسالة لأن القرآن صريح في أن إبراهيم إنما قال ذلك وهو رسول. ثانياً: إنه في أثناء هذه المراحل بعد أن رأى القمر بازغاً، وقبل أن يرى الشمس قال: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) . فمَن هو ربه إذن ومَن هم القوم الضالون إن لم يكونوا هم الذين اتخذوا الأصنام أرباباً من دون الله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ثالثاً: إن القرآن افتتح هذا الفصل بإنكار إبراهيم عليه السلام على أبيه وقومه أن يتخذوا أصناماً آلهة. ووصفهم بالضلال المبين. رابعاً: إن إبراهيم عليه السلام فرغ من تجاربه هذه إلى إثبات العقيدة الصحيحة في زمن لا يزيد عن يوم وليلة. * إيضاح ذلك: إنه رأى - والله أعلم - الكوكب في أول الليل فقال: هذا ربى. . فلما أفل فى جزء من الليل نفسه بزغ القمر. فأقلع عن فكرة الكوكب وأقبل على فكرة القمر. فلما أشرقت الشمس في الصباح وسطع ضوؤها فلم يعد معه وجود للقمر أقلع عن فكرة القمر. وأقبل على فكرة الشمس. . وذلك كله في ليل سابق ويوم لاحق. وأى تفسير غير هذا يلزم منه امتداد زمن التجارب الثلاث فنحتاج إلى تخريجات لسنا في حاجة إليها مع إمكان هذا الإيضاح الذي أوردناه. وإذا تقرر ذلك فهل كان انتقال إبراهيم عليه السلام من مرحلة عدم الاهتداء إلى الإله الحقيقي، إلى مرحلة الاهتداء إليه انتقالاً طبيعياً في هذه المدة الوجيزة؟ قد يُجاب على هذا بأن صفاء الفطرة يمكن معه مثل هذا الانتقال السريع. ونحن نقول بدورنا: إن صفاء الفطرة هذا كفيل بصيانة إبراهيم عليه السلام من مثل هذا التخبط، والقرآن نفسه يقول: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) . * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 * هدفنا من النقد: والذي نهدف إليه من هذا كله هو أن ما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام ليس إلا مجاراة للخصم من حيث الظاهر، واستدراجاً إلى الإنكار عليهم بصور عملية يشاهدونها ويحسونها حتى يهتدوا إلى الإيمان الحق. فإذا كان الكوكب وهو في السماء، والقمر وأثره في الكون ظاهر. والشمس وهي مصدر الدفء والنور. . إذا كانت هذه الأشياء العلوية الفائقة مرفوضة أن تكون أرباباً. فما بالك بالتماثيل والأصنام التي كان يعبدها قوم إبراهيم؟ ذلك ما يمكن استخلاصه من القصة على وجه مقبول ملائم لمقام الرسالة، وصيانة الرسل من الزيغ في أصل العقيدة المؤهلين لإبلاغها ونشرها. * * * * قطب واحد: والآن - ويعد هذه المثل جميعاً - ما هي الطريقة التي سلكها القرآن فى قضية التوحيد؟ إن محور العبرة في هذا المجال يدور حول قطب واحد. مهما اختلفت النماذج وصياغة التعبير. ذلك القطب يرتكز على جانبين: أولهما: إثبات كل صفات الجلال والعظمة لله. بحيث يؤمن العقل بوجوده، ويرفض أن يكون له شريك. وكانت أدلة هذا الجانب مظاهر الكون من الخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة، وإنزال الماء وإنبات الزرع المختلف الأحجام والألوان والطعوم. وإرسال الرياح وتسيير السحاب وكشف الضر وإيصال النفع. هذه مظاهر نُسِبت إلى الله، ولا تصح نسبتها إلا إليه. إذن فهو موجود فى الواقع، وفي العقل، وفي النفس والوجدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وهذا الكون يسير على نظام دقيق لا تخلف فيه، تصرف منسوب إلى إله عظيم القُدرة، مطلق الإرادة. إذن فهو واحد ليس له شريك في الواقع. وفى العقل، وفي النفس والوجدان. ثانيهما: إثبات صفات العجز المطلق، والضعف المهين، والشلل الكلي عن كل حركة، نافعة أو ضارة. لتلك الأصنام التي يدعونها آلهة. إذن فليست هى آلهة في الواقع، وفي العقل، وفي النفس والوجدان. وإذا ثبت أنها ليست آلهة، لأنها مخلوقة لا خالقة، مقدور عليها لا قادرة، إذن فهى ليست شريكة للهِ في الواقع، وفي العقل، وفي النفس والوجدان. * المشكلة الثانية - قضية البعث: فى المشكلة السابقة - مشكلة تعدد الآلهة والتوحيد - اعتمد المشركون فيما اعتمدوا على شُبهة هي أقوى ما عندهم وأضعف ما يعتمدون عليه في نفس الوقت، تلك الشُّبهة هي شُبهة التقليد الأعمى لا وجدوا عليه آباءهم. لقد رددوا هذه الشُّبهة كثيراً كلما دعاهم الدعاة إلى توحيد الله، وترك ما هم فيه من ضلال. وفي هذه المشكلة اعتمدوا كذلك على شُبهة واحدة هي أقوى ما يمكن أن يُقال لدى منكرى البعث، وهي - كذلك - أضعف شُبهة يمكن أن تقف أمام تقرير هذه الحقيقة في الواقع وفي الاعتقاد وكافيك من خصم أقوى ما لديه من دليل أضعف ما يمكن أن يعترض به عليك. ولقد ناقش القرآن شُبهتهم هذه ودحضها بما ساق من براهين قوية. وحجج مفحمة. ولنذكر شواهد ذلك فيه. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 * رد شُبه الإنكار: أولاً - قال سبحانهَ مبيناً مقوله منكرى البعث. مفنداً لها: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) . بدهي أن عناصر الموضوع الذي اشتمل عليه النص الكريم تتلخص فيما يأتى: الأول: فكرة إنكار البعث. الثاني: أدلة هذه الفكرة كما يصورها زاعموها. الثالث: الرد عليها من وجوه. العنصر الأول صوَّره القرآن بعد مقدمة قصيرة بقوله: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) . الثاني: وهو أدلة هذه الفكرة. جاء الحديث عنها ضمن الحديث عن العنصر الأول، فاستبعادهم للبعث سببه: استحالة إعادة الأجسام بعد الموت وصيرورتها تراباً وعظاماً. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 * سببان للإنكار: هذا سبب أصيل في دعواهم. وقد قواه لديهم سبب آخر، لكنه سبب إضافى ثانوى هو: أن آباءهم الأقدمين قد وُعِدوا مثلهم هذا الوعد. لكنه لم ينفذ، فدل ذلك على عدم وقوعه - كما يزعمون - فهو من أساطير الأولين وحكاياتهم. هذان هما جانبا القضية. وجاء دور الرد. فكيف بدأ القرآن الرد عليهم؟ رد القرآن الكريم عليهم بمقدمات مسلمة لديهم. أو لا محيص لهم من التسليم بها لأنها لائحة بينة. ثم رتب على هذه المقدمات النتائج الملزمة التي لا تحتمل شكاً ولا إنكاراً ولا مكابرة ولا استبعاداً. وخاطب عقولهم وطالبهم بالتأمل والذكرى، وحذرهم خشية الله وعقابه، وأهاب بهم أن يتركوا الجهالة وألا يخدعوا أنفسهم بباطل القول وغروره. فالله وحده هو خالق الكون. وما فيه من عجائب تدل على عظيم قدرته وحريته إرادته: مغيث الملهوف، وحامى المكروب، ومؤمِّن الخائف، ولا يقدر أحد أن يمنع بطشه إذ نزل. إن كل حركة. . وكل سكون في الكون هو مصدره: خالقه وموجده، ومكيفه بكيفية خاصة، وخالق الشيء ابتداء على غير مثال سبق لا يعجزه أن يعيده على ما كان عليه، أو في أية صورة أراد. * * * صحة البعث حقيقة: فالدليل على صحة البعث مستقى من خلق أنفسهم، وخلق الكون وما فيه من مظاهر مختلفة فليتأملوها. ولقد كان أول ما لفت إليه القرآن أنظارهم الأرض ومَن فيها. لأنه أقرب مشهد إليهم إذ عليها يحيون، وفيها يحرثون ويزرعون. ثم ترقى معهم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 السموات السبع خطوة أخرى لأن السموات أظهر ما يُشاهَد بعد الأرض. وما دام الأمر تأملاً في السموات فليتأملوها كذلك في العرش العظيم. ومَن ربهما؟ أليس ربهما الله؟ وإذا عرف أن العرش مصدر القُدرة والسلطان فقبل أن يخطو بعيداً عنه خطوة واحدة ليذكروا مَن بيده ملكوت السموات والأرض، وملكوت كل شيء. أليس هو الله؟ ومن رقة الجدل القرآني ولين معرضه فإنه في ختام كل مشهد يذكر عبارة تستل من المعاندين عنادهم. فبعد المشهد الأول يقول: (إن كُنتُمْ تَعْلمُونَ) ، وبعد المشهد الثاني يقول: (أُفَلا تَذكرُونَ) ، وبعد المشهد الثالث يقول: (أُفَلا تَتقُونَ) ، وبعد المشهد الرابع يقول: (فَأنَّى تُسْحَرُونَ) . إن مشاهد البعث بعد هذه النماذج الماثلة أمام النظر، المتكررة على تطاول الدهر لهي جزء من مشهد لما هو واقع ملموس. هي عملية إعادة لأشكال ورسوم وُجِدَت قبل ولم تكن لها حقائق تأتى مطابقة لها فما أسهل العود. * * * استدلال ممتع: * فقد عرض القرآن دلائله وبراهينه في أسلوب أدبي رائع. يستهوى نفس العربي فينفتح فؤاده - وهو لا يدرى - لسماع ما يُعرض عليه مأخوذاً بعذوبته وجماله. ثم يرى نفسه مسوقاً للتأمل فيما يسمع، والتدبر فيما يُلقى إليه. وإن كان مخالفاً لعقيدته ومفنداً لرأيه ومبطلاً لما درج عليه من مذاهب وأهواء. " ولم يتوجه القرآن بالدليل إلى العقل وحده. لكنه خاطب جميع القوى المدركة والمؤثرة في النفس الإنسانية. . وتدرج في الدليل من مرحلة إلى أخرى مستخدماً الإثارة الوجدانية تارة. وتحريك العاطفة تارة أخرى. وهز مشاعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الرجاء والخوف. ووجَّه النظر إلى الحَس المشاهَد. وقاس عليه البعيد الغائب. وقطع السبيل على المجادل وسد جميع الثغرات أمام الناظر، حتى لا يجد غضاضة في التسليم، ولا مرارة في القبول، ولا محيصاً من الإذعان ". * * * دعوى مردودة: قال تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) . هنا مثل مضروب لاستبعاد البعث. عظام إنسان محروقة مصحونة ذراها منكر البعث أمام الرسول قائلاً: مَنْ يحيى العظام وهي رميم؟! والاستفهام هنا إنكارى. هذه دعواه فبماذا ردها القرآن؟ هذا المنكِر للبعث الضارب للمثل، نسي حقيقة هامة. لو تأملها لما ساغ له أن ينكر كما لم يسغ له أن يضرب المثل. إنه نسي خلقه من أين جاء وإلى أين يذهب. فَلْنُجارِه على نسيان خلقه، ولنكتف بتلك الإشارة إلى هذا النسيان في عرض دعواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 إن القرآن الكريم لم يطلب من هذا المنكِر وأمثاله صعباً، بل طلب منهم أن ينظروا حولهم حتى يتبين لهم أن الذي يحيى العظام وهي رميم هو الذي أنشأها أول مرة، وهو بخلقها وبخلق كل شيء عليم. فإن شكُّوا في هذا فلينظروا إلى النار التي يوقدونها. وفيها متاع لهم. الذي جعل لهم هذه النار من الشجر الأخضر - وبينهما تناف كما ترى - هو الذي يحيى العظام وهي رميم. بل فلينظروا إلى السموات والأرض. هذه الأجرام العظيمة، أوَ ليس الذى خلقها قادراً على أن يحيى الموتى. بلى إنه لقادر. إنما أمره إذا أراد سريع التكوين. وبيده مقاليد السموات والأرض، ومقاليد كل شيء: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ، (كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ) ، (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) ، (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) . (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) . (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) . (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 هذه الأطوار التي يمر بها الإنسان نفسه في مراحل نموه وتكوينه، واقع ثابت لا يمكن إنكاره. وهو لا بدَّ له من موجد مؤثر غير متأثر حسبما يقتضي العقل. أليس الذي أوجد هذه المخلوقات في أطوارها المختلفة بقادر على إعادتها. بلى إنه لقادر. فما هي الحُجة التي يمكن أن يرتكن إليها المنكرون بعد. .؟ لا شيء. . . . . . . * ومثال آخر: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) . إن هذه الآيات العظام والمشاهد الضخام، التي يمرون عليها ليلاً ونهاراً، إذا قيس بها أمر البعث كان في نفسه أيسر منها فعلاً، ينكرون وقوعه في وقت لا ينكرون فيه ولا يُقبل منهم لو أنكروا هذه المقدمات؟ فليفكروا بعقولهم ففيما ذكر للعقل مجال. وليتأملوا بحواسهم ففيما ذكر للحواس جمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 * منزع الأدلة في المشكلتين: لقد استعرضنا - في إيجاز - علاج القرآن الحكيم لمشكلتى التوحيد والبعث. ونستطيع أن نقول - في اطمئنان - إن منزع الأدلة التي ساقها القرآن لمحاجة المخالفين هو الطبيعة بما فيها من ظواهر وسنن، ونظام واتساق. والطبيعة كتاب مفتوح كل إنسان قادر على قراءته وفهمه. وهى متجددة أمام النظر فيها آيات وعِبَر. ولذلك نستطيع أن نفهم سر اختيار القرآن هذا المصدر لسوق الأدلة، ولفت الأنظار، لأن القرآن يميل إلى اليُسر والسهولة وينأى عن التعقيد والصعوبة. ففى الكون والطبيعة تتجلى مظاهر القدرة الخلاقة العظيمة، قُدرة الله الكبير المتعال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) . وإذا كان منزع الأدلة في المشكلتين واحداً، هو الطبيعة الناطقة المتجددة تجدد الحياة نفسمها. فإن طريقة الاستدلال تختلف من مشكلة إلى أخرى. وقد ذكرنا القانون الذي أقامه القرآن لإثبات وجود الله، ووحدانيته، وإبطال فكرة الأصنام والتعدد في الآلهة. والآن ما هو القانون الذي أقامه القرآن لإثبات وقوع البعث؟ فى سهولةة يمكن أن يقال: إن هذه الظواهر المشاهَدة المرئية قد ثبت أن الله فاعلها، ولم يكن لها قبل خلقها مثال احتذى في إيجادها. بل خلقها من العدم. وهذه حقاثق ثابتة بالضرورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 إذن فإن الذي قدر على البدء، كان - من باب أولى - قادراً على الإعادة. وبذلك تصبح مسألة البعث من أسهل مظاهر التكوين لأنها إعادة. هذا بالنسبة لنا وإن كان بالنسبة للهِ يستوى المبدأ والمعاد في اليُسر والإمكان. ثم ما هي خصائص الجدل القرآني؟ * خصائص الجدل القرآني: تتمثل خصائص الجدل القرآني - حسبما يصل إليه الباحث في نصوصه - فى الملاحظات الآتية: أولاً: انتزاع الأدلة من الأحوال المحسوسة دونما إلغاز أو غموض - كما ألف الناس في أقيستهم ومحاوراتهم. ثانياً: سهولة تصور تلك الأدلة بحيث لا يمكن إنكارها لوضوحها وسرعة فهمها. ثالثاً: أن القرآن لا يقف أمام العقل وحده يخاطبه. بل يوجه إرشاده إلى كل القُوَى المدركة في الإنسان، عقل ونفس، عواطف ووجدان. رابعاً: أن الأسلوب الجدلى في القرآن الكريم يميل دائماً إلى جانب الإنصاف ويستدرج الفكر بكل روافده إلى الحق مُطوقاً الخصم من جميع ثغوره مفنداً كل شُبهة لديه فلا يدعه حتى يستلب منه كل ما يمكن أن يستمسك به في أسلوب حكيم مقنع وتصوير سهل ممتع. لقد لمس القرآن الوجدان واتبع طريقة التصوير فبلغ الغاية بمادته وطريقته وجمع بين الغرض الدينى والغرض الفنى من أرفع طريق وأقرب طريق. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 * حقيقة مهمة: وبقيت حقيقة هامة لا بدَّ من الإشارة إليها. ذلك فإن القرآن بجدله الحكيم المقنع الممتع لم ينهزم في أي معركة. بل كتبَ له النصر في جميع معاركه الفكرية التي خاضها سواء فيما ذكرناه من قضيَتى التوحيد والبعث. . أو فيما لم نذكره من قضايا أخرى، وما أكثر ما خاض القرآن من قضايا فكرية ومشاكل وجودية مثل قضية التحدى للقرآن الكريم وقضية التحريم والتحليل وقضية خلق السموات والأرض وقضية صحة الرسالة. وقضية نسبة الصاحبة والولد للهِ - سبحانه - هذه كلها قضايا خاضها القرآن فانهزم الخصم وانتصر هو. أما تمسك الخصم بما يرى - في بعض القضايا - فليس لقصور في الدليل، ولا لغموض في الفكرة، بل كان ذلك مسبباً عن عنادهم وتماديهم في الباطل. وصدق الله إذ يقول: (وَجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أُنفُسُهُمْ) . * * * 5 - التصوير والتشخيص: القرآن كتاب كل شيء. فيه من جميع ألوان المعارف والعلوم والفنون ما ظهر منها وعرفه الناس، وما لم يظهر في ضمير الغيب. هو كتاب تاريخ وعلوم وعقيدة، وتشريع وقصص وآداب، وجدل وفلسفة وحكمة ووعظ وهداية وإرشاد، وإصلاح وتهذيب وتوجيه. وصدق الله العظيم حيث يقول: (مَا فَرطنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ) . هذه المعارف والفنون والعلوم المختلفة، والأهداف والمقاصد المتباينة فضَّل القرآن الكريم الحديث عنها بطريقة هي أفضل طرق التعبير وأقومها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وهي طريقة: التصوير والتشخيص، سواء أكانت المعاني ذهنية، أو غير ذهنية فذلك منهجه فيها، وسمته التعبيربة الغالبة عليها. وفضل هذه الطريقة على غيرها معروف، لأن المعاني فيها لا يخاطب بها العقل وحده بل تشترك معه كل قُوَى الإدراك: السمع والبصر، الشم واللمس، والذوق. والعواطف والشعور والأحاسيس، فحين يخاطب القرآن الناس بهذه الطريقة يصبح الإنسان بكل شعوره وحواسه آلة إدراك وتذوق وتأمل. ونذكر فيما يلى نماذج هذه الطريقة مع بيان أثرها في النفس والشعور كلما أمكن ذلك. 1 - نماذخ بَشرية: للإنسان جانب كبير في القرآن الكريم، يرقب سلوكه ويضبط أحواله. والناس بحسب سلوكهم وعقائدهم في القرآن الكريم أنواع وصنوف. وقد تحدث القرآن عنهم حديثاً رائعاً صوَّر لنا فيه تلك الأنواع تصويراً فاق ما يخطه الرسام بخطوطه وألوانه. . ومساحاته وزواياه. فأحبار اليهود - مثلاً - أو الكفار أو المنافقون، دأبوا على الغدر والخيانة ولم يرعوا لله عهداً ولا ذمة. رصد القرآن الكريم هذا السلوك الشائن. وسجله في آية من سورة البقرة حيث يقول سبحانه: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) . * جرائم ثلاث: فى الآية ثلاث جرائم ارتكبها الأحبار أو المنافقون أو الكفار كما جاء فى كتب التفسير. . . وتلك الجرائم الثلاث هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 1 - نقض عهد الله. 2 - قطع ما أمر الله به أن يوصل. 3 - الإفساد في الأرض. ونقض العهد هو عدم الوفاء به. . . لكن القرآن عبَّر عنه بالنقض فقال: (يَنقُضُونَ عَهْدَ الله من بَعْدِ ميثَاقه) ، والميثاق بمعنى التوثقة أي الإحكام والتوثيق، وهذا التعبير مجازى لأَن النَقَض حقيقة هو: نقض البناء والحبل وهو " انتثار العقد من البناء والحبل والعقد. وهو ضد الإبرام " وهو فك التركيب والفسخ فيما هو محسوس. والمآل واحد في جميع التفسيرات. وهذا يمضى بكون النقض واقعاً على العهد مجازاً شُبِّهَ فيه المعنوي بالحسي تصويراً للمعنى وتشخيصاً ليكون أوضح وأمثل أمام النظر. قال الزمخشري في توجيه المجاز في الآية المذكورة: " النقض: الفسخ وفك التركيب. فإن قلت: من أين ساغ استعمال النقض فى إبطال العهد؟ قلتُ: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة: يا رسول الله، إن بيننا ويين القوم حبالاً ونحن قاطعوها. فنخشى إن الله - عز وجل - أعزك وأظهرك أن ترجع إلى قومك. وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من روادفه، فينبهوا بتلك الرمزة عَلى مكانه. ونحوه قولك: شجاع يفترس أقرانه، وعالِم يغترف منه الناس، وإذا تزوجتَ امرأة فاستوثرها. لم تقل هذا إلا وقد نبهتَ على الشجاع والعالِم بأنهما أسد وبحر، وعلى المرأة بأنها فراش ". والاستعارة التي يقصدها الزمخشري هنا هي الاستعارة المكنية لأن تحليله لمجاز الآية ينطبق عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وعلى هذا فإن العهد قد سمى بالحبل. فالحبل مشبَّه به، حُذف ورُمِزَ له بشيء من لوازمه الذي هو النقض. والقرينة هي إثبات النقض للعهد. أما الجامع بين الحبل والعهد، فهو الإحكام والاستيثاق. وقد أظهر المجاز المعنى في صورة المحسوس ليكون أبين وأظهر، وليُنَفًر من هذا السلوك المشين لأن فك إحكام الحبل هدم لعمل بذل فيه صاحبه جهداً، ولأن الحبل بعد فكه يصبح عديم الجدوى. * * " نقض ". . في القرآن: وقد جاءت هذه الكلمة " نقض " بمعنى المجاز أيضاً في مواضع أخرى من القرآن الكريم، مراداً بها فيها ما أريد بها هنا. مثل قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) . وجاء قبل هذه الآيهَ قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) . ومنها توله تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) . (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ المِيثَاقَ) . وقوله: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. .) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وقوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وقوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) * نتيجة: هذا التتبع لاستعمالات كلمة " نقض " في صورها المختلفة في القرآن الكريم، يضع أمامنا حقيقة هامة، هي أن القرآن قد عبَّر بها في كل موضع من مواضعها المذكورة سواء مثبتة أو منفية. عبَّر بها عن إبطال العهد وعدم الوفاء به بعد الالتزام والتحمل. . وإبطال العهد أمر معنوي. . أما النقض فهو فسخ التركيب في المركبات الحسية كالحبل والغزل ونحوهما فهو أمر حسي. واستعماله في المعنوي مظهر من مظاهر إبراز القرآن للمعاني المعقولة فى صورة المحسوسة اعتناءً بالمعنى، وإظهاراً له في أجلى صور الوضوح. * * * القطع والوصل: وكذلك جاء التعبير في بيان الجريمة الثانية التي ارتكبها الخالفون وهي: (وَيَقْطعُونَ مَا أمَرَ اللهُ بِهِ أن يُوصَلَ) . فالقطع والوصل مستعملان في غير ما خصهما به الوضع. لأن القطع مستعمل حقيقة في الأجسام الصلبة المتماسكة. فهو في أمر حسي. . وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 الوصل مستعمل في المحسوسات والمراد منهما في الآية - كما يرى العلامة أبو السعود: " يحتمل كل قطيعة لا يرضى الله سبحانه وتعالى بها كقطع الرحم، ومعاداة المؤمنين، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام، والكتب في عدم التصديق، وترك الجماعات المفروضة وسائر ما فيه رفض خير، أو تعاطى شر، فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التي هي مقصودة بالذات من كل وصل وفصل ". وهذه كما ترى أمور معنوية قد عُبِّرَ عنها بما يُعبر به عن الحسية جرياً على سُنة القرآن في التصوير والتشخيص. وقد وردت المادة " ق ط ع " على سبيل المجاز وعلى سبيل الحقيقة. فمن المجاز ما ورد في هذه الآية: (وَيَقْطعُونَ مَا أمَرَ اللهُ به أن يُوصَلَ) ، ونوع المجاز فيه استعارى حيث شبَّه تركهم ما أمر الله به أنَ يَؤتى بقطع ما هو موصول متماسك. والقرينة حالية إذ سياق الحديث في التكاليف الشرعية. والجامع بين المستعار منه والمستعار له زوال الأثر في كل. فالموصول إذا قطع ذهبت قوته والانتفاع به، وما أمر الله به أن يؤتى إذا ترك زال أثره من رضوان الله وإثابته. * قطع ووصل في القرآن: وقد طابق القرآن بين القطع والوصل. كما طابق بين: " ينقضون " و" ميثاقه " إذا أخذنا برأى مَن يقول: إن الميثاق المراد به التوثقة كالميعاد المراد به الوعد - والاستعارة تصريحية تبعية. . ومن استعمالات القرآن المجازية لهذه الكلمة النصوص الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 (وَقَطعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذبواْ بآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمنينَ) (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) . (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) . (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) . (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) . (وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) . (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) . (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) . (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) . وإنما كان التعبير في هذه النصوص مجازياً استعارياً لاستعمال اللفظ: " قطع " في الأمور المعقولة. للمبالغة في بيان المعنى وتوكيده وتقريره، كما هو الملحوظ في كل مجاز. أما استعمالاتها الحقيقية فيه فكثيرة منها المواضع الآتية: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) . (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) . وكذلك استعمل القرآن مادة: " وص ل " بمعنى الوصل استعمالاً مجازياً" فى المواضع الآتية مراداً بها فيها ما أريد بها هنا: وهى: (وَالَّذِينَ يَصِلونَ مَا أمَرَ اللهُ به أن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) . (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) . ولم يستعمل القرآن هذه المادة " وص ل " إذا كان مراداً بها " الوصل " استعمالاً حقيقياً بل مجازياً. وإنما استعمل ذلك في مواضع مقصود منها " الوصول " دون " الوصل " مثل قوله تعالى: (وَنَجْعَلُ لكُمَا سُلطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إليْكُمَا) والملاحظ أن استعمال المادة الأولى " ق ط ع " في القرآن أكثر من استعمال مادة " وص ل " وأن جانب المجاز في المادتين هو الغالب وهو في " وص ل " بمعنى " الوصل " شامل لجميع مواضع ذكرها. * * * ضعف العقيدة: ونموذج آخر: قال تعالى في سورة الحج: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 (وَمِنَ الئاسِ) - أي وبعض الناس. وهذا الفريق يعبد الله ما دامت فضائله كثيرة عنده يرفل فيها صباح مساء. صحة ومال وولد. فإذا تبدلت هذه النِعَم وابتلاه الله بشيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات تبدل إيمانه كفراً، وطاعته معصية، وأخذ ينعى حظه في الحياة. قال العلامة أبو السعود: " روى أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة، وكان أحدهم إذا صح بدنه، وأنتجت فرسه مُهراً سوياً، وولدت امرأته ولداً سوياً، وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبتُ منذ دخلتُ في دينى هذا إلا خيراً، واطمأن. وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبتُ إلا شراً، وانقلب ". والمعنى أن هذا الفريق يعبد الله على ظاهر من الإيمان لم يتمكن الإيمان من قلبه. . . وفي التعبير ب " الحرف " دقة بالغة في تصوير الحالة النفسية لمن كان شأنه هكذا، والحرف لغة: الطرف، وهو حافة الشيء. والواقف عليه لا يقر له قرار: " إن الخيال ليكاد يجسم هذا " الحرف " الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس، وإنه ليكاد يتخيل الاضطراب الحسي في وقفتهم وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب، وإن هذه الصورة لترسم حالة التزعزع بأوضح مما يؤديه وصف بالتزعزع، لأنها تنطبع في الحس وتتصل منه بالنفس ". * * صورة أدبية موحية: هذا موطن جمال وتشخيص في هذه الآية الكريمة. . . وهناك صورة أدبية موحية بينها وبين هذه الصورة " حرف " اتساق وتلاؤم. وهي: (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 فى الصورة الأولى إيماء إلى حقيقة الحالة النفسية التي يكون عليها هذا الفريق، ثم ماذا بعد تصوير الحالة النفسية؟ إن المشهد الذي يصوره لنا القرآن في الجانب المقابل، حركة عنيفة تؤدى إلى الهلاك السريع والتحطم البالغ. (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) والانقلاب على الوجه ذهاب بالصورة إلى قمة التأثير النفسي تنفيراً من هذه الحالة المشينة. وإنَّا لنلمح التناسق العجيب بين هذين المشهدين " الحرف " و " الانقلاب " فإن مَن يقف على طرف سرعان ما يهوى ساقطاً لا يلوى على شيء، وتلك نتيجة لازمة يدركها الخيال وإن لم يصرح بها في التعبير (1) . هذه الصور الدائبة الحركة، والشخوص البارزة بديل من معنى ذهنى مجرد، كان يمكن أن يؤدى بهذه العبارات: من الناس فريق يعبد الله على إيمان ضعيف فإن كرمه الله بالنعَم هَدئ وقَر. وإن ابتلاه بالصائب ثار وفر، وهلك مع الهالكين. وبين الطرَيقتين بون شاسع وفرق جسيم. * * إثارة الخيال: لقد اشترك في إدراك هذه الصورة حاسة البصر حيث يتخيل لها ذلك الرجل الجالس أو الواقف على الطرف المتأرجح بين الثبات والتزعزع. وإن البصر يرقب ذلك الشبح وهو يهوى إلى الأرض في حركة سريعة حين زلت به القدم. . . وحاسة السمع إنها لتكاد تتخيل صوت ارتطامه بالأرض الصلبة، يخرق صماخ الأذنين فيتمزق الجسم شر ممزق، ويتهشم العظم وتتناثر أشلاؤه هنا وهناك. . وعواطف الحيرة والقلق، ثم الشفقة والرثاء. ثم الذهن حين يقارن ويتأمل يمحكم. ووراء ذلك كله يكمن سر التعبير كما جاء في الآية الكريمة. . * *   (1) سحر البيان في مجازات القرآن: بحث لنا مخطوط قدمته لكلية اللغة العربية للحصول على درجة الماجستير في البلاغة عام 1968 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 * صورتان متماثلتان: وهناك صورتان مماثلتان لهذه الصورة. أولاهما قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) . هذه الصورة برزت فيها المعاني شخوصاً مرئية. في عالم محسوس مجسم، ونماذج فنية معروضة للنظارة. لو استطاع رسام أن يبرزها بخطوطه وألوانه لكانت براعة تحسب له في عالَم التصوير، والمصوِّر يملك الريشة واللوحة والألوان، ولكن هنا ألفاظ فحسب صوَّر بها القرآن هذه المعاني حية نابضة بالحركة. فملأت الشعور والوجدان وأغنت عن الريشة واللوحة والألوان. * * مقومات الجمال في النص: ولننظر إلى جمال التعبير في مواطن جماله: (واعْتَصِمُواْ بحَبْلِ الله جَميعاً) . . والاعتصام هو ذلك التماسك القوى بشيء مجسم محسوس (الحبل) مثلاً. . . وحبل الله دينه. سمى حبلاً على سبيل الاستعارة. والاعتصام ترشيح للمجاز. يقول الزمخشري: " قولهم ": " اعتصمت بحبله ": يجوز أن يكون تمثيلاً - أى استعارة تمثيلية - لاستظهاره به ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه. وأن يكون " الحبل " استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد، أو ترشيحاً لاستعارة الحبل بما يناسبه. والمعنى: واجتمعوا على استعانتكم بالله ووثوقكم به ولا تتفرقوا عنه. أو اجتمعوا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 التمسك بعهده إلى عباده، وهو الإيمان والطاعة، أو بكتابه. لقوله عليه السلام: " القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ". * * مجازان تمثيليان: فالمجاز في الآية يحتمل التركيب - أي استعارة تمثيلية - والإفراد على أن يكون الاعتصام كما قال: ترشيحاً للمجاز، والمجاز الرشح أبلغ من المجرد، ولكل مقام. وفي الآية مجاز تمثيلى آخر، وهو قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) وهو قريب من: (يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) في كونه مجازاً تمثيلياً ، ونموذجاً بَشرياً. وكون مكمن السر الجمالى فيهما " الحرف " و " الشفا " إذ هما متحدان معنىً مختلفان لفظاً. شبَّه حالهم وهم على الكفر والمعاصي بحال مَن يقارب السقوط في حفرة من النار، وشبَّه هداية الله لهم إلى الإيمان والطاعات بإنقاذ مَن كاد يهوى في النار، وإبعاده عنها وتحقق السلامة له. * تحليل المجاز في (شَفَا حُفْرَةٍ) : قال صاحب الكشاف: " وشفا الحفرة وشفتها: حرفها بالتذكير والتأنيث. . . فمثلت حياتهم التي يُتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها ". فانظر كيف عمد القرآن إلى تجسيم المعنى لتأكيده وتقريره، وللعناية بإيضاحه حتى يثير في أنفسهم مدى الهلاك الذي كانوا مشرفين عليه، فتبين لهم نعمة الله في أجلى مظاهرها، أوَ ليس الذي ينجيك من الهلاك المحقق واهباً لك حياة جديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 إن التردى في حفرة - مجرد حفرة - فيه تعرض لخطر جسيم. فما بالك إذا كانت هذه الحفرة مستعرة بالنار؟ ليتأمل الخيال وليصور تلك الحفرة عمقاً واتساعاً كيف يشاء. فتلك فراغات متروكة له يدركها كيفما يريد. وصورة ثالثة. . . . . قال تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) . هاتان صورتان شاخصتان: بُنيان أسس على تقوى من الله ورضوان. أساسه التقوى والرضوان، فهو قوى متين. وبُنيان أسس على قواعد ضعيفة على طرف جرف هار. . فهو في غاية الضعف لا يلبث أن ينهار. قال الزمخشري: " أسس بنيانه على أضعف قاعدة وأرخاها وأقلها بقاء. وهو الباطل والنفاق الذي مثله (جُرُف هَارٍ) في قلة الثبات والاستمساك. وضع " شفا الجُرف " في مقابله التقوى. لأنه جعل مجازاً عما ينافى التقوى. فإن قلتَ: ما معنى: (فَانْهارَ به فِى نَارِ جَهَنَّمَ) قلتُ: لما جعل الجُرف الهائر مجازاً عن الباطل قيل: فانهاَرَ به في نار جهنم، على معنى: فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز. فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجُرف، وليصور أن البطل كأنه أسس بنيانه على شفا جُرف هار من أودية جهنم فهوى به ذلك الجُرف فهو في مقرها. والشفا: الحرف والشفير. وجرف الوادى: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً، والهار: الهائر وهو المتصدع الذي أشرف على التهدم والسقوط ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 فالمجاز هنا تمثيلى مركب. ولتحقيق تصوير المعنى بصورة المحسوس كانت أجزاء الصورة كذلك مجازية. فالبنيان هو الدين الخالص. وشفا الجُرف الهار هو الباطل والنفاق. وجاء من ذلك كله ذلك المعنى الآسر. قال الزمخشري معلقاً على هذا البيان الرفيع: " وأنت لا ترى كلاماً أبلغ من هذا الكلام. . ". هذه الصور الثلاث آثر القرآن أن يخرجها هذا الخرج الماثل الشاخص. * * * موازنة بين الصور الثلاث: ولنوازن بين هذه الصور الثلاث، التي كان " الحرف " و " الشفا " يمثلان فيها أجمل لقطة من لقطات الخيال. ولنقدم لهذه الموازنة بتمهيد: أولاً: إن أبطال أو شخوص هذه الصور مختلفون حالاً مع التقارب فى الوصف العام، فالذي يعبد الله على حرف - الذي هو بطل الصورة الأولى - عنده حظ من إيمان وإن ضؤل. فهو - إذن - على شُعبة من هدى، وبسبب نجاة. ثانياً: أما أبطال الصورة الثانية: (وكُنتُمْ عَلى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النارِ. .) فإن حالهم الذي دل عليه لفظ: " كنتم " كانت متناهية في الخطورة حين كانوا متلبسين بتلك الحال. واستجابتهم إلى داعي الهدى (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) دليل على حسن استعدادهم لتلقى التريية الصالحة إذا ما تهيأت لهم ظروفها، وحمل مشعلها هاد صالح على قدر عظيم من الخُلق والفضيلة. ثالثاً: وأما بطل الصورة الثالثة: (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) فذو نفس خبيثة. أصرت على رفض الهدى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ولجت في عتوها ونفورها. فليس لها من ماضيها أو حاضرها ما يشفع لها ويدفع عنها سوء المصير. * * * * أثر هذه الفروق: إذا وضعنا أمامنا هذه الفروق الواضحة بين أبطال الصور الثلاث. ثم عمدنا نحلل التعبير إزاء كل صورة منها، رأينا الدقة والسحر يتمثلان أروع تمثيل فى الصور الثلاث. فـ " الحرف " في الصورة الأولى: (مَنْ يَعْيُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) و" الشفا " في الصورة الثانية: (وكُنتُمْ عَلى شَفَا حُفْرَةٍ مَنَ النارِ) نلحَظ بينهما هذا الفرق: أن " الحرف " متروك على حالته. لم يستتبع بوصف يفيد أكثر من أنه حرف، حرف وكفى، أما " الشفا " فقد وُصفَت بأنها حفرة من النار. هناك حرف مجرد، مطلق حرف، وهنا شفا ممتدةَ على محيط حفرة تشتعل فيها النار. لماذا كان التعبير هكذا. . . .؟ ولعل السر العجيب في ذلك أن مَن يعبد الله على حرف هو على شعبة من إيمان في حال عبادته. فهو إذن على شيء من هدى. ولما كان حظه من الإيمان لا يؤهله لاحتمال الشدائد والصبر على المكروه - وقَلَّ أن يسلم منهما إنسان - ناسبت حاله تلك حال مَن يقف على طرف شيء يخشى سقوطه منه وترديه. ولكن كيف؟ . . يسقط وكفى. أما الأوس والخزرج فقد كانوا قبل إسلامهم في ضلال وحروب أذهبت من نفوسهم المروءة وطبعتهم بطابع وحشي. فناسب من هذه الوجهة أن تشبه حالهم بحال مَن يقف على طرف حفرة تتأجج فيها النار وتستعر. فمَن تردى منهم هلك واحترق. ولكن الله سلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 هناك مجرد وقوف على حرف. وهنا وقوف على طرف حفرة تضطرم بالنار. الصورة الثانيه أكثر رهبة من الأولى، وأسوأ مصيراً - لأن المخالفة المستوجبة للعقاب في الأولى أهون شأناً منها في الثانية. وتأتى الصوره الثالثة. . وقد علمنا موقف بطلها السادر في الضلال، العرض عن الهدى المتصف بالكفر والنفاق. لأن الجزاء من جنس العمل. فهو أشد خطراً من سابقيه، وأفظع ذنباً. فجاء التعبير القرآني أشد ما يكون اتساقاً مع ما ثبت له من صفات الكفر والنفاق: (عَلى شَفَا جُرُف هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ) . فـ " الشفا " - هنا - غير الشفا وغير الحرف هناك: الشفا شفا جرف. والجرف ما يجرفه السيل. إذن فهو شفا رخو هش تغوص فيه الأقدام، بل الركب والأجسام. . . هذه واحدة. وهو (هَارٍ) . . هكذا بالنص. متفتت لا تبثت عليه خطىً، ولا يمكن عليه سير، ضعف فوق ضعف فأنى يستقيم له بنيان؟ . . . وهذه ثانية. (فَانْهَارَ بِهِ) انهار به فعلاً، وليس مشرفاً على الانهيار. وهنا تكمل نهاية المأساة من حيث نتائجها الطبيعية. تكمل بالتردى والسقوط الذي كان متوقعاً، لأن المقدمات صادقة، موصلة - لا محالة - إلى هذه النهاية. . . وهذه ثالثة. (فِى نَارِ جَهَنمَ) لم يكن السقوط على الأرض وفي قاع الحفرة فحسب. لماذا؟ لأن قاع الحفرة أو سطح الأرض قد يكون - كذلك - رخواً هشاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 فقد يتوهم متوهم أن الساقط عليه قد ينجو وإن تعرض لطفيف الإصابات. فكان هذا الاحتراس الحكيم الدافع لكل وهم: (فِى نَارِ جَهَنمَ) وهي - أى النار - كفيلة بهلاكه ولو لم يسقط فيها. بل ولو دخلها في زينة عروس. . . وهذه رابعة. ثم " النار " ليست هي مطلق نار. فقد تكون ضعيفة لا تصيبه إلا بالحروق التي - يمكن النجاة منها. لذلك، ودفعاً لهذا الاحتمال - كذلك - كانت النار المنهار فيها هي نار جهنم وهي معلوم شأنها: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) . (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) . (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ) . . وهذه خامسة. * * * ملاحظة أخرى في الموازنة: وصفوة القول: لقد ناسب التعبير القرآني حال كل من الصور أدق مناسبة قدر لها تقديراً دون إيجاز مخل، ولا إطناب ممل. بقيت ملاحظة أخيرة. . فقد جاء في الصورة الأولى قوله تعالى: (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وجاء في سورة آل عمران: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) . الانقلاب في الموضعين مجاز تصويرى على طريقة الاستعارة التمثيلية، شبهت فيه أحوال معقولة بصور محسوسة. ومع ذلك نلحظ بينهما فرقين هامين: أولهما: الانقلاب في آية الحج على الوجه. أما في آية آل عمران فعلى العقبين. الأول انكفاء على الوجه الذي هو أشرف ما في الإنسان. والثاني سقوط إلى الخلف. ثانيهما: جاء بعد الانقلاب في آية الحج قوله تعالى: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) . وهذه الخاتمة تجعلنا في يأس من إصلاح حال مَن كان الحديث في شأنه. كما أننا نتبين مدى خسرانه وكونه ظاهراً لفداحته. وجاء بعد الانقلاب في آية آل عمران قوله تعالى: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) . وهذه الخاتمة تدلنا على شيئين: أن الانقلاب لا يضر إلا صاحبه فلا يلحق بالله - سبحانه - منه شيء. وأن الله مع هذا كفيل بجزاء الشاكرين. الخاتمة - كما ترى - في الموضعين مختلفة من حيث الدلالة: الأولى ميئسة، والثانية فاتحة لأبواب الرجاء. * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 * سر الاختلاف. والسر - والله أعلم - أن آية آل عمران وردت في مقام عتاب من الله لعباده الذين تأثروا بإشاعة قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو موته يوم أحد. وفي العتاب تأنيب وتأميل، تأنيب على ما بدا في الماضي، وتأميل فيما يجب التحلي به فى المستقبل. لذلك كانت الخاتمة في آل عمران رقيقة باعثة على الرجاء والإنابة. أما آية الحج فإن الذي يرتد عن دينه إذا ما ابتلاه ربه ويستبدل الكفر بالإيمان والإساءة بالإحسان والمعصية بالطاعة. قد أحل بنفسه عذاب ربه وباع دينه بدنياه فخسرهما معاً. فليس معه بقية من رشاد يُرجَى بها هدايته. ومصيره إلى النار لا محالة. لذلك كانت الخاتمة معه قاسية أليمة. كخاتمة حياته، وعاقبة أمره. * * * 2 - جمادات. . حية: نجد في القرآن الكريم الجماد يتكلم، والمعنويات تُوصف بما يوصف به الأحياء العاقلين، كما أسند إلى هذه الأنواع أحداث لا يأتى بها غير مَن كانت له حياة حقيقية وعقل وإرادة وتدبير، ترى ذلك فتسحر، ولا تستطيع أن تنكر منه شيئاً أو تحس بمخالفة في التعبير للسنن الذي ينبغى أن يكون عليه والحديث في ذلك طويل ومتعدد الجوانب. . ولكننا سنضرب مثلاً لتأكيد القاعدة ولبيان أن طريقة التصوير والبعث هي طريقة القرآن المفضلة. ومنهجه المتبع في بيان المقاصد المختلفة. وأمثلة ذلك كثيرة منها: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 فأنت ترى السموات والأرض والجبال - هنا - جماعة من الإناث العاقلات. فهمن معنى العرض، وخطر الأمانة فطلبن من الله أن يعفيهن من حملها وأشفقن منها، إنه لتمثيل رائع أن ترى الجمادات تخاطب فتعقل وتفكر فتتكلم. وقد جرى المفسرون على تفسير قوله تعالى: (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا) أي: أبَيْنَ الخيانة فيها وأشفقن من الخيانة. . ويفسرون " الأمانة " بالطاعة أو التكاليف الشرعية. ولماذا لا نجرى الإباء على حقيقته - كما سبق - ويكون المعنى: طلبن من الله إعفاءهن من حملها. وحملها الإنسان، على أن يراد بالأمانة ما يؤمَن عليه الإنسان من مال وغيره. لا مطلق طاعة ولا عموم التكاليف. وقال سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) . تكاد كتب التفسير تجمع على أن المراد من أمر السماء والأرض في هذه الآية أنه أمر تكوين. أي قال لهما: كونا وتشكلا على الهيئة التي نشاهدهما عليها. وفي تحليل معنى الأمر يقول الزمخشري: " إنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أمرهما، وكانتا في ذلك كالأمور الطيع إذا ورد عليه فعل الأمر المطاع. وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل. ويجوز أن يكون تخييلاً ويُبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما: ائتيا شئتما ذلك أو أبيتما. فقالتا: أتينا على الطوع لا على الكُره. والغرض تصوير أثر قُدرته في المقدورات لا غير، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وأياً كان نوع المجاز تمثيلاً أم غيره فإن شاهدنا في الآية ظاهر، حيث أسند إلى السماء والأرض، وهما جمادان، أحداثاً إنما هي من اختصاص العقلاء. وقال سبحانه: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) . الآيات تتحدث عن قوم فرعون لما جاء الهلاك فهلكوا، تاركين وراءهم ما كانوا فيه من نعمة وفضل. أراد الله أن يبيِّن لنا حقارتهم، وأنهم غير مأسوف عليهم حين هلكوا لعصيانهم وفسادهم. فقال: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) . ففى نفى بكاء السماء والأرض عليهم تهكم بهم، لأن العرب كانوا إذا مات لهم عظيم قالوا في تعظيم مهلكة: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس، وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. والقرآن بلغتهم نزل. فجاء نافياً ذلك البكاء المخصوص عنهم ليدل أنهم ليسوا كمن يعظم فقده. ونقل الزمخشري عن الحسن: " فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون. بل كانوا بهم مسرورين ". وفسَّر هذا - أي الزمخشري - بقوله: " يعنى: فما بكى عليهم أهل الأرض ". وعلى ما ذكره فإن التعبير من قبل المجاز العقلي الذي أسند فيه البكاء منفياً إلى ما ليس له. والعلاقة المحلية. أما القرينة فاستحالة أن يكون من السماء والأرض بكاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وفى الآية شاهد ثان في قوله تعالى: (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) حيث أسند الوصف: (كَرِيمٍ) إلى غير ما هو له حقيقة، وهو (مَقَامٍ) وذلك كثير فيه، وسيأتى له بعد بعض التفصيل. * * كواكب مضيئة: وقال سبحانه: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) َ. الكواكب والشمس والقمر أجرام سماوية فلا يأتي منها ما يأتي من العقلاء. وقد أجراها القرآن في هذه الآية مجرى العقلاء في موضعين: أولهما: فى (رَأيتُهُمْ) حيث أعاد عليها الضمير الذي يعاد به على العقلاء. وكان حق التعبير أن يقال: رأيتها. ثانيهما: في قوله: (سَاجدينَ) حيث أجرى عليهم الوصف الذي من حقه أن يجرى على العقلاء - كذلك - وكان حق التعبير أن يقال: ساجدة لا " ساجدين " ولتوجيه ذلك طريقان: أولهما: ذكره المفسرون وهو: " لأنه لما وصفها بما هو خاص بالعقلاء - وهو السجود - أجرى عليها حكمهم، كأنها عاقلة. وهذا كثير شائع في كلامهم أن يلابس الشيء من بعض الوجوه فيعطى حكماً من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة ". وهذا توجيه حسن ومقبول. . ثانيهما: ولم أره لأحد. وهو أن هذه الكواكب والشمس والقمر لما كانت رموزاً وكنايات عن عاقلين، حيث صرَّح المفسرون بأن المراد بالكواكب: أخوته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 والشمس والقمر: أبواه - لما كانت كذلك - عوملت معاملتهم فأجرى عليها ماجرى عليهم. والفرق بين التوجيهين: أن الأول عام يمكن الانتفاع به في غير هذا الموضع، والثاني خاص به دون سواه. وقال سبحانه: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) . عامل الشمس والقمر، والليل والنهار معاملة جمع المذكر العاقل. فأجرى عليها ضميره. لأن الدقة والنظام اللذان يُشاهَدان في سير هذه الكواكب والظواهر الكونية خليق أن يأتى من حكماء العاقلين، لا من أجرام وظواهر. وهذا سوغ أن تكون مثلها فعوملت معاملتها. والخلاصة أن ما يجرى مجرى العقلاء في القرآن الكريم. إنما هو للمبالغة فى المعنى لتأكيده وتقريره. وأن كل موضع وردت فيه هذه السمة، اشتمل المقام فيه ما يسوغ هذا الصنيع في حكم البلاغة. ليكون المعنى أوقع في النفس، وأيسر في الفهم، وأمثل للنظر. وليس في هذا الاستعمال مخالفة للوضع اللغوي أو العُرف البياني، وإنما هو مسلك البلغاء الفاقهين لأسرار المعنى وتصاريف الأساليب. وهو في القرآن على أسمى وجه وأرفع منزلة. * * * 3 - نماذج عامة: تحدثنا في الصفحات السابقة عن لونين من ألوان التعبير القرآني نهج فيهما منهج التصوبر والتمثيل في النماذج البَشرية السابقة. ثم حياة الجمادات. وعرفنا سر كل أولئك. ونذكر في الصفحات التالية نماذج عامة تجلت فيها هذه السمة فوهبت الجماد حركة والمعنويات تجسيماً. والخفيات ظهوراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وكل ذلك فى لمحات ساحرة من فن القول. وجمال التصوير، الليل والنهار والريح والصباح من الأمور المعقولة - هكذا استقر في أذهان الناس وهكذا كان الواقع. * الليل والنهار والصبح: ولكنها في القرآن أنفس حية. وأجسام تتحرك وتتصرف تصرف الأحياء: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) ، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) . ((وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) أي أقبل بظلامه لتسكن الحركة، ويئوب كل إلى مأواه. . وأين كان الليل قبل أن يقبل بظلامه؟ الصبح حى يتنفس. إن هذا التنفس الصادر عن الصبح هو حركة الكون كله، تلك الحركة التي يصحو بصحوها الوجود - إنسان وحيوان وطيور - عمل دائب وحركات سريعة متداخلة هي سر التقدم والعمران. (وَالليْلِ إذَا يَسْرِ) يسرى إلى متى. ومتى جاء؟ والليل عاقل مختار يريد شيئاً ويفعله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) . وإنك لترى الليل والنهار متسابقين في مباراة حامية لا تكف عن الحركة كل منهما يبغى الآخر: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) . * الريح : والرباح ليست ظواهر كونية فحسب، ولكنها مشيئة مريدة لها وظيفة تؤديها فى فهم وإدراك: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) . أى بما تحمل من ماء أو طلع النخل متنقلة من ذكورها إلى إناثها. فالتعبير قد أكسبها حياة حيوانية تلقح وتنتج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 والريح طيبة، وعاصفة، وعقيم، وعاتية، أوصاف لا تُطلق إلا على عقلاء. ولكنك تجد في القرآن الريح موصوفة بهذا الوصف: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) . ولم يكن الجائي هنا هو الريح وحده بل الموج كذلك جاء ساعياً بلا قدم من كل مكان: يمين وشمال، أمام وخلف. (وَفى عَادٍ إذْ أرْسَلنَا عَليْهِمُ الرَّيحَ العَقِيمَ) العُقم في الأصل يُطلق على المرأة التي لا تلد ولكنه هنا جاء وصفاً للريح التي لا تأتى بخير. (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) . أي شديدة البطش. فهى جند من جنود الله الذَين لا يُغلبون. * الأرض تهتز وتنشط: والأرض ليست تلك الكتلة المنبسطة التي يسير عليها الناس. ولكنها كائن عاقل كذلك، تراها " هامدة " مرة و " خاشعة " مرة أخرى. . وتراها فتاة خضرة تمرح وتفرح ويهزها الطرب: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) . (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) . وهكذا تصبح الأرض بلمسَة واحدة مصدراً للنشاط والحركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 * الدعاء له طول وعرض: والدعاء كلمات يتنفس بها المكروب، قد تكون خفية همسات نفس، وقد تعلو علواً نسبياً فيسمعها المتضرع ومَن يليه، ولكنها لا تزيد على هذا الحد. ولا يستطيع الخيال أن يبرزها إلا في حدودها الطبيعية. لكن القرآن - كتاب المعجزات - جعل أمام الخيال من تلك الكلمات الهامسة، وخلجات النفس المكروبة. جعل منها دنيا عامرة فسيحة لها عرض يقصر دونه أحدُّ وأقوى بصر. اسمع إليه يقول: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) . فهذا الإنسان ظالم كفور لا يلتزم الاعتدال لا في حال النعمة، ولا في حال النقمة. فإذا كان في نعمة نسي معطيها وكفر حقها. ولكن هذا المعنى أدى فى صورة شاخصة ومنظر ماثل: (أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ) إنه لعقوق وكفران وسوء معاملة. فإذا ابتلاه الله بشيء من " الشرِّ " ملأَ الدنيا طنطنة وضراعات ذاهباً بها في كل مكان لا يزال يدعو ويتضرع لتعود إليه السلامة: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) فالدعاء له عرض وطول. وطوله لا يقع تحت ضابط، فليوصف عرضه، وإذا كان العرض هكذا ممتداً. فما بالك بالطول؟ ليعمل الخيال. ومثل هذه الصور قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) . فالضر ماس. إذن فهو له جارحة، وهو لشموله لتفكير الإنسان، وما يصيب منه من قلق واضطراب سابغ لكل جزء فيه، ومحيط به حتى لكأنَّه لا يكاد يُرَى من وراء هذا الغطاء الكثيف. هذه الاعتبارات أوحى بها قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ) ، والكشف لا يكونِ إلا للأغطية والحُجب المحسوسة كقوله تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) . * * * * الحيرة والقلق: ثم انظر إلى الحيرة والقلق، كيف يبرزهما القرآن في عبارات حساسة شديدة الحساسية: (. . . وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) . هذهَ الأرض الواسعة ضاقت حتى كادت تنخنق أنفاسهم. لذلك تجد أنفسهم قد ضاقت عليهم هي الأخرى. . . فإلى أين يذهبون. . . أيخرجون من أنفسهم؟ . . . إنهم لو خرجوا منها - وكان ذلك مستطاعاً - لوجدوا أنفسهم فجأة فى الأرض. أو ليست هذه الأرض هي التي وجدوا فيها أنفسهم - فرضاً - قد ضاقت عليهم من قبل. . . فإلى أين المصير؟ إلى الله وحده. . لا ملجأ منه - لا أرضاً ولا سماءً ولا نفساً - إلا إليه. * * * * لفتة خاطفة: قل لى بربك: هلْ في مقدور إنسان - مهما أوتى من البلاغة والبراعة - أن يصوِّر هذه الحالة النفسية كهذا التصوير في دقة وإيجاز واستقصاء لجوانب الصورة الواقعية والمحتملة. لا. . ليس في إمكان بَشر. إنه الله وحده. . وكتابه الحكيم سجلٌّ أمينٌ حافلٌ بهذه الصور الخلَّابة والمعاني الآسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الباب الثالث من روائع " المعاني " في القرآن الكريم * من أسرار الحذف. * من أسرار التقديم في القرآن. * التقديم غير الاصطلاحي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 الفصل الأول من أسرار الحذف الحذف فن عظيم من فنون القول، ومسلك دقيق في التعبير وتأدية المعاني، ترى به ترك الترك أفصح من الذكر. والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة. وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتَم بياناً إذا لم تبن. وقد أشاد البيانيون كثيراً بفن الحذف. وأفصحوا عن ملامحه الجمالية فقعَّدوا له القواعد ووضعوا الشروط وأظهروا المزايا. وكان لظاهر الحذف في القرآن الكريم أكبر عون للبلاغيين على تعرف جهاته. ورصد حالاته وكشف أسراره مقيساً عليه كل فن بليغ وأدب ممتع. * شروط الحذف: كل حذف لا بدَّ فيه من شرط وسبب. . أما الشرط فقد أجمعوا على أن الحذف لا يُصار إليه إلا إذا بقيت في الكلام قرينة تدل على المحذوف. حتى لا يصبح البيان ضرباً من التعمية والغموض، لأن شرط جودة الأسلوب الوضوح وحسن الدلالة. وهذا الشرط ضرورى لا يُحمد إغفاله، لأن الحذف إذا لم يكن فيه ما يدل على المحذوف - ويعينه أحياناً - جار على اللفظ والمعنى. والألفاظ - كما قالوا - أوعية المعاني فلا بدَّ من ملاحظتها مذكورة أو محذوفة دل عليها دليل (1) .   (1) لا يشترط البلاغيون عند حذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه أن يكون هناك دليل على الحذف لأن الفاعل عمدة لا بدَّ من ملاحظته وإن حذف. ولأنه قد أقيم مكانه عوض، فهم يكتفون فيه بتوفير الداعي إلى الحذف مثل " قتل الخارجي " لأن الأهم قتله لا مَن قتله: المطول ص 69 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وأما السبب فهو الأمر الذي يدعو المتكلم إلى ترجيح الحذف على الذِكر. أو وجوبه. إذا كان أدل على فخامة المعنى. وسعة تصوره في بعض المواضع. وفي هذا - أعنى الداعي إلى الحذف - يكمن السر الجمالى في التعبير لكونه مظهراً من مظاهر مقتضى الحال. والتصرف في إلقاء الكلام. ومظاهر الحذف في القرآن الكريم كثيرة جداً لكن البلاغيين اتجهت عنايتهم إلى حذف المفعول به أكثر من غيره. لأن اللطائف فيه أكثر وأعجب. ويمكن تصنيف الحذف في القرآن الكريم على الوجوه الآتية: 1 - حدف حرف 2 - حذف كلمة مفردة. 3 - حذف جملة. 3- حذف فقرة كاملة. وأرى أن دراسة الحذف فيه على هذا المنهج أضبط من المنهج الذي سار عليه ابن الأثير في " المثل السائر ". حيث قسَّم الحذف إلى نوعين: أولهما: حذف الجمل ويقع في أربع أنواع. . وستأتي طريقته. ثانيتهما: حذف المفردات ويقع في أربعة عشر نوعاً. وقد أورد في حذف المفردات بعض الحروف، والحرف لا يعد مفرداً. وكان الأولى أن يبحثه تحت عنوان " حذف الأداة ". . كما أنه أدخل ما هو أكثر من جملة في حذف الجملة. وحذف الجملة في حذف المفردات، لذلك آثرت هذه الطريقة إذ يبدو أنها أكثر ضبطاً. أولاً - حذف الحرف: وقد جاء حذف الحرف في القرآن الكريم في مواضع متعددة، ولمعرفة حذفه فيه - فيما أرى - ضابطان، الأول: دلالة الحرف المحذوف على معنى مع بقاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 هذا المعنى بعد الحذف. والثاني: اعتبار الحرف محذوفاً بالقياس على موضع آخر مماثل ورد فيه الحرف دون حذف. فمن النوع الأول: حذف حرف النداء " الياء " كثيراً في القرآن الكريم حيث لم يأت في القرآن أداة نداء سواه. ولأن العلماء صرحوا على أن أداة النداء إذا حذفت وجب أن يقدر المحذوف ياءً. لأنها أم الباب. وقد التزم القرآن الكريم حذف أداة النداء " الياء " مع كلمة " رب " خاصة فى كل موضع وردت فيه على هذا الوجه إلا في موضعين: الآية (30) من سورة الفرقان. وهي قوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) . والآية (88) من سورة الزخرف، وهي قوله: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) . وقد قصر الدكتور أحمد أحمد بدوي إذ يقول: " وعلى كثرة ما نودى الرب في القرآن لم أعثر عليه مسبوقاً بحرف النداء إلا فى تلك الآية الكريمة: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) . " ويبدو أنه لم يتتبع مواضعها. وإلا لم يقع في هذا القصور حيث صرَّح بسبقه في آية الزخرف فحسب ". وقد اهتدى الدكتور بدوي إلى تعليل مقبول لسر حذف أداة النداء " الياء " مع " رب " إذ يرى أن سر الحذف فيه للمبالغة في تصوير قُرب المنادَى " رب " حيث إن معناه: المربي والسيد والمالك. وهو بهذه المعاني من شأنه أن يكون قريباً حاضراً لا يحتاج في ندائه إلى وسائط. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 * لماذا حذف " يا " مع " رب "؟ ونضيف إلى ما ذكره الدكتور بدوي: إن هذه الكلمة " رب " أكثر استعمالاً من غيرها في الدعاء. فروعي فيها من جهات التخفيف ما يجعلها أطوع فى الألسنة. وأسهل في مجارى الحديث. ولم يقتصر حذف أداة النداء في القرآن الكريم على كلمة " رب " فحسب، بل جاء ذلك في مواضع كثيرة غيرها مثل: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) . ومثل: (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) . ومثل: (يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذَا) . والأصل يا يس ويا طه ويا يوسف. . وقد كسا الحذف - هنا - العبارات فخامة وخلابة. * * * إيثار " الياء ": ولعل السر في إيثار القرآن الكريم لحرف النداء " يا " دون غيره. لأن هذه الأداة تكون الوسيلة الطبيعية في النداء. إذ هي أكثرها استعمالاً عند الخاصة والعامة. ولأنها أم الباب، ولأنها أخف أحرف النداء في النطق، لأنها تبدو فى خفة حركتها كأنها صوت واحد، لانطلاق اللسان بمدها دون أن يستأنف عملاً. أما الأربع الأخر - وهي الهمزة وأيا وهيا وأي - فإن كلا منها يبدأ بحرف من حروف الحلق. وهي أثقل الأصوات نطقا. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 * حذف "لا" مع "تفتأ": ومن حذف الحرف في القرآن الكريم إسقاط " لا " في قوله تعالى: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) . والتقدير: لا تفتأ تذكر يوسف. ويرى الزمخشري ومَن تابعه أن الحذف هنا حصل لأَمنِ اللبس. والكلام مسوق للنفي إذ لو كان إثباتاً لوجب اللام والنون فيه. فترك ذلك دليل على بقاء النفي وإن حذفت أداته. وقال ابن المنير في حاشيته على الكشاف في الموضع المذكور: " وحذف " لا " النافية للمضارع بعد القَسَم كثير لأمن اللبس ". وقد استشهد الزمخشري بقول امرئ القيس: فَقُلتُ يَمِينُ اللهِ أبْرَحُ قَاعداً. . . وَلوْ قَطعُواْ رَأسِى لدَيْكِ وَأوْصَالِى هذا حاصل تخريجهم للمسألة. ولكن ألا يرد عليهم هذا الاعتراض وهو: إن جواز الحذف - هنا - فى الصناعة النحوية لا يمكن أن يكون تفسيراً بلاغياً لتوجيه المعنى. وأياً كان أمر الحذف في الآية والبيت فإنه ليس مستوى الطرفين. بل الإثبات أرجح منه لأنه الأصل. فلا بدَّ - إذن - من تلمس وجه آخر غير الجواز النحوي يرجح من حيث المعنى الحذف على الذكر. * سر حذفه: وهذا الوجه - كما أراه - أن حرف النفي في الآية الكريمة " لا " محذوف لضيق المقام لأن الأزمات النفسية عند إخوة يوسف قد بلغت ذروتها في هذا الموضع. ويكفي أن يستحضر الإنسان الآيات السابقة على هذه الآية للتأكد من صحة ما أراه. ويكون الجواز النحوي حينئذ ترشيحاً ومساندة لا نذكر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) . فقد تجمعت - هنا - آثار الجريمتين: فَقد يوسف. واحتجاز أخيه بنيامين. وتفجرت في نفس يعقوب عليه السلام عواطف اليأس والرجاء. وظهر ذلك على ملامحه وأعرض عن إخوة يوسف غير آبهٍ بما يقولون. شاكاً في قولهم في مقام يفيدهم فيه التصديق. جائراً بالشكوى إلى الله يكاد الأسى يمزق قلبه وهو شيخ كبير افترسه شعور الحزن على ولِيدين محبوبين. هذه الواقف المويئسة كان لها أثر بالغ على إخوة يوسف فضاقت عليهم الأرض بما رحبت فكان حسناً من القرآن - وهو يُعبِّر عن تلك الحالات النفسية الدقيقة - أن يكون في التعبير نفسه ما يشير إلى تلك الحالات أبلغ وأوجز إشارة. . وكان التعبير كذلك. أما ما ذكروه عن امرئ القيس. . فإن موسيقى الشعر. وما كان فيه الشاعر من موقف يترقب فيه الخطر. فإن من الخير له أن يستبدل بالكلمات الهمسات وبالهمسات الإشارات خوفاً من أسماع وأعين الرقباء. وهذه حالة شبيهة بتلك. ناسبها أن يخرج التعبير على الصورة التي جاء عليها في الموضعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 ذلك ما أراه لائقاً لتوجيه المعنى - بلاغياً - فرق الجواز النحوي. أما النوع الثاني من ضابطى حذف الحرف - وهو النوع الذي يعتبر الحرف فيه محذوفاً في موضع قياساً على موضع آخر جاء مذكوراً فيه - فإن أمثلة ذلك من القرآن كثيرة. . . * * * حذف الواو وذكره: ومنها قوله تعالى في ثأن أهل النار: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) . فى هذه الآية حذف حرف الواو وقيل: " فتحت " بدليل ذكرها في موضع آخر مماثل لهذا الموضع. وهو قوله تعالى في شأن أهل الجنة: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) . * دلالة هذا الحذف: الواو - إذن - محذوفة في الموضع الأول. مذكورة في الموضع الثاني. فما السر في الحذف هناك والذكر هنا؟ وما الذي ترتب على الحذف والذكر من تغيير في المعنى وفي الإعراب؟ لقد كان لهذا الصنيع أثره في الموضعين. ويمكن تلخيصه فيما يأتي: 1 - حذف الواو في الآية الأولى محض ما بعدها للشرط. فأصبح جواباً لـ " إذا "، أما ذكرها في الثانية فقد حمى ما بعدها أن يقع جواباً للشرط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 ولوَّح بأن الجزاء محذوف. ولأنه صفة ثواب أهل الجنة. فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف. 2 - والحذف في الأولى دل على أن أبواب جهنم فتحت حين جاءوها، لأن " إذا " ظرف لا يُستقبل من الزمان، و " فتحت " جوابها، والذكر في الثانية دل على أن أبواب الجنة كانت مفتحة قبل أن يأتوها. فلماذا - إذن - كانت أبواب جهنم مغلقة ثم فتحت حين جاءوها، وأبواب الجنة مفتحة قبل أن يأتوها؟ 3 - والجواب: لأن جهنم سجن، والسجن ذلك شأنه: حُراس شداد، وأبواب محكمة الإيصاد: (عَليْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَة) . والجنة دار كرامة وتشريف، فللترحيب بهم استعدت لهم قبل وصولهم، (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) . * * * * موضع آخر تُحذف الواو: فتلك أسرار ثلاثة استفيدت من حذف حرف في موضع، وذكره في موضع آخر مماثل. ومثله في كون الواو محذوفاً في موضع ومذكوراً في آخر مماثل قوله تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) . وقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وتوجيه التعبير في الموضعين ميسور. لأنهما - وأن اتحدا في الغرض العام - فبينهما فرق واضح هو مكمن السر في الذكِر والهدف. فالآية الأولى تذكير من الله - مجرد تذكير - بما حدث لبني إسرائيل من بطش فرعون وآله. وفي الآية الثانية يعمد موسى - عليه السلام - إلى تذكير بنى اسرائيل بنعَم الله. . ويعدد عليهم تلك النعَم. فلم يكتف بذكر الإنجاء. بل مهُد له من أَول الأمر للتذكير فناسب ذلك تَعداد النعَم. والفصل بين آحادها. فكأنه جعل سومهم العذاب محنة مستقلة نجاهم الله منها، وعطف عليها غيرها. لذلك جيء بالواو بين النوعين. ومعروف أن العطف بالواو يقتضي المغايرة. . فلو ترك هذا العطف لصار السوم والتذبيح نوعاً واحداً. ويكون الثاني تفسيراً للأول. كما هو في الآية الأولى. وإلى هذا المعنى أشار الزركشي في شيء من الإجمال. ومثله كذلك قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) . فقد جاء " رابعهم " و " سادسهم ". بعد " ثلاثة " و " خمسة " بدون واو. . . ثم خولف في " سبعة " هذا النسق. حيث عطف عليها " ثامنهم " بالواو. والمواضع الثلاثة متماثلة. فلا بدَّ من سر خفى اقتضى الحذف في الأولين. والذكر في الثالث. . فما هو إذن ذلك السر؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 * توجيه النص مع الحذف وعدمه: تعددت الآراء في توجيه ذلك. . ففريق يقولون: إنها واو الثمانية (1) . . ويذكرون على ذلك أمثلة من القرآن الكريم اتفق لهم فيها مجيء هذه الواو فيما هو مظنة ذلك. منها: أن الله يقول فى شأن أبواب الجنة: (وَفُتحَتْ أبْوَابُهَا) ، وفي أبواب النار: (فُتِحَتْ أبْوَابُهَا) وأبواب الجنَة ثمانية وأبواب النار ودركاتها - سبعة. ومنها قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) . وعدُّوا منها - كذلك: (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) . لأن " أبكاراً " ثامن كذلك. . * رد ابن المنير على هذا الرأي: وقد شنع ابن المنير على مَن يقول بواو الثمانية هذه ولم يرضه. وناقش أدلتهم وانتهى من المناقشة بأن ما زعموه من وجود واو ثمانية في اللغة العربية غير مُسلم. وأن كل واو جاءت في موضع مما يستدلون به هي لغير ما يرون. فالواو فى: (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) للربط بين الصفتين المتعاطفتين. ويؤيد رأيه بأن هذه الواو صاحبت هاتين الصفتين في جميع استعمالاتهما مثل: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، و (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) . والواو في قوله تعالى: (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) للتقسيم. ولو حذفت لذهب المعنى المراد.   (1) واو الثمانية هي التي تعطف الثامن على السابع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 يقول ابن المنير مستخلصاً من كل ما سبق: "فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة لغير ما زعمه هؤلاء، والله الموفق ". * * * * إضافة: ْونضيف إلى ما ذكره ابن المنير ما يأتي: إن الواو كما دخلت على: (والناهُونَ) دخلت على (والحَافظونَ) وهى التاسعة فهلَّا قالوا بأنها واو التسعة، مشابهة لتلك؟ وحيث لم يسغ لهم هذا القول فما الفرق - إذن - بنين الواوين الداخلتين على: (والناهُونَ) ، (والحَافِظونَ) ؟ أرى أن ليس فيما ذكروه حُجة لهم على هذه الواو الذعاة. ويوجه الزمخشري - فيما يذكر - التعبير. فيقول: " إن هذه الواو هي التى تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة. وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف. وإن اتصافه بها أمر ثابت مستقر. وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: (سَبعَة وَثَامِنُهُمْ كَلبُهُمْ) قالوا عن ثبات علم. وطمأنينه نفس. ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم. والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله: (رَجْماً بالغَيْب) وأتبع القول الثالث قوله: (مَا يَعْلمُهُمْ إلا قَلِيلٌ) . وأقول: إن الذي ذكره الزمخشري توجيه صائب. ورأي سديد لائق بكتاب الله تعالى، وأنا مع مَن ينكر أن هذه الواو تسمى واو الثمانية. لأنه حتى ولو سلمنا به لاحتاج الأمر إلى توجيه آخر هو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 لماذا اختصت اللغة العربية الثمانية بهذه الواو دون غيرها من الأعداد؟ وأظن أن محاولة توجيه هذا الجعل الأخير لا يخرج عن تعليلات ليس تحتها طائل. * * * موضع ثالث لحذف الواو: ومن أمثلة حذف الواو وذكرها أيضاً قوله تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) . وقوله تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) . فالموضعان متماثلان. وقد ذكر الواو في الأولى. وحذف في الثانية. . فما السر؟ وقد رد ابن الأثير المسألة إلى مجرد الجواز من حيث الصناعة النحوية. قال: " اعلم أن كل اسم نكرة جاء خبره بعد " إلا ". يجوز إثبات الواو في خبره وحذفها، كذلك قولك: ما رأيت رجلاً إلا وعليه ثياب. وإن شئت قلت: إلا عليه ثياب - بغير واو ". وكلام ابن الأثير على ما فيه من خلط بين الخبر والصفة لا يحل الإشكال لأن مجرد الجواز النحوي تخريج عام لا ينطبق على موضوعنا هذا إلا من وجه بعيد كما ترى. ويقول الزمخشري: " هذه الواو ذكرت في آية الحجْر لتفيد لصوق الصفة بالوصوف على نحو ما كان في قوله تعالى: (سَبعَةٌ وَثَاَمِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 * هل توجيه الزمخشري مقنع؟ وكلام الزمخشري على ما فيه من قُرب إلى الصواب حيث حلل الفكرة تحليلاً مباشراً ولم ينزلها على تخريج عام - مع هذه الاعتبارات كلها - لا يقنع الباحث لأنه يرد عليه سؤال مؤداه: لماذا رجح لصوق الصفة بالموصوف في الآية الأولى ورجح عدم لصوقها في الثانية؟ والذي أراه في توجيه المسألة - بعد موافقة الزمخشري على أن الواو مفيدة للصوق الصفة بالموصوف - أن المقام في الأولى يقتضي التأكيد بخلاف الثانية. لأن الصفة المراد إثباتها في الأولى كون القرية ذات كتاب سابق قد أنزل على رسولها لا الكتاب المحفوظ المقدر فيه أجلها - كما يقول الزمخشري - وذلك لأن الآية تهدف إلى أنهم أنذروا ولم يؤخذوا ظلماً. والصفة المراد إثباتها في الثانية كون القرية ذات منذرين. وفرق بين الكتاب والمنذرين، لأن الكتاب ليس له من قوة الظهور ما للرسل. لذلك كان المقام فى الأولى مقام تأكيد، وفي الثانية - أعنى ظهور المنذرين - لأنهم جماعة من الناس فهم في غنى عن التأكيد الذي احتاجت إليه الأولى. فكان الذكِر والحذف من أجلهما. * * * حذف حرف الجر " الباء ": ومثل ذلك - في غير الواو - حذف حرف الجر " الباء " في قوله تعالى: (جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 قوله تعالى: (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) . هذان موضعان متماثلان تمام التماثل. وقد خولف بينهما. فجاء التعبير فى آية آل عمران بعطف (الزُّبُرِ) و (الْكِتَابِ الْمُنِيرِ) على (الْبَيِّنَاتِ) محذوفاً منهما حرف الجر " الباء " الداخلَة علىَ المَعطوف عليه. وهذا حسَن وفصيح. ثم جاء التعبير في آية فاطر مذكوراً فيه حرف الجر " الباء " في المعطوفين: (بِالزُّبُرِ) و (وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) . * توجيهي للمسَألةَ: ولم أر توجيهاً لأحد في هذا. . . ولذلك فإنى أوجهه - فيما أرى - على النحو الآتى: أولاً: إن ذكر الحرف في المواضع الثلاثة - المعطوف عليه، والمعطوفين - جاء في سورة " فاطر " وهي مكية النزول. فهى إذن أسبق وجوداً بين الناس بهذا الاعتبار فهى مؤسسة للمعنى الوارد فيها بخلاف ما في " آل عمران "، لأن " آل عمران " مدنية النزول. ثانياً: إن القوم في مكة يختلف حالهم عن القوم في المدينة من حيث الاستجابة إلى الدعوة والإسراع إلى الإيمان. فأهل مكة أهل عناد وتحد، وأهل المدينة أهل إسلام وطاعه. ثالثاً: هذان الاعتباران يفيدان أن المقام في مكة كان يقتضي التأكيد فى المعاني لتقريرها ورسوخها لتتناسب مع حالة الإنكار التي كانوا عليها. وعلى هذا جاء التعبير في " فاطر " المكية. لأن تكرار حرف الجر في المواضع الثلاثة يشعر بتكرار التعلق، فكأنه قال: جاءوا بالبينات. وجاءوا بالزير. وجاءوا بالكتاب المنير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وخلا التعبير المدني من هذا التكرار لعدم الحاجة إليه لإسلام أهل المدينة وطاعتهم. * * * صورة أخرى لحذف الحرف في القرآن: وقد يأتي الحرف في القرآن محذوفاً على غير الصور السابقة. ففيها كان الحرف المحذوف من الحروف التي ليست من بِنية الكلمة كـ " واو العطف " و" باء الجر " و " ياء النداء ". أما ما نحن بصدد ذكره فهو حذف حرف من بِنية الكلمة. فتأتي في موضع آخر على صورة أخرى. ونكتفى في هذا النوع بذكر مثال واحد. قال سبحانه في سورة البقرة: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) . وقال في طه: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) . والشاهد في " تبع " و " أتبع " الأولى بدون همزة وبتخفيف الباء. . والثانية مقترنة بهما. ولذلك سر فما هو؟ * * توجيهات العلماء للمسألة: نقل عبد الغنى الراجحي أقوال للأئمة في توجيه هذا التعبير. . الإمام البقاعى يرى أن المقام في " طه " مقام تحذير ونسيان فشذد الفعل حثاً على النشاط والجد وقد سبقه مباشرة: (بَعَضُكُمْ لبَعْضٍ عَدُو) والمقام يتطلب أدنى اتباع وأقله. وقد جاء جواب الشرط في المَوضعين مناسباً لدلالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 الفعل فهو في طه: (فَلاَ يَضِلُ وَلاَ يَشْقَى) ، وفي البقرة: (فَلاَ خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) بنفى الضلال والشقاء في الأول. والخوف والحزن فى الثاني. ويقول الأنصارى: إن القصة في " طه " بنيت من أولها على القوة والمبالغة والتوكيد فناسب آخرها أولها. ويقول ابن جماعة: إن التشديد في " طه " للتصريح بمعصية آدم وقد سبقه الاتباع مشدداً في نفس السورة. ويقول صاحب ملاك التأويل: " إن صيغة التخفيف في سورة البقرة حيث لم يتقدم في حكاية إغواء إبليس لآدم ذكر وسوسة الشيطان والاحتيال عليه. وصيغة التشديد في " طه " حيث تقدمت وسوسة اللعين صريحة وسعة مكره واحتياله. فكان المخفف بجوار ما لا تعمل فيه. والمشدد بجوار ما فيه ذلك. هذا ما ذكره الراجحي عن الأئمة السابقين. وكل هذه التوجيهات تبدو وجيهة لا ريب وما منها إلا وهو لائق بالمقام. والنكات - كما يقولون - لا تتزاحم. فلتكن كلها مرادة للحكيم سبحانه خاصة وأن ليس بينها تدافع. أما رأى الراجحي نفسه في الموضوع - والذي أراه معه - فهو أن المشدد كان مع أهل مكة. والمخفف كان مع أهل المدينة. ولا ينكر أحد ما بين البيئتين من فروق. وكيف أن القرآن كان شديداً في تعبيره مع أهل مكة. رقيقاً فيه مع أهل المدينة. . ذلك هو منهج القرآن مع الفريقين. ما سبق كان خاصاً بحذف الحرف في القرآن سواء أكان خارجاً عن بنية الكلمة أو داخلاً فيها. وهي مُثُل مضروبة لا على سبيل الاستقصاء. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 ثانياً - حذف الكلمة المفردة: وخطة البحث هنا تجرى على هذا النسق: (أ) حذف الفعل. (ب) حذف الفاعل. (جـ) حذف المبتدأ. (د) حذف الخبر، (هـ) حذف الموصوف. (و) حذف الصفة. (ز) حذف المضاف. (ح) حذف المضاف إليه. 1 - حذف الفعل: يأتي حذف الفعل في القرآن الكريم على ضربين: 1 - ضرب يُحذف فيه الفعل دون تعويض. ويبقى عمله من رفع ونصب. 2 - وضرب يُحذف فيه الفعل مع إقامة شيء مقامه. وهو التعويض الذى نقصده ويكون الشيء المقام مقامه " العوض " على جهة الإبانة أو التفسير له. وكل من هذه الأنواع لا يُصار إليها إلا لغرض بياني. من ذلك حذف الفعل إذا وقع اسم مرفوع على الفاعلية بعد أدوات الشرط: " إن " و " إذا ". مثل ذلك مطالع سور التكوير والانفطار. والانشقاق. ومواضع أخرى مثبوثة فى ثنايا السور المختلفة: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) . (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) . * فى " التكوير " حذف الفعل بعد أداة الشرط " إذا " في اثني عشر موضعاً. وولى الاسم مرفوعاً أداة الشرط. ثم فسَّر ذلك الفعل المحذوف بإعادته بعينه بعد الاسم المرفوع. والفعل المحذوف في هذه المواضع هو فعل الشرط، ويجب تقديره في مثل هذه الاستعمالات لأن أدوات الشرط مختصة بالدخول على الأفعال دون الأسماء. وذلك هو الأصح عند البصريين وبعض العلماء. وفي " الانفطار " حذف الفعل بعد أرلع أدوات للشرط. وفعل فيه ما فعل فى سابقه. وفي " الانشقاق " حذف في موضعين كذلك. وفي كل بقى الفاعل مرفوعاً. ودليل الحذف ما ذكرناه من مذهب البصريين من أن أدوات الشرط لا تدخل إلا على الأفعال. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 * سبب الحذف هنا: ذلك هو الدليل. . فما هو السبب؟ إنه حذف لإرادة التأكيد المستفاد من تكرار الإسناد. فالفعل في قوله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قد أُسند إلى الفاعل مرتين. مرة - محذوفاً - إلى الظاهر " الشمس " ومرة - مذكوراً - ضمير الفاعل " هي ". فكأنه قال: إذا كُوِّرَتْ الشمس كُوِّرَتْ الشمس. . والمقام في كُل يقتضي التوكيد لغرابة الأفعال والظواهر المدلول عليها. لأن الناس لم يشهدوا مثلها من قبل. ولن يشهدوا ذلك إلا مرة واحدة يوم البعث. وفضلاً عن غرابتها في نفسها ومخالفتها للسنن المعهود - فإنها تتصل بقضية البعث اتصالاً مباشراً، والبعث كان - كما نعلم - مثار جدل ومبعث إنكار والمناسب له التوكيد والتقرير. وكان ذلك هو ما فعله القرآن. وهذه السور جميعها مكيات النزول. وقد جاء ذلك في سورة التوبة في قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) . فقد اقتضى المقام هنا التوكيد لأن إستجارة المشرك بعدوه المسلم مما يُنكر ويُستغرب. فخرج الكلام مخرج التوكيد. قال الزمخشري: " أحد " مرتفع بفعل الشرط مضموراً يفسره الظاهر. . تقديره: وإن استجارك أحد استجارك، ولا يرتفع بالابتداء لأن " إن " من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. والمعنى: إن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن. وتبين ما بعثت له فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطلَّع على حقيقة الأمر. ثم أبلغه بعد ذلك داره التي يأمن فيها. إن لم يسلم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وترى أن الزمخشري لم يذكر سبب الحذف البياني. وهو لا يخرج عما قلناه. ويُحذف الفعل أحياناً - ويُعوَّض عنه مصدره للدلالة على التأكيد كذلك، وقد مَثل له ابن الأثير بقوله تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) . فقد حذف الفعل وأقيم مصدره مقامه. والمعنى: فاضربوا الرقاب ضرباً. قال ابن الأثير: " وفي هذا معنى التوكيد والمبالغة والاختصار وجرى الزمخشري على هذا التوجيه ". وقد ناب المصدر عن فعله في موضعين أخرين في هذه الآية: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) . إذ التقدير: فإما تمنُّون مَناً. وإما تفدون فداءً. . وفيهما ما في الأول. ويبدو أن المقام مبنى على الإيجاز لنزول هذه الآية في ظروف الحرب. وقد يكون السر البياني في حذف الفعل هو الاختصاص كما في قوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) . فقد حذف الفعل في الآيتين في فواصلهما: (إِيَّايَ فَارْهَبُونِ) و (إِيَّايَ فَاتَّقُونِ) والمعنى: " إياى فارهبوا فارهبون. وإياى فاتقوا فاتقون ". قال الزمخشري في قوله تعالى: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) هو من قولك: زيداً رهبته. وهو أوكد في إفادة الاختصاص من: (إيَّاكَ نَعْبُدُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 فالاختصاص من تقديم المفعول " إياي " والتوكيد من تكرار الفعل الفسر ولعل هذا هو الفرق الذي قصد إليه الزمخشري بين: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) . و (إيَّاكَ نَعْبُدُ) لأن " إياك " منصوب بالفعل بعده لعدم اشتغاله بسواه و (إيَّاكَ نَعْبُدُ) يفيد الاختصاص - دون التوكيد - لعدم إرادة تقدير فعل قبل " إياك ". * * * إيضاح: وفي على حذف الفعل - هنا - لإفادة الاختصاص مجاراة لما ذكره الزمخشري والسيد وصاحب المطول " وإلا فالحقيقة أن الاختصاص مستفاد من تقديم المفعول لا من التكرار. بدليل وجود الاختصاص مع عدم التكرار المفهوم من الحذف ". وإلى هذا يشير السيد في حاشيته على المطول فيقول: " وقدم المفعول عوضاً عنه - أي عن الشرط المحذوف - على أحد الرأيين مع كون تقديمه مفيداً لأمرين أخريين: الاختصاص وصيرورة " الفاء " متوسطة في الكلام كما هو حقها. فصار الكلام هكذا: " إياى فارهبوا. ثم كرر الفعل تأكيداً وقصداً ". * * * * حذف الفعل اكتفاءً بآخر: وقد يُحذف الفعل لوقوعه في خير فعل آخر لكل منهما معموله في الكلام. ولقوة اختصاص ذلك المعمول بفعله. ودليل الحذف في هذا النوع هو العُرف اللغوي، أو الشرعي. . فمن الأول قوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) والتقدير: فأجمعوا أمركم. وادعوا شركاءكم، وَقد جاء ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 صريحاً في قراءة ابن مسعود وأُبيٍّ. فقد نص على ذلك الزمخشري، وابن الأثير. فـ " أمركم " معمول " أجمعوا ". . و " شركاءكم " معمول الفعل المحذوف " ادعوا "، والدليل هو العُرف اللغوي إذ لا يصح أن يتعلق " الشركاء " بإجماع الأمر والرأي. أما السبب فإيجاز مع تكثير المعنى. ولإخراج المعمولين المختلفى العامل مخرج المعمولين لمعمول واحد لسبق إجماع الرأي على دعوة الشركاء. . ولأن كِلاَ الأمرين مطلوبان لموقف واحد هو أن يتحدوا ما استطاعوا ضد نبي الله نوح عليه السلام. ولينظروا بعد حشد كل ما يمكنهم من عوامل الانتصار مَن هو المنتصر؟ والواو ليست عاطفة مفرداً على مفرد. بل جملة على جملة - كما ترى. وعليه جاء قول الشاعر: " علفتها تبناً وماءً بارداً " - أي: وسقيتها ماءً بارداً ومثله: " وزججن الحواجب والعيونا ". أي: وكحلن العيون. لأن العُرف اللغوي يمنع من تشريك ما بعد " الواو " مع ما قبله في حكمه. لأن لكل منهما متعلقاً خاصاً لا يصح تعليق الآخر به، وجعل الفعل المذكور - فى الظاهر - للمعمولين - وهو في الواقع لأحدهما ضرب من التعبير فيه خلابة وسحر. ويرى الزمخشري أن " الواو " في الآية الكريمة ليست للعطف. بل هي بمعنى " مع "، ويرى أن مجيء الشركاء على هذا الموضع فيه معنى التهكم. وكِلاَ التوجهين لا يأباه الأسلوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 ومثال ما دل على حذفه العُرف الشرعي دون اللغوي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) . بنصب: "أرجَلكم ". فـ " أرجلكم " معمول لفعل محذوف تقديره: واغسلوا أرجلكم. فالذي دَلَّ على الحذف وتعيين المحذوف - هنا - هو الشرع. لأنه أفاد أن الرِجل فى الوضوء تُغسل ولا تُمسح كما يُمسح الرأس. فلذلك لم يصح عطفاً على " رءوسكم " لئلا تشترك معها في الحكم وهو فاسد كما ترى. ولم تُعطف على " وجوه " للفصل بين المتعاطفين. ولعل السبب إخراج الأعمال التي يقوم بها المتوضئ مخرج اليُسر والسهولة فكان الحذف من أجل ذلك. * * * الحذف للتحذير والإغراء: وقد يُحذف الفعل لإرادة التحذير أو الإغراء. فمثال الأول قوله تعالى: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا) . أى: احذروا، فحذف الفعل لما ذكر. وللاختصار - مع كثرة المعنى ومثال الثاني قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) . فحذف الفعل والتقدير: الزموا، وعوض عنه اسم الفعل " عليكم ". وقوله تعالى: (انتَهُواْ خَيْراً لكُمْ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أى: انتهوا واصنعوا خيراً لكم. فحذف الفعل دون تعويض وبقى معموله منصوياً على الإغراء، والسر البلاغي في الموضعين هو ضيق المقام. لئلا يصيبه مكروه في الأول ولئلا يفوته الخير في الثاني. * * * حذف الفعل إذا وقع جواب سؤال: وكذلك يُحذف الفعل إذا وقع جواب سؤال - أي ضمنه - لقيام القرينة على تعيينه. . وذلك مثل قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) . وقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. . .) .َ وتقدير المحذوف فعلاً في الموضعين أولى من تقديره خبراً. ليتطابق السؤال مع الجواب، ولأن الكثير الغالب في جواب الاستفهام حذف المبتدأ كقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) . (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ) ، والقول بأن الفعل المحذوف خبر جائز وتقدير الجواب على الوجهين: " ليقولن خلقهن الله ". و " ليقولن الله خلقهن ". ويؤيد هذا ما ذكره ابن هشام عند تقدير المحذوف في قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . حيث قال: (فلا يُقدر: ليقولن الله خلقهم. بل خلقهم الله، لمجيء هذا في شبه هذا الموضع وهو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) . وفي مواضع آتية عَلى طريقته نحو: (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) . و (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) . ودليل الحذف أو مسوغه هنا كونه مذكورا في سياق جواب السؤال. . وهذا السؤال قد اشتمل على الفعل نفسه. * سبب هذا الحذف: والسبب البلاغي لهذا الحذف هو - والله أعلم - توفير العناية باسم الجلالة الذي هو المقصود الأهم. ولتكثير الفائدة لاختلاف التقدير كما رأينا. وقد جاء فى سورة الزخرف مصرحاً بالفعل في قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) . وهنا تبدو ملاحظة هامة. . . إن هذه السور الأربع التي ورد فيها هذا السؤال مكيات النزول. وهذه مناسبة عامة لورود السؤال لما طُبِعَ عليه أهل مكة من جدل وعناد، وإن السورة التى صرح فيها بالفعل في صدر الجواب - وهي لقمان - هي أول سورة نزلت من هذه السور الأربع. ولذلك جاءت على الأصل. بدون حذف شيء لأنها سورة مؤسسة، وجاء الحذف فيما نزل بعدها اعتماداً عليها. وهناك مواضع كثيرة حُذتَ فيها الفعل في التنزيل الحكيم. ولكنها لا تخرج فى مجموعها عن التأكيد والتقرير والاختصاص. مثل قوله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وقوله تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وخلاصة هذا الموضع: إن الفعل يُحذف - أحياناً - في القرآن الكريم لداع بلاغي. وهذا الحذف يتوافر له الدليل القوى الدال عليه والسبب المرجح له فهو صنيع حكيم، وفن جليل من فنون التعبير لا تجد فيه إلا حكمه وإصابة. * * 2 - حذف الفاعل: الفاعل ركن أساسي من ركني الجملة الفعلية. ولذلك يمنع النحاة حذفه لغير عِلَّة صرفية أو يمنعونه مطلقاً فالذِكر هو الأصل فيه. فالعلة التي من أجلها يحذف ون الفاعل خاصة بما إذا كان الفاعل " واو جماعة " وقد أكَد فعله بـ " نون التوكيد " أو " ياء مخاطبة " وقد أكد مثل سابقه. والنحاة - غير الخضري والصبان - يوجبون الحذف في هذين الموضعين. والجواز فى سواهما. أما هما فيريان المنع مطلقاً وقد جاء ذلك كثيراً في القرآن الكريم. مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) . وقوله سبحانه: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 فقد حذف الفاعل وهو " واو جماعة " في: " تَمُوتُنَّ " و " لَتَسْمَعُنَّ ". لأنه التقى ساكناً مع نون التوكيد الساكنة " الأولى " فحذف للتخلص من التقاء الساكنين. وبقى الضم دليلاً عليه. ومثاله مع ياء المخاطبة: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا) . هذا قياس مطرد في كل ما كان شأنه كذلك. وقد نقلت الرواية العربية حذفه لغير هذا في موضعين: * حذف الفاعل على غير قياس: أحدهما: في قول العرب: أرسلت، وهم يريدون جاء المطر ولا يذكرون السماء التي هي فاعل الإرسال. وثانيهما: قول حاتم الطائى: أماوِيُّ مَا يُغْنِي الثراءُ عَلى الفَتَى. . . إذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وَضَاقَ بِهَا الصدْرُ ومسوغ الحذف في الموضعين قرينة الحال القوية التي لا يلتبس معها معنى بمعنى، ففى " أرسلت " الفاعل معروف وهو السماء. لأن المطر لا يأتي إلا من جهتها. وفي " حشرجت " الفاعل معروف هو " النفس " لأنه لا يُحشرج ساعة الموت إلا هي. وقوة القرينة أمر هام بنوا عليه كثيراً من الأساليب والأحكام اللغوية كتركهم علامة التأنيث في الصفات الخاصة بالمؤنث والتي لا يشاركه فيها المذكر. مثل: حامل، ومرضع، وحائض. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 * مماثلة عجيبة. ومن روائع الصدف: أن حذف الفاعل جاء في القرآن الكريم - في غير ما ذكر - في ثلاثة مواضع منها موضعان شبيهان بالموضعين اللذين حذف فيهما عند العرب في المثالين المذكورين. فالأول قوله تعالى: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) . ففاعل " بلغت " هو النفس ولمَ يجر لها ذكر قبل حتى يُقَال إنها مضمرة. وهذا شبيه ببيت حاتم إذ الفاعل هناك النفس والفاعل هنا النفس * وكلاهما حديث عن ساعة الاحتضار. وهي القرينة الحالية التي دلت على الحذف وعينت المحذوف. ومثله قوله تعالى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) . إذ لا يبلغ التراقى عند الموت إلا النفس والموضع الثالث هو قوله تعالى: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) . ففاعل: " توارت " هو الشمس في أرجع الأقوال والشمس أكبر مظهر من مظاهر الطبيعة تسير في مسار ونظام دقيق لا يتخلف، وهى أشرف وأعظم الأفلاك. . فحذفت في الآية لقوة ظهورها كما حذفت السماء فى قول العرب السابق: " أرسلت " لأنها مثل الشمس ظهوراً وعظمة، وقوة القرينة مع الاختصار مرجع للحذف على الذِكر لأن حذف ما يُعلم جائز، كما يقول ابن مالك. فهل بعد قوة القرينة من سبب بلاغي آخر للحذف أو لترجيحه على الذِكر فى هذه المواضع؟ * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 * سبب حذف الفاعل فيها: إن السر البلاغي لهذا الحذف - فيما أرى - هو ضيق المقام، إذ المقام فى الأولين وصف ما يعترى المحتضر من عوارض الموت. وفي الثالث المقام مقام شكوى وندم. وقد سوَّغت قوة القرينة الحذف في موضع آخر وهو قوله تعالى: (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) . ففاعل " الظن " هو المحتضر إذ المقام يعنيه دون سواه، وقد عبر عن شعور المحتضر بالظن دون اليقين. لأنه لا يعلم مجيء الأجل إلا الله وإن قويت علامات الموت عند الناس. فقد يتخلف ظنهم. * * * موضعان آخران لحذف الفاعل في القرآن: وفي القرآن الكريم موضعان آخران حُذِفَ فيهما الفاعل. أحدهما - قوله تعالى: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) . وقد اختُلفَ في الفاعل هنا فبعضهم يرى أنه: " بينكم " ويقرأه حينئذ بالرفع بدل النصبَ على الظرفية المكانية، وعليه فلا حذف. وبعضهم يرى: أن الفاعل محذوف تقديره الأمر - مثلاً - حذف لقوة إيحاء الفعل به. والموضع الثاني: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) . فالفاعل محذوف وهو المصدر المتصيد من الفعل، والتقدير: ثم بدَا لَهم سجنه. وهذا أليق من تقديره: ثم بدا لهم البداء. لأن الفعل المذكور: " ليسجننه " أقوى دلالة على الفاعل المحذوف. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 * وما سر الحذف إذن؟ أما الأول فأرى سر الحذف فيه إرادة التعميم. ليقدروا ما شاءوا من صلات تعطلت كانت قوية بينهم. أو أي أمر كان يجمعهم إلى آخر ما يحتمله المقام. وفي الثاني وضعوا الفعل موضع الفاعل لدلالة الفعل على الاستقبال لأنه حال التفكير في الأمر واستقرارهم على أن يسجنوه لم يكن سجيناً. وإنما سُجِنَ بعد إجماعهم على هذا الرأي. ودلالة الفعل على الاستقبال ظاهرة. ولو قال: " بدا لهم سجنه " لفات هذا المعنى. ومعنى آخر صلح له الفعل دون الاسم هنا هو: أن الفعل أمكن معه تصوير حالتهم النفسية وإجماعهم الأكيد على سجنه وأنهم لن يستبدلوا به أمراً آخر أخف منه فدخلت على الفعل لام القَسَم ونونه، والاسم " سجنه " غير صالح لهذه الدلالات بداهة. والدكتور أحمد أحمد بدوي يرى أن الحذف لمجرد أن الفعل شديد الإيحاء بالفاعل. هذا صحيح ولكن ما رأيناه بجانب هذا أولى فيما أظن. * * 3 - حذف المبتدأ، وحذف الخبر: حذف أحد ركني الجملة الاسمية - المبتدأ أو الخبر - كثير شائع في الكلام العربي الفصيح وليس لديهم محظور في حذف أيهما إذا دلت عليه قرينة. واقتضاه داع بلاغي أو صناعي. وحذفهما له أحوال شتى عند النحاة. فقد يكون واجباً، وقد يكون جائزاً .. وقد حققوا كل هذه المواضع ووضعوا أصولها وقواعدها. وهذا بخلاف حرصهم الشديد على عدم الحذف في الجملة الفعلية. إذ يرون أن ذكر الفاعل - دائماً - واجب إلا فيما ذكرناه. والفعل الأصل فيه الذكر. وليسَت هناك حالة واحدة يجب فيها حذفه فالأمر فيه دائماً معمول على الجواز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 فنظرتهم إلى ركني الجملة الفعلية غير نظرتهم إلى ركني الجملة الاسمية - كما رأينا - ولم أجد توجيهاً لأى أحد في سبب اختلاف النظرتين. وإن كنت أرى أن الرابطة بين الركنين في الاسمية رابطة متكافئة. فليس أحدهما فيها بأظهر من الآخر. أما الرابطة بين الركنين في الفعلية فغير متكافئة. لأنها ملحوظة في الفاعل بدرجة أقوى إذ هو موجد للفعل. فيكون في حذفه إجحاف بالمعنى فلم يترخصوا فيه. وفي القرآن الكريم مواضع متعددة وكثيرة جدا لحذف المبتدأ. أو الخبر. أو هما معاً. . وفي كل موضع حدث فيه حذف من هذا النوع فالحذف فيه سواء أكان واجباً - كما ترى الصناعة النحوية - أو جائزاً. . فهو أحسن من الذكر. خذ إليك - مثلاً - قوله تعالى في مطلع سورة البقرة: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) . فقد جاء فيه المبتدأ محذوفاً قبل قوله " هدى " والتقدير: " هو هدى ". فلماذا الحذف؟ أرى أن سر الحذف - هنا - أمران: أحدهما: الإشعار بالاتصال المباشر بين " الكتاب " و " هدى " بعد جملة الاعتراض ولو ذكر فقيل: هو هدى. لزال هذا الاتصال؛ لأنه مع الذِكر يكون " هدى " خبراً عن ضميراً لكتاب. ومع الحذف فإن أول ما يقع في الذهن أنه صفة مباشرة له. وكم بين هذا الكتاب ويين الهدى من اتصال. حتى أوثر إنه هو الهدى نفس الهدى. ولم يقل: " هادياً " مثلاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 ثانيهما: أن ذكر المبتدأ - هنا - يؤدى إلى نوع من الثقل اللفظي حيث يصبح التركيب: " فيه هو هدى " لاجتماع ثلاثة هاءات لم يفصل بينها إلا حرف واحد، والهاء من حروف الحلق، وحروف الحلق معروفة بالثقل. هذا ما أراه. وأرى في الوقت نفسه أن هذين الاعتبارين أولى مما ذهب إليه الدكتور أحمد أحمد بدوي من أن سر الحذف فيه خشية أن يبعث في النفس السآمة والملل لشدة وضوحه. ويحذف المبتدأ - كذلك - إذا وقع في سياق تقدم ذكره فيه. فتكون إعادته تكراراً لم تدع إليه حاجة. وأمثلة ذلك كثيرة كقوله تعالى: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وقوله تعالى: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) . وقوله تعالى: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) . وقوله تعالى: (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) . وتقدير النظم في الآية الأولى: " وهو رب الشرق ". . وفي الثانية: " هى لا تبقى ". . " هي لواحة ". . وهكذا بقية النصوص. وليس مجرد قوة الظهور هي السر في هذا الحذف. إذ لنا في المثال الأول: " هو رب " أن نقول: إن الخبر المذكور لا يصح إسناده إلا لضميره. لأنه ليس للمشرق والمغرب رب سواه وحذف المبتدأ محقق لتكثير الفائدة. إذ يجوز تقدير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 كلمة " رب " خبراً لمبتدأ محذوف هو " هو " ويجوز اعتباره بدلاً من " رب " الأولى في قوله تعالى: (واذكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتلْ إليْهِ تَبْتِيلاً) . قال الزمخشري في تفسيره: قرئ - يعني " رب " الثانية - مرفوعاً على المدح، ومجروراً على البدل من " ربك ". وعن ابن عباس: عن القَسَم بإضمار حرف القسم. كقولك: الله لأفعلن، وجوابه: لا إله إلا هو. فهذه معان ثلاث احتملها المقام بسبب الحذف. . ولو ذكر المبتدأ لاقتصر المعنى عليه دونما سواه. وفي الأمثلة الثلاثة الأخر. تقدم ذكر النار في أسماء لها وصفات. فصارت ماثلة في الذهن. لأنها عظيمة الشأن تملأ النفوس رهبة ورغبة. رهبة من الوقوع فيها. ورغبة في النجاة منها. فكان هذا كافياً في حضورها في الذهن عند الحديث عنها. وفي هذا الحذف ترهيب لا يخفى أثره. وفيه كذلك تعجيل الساءة لهم. حيث حذف الضمير " هي " وعوجلوا بذكر النار أو بصفة من صفاتها المقبضة مثل: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) * * * * أسباب أخرى لحذفهما: ويحذف الخبر كذلك عند ظهوره وسهولة تعيينه مثل قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) . فقد حذف الخبر من قوله تعالى: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) والتقدير: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ كذلك أو مثلهن. فيكون الخبر محذوفاً وحده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 أو التقدير: فعدتهن كذلك، فيكون المبتدأ والخبر محذوفين. . والذي سوع الحذف هنا هو العطف بالواو. لأن العطف يشرك المعطوف عليه فيما ثبت له من الإعراب والحكم. ولذلك صرَّح بالخبر بعده في قوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) لاختلاف أجل الحامل عن أجل غيرها: مَن هي يائسة من المحيض. أو مَن لم تحض. فذكر الخبر هنا واجب لأن حذفه يؤدى إلى فساد المعنى. كذلك ورد حذف الخبر في قوله تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) . وقبله حذف من نفس السورة " الزمر " في قوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) . وكذلك جاء في سورة في " فاطر " في قوله تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) . هذه مواضع ثلاثة حُذفِ فيها الخبر. وفي " فاطر " قذر الزمخشري الخبر بقوله: " أفمن زُيًنَ له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يُزَينْ له "؟ وتابعه النسفي على هذا التقدير. ثم نقل عن الزجاج تقديرين آخرين. قال: " وذكر الزجاج أن المعنى: أفمن زُين له سوء عمله ذهبت نفسك عليه حسرات. فحذف الجواب لدلالة: فلا تذهب نفسك عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 أو: أفمن زُينَ له سوء عمده كمن هداه الله. فحذف لدلالة: فإن الله يضل من يشاء ويهدى مَنْ يشاء عليه ". وأقوم هذه الآراء - فيما أظن - الرأي الثالث مع احتمال الأسلوب لها جميعاً. ولعل هذا هو سر الحذف في هذه المواضع: أن تختلف وجهات النظر فيكثر معها المعنى ويتعدد. أما الموضعان اللذان في " الزمر " فقد قدر الخبر فيهما على النحو الآتى: " أفمن هو قانت كغيره، ثم: أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن لم يشرح صدره "؟ . وإذا قارنا بين المواضع الثلاثة نجد أنها: أولاً: تنكر المساواة بين فريقين مختلفين في العقيدة والسلوك. وفي المنزلة عند الله. ثانياً: أنها - جميعاً - صدرت بحرف الاستفهام الإنكارى. ثالثاً: أن المحذوف فيها ظاهر تعيينه لدلالة الكلام عليه، وإن اختلف فيه أحياناً. والحذف مما يُمكِّن المحذوف من النفس بعد البحث عنه والتوصل إليه. وهكذا فقد اجتمع للحذف في هذه المواضع: المسوغ والمقتضي. وكذلك جاء حذف الخبر في قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) . أَى: حِل لكم. وقد أغنى عن ذكره التصريح به مرتين في صدر الآية. فكان فى حذفه حُسن الدلالة مع الإيجاز وعدم التكرار. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 * حذف الخبر مع " لا " النافية: ومن المواضع التي كثر فيها حذف الخبر " لا النافية للجنس " مثل قوله تعالى: (قَالُوا لَا ضَيْرَ) أي علينا. وقوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ) : أي لهم. فالمحذوف في هذا كله الخبر إلا في آية اليائسات من الحيض فقد صح كون المحذوف الخبر وحده. أو هو مع مبتدئه. وهناك موضع آخر يصح فيه تقدير المحذوف - خبراً. أو مبتدءاً - وهو الواقع بعد " الفاء " الواقعة في جواب شرط. ومنه قوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) . وقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ) . وقوله: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) . ومثله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) . ففيما عدا الأخير جاز التقدير أن يكون هكذا: فالواجب: عدِةٌ من أيام أخر. أو: فعِدة من أيام أخر واجب صيامها. وهكذا البواقي وفي الأخير يقدر: فأمري، أو شأني صبر جميل، أو: صبر جميل أمثل. وأنت ترى أن تكثير المعنى مع الإيجاز مصاحب لهذه الأساليب مع خلوها من الإجحاف والجور على المعنى. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 4 - حذف الموصوف وحذف الصفة: جاء حذف الموصوف في الكلام الفصيح كثيراً وهو أكثر من حذف الصفة لأنه أقوى منها، وجاء ذلك في القرآن الكريم على صور متعددة. منها قوله تعالى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (5) . وقوله تعالى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ. وقوله تعالى: (فَليَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً) . وقوله تعالى: (وَذَلِكَ ديِنُ القَيِّمَةِ) . وقوله تعالى: (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) . هذه مواضع خذِف فيها الموصوف. لأن التقدير في الأولى: حور قاصرات الطرف. . وفي الثانية: دروعاً سابغات. وفي الثالثة: ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً. وفي الرابعة: المِلة القيمة. وفي الخامسة: الحياة الآخرة. وأرى أن السر البلاغي في حذف هذه الموصوفات - مما ذكرناه وما لم نذكره وهو كثير - هو توفير العناية بالصفة لأنها المطلوبة. فقصر الطرف هو دليل العفة المطلوبة في كل امرأة. والظاهر في الثانية الاهتمام بجودة الصننعة لأن المطلوب أن تكون الدرع سابغة لا مجرد درع، فأقيمت هذه الصفة التي هي محل العناية من كل درع مقام الموصوف. كذلك فإن القِلة من الضحك. والكثرة من البكاء هما المطلوب إثباتهما دون مجرد الضحك أو مجرد البكاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 و " القَيِّمة " وصف حاز كل فضيلة فليس المراد كلمة " مِلة " لأن هذه تُطلق على كثير من العقائد الضالة وغيرها. إنما المطلوب الوصف " القَيِّمة " وهو ما يفصل بين ما هو حق وما هو باطل. فهو بالعناية أولى. وكثيراً ما اجتزئ بالآخرة - وهي صفة - عن الحياة وهي موصوف في التعبير القرآني كما في قوله تعالى: (وَللآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى) ، وإذا كثر اتصاف الشيء بصفة واشتهر بها صلحت لأن تقوم مقامه. وهذا الوصف " الآخرة " هو الفاصل بين الحياتين: الأولى والآخرة. لأنهما جميعاً يشتركان في مطلق حياة. فكان لهذا الوصف الذي لا اشتراك فيه فضيلة ليست لغيره. لذلك نرى القرآن يُفرق بينهما حتى فيما هما مشتركتان فيه من لفظ " الحياة " إذ يقول: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) . فزاد في بِنية الكلمة زيادة تفيد المبالغة في إثبات المعنى. فكاد يسلب عن الحياة الأولى معنى الحياة. ويفيد - في نفس الوقت - أن الحياة الحقيقية إنما هى الآخرة. وهكذا تجد في كل موضع حُذِف فيه الموصوف وأقيمت الصفة مقامه لم يكن الحذف اعتباطاً - كما يقال - ولا قسراً. وإنما هو لسر يبدو فيه توفير العناية بالصفة لأمر يقتضي ذلك. أما حذف الصفة فدون حذف الموصوف. لأنها عرض لا تدل على نفسها إلا بذكرها، فمن حذف الصفة في القرآن قوله تعالى: (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) . أي صالحة. " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وقوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ. أي أتت عليه. وقوله تعالى: (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أي الواضح. وقوله تعالى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) . أى السابقة. . . وأسباب الحذف فيها واضحةَ. فحذف صفة السفينة: " صالحة " فيه مبالغة في تصوير طمع الملك واستيلائه على كل سفينة حتى ولو كانت غير صالحة. فغير الصالح داخل فى مأخوذ الملك، هكذا يخيل الحذف. ولو ذكر الوصف لزال هذا التخييل. وهذا التوجيه أراه أكثر قيمة مما ذكر الدكتور أحمد أحمد بدوي إذ يقول: " وقد أوحى إلينا هذا الحذف بأن الملك ينظر إلى السفينة العيبة كأنها قد فقدت حقيقتهاً. لأن هذا التوجيه غير مبين لسبب الحذف، والمعنى الذي ذكره مفهوم من (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) وليس من الحذف. والحذف في وصف الريح أفاد أن قوة الريح تمكنها من تدمير كل شيء سواء أتت عليه أو لم تأت عليه فتأثيرها ممتد إلى كل شيء. ولو ذكِرَت الصفة لزال هذا التخييل. وهكذا يمكن فهم الحذف في كل موضع على أساس يخدم المعنى ولا يضره. * * 5 - حذف المتضايفين: يحذف المضاف كثيراً كضرب من التوسع في اللغة. وإيراد المعنى في قليل من اللفظ لأن المضاف إذا حُذفِ سهل تصوره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 قال الأعشى: ألمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ ليْلةَ أرْمَدا. . . وَيِتَّ كَمَا بَاتَ السلِيمُ مُسَهَّدأ فحذف في البيت مضافان: مضاف إلى " ليلة "، ومضاف إلى " أرمد " والمعنى: اغتماض ليلة رجل أرمد. وقال الكلحبة اليربوعى: فَأدْرَكَ إرقْالُ العَرادةِ ظِلعَهَا. . . وَقَدْ جَعَلتْنِي مِنْ خُزَيْمَةَ أصْبعَا والتقدير: ذا مسافة أصبع. فحذف من الكلام مضافان متجاوران. وهذا في كلامهم لا حصر له. - وكذلك جاء حذف المضاف في القرآن الكريم. ومنه: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) . و (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) ، و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) ، و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، و (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ) ، و (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) ، و (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) . هذه نصوص من القرآن الكريم حُذِفَ فيها المضاف ودليل الحذف واحد فى الجميع هو عدم صحة تعلق الحكم المستفاد من السياق بالمذكور في اللفظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 فالجائي: أمر ربك لا ربك. لاستحالة ذلك عقيدة. والآتى البنيان من القواعد: أمر الله لا الله نفسه. والمحرم: الاستمتاع بالأمهات لا ذواتهن، وأكل الميتة. والطيبات: لا ذوات الميتة أو الطيبات. والمسئول: أهل القرية. وأهل العير لا القرية نفسها. ولا العير نفسها. والمرسل إليه شعيب: أهل مدين لا مدين. . . وهكذا. والذي يهمنا في هذه المواضع السر البلاغي في الحذف لا تقصي أمثلته، والذي أراه في هذا العبارات وما أشبهها من كل موضع حُذفَ فيه المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه: أن سر الحذف فيه بلاغياً هو إظهارَ المعنى في صورة أتم وأوضح. وعلى وجه أقوى وأشمل. * * * مناقشة مثالين: أولهما: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) . هذه مقولة أخوة يوسف لأبيهم عندما أرادوا أن ينبئوه نبأ سرقة بنيامين أخيهم صواع الملك. وسبق أن نبأوه نبأ فقد يوسف شقيق بنيامين بأن الذئب أكله فحصل عنده - أى أبيهم - شك فيما قالوا. لكنهم في هذه الحالة الأخيرة صادقون. وهم يعلمون أن هذا الخبر سيفجر فى نفس أبيهم كثيراً من هواجس الريب والظن. فالمقام مقام إتهام لهم وإنكار لما يقولون. فأرادوا أن يُعبروا عن صدقهم وأنهم في هذا الخبر صادقون. فبالغوا فى تصوير صدقهم وادعوا أن أمر السرقة شاع حتى إن القرية كادت تعلم به ولو سألتها لأجابت فما بالك بأهلها؟ وحتى إن العير - التي هي حيوان أعجم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 كادت تفقه أمر هذه السرقة لكثرة ما ترددت على الألسنة فلو سألتها لأجابت بما نقول، فما بالك براكبيها! فالسر - إذن - وراء هذا الحذف هو قصد المبالغة واشتهار أمر السرقة بدرجة لم يستقم معها شك أو تكذيب. وأما المثال الثاني فهو قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) . وقد أجمع المفسرون على أن المراد: أهل قرية، وهذا صحيح. ولكن لماذا حذف المضاف إليه؟ والجواب: إن الله تعالى ينذر الناس بأن المخالفين منهم سيحل بهم سوء المصير. وضرب لهم من قصص السابقين مثلاً ليكون لهم فيها عظة. ومقام الإنذار يتطلب التهويل والتعظيم في عرض ما حدث أو ما سيحدث. لأن الإنذار مراد به التخويف ليرتدع المخالفون. ولما كان الأمر - كذلك - فقد صور الله في هذه الآية ما نزل بأهل القرى السابقين تصويراً فيه شدة وهول. فجعل الهلاك واقعاً على القرية نفسها بما فيها من زروع وأنهار - وجبال ومنازل وكل ما يتصل بها. وإذا كان الهلاك بالغاً هذا الحد فما بالك بأهل تلك القرى التي هلكت في أنفسها. إنهم - لا شك - أكثر هلاكاً وأكثر بوراً. والدليل على أن هدف الآية ما ذكرناه من التهويل والتعظيم في تصوير ما حدث أنها صُدِّرت بـ " كم " الخبرية التي معناها الكثرة في العدد. وجاء حذف المضاف مفيداً للتهويل في الكيف. فهو على نمط: (وَاشْتَعَلَ الرأسُ شَيْباً) في إفادة المبالغة والشمول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 ولنا أن نعتبر هذه العلة فىِ كل الأمثلة التي فيها حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ففى: َ (حُرِّمَتْ عَليْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) . أي الاستمتاع بهن. يحمل سر الحذف على إرادة العموم في المفعول. فيكون المحرم كل ما لا يليق بهن من عقوق وحرمان. وإساءة في قول أو عمل. وهذه الأمور وإن حرمت بطرق أُخرى فإن احتمال المقام لها على أنها داخلة فى جملة المحرم هدف من أهداف الأسلوب الحكيم. هذا في حذف المضاف. . أما حذف المضاف إليه فدونه في الورود ولكنه مثله من حيث إنه دال على معان كان حذفه من أجلها بلاغة. ويكثر حذف المضاف إليه إذا كان ياء المتكلم والمضاف منادى. كما في قوله تعالى: (رَبِّ اغْفِرْ لِي) . فقد حذف المضاف إليه. وهو " الياء ". والمضاف وهو " رب " منادى كما ترى. وقد اجتزئ عنه بالكسرة. وحذف كذلك في المواضع الآتية: قال تعالى: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) . فى هذا النص الحكيم حذف المضاف إليه. وهو ياء المتكلم. والمضاف منادى وهو ما جاء عليه الحذف في الآيات إلا في موضع واحد منها وهذا جائز في اللغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 ولكن الجواز اللغوي لا يفسر لنا السر البلاغي. فتلك قاعدة نحوية عامة والمقاصد البلاغية اعتبارات خاصة. فما هو السر البلاغي إذن؟ * وجه لحذف ياء المتكلم مع " رب ": ولعل السر أن كلمة " رب " لا تحتاج في نسبتها إلى المتكلم إلى تلك العلامة اللفظية " الياء " فهو رب كل شيء سواء أضيف أو لم يضف. وقد حرص القرآن الكريم على أن يستعمل هذه الكلمة محذوفاً منها ضمير المتكلم المضاف إليه في أغلب مواضعها. هذا من حيث المعنى. . ووجه آخر من حيث اللفظ: لما كانت هذه الكلمة " رب " تستعمل كثيراً في النداء روعي فيها وجه الخفة. بحذف ما تضاف إليه إلا أن يكون ما تضاف إليه اسماً ظاهراً غير ضمير المتكلم. فإن الإضافة لا تكمل إلا بذكر المضاف إليه كقوله تعالى: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) . ولأن قوة القرينة مع الإضافة إلى ياء المتكلم ساعدت على أمر الحذف. بخلاف غيره، ويكثر - كذلك - حذف المضاف إليه في القرآن الكريم. بعد الظروف والغايات مثل: (للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمن بَعْدُ) . وبعد " كل " و" بعض " مثل: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) . وقوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) . وكذلك بعد " أي ". مثل قوله تعالى: (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وقد يُحذف في غير هذه المواضع كما جاء في بعض القراءات نحو قراءة مَن قرأ: (فَلاَ خَوْفٌ عَليْهمْ) . فيمن ضم ولم يُنون - أي فلا خوف شيء عليهم، كما قرئ: (سًلاَمٌ عَليْكُمْ) - أي سلام الله عليكم. أو على إضمار " ال ". وهذه المواضع مما يظهر فيها أمر الحذف والتقدير. وهو فضلاً عن كونه من التوسع في اللغة فإن فيه فضيلة الإيجاز مع وفاء الدلالة. * * 6 - حذف الحال وحذف التمييز: هاتان فضلتان الأصل فيهما عدم الحذف، لأن الفضلة ضعيفة لا تكاد تتصور إذا حذفت. لكنا وجدنا في القرآن بعض المواضع التي اعتراهما فيهما الحذف. لأن الدليل عليهما في تلك المواضع من القوة بحيث أجاز ذلك الحذف. وقد تحدث ابن هشام في المغني عن حذف الحال، والتمييز. وذكر بعض مواضع حذف الحال ولكنه لم يمثل لحذف التمييز في القرآن الكريم. مع أن فى القرآن مواضع جاء فيها التمييز محذوفاً. فمن أمثلة حذف التمييز في القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن أهل الكهف: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) . التمييز في هذه الآية محذوف تقديره: كم يوماً لبثتم؟ ودليل الحذف: كون السائل مستفهماً عن مدة لبثهم نائمين. وإنما كان التقدير ب " اليوم " دون ظروف الزمان الأخرى لأن السؤال منصب عن مدة النوم. والنومة الواحدة لا تتجاوز - في العادة - اليوم أو بعضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 كما جاء التمييز محذوفاً في نفس السورة في قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) . والتقدير: ثلاثة فتيان أو أشخاص، والمعدود معلوم الحقَيقة والجنس فلذلك سُوغَ حذف تمييزه. ومثله قوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) . فقد نص المفسرون على أن التمييز محذوف تقديره: قطعة. والذي دَلَّ على الحذف أن كُلا من " أسباطاً " و " أمماً " لا يجوز إعرابه تمييزاً لـ " اثنتى عشرة " لأمرين: أولاً: أنهما جمع. وتمييز العدد المذكور لا يكون مفرداً منصوباً. ثانياً: تأنيث جزئى العدد يدل على أن التمييز مؤنث. إذن فهو محذوف، فإن كان في حذف التمييز ما يؤدى إلى لبس في المعنى وجب ذكره. ومثاله من سورة الكهف أيضاً قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) . " وذلك لأن العدد المذكور لم يدخل في حساب أحد منهم. وعلمه إنما إلى الله وحده فكان لا بدَّ من ذكره. وكذلك كان. ثم انظر إلى عَجُز الآية حينما عطف القرآن قوله: (وَازْدَادُوا تِسْعًا) كيف عاد إلى حذف التمييز عندما سهل تصوره. فلم يذكر تمييز التسعَ. لماذا؟ لأنه قد عُلِمَ من العطف على ما عُلِمَ تمييزه نصاً. فكان ذكره شبيهاً بالزيادة التي لم تدع إليها حاجة في البيان. وهذا فن عظيم من فنون التصرف في القول لم تجده على كماله إلا في القرآن الكريم لأنه تنزيل حكيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 أما حذف الحال فقد جاء فيه في مواضع كثيرة. وفي كل موضع حُذِفَ فيه الحال قد قام الدليل القوى على حذفه وتقديره. كأن يكون عاملاً قد بقى معموله. خذ إليك مثلاً قوله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) . والتقدير: قائلين لهم: سلام. فالمحذوف حال من الفاعل الذي هو الواو في " يدخلون " وهي - أي الحال - هنا اسم فاعل له معمول هو: " سلام عليكم ". وهو مقول القول المحذوف الواقع حالاً، فبقاء المعمول يتطلب تقدير العامل ضرورة. ولذلك صح الحذف لقوة القرينة وللإسراع إلى تعجيل المسرَّة التي يوحى بها المعمول: " سلام ". وذلك فضل الله يتلقى به أهل رضوانه. ومثله قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) . أي قائلين: ربَّنا. فهل ترى في حذف أي منهما " الحال " و " التمييز " - وهما فضلتان - أى إجحاف بالمعنى أو قصور في البيان. * * * حذف المفعول به: لعلماء البلاغة بحوث رائعة في حذف المفعول. قلَّبوا فيه وجوه القول. وأولوه عناية خاصة لم يولوها لغيره من المحذوفات. وقعَّدوا له القواعد. وذكروا الأسباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 * الأغراض البلاغية لحذف المفعول به: 1 - البيان بعد الإبهام. كما في فعل المشيئة والإرادة ونحوهما إذا لم يكن في تعلقه بمفعوله غرابة. ومثاله من القرآن: (فَلوْ شَاءَ لهَدَاكُمْ أجْمَعِينَ) . وقوله: (وَلوْ شَاءَ اللهُ لجَمعَهُمْ عَلى الهُدَى) . فإذا كان في التعلق غرابة امتنع الحذف. ومثلوا له من غير القرآن بقول الشاعر: وَلوْ شِئْتُ أنْ أبْكِى دَماً لبَكَيْتُهُ. . . عَليْهِ وَلكِنْ سَاحَةُ الصبْرِ أوْسَعُ فقد صرَّح بالمفعول به ولم يحذف لأنه بكاء لم وهو غريب في العادة ولو حُذفَ لم يُعْلم. وفي البيان بعد الإبهام يقول عبد القاهر: " وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام، وبعد التحريك له أبداً لطفاً لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك. وأنت إذا قلت: لو شئتَ. علم السامع أنك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء. فهو يضع في نفسه أن ههنا شيئاً تقتضى مشيئته له أن يكون أو لا يكون. فإذا قلت: لم تفسد سماحة حاتم - عرف ذلك الشيء. وليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت: لو شئتَ ألا تُفسد سماحة حاتم لم تفسدها. . صرتَ إلى كلام غث. وإلى شيء يمجه السمع. وتعافه النفس ". وهذا السبب وجيه. فلا اعتراض عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 2 - دفع توهم غير المراد: ومثَّلوا له بقول الشاعر: كمْ ذدِْتَّ عَنِّى مِنْ تَحَامُلِ حَادثِ. . . وَسَوْرَةِ أيامٍ حَزَزْنَ إلى العَظم أى حززن اللحم إلى العظم. وإنما حُذِفَ المفعول لئلا يتوهم متوهم أن الحز كان إلى اللحم فقط. وهذا يُشعر بتهوين أمر الملمة المدفوعة. والمقام مقام مدح المناسب فيه عِظم النعمة. لذلك طوى ذكره لأنه يفهم المراد ابتداءً. وهذا أيضاً توجيه دقيق ولا شيء فيه. 3 - إظهار كمال العناية بوقوعه على المفعول. ومثلوا له بقول البحتري يمدح المعتز. قَدْ طلبْنَا فَلمْ نَجِدْلكَ فِى السُّؤ. . . دُدِ وَالمجدِ والمكَارِم مِثْلاً أى قد طلبنا لك مِثْلاً في هذه المظان فلم نجده. فحذف المفعول الذي هو " مِثْلاً " لأن غرضه أن يوقع نفى الوجود على صريح لفظ المثل دون ضميره. وفي ذلك إظهار لكمال العناية بوقوع النفي على المفعول. ولو ذكره لوقع النفى على الضمير فيفوت المراد. وفي البيت توجيه آخر مؤداه: (إن الحذف هنا لكراهة أن يواجه المدوح بأن له مثلاً. والذي أراه أن التوجيه الأول في البيت أحق بالاعتبار في توجيه الحذف. وإن كان في التوجه الثاني رقة وعذوية. 4 - قصد التعميم في المفعول مع الاختصار. وقد مثلوا له بقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 أي: يدعو كل أحد. ويلاحَظ أن العموم مستفاد حتى مع ذكره ولذلك قالوا: " مع الاختصار " - ليسلم لهم التمثيل؟ * سبب قرآنى بحت: 5 - رعاية الفاصلة. وهذا سبب قرآنى لا غير. أما الأسباب التي سبقت فعامة وإن كان بعضها ليس له شاهد في القرآن. وقد مثلوا له من القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) . أى: وما قلاك، فحذف الكاف الذي هو ضمير المخاطب وواقع مفعولاً به لمراعاة الفاصلة. لأن ما قبلها كانت فاصلته الألف. ولنا عود لمناقشة هذا التوجيه. . 6 - استهجان ذكره. ومثلوا لذلك بحديث عائشة رضى الله عنها تصف أخلاق بيت النبوة: " فما رأيتُ منه وما رأى مني " تعني: العورة 7 - مجرد الاختصار، ومثلوا له من القرآن بقوله تعالى: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) . وقوله تعالى: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) . وقد عَدَّ السكاكي من الحذف لمجرد الاختصار قوله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا) . * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 * خلاف حول آية: فقد حُذِفَ المفعول في النص الحكيم في أربعة مواضع وهي: " يسقون " - " تذودان " - " نسقى " - " فسقى ". - ويخالف الخطيب السكاكي. فيعد الحذف في المواضع الأربعة لإثبات العلم فى نفسه. وكذلك قال الزمخشري: " ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ". كما يرى هذا الرأي عبد القاهر الجرجاني. وله في توجيه هذا الحذف كلام طويل. وعلى هذا فإن الخطيب والزمخشري وعبد القاهر يرون غير ما يراه السكاكي فى الحذف المذكور. وقد حاول السيد أن يوفق بين هذين الرأيين، لكنه في النهاية مال إلى رأى السكاكي حيث قال: " فصاحب الفتاح نظر إلى أن المفعول هو الغنم المضافة إليهما - بنتا شعيب - والمواشي المضافة إليهم. وكل واحد منهما يقابل الآخر. فلو لم يقدر المفعول في الآية لفسد المعنى. وهذا أدق نظراً وأوضح معنى ". والذي يؤخذ على رأى السكاكي والسيد. أن المفعول ما دام بهذه المنزلة عنده من الأهمية فلماذا جعل مجرد الاختصار عِلَّة الحذف. ومجرد الاختصار حُجة ضعيفة؟ * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 * نقد وتوجيه: هذا مجمل لما ذكروه من أسباب حذف المفعول وأغراضه البلاغية. . فهل ينتهى البحث البلاغي عندها؟ أم يمكن أن يتوصل إلى أسباب وأسرار أخرى؟ وهل هذه الأسباب التي ذكروها مسلمة؟ أم بينها ما يحتمل المناقشة والتعديل؟ مع إعجابى بالبحوث القيمة التي وضعها العلماء في حذف المفعول بالذات، فإن لي على بعض توجيهاتهم تحفظات آراها ضرورية. وهي كالآتي: أولاً: أنهم يرون مجرد الاختصار - مفرداً، أو هو مع إرادة العموم - سبباً بلاغياً في حذف ما يُحذف. وهذا لا يُسلم على إطلاقه فمجرد الاختصار ضمن عِلَّة أخرى للحذف قوية أمر لا يُدفع. وليس دنا عليه ملاحظات. أما أن يُجعل مجرد الاختصار وحده سراً بيانياً نؤجه به الأسلوب. فذلك ما لا يمكن قبوله في يُسر. وكل موضع حكموا بأن الحذف فيه لمجرد الاختصار يمكن توجيهه بلاغياً على غير الوجه الذي ذكروه. فلننظر في أمثلتهم عليه. فهم يذكرون قوله تعالى حكاية عن المشركين: (أهَذَا الذي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) ، ويقولون: إن الحذف فيه لمجرد الاختصار؟ وقوله تعالى: (أرِني انظرْ إليْكَ) ، ويقولون: إن الحذف فيه لمجرد الاختصار كذلك؟ ويذكرون قوله تعالى: (فَلاَ تَجْعَلواْ لله أندَاداً وَأنتُمْ تَعْلمُونَ) ، ويقولون: إن الحذف فيه لمجرد الاختصار أيضاً؟ والمواضع الثلاثة تحتمل غير ما ذكروه. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 فالحذف في الآية الأولى يمكن حمله على غرض آخر مؤداه: أن مَنْ صدر منهم هذا الكلام: (أهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) - وهم المشركون - ينكرون أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - مبعوثاً رسولاً من عند الله. لذلك صدروا مقولتهم بالاستفهام الإنكارى. فإثبات الرسالة له أمر لا تساعدهم عليه أنفسهم ولذلك جاء التعبير مصوراً للقلق النفسي الذي كان يساورهم من أمر الرسالة. حيث حذف المفعول لأنهم يكرهون وقوع بعثه رسولاً في الواقع. لذلك لم يوقعوا الفعل " بعث " على ضميره ليطابق اللفظ حالتهم النفسية. * * * كراهة نسبة الرسالة هي السبب: إذن فكراهة نسبة الرسالة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - في الواقع وفي اللفظ هي التي أوحت بحذف المفعول. وهذا الحذف يُصور لنا ما وراء اللفظ من خفايا نفوسهم وظواهرها. لا أن الحذف جاء لمجرد الاختصار - كما يقولون! ولهذا نظير عندهم من غير باب حذف المفعول. وهو قول الشاعر: إذا سَئِمَتْ مُهَندَهُ يَمِينٌ. . . لِطولِ العَهْدِ بَدَّلهُ شِمَالاً والأصل: يمينه. أي يمين الممدوح. فحذف الهاء الواقع مضافاً إليه. وعللوه بقولهم: إنه لكراهة إسناد السأم ليمين الممدوح. فأخرج الكلام مخرج مطلق يمين لا يمينه هو. والآية الثانية: (أرِنِى أنظرْ إليْكَ) . قدَّروا فيها المحذوف: ذاتك. وحملوا حذفه على مجرد الاختصار. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 * عزة المطلب هي السبب: فلماذا لا يكون الحذف لأن نفس موسى عليه السلام لا تساعد عليه - لعزة الطلب - لذلك طوى في نفسه ذكره ولم يصرِّح به. والواقع يشهد بذلك. فإن الناس إذا سأل بعضهم بعضاً. وكان موضوع السؤال عظيماً فإن السائل يتلجلج أمام المسئول ولا يكاد يُفصح عن المطلوب. فسبب الحذف في الآيتين نفسي مع الاختلاف في البواعث. ففي حذف المفعول في قوله تعالى حكاية عن المشركين: (. . أهَذَا الذي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) كان السبب نفسياً باعثه كراهة إيقاع الفعل على ضمير المسنَد إليه ليطابق اللفظ الشعور. أما في قوله حكاية عن موسى عليه السلام: (أرِنِي أنظرُ إليْكَ) فإن السبب نفسي كذلك هو الرهبة والإجلال والطمع في مطمع. وذلك - فيما أرى - أولى من اعتبار عِلَّة الحذف فيهما مجرد الاختصار. أما الآية الثالثة فقد كفانا الخطيب القزويني مؤنة البحث فيها فقال: " يجوز حمل الحذف فيها لأن الغرض إثبات الفعل في نفسه فيكون التقدير: وأنتم من أهل العلم والمعرفة ". * * * مجرد الاختصار وحده لا يكفي: فمجرد الاختصار - إذن - عِلَّة سلبية لا تفسر الأساليب تفسيراً بلاغياً، والظاهر أن علماء البلاغة كانوا يحملون عليها كل حذف لم يتبين لهم فيه وجه ظاهر من الاعتبارات المناسبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فأولى بالباحث الحديث أن يكون من هذا السبب على حذر لأنه يحجر على الفهم ولا يغنى عن البحث. ثانياً: أنهم يعتبرون - كذلك - رعاية الفاصلة سبباً من أسباب الحذف وغيره من مظاهر التعبير المخالفة للظاهر أو العُرف اللغوي. وهي كثيرة جداً في القرآن الكريم. وقد أحصى منها ابن الصائغ أكثر من أربعين موضعاً زعم أن الحذف فيها وغير الحذف من أجل رعاية الفواصل أو مطابقة رءوس الآي. ولكنه عاد فقال: " إن هذه المواضع تحتمل وجوهاً أخرى غير مناسبة الفواصل. وقد نقل عنه ذلك السيوطي وقال: إن لشمس الدين ابن الصائغ الحنفي كتاباً سماه " إحكام الرأي في أحكام الآي " ذكر فيه هذه الوجوه. والأمثلة التي ذكرها ابن الصائغ فإن الظاهر فيها إنها ليست لرعاية الألفاظ بل لدواع أخرى غيرها. وقد ناقشنا بعضها فيما تقدم. * * * ورعاية الفواصل وحدها لا تكفي: والحق أن رعاية الفاصلة سبب أقوى من مجرد الاختصار. وهو مع قوته ينبغي عدم التعويل عليه وحده في توجيه الظواهر الأسلوبية. وهذا أمر أمكن التوصل إليه في يُسر. فلننظر فيما ذكروه من أمثلته. إنهم ذكروا قوله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) . وقالوا: إن المفعول حُذِفَ لرعاية الفواصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 ويقول الزمخشري: " إنه اختصار لفظي مثل: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ) : أي والذاكراته، وسببه عند الزمخشري - أَى سبب الاختصار اللفظي - ظهور المحذوف والأولى - فيما أرى - أن يكون السبب فى الحذف - هنا - كراهة مواجهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه موضع قلى من الله. ولو وقع ذلك في سياق النفي فإن الذوق البلاغي يقتضيه. وقد أَشار إلى ذلك - فيما أذكر - الخطيب في الإيضاح ". ولهذا نظير في القرآن الكريم من اللطف في الخطاب مع النبي عليه السلام حتى في أشد مواضع العتاب كقوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) . فلم يواجهه بالعبوس والتولي. وقال: (عَفَا اللهُ عَنكَ لمَ أذنتَ لهُمْ) . فقدم العفو على سبب العتاب. . . وغير ذلك كثير. وإنما لم تكن رعاية الفصل بين الآيات سبباً وحده في الحذف وغيره. لأنها مظنة السجع المتكلف. فلذلك ينبغي الحيطة في مثل هذه الأمور. وبلاغتنا العربية غنية بالاعتبارات المناسبة في توجيه الأسلوب في غير ما سرق أو قصور. * * * ثالثاً - حذف جملة فأكثر: أما حذف جملة فأكثر. فإن القرآن قد حفل بكثير منه. وقد وضع العلماء لهذا النوع ضوابط نوجزها فيما يلي: أولاً: حذف السؤال المقدَّر ويسمى " الاستئناف " ويأتي على وجهين: 1 - إعادة الأسماء والصفات. وقد مثلوا له من غير القرآن الكريم بقولهم أحسنت إلى زيد، زيد حقيق بالإحسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وقولهم: أحسنت إلى زيد، صديقك القديم حقيق بالإحسان. وقد صرح ابن الأثير بأبلغيه الثاني. وهو ما كان المعاد فيه صفة لاشتماله على موجب الإحسان. ومثَّلوا له من القرآن بقوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) . والاستئناف وارد قبل " أُولئك " كأن سائلاً ساًل: فما بال المتصفين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب: إن الذين اتصفوا بهذه الصفات غير مستبعد أن يفوزوا - دون الناس - بالهدى عاجلاً والفلاح آجلاً. 2 - الاستئناف بغير إعادة الأسماء والصفات. ومثلوا له من القرآن بقوله تعالى: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) . وتقدير السؤال المحذوف: كيف حال هذا الرجل عند لقاء ربه؟ فقيل: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وإلى هنا يسكت ابن الأثير. . والظاهر أن في الآية استئنافاً آخر قبل قوله: (قَالَ يَا ليْتَ قَوْمِى يَعْلمُونَ) . وتقديره: فماذا قال حين قيل له ادخل الجنة؟ فأجيب: (قَالَ يَا ليْتَ قَوْمِى يَعْلمُونَ) . ثانياً: الاكتفاء بالسبب عن المسبب، وبالمسبب عن السبب. ومثَّلوا للأول بقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) . فقد ذكر سبب الوحي. وهو تطاول العمر. ودلَّ به على المسبب الذي هو الوحي. أما الثاني - وهو الاكتفاء بالمسبب عن السبب - فقد مثلوا له بقوله تعالى: (فَإذا قَرَاتَ القُرآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرجيم) . والتقدير: إذا أردت قراءة القرآن. فاكتفى بالمسبب. الذي هو القراءة عن السبب الذي هو الإرادة. وقوله تعالى: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) . والتقدير: فضرب فانفجرت. ثالثاً: الإضمار - على شريطة التفسير وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به في آخره. فيكون الآخر دليلا عليه وهو ثلاثة أنواع: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الأول: أن يأتي على طرلقة الاستفهام. فتُذكر الجملة الأولى دون الثانية مثل: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) والتقدير: أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه. ودليل الحذف قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) . الثاني: أن يأتي على حدى النفي والإثبات، ومثلوا له بقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا. .) . والتقدير: لا يستوى منكم مَنْ أنفق من قبل الفتح وقاتَلَ. ومَنْ أنفق من بعده وقاتَلَ. ودليل الحذف: (أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) . الثالث: أن يأتي على غير هذين فلا يكون استفهاماً ولا على حدى النفى والإثبات، ومثَّل له ابن الأثير بقول أبى تمام: يَتجَنَّبُ الآثَامَ ثُمَّ يَخَافُهَا. . . فَكَأنمَا حَسَنَاتُهُ آثَامُ قال: وفي صدر البيت إضمار مفسَّر في عجزه. وتقديره: " أنه بتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنة. ثم يخاف تلك الحسنة. فكأنما حسناته آثام ". يرى ابن الأثير أن البيت طباق قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 لكن المفسرين فسَّروا هذه الآية على غير ما يراه ابن الأثير. يقول الزمخشري فى معناها: " الذين يعطون ما أعطوا " أي الذين يفعلون الخيرات وهم وجلون من ربهم أن لا يتقبل منهم. ونقل حديثاً روته عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤيد ما ذكره. وكذلك رأى الإمام النسفي في تفسيره قال: " الذين يعطون ما أعطواً من الزكاة والصدقات وهم خائفون ألا يُقبل منهم لتقصيرهم ". وعلى هذا فإن ما يراه ابن الأثير من تطابق الآية والبيت غير دقيق. وأظهر من البيت المذكور في التمثيل له قول الشاعر: سُنَّة العُشَّاقِ واحِدَةٌ. . . فَإذا أحْبَبْتَ فَاسْتَكِنِ لأن المعنى: سُنَّة العشاق واحدة هي الاستكانة. فإذا أحببتَ فاستكن. أما مثاله من القرآن فأولى أن يكون قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) . فقد قال المفسرون: " وجعلنا ابن مريم آية، ثم حُذفَت الأولى لدلالة الثانية عليها" والحذف من الأول لدلالة الثاني عليه كثير في كلامهم. رابعاً: ما ليس بسبب ولا مسبب ولا إضمار - على شريطة التفسير ولا استئناف. أى إن الحذف هنا ليس له ضابط معيَّن. فهو يشمل كل حذف بعد الأنواع الثلاثة المذكورة وهو - بحق - كثير جداً في القرآن. وأكثر ما يكون فى القصص ولا حد لمقدار ما يُحذف فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى يحكى طرفاً من قضة يوسف عليه السلام في السجن: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) . فىَ هذا النص الحكيم حذف في أربعة مواضع. والمحذوف ليس حرفاً ولا كلمة مفردة بل كلام كثير. وتلك المواضع هي: أولاً: عند ما طلب الذي نجا من الفتيين أن يرسلوه إلى يوسف. وتقدير المحذوف فيه: إلى يوسف فاستجابوا له فأرسلوه فلما مثل أمامه قال له. . . . . ثانياً: بعد أن نبأه يوسف بحقيقة الرؤيا، والتقدير: فرجع إليهم فقص لهم ما قاله يوسف. ثالثاً: بعد أن طلب الملك أن يأتوه بيوسف. والتقدير: فأرسلوا ليوسف رسولاً ليأتي به إلى الملك فلما وصل إليه أعلمه بأمره قال. . . . . رابعاً: حين عاد الرسول وأبلغ الملك رغبة يوسف، والتقدير: فلما رجع الرسول إلى الملك وأبلغه رغبة يوسف أرسل الملك إلى النسوة اللاتي قطعن أيديهن وسألهن قائلا. . . . . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 والمحذوف في المواضع الأربعة ظاهر موضعه سهل تصوره. . إذ لا يستقيم الكلام إلا بملاحظة المحذوف ودليل الحذف فيها أو قرينته أن هذه الأحداث يحكمها أمران هما: الترتيب الزمني بينها. ثم التلازم الطبيعي. أما الترتيب الزمني. . فأمره واضح. إذ تجرى أحداث هذه القصة على نسق وقوعها: السابق سابق. واللاحق لاحق. فلم يتداخل حدثان في زمن واحد. وأما التلازم الطبيعي. . فمن حديث أن هذه الأحداث ما طرى ذكره منها. . . وما ذكِر ولم يُطو. . بينها صلات وثيقة فبعضها مقدمة طبيعية لبعض. أو لازم له. ففى الموضع الأول لا يُتصور سؤال الرسول ليوسف عليه السلام إلا بعد تصور استجابة طلبه والإذن له بالذهاب إلى يوسف ثم الوصول إليه ومثوله أمامه. . هذه الفجوات متروكة بلا إشارة. لأنها واقعة بين طرفين هي واسطتهما. على طريقة قص المناظر (فى الأدب المسرحي والتمثيلي الحديث) . وما دام الفكر يهتدى إليها في يُسر وسهولة. فإن ذكرها - والحالة هذه - ليس بمستساغ. ذلك سر الحذف. يُضاف إليه أن أولى فنون التعبير بالإيجاز والحذف والإجمال هو القصص لأنه يعالج كثيراً من الواقف ويسرد كثيراً من الأحداث. فمن خصائصه أنه يحتاج إلى كثير من البيان حتى يكمل بناء القصة. وتؤدى غرضها الجمالى والأخلاقى. لذلك كانت القصة ميداناً للاختصار والحذف. وفي حاجة ماسة إلى التركيز والإجمال. وكذلك جاء القصص القرآني. ومن حذف الجمل في القرآن الكريم أمور: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 - حذف أداة الشرط وفعله: ويكثر هذا بعد الطدب نحو: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ، أي: إن اتبعتمونى. ونحو: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، أي: أن تقل لهم. وجعل منه الزمخشري قوله تعالى: (فَلن يُخْلفَ اللهُ عَهْدَهُ) ، أى إن اتخذتم عند الله عهداً. كما جعل منه أبو حيان قوله تعالى: (فَلمَ تَقْتُلُونَ أنبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ) . أي: إن كنتم آمنتم بما أنزل الله إليكم فَلم تقتلون؟ ويجوز أن يجعل منه قوله تعالى: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ، على قراءة مَن جزم الفَعل وجعل منَه السعد وابن الأَثير وقوله تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) وجعلا الفاء في " فاعبدون " واقعة في جواب شرط محذوف تقديره: إن أرضى واسعة فإن لم تخلصوا العبادة في أرض فاخلصوها في غيرها. فحذف الشرط وعوض منه تقديم المفعول لإفادة الاختصاص. - حذف جواب الشرط: وهو كثير في القرآن الكريم. ومنه قوله تعالى: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ) . أي فافعل. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 ومنه قوله تعالى: (وَإذَا قيلَ لهُمُ اتقُواْ مَا بَيْنَ أيْديكُمْ وَمَا خَلفَكُمْ لعَلكُمْ تُرْحَمُونَ) ، أي: أعَرضوا ومنه قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ) . أى: لرأيتَ أمراً عظيماً. وقوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) . أي: لعذبكم ومنه الآيات الآتية: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) َ (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) فحذف جواب الشرط عام فيما كانت الأداة فيه جازمة أو غير جازمة. كما فى الأداة " لو " في الموضعين المذكورين. فإذا لم يتضح جواب " لو " وجب ذكره. كما في قوله تعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) . وكذلك حذف جواب " لما " في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 - حذف جواب القَسَم: ما أكثر حذف جواب القَسَم في القرآن. وقد جاء ذلك في مطالع السور مثل: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا. .) ، ومثل: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ، وَمثلَ: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ، ومثل: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) . وتقدير الجواب في الأول: لتبعثن. وفي الثاني: إنه لمعجز - يعني القرآن، وفي الثالث: ليس الأمر كما زعموا. وفي الرابع: ليعذبن. هذا في مطلع السور. أما في درج الكلام فإن السيوطي يرى في قوله تعالى: (لأعَذبُنهُ عَذَاباً شَدِيداً) . أن جملة القسم محذوفة. . والتقدير: والله قسمي. وفي حذف الشرط أو جوابه أو حذف جواب القَسَم فإن دليل الحذف ما بقى من الأجزاء، أما السبب البلاغي فلتقدره النفس بأى صورة مناسبة وفيه تكثير المعنى فقد قدر صاحب النحو الوافي جواب القَسَم في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) . بقوله: ما نفعكم. وقدَّره المفسرون بقولهم: لكان هذا القرآنَ. . وهو أرجح مما ذهب إليه صاحب النحو الوافي. * * * أنواع الحذف: ذكر السيوطي في كتابه " معترك الأقران " أن الحذف يأتي على أربعة أنواع هي: الأول - الاقتطاع: وهو حذف بعض أحرف الكلمة لغير علة صرفية أو نحوية، وقد حكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 السيوطي أن ابن الأثير، يمنع ورود هذا النوع في القرآن الكريم. ثم ذكر رأى الؤيدين لوروده فيه ذاكراً أمثلتهم وأدلتهم كورود الحروف المقطعة في أوائل السور - على رأى مَن يقول إنها ترمز إلى أسماء الله - ثم قال:. . وادعى بعضهم أن " الباء " في قوله تعالى: (وامْسَحُواْ برُءُوسكُمْ) أول كلمة " بعض " ثم حذف الباقى. ومثل قراءة: " ونادوَا يا ماَلِ " بالترخيم. ويبدو أن السيوطي يميل إلى رأى ابن الأثير في إنكاره ورود هذا النوع فى القرآن على الرغم من أنه ذكر أمثلة أخرى منها حذف همزة " أنا " في قوله تعالى: (لكِنا هُوَ اللهُ رَبِّى) - إذ جعل التقدير: لكن أنا هو الله ربي. وكذلك أورد أربعة أمثلة أخرى لقراء مختلفين: " ويسمك السماء أن تقع علرض ". و. . " وبما أنزليك " و " ومن تعجل في يومين فلثم عليه " و" إنها لحدى الكبر ". وقد راجعتُ كلام ابن الأثير في ذلك. فلم أجده قد صرَّح بعدم وجوده بل اكتفي بتعليقه على بعض أمثلته من غير القرآن بقوله: " فهذا وأمثاله مما يقبح ولا يحسن وإن كانت العرب قد استعملته فإنه لا يجوز لنا أن نستعمله ". والمثال الذي علق عليه ابن الأثير هو قول الشاعر: كَأن إبْرِيَقُهمْ ظبْي عَلى شَرَفٍ. . . مُفَدَّمِ بِسِبَا الكِتانِ مَلثُومُ والتقدير: بسبائب الكتان. والذي أذهب إليه أن ابن الأثير قد جانبه التوفيق في إنكاره. ومن أقوى الأدلة عليه ما ذكره السيوطي نفسه من أمثلة تقدم ذكرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 على أن في القرآن أمثلة أخرى لم يذكرها السيوطي. وأكثر ما يكون ذلك فى أسماء المصادر مثل قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) . والأصل: إنباتاً. ولعل السر في العدول عن الأصل أمران: الأول: لفظي وهو التخلص من كسرين يؤديان إلى نوع ما من الثقل إذا قارنا بين الصورتين: الأصلية، والتي عليها التعبير. لأن " الضاد " من أرض مكسورة كما أن " الهمزة " من المصدر - وهي أول حرف فيه - مكسورة. الثاني: معنوي لأن المصدر " إنباتاً " يدل على مجرد الحَدَث. أما اسمه " نباتاً " فيدل على صورة النبات بعد خلقه وترعرعه. فضلاً عن دلالته على الحَدث. ولا شك أن ما دل على معنيين أولى مما دل على معنى واحد. والمقام هنا يقتضي ذلك لأنه بيان لقُدرة الله سبحانه. وقد جيء بالمصدرالأصلى في قوله تعالى: (ثُمَّ يُعِيدكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إخْرَاجاً) والمقام واحد. فلماذا إذن خولف نسق الآية الثانية عن نسق الأولى؟ والجواب من وجهين: أولاً: لأن ما أطلقنا عليه " ثقل لفظي " في الأولى لو جيء بالأصل. زال هنا في هذه الآية لسكون ما قبل همزة المصدر المكسورة. ثانياً: لأنه لو قال: " خروجاً " بدل (إخراجاً ". والخروج مصدر خرخ اللازم لأشعر ذلك - ولو في الوهم - أن الناس مختارون لخروجهم من المقابر خارجون بقدرتهم. وهذا الفهم لا يستقيم مع المقام. وإنما لم يراع هذا الوجه فى الأولى لأن النبات لا تُتصور له إرادة محضة. ومنه كذلك حذف الياء من قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 تعالى حكاية عن الخضر عليه السلام: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) . وقوله سبحانه: (والليْلِ إذا يَسْرِ) . فقد جاء حذف الياء فى الموضعين واجتزئ عنهما بالكسرة وبهذا يتضع ضعف ما ذهب إليه ابن الأثير. الثاني - الاكتفاء: وهو ما يقتضي المقام فيه ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفى بأحدهما عن الآخر لنكتة ويختص غالباً بالارتباط العطفى كقوله تعالى: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) . أي والبرد. وفي تخصيص الحر بالذكر دون البرد قيلَ: لأنَ الخطاب أصلاً كان للعرب وهم في بلاد حارة. فذكر ما هو أهم وهذا أوجه ما قيل في توجيه الآية. وقوله تعالى: (بيَدكَ الخَيْرُ) . أي والشر، وذكر الخير دون الشر لرغبة الناس فيه. أو لأنَه أكثر وجوداً من الشر. ذكر الرأيين السيوطي فى المعترك أيضاً. ومن أمثلته أيضاً الآيات الآتية: (وَلهُ مَا سَكَنَ فِى الليْلِ وَالنهَارِ) . (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصلاَةَ) . والتقدير في الأولى: وما تحرك. وخص السكون لأنه الأصل. والتقدير فى الثانية: والشهادة، وخص الغيب بالذكر لأنه أدخل في باب المدح. ولاستلزامه الإيمان بالشهادة وهناك أمثلة كثيرة لهذا النوع فلنكتف بما ذكرناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 الثالث - الاحتباك: وهو أن يحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، ومن الثاني ما ثبت نظيره فى الأول. ويطلق عليه الزركشي: " الحذف المقابلي " فيقول: " هو أن يجتمع في الكلام متقابلان. فيحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه ". ومبنى هذه التسمية من الحبك. وهو الشد والإحكام وتحسين أثر الصنعة فى الثوب، فحبك الثوب شد ما بين خيوطه بحيث يمنع عنه الخلل وأصله من قولهم: " بعير محبوك العرى: أي محكمها، والاحتباك شد الإزار. فكأن هذا النوع من الحذف يُكسب الكلام قوة وزينة. القوة من حيث استيفاء الأقسام، والزينة من حيث الحذف المتناظر. ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) . والتقدير: ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق. والذي ينعق به. فحذف من الأول الأنبياء لدلالة الذي ينعق عليه. ومن الثاني الذي ينعق به لدلالة الذين كفروا عليه. ومن أمثلته قوله تعالى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) . والتقدير: تدخل غير بيضاء. وأخرجها تخرج بيضاء. فحذف من الأول: تدخل بيضاء ومن الثاني: وأخرجها. ومنه قوله تعالى: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 والتقدير: يعذب المنافقين فلا يتوب عليهم أو يتوب عليهم فلا يعذبهم، وهذا فن بديع فيه روعة وخلابة. قال السيوطي: ومن لطيفه قوله تعالى: (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ) . أي فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الَله. وأخرَى كافرةَ تقاتل في سبيل الطاغوت. قال الكرماني: " وله في القرآن نظائر وهو أبلغ ما يكون من الكلام " حكاه عنه السيوطي في المعترك. وأنت ترى أن هذا الأسلوب شبيه بالميزان الدقيق الحساس. . فما أحرى أن يسمى به. الرابع - الاختزال: وهو ما ليس واحد مما سبق. والمحذوف فيه إما اسم أو فعل أو حرف أو أكثر. والأظهر أن يسمى " الحذف العام " لأنه لا يمكن التفرقة بينه وبين الأقسام الثلاثة المتقدمة لا من حيث المحذوف. ولا من حيث كيفية الحذف. فأمثلته - إذن - هي ما تقدم لأنه يشمل حذف المضاف والمضاف إليه. والصفة والموصوف والفعل وهكذا. ومن أمثلته قوله تعالى: (الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) ، أي حج أشهر. وقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَليْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) أي نكاح أمهاتكم. وقوله تعالى: (لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ الممَاتِ) أي ضعف عذاب. وقوله تعالى: (للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) أي من قبل الغلب ومن بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وقوله تعالى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) . . أي فضرب فانفلق. . وهكذا. . فأنت ترى أن ما سموه من الحذف بالاختزال شامل لجميع الأقسام على ما بيَّناه فليس له من نصيب إلا التسمية. * * والخلاصة: صاحبنا القرآن الحكيم في هذا الفصل في بعض مواطن الحذف فيه. والذى يدعوه البلاغيون: " أحد مظاهر الإيجاز ": وهو أن يكون المعنى المفهوم من اللفظ أكثر من الألفاظ التي استُعملت فيه. وهذه فضيلة واحدة عامة من فضائل الحذف في القرآن - أعنى الإيجاز المذكور - وليس الحذف القرآني ينتهى عند هذه الفضيلة المسماة بالإيجاز. بل له فضائل بيانية أخرى تكاد تتعدد بتعدد مواضع وروده. وخصائص الحذف القرآني - فيما أرى - يمكن تلخيصها في الآتى: * خصائص الحذف القرآني: أولاً: سلامته من الإجحاف بالمعنى والخلل في الأسلوب فكل حذف فيه يحكمه أمران: (أ) دليل قوى يعين على تصوره وقد يعينه تعييناً أحياناً. وكل منهما - أى التصور والتعيين - بليغ في موضعه. ففى قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: (فَصَبْرٌ جَميلٌ) يحصل تصور المحذوف دون تعيينه. فيجوز أن يقدر التركيب علىَ هذا الوجه: فأمري صبر جميل، ويجوز أن يكون: فصبر جميل أمثل، وفي هذا تكثير للفائدة. وفي قوله تعالى: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) . يمكن تعيين المحذوف، والتقدير لا محالة: فضرب فانفجرت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وقد أفاد هذا الحذف مع الإيجاز سرعة حصول الانفجار والسرعة هنا مطلوبة لأن المقام مقام طلب للنجاة من فرعون وقومه. . وقد كرر هذا المعنى فى قوله تعالى: (أنِ اضْرِب بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلقَ) . فاتحد الموضعان فى الحذف والغرض. ْويمكن أن نفهم من هذين الموضعين - فوق فضيلة الإيجاز، وفوق معنى السرعة - معنى ثالثاً لم أجد أحداً قد نص عليه. وهو أن الحذف يشير فيهما إلى سرعة امتثال موسى عليه السلام لأمر ربه. حتى إن الزمن بين تلقيه الأمر وتنفيذه لا يكاد يُذكر لقصره وذلك يكشف لنا - أيضاً - أن موسى عليه السلام كان متلهفاً لا يشير عليه به ربه في التصرف أمام الأزمات. (ب) الداعي البلاغي الذي دعا إلى الحذف، وهذا الداعي على ما وضع فيه البلاغيون من بحوث قيمة وثرية. ما زال مورداً بِكراً في القرآن الكريم. فالباحث في مواضع الحذف في القرآن واجد جديداً لم يشر إليه القوم وقد بان لنا - نحن - في غضون هذا الفصل نصيب من ذلك الجديد. مثل ما ذكرناه فى توجيه الحذف في قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف: (تَالله تَفْتَؤأْ تَذكُرُ يُوسُفَ) . من أن الحذف كان لضيق المقام، ومثل ما ذكرَناه من توجيه الحذف في قوله تعالى حكاية عن المشركين: (أهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) . حيث أرجعنا حذف عائد الصلة إلى أمر نفسي هو كراهية إيقاع الفعل المفيد لإثبات الرسالة للنبى - صلى الله عليه وسلم - على ضميره. لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه. . والبلاغيون يعدون الحذف فيه من مجرد الاختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وقوله تعالى: (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) . حيث أرجعنا الحذف فيه إلى عامل نفسي كذلك هو الرهبة والإجلال والطمع في غير مطمع. والبلاغيون يعدونه - كذلك - من مجرد الاختصار. ومثل ما ذكرناه من توجيه الحذف في قوله تعالى: (مَا وَدعَكَ رَبكَ وَمَا قَلى) . من أن حذف المفعول فيه كراهية مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه موضع قلى من الله. . أو للإشعَار بمنزلته عند الله فلذلك لم يوقع على ضميره فعل مكَروه، والمجال - بعد - مفتوح أمام النظر العميق الفاحص. وهذا مورد لا ينضب. ثانياً: أن كل موضع حُذفَ فيه منه شيء فالحذف فيه أبلغ من الذِكر من حيث المعنى فليس في القرآن حذف ألبس أو أخل كقول الشاعر: والعَيشُ خَيْرٌ فِى ظِلالِ. . . النَوْكِ مِمنَ عَاشَ كَدَّا حيث حذف فألبس وأخل، وظل لفظه دون معناه. لأن مراده العيش الناعم ولذلك عابره وحكموا بقصوره. * * * شهادة عدلين: وأكاد أجزم أن عبد القاهر حينما قال: " ما من اسم حُذفَ في الحالة التى ينبفى أن يُحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره ". إنما كان يعني الحذف في القرآن على أن يُحمل كلامه على جميع صور الحذف، سواء أكان المحذوف اسماً، أو فعلاً، أو حرفاً، أو جملة، أو أكثر من جملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 ونختم هذا الفصل بشهادة أديب ذوَّاق، وناقد فاحص: " إن القرآن حين يحذف فيه ما يحذف من مشاهد وأحداث يحمل السامع أو القارئ على المشاركة في بناء ما يمكن أن يقص. تنشيطاً لخياله، وتحريكاً لوجدانه، فيظل - أبداً - مأسوراً لما يسمع أو يقرأ. ماضياً على هوى نفسه. وقد استمتعت نفسه بكل مزايا الفن الجميل. مؤمناً بما يهدف إليه القصص القرآني من مُثل عليا وآداب رفيعة. وذلك لأن القرآن يحيل الجمال الفني أداة للتأثير الوجدانى. فخاطب حاسة الوجدان الدينية بلغة الجمال الفنية " (1) . هذا النص الموفق، وإن كان خاصاً من حيث قصد كاتبه بالقصص القرآني ينطبق على مظاهر الحذف في القرآن جميعها. فلكل حذف فيه نصيب. * * *   (1) التصوير الفني في القرآن: سيد قطب ص 141 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 الفصل الثاني من أسرار التقديم في القرآن الكريم التقديم - بعامة - سمة أسلوبية لها عظيم الأثر في روعة الأسلوب وإبرازه فى صورة حكيمة من الوفاء بالمعاني ومطابقتها لمقتضى الحال، سواء أكانت هذه الحال ملاحظاً فيها جانب المخاطبين، أو جانب المخاطب. وهو من أقدر الفنون على كشف خبايا النفوس وسبر غورها. ويطوع المعاني للاعتبارات المناسبة التي يراها البليغ حرية بالكلام. وقد أولاه علماء البلاغة عناية فائقة باعتباره أحد أصول علم المعاني الذي به تعرف أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال. أو هو - كما يقول السكاكي: " تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ فى تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره ". ودراستنا للتقديم في القرآن الكريم نمارسها - بعد - من خلال دراسة أربعة مناهج وضعها العلماء وهم يعالجون هذا الفن " التقديم " وهذه المناهج الأربعة هي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الأول: منهج البلاغيين ابتداءً من عبد القاهر الجرجاني، حتى الخطيب القزويني. الثاني: منهج شمس الدين بن الصائغ الحنفي. الثالث: منهج ضياء الدين بن الأثير. الرابع: منهج المفسرين متمثلاً في العلامة أبى السعود. والإمام الزمخشري. أولاً - منهج البلاغيين الذي ينظر في منهج علماء البلاغة يجد طريقتهم في التقديم تعتمد على العناصر الآتية: (أ) حقيقة التقديم. (ب) أغراض التقديم. (ب) أقسام التقديم وموضوعاته. والعنصران الثاني والثالث هما المسيطران على منهجهم. فأغراض التقديم هي الدواعى والأسباب التي ترجح تقديم المقدم على تأخيره. وهذه الأغراض عندهم نوعان: أغراض عامة كالاهتمام بالمقدَّم. وأغراض خاصة كإرادة التخصيص. أما أنواع التقديم أو أقسامه. فإنها عندهم نوعان كذلك: (أ) تقديم على نية التأخير، كتقديم الخبر على المبتداً، وتقديم المفعول على الفاعل أو الفعل. (ب) تقديم لا على نية التأخير كتقديم المبتدأ على الخبر وتقديم الفعل على الفاعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وقد عارض الزمخشري - كما نقل عنه صاحب المطول - على اعتبار هذا النوع من التقديم فقال: " إنما يقال مقدم ومؤخر للمزال لا للقار في مكانه " ورد هذا الاعتراض بأن المراد بتقديمه الإتيان به مقدماً. وهذا التقسيم نص عليه عبد القاهر في الدلائل وتابعه البلاغيون من بعده. والحق أن الزمخشري له دليل قوى فيما تمسك به. وإن كان يؤخذ عليه ما أجاب به البلاغيون، لأنه اعتبار دقيق ما كان ليفوت الزمخشري وهو من أبرز ذوَّاقي الأساليب. أما موضوعات التقديم. فهى لا تخرج - عندهم - عن الأحوال الآتية: 1 - تقديم المسند إليه، وهو - هنا - خصوص المبتدأ. أما نظيره " الفاعل " فليس له نصيب في هذا البحث، لأنه لو قُدم على فعله لأصبح مبتدأ وزال عنه معنى الفاعلية وتحولت إلى ضميره. ويصبح التركيب - حينئذ - أصيلاً لا تقديم ولا تأخير فيه. 2 - تقديم المسند، وهو - هنا - خصوص الخبر غير الفعلي. لأن الخبر الفعلي لو قُدم لصار المبتدأ فاعلاً، ولحصلنا على نمط من التركيب مغاير تماماً لما حُوَل عنه. فمثل: الصدق ينفع، لو قدمنا فيه الخبر - وهو فعلي - لأصبح التركيب: ينفع الصدق. ولما بان - إذن - أن في الكلام تقديماً. 3 - تقديم المتعلقات على عواملها، أو تقديم بعضها على بعض، كالمفعول به على الفعل وكالظرف والجار والمجرور، وكالحال والتمييز، وكتقديم التوابع بعضها على بعض. عند هذا الحد تقف بحوث البلاغيين في التقديم، وقد كشفوا عن أسراره فيها وتباينت وجهات نظرهم في بعض الفروع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 ونوجز فيما يأتي خلاصة منهجهم في الموضوعات الثلاثة الآتية: أولاً - أسرار تقديم المسند إليه: يُقدم المسند إليه لأغراض مختلفة، وكان الأقدمون - قبل عبد القاهر الجرجاني - يرجعون تقديم المسند إليه إلى غرض واحد عام، هو الاهتمام والعناية. ويفسرون بذلك كل تقديم وقد أشار إلى ذلك سيبويه. ولم يرتض عبد القاهر هذا التفسير العام، لأن الاهتمام والعناية من الظواهر التي تحتاج إلى تعليل وكشف عن دواعيهما. وبهذا فتح عبد القاهر المجال أمام النظر بهذا التنبيه، وقد تلمس هو نفسه فى كتابه " الدلائل " أسبابًا أعمق، وأسراراً أدق. وقد أسفرت البحوث بعده عن الأسرار الآتية التي يقدم من أجلها المقدم - المسند إليه - هنا. 1 - التقديم للعناية والاهتمام: أشار الخطيب إلى شرح كونه أهم، كما يقول صاحب المطول. وقبله السكاكي. والطريقة فيه أنه يُقدم لكون ذكره إما لأنه الأصل، ولا مقتضى للعدول عنه، فإذا وُجدَ مقتض لتقديم المسند أهمل تقديم المسند إليه، كما إذا أريد قصر المسند إليه على المسند، أو التشويق إلى المسند إليه وذلك يقتضي تأخيره إذا كان في المسند ما يثير هذا التشويق. أو غير ذلك من الأسباب. لأن التقديم للأصالة ضعيف يراعى إذا لم يعارض بسبب آخر أقوى منه. 2 - وإما ليتمكن الخبر في ذهن السامع لأن في المبتدأ - كذلك - تشويقاً إليه إما لغرابة صلته إن كان موصولاً، كقول أبى العلاء: وَالَّذِي حَارَتِ البَرِيَّةُ فِيهِ. . . حَيوانٌ مُسْتَحدَث مِنْ جَمَادٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 فإن الحيرة في جانب المسند إليه تشويق إلى معرفة مَن وقعت عليه، وتعلقت به وهو المسند. وهذا يُمكَن الخبر في الذهن حيث قد هُيِئَ له، وأثير الشعور نحوه. وإما لغرابة صفته إن كان موصوفاً. كالتصرف في المثال السابق: الشيء الجالب للحيرة حيوان مستحدث من جماد. وإما لكونه ضمير شأن أو قصة. كقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) . وقوله: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ) . لأن ضمير الشأن والقصة - بما فيهما من الإبهام - يشوقان السامع إلى البيان الذي يتكفل به المسند وذلك من دواعي التمكنِ. 3، 4 - وإما لتعجيل المسرة أو المساءة كقولك: سعيد في دارك. والسفاح فى دار صديقك. 5 - وإما لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر، فهو إلى الذكر أقرب. وذلك الإيهام إما لكونه مطلوباً في نفسه كقول الجائع العطشان: الرَغيف والماء أجمل ما تحت السماء، وإما لكونه مستلذاً استلذاذاً حسياً كقول جميل: بُثَيْنَةُ مَا فِيهَا إذا ما تُبُصِّرَتْ. . . مَعَابٌ وَلاَ فِيهَا إذا نُسبَتْ أشَبُ أى هي الوسيمة الأصيلة فالتقديم لما ذكرناه. 6، 7 - وإما للمبادرة إلى إظهار تعظيمه أو تحقيره إذا كان اللفظ مشعِراً بهما - إما بذاته - وقد مثلوا لهما بأمثلة مصنوعة. وفي القرآن ما يغنيهم عن هذه الصناعة. كقوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 واللفظ - هنا - مشعر بالعظمة بذاته، وأما بالإضافة فمثل قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) . هذا في التعظيم. أما في التحقير فيمكن الاستشهاد عليه بقوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) . واللفظ - هناَ - مشعر بالتَحقير بذاته. وأما بالإضافة فمثل قوله تعالى: (إن كَيْدَ الشيْطانِ كَانَ ضَعِيفاً) . وقد نَصن السكاكي على موضعنِ آخرين، أحدهما: 8 - أن يكون كونه متصفاً بالخبر هو المطلوب لا نفس الخبر. كما إذا قيل: كيف الزاهد؟ فتقول: الزاهد يشرب ويطرب. وقد عَدَّ بعض المحدَثين هذا الموضع تحت ضابط: طرافة حصول المسند من المسند إليه لأن الزاهد من شأنه التقوى والورع، فكونه شارباً طروباً مخالف لا ينبغي. وثانيهما: 9 - أن يكون متضمناً لاستفهام مثل: أيهم منطلق؟ لأن أدوات الاستفهام لها الصدارة. 10، 11 - التقديم لإفادة التخصيص أو التقوى. وفي ذلك مذهبان، أحدهما لعبد القاهر الجرجاني، والثاني لأبى يعقوب يوسف السكاكي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 أولاً - مذهب عبد القاهر: وهو يتلخص في الاعتبارات الآتية: 1 - إذا تقدم المسند إليه على خبره الفعلي، وقد ولى حرف النفي، فإنه يفيد قصر نفى الخبر عليه وجهاً واحداً، سواء أكان المسند إليه معرفاً أو منكراً، مُظهَراً أو مُضمَراً. 2 - أما إذا كان المسند إليه غير والٍ لحرف النفي، وكان خبره أيضاً فعلياً، ولم يكن المسند إليه نكرة سواء أكان الخبر مثبتاً أو منفياً. فإنه يأتي - أحياناً - للتخصيص إن كان للمخاطب حكم على خلاف حكمك. ويفيد التقوى - فحسب - إن لم يكن له ذلك الحكم المخالف لا تقول. والمرجع في ذلك للمقامات وقرائن الأحوال. 3 - فإن كان نكرة، والحال أن خبره فعلي مثبت أو منفى، ولم يل المسند إليه حرف النفي فإنه يفيد التخصيص قطعاً. إلا أنه يتنوع إلى نوعين: (أ) تخصيص الجنس. (ب) تخصيص الواحد من الجنس (العدد) . وتوضيح ذلك بالأمثلة: ما أنا قلت - هذا ما محمد قال هذا - ما رجل قال هذا. . في هذه الأمثلة الثلاثة قُدم المسند إليه الذي خبره فعلي والياً - أي المسند إليه - حرف النفي، وهو معرف في المثالين الأولين مضمر في أحدهما، ومظهر في الثاني، ونكرة فى الثالث. وقد مثَّل عبد القاهر لهذا النوع بقول المتنبي: وَمَا أنَا أسْقَمْتُ جِسْمِى بِهِ. . . وَمَا أنَا أضْرَمْتُ فِى القَلبِ نَاراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 ويرتب عبد القاهر على هذه القواعد أمرين: أولاً: أنه يصح لك أن تقول: ما قلتُ هذا، ولا قاله أحد من الناس. ولا يصح ذلك في الوجه الآخر. فلو قلت: ما أنا قلت هذا. ولا قاله أحد من الناس، كان خلفاً من القول. وكان في التنافض بمنزلة أن تقول: لست الضارب زيداً أمس. فتثبت أنه قد ضُرِب ثم تقول من بعده: وما ضربه أحد من الناس. ثانياً: إنك تقول: ما ضربتُ إلا زيداً، فيكون كلامك مستقيماً، ولو قلت: ما أنا ضربت إلا زيداً، كان لغواً من القول. وذلك لأن نقض النفي بـ " إلا " يقتضي أن تكون ضربت زيداً. وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي يقتضي نفى أن تكون ضريته فهما يتدافعان فاعرفه. * * معارضة: وعارض الخطيب هذا التعليل الذي شرحه عبد القاهر من حيث أن إيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ألا يكون ضربه. لكنه لم يذكر - أي الخطيب - لماذا لم يسلم بقول عبد القاهر. ورد السعد على اعتراض الخطيب بقوله: " إن تقديم المسد إليه، وإيلاءه حرف النفي إنما يكون إذا كان الفعل المذكور ثابتاً متحققاً بينهما. وإنما المناظرة فى فاعله فقط ". 4 - أما إذا لم يل المشد إليه حرف النفي، والخبر - كذلك فعلي - مثبت أو منفى فإنه يفيد القصر تارة، إذا كان للسامع حكم خلاف ما أنت تقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 كقولك: أنا كتبت في معنى فلان. قلباً أو إفراداً أو تعييناً - حسب حالة السامع - ويؤكد الإفرادى بـ " وحدي "، والقلبى بـ " لا غيري ". فإن لم يكن للسامع حكم خلاف ما أنت تقول، فإنه لا يفيد إلا التقوى. * * * مبنى إفادة التقوي: وطريق إفاد التقوي في هذا النوع فيه رأيان: فالخطيب والجمهور يقولون: إنه راجع إلى تكرار الإسناد، وهذا واضح إذ الخبر فيه مسند إلى المبتدأ مرتين. مرة من حيث أنه خبره. ومرة من حيث إنه فعل مسند إلى ضميره وهذا رأي وجيه كما ترى. وعبد القاهر يرى أنه راجع إلى أن تقديم المحدَّث عنه يفيد تنبيه السامع لقصده بالحديث قبل إيراد الحديث تحقيقاً للأمر، وتأكيداً له. والفرق بين الرأيين - بعد اتفاقهما في إفادة التقوية - أن رأى الخطيب والجمهور مبنى على قواعد الصناعة النحوية لا غير، أما رأى عبد القاهر فمبناه الذوق والوجدان المرهف. وتطبيقاً لهذه الفكرة سرد الإمام عبد القاهر - وتابعه المتأخرون - بعض النصوص القرآنية وغيرها. فمن القرآن ذكر الآيات الآتية: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) . (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 ويعترف عبد القاهر بأنه استقى مذهبه هذا من سييوبه صاحب الكتاب فيقول: " وهذا الذي ذكرت من أن تقديم ذكر المحدَّث عنه يفيد التنبيه له. قد ذكره صاحب الكتاب في المفعول إذا قدم فرفع بالابتداء، وبنى الفعل الناصب له عليه وعدى إلى ضميره فشغل به، كقولنا في: ضربت عبد الله. عبد الله ضربته. فقال: وإنما قلت عبد الله فنبهته له، ثم بنيت عليه الفعل ورفعته بالابتداء ". * * مرجحات رأي: ثم يقول: " ويشهد لما قلنا من أن تقديم المحدث عنه يمتضى تأكيد الخبر وتحقيقه، أنَّا إذا تأملنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء: 1 - فيما سبق فيه إنكار من منكر مثل قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ عَلى الله الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلمُونَ) . 2 - وفيما اعترض فيه شك. نحو أن يقول الرجل: كأنك لا تعلم ما صنع فلان؟ فتقول: أنا أعلم. 3 - أو في تكذيب مدع. كقوله تعالى: (وَإذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلواْ بِالكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ) . 4 - أو فيما القياس في مثله ألا يكون كقوله تعالى: (وَاتخَذُواْ من دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلقُونَ) . 5 - وفيما يكون على خلاف العادة. كقولك: ألا تعجب من فلان، يدعى العظيم وهو يعيى باليسير. ويزعم أنه شجاع وهو يفزع من أدنى شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 6 - وفي الوعد والضمان، وهو فيها حسن كثير، تقول للرجل: أنا أعطيك. أنا أكفيك. . لأن الموعود والمضمون له في حاجة إلى التأكيد. 7 - ويكثر - كذلك - في المدح كقوله الشاعر يفخر: نَحْنُ فِى المشْتَاة نَدْعُو الجَفْلى. . . لاَ تَرَى الآدَبُ مِنا يَنْتَقْر ويرى عبد القاهر أن بعض المواضع لا يصلح فيها إلا هذا النوع من التعبير فهو فيها ألزم. وذلك إذا وقع الفعل المضارع بعد واو الحال. كقول الشاعر: تَمَزَزْتُهَا وَالدِّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ. . . إذَا مَا بَنُو نَعْشٍ دَنبوا فَتَصَوبوا فلا يصح - عنده - أن تقول: رأيته ويكتب، ودخلت عليه ويمل الحديث، وتمززتها ويدعو صباحه، فإنه ليس بشيء. والملحظ هنا ذوقي. ومما لا يصلح فيه إلا هذا النوع من التعبير قوله تعالى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) . وقوله تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) . وقوله تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) . قال بعد ذكر هذه النصوص: " فإنه لا يخفى على مَن له ذوق أنه لو جيء بذلك والفعل غير مبنى على الاسم لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى وقد زال عن صورته، والحال التي ينبغي أن يكون عليها ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وعبد القاهر في تقديره هذه المسألة، التي لم يُسْبَق إليها كان على جانب كبير من تذوق البلاغة الرفيعة، والتي تسمو فوق توجيهات القواعد، إنها بلاغة الجمال الفني والذوق المصفى. والإحساس السليم. * * * التقديم والتأخير في الفعل المنفي: يطبق عبد القاهر فكرته التي حرر القول فيها في الفعل المثبت في الفعل المنفي كذلك. فهما فيها سواء قال: " واعلم أن هذا الصنيع يقتضي فى الفعل المنفى، ما اقتضاه في الفعل المثبت فإن قلت: أنت لا تحسن هذا. كان أشد لنفي إحسان ذلك عنه من أن تقول: لا تحسن هذا. ويكون الكلام فى الأول مع مَن هو أشد إعجاباً بنفسه، وأعرض دعوى في أنه يحسن. حتى إنك لو أتيت بـ " أنت " فيما بعد " تحسن " فقلت: لا تحسن أنت، لم يكن له تلك القوة، وكذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) . يفيد من التأكيد في نفى الإشراك عنهم مما لو قيل: الذين لا يشركون بربهم. أو: بربهم لا يشركون. ولم يفد ذلك ". هذا في المعرفة. أما الفكرة فإنها تفيد التخصيص الجنسى أو العددى. فنحو: رجل جاءنى. يحتمل أن يكون الجائي امرأة فيكون لقصر الجنس، أو رجلين، فيكون لقصر العدد قلباً أو إفراداً أو تعييناً. . هذه خلاصة رأى عبد القاهر في إفادة تقديم المسند إليه التخصيص أو التقوي حرصنا أن نعرضها بعيداً عن تعليقات أصحاب الشروح والحواشي إلا فيما خف لأن الذوق وحده هو الذي يحكم على هذا المذهب الجزل والمورد العذب والإحساس الرقيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ثانياً - مذهب السكاكي: يضع السكاكي لإفادة تقديم المسند إليه التخصيص شرطين: 1 - أن يجوز تقدير كونه في الأصل مؤخراً. بأن يكون فاعلاً في المعنى مثل قولك: أنا قمت. فإنه يجوز تقدير أصله: قمت أنا، على أن يكون " أنا " تأكيداً للفاعل الذي هو " التاء " في " قمت ". فقدم وجعل مبتدأ. 2 - أن يقدر كونه كذلك. فإن انتفى الشرط الأول، وهو جواز تقديره مؤخراً على أن يكون فاعلاً في المعنى دون اللفظ، ولم يلاحظ في الكلام تقديم ولا تأخير أو انتفى الشرط بأن كان المسند إليه اسماً ظاهراً، فإنه لا يفيد إلا تقوى الحكم. وفرق بين النكرة والمعرفة بأن النكرة لو لم يُقذر فيها ذلك لامتنع تخصيصه إذ لا سبب له سواه. ولو امتنع تخصيصه لم يقع مبتدأ. بخلاف المعرَّف لوجود شرط الابتداء فيه وهو التعريف. والمثال: رجل جاءنى صالح. لإفادة تصر الأفراد، أي: لا رجلان ولا رجال. وقصر الجنس، أي: لا امرأة. وشرط إفادة النكرة التخصيص ألا يمنع منه مانع. وهو يضع هذا القيد ليمنع ما رأى عبد القاهر أن فيه تخصيصاً، وهو خصوص المثال الذي يقول: شر أهر ذا ناب، إذ لا يجوز عنده أن يكون المعنى: الهر شر لا خير، ولا المهر شران لا شر. وحين رأى إطباق العلماء على إفادة المثال المذكور التخصيص، التمس له وجهاً آخر هو أن التخصيص فيه نوعى. أي: شر عظيم أهر ذا ناب. وبذلك أصبح شرطه: " ألا يمنع من التخصيص مانع " لا محصل له. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 * مقارنة: المقارنة بين هذين المذهبين تُسفر عما يأتي: 1 - عبد القاهر يجعل أهمية خاصة لإيلاء المسند إليه حرف النفي في إفادة التخصيص بل المدار عنده على هذا الإيلاء بينما يهدر السكاكي هذا الشرط كلية. 2 - عبد القاهر يرى أن العرف إذا لم يقع بعد النفي وخبره فعلي مثبت أو منفي فإنه يفيد الاختصاص، مضمراً أو مظهراً، وكلام السكاكي صريح فى أنه لا يفيده إلا المضمر. 3 - عبد القاهر لا يرى الاختصاص في المشتقات. والسكاكي يرى ذلك. * 12 - تقديم المسند إليه لإفادة عموم السلب، وعكسه في عكسه: يُقدم المسند إليه إذا كان لفظ " كل " ومثله ما في معناه: كجميع وعامة. على أداة السلب ليفيد عموم السلب، وشموله لكل ما أضيف إليه لفظ " كل " وما جرى مجراه في الدلالة. فإذا عكست وقدمت أداة السلب على لفظ " كل " انعكس فأفاد سلب العموم والشمول عما أضيف إليه " كل ". واقتضى ذلك ثبوت الفعل، ومثله الأوصاف المشتقة لبعض ونفيه عن بعض. ولا بدَّ - هنا - من مراعاة شروط ثلاثة: 1 - أن يكون المسند إليه مسوراً ب " كل "، أو ما جرى مجراه. 2 - أن يكون المسند مقروناً بحرف النفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 3 - أن يكون المسند إليه بحيث لو أُخر كان فاعلاً في المعنى. هذا هو مذهب الإمام عبد القاهر. * * موقف المتأخرين من هذا الرأي: لعلماء البلاغة الذين جاءوا بعد الجرجاني والسكاكي رأى في هذا المذهب ونخص منهم اثنين: 1 - الخطيب القزويني. وقد عرض هذا الموضوع في صيغة التضعيف فقال: " قيل: وقد يقدم لأنه دال على العموم. . ثم أخذ في تحليل المسألة تحليلاً رائعاً. مستخدماً في ذلك مهارته النقدية. وقواعد المنطق، وقد انتفع بما كتبه مَن سبقه من العلماء كبدر الدين بن مالك في المصباح. 2 - ثم السعد في المطوَّل، ونقد السعد لهذا الموضوع موضوعى وجيه يقول: " لأنا لا نجده حيث لا يصلح أن يتعلق الفعل ببعض كقوله تعالى: (إن اللهَ لاَ يُحبُّ كُل مُخْتَالِ فَخُورٍ) ، و (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) ، (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) . 3 - والسعد يقصد من هذا أن مقتضى ما قاله عبد القاهر أن الله يحب بعض المختال الكفور، ويحب بعض الكفار الأثيم، وأن الرسول مأذون له أن يطيع بعض الحلَّاف المهين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وليس هذا بصالح هنا، ولا هو مقصود. وهذا أكبر خطر يوجه لرأى عبد القاهر رحمه الله في خصوص هذه المسألة. لكن السعد لم يبطل كل ما قرره عبد القاهر. بل كان رقيقاً معه في الحكم على مذهبه مع قوة دليل الطعن ووجاهته. . فقال: " إن الحكم في مثل هذه القاعدة أكثري لا كلي ". وقد دافع الشيخ البرقوقي في شرح التلخيص عن الشيخ عبد القاهر فقال: " فإن قلت: ماذا تصنع في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (ثم ذكر الآيتين الأخريين) ؟ وقال: " قد يعدَل عما يدل على عموم السلب إلى ما يفيد سلب العموم. والسلب عام على الحقيقة للتعريض بالمخاطب. والإيماء إلى أنه شر صنفه. . فقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) . معناه: إن محبة الله لا تعم الحتالين الفخورين حتى تشمل هؤلاء. فكأَنه سبحانه يقول: لو أن محبتنا تعلقت بمختال فخور لما تعلقت بأولئك، لأن مختالهم وفخورهم شر مختال وفخور. وهكذا يقول في الآيات التي تشبه هذه الآية. وما ظاهره أنه من سلب العموم، وحقيقته أنه من عموم السلب. وهذا دفع وجيه، وتخريج مقبول ليس من السهل التقليل من شأنه فرحم الله العلماء الملهمين. * 13 - تقديم "مثل "و"غير": لى " مثل " و " غير " وضع خاص في التقديم. فهما لا يخضعان للمقاييس السابقة التي ترجح التقديم تارة، والتأخير أخرى. بل هما مقدمان دائماً تقديماً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 لازماً أو كاللازم. يقول عبد القاهر: " واستعمال " مثل " و " غير " على هذا السبيل شيء مركوز في الطباع. وهو جار في عادة كل قوم، فأنت الآن إذا تصفحتَ هذا الكلام وجدَت هذين الاسمين يُقدمان أبداً على الفعل إذا نحى بهما هذا النحو الذي ذكرتُ لك - يريد الكتاية بدون تعريض - وترى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يُقدما، ورأيتَ كلاماً مقلوباً عن جهته، ومغيَّراً عن صورته، ورأيتَ اللفظ قد نبا عن معناه، ورأيتَ الطبع يأبى أن يرضاه ". وهذا القانون الذي يخضع عبد القاهر " مثل " و " غير " تحته يتحقق بألا يراد ب " مثل "، و " غير "، غير ما أضيفتا إليه - أي أريد بهما الكناية بدون تعريض. مثل قول المتنبى يعزى عضد الدولة في أمه: مِثْلُكَ يَثْنِى المزْنَ عَنْ صَوْبِهِ. . . وَيسترِدُّ الذمْعَ عَنْ غَرْبِهِ وعبد القاهر - كما علمنا - يرجع السر في هذا التقديم إلى الطبع والعُرف اللغوي، وجاء الخطيب وأشار إلى توجيه عبد القاهر. ثم أخذ يلتمس وجهاً آخر خلاف ما ذكره عبد القاهر. وقد تابعه السعد في المطول عند حديثه عن تقديم " مثل " و " غير "، وخلاصة رأيهما: قال الخطيب في الإيضاح: " والسر في ذلك أن تقديمهما يفيد تقوى الحكم كما سبق تقديره - يريد تكرار الإسناد - وأن المطلوب بالكناية في قولنا: مثلك لا يبخل وغيرك لا يجود، هو الحكم؛ وأن الكناية أبلغ من التصريح فيما قُصِدَ بها فكان تقديمهما أعون للمعنى الذي جلبا لأجله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 ثانياً - أسباب تقديم المسند: يُقدم المسند على المسند إليه عند البلاغيين للأسباب الآتية: 1 - تخصيصه بالمسند إليه، نحو: (لكُمْ ديِنُكُمْ وَلِىَ ديِنِ) . ولهذا لم يقُدم الظرف في قوله تعالى: (ذَلكَ الكتَابُ لاَ رَيبَ فيه) . لئلا يفيد التقديم ثبوت الريب فيما عدا القرآن من كتَب الله المنزلة. 2 - للتنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا صفة، كقول الشاعر: لهُ هِمَمٌ لاَ مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا. . . وَهِمَّتُهُ الصُّغْرَى أجلُّ مِنَ البَحْرِ ومنه قوله سبحانه: (وَلكُمْ فِى الأرْضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ) . 3 - للتفاؤل به، كقول الشاعر: * سَعِدَتْ بِغُرَةِ وَجْهِكَ الأيَّامُ * وفي هذا المثال نظر حاصله: أن الاستشهاد به إنما يصلح إذا اعتبرنا الأيام مبتدأ مؤخراً، والجملة قبله خبراً مقدماً. والتقدير: الأيام سعدت بغُرة وجهك. وهذا الاعتبار ليس بلازم لجواز أن تكون الأيام فاعلاً لـ " سعدت ". فلا تقديم حينئذ؛ فالأولى بهم أن يمثلوا للتفاؤل بما لا لبس فيه. 4 - أو التشويق إلى ذكر المسند إليه كقول الشاعر: ثَلاَثَة تُشْرِقُ الدنْيَا بِبِهَجَتِهَا. . . شمسُ الضحى وَأبُو إسْحقَ والقَمَرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وقد وضع السكاكي لهذا الموضع شرطاً قال: " وحق هذا تطويل الكلام فى المسند وإلا لم يحسن ". 5 - وزاد السعد في المطول: ومما يقتضي تقديمه - أي المسند - تضمنه للاستفهام نحو: كيف زيد. أو: 6 - كونه أهم عند المتكلم. وقد نبَّه السعد على أن الصنف أهمل هذين النوعين ثم التمس له عذراً. وتقدم التخصيص يقتضي الاهتمام دائماً بالمقدم. ولذلك قدروا المحذوف فى قوله تعالى: (بسْم الله) مؤخراً ليصح تقديم الجار والمجرور. أما تقديم الفعل عليها في قَوله تعالَى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) . فقد خرج على وجهين: أولهما: أن تقديم الفعل - هنا - أولى لكونها أول سورة نزلت وهي تأمر بالقراءة. من هنا كان الفعل أولى بالتقديم. ثانيهما: وهو السكاكي: أن الجار والمجرور (بِاسْمِ رَبِّكَ) متعلق بـ: (اقْرَأْ) الثانية. ومعنى الأول: أفعل القراء. وأوجَدها. ولم يرض الخطيب رأى السكاكي، فعقب عليه بقوله: " وهو بعيد " لكنه لم يبيَن وجه بُعده. ولعله يريد بوجه البُعد طول الفصل بين العامل والمعمول. إذ بينهما جملتان. ثالثاً - تقديم بعض المعمولات على بعض: ومن أسباب هذا التقديم: 1 - أن يكون التقديم - فيما قُدم - هو الأصل، ولا مقتضى للعدول عنه، كتقديم الفاعل على المفعول. وتقديم المفعول الأول على الثاني، لأن في الأول معنى الفاعلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 أما ترتيب الفاعيل فيما بينها فقيل: الأصل تقديم المفعول المطلق، ثم المفعول به بلا واسطة حرف الجر، ثم ما كان بواسطة. ثم المفعول فيه: الزمان فالمكان. ثم المفعول لأجله. ثم المفعول معه، والأصل - كذلك - أن يذكر الحال عقيب صاحبه والتابع عقيب المتبوع من غير فاصل. وعند اجتماع التوابع فالأصل تقديم النعت ثم التأكيد ثم البدل ثم البيان. * ملاحظة: 1 - أرى أن هذا الترتيب من باب الفرض والتقدير، لأن الأساليب لا تكاد تجتمع فيها هذه المعمولات في موضع واحد. كما أنه يبدو كمنهج القواعد الجافة، والأفضل - بلاغة - أن يخضع التقديم والتأخير فيها لنفس الاعتبارات التي رأوها في المسند إليه والمسند. 2 - أو لأن ذكره أهم. وذلك حسب اعتناء المتكلم أو السامع. وهذا الاعتبار يغنى عن الترتيب الذي ذكرناه آنفاً. وقد مثلوا لذلك بقولهم: " قتل الخارجي فلان " لأن قتل الخارجى هو الأهم لا مَن قتله. وكأن يقال: قتل اللصَّ شرطيٌّ فإن خشية الناس من اللص تجعل نبأ قتله عندهم هو المطلوب لا مَن باشر القتل. 3 - وإما لأن في التأخير إخلالاً بالمعنى. . ومثلوا له بقوله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) . فلو أخر " مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ " عن " يَكْتُمُ إِيمَانَهُ " لوَقع في الوهم أنه صلة. فلم يفهم أن ذلك الرجل من آل فرعون وهو المطلوب. فقد ذكرت الآية للرجل ثلاثة أوصاف. فقدم الإيمان، لأنه أشرفها. . وأُخر " يَكْتُمُ إِيمَانَهُ " لأن في تقدمه على الثاني خللا بالمعنى وهذا توجيه سديد ليس عليه اعتراض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 4 - وإما لأن في التأخير إخلالاً بالتناسب. وقد فسَّروا هذا التناسب برعاية الفواصل، والسجع، وموافقة كلام السامع ومن أمثلتهم في رعاية الفاصلة قوله تعالى: (فَأوْجَسَ في نَفْسه خيفَةً موسَى) . حيث جعلوا تقديم الجار والمجرور والمفعول به على الفاعل " موسى " لرعاية الفواصل. لأنها مبنية على الإلف. وجعل السكاكي التقديم للعناية مطلقاً. سواء أكان من معمولات الفعل أو غيره، قسمين: أحدهما: أن يكون أصل الكلام التقديم، كتقديم المبتدأ المعرف على الخبر، وتقديم ذي الحال المعرف على الحال، وتقديم العامل على المعمول. وثانيهما: أن تكون العناية بتقديمه، إما لأنه نصب عينك كتقديم المعمول على العامل في قولك: وجه الحبيب أتمنى، لمن قال لك: ما الذي تتمنى؟ وتقديم المفعول الثاني على الأول في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) . على أنهما مفعولا " جعلوا ". فإن ذكر الله. وذكر وجه الحبيب أهم لأنه في نفسه نصب عينك. كذلك إذا توهمت أن مخاطبك ملتفت إليه منتظر لذكره، كقوله تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أُقْصَا المدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) . وكما إذا عرفت أن في التأخير مانعاً كقوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) حيث قَدمَ الحال من " قومه " عَلىَ الوصفَ " الذين كفروا " إذَ لو تأخر لتوهم أنه من صلة الدنيا، لأنها هنا اسم تفضيل من الدنو وليست اسماً، والدنو يتعدى بـ " من ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 * مناقشة الخطيب له: وناقش الخطيب كلام السكاكي بما حاصله: أولاً: أنه جعل تقديم " لله " على " شركاء " للعناية والاهتمام وليس كذلك. لأن الآية مسوقة للإنكار التوبيخى. فيمتنع أن يكون تعلق " جعلوا " بالله منكراً على الإطلاق بل باعتبار تعلقه بـ " شركاء ". وما قيل فى ب " الله " يقال كذلك في " شركاء "، لأن المنكر تعلقه بهما لا بأحدهما. فلا فرق إذن بين التلاوة وعكسها. فإذا قُدم أحدهما على الآخر فلا يصح تعليل التقديم بالعناية. وهذا نقد وجيه نحمده للخطيب. ومنه ندرك إلى أي مدى كان السكاكي واهماً. * * * تقديم المفعول به: كما عنوا بحذف المفعول به، عنوا بتقديمه كذلك. حتى صارت لهذا المفعول عندهم منزلة خاصة في بحوثهم. ويُقدم المفعول به على فعله لثلاثة أغراض: أولاً: أن يكون لرد الخطأ في التعيين كقولك: فلان عرفت، وهذا المثال صالح لجميع أغراض القصر. قلباً وإفراداً وتعييناً. ثانياً: أن يكون لتأكيد الحكم دون قصره. وذلك كقولنا: محمداً أكرمته، وهذا المثال صالح لاحتمالين: (أ) أن يفيد التوكيد وجهاً واحداً. وذلك إذا قُدر المحذوف قبل المنصوب: أكرمت محمداً أكرمته. (ب) أن يفيد التخصيص لأن المحذوف المقدر كالمذكور إذا قُدِّر المحذوف بعد المنصوب. فيكون التقدير: محمداً أكرمت أكرمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 ولهذا جزم السكاكي بإفادة التقديم التخصيص في قوله: (وَأمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) . فيمن قرأ بنصب " ثمود ". وذلك لامتناع تقدير المحذوف قبل المنصوب لالتزام النجاة فاصلاً بين " أما " و " الفاء " ولو قُدَِّر كذلك فات ذلك الالتزام ووقع المحظور. * * * تقديم المفعول للإنكار: ثالثاً: أن يكون لإنكار الفعل على معنى: لا ينبغي أن يكون. وقد أفاض الإمام عبد القاهر في تحليل هذا الموضوع في أسلوب أدبي آسر، قال - وكلامه فى الهمزة: " وقد تكون إذ يراد إنكار الفعل من أصله، ثم يخرج اللفظ مخرجه ". وبعد أن أورد أمثلة لتقديم الفاعل، شارحاً وموضحاً لمذهبه، يورد كذلك أمثلة لتقديم المفعول والياً الهمزة فيقول: " ونظير هذا - أي نظير تقديم الفاعل - قوله تعالى: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ) . أخرج اللفظ مخرجه إذا كان قد ثبت تحريم في أحد أَشياء. ثم أريد معرِفة عين المحرم، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله، ونفى أن يكون قد حُرِّم شيء بما ذكروا أنه محرم وذلك إن كان الكلام وضع على أن يجعل التحريم كأنه قد كان ثم يقال لهم: أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيمَ هو؟ أفى هذا أم ذاك؟ أم في الثالث؟ ليتبين بطلان قولهم، ويظهر مكانَ الفرْيَةِ منهم على الله ". وقريب من هذا قوله: " واعلم أن حال المفعول - فيما ذكرنا - كحال الفاعل. أعنى تقديم الاسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في طريق الإحالة والمنع، من أن يكون بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل فإذا قلت: أزيداً تضرب؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 كنت قد أنكرت أن يكون زيد بمثابة أن يُضرب أو بموضع أن يُجترأ عليه. ويستجاز ذلك فيه. ومن أجل ذلك قدم " غير " في قوله تعالى: (قُلْ أغَيْرَ الله أتخِذُ وَلِيًّا) . وقوله تعالى: (أغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) . وكان له من الحسن والفخامة ما تعلم أنه لا يكون لو أخر فقيل: أأتخذ غير الله ولياً؟ . . أتدعون غير الله؟ وذلك لأنه حصل بالتقديم معنى قولك: أيكون غير الله بمثابة أن يتخذ ولياً؟ و: أيرضى عاقل من نفسه أن يفعل ذلك؟ و: أيكون جهل أجهل وعمى أعمى من ذلك؟ ولا يكون شيء من ذلك إذا قيل: " أأتخذ غير الله ولياً. وذلك لأنه حينئذ يتناول الفعل أن يكون فقط ولا يزيد على ذلك فاعرفه ". وهذا البحث جزء من بحث رائع جداً خطه الإمام عبد القاهر فيما يلي همزة الاستفهام من فعل أو فاعل أو مفعول أو غيرها. وحاصل مذهبه - في كل أولئك - أن الهمزة يجب أن يليها المسئول عنه. والمقرر به من فعل أو اسم. والمعنى يختلف باختلاف المقدم الوالى لهمزة الاستفهام. هذا في التصور دون التصديق. لأن أجزاء الجملة في التصديق لا يختص شيء منها فضل اختصاص بالمعنى حتى يكون تقديمه وإيلاؤه الهمزة واجباً. هذه خلاصة سريعة لنهج البلاغيين في التقديم. وقد رأينا أنهم يهتمون بتقديم المسند إليه، والمسند، والمعمولات، ومنها المفعول به. . ولا يزيدون على ذلك. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ثانياً: منهج ابن الصائغ في التقديم ذكر هذا المنهج السيوطي في المعترك، وهو بصدد تقسيم التقديم. وقد قسمه إلى قسمين: أحدهما: ما أشكل معناه، بحسب الظاهر، فلما عرف أنه من باب التقديم والتأخير اتضح. وقد أورد على هذا القسم بعض الأمثلة من القرآن الكريم. ومنها ما حكاه عن ابن أبى حاتم عن قتادة في قوله تعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . قال - يعني قتادة -: هذا من تقديم الكلام يقول: " لا تعجبكَ أموالهم ولا أولادهم فى الحياة الدنيا. إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الآخرة ". وحكى عن قتادة - كذلك - أنه قال في قوله تعالى: (إنِّى مُتَوَفِّيكَ ورَافِعُكَ إليَّ) : هذا من المقدَّم والمؤخر، أي: " رافعك إليَّ ومتوفيك ". وحكى عن عكرمة أنه قال في قوله تعالى: (لهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحِسَابِ) : هذا من التقديم والتأخير. يقول: لهم يوم القيامة عذاب شديد بما نسوا. ونُسبَ إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: (فَقَالُواْ أرِنَا الَلهَ جَهْرَةً) ، أي: " إنما قالوا جهرة أرنا الله " قال ابن جرير: يعني سؤالهم كان جهرة. كما حكى عن ابن عباس - أيضاً - أنه قال في قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) الأصل: هواه إلهه. لأن مَن اتخذ الله هواه غير مذموم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 ويبدو أن السيوطي كان مأخوذاً بهذا النوع من التقديم، لأنا نراه يقول معقباً عليه: " وهذا جدير أن يُفرد بالتصنيف ". والذي يأخذه الباحث عليهم في هذا القسم، أنهم يكتفون ببيان ما في العبارة من تقديم، ولم يذكروا وجه وسر ذلك التقديم، ولماذا خولف فيه الأصل. فمثلاً قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) قالوا: إن فيها تقديماً وتأخيراً. . وهذا صحيح على بعض الآراء. لكنهم لم يبينوا لماذا قدمت التوفية على الرفع؟ ويمكن التوصل إليه. والذي أراه أن السر في ذلك: هو أن الرفع إلى الله لما كان موهماً لانتفاء حلول الموت بعيسى عليه السلام لو قُدِّم على التوفية. أراد الله أن يقطع ذلك الوهم ابتداءً فقدم التوفية على الرفع. دفعاً لذلك الوهم، والقسم الثاني عند السيوطي عرَّفه بقوله: ما ليس كذلك ثم أشار إلى أن العلامة شمس الدين بن الصائغ الحنفي وضع فيه كتاباً سماه " المقدمة فى أسرار الألفاظ المقدمة " وقال في مقدمته: " إن الحكمة الشائعة الذائعة فى ذلك الاهتمام - أي في التقديم - كما قال سيبوبه في كتابه: كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم، وهم ببيانه أعنى. وهذه الحكمة إجمالية. وأما أسباب التقديم وأسراره فقد ظهر لي منها في الكتاب العزيز عشرة أنواع ". إذن فما هي تلك الأسباب كما يراها ابن الصائغ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 هى كالآتى: 1 - التبرك: كتقديم اسم الله في الأمور ذوات الشأن. ومنه قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) . وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) . 2 - التعظيم كقوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) . * * تعقيب: إن الباحث لا يرى فرقاً بين ما ذكره المؤلف من أمثلة على التبرك، وما ذكره من أمثلة على التعظيم. والأولى في مثل هذه الأمثلة أن يكون التقديم فيها لأصالة المقدَّم في الوصف الذي من أجله سيق الحديث. ولا شك أن شهادة الله أكبر شأناً من شهادة الملائكة. وشهادة الملائكة أكبر شأناً من شهادة العلماء لقريهم من الله وفرط طاعتهم له. كما أن طاعة الله من طاعة الرسول. فقدم في الموضعين ما هو آصل في بابه. * 3 - التشريف: وقد ذكر ابن الصائغ كثيراً من الأمثلة تطبيقاً على هذا القانون منها قوله تعالى: (إن المسْلمينَ والمسْلمَاتِ) . حيث قدم الذكر لشرفه على الأنثى. وقوله تعالَىَ: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) ، حيث قدَّم الحر على العبد لَشرفه، ويمكن اعتبار تقديم الذكر على الأنثى في: (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 ومنه تقديم الخيل على البغال والحمير، والبغال على الحمير في قوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) . والحي على الميت في قوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) . ومنها كذلك تقديم السمع على البصر في قوله تعالى: (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أبْصَارِهِمْ) . وقوله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) . * تعقيب: قد أطرد تقديم السمع على البصر وما يجرى مجراه في القرآن الكريم - سواء أكان الكلام في شأن الخالق، أو شأن المخلوقين. وقد تقدم أمثلة ما الكلام فيه في شأن الناس. ومنه قوله تعالى: (إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ) . وكذلك في شأن الله ومنه قوله تعالى: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وقال سبحانه: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 * ملحظ مهم فات ابن الصائغ: وليس تقديم السمع مقصوراً على البصر. فقد قُدم على العلم - كذلك - وهذا لم يتنبه له ابن الصائغ. والمتتبع لمواضع تقديم السمع على العلم وما جرى مجراه في القرآن يجد أنها اثنان وثلاثون موضعاً. هي كل ما جاء فيه. وهي فى المواضع الآتية: سبعة في البقرة آيات: 127، 137، 181، 224، 227، 244، 256، وثلاثة في آل عمران آيات: (34، 35، 121، وواحدة في النساء آية: 148، وواحدة في المائدة آية: 76، واثنان في الأنعام آيتا: 13، 115، وواحدة في الأعراف آية: 200 وأربعة في الأنفال آيات: 17، 42، 53، 61، وموضعان في التوبة آيتا: 98، 103، ثم يونس: 65، ويوسف: 34، والأنبياء: 4، وموضعان في النور: 21، 60، ثم الشعراء: 220، وموضعان في العنكبوت: 5، 60، ثم فصلت: 36، والدخان: 6، والحجرات: 1 وكما قُدِّم السمع على البصر وما جرى مجراه، وكما قُدِّم على العلم، قُدِّم ذلك على القُرب في قوله تعالى: (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) . هذا ما يقف عليه الباحث في تقديم السمع على ما سواه. وقد فات ابن الصائغ وهو يقرر تقديم السمع على البصر. لأنه أشرف منه. فاته تقديم السمع على العلم، وعلى القُرب. وهو يؤخذ عليه. كما لا نُسلِّم له أن التقديم هنا من باب تشريف المقدَّم على المؤخر دون أن يحتمل المقام تفسيراً آخر. ونحن نحاول ذلك فيما يأتي: * سر هذا التقديم: فتقديم السمع على البصر لكونه أهم منه، لأن ما يحصل من ضروب المعرفة عن طريق السمع لا يحصل عن البصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 والبصر يتوقف في تحصيله للعلم على وسائط لا يتوقف عليها السمع. وكم من أناس فقدوا نعمة الإبصار فلم يقعدوا عن طلب العلم بل كانوا من المبرزين فيه. يقول " جوبو ": " ولعل في إمكان الشاعر الذي وُلدَ أعمى أن يرسم بشعره صوراً ملونة إلى أبعد حد. رغم أنه لا يعتمد إلا على إحساسات اللمس والسمع والشم. على الإحساس بالحياة على العواطف والأفكار. إن جمال الشمس لا يقوم على النور وحده. . ولقد قال أحد العميان: إنى لأسمع الشمس لحناً جميلاً. وأما السمع الذي أوجد أرفع الفنون (الشعر والموسيقى والبلاغة) فإنه يدين بأرفع مزاياه الجمالية للصوت. لكونه خير وسيلة للتفاهم بين الكائنات الحية التي قد أكسبته قيمة اجتماعية. ونحن نعلم أن بشاراً كان أعمى. . . ومع ذلك فإنه صاحب البيت المشهور الذي يمثل به البلاغيون للتشبيه التمثيلي فلا يكاد يتكرر مثله في موضوعه. وهو: كأن مَثَارَ النَقْع فَوْقَ رُءُوسِنَا. . . وَأسَيَافَنَا ليْلٌ تَهاوَى كواكِبُه فهل أبصر بشار أجزاء هذه الصورة البديعة. واللوحة الخالدة؟ لا. . ولكن أحسها فأخرجها أجمل إخراج. * * * مقارنة بين ثلاثة نصوص: ولقد قارن عبد القاهر الجرجاني بين بيت بشار هذا وبين بيتى المتنبي وعمرو ابن كلثوم، وهما مبصران. ففضَّل بيت بشار على بيت المتنبي الذي يقول فيه: يَزُورُ الأعَادىِ فِى سَمَاءٍ عَجَاجَة. . . أسِّنَتُهُ فِى جَانِبَيَها الكَواكِبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 كما فضَّله على بيت عمرو الذي يقول فيه: تَبْنِي سَنَابِكُهَا مِنْ فَوْقِ أرْؤُسِهِمْ. . . سَقْفاً كَوَاكِبُهُ البِيضُ المبَاتِيرُ الشعراء الثلاثة متحدون في الغرض. لأن كل واحد منهم يُشبه لمعان السيوف في الغبار بالكواكب في الليل. وفي تفوق قول بشار يقول عبد القاهر: ". . إلا أنك تجد لبيت بشار من الفضل ومن كرم الوقع، ولطف التأثير فى النفس ما لا يقل مقداره، ولا يمكن إنكاره. وذلك لأنه راعى ما لم يراعه غيره. وهو أن جعل الكواكب تهاوى فأتم التشبيه. وعبَّر عن هيئة السيوف، وقد سُلتْ من الأغماد، وهي تعلو وترسب. وتجيء وتذهب. ولم يقتصر على أن يريك لمعانها في أثناء العجاجة كما فعل الآخران. . ". وبشار نفسه يقول: يَا قَوْم أذُنِى لِبَعْضِ الحَى عَاشِقَةٌ. . . وَالأذُنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أحْيَانا قَالوا: بِمَنْ لاَ تَرَى تَهْذِي فَقُلتُ لهُمْ. . .الأذُنُ كَالعَيْنِ تُوفِى القَلبَ مَا كَانَا وأروع من هذا قوله: إنْ تَكُ عَيْنِى لا تَرى وَجْهَهَا. . . فَإنهَا قَدْ صُورَتْ فِى الضميرِ ويقول المازني عن بشار: " وإن كان من المعقول إذا تعطلت جارحة أن تقوى الأخرى، أو كما يقول بشار نفسه: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب. ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء. فيتوفر حسه. وتذكو قريحته ". * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 * ملحظ آخر فات ابن الصائغ: ويؤخذ على ابن الصائغ - هنا - مأخذ ثان. حاصله أن كلامه في تقديم السمع على البصر يُشعر بأن ذلك مطرد في الذكر الحكيم، وليس كذلك. فقد جاء البصر قبل السمع في مواضع نذكر منها ما يأتي: أولاً: قوله تعالى في سورة الكهف: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) . وقوله في سورة الأعراف: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) . وقوله في الكهف أيضاً: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) . وقوله في سورة الإسراء: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) . هذه أمثلة لم يتنبه لها ابن الصائغ. إذن فلو كان تقديم السمع على البصر لشرف السمع على البصر دون اعتبار آخر لاقتضى ذلك تقديمه في كل موضع اجتمعا فيه ولما تخلف منها موضع واحد لعدم تخلف العِلَّة في التقديم. فالناظر في آيات الكتاب الحكيم يجد: (أ) تقديم السمع على البصر في الأغلب بما يقرب من الأصل. (ب) تقديم البصر على السمع فيما قَلَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 يقول الدكتور عبد الغني الراجحي موجهاً هذه الظاهرة ما خلاصته: " والقاعدة التي انتهينا إليها بعد طول النظر والبحث أنه بالنسبة للخلق والعباد وفي مقام ذكر حواسهم والاستفادة بها، وفيما يوحى إليهم من الرسالات، أو عدم الانتفاع بها في هذه المجالات يتقدم السمع على البصر، لأن الوليد يكتمل تمييزه بسمعه قبل بصره، ولأن المسموعات من جميع الجهات. والمرئيات من جهة واحدة. ولأن الانتفاع بالسمع في مقام الهدايات والنبوات أكثر. هذا بالنسبة للعباد لا يكاد يتخلف فيأتي البصر قبل السمع إلا لملحظ بلاغي ". ثم يُخرًج الراجحي الآيات التي قُدم فيها البصر على السمع تخريجاً لا يخالف عليه. . ثم يقول: " أما بالنسبة إلى الله جلَّ جلاله فالأمر فيه على خلاف البَشر لا ترتيب ولا تفاوت عنده بين المسموعات والمبصرات، فإذا جاء البصر متقدماً على السمع - كما في سورة الكهف - أو جاء السمع مُقدماً على الرؤية - كما في سورة طه - فلا غضاضة في ذلك لا سيما إذا كان كل واقعاً موقعه لمناسبات لفظية ومعنوية تقضي بذلك ". وقد خولف هذا الأصل - شأنه شأن كل الأصول - لاعتبارات مناسبة، فقوله تعالى في سورة الكهف: (أبَصرْ به وَأسْمِعْ) قد تقدم عليه قوله: (لهُ غَيْبُ السماوات وَالأرْضِ) وَالغيب شامل للمبصرات والمرئيات والمسموعات وغيرهما، لكن ما غاب من المخاطب من مبصرات السموات والأرض - إذ هو الكون كله وما وقع عليه بصر المخاطب من حيز ضيق محدود - أكثر بهذا الاعتبار مما غاب عنه من مسموعات. . لذلك اقتضى المقام الإتيان بالبصر مقدماً على السمع. وقوله تعالى فيها أيضاً: (الَّذِينَ كَانَتْ أعْيُنُهُمْ فِى غطاءٍ عَن ذكْرِي وكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) . حيث قدم البصر على السمع على خَلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 الأصل. لأن هذه الآية تقدم عليها قوله تعالى: (وَعَرَضْنَا جَهَنمَ يَوْمَئذ للكَافِرِينَ عَرْضاً) أي عرضناها ليروها. فناسب ذلك تقديم البصر على السمع. وأما قوله تعالى في سورة الأعراف: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) . حيث قدم الأعين على الآذان. فلأنه - َ سبحانه - شبههم بالأنعام فأخر السمع ليكون مجاورا لتشبيههم بها. لأن الأنعام لا تختلف رؤيتها للأشياء عن رؤية الإنسان لها. وإنما يقع التخالف في السمع إذ لا يميز الحيوان بين النصح وغيره من الأقوال ولا تثمر فيه النُذُر. بقي تقديمه في سورة الإسراء في قوله تعالى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَة عَلى وُجُوههمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) ، حيث قدم العمى الذي هو ضدَ الإبصار، وَأخَر الصمم الذي هو ضد السمع. فذلك لمناسبة الحشر على الوجوه لأن مَن أُلقى على وجهه ثم سُحبَ عليه لم يبصر شيئاً ولم يستطع أن يتكلم بكلام مسموع فتأخذه دهشة الهول فَلا يكاد يسمع مما حوله شيئاً. وعلى هذا النسق العجيب جاءت الآية الحكيمة. * خطأ وقع فيه ابن الصائغ: وبهذا يستبين الخطأ الذي وقع فيه ابن الصائغ. وشيء آخر. . . . . . وأنا لا أريد أن أذكر كل ما ساقه ابن الصائغ من أمثلة قدم فيها الأشرف على غيره . . . وإنما أتناول بالذي والتفصيل ما جانبه فيها الصواب. . ولذلك فإن هناك خطأ آخر نأخذه عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وهو أنه قرر أن الإنس يُقدم على الجن في القرآن الكريم في كل موضع وردا فيه لشرف الإنس على الجن!! وهذا خطأ أيضاً. . وليتضح لنا وجه هذا الخطأ نذكر استعمالات القرآن للجن والإنس مجموعين في سياق واحد. قال سبحانه: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) . (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) . (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) . (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) . (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) . (أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) . (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ً (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) . (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) . (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) . (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) . (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 هذه اثنتا عشرة آية جاء الجن والإنس، أو الجِنةِ والناس، مجموعين فيهما فى سياق واحد. مقدماً فيه الجن على الإنس، والجِنة على الناس. . وهذا يهدر ما ذهب إليه ابن الصائغ من أساسه. وهناك مواضع قُدِّم فيها الإنس على الجن وهي: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) . (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) . (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) . (وكَذَلكَ جَعَلنَا لِكُل نَبِى عَدُوا" شَيَاطينَ الإنسِ والجِن) . (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) . وهذه ست آيات أورد القرآن فيها الإنس والجن أو الجان مجموعين في سياق واحد مُقدَّماً فيه الإنس على الجن، وعلى الجان. * * * عرض ونقد وتحليل: وبمقارنه يسيرة بين الطائفتين يتضح أن ورود الجن مقدَّماً على الإنس فى القرآن الكريم أكثر كثرة نسبتها 2 - 1، أو 12 - 6 فكيف ساغ لابن الصائغ أن يزعم أن الإنس يأتي مقدَّماً على الجن في القرآن الحكيم في كل موضع اجتمعا فيه؟!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وكيف جاز للسيوطي أن يتابعه على هذا. وهو العالِم المحرر المدقق، دون أن يشير إلى وجه الخطأ فيه؟. وحتى في المواضع التي قُدم فيها الإنس على الجن لا يستقيم قول ابن الصائغ أن التقديم فيها لتشريف المقدَّم. وإلا فأى تشريف يعود على الإنس في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) . إن تحرير القول في هذه المواضع أن يدار الأمر فيها من حيث التقديم والتأخير على غير هذا الوجه الذي ذهب إليه ابن الصائغ. ونحن نُخرِّج مثالين منها من كل طائفة مثال على خلاف ما ذكره هو من تفسير لكون ذلك مقياساً لما بقي من أمثله: المثال الأول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) . فى هذه الآية قُدم الإنس على الجن. . لماذا؟ ليس للتشريف قطعاً - كما يرى ابن الصائغ - لأن المقام ليس مقام تشريف وهذا ظاهر. إذن فما هو الوجه اللائق لتفسير هذا التقديم؟ والذي أراه - وأرجو أن يكون سديداً - أن سر التقديم هنا: لأن عداوة الإنس للرسل ظاهر أمرها. وعنادهم لهم لا يحتاج إلى دليل. تحدث عن ذلك القرآن مبيِّناً الصراع الطويل بين قُوَى الهداية والخير متمثلة في الرسل، وقُوَى الضلال والشر متمثلة الناس المخالفين لدعوة الرسل. فبنو إسرائيل - مثلاً - وهم من الإنس تمردوا على الرسل وقتلوهم. ولم تقتل الجن رسولاً أو نبياً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 هذا الظهور في عداوة الإنس للرسل جعلهم أصلاء في هذا المقام جديرين بالتقديم فيه. أما عداوة الجن للرسل فهى مساع وحيل متخفية، يدركها العقل ولا تدركها الحواس، فهى - بهذا الاعتبار - تأتي في المرحلة الثانية بعد عداوة الإنس للرسل والتمرد عليهم وقتلهم. فالتقديم - إذن - ليس للتشريف. بل لأن المقدَّم أكبر شأناً من حيث اتصاله بالحقيقة التي سيق من أجلها الكلام. الموضع الثاني: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) وفي هذا الموضع قُدمت الجنة على الناس. لأن المقام يقتضي ذلك. المقام هنا وسوسة خفية. وإغراء متسَتر، والجن - حيث يروننا ولا نراهم - أقدر على هذه الوسوسة، وهي بهم أليق. إغراء خفى. ومغر أشد خفاء. على هذا النهج الذي خرجنا عليه المثالين يجب أن نفهم التقديم والتأخير في هذه المواضع وما أشبهها. لا على ما ذهب إليه ابن الصائغ لأنه يحجر على التذوق الحر، والبحث الجاد في توجيه الظواهر الفنية. وهو أمر ليس بمقبول. أما تقديم السمع على العلم. فذلك - فيما أرى - من باب تقديم السبب على السبب لأن السمع سبب من أسباب العلم، أو من تقديم الخاص على العام. وأما تقديم السمع على القُرب في الموضع المذكور فهو لا يبعد أن يكون من قبيل الترتيب الطبيعي بين الأشياء، لأن مَن يُدعى فيستجيب يقرب من الداعي الذي دعاه. ويرى ابن الصائغ أن تقديم " هارون " على موسى، وموسى أشرف من هارون، إنما هو مخالف للأصل. وعزاه إلى مراعاة الفواصل. وقد رددنا على هذه الشُّبهة من قبل في مبحث الفواصل. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 * رأي صائب: وقد وفق ابن الصائغ أيما توفيق في توجيه التقديم في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) فقد حمل التقديم في " أنعامهم " على " وأنفسهم " حيث تقدم ذكر الزرع، وهو مرعى الأنعام، وقد جاء على الأصل في آية عبس: (مَتَاعاً لكُمْ وَلأنْعَامكُمْ) لأن سياق الهديث فيه طعام الإنسان. حيث قال سبحانه: (فَليَنطرِ الإنسَانُ إلى طعَامِهِ) . ولأن الآية تقدم فيها كلمة (متاعاً) وهذا يقتضي تقديم مَن هو أكثر تذوقاً للمتاع وفهماً له. وهو الناس. * * * السموات لم تُقدَّم على الأرض دائماً: ويرى كذلك تقديم السموات على الأرض من أجل شرف السماء. . ويُرَد عليه أن الأرض جاءت مقدمة على السموات في مواضع منها: (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) . ولعله يقول: إن التقديم هنا لمراعاة الفواصل - وحتى لو سلمنا له بذلك - فإنه زعم أن السموات في القرآن - دائماً - مقدمات على الأرض وهذا يخالفه! * 4 - المناسبة، وقد جعلها نوعين: الأول: مناسبة المقدَّم لسياق الكلام ومن أمثلته عنده الآيات الآتية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) ، ولم يكتف فى هذا الموضع بذكر المثال بلَ حلله فقال: ". . لأنها حالة إراحتها آخر النهار يكون الجمال بها أفخر، إذ هي بطان، وحالة سراحها للمرعى يكون الجمال بها دون الأول. إذ هي فيه خماص ". ويؤيد الرمخشري هذا التوجيه، ويكاد أن يتفقا في العبارة. أما النوع الثاني: فهو مناسب لفظ لما له من التقدم نحو: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) . وقوله: (لهُ الحَمْدُ فِى الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) . أما قوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى) فالتقديم - عنده - لمراعاة الفواصل. وقد وردت " الآخرة " مقدمة على " الأولى " في المواضع الآتية: (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى) . (فَأخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةُ وَالْأُولَى) . (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى) . وقد علمنا تصرف ابن الصائغ فيما يخالف قاعدته أن يحمله على مراعاة الفواصل كما مَرَّ. 5 - الحث عليه: ومن أبرز أمثلته عنده تقديم الوصية على الدَّيْن في قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وحُجَّته أن الوصية ضعيفة فلو أُخِّرَت لتهاون الَناس في أمرهم فُقدِّمت للحث عليها. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 6 - السبق: إما باعتبار الإيجاد كتقديم الليل على النهار. قال سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) وإما باعتبار الإنزال كقوله تعالى: (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ. .) . أو باعتبار الوجوب والتكليف كقوله تعالى: (اركَعُواْ واسْجُدُواْ) . وقوله: (فَاغْسِلواْ وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ) . ولو قال هنا: من حيث الوجود الفعلي لكان أنسب. أو باعتبار الذات، كقوله تعالى: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) . وقوله: (مَا يَكُونُ من نجْوَى ثَلاَثَة إلا هُوَ رَابعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادسُهُمْ) . أَما قوله تعالى: (أن تَقُومُواْ لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكرُواْ. .) . فقد علله بأنه للحث على الجماعة والاجَتماع على الخير. وكان الأولى أن يعتبر التقديم - هنا - باعتبار الوقوع التنجيزى لأن الرجل لا يكون زوجاً لاثنتين حتى يكون - قبلاً - زوجاً لواحدة. . وهكذا في البواقى. أو يكون التقديم باعتبار الترتيب المَصاعدى. أو من باب تقديم الأقل على اكثر، والوجه الأولى - مما ذكرناه نحن - أقوى هذه الوجوه جميعاً. 7 - السببية: كتقديم " العزيز " على " الحكيم "، لأنه عزَّ فحكم. و" العليم " على " الحكيم "، لأن الإحكام والإتقان ناشئان عن العلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 قال: وأما تقديم " حكيم " على " عليم " في الأنعام. فلأن المقام تشريع الأحكام ومنه تقديم العبادة على الاستعانة في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) . وذلك لأنها سبب حصول الإعانة. ويتفق ضياء الدين بن الأثير مع ابن الصائغ فى هذا التوجيه. * تقديم ذو وجهين: ويخالفهما العز بن عبد السلام إذ يقول. " وقدم (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على (إِيَّاكَ نَسْتَعينُ) - لأن (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) - خبر بمعنى الدعاء فيكون من التصف المختَص بالعبد. والعبادة مختصة بالله تعالى فقدم (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ليقع ما لله في نصفه، وما للعبد في نصفه. أو قُدم اهتماماً بالعبادة لأنهم يُقدِّمون الأهم ". فالتقديم هنا عند العز محتمل لوجهين: أن يكون لما بينه من جَعْل ما لله لله، وما للعبد للعبد. وهذا التوجيه تبدو فيه روح عبد السلام فقيهاً محدثاً. أن يكون التقديم من أجل أهمية العبادة على الاستعانة. وهنا يبدو هو بلاغياً متذوقاً. 8 - الكثرة على القلة: ومن أمثلته عنده قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) . قَذم " الظالم " لكثرته، ثم " المقتَصد " ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 " السابق ". وجعل منه تقديم السارق على السارقة والزانية على الزاني لأن السارق أكثر من السارقة، والزانية أكثر من الزاني. ويرى العلامة أبو السعود في تفسيره: أن المرأة هي الداعية إلى الزنا وبها تتعلق الرغبات. . لذلك قُدِّمت. والذي أراه: أن تقديم السارق على السارقة لأن معرَّة السرقة في الرجل أكبر شأناً منها في المرأة. . لأنه المكلف بجلب الرزق لنفسه ولمن يعول. فوقوعه فى السرقة قدح في قُدرته. وتقصير في مهمته. فكان حرياً به وهو الرجل القادرعلى العمل والكدح أن لا يفعل ما يقعد به عن الشرف والكرامة. وأما تقديم الزانية. . فلأنها أيضاً تلحقها من المعرَّة منه ما لا يلحق الزاني، فقد يترك بها الزنا علامات مادية كزوال البكارة والحمل السفاح وما إلى هذه الاعتبارات، فقدم في كل موضع ما يناسبه باعتبار ما ذكرناه، والنكات - كما يقولون - لا تتزاحم، فقد يكون المراد بالتقديم جميع ما سبق ما دام لا تناقض أو تنافى بينهما. 9 - الترقى من الأدنى إلى الأعلى: وقد مثل له بأمثلة كثيرة منها قوله تعالى: (ألهُمْ أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أمْ لهُمْ أيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا) . قال: بدأ بالأدنى لغرض الترقي. لأن اليد أشرف من الرِجل، والعين أشرف من اليد، والسمع أشرف من البصر. 10 - التدلي من الأعلى إلى الأدنى: ومن أمثلته - عنده - قوله تعالى: (لاَ يُغَادرُ صَغِيرةً وَلاَ كَبِيرَةً إلَّا أحْصَاهَا) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 * مقارنة بين المنهجين: عرضنا - في إيجاز - نظريتين في التقديم، إحداهما نظرية البلاغيين، والثانية نظرية ابن الصائغ. ونخلص الآن إلى الموازنة بينهما. أولاً - نظرية البلاغيين تشمل كل أنواع الكلام سواء أكان قرآناً أو حديثاً. أو شعراً، أو نثراً. فهى تنظر في جميع الأساليب بلا خلاف. أما نظرية ابن الصائغ فإنها خاصة بالتنزيل الحكيم، ولم يُمثل لها من غير آياته. وبهذا فإن نظرية البلاغيين أهم وأجدى لشمولها وعدم اختصاصها بنوع معيَّن من القول. ثانياً - يؤخذ على ابن الصائغ عدة أمور: (أ) إهماله أسباباً هامة لم يتعرض لها، وهي التقديم الذي يفيد الاختصاص وهذه وظيفه هامة جداً خاصة في دراسة التقديم في القرآن الكريم الذي قصر همه عليه. وهذا قصور ظاهر. (ب) أنه لم يلتزم الدقة في وضع القواعد، والتمثيل لها. وقد رأينا خلطه فى التمثيل للنوعين الأولين اللذين هما التبرك والتعظيم. كما أننا لم نجاره فى ما ذكر من أمثلة عليه باعتبار وجه السر فيها والتمسنا وجهاً آخر للتقديم غير ما ذكره هو. (ب) ورأينا خطأه حين زعم أن الإنس يُقدم على الجن في القرآن في كل موضع ذكِر فيه لأن الإنس أشرف من الجن. وقد أثبتنا اثني عشر موضعاً جاء فيها الجن مقدماً على الإنس على خلاف ما ذكر هو. كما أننا التمسنا وجهاً للتقديم فيها على غير ما ذهب إليه هو. ومثل ذلك الخطأ الذي وقع فيه أنه زعم أن السمع يُقدم على البصر في القرآن وأن سر التقديم هو التشريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وقد أثبتنا مواضع لم يتنبه إليها هو قُدم فيها البصر على السمع. وقد خرجنا تلك الأمثلة على غير الوجه الذي ادعاه. وقد سبقنا أحد الباحثين إلى شيء من ذلك أشرنا إليه في موضعه. ثالثاً: أنه كما أهمل التقديم المفيد للاختصاص حصر بحثه في نوع معيَّن هو الأسماء والصفات المرتبطة ارتباطاً عطفياً. ولم يشر من قريب أو بعيد إلى تقديم المسند إليه، أو المسند، أو المفعول به، أو متعلقات الفعل مما عنى به البلاغيون عناية فائقة. وحتى عندما يذكر مثالاً على ما يراه من قاعدة فإنه يكتفى بعرض المثال دون تحليل، اللهم إلا فيما ندر كتوجيه تقديم الأنعام على ضمير المخاطبين، وقد وُفِقَ فيه، وكتوجيه تقديم الوصية على الدَّيْن، وقد وُفِقَ فيه كذلك. رابعاً: أن نظريته تعتمد على قواعد عامه تفتح باباً من الخلاف معه عند التطبيق - كما رأينا - أما البلاغيون فقد بنوا نظرتهم على أسس وقواعد فنية يقل أو ينعدم الخلاف معهم فيها عند التطبيق. خامساً: أنه بحسب طبيعة منهجه - فاته الكثير من مظاهر التقديم فى القرآن كتقديم السمع على العلم. وقد خلا منهجه من الإشارة إليه مع كثرة ما سرد من أمثله في باب التشريف بالذات. سادساً: ويؤخذ عليهما معاً - البلاغيين وابن الصائغ - أنهم يجعلون مراعاة الفواصل سبباً في التقديم، وهذا اعتبار لفظي فحسب لا يليق أن نفهم على أساسه روائع التعبير في القرآن الكريم وحسب ابن الصائغ أنه مجتهد، والمجتهد لا يخلو من الأجر - إن حسنت النية - أخطأ أو أصاب، ويين الأجرين فرق ما بين الصواب والخطأ. سابعاً: ويؤخذ على البلاغيين أنهم أهملوا كثيراً من مظاهر الأسلوب فلم يتعرضوا لها تعرضاً كافياً، ولم يدخل شيء منها في حسابهم. مثل تقديم الوصية على الدَّيْن لأنه ليس بمسند إليه ولا مسند، ولا مفعول به، ولا ظرفاً. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 ومثل تقديم السمع على البصر - مما عنى به ابن الصائغ - فلكل من النظريتين مزايا وعيوب، ونحن في الكشف عن أسرار التقديم في القرآن الكريم محتاجون إلى النظريتين معاً. وإلى غير هاتين النظريتين، من كل ما يعيننا على فهم التقديم في القرآن الكريم. هذا ما يمكن أن يقال عن نظريتى البلاغيين، وابن الصائغ. ولنعرض الآن - فى إيجاز أيضاً - كلا من نظرية ابن الأثير، ونظرية المفسربن في التقديم. * * * ثالثاً: منهج ابن الأثير في التقديم يقسم ابن الأثير التقديم إلى قسمين: الأول، وسماه: ما يختص بدلالة الألفاظ على المعاني. ولو أخر المقدم، أو قدم المؤخر لتغير المعنى. الثاني، وسماه: ما يختص بدرجة التقديم في الذكر. لاختصاصه بما يوجب له ذلك. والأول عنده نوعان: أ - ما يكون التقديم فيه هو الأبلغ، كتقدم المفعول به على الفعل، وتقديم الخبر على المبتدأ، وتقديم الظرف أو الحال أو الاستثناء على العامل. وقد مثل لها بأمثلة مصنوعة، وهذا النوع يفيد عنده الاختصاص مرة، ومراعاة نظم الكلام مرة أخرى. وهو بهذا يرد على الزمخشري والبيانيين، حيث يجعلون التقديم في هذا النوع - بكل صوره، ومعهم الحق - مفيداً للاختصاص: ومراعاة نظم الكلام عنده أبلغ من الاختصاص وأوكد منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 فما يفيد الاختصاص قوله تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) . قال: " إنما قال: بل الله فاعبد " ولم يقل: " بل اعبد الله "، لأنه إذا تقدم وجب اختصاص العبادة به دون غيره. ولو قال: " بل اعبد " لجاز إيقاع الفعل على أي مفعول شاء. * مراعاة النظم: ومما التقديم فيه - عنده - لمراعاة نظم الكلام قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . قال: " وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن التقديم في هذا الموضع قُصِدَ به الاختصاص وليس كذلك، وإنما قُدم لكان نظم الكلام، لأنه لو قال: " نعبدك ونستعينك " لم يكن له من الحسن ما لقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعينُ) . ألم تَر أنه تقدم قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) . فجاء بعَد ذلك قولهَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعينُ) وذلك لمراعاة حسن النظم السجعي الذي هو على حرف النون. ولو قالَ: " نعبدك ونستعينك " لذهبت تلك الطلاوة، وزال ذلك الحسن. ثم يخلص من ذلك كله إلى إبطال ما ذكره الزمخشري وغيره من علماء البلاغة، والحق أن الصواب جانبَ ابن الأثير في هذا. والصحيح مذهب الزمخشري والبلاغيين. ومن مراعاة نظم الكلام عنده قوله تعالى: (فَأوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) . ومنه أيضاً قوله تعالى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 ثم يقول: وله في القرآن نظائر كثيرة ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) . فقوله: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) . ليس تقديم المفعول فيه على الفعل من باب الاختصاص وإنما من باب مراعاة: نظم الكلام. فإنه قال: (الليْلُ نَسْلخُ مِنْهُ النهَارَ) . وقال: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي) . فاقتضى حسق النظم أن يقول: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ) ليكون الجميع على نسق واحد في النظم ولو قال: " وقدرنا القمر منازل " لما كان بتلك الصورة في الحسن. وكذلك يرى في قوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) قال: إن تقديم المفعول في الموضعين الأولين لمكان حسن النظم. * * مأخذنا على ابن الأثير: ويؤخذ على ابن الأثير إسرافه في حمل التقديم على مراعاة: النظم أو ما يسميه أحياناً: " الفضيلة السجعية ". وليس له من دليل واحد يستطيع أن يقنعنا به لنجاريه فيما يقول. إن الأمثلة التي ذكرها جاءت مستوفية لشروط إفادة القصر، وهو في الوقت نفسه يفصل بينها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 فبعضها - عنده - يقيد القصر وهذا صحيح، وبعضها لا يفيد، وهذا غير صحيح، لقد أغراه الحسن اللفظي فيه فراح يشيد به، وينفى عنه إفادة القصر. والواقع أنه يفيد الأمرين: القصر - كما يرى غيره - والحسن اللفظي - كما يرى هو ولا ينازعه في ذلك أحد. وما الذي يمنع من إفادة القصر في قوله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) ؟. لقد أجمع البيانيون أن مثل هذا التعبير يفيد التوكيد والاختصاص مرة، والتوكيد مرة أخرى على حسب تقدير المحذوف. ولو كان المراد الحسن اللفظي - أي بدء الجمل بأسماء كما يقول - لما جاءت القراءة المشهورة التي هي النصب. لأن الرفع يوفي بالغرض حينئذ. وقراء الرفع هنا قراءة صحيحة كما نص عليها الشيخان أبو السعود والزمخشري. وكذلك لا يسلم قوله بالحسن اللفظي فقط في قوله تعالى: (فَأمَّا اليَتيِمَ فَلاَ تَقْهَرْ) ، لأن لو كان الأمر - كذلك - لوجب التماثل بين الفواصل ولقال - مثلاً - فخبر فتبنى الفواصل على حرف الراء. أما تقديم الخبر فقد مثل له بقوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) ، وهو يرى في تقديم الخبر في هذا الموضع التدليل على فرط اعتقادهم في حصانتها، وزيادة وثوقهم يمنعها إياهم. قال: " وفي تصويب ضميرهم اسماً لأن بناء الجملة عليه، دليل على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة وامتناع لا يبالى معهما بقصد قاصد، ولا تعرض متعرض ولا شيء من ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 قال: ومن غامض هذا الموضع قوله تعالى: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) . والتقدير: " فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة". ويفيد التقديم - عنده - أمرين: الأول: تخصيص الأبصار بالشخوص دون غيرها. الثاني: أراد أن الشخوص خاص بهم دون غيرهم. دل على ذلك بتقديم الضمير أولاً. ثم بصاحبه ثانياً. كأنه قال: فإذا هم شاخصون دون غيرهم. ولو لم يرد هذين الأمرين لقال: فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة. والذي أراه في هذه العبارة - بعد موافقة ابن الاثير على إفادة التعبير الأمرين - أن إفادة اختصاصهم بهذه الحالة، مستفاد من اختصاص شخوص الأبصار بدلالة الالتزام فليس في التعبير قصر اصطلاحي يفيد الأمرين معاً وتفسير ابن الأثير يفيد هذا المعنى. * * * تقديم الظرف: أما تقديم الظرف عند ابن الأثير، وهو يشمل الظرف الاصطلاحي والجار والمجرور، فيكون على الوجوه الآتية: 1 - إذا كان مقصوداً به الإثبات فالتقديم فيه أولى من التأخير وهو - فى هذه الحالة - يفيد القصر. ومثل له بقوله تعالى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وبقوله أيضاً: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) والتقديم في هذه الصورة مفيد للقصر، لكنه غفل عن موضع وهو " لله " حيث قدم الجار والمجرور على الفاعل: (مَا في السماوات وَمَا في الأرْض) . فلم يشر إليه وقصر ملاحظته على: (لهُ الملكُ وَلهُ الحَمدُ) . ويحمل ابن الأثير مواضع كثيرة وردت في القرآن الكريم وقدم فيها الظرف فهى مفيدة للاختصاص حتى على حسب ما قرره هو هنا. لكنه يحملها على الحُسن اللفظي وهذه الفكرة تستبد به كثيراً قال: وقد استُخدم تقديم الظرف فى القرآن كثيراً كقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) . أى تنظر إلى ربها دون غيره. فتقديم الظرف هنا ليس للاختصاص. وإنما هو كالذي أشرتُ إليه في تقديم المفعول. وأنه لم يُقدم للاختصاص وإنما قُدم من أجل نظم الكلام. وأنت ترى أن ابن الأثير يناقض نفسه في هذا الكلام حيث ينفى عن هذه الأمثلة إفادة الاختصاص. ثم يعود فيفسرها تفسيراً قصرياً. ألم يقل في قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) . أي: تنظر إلى ربها دون غيره؟. ومن المواضع التي يرى أنها لا تفيد الاختصاص. بل هي لمراعاة نظم الكلام النصوص القرآنية الآتية: قوله تعالى: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) . وقوله تعالى: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وقوله تعالى: (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) . وقوله تعالى: (عَليْهِ تَوكلتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ) . قال بعد أن ذكرها: " فإن هذه جميعها لم تُقدم فيها الظروف للاختصاص وإنما قُدمت لمراعاة الحُسن في نظم الكلام فاعرف ذلك ". وقد وَهِمَ ابن الأثير في هذه النظرة التي لم يستطع أن يشفعها بدليل. فهى - قطعاً - للاختصاص. . وذلك أمر يوحى به التعبير نفسه، ويؤكده المعنى المدلول عليه بهذا التعبير. وإذا كان مقصوداً به النفي فيحسن فيه الأمران: التقديم والتأخير، ولكل منهما موضعه. فتقديمه في النفي مفيد للقصر - عنده - وهو كذلك عند غيره. أما التأخير فلا يفيد سوى النفي المجرد. وعبارته في ذلك: " فأما تقديمه في النفي فإنه يقصد به تفضيل النفي عنه على غيره، وأما تأخيره فإنه يقصد به النفي أصلاً من غير تفضيل ". وظاهر أنه يريد بالتفضيل: القصر، وينفيه عدم القصر. وذكر للتأخير قوله تعالى: (ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) وهذا حق. أما التقديم فقد مثل له بقوله تعالى: (لاَ فيهَا غَولٌ) . ثم قال: " فإنه إنما أخر الظرف في الأول لأن القصد من إيَلاء حرف النفي الريب نفى الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق. لا باطل وكذب. . ولو أولاه الظرف لقصد أن كتاباً آخر فيه الريب لا فيه، كما قصد في قوله تعالى: (لاَ فِيهَا غَولٌ) فتأخير الظرف يقتضي النفي أصلاً من غير تفضيل. وتقديمه يقتضي تفضيل النفي عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 ويمثل للحال والاستثناء بأمثلة مصنوعة وينتهى من ذلك كله إلى أن الكلام فيها مثل الكلام في غيرها - يريد الظرف - حسب التفصيل المتقدم. * * تعقيب: إن الظرف - مطلقاً - سواء أكان في النفي أو في الإثبات، يخضع لقواعد مضبوطة من حيث إفادة القصر وعدمه، فما فائدة هذه التقسيمات إذن. اللهم إلا ما ادعاه من أن نوعاً من التقديم في الإثبات، لا يأتي للقصر، بل لمراعاة نظم الكلام وهذا منحى ثبت ضعفه فيما سبق. * * 2 - النوع الثاني من القسم الأول: وهو ما يكون التأخير فيه هو الأبلغ، وضابطه عنده: أن يُقدم ما الأولى به التأخير ولأن المعنى يختل ويضطرب ويسميه " المعاظلة المعنوية " كتقديم الصفة على الموصوف، وتقديم الصلة على الوصول، وبدهي أنه ليس لهذا النوع أمثلة من القرآن الكريم. إذ هو ضرب نازل من الكلام لذلك مثل له ابن الأثير بأمثلة خارجة معيبة وهذا النوع يسميه البلاغيون " التعقيد ". ومن أمثلته عند ابن الأثير قوله الشاعر: فَقَدْ - والشَّكُّ - بَيَّنَ لِي عَنَاءً. . . بِوشْكِ فِرَاقِهِمْ صُرَدٌ يَصِيحُ وتقدير الكلام: صُرَد يصيح بوشك فراقهم بيَّن لي عناء. حيث قَذم المعمول: " بوشك فراقهم " على العامل: " يصيح ". والصُرَد طائر ضخم الرأس يصيد العصافير، ومنه أيضاً قول الشاعر: فَأصْبَحَتْ بَعْدَ خَطً بَهْجَتَهِا. . . كَأن قَفْراً رِسُومَهَا قَلما والتقدير: فأصبحت بعد بهجتها قفراً كأن قلماً خط رسومها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وغيرهما كثير ذكره ابن الأثير ثم نقده ورماه بالغموض الذي لا يتضح معه مراد والكلام إنما يُقصد به الإيضاح والإفهام. * * * * القسم الثاني - من قسمى التقديم - عند ابن الأثير: وهو الذي يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك. وقد أبان ابن الأثير أن هذا القسم لا يحصره حد، ولا ينتهى إليه شرح، والذي ذكره هو منه. نبذة مختصرة ليقاس عليها غيرها كما يقول هو. وذكر من أسبابه ما يأتي: 1 - تقديم السبب على المسبب: ومثَّل له بقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعينُ) حيث قُدمت العبادة على الاستعانة لأنها سببها. وقد علمنا رأي العَز بن عبد السلام فيها. وقوله تعالى (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) حيث قُدمَت حياة الأرض على حياة الأنعام والناس. لأن حياة الأرض سبب فيما بعدها من حياة الأنعام والناس. 2 - تقديم الأكثر على الأقل: وهو - هنا - يتفق مع ابن الصائغ ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) . 3 - تقديم الأفضل على المفضول: ولم يمثل له من القرآن بل اكتفى بأنه لو عكس الترتيب في الآية السابقة لكان فيها ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 ولست أدري لماذا لم يمثل له، والقرآن مشحون بمثل هذا النوع. كقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) . وقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ) . فإن ما قُدم أفضل من حيث الانتفاع به فالخيل أفضل الأَنواع، والحَمير أفضل من البغال. 4 - تقديم الأعجب فالأعجب: ومثَّل له بقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) . 5 - تقديم المناسب: ومثل له بقوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) . فتقديم الإناث على المذكور - مع أن المذكور أشرف - ليناسب ما يرونه بلاء البلاءُ. ومثل له بقوله تعالى: () وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) . لَأنه حين ذكر شهادته على شئون أهَل الأرض وأحوالهم ووصل ذلك بقوله: " وما يعزب " لاءم بينهما لِيَليَ المعنى المعنى. * * * أبرز ملامح منهج ابن الأثير: هذه خلاصة سريعة لنظرية ابن الأثير في التقديم. فما هي - إذن - أبرز خصائصها؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 والجواب: أولاً: أنه يجمع بين طريقتى ابن الصائغ والبلاغيين فهو حين يوجه تقديم حياة الأرض على حياة الأنعام والناس. وحين يوجه تقديم الظالم لنفسه على المقتصد. وحين يوجه تقديم العبادة على الاستعانة. حين يوجه هذا كله وما كان على شاكلته مما ليس بمسند إليه ولا بمسند. فإنه ينهج نهج ابن الصائغ. وحين يتلمس أسباب تقديم المفعول والظرف والحال والاستثناء. . والخبر. حين يوجه هذا كله فإنه ينهج نهج البلاغيين مع ولوعه بكثرة التقسيمات والتنويعات كما مرت بنا في دراسة منهجه. ثانياً: أنه يميل إلى التطرف - كثيراً - ومخالفة ما عليه الإجماع. كإخضاعه أنواعاً شتى من التقديم لحسن النظم، نافياً عنه إفادة الاختصاص مع أنه في الواقع مفيد للاختصاص. ثالثاً: أنه يهتم بالنصوص القرآنية. ويتخذ منها المورد الأولى في مثلة مبيِّناً ما فيها من وجوه الجمال الفني، والحُسن اللفظي. رابعاً: أنه يجمع إلى العلم العقل الذكي، والذوق الحساس، فهو لذلك كان ناقداً طويل الباع، صائب الحكم في أكثر قضاياه التي تعرض لها. ومنهجه مجد إلى حد كبير في فهم أسرار التقديم في القرآن الكريم. * * * ْرابعاً: منهج المفسرين في التقديم قد تكون الفروق دقيقة بين ما نسميه بمنهج المفسرين، وبين الطرق الثلاث المتقدمة - طريقة ابن الصائغ وطريقة البلاغيين وطريقة ابن الأثير - والذى دعانى إلى أن أفرد بحثاً خاصاً تحت هذا العنوان " منهج المفسرين " أنى رأيت المفسرين أنفسهم قد تمرسوا هذا الفن حين تصديهم دشرح كتاب الله وإيضاح معانيه، وبيان مظاهر الجمال والإعجاز فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 ورأيت هذه الطريقة - طريقة المفسرين - قد استوعبت ما ذهب إليها أصحاب المناهج السابقة. فهى لا تتقيد بما قيَّد البلاغيون به منهجهم ولا بما حصر فيه ابن الصائغ فكرته ولا بما دار في فلكه ابن الأثير. فهى تجمع ما تفرق من هذه الطرق من محاسن، ولذلك كان للمفسرين جولات غنية جداً في فهم التقديم فى القرآن والكشف عن أسراره المختلفة. وكل ما يؤخذ عليهم أنهم قد ينساقون - أحياناً - وفي بعض المواضع إلى إرجاع شيء من التقديم إلى رعاية الفواصل - كما يقول البلاغيون - أو حُسن النظم السجعى كما يقول ابن الأثير. ولما كان تتبع أسفار التفسير - وهي كثيرة - ليس بمستطاع هنا. فإنى سأعتمد أساساً على اثنين منهم هما: 1 - العلامة أبو السعود في تفسيره المسمى " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ". 2 - الإمام محمود بن عمر الزمخشري. في تفسيره المسمى " الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ". أولاً: من تفسير أبى السعود 1 - تقديم التحلية على اللباس: قال تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) . يقول العلامة أبو السعود في تقديم التحلية على اللباس: " للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق، غنى عن البيان، إذ لا يمكن عراؤهم عنه. وإنما المحتاج إلى البيان أن لباسهم ماذا؟ بخلاف الأساور واللؤلؤ فإنها ليست من اللوازم الضرورية. فجعل بيان تحليتهم بها مقصوداً بالذات. ولعل هذا هو الباعث إلى تقديم بيان التحلية على بيان حال اللباس ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 فهذا البحث ليس في تقديم المسند إليه أو المسند، أو متعلقاتهما مما يعنى به علماء البلاغة. وإنما هو تقديم معنى على معنى بغض النظر عن الألفاظ الدالة عليه وتحت أي ضابط يقع. لذلك فهو أقرب إلى طريقة ابن الأثير والعلة أو السر في التقديم هنا - كما يراه أبو السعود - ليس من الأسرار التي أرجع إليها علماء البلاغه تقديم ما يُقدم. وهو ما موفق في هذا التوجيه. ويؤيده من النظم نفسه أن المعنى الأولى " التحلية " مدلول عليه بالجملة الفعلية. التي تفيد التجدد والحدوث وطول الكلام في العبارة نفسها. أما المعنى الثاني: فقد دلَّ عليه بعبارة موجزة قوامها ثلاث كلمات: " ولباسهم فيها حرير "، كما دَلَّ عليه بالجملة الاسمية التي تفيد الثبوت والدوام. فكأن الله - سبحانه - في التحلية. أراد أن ينشِئ ويحدث معنى جديداً فهى إذن تأسيس. كذلك فقد عمد إلى ما هو حاصل معناه عند السامع " لباسهم " وجعله موضوعاً لحكم " حرير " فأفاد الخبر بيان النوع وليس المعنى الأصلى الحاصل على وجه الجملة!؟ فلله دَرُّ أبي السعود فقد كان ملهَماً وهو يقرر هذه الحقيقة. ومع احترامنا لما يرى أبو السعود يمكن تخريج المسألة على الوجه الآتى: * توجيه آخر: إن التقديم هنا سببه تقديم الأضعف على الأقوى. وإذا جاز هذا فإن له فى القرآن نظائر وأشباهاً. يقول الرازى في قوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) . " قدم حق اليتيم والسائل، لأنه غني، وهما محتاجَان. وتقديم حق المحتاج أولى ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 ولنا أن نقول على طريقته في تقديم اليتيم على السائل: " قدم اليتيم على السائل. لأن اليتيم أضعف من السائل. إذ هو لا يكون يتيماً إلا دون البلوغ والرُشد. والسائل قد يكون بالغاً راشداً. فقدم ما هو مظنة الضعف وموضع الرعاية والعطف على ما هو ليس بهذه الحالة. ويتأكد المعنى وضوحاً إذا أخذنا بالرأي القائل إن المراد بالسائل هو سائل العلم لا الطالب الصدقة. ونظيره ما تقدم عند ابن الصائغ في تقديم الوصية على الدَّيْن. ولعل من هذا النوع تقديم الإناث على المذكور في معرض الهبات: (يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكُورَ) . لأن الأنثى أقل شأناً من الذكر في معرض الهبة. وكان العرب يرون هبتها عاراً فقدمت الإناث على المذكور تنبيهاً لهم على خطأ تلك النظرة لإفادة أن الإنثى والذكر سواء كلاهما هبة من الله. وهذا التوجيه أراه أنسب مما ذهب إليه ابن الأثير آنفاً حيث جعله بلاء. كما كانوا ينظرون إليه - فقدم ليلائم البلاء. وقريب منه ما ذكره أبو السعود في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا. .) حيث قدم حالة القاتلية على المقتولية، للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقاً لكون القتال بذلاً للنفس. والداعي إلى هذا التقديم أن الناس كانوا لا يساوون بين أن يَقتل المجاهد العدو. وبين أن يُقتل هو. فالاستشهاد أعظم صور الجهاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 فأراد الله أن يبيِّن لهم أن كلا العملين عظيم: القتل للعدو والقتل بيد العدو. وعلى هذا فإن القرآن قدم الأضعف على الأقوى إشعاراً بتساويهما فى الفضل. . هذا على قراءة حفص حيث قدم المبني للمعلوم " فيَقتلون " على المبني للمجهول " يُقتلون ". أما على قراءة مَن عكس. فإن أبا السعود يرى تقديم الشهادة: رعاية لكونها عريقه في الباب. وإيذاناً بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله. بل بكونه أحب إليهم من السلامة. * 2 - تقديم قصة نوح على مصاحبها: وقال في تقديم قصة نوح عليه السلام على غيره ممن ذكِرَ معه في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) قال: " وفي تقديم قصة نوح على سائر القصص ما لا يخفى وجهه. وفى إيرادها إثر " قوله تعالى: (وَعَليْهَا وَعَلى الفُلكِ تُحْمَلونَ) من حُسن الموقع ما لا يوصف. فالتقديم هنا ذو غرضين: 1 - مناسبة ما تقدم: حيث تقدم عليها الفلك والحمل عليه. 2 - الإشارة إلى سبقه في الوجود ففي التعبير تقديم بحسب الترتيب الزمني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وهذا السبب الآخر لم يذكره أبو السعود صراحة بل اكتفى بكونه ظاهراً لا يخفى. . ولا يمكن أن يكون مراده غير ما ذكرناه. * 3 - تقديم المحصنات على مصاحبها: " وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) . يرى أبو السعود أن في تقديم المحصنات الغافلات على المؤمنات. وهي ثلاثة أوصاف لموصوف واحد. إيذاناً بأن المراد الوصف المنبئ عما ذكر من صفتى الإحصان والغفلة. وليس المراد المعنى المؤسس المصحح لإطلاق الاسم في الجملة - كما هو المتبادر على تقدير التقديم. والخلاصة - عنده - أن ترتيب هذه الصفات الثلاث كما جاء في الآية مفيد بأنهن مؤمنات بكل ما يجب الإيمان به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيماناً حقيقياً تفصيلياً. * رأي لنا في المسألة: هذا ما ذكره أبو السعود. ويمكن توجيه التقديم على وجه آخر. وهو أن الكلام مسوق للتشنيع على الرامين، وتفظيع أمرهم بدليل قوله تعالى في عجز الآية: (لعِنُواْ فِى الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) . وإذا كان الأمر كذلك فإن تقديم " المحصنات " وإليةَ الفعل " يرمون " وإيقاعه عليها مباشرة يساعد على إبراز ذلك المعنى الذي هو التشنيع على الرامين وتفظيع حالهم لأن " الإحصان " ينافى مدلول الرمى إذ هو - أى الإحصان - نص في العفة الثابتة لهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 ويناسب ذلك عطف " الغافلات " على " المحصنات " إذ المراد من الغفلة نفى أن يكون لهن أدنى شعور بما يُنسب إليهن لأنهن لم يأتينه من أصله. وذلك بخلاف ما لو قدم " المؤمنات " لفات ذلك المعنى. لأن المؤمنة قد تخطئ. فكأن القرآن يقول: إنهم يرمون مَن شأنه ألا يُرمى لوجوده في الواقع على خلاف ما يدَّعون. * 4 - توسط "الظرف ": ومن روائع ما ذكره العلامة أبو السعود توجيهه لتوسط بين " لولا " وفعلها فى قوله تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) . قال أبو السعود: " وتوسيط الظرف بين " لولا " وفعلها لتخصيص التحضيض بأول زمان سماعهم وقصر التوييخ على تأخير الإتيان بالمحضض عليه إلى ذلك الأوان، والتردد فيه. ليفيد أن عدم الإتيان به رأساً في غاية ما يكون من القباحة والشناعة ". وهذا فهم صادق لكلام الله الجزل، نرى فيه أبا السعود لم يكتف بإرجاع التوسط الظرفى إلى سبب واحد، بل أرجعه إلى ثلاثة أسباب. . وهو صائب الرأي فى هذا وهو ينحو هذا النحى العذب في تحليله البياني لكتاب الله الكريم. ونختم جولتنا معه بهذا الموضع: * 5 - تقديم المجرورات في " الشرح ": قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 يقول أبو السعود: " وزيادة الجار والمجرور مع توسطه بين الفعل ومفعوله، للإيذان بأن الشرح من منافعه عليه الصلاة والسلام ومصالحه. مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه، وتشويقاً له إلى ما يعقبه ليتمكن عنده وقت وروده فضل تمكن ". ويرى الإمام النيسابورى أن الجار والمجرور مقحم في هذه المواضع وفائدته الإجمال ثم التفصيل. فهو يتفق مع أبى السعود في تقديره زائداً. ويختلف معه في التوجيه. والقول بالزيادة في القرآن أمر ليس مقبولاً عند التحقيق. فكل ما جاء فى النظم الكريم له معنى دال عليه يزول بزواله. لذلك فقد تصدى للرد على هذه الفرية - عموماً - عالم ملهم هو المغفور له محمد عبد الله دراز ونفى بالدليل المقنع أن يكون في القرآن زائد. وفي موضوعنا هذا لم ترض صاحبة التفسير البياني ما قال به أبو السعود والنيسابورى وهي ترى في الجار والمجرور فى المواضع الثلاثة ضرورة بيانية اقتضاها المقام ولكنها لم تبين وجه تلك الضرورة. وأنا مع الرافضين للقول بالزيادة في القرآن في هذه المواضع، وفي كل موضع يذهب فيه هذا المذهب. والذي أراه في الجار والمجرور في المواضع الثلاثة المذكورة أنها واردة لتأكيد المعنى المفهوم من الجملة. لذلك حرص القرآن الكريم على أن يذكر في كل موضع من المواضع الثلاثة الجار والمجرور المناسب للمعنى. ففى الموضع الأول كان: (ألمْ نَشْرَحْ لكَ صَدْرَكَ) . فالشرح خير. فناسبه " لك " وقدم اهتماماً به. وفي الموضع الثاني كان: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) وقدم: " عنك " لنفس المعنى الذي قدم من أجله " لك " في الآية السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وفى الثالث كان: (وَرَفَعْنَا لكَ ذكْرَكَ) فالرفع للذكر خير وشرف ولذلك عاد " لك " مرة أخرى، لأنه مشعر بالنفع. فلا زيادة ولا إقحام. . ولو تلا تالٍ هذه الآيات محذوفاً منها الجار والمجرور لظهر الفرق من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى. فيما عليه النص الكريم وفيما عليه غيره بعد الحذف. ويقول أبو السعود في الموضع الثاني: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) وتقديمه على المفعول الصريح مع أن حقه التأخير عنه. لما مَرَّ مراراً من القصد إلى تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر، ولما أن في وصفه نوع طول. فتأخير الجار والمجرور عنه مخل لتجاوب أطراف النظم. ويذهب الشيخ محمد عبده مذهب أبى السعود في توجيهات هذه الآيات فيقول: " والإتيان بالجار والمجرور - " لك " و " عنك " - وتقديمه على المفعول في الآيات الثلاث لزيادة التقرير والإسراع بالتبشير ". * 6 - سر تقديم المجرورات على " رجال " في آية النور: ومما يفيد التقديم فيه أكثر من غرض قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) َ. قال أبو السعود: " رجال ": فاعل " يسبح ". وتأخيره عن الظروف لما مَرَّ مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. ولأن في وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن النظم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وهذا التوجيه على قراءة مَنْ بنى الفعل للفاعل. وقد فات أبا السعود أن فى الآية ثلاثة ظروف متجاورة لم يشر إلى سر ترتيبها، وهي: " له فيها بالغدو ". والذي يبدو أمام الباحث أن تقديم " له " على تالييه: " فيها بالغدو " لأن الضمير المجرور وهو " الهاء " عائد على اسم الجلالة. فقدم إذن تعظيماً له. أما تقديم " فيها " فلأن الضمير المجرور، عائد على " المساجد " أو " البيوت " وقد تقدم ذكرها في الكلام فكان تقديمها أولى من تقديم " بالغدو ". هذه مُثل من تفسير أبى السعود، عالج فيها التقديم بمنهج حر واسع النظرة وتفسيره حافل بمثل هذه الصور وهو - كما رأينا - مولع بتقصى الأسرار التى يفيدها التقديم فتراه يثبت لك في الموضع الواحد سراً أو سرين أو ثلاثة. وهذه طريقة جديرة بالتقدير لفهم أسرار الكتاب الكريم وفهم مقومات الجمال الفني فيه. * * ثانياً: من كشاف الزمخشري لا فرق بين نظرة الزمخشري ونظرة أبى السعود في التقديم. فهما جميعاً ينهلان من معين واحد. وأبرز ما يمتاز به منهجهما هو الحرية. وعمق النظرة. وإن كان العلامة أبو السعود أرسخ قدماً من الزمخشري في هذا المجال. وقد سبق لنا أن وقفنا على شيء من توجيه الزمخشري للتقديم في قوله تعالى: (وَلكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) . ونذكر من كشافه نموذجاً آخر لمعالجته للتقديم في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) . يَقول الزمخشري: " فما للقصة لم تُقَص على ترتيبها، وكان حقها أن يُقدم ذكر القتيل، والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها. وأن يقال: وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ". ويجيب: " كل ما قُصَّ من قصص بنى إسرائيل إنما قُصَّ تعديداً لما وُجدَ منهم من الجنايات. وتقريعاً لهم عليها. ولما جُدِّدَ فيهم من الآيات العظام. . وهاتان قصتان كل منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدين. فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء. وترك المسارعة إلى الامتثال. وما يتبع ذلك. والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة. وما يتبعه من الآية العظيمة. وإنما قُدمت قصة الأمر بذبح البقرة، على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على أصله لكانت قصة واحدة. ولذهب الغرض من تثنيَة التقريع. * * * أبرز ملامح منهج المفسرين: فالدراسة - هنا - لم تتعلق بتقديم المفردات - فضلاً عن أن تتعلق بمسند إليه أو مسند، أو ظرف. . وإنما تعلقت بتقديم قصة على قصة. بكل ما تحمله كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 من القصتين من ألفاظ وعبارات. وأبانت لنا سر تقديم قصة على أخرى. كما أبانوا - أي البلاغيون - السر في تقديم خبر على مبتدأ. أو ظرف على معمول آخر. * * * اقتراح: والسؤال الآن: أي هذه الطرق أجدى في فهم التقديم في القرآن؟ والجواب: هي كلها بعد تهذيب بعضها وإصلاح حواشيها. . أن القرآن كل حرف فيه - فضلاً عن كل كلمة وكل جملة - موضوع بحساب دقيق. وفيه ترتيب مقومات الأداء - أي وحدات الأسلوب - على وجه أحسن وهو ثروة فكرية. ومتعة أدبية. فنحن في حاجة إلى منمهج شامل يُنظر في أسلوبه من حيث العبارات ومن حيث المعاني. ويُقاَرن ويُستخلص فإن القرآن ما زال بكراً عزيز المنال. . وهذه المناهج كلها أعون على كشف أسراره ومعانيه. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 الفصل الثالث التقديم غير الاصطلاحي أو اختلاف النظم في العبارات ذات المعنى الواحد مَرَّ بنا - فيما سبق - نوعان من التقديم. . . أولهما: تقديم ما حقه التأخير وضابط هذا النوع: أن المقدَّم فيه له رتبة معلومة في التركيب كالخبر رتبته التأخير عن المبتدأ، والمفعول به رتبته التأخير عن الفعل والفاعل. وهذا النوع يُعلم حاله بمجرد النظر إلى العبارة، حيث يُرى ما قُدم قد أزيل عن مكانه من الجملة ووُضِعَ في مكان آخر مقدماً على ما كان له، وقد عنى البلاغيون بهذا النوع ووضعوا له القواعد والأصول. ولم يهتموا بغيره إلا فيما ندر. ثانيهما: تقديم ما ليس له رتبة معيَّنة في التركيب، لكنه قد يقع مصاحباً لشبيه له أو أشباه مقدماً عليها فيلحظ البلاغي سراً للمقدم كتقديم الوصية على الدَّيْن. وتقديم حالة القاتلية على المقتولية في بعض آى القرآن. وكتقديم الأموال على الأولاد في كل موضع اجتمعا فيه مثل: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وقوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) . وقوله: (يَوْمَ لاَ يَنَفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ) . وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) . وقوله: (وَمَا أمْوَالُكُمْ وَلاَ أوْلاَدكُم بِالتِى تُقَربكُمْ عِندَنَا زُلْفَى) . وكثير غير هذه المواضع قُدمت فيها الأموال على الأولاد في القرآن الكريم. . ولعل السر في تقديم الأموال على الأولاد: أن الإنسان يملك أموالاً قبل أن يكون له أولاد. وأن المال أكثر نفعاً للرجل من ولده. وأكثر شغلاً له. وهذا النوع ليس له نصيب ذو قيمة عند البلاغيين، وإنما عنى به المفسرون وكان أبرز خصائص منهجهم في التقديم. وقدمنا فيما سبق نبذة من أقوالهم فيه معتمدين أساساً على ما كتبه العلامة أبو السعود في تفسيره، وجار الله الزمخشري فى كشافه. * * * نوع ثالث من التقديم: ونحن الآن بصدد نوع ثالث من التقديم مختلف تماماً عن النوعين السابقين لأنك إذا نظرت إلى العبارة مجردة لم يظهر لك فيها تقديم أو تأخير إنما ترى كل كلمة وقعت موقعها في الجملة التي هي فيها. وإذا قارنتَ هذه العبارة بموضع آخر اتحد معها في أصل المعنى ظهر لك أن الكلمة قُدِّمت في موضع، وأخِّرت في آخر. مثال ذلك قوله تعالى: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) . وقوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 فلو أنك نظرتَ إلى آية البقرة المذكورة وحدها لم يظهر لك شيء من أمر التقديم والتأخير فيها. لكنك حين تقارنها بآية الأعراف المتفقة معها في أصل المعنى المختلفة معها فى النظم بان لك أمر التقديم والتأخير واضحاً. فدخول الباب سُجداً مُقدم في البقرة، والقول بالحِطة مؤخر. وقد عكس ذلك فى الأعراف فجاء القول بالحِطة مقدماً ودخول الباب سُجداً مؤخراً إ! وقد أحصيتُ من هذا النوع واحداً وعشرين موضعاً في القرآن الكريم. فرحتُ أبتغي توجيهاً لها عند المفسرين فلم أجد إلا عبارات مقتضبة في مواضع قليلة جداً لم تشف غليل باحث. وبدهي أن البلاغيين لم يعالجوا هذا النوع لا من قريب، ولا من بعيد. إلا في موضع واحد أو اثنين وسنشير إلى هذا كله فى موطنه. والحق يقال إن الإمام الزركشي قد سرد هذه الآيات في باب التشابه وحلل القول في مواضع نادرة منها، وحتى ما كتبه هو لم يحل المشكلة. وسأنبه عليه فى موضعه كذلك. أمام هذه الاعتبارات اضطررتُ إلى استئناف البحث في هذه المواضع جميعاً. معتمداً في توجيه السر فيها على ما يأتي: 1 - شروح المفسرين وما قاله بعضهم من عبارات مقتضبة لم تشف غليلاً. 2 - ما كتبه الزركشي في البرهان عن بعض المواضع منها. 3 - وهو المعتمد الأهم. هو القرآن نفسه أوازن وأستنتج وأقف في كل موضع أدرسه على ما اشتمل عليه من دقائق اللفظ والمعنى، وقرائن الأحوال واختلاف المقامات والسابق واللاحق نزولاً. وكان لهذا فضل توجيهى في كل المواضع التي تناولتها بالدراسة هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وبعد الفراغ من توجيهاتها كلها واستفراغ كل جهدى في دراستها بعد هذا كله عثرتُ على كتاب " درة التنزيل وغرة التأويل: في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز ". للشيغ الإمام أبى عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي المتوفى سنة 421 هـ، رواية الإمام إبراهيم بن علي ابن محمد المعروف بابن أبى الفرج. وفي هذا الكتاب حديث عن أكثر هذه المواضع تناوله المؤلف في شيء من الإفاضة والتوسع. وعلى التو قمتُ بمراجعة فاحصة لما كتبته في توجيهها مقارناً بما جاء فى كتاب الخطيب الإسكافي. وللحق أقول: إننى لم أغيِّر كثيراً فيما انتهيتُ إليه من نتائج بعد اطلاعى على هذا الكتاب، وسوف أشير إلى رأيه ملخصاً فيما يأتي عند توجيه كل موضع إن شاء الله. ونحدد - قبلاً - هذه الآيات: * إشارة سريعة لنصوص التقديم غير الاصطلاحي: الموضع الأول: هو آية البقرة: 58 مع آية الأعراف: 161، والثاني: آية البقرة: 62 مع آية الحج: 17، والثالث: آية البقرة: 120 مع آية الأنعام: 71، والرابع: آية البقرة: 143 مع آية الحج: 78، والخامس: آية البقرة: 173 مع آية المائدة: 3 والأنعام: 145 والنحل: 115، والسادس: آية البقرة: 264 مع آية إبراهيم: 18، والسابع: آية آل عمران: 156 مع آية الأنفال: 10، والثامن: آية النساء: 135 مع آية المائدة: 8، والتاسع: آية الأنعام: 102 مع آية غافر: 62، والعاشر: آية الأنعام: 151 مع آية الإسراء: 31، والحادى عشر: آية النمل: 14 مع آية فاطر: 12، والثاني عشر: آية الإسراء: 89 مع آية الكهف: 54، والثالث عشر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 آية المؤمنون: 83 مع آية النمل: 68، والرابع عشر: آية الآسراء: 96 مع آية العنكبوت: 52، والخامس عشر: آية القصص: 20 مع آية يس: 20، والسادس عشر: آية آل عمران: 40 مع آية مريم: 8، والسابع عشر: آية البقرة: 129 مع آية الجمعة: 2، والثامن عشر: آية البقرة: 35 مع آية البقرة: 58، والتاسع عشر: آية البقرة: 23 1 مع آية البقرة: 48، والموضع العشرون: آيات: الأنعام: 32 ومحمد: 36 والحديد: 20 مع آيتي الأعراف: 51 والعنكبوت: 64 هذه عشرون موضعاً اتحد فيها أصل المعنى أو كله واختلفت صور النظم من حيث التقديم والتأخير وغيرهما، وقبل أن نخوض في التفصيل أرجو أن أوافق على تلك التسمية التي أثبتها في العنوان وهي: " التقديم غير الاصطلاحي " أو " اختلاف النظم في العبارات ذات المعنى الواحد ". * الموضع الأول " دخول الباب والقول بالحِطة ": (وَادْخُلواْ البَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حطة) . (وَقُولُواْ حِطةٌ وَادْخُلُواْ البَابَ سُجَّداً) . علل الزمخشري في كشافه. وأبو السعود في إرشاده التقديم والتأخير في هذا الموضع بعدم التناقض. وحجتهما أن المأمور به هو الجمع بين الأمرين: القول بالحطة، والدخول ساجدين من غير اعتبار الترتيب بينهما. وسواء قدموا الحِطة أَو أخَّروها لْهم جامعون في الإيجاد بينهما. أما الخطيب الإسكافي فقد أرجع التقديم والتأخير إلى أن القرآن إنما حكى المعنى دون اللفظ. وما دام الأمر كذلك فلا غرابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وأرجع السيوطي هذا الاختلاف في هاتين الآيتين، وما شاكلهما إلى التفنن فى الفصاحه وإخراج الكلام على أساليب مختلفة. * * رأينا في الموضوع إن الذي ذكروه - وإن كان صحيحاً في نفسه - فغير كاف لإقناع الباحث فى كتاب الله. فهو أقرب إلى التوجيه العام من التحليل الموضوعى الدقيق، الذى يكشف عن السر في كل ظاهرة من ظواهر التعبير. لذلك ندير البحث على وجه آخر أرى أنه أقرب إلى الصواب، والمعروف أن السجود قد يكون شكراً على النعَم، والاستغفار طلباً للعفو من الذنوب، والقوم في الموضعين مُنْعَم عليهم ومَخطئون. فتقديم السجود في البقرة على الاستغفار تغليب لجانب الشكر على جانب الاستغفار وهذا التغليب مبعثه أمران: الأول: أن الله قد حثهم - صراحة - على الشكر في معرض الحديث. الثاني: أن نعمة الله عليهم في البقرة أظهر وأكمل مثها في الأعراف. وذلك لاشتمال الحديث في البقرة على بعثهم بعد الموت بالصاعقة، وهذه نعمة جديدة. كما وصف " الأكل " بالرغد: (فَكُلواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) . وقد فسر " الرغد " بالسعة ولم يأت هذا الوصف فى الأعراف. والحديث في البقرة جار مجرى الخطاب، بينما هو في الأعراف آت على أسلوب " الخبر " المحكى. وقد عطف الأكل على الأمر بالدخول بـ " الفاء ". فأفاد أن أكلهم الرغد مترتب على دخولهم، وأنه سريع الحصول لهم. والعطف فى الأعراف بـ " الواو " وهو لا يفيد سوى مطلق الجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 والقول بالأمرين - الدخول ساجدين، والقول بالحطة - مسند إلى ضمير اسم الجلالة " الله " صراحة " وإذ قدنا "، أما فىَ الأعراف فقد جرى الحديث مجرى ما لم يسم فاعله: " وإذ قيل لهم. . " ففى الإسناد الأول من الفخامة والجلال ما ليس في الإسناد الثاني حسب مقتضيات المقام. كذلك فإن التعبير في البقرة مفيد لحدوث النعمة المستوجَب عليها الشكر. أما في الأعراف فلا يفيد ذلك الحدوث ضرورة لأن: " ادخلوا " غير: " اسكنوا " فالأول يفيد أنهم كانوا خارجها وأتيح لهم دخولها، والثاني يفيد أنهم كانوا فيها، والجديد في الأمر تمكنهم من الاستمرار على ما هم عليه. فظهور كمال النعمة في البقرة اقتضى تقديم الأمر بالسجود، لأن السجود مظهر عظيم من مظاهر شكر النعَم. ثم روعي جانب الخطيئة في الأعراف فقدم ما يناسبه وهو القول بالحطة لزوال ما اقتضى التقديم في آية البقرة. ومن الخير أن نذكر نصوص القصة في السورتين كاملة: أولاً - البقرة: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) . ثانياً - في الأعراف: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 * الموضع الثاني " هُدَى الله هُوَ الهُدَى ": (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) . جاء هذا التعبير بتقديم (هُدَى الله) على (هُوَ الهُدَى) في سورة البقرة. وجاء عكسه. أي تقديم: " الهُدَى " على " هُدَى الله " حيث قال: (قُلْ إن الهُدَى هُدَى اللهِ) في آل عمران. ولم يذكر أحد من المفسرين في توجيهه شيئاً. وأغفلها الخطيب الإسكافي فلم يتحدث عنها بهذا الاعتبار. بل جاء بآية البقرة لغرض آخر لم يدخل فيما نحن فيه من حيث التقديم والتأخير. والذي أراه من سياق الآيات نفسها أن لكل تقديم وتأخير في هذه المواضع سبباً اقتضاه. . فقد جاء فى سورة البقرة: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) . وجاء في الأنعام: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) . وجاء في آل عمران: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 * ما يهدى إليه النظر في هذا الموضع: إذا نظرنا في هذه المواضع نظرة فاحصه وجدنا أن تقديم: " هدى الله "، له سبب اقتضاه في الموضعين الأول والثاني. إذ هو آت نصاً من أول الأمر على أن: " هدى الله هو الهدى " في معرض حديث يُدَّعَى فيه أن غير الله له هدى. ففى البقرة ادعى ذلك الهدى اليهود والتصارى، ومن أجل مدعاهم هذا لا يرضون إلا عمن اتبعهم وصدقهم: (وَلن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النصَارَى حَتى تَتبِعَ ملتَهُمْ) . فكأنهم يرفضون أن يكون هدى غير ما هم عليه منكرون لما سواه. فجاءت الآية مفندة دعواهم: (قُلْ إن هُدَى الله) ، أي: لا هداكم ولا هدى غيركم، ففى الأسلوب قصر قلب. يقول النسفي: " وهدى الله هو الهدى كله ليس وراءه هدى ". وكذلك في الأنعام: (لهُ أصْحَابٌ يَدعُونَهُ إلى الهُدَى ائْتنَا) فالأصحاب يدعون أن لهم هدى، فسلك القرآن - هنا - مسلكه في آيةَ البقرة لوجود السبب في الموضعين. أما تقديم " الهدى " في آل عمران على " هدى الله " فلأن القوم هنا لم يبد منهم إنكار. أو دعوى استئثارهم بالهدى، بل هم مقرون بذلك وإنما يريدون أن يفتنوا مَنْ هم على هدى: (الَّذيِنَ آمَنُواْ) عما هم عليه ليستأثروا هم بهدى الله حسداً من عند أنفسهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا. فجات الآية الكريمة: (قُلْ إن الهُدَى هُدَى اللهِ) . اعتراضاً مبيناً لوهمهم فيما حسبوا أنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 قادرون عليه من إضلال المؤمنين. فتعريف الهدى بـ " الألف واللام "، وجعله موضوعاً للحديث والحكم عليه بأنه: " هدى الله " هو التعبير الأنسب للمقام لما في " ال " من معنى الاستغراق. ففى العبارة قصر أفراد. * * * الموضع الثالث " شهادة الرسول وشهادة الأمة ": (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) . وقال سبحانه: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) . فى هذين النصين نوعان من التقديم. أولهما: تقديم شهادة الأمة على الناس، على شهادة الرسول على الأمة في آية البقرة. وتقديم شهادة الرسول على الأمة. على شهادة الأمة على الناس في آية الحج، وهذا من التقديم غير الاصطلاحي. وثانيهما: تقديم " عليكم " على " شهيداً " في البقرة ثم الإتيان به على الأصل في آية الحج: " شهيداً عليكم " وهذا من التقديم الاصطلاحي الذى يعني به البلاغيون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وسر التقديم في النوع الثاني ظاهر. فقوله تعالى: " عليكم شهيداً " في البقرة أفاد فيه تقديم الجار والمجرور: " عليكم " تخصيص شهادة الرسول على الأمة دون ما غيرها من الأمم. * * ماذا قال المفسرون: وقد قال المفسرون إن المراد بشهادة الرسول - هنا - على الأمة شهادة لها بالعدالة والتزكية، لأن الله قد وصف الأمة بقوله " وَسَطاً " أي خياراً عدولاً، وعلى هذا فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لا يزكى غير أمته لقيام هذه الأمة مقام الشاهد على جميع الأمم. وهذا الفهم الذي فهمه المفسرون من شهادة الرسول على الأمة. يفيدنا إلى أبعد مدى في فهم السر في النوع الأول الذي يصوره هذا السؤال. * سؤال وجواب: لماذا قُدمت شهادة الأمة على شهادة الرسول في البقرة وعكس الأمر فى الحج؟ والجواب: إن الكلام في سورة البقرة مسوق لتقرير عدالة الأمة، وكونها شاهدة على الأمم. أما شهادة الرسول عليها فهى تزكية لها لقبول شهادتها، والتزكية تكون بعد أداء الشهادة نفسها. إذ هي أصل. والتزكية تابعة لها. ولولا ذلك لما قُدمت شهادة الأمة على شهادة الرسول. لتباين المنزلتين. ووجه آخر للتقديم أن يقال إن الخطاب أصلاً مؤجه إلى الأمة: (وكَذَلكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى الناسِ) . وظاهر أن " لَام التعليل " داخلة على مَا من أجله كان الجعل. فتقديم شهادة الأمة على شهادة الرسول أمر اقتضاه حُسن النظم، وتلاؤم المعنى. . هذا في البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 أما في سورة الحج فقد جاء الترتيب بين الشهادتين على الأصل بتقديم شهادة الرسول على شهادة الأمة. وذلك لأن المعنى - كما نص عليه المفسرون - أن يشهد الرسول على أمته بأنه بلغها ما أنزِل إليه من ربه. وأن تشهد الأمة على الأمم السابقة بأن رسلهم قد بلغتهم ما أنزِل إليهم من ربهم. فموضوع الشهادتين واحد هو التبليغ. لذلك قُدِّمت شهادة الرسول، لأنها الأصل. وأخرت شهادة الأمة، لأنها الفرع. إذ هي مترتبة عليها ومستقاة منها. فالتقديم هنا من باب ما هو أصل على ما هو فرع. ولم يذكر الخطيب الإسكافي شيئاً عن هذا الموضع في كتابه المذكور لا فى البقرة، ولا في الحج. * * * الموضع الرابع " التوحيد والخَلق ": (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) . (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) . والناظر في هاتين الصورتين يجد عبارة: (خَالقُ كُل شَىْءٍ) قُدِّمت فى غافر وأخِّرت عليها عبارة: (لاَ إلهَ إلا هُوَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وفى الأنعام عكس الوضع. فقدِّمت: (لاَ إلهَ إلا هُوَ) وأُخِّرت: (خَالِقُ كُلً شَيءٍ) . * * توجيه ميسور: والتوجيه - هنا - سهل ميسور. إذ المقام في غافر مقام تعدد وتذكر بنعم الله فناسب ذلك تقديم: (خَالقُ كُلً شَيءٍ) ، والمقام في الأنعام مقام يزعم فيه المشركون تعدد الآلهة حيث جعلوا له شركاء الجن. فقُدِّمت: (لاَ إلهَ إلا هُوَ) . لأن فيها نصاً على نفى التعدد المزعوم. فالتقديم هنا من باب تقديم الأنسب فالأنسب وقد تحدث عن هذا الموضع الخطيب الإسكافي بما لا يخرج عما قلناه، وإن جعل المقام في " غافر " مقام تثبيت خلقه. * * * الموضع الخامس: " الذِينَ آمَنُواْ، وَالذِينَ هَادُواْ ": (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) . (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) . فى آية البقرة قُدِّمت: " النصارى " معطوفة على " الذين هادوا " على " الصابئين " وفي آية الحج عكس الموضع فقدمت: " الصابئين " على " النصارى ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وشبيه بآية الحج قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) . فهنا - كذلك - قُدِّمت " الصابئين " لفظاً في أظهر الآراء على النصارى " كما جاء فى سورة البقرة. * رأي الإسكافي: ورأى الخطيب الإسكافي - ملخصاً - في هذه المواضع الثلاثة أن الترتيب بين هذه الفِرق ملاحَظ فيه أمران: 1 - ترتيب بحسب الكتب السماوية المنزلة على كل مَن كان له منها كتاب. 2 - ترتيب بحسب الأزمنة لا بحسب الكتب. ففى آية البقرة كان الترتيب بحسب الكتب. فقدم الذين آمنوا بما أنزِل على إبراهيم عليه السلام لأنهم سابقون، ثم الذين هادوا لأن التوراة سابقة على الإنجيل، ثم النصارى لأنهم أهل الإنجيل، ثم أتى بالصابئين لأنهم لا كتاب لهم. وفي المائدة والحج كان الترتيب بحسب الأزمنة. وقُدِّم " الصابئين " على " النصارى " لأنهم أسبق منهم زمناً. هذا واضح في سورة الحج لمجيء: " الصابئين " فيها منصوباً، أما في المائدة فقدم لفظاً ونوى تأخيره معنى بدليل رفعه على الاستئناف. . قال الإسكافي: وإنما قدم في اللفظ، وأخر في النية، لأن التقدم الحقيقي التقدم بكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام. . . * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 * تخريجنا لهذه المواضع: هذه خلاصة سريعة لما ذكره الإسكافي في توجيه هذه الأساليب. وكنت قد ذكرت قبله ما يأتي: ويبدو أن فهم السر هنا يتوقف على ملحظين: الأول: ما هو المراد بالصابئين؟ الثاني: نوع الحكم الذي حكم به على هذه الأسماء. أو الفِرق الواردة فى المواضع المتقدمة. فالملحظ الأول يتضح أمره من أقوال المفسرين. فالزمخشري والنسفي يريان أن الصابئين هم قوم عدلوا عن دين اليهودية ودين النصرانية وعبدوا الملائكة، ويذهب العلامة أبو السعود مذهباً قريباً من هذا. أما الملحظ الثاني. . فإن نوع الحكم الحكوم بـ على هذه الفِرق، وهو خبر " إن " مختلف من موضع إلى آخر. فهو في البقرة: (فَلهُمْ أجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهمْ وَلاَ خَوْفٌ عَليْهمْ وَلاَ هُم يَحْزَنُونَ) . ومثله في المائدة: (فَلاَ خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) . وقد تقدم على كل من الخبرين ما يمهد ويرشح له ويلوح به، ففى البقرة جاء قوله تعالى: (مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالحاً) . وفي المائدة جاء قوله تعالى: (مَنْ آمَنَ باللهَ واليَوْمِ الآخر وَعَمِلَ صَالحَاً) فههنا دعوة إلى الإيمان وحث وإغراء عليه. وهذا لا يكون إلا في حال الحياة، فقدم النصارى على الصابئين إذ لا يبعد أن يكون المراد بهم صابئي النصارى، وقُدِّموا لفظاً على نية التأخير معنى ليشمل صابئي الملتين: اليهود والنصارى، وفي تقديم اليهود والنصارى عليهم لأنهم أفضل إذ هم أهل كتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 أما تقديم " الذين آمنوا " فعلى ما يراه الإسكافي أنهم مؤمنو الأمم السابقة، فتقديمهم من حيث أنهم أفضل هذه الأنواع، أما على ما يراه الزمخشري وغيره من المفسرين من أن المراد بهم " المنافقون " فهم وإن كانوا كفاراً من حيث الباطن فإن اطلاق وصف الإيمان عليهم في الظاهر جعلهم في المرتبة الأولى من الذكر لا باعتبار أنفسهم، ولكن باعتبار شرف الإيمان نفسه. * * بين المفسرين والإسكافي وهذا - أعنى رأى الزمخشري والمفسرين - أقوى من رأي الإسكافي. بدليل نظمهم مع اليهود والنصارى والصابئين وغيرهم في سلك واحد، وأنهم - جميعاً - مطالبون بتحقيق الإيمان لعريهم عنه. أما الخبر في آية الحج فمختلف عن هذين إذ هو: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) . يفصل بينهم في الجزاء. خيراً وشَراً، أو يفصل بينهم في المكان فلا يجمعهم في مكان واحد، وأيًّا كان نوع الفصل. فهو لا يكون - كما صرَّحت الآية - إلا يوم القيامة، لذلك سلك فى النظم وجهاً آخر. فكأن القرآن نظر في سرد هذه الفرق إلى السبق الزمني. فاليهود وصابئوهم سابقون زمناً على النصارى. لذلك قَدَّم اليهود عاطفاً عليهم صابئيهم، ثم ذكر النصارى. ولم يحتج لذكر صابئي النصارى اكتفاءً بذكر صابئي اليهود، كما لم يذكر فى آية البقرة صابئي اليهود اكتفاءً بذكر صابئي النصارى. وكانت آية المائدة وسطاً بين التعبيرين، وتلك - إذن - قسم عادلة!!. أما تأخير المجوس والذين أشركوا عن هذه الفِرق. فلأنهم ليسوا أهل كتاب! * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 * الموضع السادس " وَمَا أُهلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ": (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) . (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) . (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) . َ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) .َ هذه أربعة نصوص ترددت فيها عبارة: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) في ثلاثة منها هي: المائدة، والأنعام، والنحل بتقديم: " لغَير اللهَ " عَلى " به " والأصل تقديم: " به " على " لغير الله " لأن الضمير فيه عائد على " ما " و" لعير الله " متعلق بـ " أهل " وهو صلة الموصول " ما " والموصول مقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 دائماً على الصِلة. فكان حق العائد عليه التقديم على التعلق بالصلة. لكن خولف هذا الأصل في المواضع الثلاثة المذكورة وهذه المواضع منها موضعان مكيان هما: الأنعام والنحل. والموضع الثالث - وهو المائدة - مدنى إلا الآية التي فيها هذه العبارة فمكية نزلت في حجة الوداع كما نص على ذلك العلماء. وجاءت العبارة على الأصل (وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) في موضع واحد، هو سورة البقرة. وهي مدنية بلا خلاف. والآن نستطيع أن نفهم السر في التقديم والتأخير في هذه النصوص الحكيمة وخلاصة القول فيه: إن ما قُدم فيه " لغير الله " على " به " خطاب لأهل مكة، مسارعة إلى نفى الشِرك وإبطالاً لاتخاذ الأصنام آلهة تُعبد، ويُذبح ويُنحر باسمها، بدليل أن السورتين - الأنعام والنحل - مكيتان. والمائدة - وإن كانت مدنية - فإن الآية الواردة فيها هذه العبارة مكية نزلت في حجة الوداع. وكأن القرآن يقول لأهل مكة: لا تظنوا أن الإسلام قد سكت عما أنكر عليكم وقد رحل رسوله ورجاله عن دياركم وغابوا عنكم طيلة عشر سنين. فإن الإسلام باق على دعوته: الحلال حلال، والحرام حرام، لأنه مبادئ وأسس ثابتة لا تقبل الإبطال أو التبديل. أما ما قُدم فيه " به " على " لغير الله " فهو خطاب لأهل المدينة، وهم ليسوا عُبَّاد أصنام ولا كافرين حتى يسارع معهم إلى نفى الشِرك، وإبطال الأصنام، والدليل على تأييد هذه الملاحظة أن الخطاب بدئ بقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا. . " فالخطاب إذن مع مؤمنين. مع أهل مكة يهدف القرآن إلى نفى الشِرك أولاً. ثم تحريم ما حَرم ثانياً. ومع أهل المدينة يهدف إلى تحريم ما يُحرم أولاً. ثم الثبات على ما هم عليه من الإيمان ثانياً. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 * مقامان مختلفان: مقامان مختلفان. اختلف معهما التعبير اختلافاً روعي فيه دقائق الوقف وخفايا الأحوال. هذا توجيهى للتقديم والتأخير في هذه المواضع الأربعة، وظاهر أن اعتمادى فيه كان بحسب النزول وقرائن الأحوال. أما الخطيب الإسكافي فقد بحث فيه من جهتين. . الأولى: لماذا كان التقديم في البقرة: (وَمَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللهِ بِهِ) هو الأصل وأبان أن أصالته من حيث إن الضمير الذي هو الَهاءَ في " به " مجرور بالباء و " لغير الله " معدى باللام. وما جُر بمثل هذه الباء فحقه التقديم على ما عداه. وعبارته في ذلك: " أما الموضع الأول - يريد البقرة - فإنه جاء على الأصل الذي يقتضيه حكم اللفظ لأن الباء التي يتعدى بها الفعل في هذا المكان من جملة الباءات التي تجيء كحرف من نفس الفعل. فيجب لذلك أن تكون أحق بالتقديم ". أما تقديم " لغير الله " على " به " في المواضع الثلاثة المذكورة فقد اكتفى بأنه قُدِّم فيها لأنه الأهم. والذي يبدو أن ما اهتديتُ إليه فيه تحليل موضوعى للأسلوب. وكشف للسر على غير الوجه الذي ذكره الإسكافي. * * * الموضع السابع " القَوَامة والشهادة ": (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) . فى الآية الأولى قدم: " قوامين لله " على: " شهداء بالقسط "، وفي الثانية قدم " قوامين بالقسط " على: " شهداء للهِ ". السورتان في الأشهر مدنيتان: النساء باتفاق، والمائدة فيها خلاف، والذى أجمعوا عليه أن المائدة - أو التوبة - هي آخر ما نزل من القرآن، والمائدة أرجح في هذا المجال. وقد نقل صاحب البرهان أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ المائدة فى حجة الوداع ثم قال: " إن آخر القرآن نزولاً المائدة فأحلوا حلالها وحرِّموا حرامها. ونقل السيوطي عن أبى عبيد، عن محمد بن كعب: " قال: نزلت سورة المائدة في حجة الوداع وفيما بين مكة والمدينة " ونقل أيضاً أقوالاً أخرى تقوي من هذه الوجهة. ومع هذا فإننا نجد نسبة السورة في المصاحف إلى المدني. ولعل هذا أخذ بالرأي القائل أن المدني هو ما نزل بعد الهجرة وإن نزل بمكة، وهو أحد أقوال هو أشهرها. * قيمة هذه النقول: وهذه النقول التي ذكرناها تفيدنا إلى حد بعيد في توجيه التقديم والتأخير فى هذين الموضعين لأننا نبنى عليها الآتى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 1 - أن ما قُدِّم فيه: (كُونُواْ قَوامينَ بالقسْط) . خطاب خالص للمؤمنين لأن القوامة لله عند المؤمنين أمر متحقق، والمطلوب تحرى العدل فى الشهادة والحكم. وذلك في سورة النساء. وقد ذكر الواحدى أن الآية نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: " روى أسباط عن السدى قال: نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - " اختصم إليه غنى وفقير. وكان ضلعه مع الفقير رأى أن الفقير لا يظلم الغنى فأبى الله تعالى إلا أن يقوم بالقسط فى الغنى والفقير فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) - حتى بلغ: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) 2 - وأما ما قُدم فيه: (كُونُواْ قَوَّامِينَ للهَ) فهو خطاب للمؤمنين والناس عامة. لأن السورة في كثير من الآراء نزلت بحجه الوداع، أو هي آخر ما نزل من القرآن، ولهذا فإن أهل مكة داخلون في المخاطبين بها، إذ هي فى مقام الإرشاد العام. لذلك قدم فيها: (كُونُواْ قَوامِينَ لله) لأن القوامة لله أمر ليس بمتحقق عند جميع المخاطبين. بل متحقق عند بعَضهم دون البعض الآخر. * دلالة النص نفسه: ولنا من نصوص الايتين شاهد. فآية المائدة تُشعر بأنها توصى المسلمين عامة بتحرى العدل حتى مع قوم هم عدو لهم: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) . والقوم - هنا - هم المخالفون في الدين، وهذا لا يكون إلا حين يختلط المسلمون بهم، فهم - أي المخالفون - تفترض الآية وجودهم. ولا شك أن أهل مكة مهتمون بما تلاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الناس في حجة الوداع، متناقلون له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 فقُدِّمت القوامه للهِ، لأنها من الأمور الكلية، والمقاصد العامة في الدين، بينما تشعرنا آية النساء بأن الأمر لا يخرج فيها عن توجيه المسلمين بأن يتحروا العدل فيما يعرض لهم من خصومات بعضهم مع بعض. والقوامة للهِ أمر متحقق عندهم، والجديد المطلوب هو المبالغة في توخى العدل بين الخصوم: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) . كما أن في فاصلتى الآيتين ما يؤكد ذلك. . ففى المائدة كانت الفاصلة: (إن اللهَ خَبِيرٌ بمَا تَعْمَلُونَ) . وفي النساء كانت الفاصلة: (إن اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلونَ خَبِيراً) . حيث قدم: " خبير " في المائدة على: " تعملون " وقدم: " تعلمون " على " خبيراً " في النساء لأن الخطاب مع المخالفين، وفيهم أهل مكة بفتضى إنشاء وإيجاد الأمور به، لخلو المخاطب منه، ولو تنزيلاً، والمؤمنون لا ينكرون علم الله بعملهم. بخلاف غيرهم فتقديم: " خبير " في المائدة على: " تعملون " مع أن المقدَّم متعلق به، لأنه أهم، ولعل الفعل: " كان " في فاصلة السورة: (إن اللهَ كَانَ بمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراٌ) . يشير إلى حصول هذا المعنى عندهم في الماضي. بينَما تخلو فاصلة المائدة من هذه الإشارة! * رأي الخطيب الإسكافي: فرق الخطيب بين الموضعين بأن ما في سورة النساء خطاب للناس بالعدل فى الشهادة. أما في سورة المائدة فالأمر للولاة. . وعلى كل فإن ما ذكره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 لا يقنع الباحث في هذا المجال. لذلك أثبتُ ما رأيته تفسيراً أقرب إلى الواقع دون أن أُغيِّر منه شيئاً. * * * الموضع الثامن " اطمئنان القلوب ": (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) . (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) . فى هاتين السورتين عبارة تكررت فيهما مع اختلاف يسير في الصياغة فهى فى الأنفال: (وَلِتَطمَئِن بِهِ قُلوبُكُمْ) . فى الأنفال قدم: " به " على: " قلوبكم "، والأصل تقديم " القلوب " لأنه فاعل. وفي آل عمران جاء الترتيب على الأصل فقدم: " قلوبكم " على " به ". * *فرقان يوضحان السر: والسؤال: لماذا قدم: " به " في الأنفال، وآخرَ في آل عمران؟ وموضوع الحديث في الموضعين واحد؟ والجواب - فيما أرى - إننا نلحظ في الموضعين فرقين. . أحدهما: مستفاد من النص نفسه. والثاني: خارج عنه، وكلاهما يقتضيان مجيء النظم فى الموضعين على ما هما عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 فالأمر الذي يُفهم من النص نفسه في آية الأنفال استغاثة من المؤمنين يوم بدر بريهم. والاستغاثة: طلب الغوث. والمستغيث: متشوِّق لما يُغاث به متطلع إليه في موطن الخوف وطلب النجدة فجاء قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) . فقدم ضَمَير الإمداد مع عامله على القلوب لاهتمامهم به، وشدة حاجتهم إليه، لأنه موضع رجائهم. فالمقام هو الذي اقتضى تقديمه ولعل عجز الآية يقوي ذلك: (إن اللهَ عَزِيرٌ حَكِيمٌ) . . عزيز: لا يغلب جنده، وحكيم: لا يعطى النصر والمدد إلا لمن يستحق، مؤكداً ذلك بـ " إن " واسمية الجملة. أما آية آل عمران فقد خلت من هذا الاعتبار، فأخرج الكلام فيها مخرج الوعد المشروط: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) . ففى الآية حكاية ما حدث يوم " بدر "، وتذكير لهم بما صنع الله معهم فيها، واعداً أن يصنعه في " أُحد " لو صبروا واتقوا. فلم يصبروا عن الغنائم، ولم يتقوا حيث خالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلذلك لم تنزل الملائكة. والذي يُفهم من خارج النص: أن " الأنفال " نزلت في غزوة بدر والدماء لم تجف بعد، والعهد بها لم يطل فالخطاب فيها مؤسس، فروعي فيها ما روعي من مقتضيات الأحوال على نحو ما ذكرنا. وآية آل عمران تذكير بما حدث. وحكاية حال مضت إذ هي - أي آل عمران - مدنية متأخرة في النزول عن وقوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 غزوة بدر. وفرق بين ما يُؤسس وما يُحكى. لذلك اقتضى الحال في آل عمران أن يأتي التعبير فيها على الأصل إذ لا مقتضى للعدول عنه. * * رأي الخطيب الإسكافي: يتلخص رأى الإسكافي في عبارته الآتية: ". . وأما تأخير: " به " بعد قوله: " قلوبكم " فلأنه لما أخر الجار والمجرور في الكلام الأول هو قوله: (وَمَا جَعَلهُ اللهُ إلاًّ بُشْرَى لكُمْ) . وعطف الكلام الثاني عليه، وقد وقع فيه جار ومجرور وجب تأخيرها في اختيار الكلام ليكون الثاني كالأول في تقديم ما الكلام محتاج إليه وتأخير ما قد يستغنى عنه. وأما تقديم: " به " في الآية الثانية فلأن الأصل في كل خبر يصدر بفعل أن يكون الفاعل بعده ثم المفعول والجار والمجرور، وقد يقدم المفعول على الفاعل. . وكذلك الجار والمجرور بمنزلة المفعول في التقديم والتأخير. . وفى هذا الموضع. . فإن المعتمد تحقيقه عند المخاطبين إنما هو الإمداد بالملائكة، وهو الذي أخبر الله تعالى عنه أنه لم يجعله إلا بُشرى فوجب أن يُقدم في الكلام ". والذي يُفهم من هذه العبارة أن الخطيب علل التأخير في آل عمران على مناسبة لفظية بحتة، والواقع أن التأخير في آل عمران لا يحتاج إلى تعليل لمجيئه على الأصل. أما في الموضع الثاني - الأنفال - فقد وفق الخطيب حيث أرجع التقديم إلى ملحظ دقيق هو الحالة النفسية التي كانت تسيطر على فكر المخاطبين فخاطبهم القرآن مراعياً تلك الحالة فقدم ما هو أهم عندهم. وسبق أن ذهبنا هذا المذهب قبل الاطلاع على كتاب الإسكافي المذكور. . وذلك فضل من الله وإلهام. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 * الموضع التاسع " وكَفَى بِاللهِ شَهِيداً ": (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) . فى الإسراء قدم: " شهيداً " على: " بينى وبينكم " وفي العنكبوت عكس النظم فقدم: " بينى وبينكم " على: " شهيداً " فما السر إذن؟ والجواب: إن التأمل في الموضع الأول - الإسراء - يرى القوم قد أوغلوا في تحديهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتفننوا في مظاهر العناد. فقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) . * * التفاوت في التحدي هو السر: لقد بلغ التحدي - هنا - غاية بعيدة. انتقلوا فيه من صورة إلى صورة قاصدين من ورائه إعجازه وإفحامه. أما الموضع الثاني - العنكبوت - فإن القرآن حكى فيه تحدى القوم للنبى - صلى الله عليه وسلم - على وجه الإجمال: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 والتفتن في المعارضة، ولحجج الخصومة فيما حكاه القرآن عن القوم فى الإسراء حال داعية إلى تقديم: " الشهادة " على: " البينة " لأنهم حين لم تثمر فيهم النُذر التي بلغتهم عن ربهم أثاروا في الداعي شعور الاستياء منهم والأسف عليهم. فكأنه - أي الداعي - كان يردد في نفسه: ربي. . إن خروج هؤلاء عن الحق. وتماديهم في الباطل، ليس عن تقصير مني لقد بلغتهم ما أمرتنى به. وأنت تعلم أنى قد بلغت. ههنا خصومة محتدة، ولا يفصل في الخصومات المحتدة أفضل من شهادة حق، لذلك رجح تقديم: " شهيداً " وهو الأصل على تأخيره، وهو جائز. وإنما كان تقديم: " شهيداً " هو الأصل لأنه حال أو تمييز، وهو صفة مشبهة باسم الفاعل صالح لأن يتعلق به شيء، والظرف هنا: " بينى وبينكم " متعلق به فرتبته إذن التأخير حيث لا مقتضى للخروج عن الأصل. وتأخيره غير مخل بالتعبير لكونه في الأصل كذلك ولأن الفاصلة: (إنهُ كَانَ بعَبَاده خَبيراً بَصيراً) . تشير إلى طرفى موضوع الشهادة. المشهود له، وَالمشهَوَد عَليه. إذَ هي نص صريح في أن الله خبير بصير بالعباد ففيها نوع تخصيص بتعلق العلم والبصر. وهذا يفيدنا في توجيه تقديم الظرف: " بينى وبينكم " على: " شهيداً " فى سورة العنكبوت. ونص الآية مرة أخرى: (قُلْ كفَى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُم شَهِيداً يَعْلمُ مَا فِى السماواتِ والأرْضِ. .) أي بينى أنا وبيَنكم أنتم لا بيني وبين أحد غيركم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 والداعي للتخصيص هنا المستفاد من تقديم الظرف: " بينى وبينكم " على: " شهيداً " وهو العامل فيه أن قوله تعالى بعده: (يَعْلمُ مَا فِى السماوات والأرْضِ) ، يفيد أن تعلق العلم - هنا - عام، وعلم الله بالعباد أحد أفراده. لذلك رجح - والله أعلم - تقديم الظرف لإفادة التخصيص، لاحتمال المقام العموم. على خلاف الأول. وأمر آخر: هو أن تأخير: " شهيداً " ليجاور: " يعلم ما في السموات " من المناسبة في أعلى مكان، لأن الشهيد عالِم لا محالة!! * ملاحظة: ليس للخطيب الإسكافي توجيه في هذا الموضع لا في الإسراء، ولا في العنكبوت. فلزمت الإشارة. * * * * الموضع العاشر " التلاوة وتعليم الكتاب ": (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) . (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) . فى البقرة قدم تعليم الكتاب والحكمة، على التزكية. وفي الجمعة عكس الترتيب فقُدمت التزكية على تعليم الكتاب والحكمة!! فلماذا أوثر في كل موضع ما هو عليه من النظم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 * نظرة فاحصة تكشف السر: الجواب: إن نظرة فاحصة في النصين تكشف السر. فتقديم: (يُعَلَمُهُمُ الكتَابَ والحكْمَةَ) في البقرة، وعطفه مباشرة على قوله: (يَتْلواْ عَليْهِمْ آيَاتَكَ) لما بَين المعنيين من تناسب لدرجة أنهما يبدوان في قوة المعنى الواحد. إذ من التلاوة يكون حصول تعليم الكتاب والحكمة. كما أن تأخير: (وَيُزكيهِمْ) فيه تناسب بينه وبين الفاصلة: (إنكَ أنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) لأن التزكية لا تكون إلا من العزيز الحكيم. إذ هما وصفان موجبان للعظمة والإصابة في الفعل والقول. أما تقديم التزكية في الجمعة فلتقدم: " القدوس " وما عطف عليه إذ بين التزكية والقداسة نسب وصلة. وتأخير تعليم الكتاب والحكمة لما بينه وبين الفاصلة من تناسب كذلك اقتضاه المعنى: (وَيُعَلَمُهُمُ الكتَابَ وَالحكْمَةَ وَإن كَانُواْ من قَبْلُ لفِى ضَلال مبين) . فجمع بينهما لكي نظهر نعَمة الله عليهم فضل ظهور. لأن الضدين إذا اجتمعا وضح الفرق بينهما. * * فهم آخر: ولنا أن ندير الأمر على اعتبار آخر مؤداه: أن المقام في سورة البقرة مقام دعاء سلك فيه الداعي الترتيب الطبيعي بين المتعاطفات، لأن قصده أن تبنى الأمة بحصول وسائل الهداية لها. فالرسول يتلوا آيات ربه على مسامعها فيزيل ما عندها من جهل، ويعلمهم عن طريق التلاوة الكتاب والحكمة، فإذا حصل لهم ذلك زكت أنفسهم وطهرت قلوبهم حيث هينت دواعى ذلك لهم فقدم ما هو سبب على ما هو مسبب. وأمر ذلك ظاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 والمقام في سورة الجمعة مقام تمجيد للهِ. وامتنان على عباده بجلائل النِعَم. فقُدمت التلاوة لأنها أولى وسائل الهداية. وقُدِّمت " التزكية " على ما بعدها لأنها المقصود الأهم من التربية والإصلاح المنشودين. وأُخر تعليم الكتاب والحكمة ليظهر أثر النِعَم واضحاً إذا قُرِنَ بضده، وهو الضلال البين الذي كانوا فيه من قبل. ونظير ذلك: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) . فقرن كل نعمة بما يقابلها مما أزاله الله عنه. ليظهر كمالَ فضل الله عليه. * ملاحظة: ليس للخطيب الإسكافي توجيه في هذا الموضع لا في البقرة ولا في الجمعة فلزمت الإشارة. * * * الموضع الحادى عشر " لاَ يَقْدِرُونَ عَلى شَىْءٍ مِمَّا كَسَبُواْ ": (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) . (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 فى هاتين الآيتين وردت عبارة: (لاَ يَقْدرُونَ عَلى شَىْءٍ مما كَسَبُواْ) بتقديم: " شيء " على: " مما كسبوا " في البقَرة. ثم بتقديم: " مما كسبوا " على: " شيء " في سورة إبراهيم عليه السلام. * * بحث عن السر: العبارة في آية البقرة وردت ضمن خطاب للمؤمنين ينهاهم الله أن يكونوا مثل مَنْ يُنفق ماله رئاءً ولا يؤمن بالله واليوم الآخر. ووردت في آية إبراهيم عليه السلام في سياق كلام مبنى من أول الأمر على بيان مصير أعمال الكافرين. وهو شامل لجميع أعمالهم من الطاعات الظاهرة ومنها الإنفاق. والمثل الأول - في سورة البقرة - تعليمى إرشادي للمؤمنين. والثانى: إنذارى تقريرى للكافرين. وما سوف تكون عليه أعمالهم يوم القيامة والذي ينفق ماله رئاءًا لذى ورد في آية البقرة هو المنافق المظهِر للإيمان المبُطِن للكفر. أما المقصود بآية إبراهيم فهم الكافرون المعلنون لكفرهم. والمنافق حين يُنفق إنما يريد استثمار نفقته لتعود عليه بالنفع. ولما كان يتظاهر بإنفاقها بين الناس. موهماً لهم أنه يبتغى بها وجه الله. ويخفى قصده الحقيقي فإن: " شيء " وهو ما يرجو أن يحصل عليه من " ربح " هو كل أمله الذي يملأ نفسه فقُدِّم من أجل ذلك وسُلَطَ عليه النفي ليكون أبلغ في قطع آماله. وعقم كسبه. أما يوم القيامة. . فإن الكافرين تتعلق آمالهم بكسبهم ظانين أنه مُجْدٍ لهم. فكسبهم حينئذ ملء نفوسهم فعمد القرآن من أول الأمر إلى محط رجائهم ونفى قدرتهم عليه: (لاَ يَقْدِرُونَ مِما كَسَبُواْ عَلى شَيءٍ) ، وفي ذلك إشارة إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 عجزهم الشامل فإذا كانوا عاجزين عن كسبهم. فإن عجزهم عما سواه ثابت متحقق. * ملاحظة: ليس للخطيب الإسكافي توجيه لهذا الموضع - لا في البقرة ولا في إبراهيم - لذلك لزم التنويه. * * * الموضع الثاني عشر " الكِبَر والعُقْر ": (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) . (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) . فى آل عمران قدم بلوغه الكِبَر على عُقْرِ امرأته. وفي مريم عكس الترتيب فقدم عُقْر المرأة على بلوغه الكِبَر. . فما السر إذن؟ * ملاحظة أمرين: والجواب: ولا بدَّ - هنا - أن نلحظ أمرين: أولهما: أن زكريا عليه السلام كان يمنعه من الإنجاب سببان: عُقْر امرأته وتقدم سِنُّه. ثانيهما: أن هذين السببين كانا يخطران بباله بدرجات متفاوته أحياناً. . . إذا تقرر هذا فإن السبب الذي يمثل في خاطره أكثر يعمد إلى تقديمه ويؤخر ما عداه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 ففى سورة آل عمران أفاد التعبير نفسه أن الكبَر هو السبب الأظهر عند زكريا عليه السلام. حيث أسند إليه البلوغ: (وَقًدْ بَلغَنِىَ الكبَرُ) فكأن الكِبَر كان يطارده حتى أدركه. . بخلاف مريم فإن البلوغ فيها مسند إلى ضمير زكريا عليه السلام. لذلك قَدم الكِبَر في آل عمران وأُخر عُقْر امرأته. أما في مرلم فإن تقديم العُقْر على بلوغه الكبَر. . فلأن العُقْر - على ما شرحناه - كان السبب الأظهر. * وسبب آخر: أن زكريا عليه السلام قد تقدم على قوله هذا في سورة مريم شكواه إلى ربه من الكبَر: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) ، ومع هذا فقدَ تلقى البشرى من ربه بأنه وُهبَ له غلامٌ. . فكأن الله ألهمه، أو هو فهم من البشرى أن ما شكاه من الكَبر ليس بسبب مانع من الإنجاب. . إذن فالعُقْر ما زال باقياً في خاطر إبراهيم فقدمه على الكبَر. ثم عطف بلوغه عنه عتياً عليه لأنه لم يشك - قبل - العُقْر. فكان عنده السبب الأظهر. فالتقديم هنا والتأخير هناك. والتأخير هناك والتقديم هنا. إنما هو بحسب ما هو أظهر. ولم يتحدث الخطيب الإسكافي عن هذا الموضع كذلك. وكذلك يلاحظ الباحث أن عُقْر امرأة زكريا عليه السلام حين أخر في كلام آل عمران كانت العبارة الدالة عليه: " وامرأتى عاقر " مبتدأ وخبر مجردان. ولكن حين قُدِّم في مريم كانت العبارة الدالة عليه: (وكَانَت امْرَاتِى عَاقراً) بزيادة " كان " إذا قورنت بموضعها في آل عمران، و " كاَن " تفيد ثبوتَ النسبة في الماضي مع الاستمرار هنا. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 * الموضع الثالث عشر " وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ": (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) . هذان موضعان متماثلان - كما ترى - في المعنى. وقد تكررت فيهما عبارة: (وَتَرَى الفُلكَ مَواخِرَ فيه) بتقديم " مواخر " وهي حال من " الفُلك " إن كانت الرؤية بصرية، ومفعولَ ثَان لـ " ترى " إن كانت علمية. ثم أُخر لظرف: " فيه " عن " مواخر ". وهذا الترتيب أصلى. هذا في النحل. . أما في فاطر فقد عكس الموضع. فقدم الظرف " فيه " على: " مواخر " على خلاف الأصل. إذ الظرف من حقه التأخير على ما تقدم فما السر إذن؟ تقدم أن تقديم: " مواخر " في النحل على: " فيه " هو الأصل ولا مقتضى للعدول عنه. * سرد محكم: أما تقديم الظرف: " فيه " على: " مواخر " في فاطر. فسببه فيما أرى هو تعلق " لتبتغوا من فضله " به. والتقدير: وترى الفُلكَ فيه تمخر الماء - أي تشقه - لتبتغوا من فضله. لذلك أخر: " مواخر " ليجاور معموله: " لتبتغوا " والأصل عدم الفصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 ودليلي على ذلك من القرآن نفسه أن الواو حُذِفت في هذا الموضع. بينما لم تُحذف في الموضع الأول. والسبب: أن الآية الأولى تبدأ بقوله تعالى: (وَهُوَ الذي سَخرَ البَحْرَ لِتَاكُلواْ مِنْهُ) وما عطف عليه من استخراج الحلية. وجرى السفن. وابتغاء الفضل. أما الآية الأولى فليس فيها ما يصلح لعطف الابتغاء عليه. فهو إذن متعلق بـ " مواخر " والمعنى - كما بيَّنا - لا يأباه. والله أعلم. " * رأي الخطيب الإسكافي: أطال الإسكافي في توجيه هذا الموضع واهتم في حديثه بتقديم: " فيه " فى فاطر وحذف الواو منها. ويكاد يتفق رأيه مع ما ذكرناه. . إلا أنه زاد أن من جملة ما اقتضى تقديم " فيه " أن حروف الجر في هذا الموضع جاءت مقدمة في أكثر من موضع: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) . والإسكافي موفق في هذا التوجيه الذي اتفقنا معه في جوهوه وزاد هو المناسبة اللفظية من تقديم نظير ما قدم. * * * الموضع الرابع عشر " وَلقَدْ صَرَّفْنَا للنَّاسِ في هَذَا القُرآنِ ": (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) فى الإسراء قدم: " للناس " على: " في هذا القرآن " وفي الكهف قدم: " في هذا القرآن " على: " للناس " والموضعان متحدا المعنى. * * سؤال وجواب: فما السر إذن؟ . . والجواب: المقام في الإسراء مقام تحد وإعجاز. تحد للناس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن مشروطاً مظاهرة بعضهم لبعض. فما بالهم لو انفردوا. . وهذا التحدي قد بلغ النهاية باشتراط اجتماعهم. فالمتحدَى - هنا - نوعان: الإنس والجن. والمقصود بالتحدي بالدرجة الأولى هم الإنس أو الناس. لأنهم هم الذين زعموا أن مقدروهم أن يأتوا بمثل القرآن فكان تقديمهم فيه شبه تعريض بهم. حاصله - والله أعلم - أن ما زعموا محاكاته - أي القرآن - قد صرفنا فيه من كل مثل. و" صرفنا ": أي رددنا وكررنا غرائب الأمثال لهم ليهتدوا فأبوا إلا الإعراض والبطر بدل أن يشكروا هذه النعَم الموجبة للشكر والداعية إلى الهداية وكيف لهم أن يحاكوه وما هم منه على صَدر، أو ورد. أما في سورة الكهف. فقدم: " في هذا القرآن " لأن السورة من أول الأمر أشارت إلى فضل القرآن وأثنت عليه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا) . ولأن سياق الحديث وارد في أهوال القيامة: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) . والقرآن آخر الكتب نزولاً فكأنه يقول لهم: إن هذا القرآن كان فيه نفعكم. لأنه الحق فجادلتم فيه ولم تؤمنوا به. ولأن السورة نفسها - الكهف - قد سردت قصة أهل الكهف وقصة الرجلين وضربت مثلاً للحياة الدنيا، ثم أشارت إلى آدم والملائكة وإباء إبليس السجود لآدم. وذكرت - تفصيلاً - قصة الإسكندر ذى القرنين ويأجوج ومأجوج فهى - إذن - سجل حافل بالمثل والقصة. لهذه الاعتبارات كلها أرى السر في تقديم: " في هذا القرآن " على: " للناس " والله أعلم. * * رأى الخطيب الإسكافي: يكاد ما ذكرته هنا - قبل اطلاعى على رأى الإسكافي كما مَرَّ - يتفق مع ما ذكره الخطيب الإسكافي وإن زدتُ عليه في موضعين: أولاً: اعتبارى في تقديم: " للناس " كونهم معرَّضاً بهم إذ هم المقصود بالتحدي أولاً. ثانياً: ما قُدم فيه: " في هذا القرآن " وارد في سياق حديث عن أهوال يوم القيامة. كما زاد هو بعض تفاصيل أسلوبية وتحدث عن آية أخرى وهي قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 * الموضع الخامس عشر " رزق الآباء والأبناء ": (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) . (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) . في الأنعام قدم رزق المخاطبين على رزق أولادهم المدلول عليه بعطف ضميرهم عليه، وفي الإسراء قدم رزق الأولاد على رزق المخاطبين. فما السر إذن والمعنى في الموضعين واحد؟ الجواب: إن الخطاب في الأنعام مع قوم فقراء يهمهم رزقهم أولاً، ثم رزق أولاد هم ثانياً فقدم رزقهم لأنه عندهم أهم. وفي الإسراء الخطاب مع غير فقراء لكنهم يخشون وقوع الفقر في المستقبل فتجوع أولادهم. فرزق أولادهم - لأنه مظنة القلة التوقعة - أهم عندهم من رزقهم لأنهم حاصلون عليه، فقدم رزق أولادهم على رزقهم لأنه أهم كما بيَّنا. والدليل أن التعبير في الأولى هكذا: " من إملاق " أي فقر واقع فعلاً. وفي الثانية: " خشية إملاق " أي فقر متوقع. هذه لمحات دالة في الأسلوب تغنى عن كل تخريج. وهكذا تنص كتب التفسير وكتب البلاغة فليس لنا في هذا الموضع سوى أمانة النقل. أما رأى الخطيب الإسكافي فمثل ما قرره المفسرون. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 * الموضع السادس عشر " لقَدْ وَعِدنا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ": (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) . فى الآية الأولى قدم اسم الإشارة: " هذا " مراداً به البعث على: " نحن وآباؤنا ". وفي الآية الثانية قدم: " نحن وآباؤنا " على: " هذا " والمعنى فى الموضعين متحد. . فما السر إذن؟. * رأى الزمخشري: أجاب الزمخشري فقال: " فإن قلتَ: قدم في هذه الآية: " هذا " على: " نحن وآباؤنا " وفي آية أخرى قدم: " نحن وآباؤنا " على: " هذا "؟ قلتُ: " إن المقدَّم هو الغرض المعتمد بالذكر. وإن الكلام إنما سيق من أجله. ففى إحدى الآيتين دل على أن اتخاذ البعث هو الذي تعمد بالكلام، وفى الأخرى على أن اتخاذ المبعوث بذلك الصدد ". هذا ما ذكره الزمخشري. . وهو توجيه عام قد لا يكتفى به باحث يتطلب سراً أدق وتوجيهاً أعمق. إذ عليه يرد سؤال؟ : لماذا كان الأصل في إحدى الآيتين " اتخاذ البعث "، وفي الأخرى على " اتخاذ المبعوث " وهل هناك مانع أو عكس النظم "؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 * رأيي في الموضوع: والذي أراه - بعد طول تأمل - أن الأمر ينكشف إذا وقفنا على حال منكرى البعث النفسية لحظة نطقهم بكل من العبارتين. كما حكاهما عنهم القرآن. والمرجع في ذلك إلى القرآن نفسه. فقد ذكر القرآن قبل الآية الأولى - أعنى آية النمل - قوله تعالى: (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ) فصيرورتهم تراباً أبعدت عندهم احتمَال وقوع البعث. إذ أصَبحوا في طور مغاير لما كانوا عليه في الحياة. كذلك فإنهم هنا طووا ذكر الموت الذي يُشعر بسبق الحياة. واكتفوا بقولهم: " كنا تراباً " فكان - على زعمهم - حرياً بالإنكار والاستغراب. لذلك قُدِّم اسم الإشارة الدالة عليه لكونه محل إنكارهم القوى فصار عندهم أسرع حضوراً فى الذهن. فهو من هنا كان أهم بالإنكار فقُدِّم. أما في آية " المؤمنون ". . ففد ذكر القرآن الحكيم قبل مقولتهم قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) . فقد أقرُّوا - هنا - بالموت. فهم إذن قد سبقت لهم حياة. ثم ذكروا صيرورتهم تراباً وعظاماً. والعظام أثر باق من آثار الحياة التي كانوا يحيونها. فهم لم يتحولوا إلى طور مغاير تماماً لما كانوا عليه في الحياة. لذكر العظام. وهذا أضعف من درجة الإنكار عندهم لوجود العظام ولتقدم ذكر الموت المنبئ بمَقدم الحياة. وهذا الضعف في درجة الإنكار كان سبباً - والله أعلم - فى تقديم: " نحن وآباؤنا " وتأخير هذا لأنه موضع الاستغراب والإنكار. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 * رأي الخطيب الإسكافي: يرى الإسكافي أن أمر التقديم في الموضعين راجع إلى المناسبات اللفظية، فالآية الأولى أسندت فيها الأفعال إلى فاعليها بدون فصل، فلما قال: " لقد وعدنا " وجب في البناء على الأفعال المتقدمة أن يتم حكم الفاعل وهو توكيده والعطف عليه فقدم: " نحن وآباؤنا " على المفعول الثاني وهو: " هذا " لذلك. وأما الآية الثانية. . . . فإن الذي تقدمها: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أءذَا كُنا تُرَاباً وَآباؤُنَا) فأخر المعطوف على " اسم كان " الذي هو كالفاعل لها وهو قوله: " وآباؤنا " عن المنصوب الذي هو كالمفعول لها. وهو قوله: " تراباً " فصار الأصل ما هو كالمفعول مقدماً على ما هو معطوف على الفاعل. فاقتضى البناء عليه تقديم المفعول ثم العطف على الفاعل الضمر. فجاء: (لقَدْ وُعدنا نَحْنُ وَآباؤُنَا مِن قَبْلُ) لذلك. والفرق بين توجيهه - هو - وما ذهبتُ إليه أنه يُرجِع التقديم والتأخير إلى المقتضيات اللفظية. ونحن التمسنا مقتضيات نفسية، اعتمدنا فيها على ما بين الموضعين من فروق لفظية غير ما اعتبره هو. ولا مانع - عندى - أن يُحمل الأمر على كلا الاعتبارين. * * * الموضع السابع عشر " وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى ": (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) . (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 فى القصص في الآية الأولى. جاء ترتيب النظم على وضعه الأصلى فولى الفعل فاعله: " رجل ". وفي الآية الثانية في سورة يس، خولف النظم فجاء الجار والمجرور: " من أقصا المدينة " والياً الفعل. فاصلاً بينه وبين فاعله. على خلاف الأصل. مع ملاحظة أن التشابه بين الموضعين لفظي فقط. لأن ما في سورة القصص: الرجل هو مؤمن آل فرعون والمدينة هي مصر. أما في سورة يس. . فإن الرجل هو حبيب بن إسرائيل النجار والمدينة هي أنطاكية. وهذا الاختلاف لا يمنع من البحث عن سر التقديم والتأخير فيهما حيث تشابه الموضعان لفظاً. فما السر إذن؟ * * رأي السكاكي: والجواب: يرى السكاكي أن تقديم الجار والمجرور في آية يس. . لأن ما قبل هذه الآية دال على سوء معاملة أهل المدينة للرسل. فكان ذلك مظنة أنِ يسأل سائل: أكانت هذه المدينة كلها بهذه الصفة أم أن فيها موطناً هو منبت خير؟ ، لذلك قدم ما يشتمل على المدينة لأنها أهم عند المخاطب. وهذا توجيه حسن نسجل إعجابنا به للسكاكي رحمه الله. أما تقديم: " رجل " على الجار والمجرور في آية القصص. فقد جاء على الأصل حيث لا مقتضى للعدول عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 * رأي الخطيب الإسكافي: ويرى الإسكافي أن تقديم الجار والمجرور في " يس " لأن فيه تبكيتاً للقوم إذ جاء " الناصح " من أقصا مكان فيها وهو لم يحضر ما يحضرون. ولم يشهد ما يشهدون من الآيات والنُذُر. أما تقديم (رجل) في القصص فلأنه الأصل ولم يكن ما يدعو إلى التبكيت، وهذا كلام رائع جداً. ولا مانع من حمل الأسلوب في الموضعين على ما ذكره السكاكي والإسكافي. * * * الموضع الثامن عشر " الأكل الرغد ": (وكُلاَ منْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا) هذا الخطاب من الله لآدم وحواء مؤذن لهما بدخَول الجنة وأكل منها فقدم: " رغداً " على: " حيث شئتما " ثم قدم: " حيث شئتم " على: " رغداً " في خطابه - سبحانه - لبني إسرائيل عند دخولهم قرية أريحاء، وكلا التعبيرين في سورة البقرة. الأول فى الآية: (35) ، والثاني في الآية: (58) - فما السر إذن؟ الجواب: إن تقديم: " رغداً " على: " حيث شئتما " في خطاب الله لآدم وحواء لأن طعامهما كان أهم عندهما، أما المكان المدلول عليه بـ " حيث شئتما " فما كان يعنيهما في شيء لأنهما اثنان والجنة فسيحة لا تضيق بهما. وتقديم: " حيث شئتم " في خطاب بنى إسرائيل لأنه أهم عندهم. إذ كانوا جمعاً من الناس. والدخول فيه " قرية " فقد يظنون أنها تضيق بهم إذا سعوا فيها ابتغاء الرزق والسكنى. فقدم ما هو عندهم أهم. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 * ملاحظة: لم يتحدث الخطيب الإسكافي عن هاتين الآيتين من حيث ما فيهما من التقديم والتأخير الذي وجهناه. بل تحدث عن إحداهما من وجه آخر. * * * الموضع التاسع عشر " الشفاعة والعدل ": (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) . (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) . هاتان الآيتان بينهما فروق من وجوه: 1 - في الأولى قُدمت الشفاعة على العدل وجُعِلت الشفاعة نائب فاعل لفعل منفى هو: " لا يقبل "، أما العدل فجُعِل نائب فاعل لفعل منفى هو: "يؤخذ". 2 - وفي الثانية قُدم العدل على الشفاعة وجُعِل نائب فاعل لفعل منفى هو: " لا يقبل " وهو نفس الفعل الذي أسندت إلى الشفاعة بنفس الطريقة في الآية الأولى. 3 - أما الشفاعة فقد أخرت فيها مع التغاير في الفعل الذي أسنِد إلى العدل حين أخر في الآية الأولى. وكان حقه أن يُسند إليها لتتم المقابلة من كل الوجوه. وهي في التركيب الجديد: " ولا تنفعها شفاعة " فما السر إذن فى هذا الاختلاف بين الموضعين؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 * توجيه الزركشي لهاتين الآيتين: نقل الزركشي سؤالين حول هاتين الآيتين: الأول: لماذا قدم في الأول نفى قبول الشفاعة على نفى أخذ العدل؟ الثاني: ولماذا عبَّر في الثانية بنفى قبول العدل ونفى نفع الشفاعة مكان عدم أخذ العدل، ونفى قبول الشفاعة حيث قدم المؤخر وأخر المقدم في الأولى؟ نقل هذين السؤالين - ولم يرتض أن يكون هذا التصرف في التعبير من باب التوسع في الكلام. وذكر في توجيه ذلك نقولاً وآراء نوجزها فيما يأتي: أدار الأمر على النفس مكررة في كل موضع مرتين، والنفس الأولى غير الثانية، وكل منهما صالح لأن يرجع الضمير عليه في: " منها " و: " تنفعها ". وجعل الضمير في: " لا يُقبل منها شفاعة " راجعاً إلى النفس الأولى التى هى الشافعة لغيرها. والغرض من هذا ذكر الشفاعة للمشفوع له. لذلك قدمها وأخبر أنها غير مقبولة وهذا من شأنه حَمل السامع على ترك الشفاعة لعلمه بعدم قبولها. أما: " ولا يؤخذ منها عدل " فالضمير - عنده - يحتمل العود على كل من النفسين، فإذا قُدَِّر عوده على الأولى " الشافعة " فقد جرت العادة أن الشافع إذا أراد أن يدفع إلى المشفوع عنده شيئاً ليكون مؤكداً لقبول شفاعته. فمن أجل هذا قُدِّم ذكر الشفاعة على دفع العدل ". وهذا كلام غير واضح - كما يبدو - ولعله أراد أن الشافع يتقدم بعرض شفاعته عند المشفوع عنده أولاً. ثم يعطيه ما يريد أن يؤكد به قبول شفاعته. ولكون التقديم على هذا جارياً على الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 ثم قال: " وإن جعلنا الضمير راجعاً إلى المشفوع فيه. فهو أحرى بالتأخير ليكون الشافع قد أخبره بأن شفاعته قد قُبِلت. فتقديم العدل ليكون ذلك مؤسساً لحصول مقصود الشفاعة وهو ثمرتها للمشفوع فيه ". وكلامه - هنا - يُفهم منه أن يجوز حصول الأمرين: قبول الشفاعة ودفع العدل، وليس الأمر كذلك. . لأن المراد من الآية - والله أعلم - أن عدم قبول الشفاعة باعث على تحريك النفس على دفع العدل لتكون الشفاعة مقابل عوض. يعني أنه يفكر في تقديم العدل بعد فشل الشفاعة من الشافع. هذا في الآية الأولى. . . أما الآية الثانية. . فقد جعل الضمير في: " منها عدل " راجعاً إلى النفس الثانية التي هي صاحبة الجريمة. وتقديم العدل - هنا - للحاجة إلى الشفاعة عند مَن طلب منه ذلك قال: ". . ولهذا قال في الأولى: " ولا يُقبل منها شفاعة "، وفي الثانية: " ولا تنفعها شفاعة " لأن الشفاعة إنما تُقبل من الشافع وإنما تنفع المشفوع له ". ثم حكى عن بعض مشايخه - لم يذكر اسمه - إن الله نفى قبول الشفاعة لا نفعها. ونفى أصل العدل الذي هو الفداء، وبدأ بالشفاعة في الأولى لتيسيرها على الطالب أكثر من تحصيل العدل على ما هو معروف في دار الدنيا. أما في الثانية. . فإنه لا تقرر زيادة التأكيد بدأ بما هو أعظم الذي هو الخلاص بالعدل وثنى بنفى الشفاعة فقال: " ولا تنفعها شفاعة " ولم يقل: لا تُقبل منها شفاعة، وإن كان نفى الشفاعة يستلزم نفى قبولها. لأن الشفاعة تكون نافعة غير مقبولة فنفى الشفاعة أعم. فلم يكن بين نفى القبول ونفى النفع بالشفاعة تلازم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 فنفى قبول العدل ونفى نفع الشفاعة مؤكدان لاستقرار ذلك في الآية. ونقل عن صاحب المفردات رأياً خلاصته: " وأما تغيير النظم فلما كان قبول العدل وأخذه. وقبولها الشفاعة ونفعها متلازمة لم يكن بين اتفاق هذه العبارات واختلافها فرق في المعنى ". ولكن الزركشي لم يرتض هذا الرأي ورده رداً موفقاً، ونقل عن الإمام فخر الدين الرازي: إن الناس متفاوتون، فمنهم مَن يختار أن يشفع فيه أولاً. ومنهم مَن يختار بذل العدل. فذكر الله لكل طائفة ما يلائمها في الموضعين. وبهذا ينتهي حديث الزركشي عن هاتين الآيتين. * * جولة مع المفسرين: وقد رجعتُ إلى تفسير الزمخشري فوجدته يُرجع الضمير في الموضعين للنفس الثانية العاصية ويجوز عوده على الأولى. أى لا تُقبل شفاعتها في غيرها. ولا يؤخذ منها عدل إذا أرادت أن تبذله لخلاص غيرها. والإمام النسفي يرجع الضمير في: " ولا يقبل منها شفاعة " و: " ولا يؤخذ منها عدل. . " للنفس الأولى - المؤمنة - إذا شفعت في الكافرة. أما أبو السعود فيُجوز عود الضمير على أي منهما. ولم يتعرض منهم أحد للتقديم والتأخير في هذه المواضع. وشغلهم عنهما مرجع الضمير وتقرير المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 أما الخطيب الإسكافي فقد اقتضب القول اقتضاباً وجاء تخريجه للمسألة توجيهاً عاماً لم يتعرض فيه للتقديم في موضع - والتأخير في آخر. تلك خلاصة سريعة لما ذكره صاحب البرهان من نقول، وما يراه هو شخصياً فى توجيه التقديم والتأخير في هذا الموضع. وخلاصة سريعة - أيضاً - لما ذكره ثلاثة من المفسرين وإشارة إلى رأي الخطيب الإسكافي. فهل بقى - بعد - احتمال آخر يتفق مع طبيعة الأسلوب؟ * * رأيي في المسألة: والذي أرجحه في مسألة إرجاع الضمائر هو أن يكون الضميران في الآية الأولى راجعين إلى النفس الأولى. لأنها التحدث عنها. ولأن الضمير في: " ولا يقبل منها شفاعة " لا يصح رجوعه إلا إليها. لأنه لو أراد النفس الثانبة " العاصية " لقال: " ولا يقبل فيها شفاعة " وهذا يرجح عود الضمير في: " ولا يؤخذ منها عدل " إليها هي أيضاً. ويكون المعنى - والله أعلم -: إن النفس المؤمنة لا تجزي عن سواها شيئاً، وإذا شفعت في غيرها فشفاعتها مردودة، وإذا استبدلت بالشفاعة المردودة العدل فإنه كذلك لا يؤخذ منها. ويكون ذلك كله تأكيداً لانفصام الروابط التي كانت بين الناس في الحياة الدنيا من والدية ومولودية وأخوة وصداقة وزوجية: (وَأنْ ليْسَ لِلإنْسَانِ إلا مَا سَعَى) . وعود الضميرين في هذه الآية على النفس الأولى أولى - عندى - حتى تكون الأفعال المنفية في المواضع التي هي: " لا تجزى " و " لا يُقبل " و: " ولا يؤخذ " حديثاً عن النفس الأولى في سلسلة واحدة تخصها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 أما في الآية الثانية. . فإن الضميرين لا يحسن عودهما إلا على النفس الثانية العاصية. ويكون المعنى: أن النفس العاصية يوم القيامة لا يجزي عنها أحد شيئاً مهما كانت الروابط، وإذا أراد أن يفدى نفسه فلا يُقبل منه فدى، وإذا تشفع بغيره فلا تنفعه شفاعة. أما تقديم الشفاعة أولاً وتأخيرها ثانياً، وتأخير العدل أولاً وتقديمه ثانياً، فإنى أتفق مع ما ذكره الزركشي عن أحد شيوخه في توجيهه لهذا التقديم والتأخير، إذ المراد به قطع رجائهم رداً لما ذكره بنو إسرائيل من أنهم أبناء الأنبياء وسيشفعون لهم يوم القيامة. ففى الآية الأولى نفى عنهم نفع الغير بكل وجه من وجوه النفع، وفي الثانية نفى عنهم نفع أنفسهم مقدماً الفداء الذي يدفعه الجرم عن نفسه في الغالب. وأخر الشفاعة لأنها تكون من غيرهم. والله أعلم. * * * * الموضع العشرون " اللعب واللهو ": فى هذا الموضع تدور المقارنة حول تقديم اللعب على اللهو ثم تقديم اللهو على اللعب. في مواضع أخرى. أما تقديم اللعب على اللهو ففى المواضع الأربعة الآتية: 1، 2 - الأنعام في آيتين: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) . (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 3 - محمد في آية واحدة: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) . 4 - الحديد في آية واحدة: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) . وقدم اللهو على اللعب فيما يأتي: 1 - الأعراف: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) . 2 - العنكبوت: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) . ذكر الزركشي في البرهان هذه المواضع وعلل تقديم اللعب على اللهو بأن اللعب يكون زمن الصبا. واللهو يكون زمن الشباب، وزمان الصبا متقدم على زمان اللهو. أما تقديم اللهو في " الأعراف " فلأن ذلك يكون يوم القيامة فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما به الإنسان انتهى من الحالين. وأما في " العنكبوت " فلأن زمان الشباب الذي يكون فيه اللهو أكثر من زمان الصبا الذي يكون فيه اللعب. وإنما ذكر ذلك هنا لأن المراد زمان الدنيا. وأنه سريع الانقضاء قليل البقاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 هذه خلاصة سريعة لما ذكره الزركشي في توجيه هذه المواضع. لكن الباحث لا يقنع بما ذكره جملة وإن كان بعضه مقبولاً. ويحسن هنا التفرقة بين اللعب واللهو. . * * مفهوم اللعب واللهو: " لعب: أصل الكلمة " اللُعاب " وهو البزاق السائل. . ويلعب فلان: إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً. . ". " اللهو: ما يُشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه. يقال: لهوتُ بكذا. . ولهيتُ عن كذا: اشتغلت عنه بلهو. . . ". هذا ما ذكره الراغب في تحديد معنى اللعب ومعنى اللهو. والتأمل فيهما يجد أنهما غير مترادفين. بل لكل منهما معنى. فاللعب لا يكون إلا فعلاً لم يتحدد من ورائه قصد مفيد. أما اللهو فقد يكون فعلاً من أفعال النفس غير مصحوب بحركة ويكون حينئذ أقرب إلى معنى الذهول. قال الزمخشري: " يقال لمن كان في عمل لا يجدى عليه: إنما أنت لاعب ". وقال في موضع آخر: " يشتغلون بما لا يجدى عليهم كأنهم يلعبون ". وقال أبو السعود: " اللعب عمل يثقل النفس ويفترها عما تنتفع به. واللهو صرفها عن الجد ". فالفرق - إذن - أن كل لعب يمكن أن يكون لهواً. وقد ينفرد في الذهول النفسي ولو لم يُصحب بعمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 ويؤيد تفسير اللهو بهذا المعنى أن القرآن أسنده إلى القلب في قوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) . وإسناد اللهو إلى القلوب دليل على أن اللهو عمل من أعمال النفس. وليس بلازم أن يُصحب بحركات. وإلا لكان لعباً فيما يبدو. * * اللعب في القرآن: وإذا رجعنا إلى القرآن نفسه في استخدام هاتين المادتين وجدناه كثيراً ما يُطلق اللعب على سلوك المخالفين للرسل من ذلك قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) . وقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) . وقال: (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضهِمْ يَلعَبُونَ) . وقال: (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) . وقال: (بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلعَبُونَ) . وقال: (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) . وقال: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وقال: (إنمَّا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لعِبٌ وَلهْوٌ) . وقال: (اعْلمُواْ أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لعبٌ وَلهْوٌ وَزِينَةٌ) . وقال: (لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ) . وقال: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا) . وقال: (وَذَر الَّذِينَ اتخَذُواْ دَينَهُم لعباً وَلهْوَاً وَغَرتهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا) * اللعب والخوض: فى هذه النصوص الكريمة جاء اللعب مع الخوض في خمس آيات. اثنتان منها بلفظ الاسم وثلاثة بلفظ الفعل. وفي الآيات الخمس جاء الخوض مقدماً على اللعب. وقد نص المفسرون على أن المراد بالخوض هو الباطل. وأنا معهم. وأضيف أن إطلاق الخوض على الباطل مجاز في التعبير لأن الخوض إنما يكون في الماء. يقال: خاض الماء خوضاً ومخاضة. قال الراغب: " الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه. ويُستعار فى الأمور وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يُذَم الشروع فيه ". * * * التوجيه البلاغي للنص: والمجاز فيه يصلح أن يكون استعارة بالكناية حيث يُشبِّه بالباطل بالماء ثم يحذف ويرمز له بشيء من لوازمه وهو الخوض. والجامع بين المستعار منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 والمستعار هو أن كلا منهما مهلك. الباطل يحق بفاعله العقاب. والماء يغرق من يخوض فيه. أو يكون استعارة تبعية تصريحية يُشبه فيها اقتراف الباطل بخوض الماء والجامع ما مَرَّ. والاستعارة على هذا استعارة مفردة. ويجوز حملها على التمثيل. وهما أولى من الأول. ولما كان الخوض بهذا المعنى قُدم على اللعب. وجُعل محتوياً عليه: (في خَوْضهمْ يَلعَبُونَ) ، وكذلك في إطلاق اللعب على أعمالهم وسلوكهم مجاز في التعبير على طريق الاستعارة التصريحية التبعية وفيه تعريض بهم لأن اللعب لا يكون إلا للصبيان غير الراشدين وفيه رمز إلى حقارة أعمالهم حيث لم يترتب عليها نفع كاللعب. ولهذا قدم اللعب - والله أعلم - على اللهو في المواضع الأربعة المذكورة. كما قدم الهزو على اللعب لأن الهزو - وهو الاستهزاء والسخرية - أشد شناعة من اللعب. * * * لماذا قدَّم " اللهو على اللعب " إذن؟ أما الموضعان اللذان قَدم فيهما اللهو على اللعب - وذلك جار على خلاف الغالب فيه - فلأن المقام يقتضي ذلك. * والبيان: إن اللهو - على ما سبق - من شأنه أن يُنسي اللاهي ويُشغله عما ينفعه. ولما كان معناه - كذلك - مدح الله الطائعين من عباده نافياً عنهم اللهو فقال: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. .) أَى لا تشغلهم ًَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وقد نسب الله النسيان إلى الكافرين في سورة الأعراف في الآية التي قدم فيها اللهو على اللعب. فقال: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) . فهم هنا: ناسون. . لذلك - والله أعلم - قدم اللهو على اللعب لغلبة صفة النسيان على الوقف، واللاهي ناس أو قريب منه. أما في سورة العنكبوت. . فقد جاء قبل الآية التي قدم فيها اللهو على اللعب قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) . هذه حقائق لو سئلوا عنها لنسبوها لخالقها. وهذا يقتضي أن لا يكفروا إذن فلماذا كفروا ولم ينتفعوا بهذا العلم؟ مرجع ذلك أنهم ناسون لاهون. متشاغلون عنه بلهو الحياة وغرور الدنيا. إن جانب اللهو - هنا - ظاهر. لذلك - والله أعلم - قُدِّم اللهو على اللعب كما قُدِّم هناك. * * * * إجمال: وشبيه لهذه المواضع العشرين أن القرآن يجمع كثيراً بين النفع والضر مُقدِّماً أولهما على ثانيهما في الأقل - سبعة مواضع - ومُقدِّماً ثانيهما على أولهما فى الأكثر. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وسر ذلك كله راجع - قياساً على ما قدمناه من المواضع العشرين - إلى دقائق وأسرار لا يُحرم المتأمل من شيء منها لو أحسن التأمل. وعمق الفكر: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) . * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 الباب الرابع من سحر البيان في القرآن الكريم * التشبيه والتمثيل. * المجاز في القرآن الكريم. * المجاز القرآني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الفصل الأول التشبيه والتمثيل فى القرآن الكريم كثير من التشبيهات والتمثيلات الآسرة، نجد القرآن يتخذ من هذا الفن التعبيرى وسيلة من وسائل الكشف والإيضاح، والتهذيب والتريية، والتبشير والإنذار، والترغيب والترهيب، والتزيين والتقبيح، والقوة والضعف، والهداية والضلال، والتعظيم والتحقير. . . إلى آخر هذه الأغراض. والهدف الدينى هو الطابع السيطر على كل ما في القرآن من تشبيه وتمثيل. ودراستنا لهذا الفن في القرآن تعتمد على تقسيم التشبيه والتمثيل فيه إلى مجموعات، كل مجموعة تخدم غرضاً عاما موحداً - وإن وُجِدَت بينها فروق وخصائص جزئية - وسنتبع هذه المجموعات بنظرة عامة نحاول من خلالها تسجيل ما تفرق فيها من ملاحظات وخصائص هي هدفنا من هذا الفصل. * مجموعات التشبيه والتمثيل في القرآن: وهذه المجموعات يمكن تلخيصها فيما يأتي: أولا - في شأن الكافرين، وتحت هذه المجموعة أربعة أغراض: 1 - ضلال المعتقَد 2 - ضعف المعتقَد. 3 - بطلان الأعمال 4 - سوء المصير. ثانياً - في شأن المؤمنين، وتحت هذه المجموعة غرضان رئيسيان تحت كل منهما صور مختلفة وسيأتي الحديث عنها مفصلاً، وهما: 1 - الترغيب: سواء أكان في عقيدة أو سلوك أو حسن مصير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 2 - الترهيب: سواء أكان من عقيدة، أو سلوك، أو سوء مصير. ثالثاً - مظاهر القُدرة: وهذه المجموعة تنظم كثيراً من الظواهر التي تدل على عِظم قُدرة الله في السماء والأرض وما بينهما. رابعاً - باقة من الزهور. أولا: في شأن الكافرين 1 - ضلال المعتقد: الكافرون والأنعام (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) . هذه صورة خلاصتها: ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق. أو: ومثل الذين كفروا كمثل بهائِم الذي ينعق. والمعنى: ومثل داعيهم إلى الإيمان - فى أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة. ودوى الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار - كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها. ولا تفقه شيئاً آخر ولا تعى كما يفهم العقلاء ويعون. وقيل: معناه مثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم ولا يفقهون أهم على حق أم على باطل. وقيل: معناه مثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع. ولكن هذا التوجيه لا يساعد عليه قوله تعالى: (إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) . لأن الأصنام لا تسمع شيئاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 والوجه الأول هو الأظهر لأن المراد بيان إعراضهم عن دعوة الحق. فسواء عندهم الإنذار وعدم الإنذار. لأنهم في الضلال سادرون. وقد آثر القرآن كلمة: " ينعق " لما فيها من مناسبة للمعنى. والنعيق: التصويت. يقال: نعق المؤذن، ونعق الراعى بالضأن قال الأخطل: فَانْعِقْ بِضَأنِكَ يَا جَرِيرُ فَإنما. . . مَنتْكَ نَفْسُكَ فِى الخَلاَءِ ضَلاَلاَ والقوم - هنا - مشبَّهون بالأنعام فهى تسمع الصوت دوياً ولا تميز ما فيه من معان وقيم مدعو إليها. والقرآن كثيراً ما يُشبِّه الكافرين - في الضلال - بـ " الأنعام "، بل هم أكثر منها ضلالا: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) . وهذا التعبير من قبيل التمثيل المركب. شبَّه فيه هيئة إعراضهم عن دعوة الهدى بهيئة قطيع من الأغنام ينعق بها راعيها فلا تعى ولا تسمع. ووجه الشبه بين كل من الطرفين هو الضلال وسلب الإدراك. * * صورة ثانية - حالهم مع كل ما يجب فهمه: من ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) . هذا تصوير ثان لبيان ضلالهم هدف التشبيه منه مثل الأول. والفرق بينهما أن التمثيل السابق ملحوظ فيه حالهم مع الداعي لهم إلى الحق. وهنا طوى ذلك الجانب مع تقديره بدلالة الالتزام. فخرج الكلام معه - أي التصوير الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 - مخرج بيان حالهم مع كل ما يجب فهمه، ومع كل ما يجب رؤيته، ومع كل ما يجب سماعه. فى هذه الصورة خبر أو حكم هو: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) . وهذا الخبر أو الحكم ذكرت بعده مبرراته: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) . وهذه الصفات الثلاث مقتضية لذلك المصير. ولكنها في نفس الوقت ممهددة لحكم آخر. بل تكاد تدل عليه: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) . إنهم أشد ضلالاً من الأنعام. لأنها تنقاد إلى أربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف مَن يحسن إليها ممن يسيء إليها. وتهتدى لراعيها ومشاربها. وهؤلاء لا ينقادون لربهم. لا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان لهم الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع. ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك. ولا يهتدون للحق الذي هو المصدر الهنيء والعزب الروي. لذلك كانوا الكاملين في الغفلة. وجاء تشبيههم بالأنعام كذلك في قوله تعالى: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) . * * صورة ثالثة - أكلهم كأكل الأنعام: كذلك شبَّه أكلهم باكل الأنعام حتى تتم الصورة من كل الوجوه الممكنة فقال سبحانه: (وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 أى يأكلون غافلين غير مفكرين في العاقبة كما تأكل الأنعام في المسارح والمعالف غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح ". والآن. . قد كملت الصورة التي رسمها القرآن من حيث تشبيه الكافرين بالأنعام حتى لا يكادوا يمتازون عنها إلا في الهيكل العام. * * صورة رابعة - الكافرون وسلب الإحساس: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) . وهذه صورة مقررة لما سبق، شُبًهَ فيها فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وقابل ذلك تشبيه المؤمنين بالبصير والسميع. قال الزمخشري: " وهو من اللف والطباق، وفيه معنيان: أن يشبه الفريق تشبيهين اثنين كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب. وأن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصم والذي جمع بين البصر والسمع. على أن تكون الواو في " الأصم " و " السميع " لعطف الصفة على الصفة كقول الشاعر: يَا لهفَ زبايةِ لِلحَارثِ. . . السابح فالغانم فالآيبِ لكن الأولى إبقاء حرف العطف على أصله من عطف ذات على ذات فيكون التشبيه متعدداً ولا ضير في ذلك. ولا حاجة إلى التخريج الذي ذكره الزمخشري فهو مجرد احتمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 * صورة خامسة - قسوة قلوبهم وتحجرها: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) . وفي هذه الصورة وصف لتحجر قلوبهم التي لا يفقهون بها. شبهها في عدم تأثرها بالحق واستجابتها لداعي الهدى بالحجارة. ووجه الشبه القسوة، وهنا نلمح خاصة فريدة في تشبيه القرآن. فقد سبق عندما شبَّه القوم بالأنعام فى الضلال. أنه ترقى في التشبيه ولم يرض مساواتهم بالأنعام فقال: (بَلْ هُمْ أضَلُ) . وقال: (بَلْ هُمْ أضَل سَبِيلاً) . مع ملاحظة أن هذا الترقي في التشبيه مقترن بظواهر تعبيرية هي إذا ذكر نفى العقل عنهم، أو نفى الفقه. أو وردت كلمة القلوب، ففى " الأعراف " كان التعبير: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) . وفي " الفرقان ": (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) . وكذلك في موضعنا هذا: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) فترقى في التشبيه هنا. كما ترقى في الموضعين السابقين. وليس هذا الترقي مبالغة مكذوبة. بل هو حقيقة واقعة فالحجارة أنواع: نوع يتفجر منه الأنهار. ونوع يشقق فيخرج منه الماء. ونوع يحس ويتأثر ويهبط من خشية الله. وقلوب هؤلاء ذاهبة في التجمد والتحجر مذهباً فقدت فيه وظائفها ففاقت الصخور في قساوتها وهي كتلة من لحم ودم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 ولبلوغ قلوبهم في القسوة درجة عظيمه عدل القرآن عن الإتيان بأفعل التفضيل من الفعل نفسه: فلم يقل: " أقسى " بل: (أشَدُّ قَسْوَةً) ، لأن هذا التعبير أوضح في دلالته على المراد هنا ". * * صورة سادسة - الكافرون والظلمات: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) . وقفنا في التشبيهات السابقة على تشبيه الكافر في الضلال بالأعمى والأصم، كما شبَّه المؤمن في الهداية بالبصير والسميع. وهنا في هذه الصورة الجديدة طائفة من التشبيهات. . منها تشبيه الكفر والضلال بالظلمات. وتشبيه الإيمان والهدى بالنور. . والمتأمل يجد لهذه المعاني روعة ودقة انسجام. ففى جانب الكافر: عمى وظلمات. . والأعمى لا يبصر فهو دائماً في ظلام، وفي جانب المؤمن: إبصار ونور. والبصر دائماً في نور. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 * ومعنى آخر نلمحه: فقد استعار القرآن لفظ " الأعمى " للكافر. . ثم استعار لفظ " الظلمات " للكفر، وهنا تتحدد الصلة الوثيقة بين الكفر والعمى. وتتحدد كذلك شدة ضلال الكافر فهو أعمى في ظلام. والعمى وحده حاجب لرؤيته شيئاً. فكيف إذا كان هذا الأعمى في ظلام أنه أشد عرضة للهلاك حيث لا يتقى بنفسه الشر. ولا يتقيه سواه لأنهم لا يرونه (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) . . هكذا يقول القرآن. والمؤمن بصير. والإيمان نور. وهنا كذلك تتحدد الصلة القوية بين الإبصار والنور بمعنى الإيمان. وتتحدد كذلك درجة هداية المؤمن لأنه مبصر في نور: (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) . . وهكذا يقول القرآن. يقول إمام البيان عبد القاهر الجرجاني: " النور في القرآن مستعار للبيان والحُجة، ويُستعار للعلم نفسه أيضاً وللإيمان. وكذلك حكم الظلمة إذا استعيرت للشُبهة والجهل والكفر. وإذا استعيرت للضلالة والكفر فلأن صاحبهما كمن يسعى في الظلمة فيذهب في غير الطريق وربما دُفِعَ إلى هلك وتردى في أهوية ". والأعمى الذي يتخبط في الظلام يحكم على الأشياء أحكاماً خاطئة. وكذلك حال الكافرين ففد سوَّل لهم ضلالهم أن يجعلوا لله - سبحانه - شركاء لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون. . ثم ضرب الله مثلاً لحقه. ومثلاً لباطلهم. . (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 مثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية الناس. فيحيون به وينفعهم جم المنافع. وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى والأوانى المختلفة، وأن ذلك ماكث في الأرض. باق ظاهراً: الماء تبقى آثاره، والجواهر تبقى أزمنة متطاولة. ومثل الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله. وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمى به به ويزيد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. فالحق ثابت. وهو كثير النفع. والباطل زائل ليس له قرار. ضَلَّ مَنْ تمسك به، وكذلك يضرب الله الأمثال. وضرب المثل: اعتماده وذكره. وعبَّر عنه بـ " الضرب " لأن المثل له من التأثير القوى في النفوس مثل ما للضرب فيها من الإحساس. * * * صورة سابعة - الكافرون والموت: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) . هذه الصورة تحمل كثيراً من ملامح الصور المتقدمة. فقد ضربت النور مثلاً للهداية، كما ضربت الظلمات مثلاً للكفر والضلال. ونفت أن يكون بين الفريقين شبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 ضربت الموت مثلاً للكفر والضلال، والحياة مثلاً للإيمان والهدى، فالكافر الضال ميت. . والجامع بينهما عدم النفع. والمؤمن حي. . والجامع بينهما الانتفاع بكل. وقد روعي في جانب تشبيه الكافر ما روعي في جانب تشبيه المؤمن، فقد قال سبحانه في تشبيه المؤمن: (وَجَعَلنَا لهُ نُوراً يَمْشِى بِه فِى النَّاسِ) . فقوله: " يمشى به في الناس ". زيادة تقرير وإيضاح. وقال في جانب الكافر: (كَمَن مثَلهُ فِى الظُلمَاتِ ليْسَ بخَارِجٍ مِنْهَا) فقوله: " ليس بخارج منها " زيادة تقرير وإيضاح، لماَ روعيت هناك روعيت هنا. فتعادلت كفتا الميزان. * * إجمال: هذه مُثُل وتشبيهات بيَّن القرآن بها ضعف عقيدة الكفر، وقد رأينا الكافر فيها أعمى مرة وأصم أخرى، وميتاً ثالثة، وكالأنعام بل هو أضل رابعة. يعيش في عزلة عن المجتمع الإنسانى الصالح كما تعيش البهائم. يأكل مثل أكلها. . ويهيم على وجهه مثلها، يسوم كما تسوم، هي مصيرها أن تذبح لكنها غافلة. وهو مصيره النار. ثم تراه - بعد - متحجراً، بليد الإحساس وباطله الذي عليه زائل لا ينفع كرغاوى السيل وإفرازات المعادن إذا صهرَت بالنار. فما أضله وما أضل مسعاه. . .؟ (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) . * * 2 - ضعف المعتقد: * مثله كمثل الكلب: وقد صوَّر القرآن هذا الجانب في صورة مختلفة من التشبيه والتمثيل فها هو يمثل لهم حالهم بحال الكلب. ذلك المخلوق الحقير. فيقول سبحانه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) . مثله كمثل الكلب. . أى صفته التي هي مثل الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها. وهى حال دوام اللهث به واتصاله سواء حُمِلَ عليه - أي شُدَّ عليه وهيج وطرِد - أو تُرِكَ غير معترَض له بشيء، وهذا المثل يتضمن وصفهم بالحقارة والضعة. * * ومثلان آخران - رجلان لا يستويان: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) . هذان المثلان ينفيان عن الأصنام - التي هي معتمد عقيدة الكفر - صفة الكسب فهم لا يقدرون على شيء. . أي شيء ويلاحَظ أنه عندما نفى عنها هذه الصفة المهمة. فإنه يثبت لها صفة أخرى تتم بها الصورة ويتحقق الضعف في أجلى أوضاعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 ففى المثل الأول حين نفى عن العبد قُدرته على شيء أثبت له الرق. والرق نفسه عجز، وقد مهَّد لهذه الصفة بذكر العبد مقدماً عليها: (عَبْداً ممْلُوكاً لأ يَقْدرُ عَلى شَىءٍ) ، وقارن صفته هذه المتناهية في الضعف بمن مَن الله عليه بجَلائل النِعَم من حرية تجعله حر التصرف محرر الإرادة. ورزق حسن ينفقه على المحتاجين وهو لا يخاف مالكاً يحجر عليه. فهو يُنفق منه سراً وجهراً. ثم ينفى المساواة بينهما من كل الوجوه، وهل تستوى العبودية مع الحرية، والعجز مع القُدرة، والغنى مع الفقر؟ وفي المثل الثاني. . حين نفى عن أحد الرجلين قُدرته على الكسب مطلقاً أثبت له صفة البكم. ثم قارنَ بينه ويين مَنْ هو طلق اللسان يأمر بالمعروف وهو على صراط مستقيم. . ثم نفى أن يكون بين الرجلين شبه. ويرى الزمخشري أن القابل للمثلين في الموضعين: مثل مضروب لله تعالى، فما كان في غاية العجز فهو الأصنام، وما كان في غاية القوة فهو الله. وقريب منه قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) . هذا المثل ضربه الله لمن يُثبت آلهة شتى. وما يلزمه على قضية مذهبه من أن يدعى كل واحد منهم عبوديته. ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا ويبقى هو متحيراً ضائعاً لا يدرى أيهم يعبد؟ وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟. وممن يطلب رزقه وممن يلتمس رفده. فهمُّه مشاع وقلبه أوزاع. فهل يستوى حال هذا الحائر مع حال مَن يُثبت إلهاً واحداً. فهو قائم بما كلفه به، عارف بما أرضاه وما أسخطه، متفضل عليه في عاجله وآجله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 فههنا اضطراب وقلق وحيرة وتشتت. وضعف وعجز. وذلك مثل الكافر عقيدة ومعتمد عقيده. * ومثال آخر - قياس من الواقع: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) . هذا المثل مضروب لضعف الأصنام. وقد ساق الله بهذا المثل قياساً لا ينكرونه، لأنه مضروب لهم من أنفسهم. وحاصله: قاس حال الأصنام مع خالقها وخالق مادتها. بحال المملوكين مع مالكيهم. وهم هنا المخاطبون، فالله يقول لهم: هل لكم ممن تملكون من الأرقاء شركاء فيما رزقناكم وملكته أيمانكم، فأنتم وهم متساوون الملكية والتصرف فيه، وإذا تصرفتم في شيء منه دون إذنهم خفتم من مساءلتهم لكم على هذا التصرف كما يخاف بعضكم بعضاً - معاشر الأحرار - إذا تصرف واحد منكم فيما يملكه غيره؟ هم لا شك منكرون أن يكون هذا حالهم مع حال مملوكيهم. وإذا تقرر ذلك فكيف يثبتون لله - سبحانه - شركاء فيما خلق؟ وهذا المثل محتو على تشبيه ضمنى شُبِّه فيه هيئة بهيئة. وهم معه أحد رجلين: إما أن ينكروا أن يكون لمملوكيهم هذا الحق، فيلزمهم نفيه عن الأصنام وتبطل قضية التعدد المزعومة. وإما ألا ينكروا - وهذا مستبعد - فيكونوا متناقضين مع الواقع ومع أنفسهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 والأصنام - هنا - أيضاً ضعيفة كالمملوك مع المالك. بل هي أشد ضعفاً لأنها لا تملك حياة ولا موتاً ولا نشوراً. * * * وصورة أخرى - الذباب هو المنتصر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) . بلغت الأصنام في هذا المثل حالة من الضعف المزرى ليس وراءها زيادة فهم - أي الذين يدعونهم من دون الله " لن يخلقوا ذباباً " والذباب مخلوق حقير وضيع لن يخلقوه مجتمعين، فأولى متفرقين. وليت الأمر يقف عند هذا الحد. - إذن لهان الخطب - ولكن هذا المخلوق الحقير " الذباب " لو استلبهم شيئاً عجزوا عن استنقاذه منه: ضعف الطالب الذي هو الأصنام، وضعف المطلوب الذي هو الذباب. وهذه الصورة وإن لم تأت على طريق التشبيه في الظاهر. فهى متضمنة له فى المعنى، يقول صاحب الكشاف: " قد سميت الصفة أو القصة الرائعة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب " مثلاً " تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم ". * * بَلهٌ مضحك: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 العابد يرفع حاجاته إلى معبوده راجياً منه العطاء. والكافرون مخدوعون إذا رجوا من أصنامهم خيراً. فهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا يفقهون شيئاً. ولا هم يملكون شيئاً فيعطوه لهم. هذه حقيقة. . فكيف أخرجها القرآن؟ (لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) . نفىَ أن يسًتجيبوا لهمَ بشَيء. . فَأقنطهم ثم ذكر أداة الاستثناء. ومن شأن المستثنى أن يكون مغايراً للمستثنى منه فقال: (إلا) . . فتعلقت آمالهم بالآلهة من جديد، وانتظروا فكان المستثنَى أوقع في اليأس من المستثنَى منه. . (كَبَاسط كفيْه إلى الماء ليَبْلغ فَاهُ وَمَا هُوَ ببَالِغه) . صورة مرسومة بالألفاظ المشعة - َ ليست ذا ألوان - ولكنها فاتَت مَاَ يُرسم بالألوان: رجل منحن على سطح ماء مصاب بعجز يمنع يده أن تفترف منه. وهو ظامئ يكاد يقتله العطش، ولكنه في بلاهة يبسط يده إلى الماء راجياً أن يصعد إلى كفيه ليرتوي. فلا الماء صاعد ولا هو مرتو مع قرب الماء وشدة الحاجة إليه. وفي التشبيه لون بديعى هو تأكيد الذم بما يشبه المدح. فما أضعف ما يطلبون منه العون، وما أشد عذابهم وآلامهم. فالضعف شامل لآلهتهم ولهم أنفسهم. * وهناك صورتان أخريان يمثل القرآن الكريم فيهما كيفية مواجة هؤلاء الكفار لعظائم الأمور: * هلع قاتل: أما إحداهما فقوله تعالى: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وأما ثانيتهما فقوله تعالى: (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) . فهم عند الخوف رعاديد تضطرب نفوسهم اضطراباً يظهر أثره على العيون. فتدور في مكانها. لقد بلغ الخوف مداه. حتى إن حالهم هذه تشبه حال المحتضر عندما يأتيه الخطر من كل مكان. ويستسلم بكل ما فيه من ضعف للقدر المحتوم بكل ما فيه من قوة باطشة وسلطان عظيم - فليست هناك حالة معروفة للخوف أفزع من حالة المحتضر - لذلك لم يرض القرآن لهم مثلاً فى ضعفهم وجبنهم. إلا أن يمثل لهم بتلك الحال التي لا يجهلها أحد. هكذا يُسهم التشبيه والتمثيل مع شقيقهما المجاز - كما سنرى - في رسم صورة صادقة لضعف الكفر في نفسه من حيث الأصنام التي كانوا يعبدونها. ومن حيث الكافر نفسه فليسوا هم على شيء من دين. وما هم بدافعى عن أنفسهم ضراً يُراد بهم. ولا أصنامهم وآلهتهم بمحققى آمالهم. وإن عاداهم أحقر المخلوقات - كالذباب - لم يستطيعوا مصاولته. * وضعف بالغ: وهذه آية نختم بها هذه الجولة. . جولة القرآن مشبهاً وممثلاً لضعف معتقد الكافرين في كل مظهر من مظاهره: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) . هذا مثلهم في اعتمادهم على آلهتهم: مثل رجل أوى إلى بيت العنكبوت ليحميه من خطر متوقع. وإنهم ليعلمون ما هو بيت العنكبوت؟ خيوط واهنة لو مَرَّ عليها نسيم هادئ لخرقها ومزقها: (وَإن أوْهَنَ البُيُوت لبَيْتُ العَنكَبُوت لوْ كَانُواْ يَعْلمُونَ) ، والقرآن - كما نرى - إنما خاطَبهم بما يحسون ويشَاهدون في حديث واضح وضوح الشمس لعلهم يتذكرون. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 3 - بطلان الأعمال: كما تحدث القرآن عن ضلال معتقد الكافرين، وعن ضعف آلهتهم وعن ضعفهم في أنفسهم. تحدث عن بطلان أعمالهم التي يقدمونها ويحسبون أنها نافعة لهم. * صورة أولى - صفوان ووابل: ومن هذا قوله تعالى: (. . كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) . الصفوان: الحجر الأملس. والوابل: المطر العظيم. والصلد: الآجر النقى. . والآية تمثل أعمال الكافرين الصالحة - بحسب الظاهر - كصلة القُربَى والعطف على الفقراء. وإغاثة الملهوف. وهذا المثل صورة أدبية مستوفية العناصر والأركان. موفية بالغرض أحكم وفاء. هي تشبيه تمثيلي مُثلت فيه أعمال الكافرين بتراب منثور على حجر من الصوان الأملس. فهطلت عليه الأمطار فحملته وذهبت به كل مذهب فلم يبق منه فوق الحجر شيء. التشبيه تمثيلي مركب - كما سبق - شُبِّهت فيه هيئة بأخرى. ويجوز أن يكون من قبيل المفرد. . فيُراد ب " الصفوان ": الكفر والرياء - إشارة إلى عقم الكفر والرياء - شبه كل منهما بالصفوان الذي لا ينبت ولا يمسك ماءً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 ويُراد ب " التراب المنثور فوق الصفوان " - خاصة: عمل الكافرين، لا مطلق تراب، فالقيد لازم، لأن مطلق تراب مظنة الإنبات. وليست كذلك أعمال الكافرين. ويراد ب " الوابل ": الإسلام لأنه حكم ببطلان الكفر وما يصدر عنه من عمل. وإذا قارنا بين " الصفوان " الذي هو الكفر والنفاق. و " الوابل " الذي هو الإسلام أدركنا الفرق واضحاً بين العقيم الماحل. والثمر النضير. ولهذا نظائر. . . فقد شبَّه الله قلوب الكافرين بالحجار في القسوة فقال: (ثُمَّ قَسَتْ قُلوبُكُم مَن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِىَ كَالحِجَارَةِ أوْ أشَدُّ قَسْوَةً) . كما شبَّه أعمالهم بالرماد - وسيأتي - فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ برَبِّهمْ أعْمَالُهُمْ كَرَمَاد اشْتَدتْ بِهِ الريحُ) . والرماد قريب من التراب، أما تشبيه الإسلام بالوابل فمنه تشبيهه بالصيب - علىِ رأي - في قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) * وصورة أخرى - ريح ورماد: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) . كانت أعمالَ الكافرين في المثل السابق: تراباً منثوراً على سطح وفي جوانب حجر أملس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وهى - هنا - " رماد محترق " لا تتعلق به آمال، وحتى مع هذا الوضع الحقير لأعمالهم: " رماد " لم يقر له قرار. فقد اشتدت به الريح وهذا كاف لتبديده وتطييره. ولكن زيادة في تقنيطهم ومحو أي أثر لأعمالهم أضيفت إلى ما سبق أمور يكاد معها عمل الكافر يكون عدماً. وتلك الأمور هي: (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) (لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) - (ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) . فاشتداد الريح كان في يوم عاصف، وإسناد العصف إلى ضمير اليوم، مع أن الأصل: معصوف فيه، مبالغة في شدة العصف، وهو مجاز عقلي علاقته الزمانية. وأنهم في هذا اليوم، لا يقدرون على الانتفاع بكسبهم أو شيء منه، فقد ضلوا ضلالاً بعيداً. كما نلاحظ وصف الضلال بـ " البعيد ". ولم يقل: البين - مثلاً. ولعل السر في هذا التعبير أن الريح لما طيرت الرماد المضروب مثلاً لأعمالهم. واشتد عصفها به في يوم اشتد عصفه. المعنى إذن: أن الريح طيرت الرماد إلى مسافات نائية جداً لو تعقبوها في تلك المسافات لوقعوا في حيرة وضلال بعيد. والمسافات - كما نعلم - يناسبها البُعد الذي جُعِلَ الوصف منه وصفاً لضلالهم فى هذا المكان * وصورة أخرى - ريح وصِرٌّ: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وخلاصة هذه الصورة: أن مثل إنفاقهم كمثل حرث أهلكته ريح فيها برد فلم يبق منه شيء، والتشبيه - هنا - تمثيلي مركب. فمن حق الأداة فيه أن تدخل على أي جزء من أجزائه لا على أنه المشبه به. بل مجموع الأجزاء أو الصورة هى المشبَّه بها. فلماذا - إذن - أوثر دخول الأداة على " الريح ". فلم تدخل - مثلاً - على " الحرث ". وهو صالح لدخولها عليه. بل أولى لأنه فى الحقيقة أقرب ما يكون مشبهاً به؟ لذلك أرى أن في دخول الأداة على: (رِيحٌ فيهَا صِرٌّ) إشعاراً بأن أعمالهم شبيهة بالريح في عدم استقرارها وثباتها. هذا معنى يلحظه الحس من مجرد دخول الأداة على " ريح " قبل أن تحكم المعنى مصطلحات الفن. وقواعد أهل البيان. وقد بولغ في وصف الريح بالبرودة فجرد منها صفتها فقال: (فيهَا صِرٌّ) ولم يقل: ريح باردة. فكأن البرودة عامل آخر مستقل خارج عن الريَح. لأن ذلك هو مؤدى التجريد. قال صاحب الكشاف: " المراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه وذهابه بالكلية. من غير أن يعود عليهم نفع ما، بحرث قوم كفار ضربته صر فاستأصلته. ولم يبق لهم فيه منفعة ما بوجه من الوجوه وهو من التشبيه المركب ". وقد بيَّن الله في غضون هذا المثل أن ما حاق بهم كانوا هم سبباً فيه. . وذلك فى موضعين: (حَرْثَ قَوْمٍ ظلمُواْ أنفُسَهُمْ) ، (وَمَا ظلمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كَانُواْ أنفُسَهُمْ يَظلِمُونَ) . . فذكر ظلمهم لأنفسهم ونفى أن يكون الله ظالماً لهم. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 * وصورة أخرى - سراب وظلمات: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) . شُبِّهت أعمال الكافرين في هاتين الآيتين بصورتين: الصورة الأولى: شُبهت فيها بالسراب الذي يراه الناظر. فيحسبه ماءً. لأنه كالماء يبدو من بعيد. فإذا علق عليه الآمال وأراد أن يروى ظمأه فأقبل مسرعاً إليه لم يجده شيئاً. وليت الأمر يقف عند خيبة الرجاء هذه، بل إنه بعد أن تنكشف له حقيقة السراب الذي خدعه فأقدمه إلى حيث هو واقف الآن، أسلمه إلى مواطن الهلاك والضياع، كأنَّ أسداً في انتظاره فيفترسه. وكذلك الكافر يقدم نحو عمله راجياً أن ينفعه فلا يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه وأدخله النار، ولقى هلاك أمثاله في مقام كان يتوقع منه النجاة! وإذا كان عملهم سبباً في إهلاكهم فما أحرى أن يسمى ظلمات. وهذا المعنى تكفلت به الآية الثانية: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 صورة مخيفة. . . . البحر وحده خطر على مَن يركبه، فما بالك إذا كان هذا البحر ملفوفاً بالظلمات من كل جانب، وهذه الظلمات لا سبيل إلى الخلاص منها، والبحر هائج ثائر، الموج فيه طبقات بعضها فوق بعض، وفوق الموج سحاب يملأ الأفق ويسد منافذ الضوء. وفي مطلع الآية الأولى نجد التعبير: (والذينَ كَفَرُواْ أعْمَالُهُمْ كَسَرابٍ. .) . وقبلها وجدنا التعبير: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ. .) . وكان حق التعبير أن يقال في الموضعين: " ومثل أعمال الذين كفروا كرماد ". و " وأعمال الذين كفروا كسراب ". لكن القرآن خالف هذا النسق، وجعل المثل في الأولى: مثل الذين كفروا، ثم أبدل منهم أعمالهم بدل اشتمال. كما أبدل نفس الأعمال من الذين كفروا في الآية الثانية، فما السر إذن فى هذا التعبير؟ إن السر - فيما يظهر - واضح، لأن الناس جميعاً يوم القيامة مجردون من جميع الاعتبارات إلا اعتبار العمل صالحاً كان أو غير صالح. ففي تصديرهم وإبدال أعمالهم منهم إشعار بهذا المعنى، فالإنسان يقاس بعمله فحسب لا بماله، ولا ولده، ولا جاهه، ولا سلطانه، فمثل عمل الإنسان مثل للإنسان نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 * وصورة أخرى - هباء منثور: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) . فههنا تشبيه مؤكد حيث حُذِفت أداته، ويُلاحَظ أنه لم يجعله " هباءً " حتى جعله " منثوراً " مفيداً بذلك ذهاب عملهم من الأساس. قال الزمخشري: " مُثلت حال هؤلاء القوم وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف. . بحال قوم خالفوا سلطانهم، واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها ومزقها شر ممزق، ولم يترك لها أثراً ولا اعتباراً، وشُبِّه عملهم بالهباء في قلته وحقارته وعدم جدواه، ثم بالمنثور منه لأنك تراه منتظماً مع الضوء، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر كل مذهب. (إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) . * * 4 - سوء المصير: الضلال في المعتقد يؤدى إلى ضعف الموقف الذي يتخذه صاحب العقيدة، وهذا يسلمه إلى بطلان السلوك الذي يبنيه عليه، وبطلان السلوك أو الأعمال يؤدى به في النهاية إلى سوء المصير. وعلى هذا النسق كانت تشبيهات القرآن وتمثيله في جانب الكافرين، فأنت ترى سوء المصير واضحاً في الصور الآتية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 * صوة أولى - ترهقهم ذلِة: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) . هنا وجوه أرهقها الذل فأظلمت كأنها مغشاة بقطع من ليل اشتد ظلامه وليس لهم من عذاب الله من عاصم. * * صوة ثانية - تَرَدٍّ مهلك: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) . الشرك بالله فاقد كل سند يعتمد عليه في حياته الأولى والثانية، وهو صائر بلا محالة إلى أسوأ ألوان الهلاك. والآية ترسم لنا خطوط هذه النهاية المؤلة. . إنسان هوى من السماء - من السماء هكذا - هوى ساقطاً على الأرض، وهنا يفترق الطريق شُعبتين كل واحدة منهما تؤدى إلى خطر ماحق. . (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) لقد تمزق هو - إذن - قبل أن يصل إلى الأرض، لأن المسافة بين الأرض والسماء بعيدة بعيدة، لذلك فإن الطير تتوزعه في حواصلها فيصير غذاء لها وقد هلك وتمزق شر ممزق. . هذه شُعبة. (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) تهوى به تسير سيراً سريعاً. إلى أين؟ إلى مكان سحيق سحيق. . وهنا تكمن بواعث الخوف والرهبة فالمكان - هنا - منكر، لأنه مكان غير معروف - وهذا هو سر الرهبة والخوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وقد آثر القرآن كلمة " خَرَّ " بدل: سقط، ليشترك جرس اللفظ في الدلالة على المعنى مع المعنى نفسه، فالساقط من عَلٍ يشق الهواء بجسمه فتسمع لهويه صوتاً يشبه خرير الماء، ويحدث هذا في الأجسام الساقطة من مسافات عالية بدرجة ملحوظة. وهذا التشبيه محتمل عندهم - علماء البلاغة - التركيب والإفراد. وأمر التركيب فيه ظاهر، أما الإفراد فقد خرجوه على النحو الآتى: أن يُشبَّه الإيمان في علوه بـ " السماء "، والذي أشرك بالله وترك الإيمان بـ " الخار من السماء "، والأهواء التي تتوزع أفكاره بـ " الطير المختطفة " . . والشيطان الذي يضله بـ " الريح " التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المهلكة ". وجمال الصورة التي رسمها القرآن - هنا - وفي كل موضع مماثل لا يتوقف على اعتبار التركيب أو الإفراد. فهو أمر ثابت محسوس، وإن كنت أرى أن التركيب في مثل هذه الصورة أولى من الإفراد. لأنه لا يخلو - أحياناً - من التكلف في التخريج وقد يكون ليس مقصوداً للهِ. * * وتصعَّد منهك: وصورة أخرى مقابلة للسابقة: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) . هذا مثل مَن آثر الكفر على الإيمان. تتسلمه الأوهام الضالة. ويغتاله الشيطان بوساوسه فيضيق صدره وتختنق أنفاسه. ويصبح أمره عسراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 كأنما يصعد في السماء وهو ضارب بقدميه على الأرض، لأن صعوده في السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة وتضيق عنه المقدرة. قال الراغب: " والصعد والصعيد والصعود واحد. لكن الصعود والصعد يقال للعقبة. ويُستعار لكل شيء شاق - قال -: (وَمَن يُعْرضْ عَن ذكرِ رَبًه يَسْلكْهُ عَذَاباً صَعَداً) ، وقال: (سَأرْهقُهُ صَعُوداً) أي: عقبة شاقة ولا يبعد أن يكون هذا التجاذب إلى أَعلى مرة ثم إلى أسفل أخرى دليلاً على قلق الكافر وتنازع أفكاره بين مهاوى الضلال والفتنة. ونسمات الهدى والإيمان. * وصورة رابعة - صيحات وصواعق: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) . هذه عاقبة قوم ضلُوا أخذتهم الصيحة فهلكوا. فصوَّر لنا القرآن صيرورتهم بعد هلاكهم بأنهم كانوا مثل " هشيم المحتظر ". هكذا. . ومادة " هشم " تدور حول تكسر المادة وصيرورتها أجزاء - وهذا كافٍ في هلاكهم - ولكنه يصف الهشيم بأنه " هشيم المحتظر "، وهذا يفيدنا معنيين: أن الكوارث حلت بهم جميعاً فتساقطوا بعضهم فوق بعض. هكذا يكون الهشيم في الحظيرة. وأنهم أصبحوا وقوداً للنار تسرع فيه إذا أشعلت لأن " هشيم المحتظر " أكثر جفافاً من الهشيم الأخضر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 ومعنى آخر نلحظه: هو أن الهشيم يصبح قليل القيمة. أو هباء تذروه الرياح كما جاء في قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) . وصورة مماثلةَ. (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) . وأخرى: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وأخرى: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً) . هذه ثلاث صور قريبة فيما بينها إذ تشترك الثلاث في أن الصيحة هى آخذة الذين كفروا. . وهذا إسناد مجازي علاقته السببية. لأن الآخذ الحقيقي هو الله. وعقب كل مرة تأخذهم فيها الصيحة يصبحون جاثمين لا حراك لهم. ويصيرون بعد هلاكهم كأنهم لم يسبق لهم وجود في الحياة. استؤصلوا من جذورهم. فقد شبَّه وجود هم بالعدم لانعدام آثارهم. يقال: غنى بالمكان - أي أقام به - يعني: " كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين " وفي الصورة الثالثة جاء تشبيههم بـ " الغثاء ". . والغثاء يُضرب به المثل فى الضياع. ومصداق هذا في قوله سبحانه: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وصورة أخرى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) . لقد أهلك الله عاداً وثمود فأصبح هلاكهم أمراً مشهوراً وأصلاً يُقاس عليه. لذلك أمر الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يُخوف أهل مكة إذا استمروا في إعراضهم أن يرسل الله عليهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فيحل عليهم عذاب بئيس. صورتان أخريان: لقد شبَّه القرآن الكافرين حين أخذهم الله بعقابه العاجل بأنهم " أعجاز نخل ". وذلك في موضعين: أحدهما قوله تعالى: (فَتَرَى القَوْمَ فيهَا صَرْعَى كَأنهُمْ أعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةً) . وثانيهما قوله تعالى: (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) . فتشبيههم بأعجاز النخل دون غيرها من الأطراف للإشعار بأنهم أبيروا من أصلهم فلم تبق لهم باقية. وقد حرص القرآن في الموضعين أن يصف الإعجاز بوصف متمم للصورة. فالأعجاز " خاوية " في آية الحاقة. والنخل " منقعر " في آية القمر، ولك أن تسمى هذا من باب تحقيق التشبيه. كقول الشاعر: حَمَلتُ رُدَيْنيًّا كَأن سِنَانه. . . سَنَا لهَب لمْ يَتصِلْ بِدُخَانِ وذلك لأن أعجاز النخل قد تكون لها قوة إذا لم تكن خاوية. وإذا لم يكن النخل منقعراً. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 * مآل الكافرين: وقد آثر القرآن وضع كل كلمة في مكانها لأنها تؤدى المعنى مع موافقة رؤوس الآي. ومما يتصل بسوء مصيرهم حديث القرآن عن مآلهم وطعامهم وشرابهم، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) . فى هذه الآيات يُشبِّه الله طعام الأثيم بـ " المهلِ ". والمهل: دردى الزيت. وهذا تشبيه له باعتبار الذات. ثم وصفه بأنه: " يغلى في البطون ". ثم شبه غليه بـ " غلي الحميم ". والحميم: الماء الحار الشديد الحرارة. وقد ورد الحميم في شأن أصحاب الناركثيراً: (وَسُقُواْ مَاءً حَميماً) و (إلا حَميماً وَغَسَّاقاً) ، و (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ) َو (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) . و (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) . و (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) . ويطلق الحميم على العَرَق المتصبب. . فبئس قوم هذا طعامهم. وقريب من هذا قوله تعالى: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) . المستغيث: طالب الغوث. ومن سوء مصير أهل النار أنهم طلبوا النجاة منها فأجيبوا بما يزيدهم حسرة وندامة. . أجيبوا بماء كدردى الزيت حار ساخن يشوى وجوههم. وما هم بخارجين من النار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 ففى " يُغَاثوا " استعارة تهكمية مثل: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، وهذا أنسب للمعنى من جعله من باب المشاكلة اللفظية. * وصورة ثانية: علمنا أن " الزقُوم " هي طعام الأثيم. فكيف صورها القرآن إذن؟ (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) . يا للهول. . حتى شكل الطعام مخيف. ومذاقه علقم. فيالسوء المنقلب، وإذا كان هذا طعامهم. شربوا عليه " شرب الهيم " والهيم: الإبل تصاب بداء تشرب منه فلا تروى. فشبهوا بها أحط تشبيه. قال ذو الرمة: فَأصْبَحَتُ كَالهَيْمَاءِ لاَ الماءُ مُبْرِدُ. . . صَداهَا وَلاَ يقضي عَليْهَا هُيَامُهَا أى: أصبح كالإبل المريضة تشرب فلا تروى. وتتعذب فلا تموت وتستريح . . وبدهى أننا لم نتناول هذه الجوانب الأربعة. إلا ما جاء منها في أسلوب التشبيه والتمثيل. وإلا ففى القرآن الكريم كثير من المواضع أفاضت فى الحديث عنها. ولم تدخل في اعتبارنا بحسب المنهج الذي اتبعناه. * * * * وقفة جامعة: وفيما قدمناه من نماذج رسم القرآن عن طريق التشبيه والتمثيل صورة واضحة لهذا الفريق من الناس. صورة كاملة الملامح واضحة العبارة آسرة البيان. ونماذج كل مجموعة من المجموعات الأربع السابقة يقوى بعضها بعضاً فى دقة وإحكام، وتكاد ملامح نماذج المجموعة الواحدة منها. تتشابه منها وتتأصر حتى إنك لتستطيع أن تصوغ عنها صورة واحدة لها خصائص ومميزات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 خذ - مثلاً - ظاهرة بطلان أعمالهم. حتى النهاية واحدة في كل نموذج من نماذجها وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز البياني لا ينكره منصف. وفي كل الصور التي ذكرناها يخاطب القرآن كل القُوَى المدركة في الإنسان. العقل بما له من سلطان. والعواطف بما لها من تأثرات. والحواس على اختلاف ما بينها من طبائع. . . والنفس والوجدان. ولهذا كانت تشبيهات القرآن وتمثيله صوراً حيَّة لا تتأثر بتقادم دهر ولا يسمو فوقها بيان. ولنعرض - بعد - لتشبيهات القرآن وتمثيله في شأن المؤمنين حسب الخطة. * * * ثانياً: في شأن المؤمنين في مجالات الترغيب وردت الصور الآتية: 1 - مضاعفة الأعمال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) . الغرض من التمثيل ترغيب المؤمنين في الإنفاق في سبيل الله. وهذا عمل محمود. لذلك نرى المثل يضع أمام المنفقين في سبيل الله كل وسائل الترغيب والإغراء المحمود. فوحدة المال المنفَق - درهماً أو ديناراً - كحبة وُضعتَ في الأرض. . ثم أنبتت سبع سنابل. السنبلة الواحدة تحمل مائة حبة. فيَكون مجموع ما ينتج عن الحبة الواحدة سبعمائة حبة. وهذا حد أدنى يحصل عليه المنفقون. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 2 - مقاييس البر: وأعمال البر لها مقاييس تزكو بها. كشدة الحاجة عند المنفق لما بذل من مال. . قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) . وقال: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) . . أي لن تنالوا كمال البر. وقال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) - في رأى مَن يقول على حُبِّ الطعام. أو شدة الحاجة عند المنفق إليه. فإن حاجات المحتاجين تتفاوت. قال تعالى: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) . وكالإخلاص في الإنفاق. . هذه الاعتبارات تضاعف الجزاء أضعافاً كثيرة. ولذلك ترقى المثل في درجات الجزاء فقال: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) . . فباب الزيادة في الجزاء مفتوح. ولن يقف عند حد السبعمائة المذكورة. قال الزمخشري: " هذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر. ولا يقدح فيه أن الممثَّل به غير موجود في الواقع. لأن التمثيل على سبيل الفرض والتقدير ". * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 3 - وصورة أخرى " مثل للتكثير ": (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) . " الجنة ": البستان. و " الرَّبوة ": المكان المرتفع. و" الوابل ": المطر العظيم. و " الطل ": المطر القليل. وخصها بالذكر - أي خصن هذه الجنة التي هذه صفتها - لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً وقليل الماء يكفي لإروائها ككثرته لكرم منبتها وخصوبة تربتها. وهذا تمثيل لمضاعفة الأجر سواء أكانت الأموال النفَقة كثيرة كالوابل. أو قليلة كالطل. . قال الزمخشري: " مثل حالهم عند الله بالحنَّة على الربوة. ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل وكلتاهما زاكية عند الله. زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده". * * 4 - الترغيب في الجهاد: المثلان السابقان يهدفان إلى الترغيب في الإنفاق في سبيل الله. وهناك مثل آخر يُرغب في الجهاد: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) . فقد شبَّه المقاتلين في سبيله في تماسكهم وقوة إيمانهم وصلابتهم للعدو وتصديهم له بالبنيان الذي رُصَّ بعضه إلى بعض ورُصِف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وقد وصف المشبَّه به " بنيان " بقوله تعالى: (مَرْصُوصٌ) أي قائم. ولولا هذا الوصف لما جاء التشبيه بهذه المنزلة من الدقة والقوة. لأن البنيان قد يكون إذا لم يوصف بوصف يفيد الاحتراس " آيلاً للسقوط " أو ساقطاً، فجاء الوصف في الآية الكريمة مانعاً لإرادة شيء من هذا. مفيداً لقوة البنيان. وشدة تماسكه. قال الراغب: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) أي: محكم كأنما بنى بالرصاص ". * * 5 - الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة: وقال تعالى مُرغباً في الكلمة الطيبة ومُحذراً من الخبيثة: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) . ههنا شجرتان. . إحداهما ضُرِبت مثلاً للكلمة الطيبة - أئ كلمة طيبة وهذه الشجرة قد تهيأت لها أسباب النمو والرواء فالتربة خصبة والسقى منتظم، لذلك ضربت جذورها في أرضها الطاهرة فنمت أصولها وطالت فروعها حتى كادت تلامس السماء. ودام ثمرها فهى تؤتيه - بإذن ربها - كل حين. والثانية أبيدت بمجرد ظهورها فوق الأرض فلم تنم ولم تضرب جذورها فى الأرض. . وشتَّان بين هاتين الشجرتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 والأولى حمل الكلمة الطيبة على جنس الكلام الطيب. والكلمة الخبيثة على جنس الكلام الخبيث لا أن تخص الأولى بكلمة التوحيد. والثانية بكلمة الكفر. ولا مانع أن تكون كلمة التوحيد أصلاً في الكلمة الطيبة. وكلمة الكفر أصلاً فى كل كلام خبيث. والتشبيه في الصورتين تشبيه مفرد - وهو " الكلمة الطيبة " في الأولى، و" الكلمة الخبيثة " في الثانية - بمركب. وهذا ظاهر. ووجه الشبه في الأولى ما يترتب على كُل من الآثار النافعة. والمنافع الجمَّة. أما في الثانية فالوجه عدم ترتب آثار نافعة في كُلا، وإن كان أثر الكلمة الخبيثة هو إدخال قائلها النار. ويتصل بمبدأ الترغيب أمور هي: 1 - المدح والثناء. 2 - وصف النساء والحور والولدان. 3 - وصف الجنة. ونورد أمثلة ذلك من التشبيه والتمثيل القرآني على نفس الترتيب المذكور. 1 - المدح والثناء: ويأتي في مقدمة هذا الجانب مدح القرآن للرسول وأصحابه. قال سبحانه: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 إنها لصورة غنية عن كل شرح، ومثل واضح لا يحتاج إلى بيان، فالزرع يخرج غضاً طريا، وهكذا كان الإسلام متمثلاً في محمد عليه السلام، ثم يخرج شطأه فيقويه ويناصره حتى يستغلظ ويقوى ويستوى قائماً على سوقه، وزرع هذه صفته من شأنه أن يُعجب الزرَّاع ويأخذهم بروائه. فمحمد عليه السلام - أو الإسلام متمثلاً فيه - شبيه بالزرع، والزرع تحيا به النفوس، ويبهج النظر بخضرته وبهائه. وفي هذا التشبيه كثير من اللطائف والأسرار، منها ما تقدم، ومنها كذلك أن الإسلام كان سريع الانتشار والاستقرار، يدل على ذلك العطف بالفاء فى قوله: (أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى) . ومنها أن الإسلام كان يتم كماله في صورة دقيقة وحكمة وتدبير حيث شُبِّهت أطوار نموه بأطوار نمو الزرع، وهي مراحل طبيعية لا ارتجال فيها ولا مخالفة لسُنَن النشوء والارتقاء. ثم كان هذا الزرع لقوته وحُسن روائه باعثاً على حالتين: إعجاب الزُرَّاع به، ثم غيظه الكافرين. " إنه زرع من نوع خاص ينمو ولا يذبل. . يقوى ولا يضعف. . وهكذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ". ووجه الشبه شيء يبدو صغيراً ثم ينمو ويقوى ويكتمل فيعجب الأحباء. ويغيظ الأعداء. ومن ذلك: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 فى هذه الآية مدح وثناء للفقراء الزاهدين فيما في أيدى الناس. وهم لشدة زهدهم وتظاهرهم بالغنى أشبهوا الأغنياء عند الجاهل بحالهم. ولأن الغنى نوعان: غنى عن المال بالمال. وغنى عن المال بالقناعة والتعفف. والثاني فضيلة من فضائل النفس يستحق أصحابها المدح والثناء. . ولهذا مدحهم القرآن. * * * 2 - وصف النساء والحور والوِلْدَان: وصف القرآن النساء لغاية دينية إذ بها يحفظ الرجل نفسه ودينه من الوقوع فى المحظور. والقرآن في وصفه للمرأة لم يصف جمالها الحسي. وإنما وصف جمالها النفسي المعنوي. وبذلك يفارق وصف المرأة في القرآن ما دأب عليه الشعر الجاهلي من الأوصاف الحِسية. والالتذاذ المادي الوضيع. وعليه جاء قول الشاعر: إذا مَا الضَجِيعُ ثَنَى جِيْدَهَا. . . تَثنَتْ عَليْهِ فَكَانَتْ لبَاسَا فقد شبههن - القرآن - باللباس مرة فقال: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) . واللباس فيه معنى الحفظ والوقاية من الأخطار، وفيه معنى التجمل والزينة فى أعين الناس، وفيه معنى حفظ العورات وما لا يحب أحد أن يطلع عليه الناس. والفرق بين التعبير القرآني وبين قول الشاعر أن المراد باللباس في القرآن معناه المجازي بكل ما يحمل اللفظ. أما في قول الشاعر فإن اللباس مراد به معنى حسي مكشوف. لهذه المعاني شبَّه القرآن النساء باللباس للرجال، ثم شبَّه الرجال باللباس لهن. لأن كُلاُّ منهما يحفظ الآخر ويحميه ويزينه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 لذلك امتنَّ به على خلقه فقال: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) . ويرى ابن الأثير أن تشبيه المرأة باللباس لم يُعرف قبل وروده في القرآن الكريم. وهذا الوصف من شأنه أن يُرَغب الرجال في البناء بالنساء. والنساء فى الحفاظ على روابط الأسرة واستمرار سعادتها. وشبههن مرة بالحَرْث فقال: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) . وتشبيه المرأة بالحرث من حيث أن كُلا منهما - المرأة والحَرْث - موضع أمل . . . فالأرض تنبت ما به قوام الحياة. والنساء ما به يحيا النوع الإنسانى. ويستمر في عمارة الأرض. فبين المعنيين تعانق. * * * وصف الحور والوِلْدَان: فى وصف الحور جاء الحديث في القرآن عن الجمالين: الحسي والمعنوي. لا تكاد صورة من صور التشبيه والتمثيل لهن تخرج عن هذا الهدف. قال سبحانه: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) . وقال: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) . وقال: (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وقال في وصف الوِلْدَان: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) . فى هذه النصوص الكريمة شُبّهت الحور بالبَيْض المكنون في الأداحى. وبه تُشَبه العرب النساء وتسميهن " بيضات الخدور ". - ونلمح في هذا التشبيه معنيين هما: الرقة والبياض. وهذان وصفان راجعان إلى جمال الأنثى الحسي. وإن كانت الرقة أقرب إلى الجمال النفسي منها إلى الحسي. ولأنهما راجعان إلى ما ذكرنا. فهما لا يكفيان وحدهما في المدح والثناء. بل لا بدَّ من وصف آخر يكمل النعمة. وصف آخر خُلقى لأن المرأة لا تُمدح لجمالها وحده فجمالها قد يرديها كما جاء ذلك في الحديث الشريف. وقد تكفل بهذا الوصف الخُلقى قوله تعالى: (مَكْنُونٌ) أي محفوظ مصون، وهذا معناه العفة وقصر استمتاعهن على أزواجهن. وقد أكَّد هذا قوله تعالى: (قَاصِراتُ الطَّرْفِ) ، وقوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِى الخِيَامِ) . . وهذا أقصى ما يتَطلبه الحر في المرأة. وكما نلمح في تشبيههن بالياقوت والمرجان معنى النفاسة والزكاوة. لأن مَن يملك شيئاً من هذين النوعين فهو عليه حريص وبه معتز. وكذلك قوله تعالى: (كَأمْثَالِ اللُؤلؤِ المكْنُونِ) . . لأن اللؤلؤ قسيم الياقوت والمرجان فيما ثبت لهما من المعاني الشريفة والنضارة واللمعان. وهو لؤلؤ مكنون لم تعبث به يد عابثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) . . فالعفة والحصانة أبرز ما توصف به الحور العين فضلاً عن الجمال الحسي والاكتمال الخُلقى. أما الوِلدَان. فقد شُبهوا - أيضاً - باللؤلؤ فأفاد هذا التشبيه جمال المنظر ونفاسة الذات. ثم وصفه بأنه " منثوراً " فالوصف هنا مغاير للوصف في جانب الحور العين. . هناك يثبت العفة والحصانة والطهارة لإناث الحور. والعفة والطهارة أكرم أوصاف الإناث على الإطلاق ولا يضر الأنثى ما فاتها بعدهما. أما الوِلدَان فإن القصد إلى كثرتهم وانتشارهم لخدمة أهل الجنة أمر مطلوب، وليسوا هم بحاجة إلى إثبات العفة لأنهم ليسوا مظنة التبذل. . ولهذا جاء الوصف - هنا - كما كان - هناك - وافياً بالفرض: (إذا رَأيْتَهُمْ حَسبْتَهُمْ لُؤلُؤاً مَنثُوراً) . فهم في صفاء اللؤلؤ وانتشار الكواكب. وصدق الله العظيم. ما أحسن قوله وأحكم كتابه. * * * 3 - وصف الجنة: قال سبحانه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) . وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 " في الآيتين حديث عن عرض الجنة دون الطول. لأن ما له عرض وطول فإن عرضه أقل من طوله. فإذا عُرِف عرضه بالبسطة عُرِف أن طوله أبسط وأمد ". ويرى السعدى - كما يذكر الزمخشري - أن العرض قد يُراد به البسطة وليس ما يقابل الطول. كقوله تعالى: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) ويكون المعنى: بسطتها كبسطة السماء والأرض. . والآيتان تصفان الجنة من حيث الاتساع أو المساحة. وهذا ظاهر. وقال سبحانه: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) . وقال سبحانه: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) . وهاتان تتحدثان عن نعيم الجنة لا عن عرضها وطولها. وهما تدخلان في باب التشبيه من حيث أن المراد بالمثل فيهما الصفة الشبيهة بالمثل في غرابتها. وآية " محمد " كالتفصيل لآية " الرعد ". ففى آية " الرعد " إشارة مجملة إلى نعيم الجئة. وفي آية " محمد - صلى الله عليه وسلم - " تفصيل وتسمية لألوان ذلك النعيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وفى " الرعد " إشارة إلى دوام الأكل وإن انفردت بذكر الظل. وفي " محمد " تعيين لذلك الأكل: (وَلهُمْ فِيهَا مِن كُل الثمَرَاتِ) . والآيتان تثبتان للجنة الموعود بها المتقون كل أسباب البهجة والنعيم الخالد، وقد اشتملت آية " محمد " على زيادة لا بدَّ لها من توجيه. وهي قوله تعالى: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) . وقد تطوع الزمخشري بهذا التوجيه فقال: " فإن قلتَ: ما معنى قوله تعالى: " مثل الجنة التي وُعِدَ المتقون فيها أنهار. . كمن هو خالد في النار. . . "؟ قلت: هو كلام في صورة الإثبات ومعناه النفي والإنكار. لانطوائه تحت كلام مصدَّر بحرف الإنكار ودخوله في حيزه. وانخراطه في سلكه. وهو قوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) ، فكأنه قيل: " أمثل الجنة التي وعد الَمتقون. كمن هو خالد في النارَ "؟ فإن قلتَ: فلِمَ عرى من حرف الإنكار. وما فائدة التعرية؟ قلت: تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة مَن يسوى بين التمسك بالبينة. والتابع لهواه وأنه بمنزلة مَن يسوى بين الجنة التي تجرى تحتها الأنهار ويين النار التي يُسقى أهلها الحميم ". والحق أن ما ذكره الزمخشري كلام في منتهى الجودة. وكذلك يرى العلامة أبو السعود في تفسيره. وقد زاد كثرة التقديرات إذ أورد الوجوه الآتية: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ) : خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أمنْ هو خالد فى الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار؟ وقيل: معناه أمثل الجنة كمثل جزاء مَن هو خالد في النار؟ ففى الكلام حذف متضايفين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 أو: أمثل أهل الجنة كمثل مَن هو خالد في النار؟ قال: " وعرى عن حرف الإنكار وحذف ما حذف تصويراً لمكابرة مَن يسوى بين التمسك بالبينة وبين التابع للهوى بمكابرة مَن يسوى بين الجنة الموصوفة بما فصل من الآيات الجليلة وبين النار ". * * * في التخويف والتحذير: الترغيب والترهيب وسيلتان من وسائل تربية الجماعات والأمم، وقد تقدم دور التشبيه القرآني في مجال الترغيب والوصف المحبَّب للموصوف، ونتناول فيما يأتي دوره في الترهيب وما يتصل به من معان. 1 - وصف الدنيا: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) . وقال سبحانه: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) . وقال: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 * ملامح مشتركة بين الصور الثلاث: هذه الصور الثلاث اشتركت في معنى عام لم تخل منه واحدة منها وهو تشبيه الدنيا بماء أنزله الله من السماء. فأحيا الأرض بعد موتها. وأنبتت واخضرت واكتملت صورة الأرض بالأشجار والزروع المختلفة الطعوم والألوان والحجوم فدبت على ظهرها الحياة مرحة نشيطة. وحالف الحظ أقواماً فملكوا من حطامها وعروضها الكثير. وسخروها لخدمتهم وتوصَّلوا إلى بعض من أسرارها وقد بدت في أعينهم عروساً فاتنة. وظنوا أنهم قادرون على إخضاعها لأغراضهم فركنوا إليها واثقين، وبينما هم كذلك جاءها أمر الله فدمرها تدميرا" وأصبحت أثراً بعد عين كأن لم يكن لها وجود سابق. والصور في المواضع الثلاثة من الصور المركبة شُبِّهت فيها الحياة الدنيا فى زهوها وسرعة فنائها بصورة الزرع في نموه وازدهاره. وصيرورته هشيماً جافاً وأعواداً متهشمة متكسرة لا يتعلق بها أمل. ولا تغنى عن شيء؟ فجدير ألا يطمئن إليها عاقل ولا يغتر بها إنسان. أو الوجه - كما يقول الزمخشري -: " سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال ". وقد برزت في ثنايا التشبيهات الرئيسية صور بيانية تدور حول التشبيه والمجاز والقصر. ففى آية " يونس " وردت التعبيرات الآتية: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) . . وهذا مجاز طريقه الاستعارة التمثيلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 قال صاحب الكشاف: " جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها. وتزيَّنت بغيرها من ألوان الزين ". ووردت عبارة: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) فـ " أتاها أمرنا " مجاز حكمي علاقته المفعولية والتقدير: آتيناها أمرنا، وفي الإسناد إلى الأمر من المبالغة والفخامة ما فيه. و" جعلناها حصيداً " تشبيه مؤكد محذوف الأداة أي كحصيد. و" حصيد " بمعنى مفعول ووضع " فعيل " مكان " مفعول " لا يشعر به من المبالغة في المعنى. و" كأن لم تغن بالأمس ". تشبيه مرسل لذكر الأداة فحواه تنزيل وجود الدنيا حيث كانت بمنزلة العدم لسرعة فنائها وذهاب أثرها. كما اشتملت الفاصلة على تشبيه: (كَذَلِكَ نُفَصلُ الآيَاتِ) . . أى مثل هذا التفصيل الواضح تفسيرنا لكل الآيات. وآية " الكهف " اختصرت المسافة من أقصر طريق. وقد وصفت الهشيم الذي شُبِّهت به الدنيا بأنه " تذروه الرياح " لدقة أجزائه وجفافه. وحقَّرت آية " الحديد " الدنيا ووصفتها عن طريق التشبيه المؤكد بأنها: " لعب ولهو " وهما لا يجديان على صاحبهما غير الألم والحسرة. ثم قصرت: " آثر الحياة الدنيا " عند الراكنين إليها بأنه " متاع الغرور " قصر موصوف على صفة وطريقه النفي والإثبات. وترى التئاماً ساحراً بين مطلع الآية وفاصلتها. * * 2 - وصف الأعمال المخالفة للتوجيه الإلهى: من ذلك وصف الغيبة في قوله تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 فقد شبَّه المغتاب بمن يأكل لحم أخيه ميتاً. وهذه صورة تعافها النفوس. . وتنفر عنها الطباع. قال الزمخشري: " تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من المغتاب على أفظع وجه وأفحشه. وفيه مبالغات شتى: منها الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة. ومنها إسناد الفعل إلى " أحدكم " والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك. ومنها لأنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً. ومنها أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً ". وهذه اعتبارات دقيقة لحظها الزمخشري تُسجَّل له. ولكن جعله الاستفهام للتقرير لا يرتاح إليه الفكر. والأولى حمل الاستفهام على الإنكار كقوله تعالى: (أكَفرْتُم بَعْدَ إيمَانكُمْ) . . وذلك لأن الاستفهام التقريرى يكون مدخوله مثبتاً كقوله تعالى: َ (ألمْ نَشْرَحْ لكَ صَدْرَكَ) . ومدخول الاستفهام في آية الغيبة منفى: فكيف للزمخشري أن يجعل الاستفهام معه للتقرير؟ ومنها أيضاً قوله تعالى محذراً من نقض الأيمان والعهود: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) . خاطب الله العرب بما هو مألوف لهم. من ذلك الصورة المشبَّه بها في الآية الكريمة، و " نقض الغزل " يؤدى إلى إفساده حيث يُراد الانتفاع به، ولا يحب أحد أن يبطل عملاً بدأه أو أكمله خاصة إن كان هذا العمل موضع أمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 والتي تنقض غزلها خرقاء لا عقل لها ولا رشاد. . هي كمن يحرث في البحر يكد ويتعب فيما لا يعود عليه بنفع. والنقض في جميع استعمالاته يدور حول الإفساد والإبطال. قال الراغب: " النقض انتشار العقد من البناء. والحبل والعقد وهو ضد الإبرام. ومن نقض الحبل والعقد استعير نقض العهد. . ". لذلك وقع التحذير بهذه الصورة لتكون أوقع في النفس. وأحرى بالالتزام. ومنه التحذير من الإنفاق على غير الصفات المطلوبة. قال سبحانه: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) . جاءت هذه الآية بعد ثناء على المنفقين في سبيل الله، ولا ينفقون إلا عن إيمان به ورضا نفس وحب فيه، فكان فيها ترغيب لهم فيما استحقوا عليه الثناء. أما هذه الآية فجاءت مُحذرة من مخالفة الأصول الشرعية في الإنفاق. قال الزمخشري: " وهذا مثل للذى يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغى بها وجه الله. فإذا كان يوم القيامة وجدها محبَطة فيتحسر حسرة مَن كانت له جنة من أبهى الجنان وأجمعها للثمار فبلغه الكبَر. وله ذُرية ضعفاء - والجنة معاشهم - فهلكت بالصاعقة ". وإذا كانت هذه الآية مسوقة لتنفير الناس من الإنفاق على غير وجه الشرع فقد حفلت الصورة الأدبية فيها بعبارات أدت المعنى على وجه حكيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 فالرجل صاحب الجنة المذكورة التي فيها النخيل والأعناب. والأنهار تجرى من تحتها وله فيها من كل ثمر نصيب، ذلك الرجل قد حلت به الشيخوخة فأضعفته فهو غير قادر على الكسب مما سواها. وله أولاد ضعاف في حاجة إلى ثمارها. أصابها إعصار مدمر فيه نار فاحترقت في غمضة عين. فلو كان هو شاباً لهان الخَطب. ولو كان أولاده أقوياء لهان الخَطب. ولكن كيف وهو وأولاده بتلك الصفة. ومما يزيد من الحسرة: أن الواقعة كانت مفاجئة فلم تكن هناك فرصة للاحتياط، والاحتراق أعقب الإصابة فلم تكن هناك فرصة للإنقاذ. (فَأصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) وهل تنكير الإعصار والنار إلا لإرادة التهويل من شأنها. ومثل هذه الآية التحذير من أكل الربا في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) . فصورة الإنسان الذي يتخبطه الشيطان من المس صورة بغيضة إلى النفس. فمَنْ أراد أن يكون كذلك لا يتورع أن يأكل الربا! وهل يرضى عاقل هذا المصير لنفسه؟ ومنه التحذير من أذى الأبرياء كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 3 - التخويف من أهوال الحشر: للتشبيه في القرآن الكريم دور هام في الحديث عن يوم القيامة، وحديث القرآن عن يوم القيامة على أنواع: أولاً - إمكان وقوعه: أى أنه ليس كما يقول المنكرون أنه مستحيل الوقوع، وفي هذا الجانب وردت النصوص الآتية: قال سبحانه: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) . وقال: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) . وقال: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) . وقال: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) . وَقال: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) . وقال: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 * قياس واضح يُلزمهم بالتصديق: فى النصوص المتقدمة يهدف القرآن إلى إثبات صحة وقوع البعث ففند تلك الشُّبهة الواهية التي بنى عليها المنكرون مذهبهم فيه. حيث استبعدوا وقوع البعث بعد الموت وصيرورتهم تراباً وعِظاماً. والحقيقة التي اعتمد عليها القرآن في هذا المجال حقيقة بدهية لا تحتاج إلى جدل طويل، وقد ساق لهم القضية في أسلوب منطفى واضح لا يخرج عن التسليم به إلا مكابر. فالله خدق الكون كله على غير مثال سابق ومن غير مادة تقدمت في الوجود عليه. . خلق مادته وشكل تلك المادة فيما نراه ونشاهده. . أرض وسماء. . أفلاك وأنهار. . صحارى وجبال. . إنسان وحيوان. وبدهى أن الذي خلق الحياة أولاً فإن الإعاده - وإن استوى عنده أمرها مع أمر البداية - فهى أهون عليه. وقياساً عليه فإن البعث أمر ممكن في نفسه. وإن كان من حيث الوعد به واجباً شرعياً. جاء هذا القياس في أسلوب تشبيهى أدبي. فالمشبَّه به هنا هو المقيس عليه من حيث أنه أمر واقع. . والمشبَّه هو المقيس وهو أمر متوقع. وما دام نظيره قد ثبت وقوعه علماً وعقلا. فإن ما قيس عليه أدخل فى مجال الوقوع: (كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ) . (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) . (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وجه الشبه في هذه النصوص - وما أشبهها - هو الإمكان واليُسر والسهولة. . . وقد كان تحدي القرآن لهم واضحاً في القصة الآتية: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) . فى هذا النص الكريم رد مفحم على دعواهم التي صدَّرها القرآن النص. ثم أخذ في الرد عليها فلم يتركها شيئاً ذا قيمة. قاس أمراً متوقَعاً على ما هو واقع فعلاً، ليستوى معه في إمكان الوقوع. وبذلك تندحض شُبهتهم. * * ثانياً - قرب وقوع يوم القيامة: وفي ذلك وردت النصوص الآتية: قال سبحانه: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) . وقال: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) . فى آية " الأحقاف " شبَّه مدة لبثهم قبل القيامة بكونها ساعة من نهار. هكذا: ساعة من نهار. . لم تزد عليه. والساعة الملبوثة " نكرة " من يوم " نكرة " كذلك، ولعل التنكير هنا مقصود به التقليل، ولتلك القِلة لم يحفظوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 لهما صورة في الذاكرة فصارتا عندهم وقتاً مبهماً. ووجه الشبه بين الطرفين: قصر المدة. وقد جاء قصر هذه المدة عن طريق المجاز الاستعاري في قوله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) . حيث شبَّه مدة لبثهم فى القبور بالزيارة. ويروى أن أعرابياً سمع هذه الآية فقال: لقد بُعِثَ الناس. والتشبيه في آية الأحقاف ذو غرضين: أحدهما: تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يستعجل لهم العذاب، لأنهم حين يرونه لم يشعروا إلا بقصر عيشهم الذي كانوا فيه. وثانيهما: تهديد المنكرين بقرب ما يوعَدون. وفي آية " النازعات " شُبهت المدة الملبوثة قبل القيامة بعشية يوم أو ضحاه، وهذا تفسير للساعة في آية " الأحقاف "، وهي هنا جزء من اليوم لم تتعده، وقد أضيف الضحى إلى ضمير " العشية " ولم يقل: أو ضحىً: ليكون الجزءان من يوم واحد، ولو قطع " الضحى " عن هذه الإضافة لجاز وقوع " العشية " في يوم والضحى في يوم آخر، وهذا يؤذن بتعدد أيام الدنيا فى موقف يُراد فيه بيان القصر الواقع فيها فهو لا يخدم المعنى ولذلك عُدِلَ عنه. وإضافة " الضحى " إلى ضمير " العشية " لمحة بيانية لتحقيق التشبيه. وقد جاء عن غير طريق التشبيه: (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 ثالثاً - طول يوم القيامة: ويقابل قصر المدة السابقة على يوم القيامة. طول اليوم نفسه، أي طول يوم القيامة، وفي هذا وردت النصوص الآتية: قال سبحانه: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) . وقال سبحانه: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) . وقال سبحانه: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) . هذه ثلات آيات تصف يوماً يتبادر إلى الذهن وشاع عند الناس أنه يوم القيامة، ولذلك آثرنا تسجيل هذه الآيات الثلاث هنا لندرسها من خلال آراء العلماء فيها وما يبدو للنظر من توجيه. وأول ما يُلاحَظ على هذه الآيات أن اثنتين منها تصف اليوم في الطول بألف سنة، والأخرى تصفه - في الطول أيضاً - بخمسين ألف سنة. وهذا الاختلاف في الوصف يحمل على الاعتقاد بأن اليوم الوارد في الآيات الثلاث ليس المراد به يوماً واحداً، بل يومان على الأقل. لذلك اهتم العلماء بالبحث في هذا الإشكال. ويتلخص رأى الخطيب الإسكافي في التمييز بين اليوم الموصوف بألف سنة وهو الوارد في سورتى الحج والسجدة، ويين اليوم الموصوف بخمسين ألف سنة وهو الوارد في سورة المعارج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 فما وُصفَ في " المعارج " بأن طوله خمسون ألف سنة فهو يوم القيامة، أما ما في آية " الحج " فإن المراد به عنده مضاعفة العذاب ومضاعفة النعيم، يعني أن يوم العذاب ينال فيه العاصي من العذاب ما يناله في ألف سنة لشدة الهول. . ويوم النعيم ينال فيه المنَعم خيراً كثيراً ينال مثله في ألف سنة من أيام الدنيا. أما ما في " السجدة " فإن المراد به وقت نزول وعروج الملائكة بأمر الله. إذ يكون نزولهم وصعودهم في يوم واحد. وما بين السماء والأرض خمسمائة سنة، فيكون مجموع الصعود والنزول ألف سنة. وللخطيب الإسكافي رأيان آخران: أحدهما: أن يكون اليومان في " الحج " و " السجدة " من أيام الله التى خلق فيها السموات والأرض. ويوم " المعارج " هو يوم القيامة. ثانيهما: أن يكون الحديث في المواضع الثلاثة عن يوم القيامة. والمعنى أنه لا آخر له. وفيه أوقات مختلفة طولاً وقصراً. والعلامة أبو السعود المختار عنده أن اليومين اللذين في " الحج " و" السجدة " يومان آخران غير يوم القيامة. فيوم " الحج " من أيام الدنيا. والعذاب المستعجَل هو العذاب الذي نزل بهم في الدنيا وطال اليوم لشدته عليهم. ويوم " السجدة " هو يوم صعود وهبوط الملائكة بتدبير الأمر. وهو يوم القيامة، ولكن أبا السعود لم يرتح لهذا الرأي، ولم يقطع فى اليوم الوارد في آية " المعارج " برأى واضح بل اكتفى بأن يراد به يوم القيامة أو هو عبارة عن بُعد المعارج والعرش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 ولم يخرج الزمخشري عما فصله أبو السعود. فاليومان في " الحج " و" السجدة " الأرجح عندهما أنهما غير يوم القيامة. ويوم " المعارج " الأظهر أنه يوم القيامة عند الزمخشري، أما أبو السعود فهو عنده مجرد احتمال. * والخلاصة: أن النظم القرآني في المواضع الثلاثة ليس فيه دلالة قطع على أن المراد باليوم فيه هو يوم القيامة أو غيره من أيام يعلمها الله. والذي يبدو من ظاهر الآيات وسياق الكلام الذي وردت فيه أن اليوم المذكور في آية " الحج " هو يوم من أيام عذاب الله الكافرين. والمعنى: أن يوماً واحداً منها عظيم في شدة وقعه عليهم لدرجة أن ما ينالهم فيه من عذاب لا ينال مثله إلا في ألف سنة من أيامنا المعهودة. لأن أيام الشدائد تطول على حد قول الشاعر: كِلِينِى لِهمٍّ يَا أُمَيْمَةُ قَاتِلِى. . . وَليْلٍ أُقَاسِيه بَطِيءِ الكَوَاكِبِ وقول الآخر: فِى ليْلِ صَولٍ تَنَاهَى العَرْض وَالطُولُ. . . كَأنمَا ليْلُهُ بِالحَشْرِ مَوْصُولُ أما اليومان اللذان في " السجدة " و " المعارج " فيتبادر تعلقهما بالعروج، وعلى ذلك فإن العروج نوعان: نوع يتم في يوم يعادل ألف سنة من دورة الفلك. وقد سبق تفسير ذلك عند الخطيب الإسكافي. ونوع يتم فيما يعادل خمسين ألف سنة. وحقيقة ذلك مما يعلم الله وحده. إما إرادة يوم القيامة بيوم آية " الحج " فبعيدة. وكذلك آية " السجدة " وإن كان احتمال إرادة يوم القيامة فيه - أي اليوم المذكور في آية " السجدة "- قوياً بخلاف ما في آية " الحج ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 أما آية، المعارج " فإن حمل اليوم فيها على يوم القيامة رأى تؤيده القرائن ويكفي أن ننظر إلى الآيات التي جاءت آيتنا في سياقها ليتأكد لنا ذلك التأييد. قال سبحانه: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) . فهذه الظواهر لا تكون إلا يوم القيامة. وهذا يُرجح أن يكون المقصود هنا يوم القيامة. ما لم نعتبر إرجاع الضمائر على العذاب الوارد في قوله تعالى: (سَألَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع) لأن كُلا من العذاب، واليوم المذكور فى قوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) . صالح لإرجاع الضمير عليه في قوله تعالَى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) . أى يرون العذاب أو اليوم الطويل. وأياً كان اليوم المذكور في هذه الآيات الثلاث فإن التشبيه قد أفاد طوله غير المعهود لأنه يوم تحدث فيه من الأعمال أو الأهوال ما لا يحدث مثله إلا فى الزمن المشبَّه به. والله أعلم. * * * أهوال القيامة: وتحدث القرآن - كذلك عن طريق التشبيه عن الأهوال الجسام التي تقع يوم القيامة والظواهر التي ليس للناس بها عهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 وفى هذا الجانب وردت النصوص الآتية: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) . وقال: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) . وقال: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) . وقال: (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) . وقال: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) . فهذه أهوال وظواهر غير معهودة تحدث يوم القيامة ساقها القرآن عن طريق التشبيه. ففى آية " الكهف " شبَّه بعثهم وعرضهم على الله بهيئتهم وحالهم عند النشأة الأولى: (كَمَا خَلقْنَاكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ) ، ووجه الشبه هنا أنهم مجردون من كل حَول وقوة، لا مال لهم ولا ولد، حفاة عراة إلا مَن اكتسى بلباس التقوى، ولا يبعد أن يدخل في وجه الشبه اعتبار الجمع كما في قوله تعالى: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) . والزمخشري يُرجح أن وجه الشبه كونهم حفاة عراة، لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وفى آية " الحج " جاء تمثيلهم بالسكارى. وقد مهَّد لهذا التشبيه بأهوال تسلم مَن شاهدها إلى ما يشبه السُّكر من الذهول والهذيان وفقد الإدراك. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) . و (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) كناية عن صفة هي الفزع من شدة الهول وانشغال كل امَرئ بما كسب: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) . وآية " المعارج " أبانت الأطوار التي ستئول إليها السماء إذ تكون كالمهل وهو دردى الزيت كما سبق. أما الجبال فستكون مثل الصوف المصبوغ التفرق. إذا طيرته الريح. وجاء تشبيهم في " القمر " بالجراد المنتشر في الكثرة والانتشار، كما جاء تشبيهم في " القارعة " بالفراش المبثوث، ووجه الشبه الكثرة والضعف والتموج والاضطراب. وقال في " المعارج ": (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِراعاً كَأنهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفضُونَ) ، الإيفاض: السرعة. والنُصب، كل ما نُصِبَ وعُبِدَ من دون اللَه. وهذا التشبيه مقصود به الكافرون. ففى التشبيه بإيفاضهم إلى النُصب تهكم بهم. وتوبيخ لهم. كأنهم يسرعون نحو أصنامهم التي كانوا يعبدونها لتنجيهم مما هو واقع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وجاء في " الرحمن ": (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) . " وردة ": أي حمراء. و " الدهان ": الزيت. هذه معان جد رائعة عرفناها في القرآن الكريم عن طريق التشبيه في أسلوب جزل واضح، والآن ننتقل إلى مجموعة أخرى وهي: 1 - في مجال القدرة الإلهية: وفي هذا المجال وردت النصوص الآتية: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) . شبه الموج بالجبال في الضخامة والامتداد الشامخ. ومع هذا فإن السفينة - سفينة نوح - ظلت تمخر الماء في سلام. وتشبيه " الموج " بالجبال ضرورة بيانية لأن المقام يقتضي إبراز نعمة الله وكيف نجى المؤمنين وسط الطوفان وتلاطم الأمواج. ومن ذلك تشبيه السفن نفسها بالجبال في قوله تعالى: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) . والوجه - هنا ليس مجرد الضخامة - بل هو ملاحظة الاستقرار مع كونها تجرى في البحر. لا تضطرب ولا تميد ميداً يؤدى بها إلى الهلاك. وآثر هنا " الأعلام " مكان " الجبال " لأن العَلم هو الجبل الطويل لا مطلق جبل. ولا شك أن السفن أضخم وأكثر شموخاً من الموج. وهذا ملحظ دقيق لاستعمال أحد المترادفين فيما هو به أولى. لم يُعرف ذلك على دقته وروعته في غير القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وكما شبَّه الموج بالجبال شبَّه بالظلل. وهي القطع من السحاب فقال: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) . وفي تشبيه الموج بـ " الظلل " التي هي سحاب ملحظ دقيق وجدة ظاهرة، وليس فيه تشبيه الشيء بنفسه وإن كان كل منهما ماء، لأن وجه الشبه الضخامة. وأوثر لفظ " الظلل " على " السُحُب " لأنه يشعر بأن الموج ارتفع فوق ظهر الماء حتى صار له ظل. وهذا أنسب من حيث المقام. وجاء تشبيه الجبل بالسحابة في قوله تعالى: (وَإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأنَّهُ ظلة) . وهذا مثل من قُدرة الله لما صدَّ بنو إسرائيل عن العمل بما شرعه الله لهم قلع جبل " الطور " ورفعه فوق رءوسهم كأنه سحابة. مظلة وهددهم إذا لم يمتثلوا أمره بأن يسقط عليهم الجبل. ووجه الشبه الارتفاع والإظلال، والغرض بيان قُدرة الله وتهديد بنى إسرائيل - ليتعظ مَن عداهم. وجاء في مبدأ خلق الإنسان قوله تعالى: (خَلقَ الإنسَانَ مِن صَلصَال كَالفَخَّارِ) . " الصلصال ": الطين اليابس الذي له صلصة، و " الفخار ": الخزف، ووجه الشبه الجفاف واليبوسة. وأصل الصلصلة تردد الصوت من الشيء اليابس، والغرض من هذا التشبيه تذكير الإنسان بمبدأ خلقه وكيف أن قُدرة الله قد أخرجته من هذا المبدأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 إلى ما هو عليه إنساناً سوياً. وذلك أدعى للشكر. فهو مسوق للتوييخ على إخلالهم بمواجب شكر النِعَم. وجاء في تشبيه السرعة: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) . وقد جاء هذا التشبيه في أسلوب قصرى محكم البناء. ويهدف إلى تحقيق غرضين: السرعة الفائقة. واليُسر. وقد أوفى التشبيه بالغرضين أيما وفاء. وأين منه قول الشاعر: ظَللنَا عِنْدَ بَابِ أبِى نَعِيمٍ. . . بِيَوْمٍ مِثْلِ سَالِفَةِ الذُّبابِ وأين منه قول الآخر: ويوْم كَظِلِّ الرُمْح قَصَّرَ طولهُ. . . دَمُ الزًقِّ عَنا واصْطِكَاكُ المزاهِرِ قوة وجزالة في التشبيه القرآني. وعفة ألفاظ. لا نجد لها مماثلاً فيما سواه. مع أن التشبيه القرآني - هنا - وفي كل موضع مختص، بالتفوق والدقة فى تصوير المعاني وتقريبها للفهم. * * 2 - باقة من زهور: تقدمت الإشارة إلى هذا في صدر هذا الفصل. ونستعرض فيه أنماطاً من التشبيه والتمثيل لا تخضع لغرض واحد. وإن أمكن توزيعها على بعض الفروع السابقة. من ذلك قوله تعالى في تشبيه اليهود: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 أراد الله أن يصف اليهود بترك العمل بما علموا. فاختار لهم هذا المثل: " حمار " يحمل أسفار العلم ونفائس المعارف. فهو يحملها على ظهره ويصطك بها جنباه ويعانى من تعبها والكد في معاناة السير بها دون أن يعى شيئاً مما حوته. فقد نزَّل علمهم بها - أي بالتوراة - منزلة الجهل بما فيها من حيث أنهم لم يعملوا بمقتضاها. فلم يكن لهم مثل أقرب من مثل الحمار الذي تلك صفته. فالتركيب ظاهر في جهة المشبَّه به. لأنه ليس المراد تشبيههم بالحمار مجرد حمار، بل الحمار على الهيئة المخصوصة. وكذلك المشبه مركب أيضاً. لأن المراد تشبيه اليهود بتلك الهيئة المخصوصة لامجرد يهود. والوجه شقاء كل باستصحاب ما يتضمن النفع العظيم. والفوائد الشريفة من غير أن يحصل على شيء مع معاناة الكد والمتاعب في حمله. وقد سار هذا التمثيل مثلاً على أفواه المتأدبين والبلغاء. وقال سبحانه في شأن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) . قال الزمخشري في توجيه هذا التشبيه: " شُبهوا في استنادهم - وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير - بـ " الخُشُب المسندة "، ولأن الخُشُب إذا انتُفِعَ به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام غير منتفَع به أُسند إلى الحائط فشُبهوا به في عدم الانتفاع ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 ولا يجوز أن يكون المشبه الأصنام لا المنافقين. وهذا بعيد لأن الأصنام لا قول لها. وصياغة الآية تُشعر بمعان دقيقة. * * * معان دقيقة: ذلك أن فيها شرطين، أحدهما: الأداة فيه " إذا " وهو: (وَإذا رَأيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجْسَامُهُمْ) . وثانيهما: الأداة فيه " إنْ " وهو: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) . وقد وقع الشرط الثاني قبيل التشبيه مباشرة فجاء التشبيه في حيزه. إذن - فلماذا أوثرت " إذا " في الشرط الأول و " إن " في الثاني؟ ولماذا أولى التشبيه الشرط الثاني وكان الأولى من. حيث الظاهر أن يلى الشرط الأول ما دام التشبيه منصباً على الأجسام حسبما تقدم عند الزمخشري؟ وفي الإجابة عن هذه الأسئلة أُرجح الآتى: إيثار " إذا " في جانب الشرط الأول لعله - والله أعلم - لبيان حرصهم على غشيان مجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طمعاً في الحظوة عنده. ودفعاً للشك فيهم. ورجاء أن يصيبوا بعض ما يفتح الله عليه من مال. يبتغون من هذا الوجود إظهار الولاء والطاعة. فلكثرة وقوعه منهم، وحرصهم عليه، صُدِّر بأداة الشرط المفيدة لتحقق مدخولها، وهي " إذا " خاصة. أما إيثار " إن " في جانب القول فلعله - والله أعلم - لحرصهم - كذلك على عدم القول عنده إلا بحساب خشية أن يفلت منهم لفظ يكشف نواياهم وينم عما تخفى صدورهم من الكفر والنفاق. فلم يكونوا ينطلقون في الحديث عنده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 لعدم ثقتهم في أن يقولوا كلاماً كله رائج عنده. فكانوا لا يقولون إلا بحساب ولا يقولون إلا المنمق من القول. ولهذه الاعتبارات صدر الشرط بـ " إن " المفيدة للشك في حصول مدخولها لأن " إن " وظيفتها ذلك الشك. وأما إيلاء التشبيه الشرط الثاني فلأن له مدخلاً فيه ولو ولى الأول مباشرة لنبا المعنى. وذلك لأن معنى الشرط الأول - منفصلاً - لا ينسجم معه معنى التشبيه لو حُمِلَ عليه فكان لا بدَّ من توسط الشرط الثاني. فقولهم - إذن - هو سر افتضاحهم وإن حرصوا على تنميقه وتهذيبه. لذلك أشبهوا " الخُشُب المسندة " التي عفا عليها الدهر فلم تصبح موضع أمل أو مورد نفع. وبقى معنى دقيق لم أر مَن تنبَّه له وهو مستفاد من إيلاء التشبيه الشرط الثاني الذي فعل الشرط فيه: " يقولوا ". وهذا المعنى هو إيهام أن المشبه هو القول. على أن يكون المشبَّه به هو صوت الخُشُب المسندة لأنها لو أزيلت عن أماكنها سمعت لها دوياً وطنطنة ليس تحتها معنى وليس لها مدلول. وهذا يعني أن قولهم هراء لأن كل ما يصدر عنهم في حضرة الرسول إنما هو مبعثه النفاق والمخادعة. ومن روائع تشبيهات القرآن: تشبيه المؤمنين بالإخوة مع اختلاف أنسابهم قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وهو تشبيه بليغ حسب مصطلح أهل الفن نزل فيه وصف الإيمان الصادق بمنزلة القرابة من الأب والأم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وقال: (فَأصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْواناً) . . أي بنعمة الهداية. . . وزوجات النبي أمهات المؤمنين، قال: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) . أي في رعاية الحُرمة، مع ملاَحَظة أَنه لم يقَل: النبي أبو المؤمنين ليتشاكل المعنى. لأن القرآن نفى ذلك في سورة الأحزاب: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) ، فما كان له أن ينفى هناك. ويثبت هنا وصدق الله إذَ يقول: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) . ومنها - كذلك - تشبيه ضوء الفجر في أول عهده وظلام الليل في آخر عهده بالخيط الأبيض. والخيط الأسود في قوله تعالى: (حَتى يَتَبَيَّنَ لكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ) . لأنهما يكونان دقيقين فى هذه اللحظة. ومنهما تشبيه " الجفان " " بالجواب في الاتساع وذلك في قوله تعالى: (وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ) . والجابية الحوض الذي يُجمع فيه الماء. ومنها تشبيه كراهية بعض المؤمنين للقتال بالسوق إلى الموت في قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) . ومنها تشبيه الزوج غير مرغوب فيها ولا مُطلقة بالمعلقة في قوله تعالى: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 ولعل وجه الشبه هنا الاضطراب والتحير والقلق النفسي الذي ينتاب هذه الزوج. ومن التشبيات الضمنية قوله تعالى: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) . جاء التشبيه الضمنى في هذه الآية في استئنات تعليلى مبيِّن لسبب الأمر بخفض الصوت. فرفع الصوت ليس فضيلة إذا كان لغير الحاجة. . والدليل أن صوت الحمير مع أنه أرفع الأصوات هو أنكرها. . فكأنه شبَّه رافع الصوت بالحمار، وشبَّه صوته بصوت الحمار. ومنه كذلك قوله: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) . ناهياً عن التكبر، والصعر: ميل في العنق. والتصعير: إمالتَه عن النظر كبراً. وأصل الصعر داء يصيب الإبل فتميل عنقها من أجله. وهذه صورة قبيحة وكأن القرآن يُشبه التكبر بالناقة المنوفة بالصعر قال الشاعر الجاهلى: إذا الملِكُ الجَبَّارُ صَعَّرَخَدَّهُ. . . مَشَيْنا إليْهِ بِالسُيُوفِ نُعَاتِبُه * * 3 - التشبيه السلبى في القرآن الكريم: أداة التشبيه في كل أسلوب تشبيهى تعقد صلة بين طرفيه، وتنبئك بأن المشبه تربطه بالمشبه به رابطة هي الصفة المشتركة بينهما. لأن التشبيه فى أبسط تعاريفه هو إلحاق أمر بأمر في صفة مشتركة بينهما بأداة تشبيه مذكورة أو مقدرة! ولكنك تجد في القرآن الكريم - أحياناً - هذه الأداة لا تعقد تلك الصلة بين طرفى التشبيه، فهى تتوسطهما، وليس بين ذينك الطرفين شبه ما، فقد يكونان ضدين أو كالضدين أو غيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 ويكثر هذا النوع من التشبيه والذي يمكن أن نصطلح على تسميته - من الآن - بالتشبيه السلبى كما جاء في العنوان. عندما يتحدث القرآن عن الهدى والضلال، والكفر والإيمان، والطاعة والعصية. وإليك النماذج: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) . ". (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) . (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) . (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) . (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) . (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) . (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) . (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) . (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) . (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) . (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) . (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) . (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) . (ذَلكً بأنهُمْ قَالوَاْ إنمَا البَيع مِثْلُ الرِّبَا) . (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 * وقفة تأمل: هذه نصوص برزت فيها التشبيهات السلبية حسبما اتفقنا من قبل على هذه التسمية. وما هو حقيق بالملاحظة والتسجيل أن هذا النوع من التشبيه ذو خصائص مميزة يحسن بنا أن ننظر فيها. أولاً: أنها صيغت على أسلوب التشبيه وليس بين الطرفين أدنى صلة. والأداة إما مذكورة فيها - وهذا هو الغالب - وإما مقدرة - وهذا قليل - وقد ينصب النفي فيها على فعل فيه معنى التشابه مثل: (هَلْ يَسْتَوى الأعْمَى والبَصِيرُ أمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُلمَاتُ والنُّورُ) ؟. ثانياً: أن هذه التشبيهات تكون حين يجرى القرآن الكريم مقارنة بين معنيين ضدين أو كالضدين. وهذا الأسلوب غير معثور عليه خارج القرآن إلا نادراً. وهو مع نُدرته ليس على طريقة هذه النصوص القرآنية. لما فيها من جدة وجزالة. ومن النادر لهم قول داود الأنطاكى: فَقُلْ لِمَنْ يَرْغَبُ فِى أسْمَرٍ. . . مَا الفضةُ البَيْضَاءُ مثْلُ النحَاسِ وقال المتنبي: َ مَا الَّذِي عِنْدَهُ تُدارُ المنَايَا. . . كَالَّذِي عِنْدَهُ تُدارُ الشمُولُ ومن شواهد النحاة: تَعَلمْ فَليْسَ المرْءُ يُولدُ عَالِماً. . . وَليْسَ أخُو عِلمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ وأثر الاقتباس من القرآن ظاهر في البيت الأخير. أما قول الأنطاكي السابق فمعناه: بارد لا عاطفة فيه. وقريب منه بيت المتنبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 ثالثاً: أن في كل أسلوب تشبيهى من هذا النوع استفهاماً إنكارياً هو سر السلب فيه. . . وقد تخلو بعض هذه المواضع من ذلك الاستفهام الإنكارى لفظاً ويستفاد السلب حينئذ من أمر خارج عن الأسلوب ويكون الأمر المفيد للسلب: إما الشرع وحده كنفي التشبيه بين البيع والربا، أو الشرع والعقل كنفى التشبيه بين من يَخلق ومن لا يَخلق، أو العادة والواقع كنفي التشبيه بين الذكر والأنثى. رابعاً: إن أداة التشبيه في بعضها قد حُذفِت مع حذف المشبَّه به ولم يبق من أطراف التشبيه الأربعة إلا المشبه. لأن الوجه - محذوف. كذلك. وهذا ورد في أربعة مواضع: موضع في " الرعد " في قوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) . وموضعان في " الزمر " أحدهما: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. .) . وثانيهما: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) . والرابع في " فاطر " في قوله تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) . ومع هذا الحذف لثلاثة من أركان التشبيه. لم يسم الباقى بعد الحذف استعارة. . والبيانيون يطلقون على ما كان شأنه كذلك: استعارة بالكناية. لكنهم لم يقولوا هذا فيها، أي في هذه الأساليب، بل أبقوا التعبير على أصله من التشبيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 والمانع من جعل هذه الأساليب استعارة مكنية أمران: أحدهما: أن المحذوف - هنا - منوى التقدير وملاحظ وجوده لقوة الدليل عليه. ولا بدَّ من تقديره لأنه جواب استفهام مذكور أو مقدَّر. ففى الكلام - إذن - إيجاز بالحذف. ثانيهما: أن حمله على الاستعارة المكنية غير صالح لأن فيها لا بدَّ من وجود رمز ينوب مناب المشبَّه به. وليس في هذه الأساليب وجود لذلك الرمز. وهذا لون من التشبيه لم نجده إلا في القرآن الكريم. فهو خاصة من خصائصه لا جدال فيها. ففى الآية التاسعة من الزمر: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ) يقول الزمخشري: " من: مبتدأ خبره محذوف. تقديره أفمن هو قانت كغيره. وإنما حذف لدلالة الكلام عليه. وقيل: معناه أمنْ هو قانت أفضل أو مَن هو كافر ". وقال في الآية الثانية والعشرين منها. وهي: (أفَمن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإسْلاَم فَهُوَ عَلى نُورٍ مَن ربهِ فَوَيْلٌ لِلقَاسيَة قُلُوبُهُم) : " أفمن عرف اللَهَ أنه من أهل اللطف فلطف به حتى شرح صدرَه للإسلام ورغب فيه وقبله كمن لا لطف له ". وقال في آية فاطر وهي: (أفَمَن زُينَ لهُ سُوءُ عَمَلِه فَرَآهُ حَسَناً. .) : " يعني أفمن زُيَنَ له سوء عمله من الفريقين كمن لم يزيَّن لَه. . ". وقد حذا أبو السعود والإمام النسفي حذو الزمخشري مع الاختلاف فى الصياغة بداهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وكذلك خرَّجوا آية الرعد على أسلوب التشبيه. يقول النسفي: (أفَمَنْ هُوَ قَائم عَلى كل نَفْس بمَا كَسَبَتْ) : " يعلم خيره وشره ويعد لكلٍّ جزاءه كمن ليسَ كذلك "؟. وكذلك ذهب الإمامان الزمخشري وأبو السعود. . فقد أجمعوا على أن هذه الأساليب باقية على أسلوب التشبيه وإن كان المحذوف منها ثلاثة من أركانه. * خامساً - سر مجيئها على التشبيه: إن مسوغ مجيء هذه الأساليب على طريقة التشبيه السلبى فيها واقع خارج القرآن. والذي في القرآن هو نفي ذلك التشبيه هو سلب أن يكون بين ما عدوه خارج دائرة القرآن متشابهاً تشبيه ما. فذلك خطأ في الحسبان جاء تصحيحه بسلب التشبيه بين الطرفين في القرآن الكريم. فليس مَن أحياه الله بالهدى كمن مات بالضلال. وليس مَن هو قائم على كل نفس بما كسبت كمن ليس كذلك. وليس من اتقى الله وخافه كمن عصاه وفجر. * * * التشبيه المقلوب: بقيت صورتان اختلف فيهما. . إحداهما هو قوله تعالى: (افَمَن يَخْلقُ كَمَن لا يَخْلقُ) . فقد عُدَّ هذا الموضع من التشبيه المقلوب وأصله: أفمن لا يخلق كمن يخلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 والثانية هي قوله تعالى: (إنمَا البَيْعُ مثْلُ الرِّبَا) ، والأصل: إنما الربا مثل البيع. فهو كذلك من التشبيه المقلوب وإنما كان الأصل كذلك فى الآية الأولى. لأن الكلام مسوق للإنكار. أي إنكار أن يسوى ما لا يخلق بمن يخلق. فيكون إلزاماً لهم بالحُجة حيث عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله سبحانه وجعلوا غير الخالق مثل الخالق. وأجاب الشيخ حمزة فتح الله بأن الخطاب لعُبَّاد الأوثان، وهم بالغوا فى عبادتها حتى صارت عندهم أصلاً. فجاء الإنكار على وفق ذلك. ويقول السكاكي: " عندى أن الذي تقتضيه بلاغة القرآن هو أن يكون المراد بـ " مَنْ لا يخلق " الحي القادر من الخَلق لا الأصنام. وأن يكون الإنكار موجها إلى توهم تشبيه الحي العالِم القادر من الخلق به - تعالى وتقدَّس عن ذلك علواً كبيراً - تعريضاً عن أبلغ الإنكار لتشبيه ما ليس بحي عالِم قادر به تعالى، ويكون قوله تعالى: (أفَلاَ تَذكرُونَ) تنبيه توبيخ على مكان التعريض ". * فكرة للدرس: وأقول: إن ما ذهب إليه السكاكي لا ترتاح إليه النفس، كما أن فكرة التشبيه المقلوب في الآية قد يمكن الاستغناء عنها. لأن المتأمل في المعاني التي تحدثت عنها سورة النحل قبل الآية المذكورة يجد أن تلك المعاني تأتي على الترتيب الآتى: أن الله خلق الكون أرضاً وسموات، وخلق الإنسان وخلق الأنعام، وسخر الأنهار والبحار والكواكب لخدمة الإنسان، وأنزل الماء من السماء لري الأرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 وإنبات الزرع والأشجار والثمار، وأنه تعالى خلق أشياء كثيرة يعلمها الناس، وخلق غير ذلك مما لا يدخل تحت علمهم في الماضي أو الحال أو الاستقبال. فالطابع الغالب على هذه المعاني هو الخلق والإيجاد والتسخير. بعد هذا قال: (أفَمَن يَخْلقُ كَمَن لا يَخْلقُ) . ولعل المعنى منها: أفمن خلق هذه الأشياء - ويخلق ما يشاء - وهو حي قادر على كل شيء دلت على ذلك آثاره - كمن لا يخلق شيئاً - وهو يُخلق ويُصنع وهو أعجز ما يكون أن يفعل شيئاً؟ ويكون - على هذا التقدير - وجه الشبه النفي هو العجز والضعف. . يعنى أن القُدرة الفائقة ثابتة للهِ. والعجز المقْعِد ثابت لما سواه أصناماً وغيرها من المخلوقات. وعلى هذا - والله أعلم - لا قلب في التشبيه هنا. * * * البيع، والرِّبَا: أما الآية الثانية: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) فقد نزلت في شأن أهل مكة وكانوا يستحلون الربا وبالغوا في حلْيتَه حتى جعلوه أصلاً قاسوا عليه البيع فأمر القلب فيها ظاهر والداعي إليه معلوم. وهذا التقديم ينبئ عن مغالطة فاحشة ركن إليها مستحلو الربا. شأنهم فى ذلك شأنهم في كل مسائل العقيدة والسلوك والأخلاق. قالوا: ومنه قوله تعالى: (أفَرَأيْتَ مَنِ اتخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ) . . وهذا يلزم عليه أمران: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 أولهما: كون الآية على أسلوب التشبيه الذي أداته مُقدَّرة. ثانيهما: أنه من التشبيه المؤكد الجمل لحذف الوجه مع الأداة. والذي يبدو أن في عَذَ هذه الآية من باب التشبيه - سواء أكانت من التشبيه المعدول أو المقلوب - مجافاة للصواب. لأن الآية تبالغ في شأن من اتبع الهوى ونسي واجبات الخالق. وليس الغنى أنه ساوى بين واجبات الخالق. ومغريات الهوى. إذن فليس له - من ظاهر حاله - إله غير الهوى. وقد سبق عن ابن عباس أن في الآية تقديماً وتأخيراً. . والتقدير: " اتخذ هواه إلهه ". فعدها - إذن - من التشبيه ليس بمسلم. وعدوا من المقلوب قوله تعالى حكاية عن ابنة عمران: (وَليْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) . . والأصل: وليس الأنثى كالذكر. ولعل سر التقديم هنا أن نفسها كانت تمتلئ رغبة في الذكر الذي طلبته. * * * خصائص تشبيهات القرآن: أولاً - إن القرآن الكريم قد اشتمل على قدر كبير من التشبيهات ومن التمثيل لا تكاد تخلو منها واحدة من سوره الطوال. بل قد حفلت قصاره بكثير منه. وهو يتخذ من الأسلوب التشبيهى والتمثيلي وسيلة للبيان والتهذيب، والتربية والإصلاح والمدح والذم، والإرشاد والتوجيه. ثانياً - إن الغرض الدينى هو السمة الظاهرة في جميع تشبيهات القرآن وتمثيله وليس بينها ما يخلو من هذه السمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 ثالثاً - إن الفائدة في التشبيه القرآني تعود دائماً على المشبه لأن المشبه به أقوى صلة بالصفة المشتركة بين الطرفين. وهذا هو الغالب فيه. " ومن غير الغالب أن يتساوى الطرفان في الصفة. أو يكون المشبه أقوى من المشبَّه به كقوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) ، وليس هناك داع للاحتجاج على مشروعية هذاَ التشَبيه وصحة معَناه بأمثلة من الشعر أو غيره. لأن المراد الإيضاح والبيان وليس المراد بيان المقدار ". والتشبيه الإيضاحى لا يُشترط فيه قوة الصفة في المشبه به دون المشبه، والأولى أن يقاس على القرآن أقوال الشعراء لا أن يقاس هو عليها سواء في ذلك مسائل هذا الفن وغيره من الفنون كالنحو والصرف. رابعاً - مادة التشبيه والتمثيل القرآني: إن القرآن يتخذ من الطبيعة وظواهرها من سُحب وأمطار. ورعد وبرق. ويحور وأنهار. وزروع وأشجار. وجبال وصواعق. وزوابع وأعاصير. يتخذ من كل ذلك مادة حية في تشبيهاته وتمثيلاته. . كما يتخذ من الحيوانات والآفات التي تصيب الإنسان كالعمى والبُكم والصم. . . وما أشبه ذلك، يتخذ منه كذلك مادة لتشبيهاته وتمثيلاته. ويتخذ من أحوال الحياة من غير هذه العناصر مادة يُشكِّل فيها التشبيه والتمثيل على نمط فريد. واتخذ كذلك من المعادن النفيسة مادة لتلك التشبيهات. كما اتخذ من صفات البَشر من الرق والحرية وما أشبههما مادة لتشبيهاته، وقد تكون الصورة المشبَّه بها مفروضة غير مدركة كتشبيه الإنفاق الخالص بسنبلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 أنبتت سبع سنابل، وكتشبيه طلع شجرة الزقوم برؤوس الشياطين، وكتشبيه اهتزاز العصا باهتزاز الجان. ولذلك كانت تشبيهات القرآن خالدة حية مستمرة الجدة والطرافة، والرقة والجزالة، لأنها مصنوعة من مادة حية متجددة الرواء والنماء. خامساً - غناء التشبيه والتمثيل القرآني: إن جملة التشبيه والتمثيل في القرآن غنية بالمعاني الإضافية التي تقوى من المعنى الذي من أجله صيغ التشبيه أو التمثيل ولم يُكتَف فيها بمجرد وجود التشبيه بين الطرفين نفياً أو إثباتاً، ذماً أو مدحاً، وتقوم فواصل الآي في هذا المجال بنصيب كبير. ففى تمثيل الإنفاق الخالص بالسنبلة التي أنبتت سبع سنابل تجد وجه الشبه هو الكثرة والنماء. فجاءت الفاصلة مع قرينتها وافية بهذا المعنى أيما وفاء، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) . وفي تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة جاءت الفاصلة مؤكدة لهذا المعنى: (أُصْلُهَا ثَابثٌ وَفَرْعُهَا فِي السماءِ) . كما أكدت فاصلة تشبيه الكلمة الخبيثة المعنى حيث كانت: (اجْتُثتَ من فَوْقِ الأرْضِ مَا لهَا مِن قَرَارٍ) . ثم تأمل المقابلة الساحرة بين الموضعين: " أصلها ثابت " مع " اجتثت من فوق الأرضِ "، و " فرعها في السماء " مع " ما لها من قرار ". وإيثار لفظ مكان آخر يؤدى هذا الدور أيضاً، فقد جاء تشبيه الموج بالجبال، وتشببه السفن بها كذلك. ولكنه في جانب تشبيه الموج آثر كلمة: " الجبال "، وفي جانب تشبيه السفن بها آثر كلمة: " الأعلام " وأصل المعنى واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 ولعل السر في هذه التفرقة أن السفن أضخم عادة من الموج والمراد بالجبل مطلق الجنس، أما الأعلام فلا يراد بها إلا الجبال العظيمة، فلذلك جاءت كل كلمة في الموضع المناسب لها من حيث الوفاء بحق المعنى في دقة وإحكام. وقد ينمى القرآن المعنى المراد من التشبيه بزيادات لا تخلو من دلالة مهمة كقوله تعالى: (وإنْ يَسْتَغيثُواْ يُغَاثُواْ بمَاءٍ كَالمهْلِ) ، وإلى هنا يكمل المعنى. . ثم يأخذ القرآن بعد ذلك في إضافة زيادات مهمة تزيد المعنى الأصلي قوة وسلطاناً. فيقول: (يَشْوي الوُجُوهُ) ، ويقول: (بئْسَ الشَّرابُ) ، ويقول: (وَسَاءت مُرْتَفَقاً) . ومثله قوله تعالى: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) . فقد وصف " المهل " بأنه: " يغلى في البطون ". ثم أخذ " الغلي " المفهوم من الفعل: " يغلي " وأدخله في تشبيه آخر: " كغلي الحميم " فخطا بالمعنى نحو القوة خطوة لها شأنها من حيث المقام. مقام التهديد والإنذار. . وغير ذلك كثير. فأنت ترى - إذن - أن جملة التشبيه أو التمثيل في القرآن مرنة لها من الحرية أن تدخل من المعاني الإضافية واستبدال لفظ مكان آخر أو أن تأتي فى الفاصلة بما يقوى المعنى ويؤكده. في غير ما سرف ولا فضول. سادساً - إن الأداة الغالبة في تشبيهات القرآن هي " الكاف " ثم " كأن "، وغالباً ما تدخل الكاف على كلمة " مثل " فتشبه مثلا بمثل. وقَلَّ حذف الأداة فى تشبيهات القرآن على عكس ما يرى ابن الأثير في المثل السائر. وقد تدخل " الكاف " على " ما " المصدرية. وهي هنا تفيد التساوى بين الطرفين كما في قوله تعالى: (آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) . وقوله: (إنا أوْحَيْنَا إليْكَ كَمَا أوْحَيْنَا إلى نُوحٍ) . * * صورتان فيهما دقة: وقد يكون المشبه مع " كما " محذوفاً كقوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) . فقد قال النسفي: " كما أخرجك ربك " في محل نصب على أنه صفة الفعل المقدر. والتقدير: " قل الأنفال استقرت للهِ والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك ". وأورد الزمخشري هذا الرأي بلفظه ومعناه، ثم أورد رأياً آخر، قال: أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: " هذه الحال كحال إخراجك، يعني أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم فى كراهة خروجك للحرب ". وتابع العلامة أبو السعود ما ذكره الزمخشري في الوجهين. ومن هذا يتضح أن " كما " لم تدخل على المشبَّه به. بل دخلت على ما هو معمول في المعنى للمشبَّه به. وهو: " لكارهون ". ومثله في كون الأداة غير داخلة على المشبَّه به - وهي: " كما "، أيضاً قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 َقال الزمخشري: " فإن قلتَ: ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصاراً للهِ بقول عيسى صلوات الله عليه: (مَنْ أنصَارِي إلى الله) ؟ قلت: التشبيه محمول على المعنى، وعليه يصح والمراد: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: (مَنْ أنصَارِي إلى اللهِ) . * * سر آسر: وهذا التصرف البديع لم يُعرف في غير القرآن. ولعل السر في إيلاء أداة التشبيه غير المشبه به - كما رأينا - الإيماء إلى عقد تشبيه بين القولين وهما: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ أنْصَارَ الله) ، و (قَالَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلحَوارِيينَ مَنَْ أنصَارِي إلى اللهِ) . والوجه: أن كُلا من القولين يجب أن يُطاع ويُمتثل. أما قول عيسى عليه السلام فقد أجيب. فعلي الذين آمنوا - كذلك - أن يجيبوا هذا القول ويمتثلوه. وقد تدخل " الكاف " على اسم الإشارة - وهو كثير جداً في القرآن: وهو على كثرته نوعان: نوع يتضح فيه أمر التشبيه. مثل: (وكَذَلكَ أوْحَيْنَا إليْكَ رُوحاً مِن أُمْرِنَا) بعد قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وهذا النوع - أعنى وضوح التشبيه معها - هو الغالب في استعمالها فى القرآن الكريم. والنوع الثاني: ألا يكون أمر التشبيه فيها ظاهراً. مثل قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) . لذلك يرى بعض الباحثين: أن يحمل معناها على التوكيد وإن صح معها تقدير التشبيه. وهذا الرأي لا يخلو من الوجاهة. هذا. . وقد تتصدر أداة التشبيه في القرآن كلاماً جديداً يكون مشبَّهاً به. أما المشبه فغير مذكور صراحة، بل هو أمر منتزع من كلام سابق وذلك كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) . قال الزمخشري: " دأب هؤلاء كدأب الذين من قبلهم من آل فرعون وغيرهم) . ولهذه الآية نظائر هي: آية: 54 من نفس السورة وآيتا: 50 - 51 من الأنفال، وآية: 31 من غافر. فالمشبه - هنا - محذوف، والذي سوَّغ حذفه دلالة المقام عليه. وفي كل موضع من هذه المواضع التي حُذفَ فيها المشبه حرص القرآن الكريم على ذكر أداة التشبيه للإشعار به لأنها لو حُذفت مع حذف المشبه لكان الحمل على التشبيه بعيد التصور نوعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 ولا أظن أن هذا النوع من التشبيه معروف خارج دائرة القرآن. فهو كذلك سمة من سماته الفريدة. سابعاً - تجمع تشبيهات القرآن بين أقسام التشبيه الأربعة المعروفة من حيث الطرفان. ففيه تشبيه المحسوس بالمحسوس وتشبيه المعقول بالمحسوس وهذا القسم هو الغالب فيه. كتشبيه الإنفاق الخالص بسنبله أنبتت سبع سنابل. وكتشبيه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة والكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة. . . وغير ذلك كثير. * * وهم مدفوع: وقد وَهمَ بعض المعاصرين فقال إن تشبيهات القرآن تقف عند هذين القسمين. لأن تشبيه العقول بالمعقول وارد في القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى: (وَإذا قيلَ لهُمْ آمنُواْ كَمَا آمَنَ الناسُ قَالواْ أُنُؤْمنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) وقوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) . وقوله تعالى ْ (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) . وقوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) . فلا يشك - أحد أن التشبيه في هذه الآيات واقع بين معقول ومعقول، فكيف ساغ إذن أن يقال إن التشبيهات في القرآن لم تخرج عن ذينك القسمين؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 ولم تقف تشبيهات القرآن عندما ذكرنا، بل هو مليء بأمثلة أخرى. وفيه - كذلك - تشبيه المحسوس بالعقول. ومثاله قوله تعالى: (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا) . وقوله تعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) . والآن فهل لقول مَن يرى أن تشبيهات القرآن محصورة بين تشبيه المحسوس بالمحسوس والمعقول بالمحسوس نصيب من الصحة؟ * * وجه الشبه في تشبيهات القرآن: أما وجه الشبه فيأتي مفرداً ومركباً، وكل منهما عقلي وحسي. فما الوجه فيه مفرد عقلي قوله تعالى: (إنَّا أوْحَيْنَا إليْكَ كَمَا أوْحَيْنَا إلى نُوح) . والوجه ثبوت كون الوحينِ من عند الله. وما الوجه فيه مفرد حسي قوله تعالى: (وَجَنة عَرْضُهَا السماواتُ والأرْضُ) . والوجه هو الاتساع والبسطة. وما الوجه فيه مركب عقلي قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) . وما الوجه فيه مركب حسي قوله تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) . وقد جمعت تشبيهات القرآن بين تشبيه المفرد بالمفرد كما في قوله تعالى: (وَهى تَجْرى بهمْ في مَوْجٍ كَالجبَال) ، وقوله: (من صَلصَال كَالفَخاَرِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 والمركب بالمركب كما في قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ اتخَذُواْ من دُون الله أُوْليَاءَ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتخَذَتْ بَيْتاً) . وتشبيه المفرد بالمركب كقوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) . ولا رابع لهذه الأقسام إذ لم يرد فيه تشبيه المركب بالمفرد. * * ووهم آخر مدفوع: ولستُ مع الأستاذ علي الجندى إذ يرى " أن التشبيه المتعدد لم يرد فى القرآن لما فيه من أثر الصنعة والتكلف ". والواقع أن التشبيه المتعدد وارد في القرآن. وقد خلا من أثر الصنعة والتكلف وهو على أنواع: 1 - التعدد في الوجه والطرفان مفردان. مثل قوله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) . . فقد شبَّه القمر بالعرجون - وهما مفردان - من ثلاثة وجوه. هي: الدقة والانحناء والاصفرار. ومثله: (يَوْمَ يَكُونُ الناسُ كَالفَراشِ المبْثُوثِ) . . أي في الكثرة والضعف والتموج. 2 - وقد يكون الشبه مفرداً، والمشبَّه به متعدداً كقوله تعالى: (كَأنهُن اليَاقُوتُ والمرْجَانُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 ومنه أيضاً - أي من المتعدد - قوله تعالى: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) . . فقد تعدد المشبه به والمشبَّه مفرد. وبهذا يندفع ما ذهب إليه الأستاذ على الجندى من نفى التعدد عن تشبيهات القرآن الكريم مع خلوها - متعددة، وغير متعددة - من أثر للتكلف والصنعة. * * مدخول الأداة في التشبيه المركب: ثامناً - أن أداة التشبيه في القرآن الكريم حين تدخل على أحد أجزاء الصورة التشبيهية في التشبيه المركب فإن الجزء الذي تدخل عليه هو أعظم تلك الأجزاء في رسم الصورة. لذلك أوثر دخولها عليه من بين بقية الأجزاء. يظهر هذا جلياً في المواضع الثلاثة التي شبَّه فيها القرآن الدنيا في سرعة فنائها بعد ازدهارها. فإن الأداة في تلك المواضع الثلاثة لم تدخل إلا على الماء، والماء ليس مشبَّهاً به بل مجموع الأجزاء مع ملاحظة الصورة المكونة منها هى المشبَّه بها. وما ذلك إلا لأن الماء هو أهم عنصر من عناصر تلك الصورة التي أريد التشبيه بها. فليس في بقية الأجزاء جزء ليس للماء مدخل فيه. وكذلك عندما ضرب الله مثل اليهود في حفظهم للتوراة. وترك العمل بها، فإن الأداة دخلت على أحد أجزاء الصورة وهو الحمار، والحمار في تلك الصورة هو أهم جزء من أجزائها كلها لذلك أوثر الدخول عليه. وكذلك عندما شبَّه الله أعمال الذين كفروا، فإن الأداة دخلت على أهم جزء من أجزاء الصورة وهو الرماد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 ولعل هذا الأسلوب للإيمان بأن مدخول الأداة يمكن أن يستقل بأن يكون الطرف القابل للمشبه في قوته وأهميته في البيان والإيضاح، ولو حاولتَ مخالفة ما صنعه القرآن في هذه المواضع وما أشبهها فأدخلت الأداة على جزء آخر لوجدتَ مخالفة بين المعنيين، وهذا العمل - أي تبديل الجزء المدخول عليه بآخر - قد لا يكون له فرق في المعنى إذا نحن أجريناه خارج دائرة القرآن كبيت بشار مثلاً: كَأن مَثَارَ النَقْعِ فَوْقَ رُؤُوسِنا. . . وَأسْيَافَنَا ليْلٌ تَهاوَى كَواكِبُه * * عود للتشبيه المسلوب: تاسعاً - ومن خصائص التشبيه القرآني تلك التشبيهات السلبية بما تحتوى عليه هي نفسها من خصائص وذلك حين يقارن القرآن بين أمرين ليس بينهما وجه للمقارنة فينفى القرآن أن يكون بينهما وجه من وجوه الشبه، ويغلب على هذا النوع دخول الاستفهام الإنكارى، وقد يؤكد ذلك الإنكار بلفظ مذكور فى الفاصلة، كقوله تعالى: (أفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسقاً لا يَسْتَوُونَ) . وقد يأتي الإنكار قبيل الفاصلة كقوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وقد يُبدَّل من هذا التشبيه تشبيه آخر منكر فيه تخصيص لعموم إفادة الأول وذلك كقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) . ويمكن أن يدمج هذا الملحظ إلى ما أسميناه بغنى جملة التشبيه في القرآن الكريم. * * * نوع فريد من التشبيه في القرآن: عاشراً - وفي التشبيه القرآني نهج فريد لم يُعهد في سواه ذلك أن الناظر فى تشبيهات القرآن يرى أداة التشبيه تأتي عقب جمل من الكلام لها معنى قد أدئه. فتدخل أداة التشبيه على اسم إشارة مشار به إلى مجموع تلك الجمل باعتبار المعاني التي أدَّتها فيكون اسم الإشارة مشبَّهاً به ملحوظاً فيه معاني تلك الجمل، ويأتي بعد ذلك المشبه مؤخراً اسماً أو فعلاً. والمعهود أن المشبه رتبته التقديم على المشبَّه به وعلى الأداة. ومن ذلك قوله تعالى بعد ذكر قصة أصحاب الجنة وقد فصَّل القرآن الحديث فيها: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) . فالمشبه العذاب - وهو هنا - اسم وقد أُخرَ على المشبَّه به والأداة لفظاً لأن رتبته التقديم إذ هو مبتدأ. و " الكاف " وما دخلت عليه خبره. والمعنى: " العذاب كذلك "، ولعل السر في التقديم هنا لأن المشبَّه به لم يستقل بالمعنى لأنه مشار به إلى معاني الجمل التي سبقته. فقُدم لتقدمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ومعنى آخر - أن البدء بأداة التشبيه هنا والياً لها المشبَّه به تُشعر باتصال الكلام، أما لو بدئ بـ " العذاب " لتوهم زوال ذلك الاتصال. ومنه أيضِاً: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) . والمشبه - هنا - فعل كما ترى. كما تأتي أداة التشبيه في بدء كلام فتربط بينه وبين كلام سابق من حيث أنهما متشابهان - لتؤذن - مع هذا بتفصيل المشبَّه به فيما يستأنف من الكلام. ومثاله أيضاً من قصة أصحاب الجنة: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) . ويتوالى الحديث بعد ذلك في تفصيل قصة أصحاب الجنة التي هي مشبَّه بها. * * * التشبيه والتمثيل أصيلان في أسلوب القرآن: حادى عشر - لذلك كانت جملة التشبيه في القرآن تمثل عنصراً أساسياً فى إيضاح المعاني وتقريرها. وليست ثانوية في الأسلوب. لذلك استخدمها القرآن الكريم في الأغراض الهامة من المدح إلى الذم. ومن الترغيب إلى الترهيب. ومن التهذيب والإصلاح إلى التشريع والأحكام إلى الجدل والإفحام إلى آخر مقاصد الكتاب الحكيم. ثانى عشر - إن الباحث في تشبيهات القرآن يراه محذوف الوجه دائماً فهي - إذن - من التشبيهات الجملة التي تقتضى التماثل التام بين الطرفين. وفى هذا نوع من تأكيد الصلة بين ذينك الطرفين. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 الفصل الثاني 1 - المجاز في القرآن الكريم دراسة تحليلية حول نص مختارمن سورة البقرة * النص: قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) * * * عرض سريع: فى هذه الآيات يتحدث القرآن عن طائفتين من الناس: طائفة كافرة، وأخرى جمعت إلى الكفر النفاق. وفي حديثه عن كل من الطائفتين ذكر أوصافها، وأسباب تلك الأوصاف وجزاءها المدَّخر لها في الآخرة. ففى الآية الأولى من النص الحكيم إجمال للحديث عن الكافرين. وفي الآية الثانية تفصيل موجز لقصتهم. وفي الآية الثانية عشرة مثل مضروب لهم. ثم حكم عليهم في الآية الثالثة عشرة. أما قصة المنافقين فتبدأ بالآية الثالثة من النص الحكيم. حتى الحادية عشرة. وعندها يُسدل الستار قليلاً ليبرز أمامنا مثل الكافرين في الآية الثانية عشرة وما بعدها وبهما ينتهى الحديث عن الكافرين. ويُرفع الستار مرة أخرى عن طائفة المنافقين. ليضرب لهم - أيضاً - مثلاً موضحاً وكاشفاً لحقيقتهم وبهذا ينتهى الحديث عن الطائفتين (1) . وفي كلا الموضعين - الكافرين والمنافقين - كان حديث انقرآن مفصلاً بحكمة ومقدَّراً بمقدار. أولاً - في شأن الكافرين: وقد حصر القرآن شأنهم في البقاء على الكفر والعناد مهما دعوا وأنذروا.   (1) في جعل المثل الأول للكافرين والثاني للمنافقين مسايرة منا للدكتور محمد عبد الله دراز إذ هو صاحب هذا الرأي. وقد خالف به ما أجمع عليه المفسرون وسنفصل هذا بعد قليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 هذا الشأن يصوره القرآن في عبارات وجيزة ذات براعة في التصوير، وقوة فى التأثير: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) . فقد جاءَ الحكم مؤكداً ب " إن "، وآثر التعبير عنهم بالوصول ليمكن وصفهم بالذي استحقوا عليه العقاب في الصلة. كما أن اسمية الجملة مفيدة أيضاً للتأكيد. وعبَّر عن الإنذار بالفعل ليفيد فائدة لم يكن لتحصل لو عبَّر عنها بالاسم. لأن الأصل: سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك. أو إنذارك وعدم إنذارك سواء عليهم. * * * لماذا يستخدم القرآن المصدر المؤول. والجواب: إن المصدر المؤول أو الفعل يتيح صلاحية الكلام لإفادة اعتبارات من شأنها أن تقوى المعنى أو تجعله أنسب المقام. ومن ذلك قوله تعالى: (أوَلمْ يَكْفهمْ أنا أنزَلنا) ، والتقدير: أو لم يكفهم إنزالنا وقد رأينا أن المصدر المؤول جعل الكلام صالحاً لدخول حرف التوكيد على الجملة. كما أن اعتبار التجدد والحدوث المستفاد من الفعل هنا مطلوب. وقال في سورة البقرة: (وَأن تَصُومُوا خَيْرٌ لكُمْ) . بدل: " صيامكم ". لأن الاستقبال مع التجدد والحدوث داخل في الاعتبار هنا: إذ المقام مقام بيان حكم شرعي إنما يطاع ويمتثل بعد ثبوت التشريع. وقال في سورة يوسف: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) . فإن الذوق يحكم بأن فاعل " بداَ " هنا. هو المصدر المتصيَّد من الفعل وتقديره: بدا لهم سجنه. وإنما وضع الفعل: " ليسجننه " بدله لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 أتاح دخول التوكيد القسمى والتوكيد ب " النون " على الفعل وهذا يكشف لنا أن أمر سجن يوسف قد بدا لهم بداءً مؤكداً لا بديل له. ولو وُضِع الاسم بدل الفعل لفاتت هذه الاعتبارات. وقد عبَّر عن فساد القلوب بالختم عليها. وكذلك الأسماع. أما الأبصار فحيث لم يهتدوا إلى الصواب عن طريقها وعموا عن الدلائل والآيات. فقد عبَّر عن هذا بالغشاء الذي يُجعل على الأبصار فيحجب عنها الرؤية الصحيحة. يقول الزمخشري موجهاً ذلك: " فالختم والكتم أخوان. لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه. كتمانه وتغطيه لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه ". " والغشاوة: الغطاء - فعالة من غشاة إذا غطاه - فإن قلت: ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟. قلت: لا ختم ولا تغشية ثَمَّ على الحقيقة. وإنما هو من باب المجاز. ويُحتمل أن يكون من كِلا نوعيه. وهما الاستعارة والتمثيل ". وحاصل كلامه أن لنا اعتبارين في تحليل هذا المجاز. إما أن نعتبر الختم والتغشية كُلا منهما استعارة مفرد لفرد. على طريق التصريحية التبعية في الختم والتصريحية الأصلية في التغشية. وإما أن نعتبر الكلام كله. استعارة تمثيلية لهيئة بهيئة. وكلا المعنيين حسن. وإن كان الذوق يميل إلى اعتبار المجاز المفرد فيها دون المركب. وقد أبى الزمخشري إسناد الختم إلى " الله " على الحقيقة. متأثراً بمذهبه الاعتزالى الذي لا يجيز إسناد أفعال القُبح إلى الله. ولذلك جعله من المجاز العقلي. والفاعل الأصلى هو الشيطان، أما إسناده إلى " الله " فلأنه أقدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 الشيطان عليه. والعلاقة - إذن - هي السببية. وقد رأى هذا الرأي فى غير هذا الموضع. وقد تناول القرآن هذه الحواس الثلاث: " القلوب - الأسماع - الأبصار " عند حديثه عن الكافرين في أساليب متنوعة. ومواضع مختلفة تفيد فى جملتها: أن وجود هذه الوسائل لانعدام أثرها النافع فيهم كعدم وجودها. وكثرت في هذه الأساليب استعارة " ختم " للدلالة على هذا المعنى. قال في الجاثية: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) . * * * * مقارنة سريعة: ولنا أن نقارن بين صورة المجاز في هذه الآية. وبين صوره في آية " البقرة ". فالحال هنا هو الحال هناك: كفر وعناد، وهناك ختم على القلوب والأسماع، وغشاوة على الأبصار، وهنا - كذلك ختم وغشاوة. فالآيتان متفقتان في رسم الإطار العام للمعنى مختلفتان في دقائق التعبير. ففى آية " البقرة " القلوب مقدمة على السمع. وهنا السمع مقدم على القلب. وهنا أيضاً تصريح بنسبة جعل الغشاوة على البصر، وهناك ترك لذلك التصريح اكتفاءً بذكر الجار والمجرور. فما السر إذن؟ لعل السر في ذلك أن في آية " البقرة " مجرد إخبار عن حال الكافرين عامة فهم لا تثمر فيهم بشارة ولا يخيفهم إنذار. . من أجل ذلك لم يهئ الله لهم أسباب الهداية. لعدم استعدادهم لذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 أما في آية " الجاثية " فعرض لنموذج معيَّن فريد من جنسه، وقصد إلى نوع ألد خصومة وأبعد ضلالاً، يشعر بذلك أن صدر الآية فيه لفت قوى إلى تأمل حال هذا النوع: (أفَرَأيْتَ مَنِ اتخَذَ إلهَهُ هَواهُ) . . هذه واحدة. (وَأضَلهُ اللهُ عَلى عِلم) . . وهذه ثانية. (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلبِهِ) . . وهذه ثالثة. (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) . . وهذه رابعة. فهو لانغماسه في هواه لم يعر دعوة الحق أدنى اهتمام، فهو عنها في صمم، فجدير بقلبه أن يُختم ما دام لم يصل إليه عن طريق السمع توجيه مفيد، فلم يسمع، ولم يع، ولم ير شيئاً غير شهواته وملاهيه. وقال في سورة الأنعام: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) . . وظاهر أن هذه الآية مسوقة في مقام التهديد والوعيد وهو مقام قرة وعنف، ولهذا جاءت الاستعارة هنا مناسبة للمقام لا فيها من قوة وعنف، ففى الآيات السابقة كان كل من السمع والبصر موجوداً، لكنهما منوفان، وفي هذه الآية السمع والبصر مأخوذان من أصلهما، حتى ليخيل إلى التأمل في هذه الصورة أنها تمثل أناساً غريبي الخِلقة ليس لهم حاسة سمع ولا حاسة بصر! والقلوب مع هذه مختوم عليها، فماذا بقى فيهم من وسائل النفع؟ لا شيء. . إذن فلا خير في بقائهم ولا أسف على هلاكهم. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 * صمت. وكلام: وصورة أخرى من صور الحشر، يحكيها القرآن عن الكافرين حينما يأتون يوم القيامة يريدون أن يجادلوا عن أنفسهم، فإذا هموا بالاعتذار فقدوا النطق وهنا نرى كلمة " ختم " تفارق مكانها السابق - القلوب والأسماع - وتقفز قفزة سريعة لتجثم فوق الأفواه: (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْواهِهِمْ) . (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) . الأفواه هنا أحكم ختمها. لماذا؟ لأنهم همَّوا بالكلام مجادلين ومعتذرين. فدحضوا وفقدوا كل حُجة للدفاع عن أنفسهم، وهنا تأتي مفاجأة لم تكن فى الحسبان لحظة: (. . وَتُكَلَمُنَا أيْديهمْ وَتَشْهَدُ أرْجُلهُم بمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) . يا سبحان الله. . أرادوا الكلام من حيث عهدوا ليدفعوا عن أنفسهم العذاب فما استطاعوا. وتكلم منهم ما ليس بمتكلم لإحلال العذاب عليهم. . من هذه النصوص نرى أن القرآن يستعير كلمة " ختم " إذا كانت فعلاً ماضياً أو مضارعاً، ويجعلها صفة لقلوب الذين كفروا فلم يفقهوا شيئاً. * * * " طبع " و " ختم " أختان: وقد فسَّر المفسِّرون ومنهم الزمخشري " ختم ": بطبع لإفادة نفس المعنى. ومن العجيب أن كلمة " طبع " قد استخدمها القرآن مستعارة لهذا المعنى. وجاءت كذلك في إحدى عشرة آية. وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) . (. . رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) . (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) . (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) . (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) . (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) . (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) . (كَذَلِكَ يَطبَعُ اللهُ عَلى قُلوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلمُونَ) . (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) . (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) . * * * وصف جامع: وبالنظر في هذه الآيات جميعاً يتضح لنا أن القرآن استخدم مادتى: " ختم " و" طبع ". في مواضع متعددة يشملها وصف واحد هو أن هاتين الكلمتين تفيدان في هذه النصوص إعراض مَن وقعت في سياق الحديث عنهم عن قبول الإيمان. وأن القرآن يقرن بهما في كل موضع جاءتا فيه وصفاً يفيد نفى العلم النافع عنهم. أو وصفاً يُشعر بذمهم وسوء مصيرهم. وهذا المعنى يؤدى بنفى العلم صراحة في بعض المواضع، وفي بعضها يؤدى بنفى ما يُفهم منه نفى العِلم. هذا قياس مطرد نجده في كل النصوص الواردة في هذا الشأن. لِمَ لمْ يتخلف منها واحد؟ ففى آية " البقرة " خُتمت الآية بوصف صريح في ذمهم ومصيرهم السيئ: (وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ) . وآية " الجاثية " قرنت الآية بعدة أوصاف لإفادة معنى الذم. وفي آية " الأعراف " كذلك: (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) . * * * تفرقة عجيبة: وباستقراء استعمال القرآن لهذه المادة: " ختم " نجد استعمالاتها إذا كانت فعلاً. مقصورة على مواضع الذم. متضمناً السياق الذي هي فيه وصفاً يُشعر بذلك الذم متقدماً عليها أو متأخراً عنها. وقد سبق شرح هذه الظاهرة العجيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 أما إذا كانت اسماً فإنها تختص في هذه الحالة بمواضع المدح، وقد جاءت - كذلك - في سورتين، إحداهما: سورة الأحزاب في قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) ، وقد أجمع العلماء على أن ختَم الرسل بمحمد عليه السلام وصف شامل لفضائل التعظيم اختص الله به محمداً عليه السلام. والثانية - سورة المطففين: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) . وهذه خاصة من خصائص الأسلوب القرآني إذ يفرِّق بين استعمالات الكلمة الواحدة فيطرد استعمالها على صورة معينة في موضع ويطرد صورة أو صوراً أخرى من استعمالاتها أيضاً في موضع آخر. أما مادة " طبع " فقد استعملت كذلك في معنى الذم. وقرن استعمالها فى كل موضع بوصف مشعر بذلك الذم. على أن الغالب في الوصف هنا أن يكون بنفى العِلم أو الإيمان. أو ما يؤدى إلى نفى العِلم بطريق التجوز في الكلام. فآيتا " التوبة " اللتان ذكرناهما آنفاً. إحداهما فيها نفى العلم صراحة: (فَهُمْ لاَ يَعْلمُونَ) ، والثانية تنفى عنهم " الفقه " الذي هو أخص من العلم: (فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ) ، وآية " النساء " تنفى عنهم العلم صراحة. . . أما آيتا سورة " الأعراف " فإحداهما تصريح بنفى " السمع: (فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) وهذا يتضمن نفى العلم عن طريق المجاز المرسل الذي علاقته السببية. لأن السمع سبب في " العلم " إذ هو وسيلته، والثانية تُصرَّحَ بنفى الإيمان: (فَمَا كَانُواْ ليُؤْمنُواْ بمَا كَذَّبُواْ به مِن قَبْلُ) ، وفي نفى الإيمان نفى للعلم النافع عن طريق المجاز المرسل الذي علاقته السببية، لأن السمع سبب فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 العلم إذ هو وسيلته، ولأن الإيمان سبب عن العِلم الذي يهدى إلى النظر والتأمل وينَتهي إلى الإيمان الدعم بالدليل. وتدل آية سورة " يونس " على نفى الإيمان كذلك: (فَمَا كَانُواْ ليُؤْمنُواْ بِمَا كَذَّبواْ بِهِ مِن قَبْلُ) . أما آية سورة " الروم " فتنص على نفى العلم صراحة: (كَذَلكَ يَطبَعُ اللهُ عَلى قُلوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلمُونَ) . وفي آية " النحل " إثبات الغفلة لهم أمر يستدعى - بداهة - سلب العلم عنهم: (وَأؤلئكَ هُمُ الغَافلونَ) مع تقرير المعنى بتعريف الطرفين وتوسط ضمير الفصل بينهَما. وهذا يفيَد القصر والتوكيد. وتعود آية " المنافقين " إلى نفى الفقه، كما سبق في إحدى آيتى " التوية ": (فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ) ، وفي " غافر " نجد ذلك الوصف: (مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) وهما خلتان ذميمتان. لا يتصف بهما إلا جاهل أو من في حكمه. وفي آية " محمد " كان اتباع الهوى هو الوصف اللازم لهذا الفريق والمتبع الهوى حقير ذليل. * * * منهج القرآن في " طبع " و " ختم ": فهذه سُنة القرآن فقد اتبع كل تصوير مجازي لمادة " طبع " - بعد التزامه ورودها في مواضع الذم - وصفاً مؤكداً للمعنى ومشعراً به. وهذه الأوصاف مهما تباينت طرقها فإنها لا تخرج عن تسجيل أشنع ألوان الذم لهؤلاء المذكورين. ولنا أن نسجل - هنا - في اطمئنان. أن هاتين الآيتين " ختم " و " طبع " مادتا مجاز في القرآن. مع التزام " طبع " في مواضع الذم. و " ختم " كذلك إذا كانت فعلاً. فإن كانت اسماً فهى للمدح لا غير. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 * " ربط " تنافى " ختم " و " طبع ": من بديع القول أن القرآن حين التزم - على النحو الذي أبناه - استخدام مادتى " ختم " و " طبع " للدلالة على فساد القلوب. فإنه التزم مادة " ربط " للدلالة على صيانة القلوب من الفساد. وذلك في مواضع ثلاثة: الأول في أهل بدر: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ) وقال في شأن أهل الكهف مادحاً: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا. .) . وقال في شأن أم موسىَ: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) . فى المواضع الثلاثة السابقة استخدم القرآن مادة " ربط " فعلاً في معنى المدح، على العكس من " ختم " و " طبع ". وكذلك إذا كانت اسماً. . قال سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) . وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) . فى المواضع الثلاثة الأولى جاءت الكلمة - فعلاً - فأفادت حفظ القلوب من الفساد وبقاءها على الإيمان والثبات. وفي الموضعين الرابع والخامس وردت المادة في مقام الجهاد. اسماً فى الأولى، وفعلاً في الثانية. وذلك كله في مقام المدح والثناء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 وهى في المواضع الثلاثة الأولى جاءت على طريق المجاز، استعارة تصريحية تبعية، ويمكن حملها على المجاز المركب - كما سبق - عن الزمخشري فى توجيه المجاز في " ختم ". كما يلاحَظ أن الاستعمال المجازي هنا - بل وغير المجازي - مصحوب بوصف يؤكد المعنى ويقويه وقد سبق نظيره في مادتي " طبع " و " ختم ". * * ثانياً - في شأن المنافقين: أما المنافقون. . فقد بدأ الله قصتهم بمطلع مجمل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) . وطائفة المنافقين معقدة الأحوال. لها ظاهر طيب. وباطن خبيث. ولهذا سلك القرآن في حديثه عنهم مسلكاً فيه شيء من تفصيل إذا ما قيس بحديثه عن طائفة الكافرين. فقد جاء حديثهم في إحدى عشرة آية من نص بلغت جملة آياته خمس عشرة آية. وقد اشتمل حديث القرآن عنهم على صور من المجاز والمعاني والبديع. . (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) . تشتمل هذه الآية على صغرها على إجمال قصة الكافرين. وتحتوي على أصول القضية وفروعها وإثبات الإيمان في صدر الآية حسب مدعاهم ونفيه عنهم فى عجزها. حسب عدم الله بهم. يمثل عند البلغاء ما يسمونه طباق السلب، وأثره في جمال الأسلوب واضح. وقد ذكر الله في الرد عليهم: (وَمَا هُم بمُؤْمنينَ) غير معد الوصف ب " مؤمنين " إلى معمول. فما هم بمؤمنين باللهَ ولا بَاليوم الآخر. وذكرهما فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 الدعوى أغنى عن ذكرهما في الرد عليها. كما نلاحظ دخول حرف الجر على الوصف وحقه ألا يدخل عليه. وذكره عفيد لتأكيد النسبة. لينفى عنهم - نفياً مؤكداً - ما أرادوا أن يروجوه عنهم رواجاً مؤكداً. ولهذا تعادلت كفتا الميزان. ثم لننظر إلى دقة التعبير القرآني. إنه قال: (مَن يَقُولُ آمَنا) ولم يقل: " ومن الناس من آمن بالله " لأن القول غير الإيمان. ولو كان كذلك لما جاز نفيه وإلا أدى إلى تناقض يحتاج إلى تحرج بعيد. فكل لفظة فيه موضوعة بحساب. (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) . هذا شروع في تفصيل قصة المنافقين و " الخدع " أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه من قولهم: ضب خادع، إذا أمَر الحارس يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر. فكيف جاز - إذن - إطلاقه على الله. وهو العليم الخبير؟ * * الخداع في جانب الله: يجيب على ذلك صاحب المفردات فيذكر قوله تعالى: (يُخَادعُونَ اللهَ) ثم قال: " أي يخادعون رسول الله وأولياءه ". ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث أن معاملة الرسول كمعاملته. ولذلك قال تعالى: (إن الَّذِينَ يُبَايعُونَكَ إنمَا يُبَايعُونَ اللهَ) ، وجعل ذلك خداعا تفظيعاً لفعلهم وتنبيهاً على عظم الرسول وعظم أوليائه، وقول أهل اللغة: إن هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فيجب أن يُعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أتى بالمضاف المحذوف لما ذكرنا من التنبيه على أمرين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 أحدهما: فظاعة فعلهم فيما تحروه من اللفظ معه. وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله. وثانيهما: التنبيه على عظمة المقصود بالخداع وأن معاملته كمعاملة الله ". ويرى الزمخشري أن هذا مجاز عند البيانيين لأنهم تعاطوا - أي المنافقين حسب ظنهم - أفعال المخادع، والدليل عليه صدق نفيه في عجز الآية: (وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفُسَهُمْ) . . مجاز استعاري كذلك لأن المراء لا يخدع نفسه، وإنما سمى إضرارهم أنفسهم " خداعاً " حيث كانوا لا يشعرون بأن فى عملهم هذا ما يعود عليهم بالضرر، وقد حسن من موقع المجاز هنا مشاكلته للمجاز الأول بلفظه ومعناه. وليس ضرر المنافقين بواقع على أحد، وإنما هو واقع بهم، وهذا المعنى أفاده القصر في الآية الذي طريقه النفي والإثبات. ولهذه المادة " خدع " مواضع في القرآن جاءت في واحد منها على معناها اللغوى، وجا عت في بقية المواضع على طريق المجاز منها الاثنان اللذان في آيتنا هذه، وقد وضح المجاز فيهما، أما المواضع الأخرى فهى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) . فخداعهم لله مجاز تقدم الوجه فيه، أما خداع الله لهم فمجاز - كذلك - لأن الخداع الحقيقي يوهم - هنا - أن المخادع يعجز عن الكافحة وإظهار المكتوم، مع أن الله تعالى قادر على هتك سترهم وإنزال العذاب بهم ولا حَرَج عليه. ولكن حيث وضع فعل الله بهم مقابلاً لما توهموه خداعاً للهِ. سمى جزاؤه لهم خداعاً، فهو كقوله تعالى: (صَبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أحْسَنُ منَ الله صِبْغَةً) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 * ولكن ما خداع الله لهم؟ رأى يقول: إن ذلك من حيث تجرى عليهم أحكام المسلمين من حيث الظاهر مع أن الله توعدهم وعيداً شديداً. . وهذا رأى صائب. ولكن لماذا لا يراد بذلك إنعام الله عليهم وتقلبهم في مظاهر النعيم يسومون فيها كما تسوم الأنعام، ومصيرهم في الآخرة النار: (إنَّ المنَافقينَ فى الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ) * * توجيه جديد للآية: ولنا في الآية ملحظ. . ذلك أن الله عبَّر في جانب المنافقين بفعل رباعى: " يخادعون " إذ أصله: خادع، وهذا يقتضي مفاعلة بين طرفين مخادعٍ ومخادعَ. وفي جانب الذات العلية عبَّر بوصف من فعل ثلاثى لا مفاعلة فيه: " خادعهم " من خدع. . فما السر إذن؟ أرى - والله أعلم - أن الفعل: " يخادعون ". على حسب تصورهم أن الله مخادع أمام ألاعيبهم - فهنا طرفان من حيث الظاهر. أما في جانب الله، فإن فعله سبحانه موجه إليهم لا على سبيل الخداع وإنما هو فعل واقع من قوى لا يخشى شيئاً، على ضعيف يخشى كل شيء. فليس - هنا - مخادعة كاملة الأطراف، ولذلك خولف في الموضعين بين صيغ العبارة. . . ودليلي على ذلك القرآن نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 فإنه في آية " البقرة " قال: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) . . فهنا طرفان: مخادعٍ - وهم المنافقون - ومَخادَع - وهم الذين آمنوا، فجاء الفعل " يخادعون " من " خادع " المقتضى للمفاعلة بين طرفين. وعندما بيَّن أن هذا الخداع غير مؤجه إلا إليهم أنفسهم جاء الفعل: (وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفُسَهُمْ) ، من " خدع " الثلاثى الذي لا مفاعلة فيه. لأنه ليس هنا طرفان بل طرف واحد، وإن صح هذا فذلك من دقة التعبير فى هذا الكتاب المعجز. قال الراغب في: (وَهُوَ خَادعُهُمْ) : معناه مجازيهم بالخداع. وقال سبحانه: (وَإن يُرِيدُواْ أن يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللهُ. .) . . والكلمة هنا ورادة على المعنى اللغوي لا مجاز فيها. . وقال: " يخدعوك " دون "يخادعوك " لأن الله حسبه فهو ليس موضع مخادعة - أعنى محمداً - صلى الله عليه وسلم - - فلم يكن للخداع طرفان فجيء به من فعل لا يقتضي المفاعلة، وهذا جار على المنهج الذي أبنَّاه آنفاً. * * * * " النفاق ". . كلمة مدنية: والخلاصة: أن هذه المادة " خدع " لم يستعملها القرآن إلا في سياق الحديث عن المنافقين. فهى - إذن - كلمة مدنية لا عهد للقرآن بها في مكة، فالبقرة والنساء والأنفال سور مدنية، وهي السور التي وردت فيها هذه المادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وهى أيضاً في القرآن مادة مجاز. لأنها لم ترد على وجه الحقيقة إلا فى موضع واحد وهو آية " الأنفال "، أما في آيتى البقرة والنساء فقد جاءت على طريق المجاز الاستعاري. * * * دور المرض في المجاز: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) . استعمال المرض في القلوب يكون حقيقة. ويكون مجازاً. فيكون حقيقة إذا أصابها مرض جعلها عاجزة عن أداء واجبها نحو الجسم من تغذيته بالدم وتنقيته من الشوائب. ويكون مجازاً للدلالة على فساد المعتقَد والحقد والحسد وما أشبه ذلك من الأمراض التي لا تعلق لها بصحة الأجسام. والقلب الخالى من هذه الأمراض المجازية قد استعار له القرآن كلمة " سليم " من " السلامة " ضد المعنى الأول. فقال سبحانه: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) . قال الراغب: المرض الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وذلك ضربان: الأول: مرض جسمى وهو المذكور في قوله تعالى: (وَلا عَلى المريض حَرَجٌ) . الثاني: عبارة عن الرذائل كالجهل والجُبن والبخل والنفاق. . وغيرها من الرذائل الخلقية نحو قوله تعالى: (فِى قُلوبِهِم مَرَضٌ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 فالمراد بالمرض الذي في القلوب هو الكفر والنفاق، وهذا على سبيل المجاز الاستعاري، والاستعارة فيه تصريحية أصلية. ويذكر الراغب سبب تشبيه الكفر وغيرهما بالمرض ويرجع ذلك لما يأتي: إما لأنها مانعة من إدراك الفضائل كالمرض المانع للبدن من التصرف الكامل. وإما لأنها مانعة من تحصيل الحياة الأخروية. وإما لميل النفس بها إلى الاعتقادات الرديئة. . ميل البدن المريض إلى الأشياء المضرة. ومعنى: (فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) أي: كفراً ونفاقاً. . مجاز كذلك جاء مشاكلاً للمجاز الأول. وإسناد زيادة المرض إلى الله مجاز عقلي عند صاحب الكشاف، وقد تقدم وجهه فيما سبق. أما: (وَلهُمْ عَذَابٌ أليمٌ) . ففى إسناد " الأليم " إلى ضمير العذاب مجاز عقلي عند الجميع حيث أسند الإيلام إلى ضمير العذاب. ونظيره قول الشاعر: وَخَيْلٍ قَدْ دَلفْتُ لهَا بِخَيْلٍ. . . تَحِيَّةُ بَيْنهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ حيث أسند الوصف: " وجيع " إلى ضمير الضرب. لأن الضرب سبب الإيجاع كما أن العذاب سبب الإيلام. فالعلاقة فيهما السببية. والقرينة حالية. وقد استعار القرآن هذه المادة: " مرض " من دلالتها الوضعية إلى معان مجازية في إحدى عشرة آية هي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ. .) (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) . (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) . (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) . (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا. . .) . (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)) (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) . (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) . * المرض. . حقيقة ومجازاً: وهذه المواضع الأحد عشرة إذا أضفنا إليها الموضعين السابقين في آية البقرة يكون مجموعها ثلاثة عشر موضعاً. استعمل القرآن فيها هذه الكلمة استعمالاً مجازياً على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. وقد استعمل القرآن هذه المادة في معانيها اللغوية في المواضع الآتية: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) . حكاية عن إبراهيم عليه السلام. (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) . (وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) . (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) . (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) . (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) . (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ. .) . (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى) . (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) . (عَلِمَ أن سَيَكُونُ مِنكُم مَرْضَى) . * * * موازنة ضرورية: وهذه هي مواضع استعمال المادة في معناها اللغوى. إذ لا مجاز في واحد منها وقد ذكرتها تمهيداً لإجراء موازنة بين الاستعمالين المجازي والحقيقي أراها - ضرورية في هذا المجال. وهذه الموازنة تعتمد على الحقائق الآتية: أولاً: أن القرآن يقصر استعمال هذه المادة استعمالاً مجازياً إذا كانت اسماً - وإن شئت فتتبع مواضع استعمالها اسماً حيث جاءت وصفاً للقلوب فلا تجد واحداً متها خرج عن نطاق الاسمية. وهو في استعماله لها استعمالاً مجازياً ما فارقت وصف القلب في أي موضع كذلك. وقد جاءت جزءاً من صلة الموصول الاسمى " الذي،، ولم تخرج عن هذه الحال إلا في موضع واحد هو آية " النور ": (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا) ، وهي كذلك واردة في شأن المنافقين. بدليل عطف " الكافرين " عليها في قوله تعالى: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ) . . أما عطفه على (المنافقَون) فىَ مثل قوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) فلا يبعد أن يكون عَطف تفسير. ثانياً: أما استعمال القرآن لها في معانيها اللغوية فذلك مقصور على حالتين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 (أ) إذا كانت فعلاً. وهي كذلك في موضع واحد. وهو آية الشعراء حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) . (ب) إذا كان وصفاً مشتقاً - مفرداً كان أو مجموعاً - وهي في هذه الحالة لا ترد إلا في مقام التشريع وتيسير الأحكام. والمتتبع لمواضعها التي أثبتناها - قبلاً - يجد المادة موزعة حسب المنهج الذي شرحناه. وهذه سمة من سمات الأسلوب القرآني ودعامة من دعامات إعجازه مثيرة مدهشة، فيها دقة وعمق نظر. أما الدقة. . فلالتزام هذا المنهج الفريد وما كان هناك حَرَج لو خولف لا فى واقع اللغة ولا في طبيعة الأسلوب. وأما عمق النظر. . فللبحث عن سر هذا الالتزام وما روعي فيه من لطائف ودقائق يعز فهمها وتوجيهها. * * * (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) . دعوى الإيمان من المنافقين غير رائجة. أما نسبتهم الكفر إلى أنفسهم فرائجة ما في ذلك شك. والخطاب في الشق الأول من الآية مع مؤمنين ينكرون كل الإنكار أن يؤمن أهل النفاق. والخطاب في الشق الثاني منها موجه إلى شياطينهم. وهم لا ينكرون أنهم معهم باقون على الكفر والنفاق. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 * مقتضى الظاهر ومخالفته: واختلاف المقام يقتضي المخالفة بين كيفيات الكلام فيهما. والظاهر يقتضي أن يؤكدوا دعوى إيمانهم مع المؤمنين. لأنهم منكرون لما يقولون شاكون فيه وألا يؤكدوا مع شياطينهم لأنهم مصدقون لهم لا يحتاجون إلى تأكيد ولكنا نرى الموضع هنا مختلفاً. إلقاء الخطاب مجرداً من كل توكيد مع المؤمنين ومؤكداً مع الشياطين والظاهر يقتضي العكس. يرى السعد أن سر المخالفة في الموضعين: أنهم تركوا التوكيد مع خطاب المؤمنين. لأن دعوى الإيمان لا تروج من المنافقين. وهم يعلمون ذلك فأنفسهم - إذن - لم تساعدهم عليه. أما توكيدهم له مع الشياطين فلأن هذا رائج منهم عند شياطينهم. ولتوافر الرغبة فيه وكمال العناية به. فالتوكيد وعدم التوكيد جار على مراعاة الحالة النفسية عند المتكلم لا المخاطب. وهذه لفتة حسنة من لفتات السعد. ومَن تبعه في هذا المذهب الجزل. الذي هو وثيق الصلة بعلم النفس وأصول البلاغة الحية. وقد جاء في خطابهم شياطينهم: (إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزئُونَ) ، ففسروا قولهم مع المؤمنين: " آمنا " بأنه ليس إلا استهزاء، فكان الرد عليهم فيه قوة وتوكيد. على غرار ما أثبتوه هم: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فأكد ذلك باسمية الجملة. وبأن الله هو الذي يستهزئ بهم. والاستهزاء من الله مجاز إذ لا يصح ذلك منه على وجه الحقيقة. ولهذا فسَّروا هذه الآية بأن الله يجازيهم على الهزء. . ومعناه: أنه أمهلهم مدة ثم أخذهم مغامضة، فسمى إمهاله إياهم استهزاءً من حيث أنهم اغتروا به اغترارهم بالهزء فيكون ذلك كالاستدراج من حيث لا يعلمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) . مادة " مذ " تدور في المعاجم اللغوية حول معنى الزيادة والتكثير. . من مَدَّ الجيش وأمدَّه: إذا زاده بما يقويه ويكثره. ويقال: مدَّه الشيطان في الغي والضلال وأمدَّه: إذا واصله بالوساوس حتى يتصل غيه. ويزداد انهماكاً فى المعاصي. وإسناد المد إلى الله مجاز عقلي عند الزمخشري. . لأن فاعل المد عنده هو الشيطان. وأسْنِدَ إلى الله لأنه سببه المقدر عليه. وقد عدمنا فيما سبق وجهه عنده. على أنه يجوز - عنده - أن يكون مجازاً عن عدم القسر والإلجاء وإن لم يُصرِّحَ هو بمجازيته. وقد أنكر الزمخشري أن يراد به الإمهال - وهو رأي المفسرين - وحُجَّته أنه يعدى بنفسه إذا كان بمعنى الزيادة - كما في الآية - ويعدى بـ " اللام " إذا كان بمعنى الإمهال. . قال: " فإن قلتَ: ما حملهم - يعني المفسرين - على تفسير المد في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة - كما ذكرت - لا يطاوع عليه؟ قلت: استجرهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشيطان، ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته. . وإلا كان بمنزلة الأروى من النعام. ومن حق مفسِّر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه. والبلاغة على كمالها. وما وقع به التحدي سليماً من القادح. فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل ". * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 * المعاني التي أفادتها " مَدَّ " في القرآن: والناظر في مواضع " مدَّ " في القرآن يخرج بالنتائج الآتية: أولاً: أن هذه المادة يتجاذبها فيه جانبا حقيقة ومجاز. فالحقيقة في نحو قوله تعالى: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ) إذ المراد بالسبب: الحبل، والحبل يُمَد حقيقة. وقوله تعالى: (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ) لأن الإمداد هنا بمعنى الزيادة وهو من معاني الكلمة في اللغة. والمجاز في نحو قوله تعالى: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طغْيَانهِمْ يَعْمَهُونَ) . وقوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) . ثانياً: إذا استعمل القرآن هذه المادة في الحبوب فالغالب فيها أن تكون من الإمداد. قال: (يُمْدِدكُمْ ربُّكُم) ، وقال: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) . أما إذا استعملها في المكروه فالغالب فيه أن تكون من المد. قال: (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) . وقال: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ) . ثالثاً: أن استعمالها في جانب الأرض والظل والمال. . يفيد معنى البسطة والتوسع تجوزاً. فإن مد المال في قوله تعالى: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا) في معرض الامتنان يشبه فيه المال على سبيل المجاز بشيء ممدود قد شغل جانباً كبيراً من المساحة لكثرته. رابعاً: واستعمالها في جانب العين يفيد معنى الإطلاق والإرسال تجوزاً، كذلك فإن معنى: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي ترسل النظر وتطلقه إلى مظاهر النعيم عند الآخرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 والذي أراه: أن جانب المجاز فيما أسند إلى الله من معان يرى الزمخشري فيها أن الإسناد فيها جار على المجاز العقلي، أو يذهب المفسرون إلى تفسيرها بالإمهال. . أن جانب المجاز في مثل هذه كقوله تعالى: (وَيَمُدُّهُمْ فِى طغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ) أن الله يمنع عنهم ألطافه ولا ييسر لهم سبل الهداية. لأنه علم أنهم اختاروا الغيَّ على الرشد. ووجهه: أن يشبه منع أسباب الهداية عنهم بإمدادهم بوسائل الضلال والطغيان. . والجامع أن كلا من الأمرين - المنع والإمداد - يترتب عليه إغراقهم في الضلال ولجوهم فيه. * * العَمَه. . العمى: و" العَمَه " مثل " العمى "، إلا أن العمى يشمل فقد البصر. وخطل الرأي، بينما العَمَه خاص بضلال الرأي ومنه قولهم: سلك أرضاً عمهاء: أى لا منار فيها. وكذلك فرق الراغب بين العمى والعَمَه فقال: العَمَه: التردد في الأمر من التحير! يقال: عمه وعامه. والعمى يقال في افتقاد البصر والبصيرة، ويقال فى الأول: أعمى، وفي الثاني: أعمى وعم. والمادة تدور حول الحجب والتغشية، والمتتبع لمادة " عَمَه " في القرآن يجدها قد استعملت في معنى الضلال مطلقاً. وذلك في المواضع الآتية: (وَيَمُدُّهُمْ فِى طغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) . (وَنَذَرُهُمْ فِى طغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) . (لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)) . (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) . تلك هي مواضع استعمال مادة " عَمَه ". . وليس المراد بها المعنى اللغوي الذي هو التردد والحيرة، لأن هذا قد يكون وصفاً لبعض المؤمنين، ولذلك أرى أن الكلمة هنا مراد بها أنهم سادرون في ضلالهم لا يفيقون منه. ودليلي على ذلك القرآن نفسه حيث يقول: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) . . فهم سكارى لا رُشد معهم، ولا هدى ينير لهم الطريق. * * * طريق المجاز فيهما: إذا استقر ما ذهبتُ إليه فإن طريق التجوز فيه أنه من المجاز المرسل، والعلاقة هي الإطلاق والتقييد. فقد استعمل في مطلق ضلال بعد اختصاصه فى اللغة بضلال التردد في الرأي والحيرة فيه. أما مادة " عمى " فقد جاءت في القرآن حقيقة ومجازاً لغوياً على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية أو التبعية التصريحية، على أن في مواضعها موضعين قد دَق تقدير المجاز فيهما. فتكون " حقيقة " إذا أريد بها معيَّن كقوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) . لأن المراد بالأعمى هنا شخص معيَّن هو عبد الله بن أم مكتوم كما جاء ذلك في كتب التفسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 أو تكون في مجال التشريع كما في قوله تعالى: (ليْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ) . وتكون " مجازاً " إذا استعْملت في شأن الكفر والضلال، والكافرين والضالين، وقد مَرَّ بنا كثير من أمثلَتها في فصل " التشبيه والتمثيل " ولنذكر ما لم نذكره هناك: (فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَليْهَا) . (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) . (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) . والآيات لم تخرج عن طريق المجاز كذلك، فقد شبَّه ضلال القلوب بعمى الأبصار، والجامع أن كُلاً منهما يحول بين صاحبه وبين المنافع الشريفة، ففى المجاز استعارة محسوس لمعقول لقصد الإيضاح والتقرير. وفيما تقدم مواضع حملت على عمى البصر وعلى عمى البصيرة، وضابطهما أن المفرد فيها " عمٍ " والجمع: عمين أو عمون، لأنه حينئذ من العَمَه الشامل لعمى البصر وعمى البصيرة كقوله تعالى: (إنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ) . * " صورتان دقيقتان: وقد ورد من هذه موضعان آخران هما: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) . وقوله: (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 قال الراغب في توجيه معنى الآيتين: " وعمى عليه: أي اشتبه حتى صار بالإضافة إليه كالأعمِى قال: (فَعَميَتْ عَليْهمُ الأنبَاءُ يَوْمَئذ) ، (وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) . وقال الزمخشري: ". . . ومعنى " عَمِيَتْ ": خفيت، فإن قلتَ: ما حقيقته؟ قلتُ: حقيقته أن الحُجة كما جُعِلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء. لأن الأعمى لا يهتدى ولا يهدى غيره. . فمعنى: فعميت عليكم البينة: لم تهدكم كما لو عمى على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد ". وما ذكره الراغب والزمخشري ليس بمقنع. بل إن ما ذكراه لا يخلو من مآخذ وهى - فيما ذكره الراغب - يسيرة. لأنه قال: حتى صار بالإضافة إليه كالأعمى. وهذا لا يحل الإشكال، لأن القوم لم يبصروا الأنباء، ولم يهتدوا إلى الرحمة، فهم العُمْىُ وليست الأنباء أو الرحمة. وما ذكره الزمخشري فيه مجافاة للأوْلى. لأنه فسَّر الرحمة بالنبوة. ثم جعلها - أي النبوة - عمياء من حيث لم تهدهم كما لو ضَل دليل قوم في مفازة بقوا بغير هاد. وكما جُعِلت الحُجة بصيرة ومبصرة جُعِلت عمياء. هذا مُحصل كلامه. . ولو كان الأمر كذلك لكان للقوم أكبر حجة يتمسكون بها على البقاء على الكفر. ما دامت حُجَّتهم عمياء. * * محاولة لتوجيه المعنى في الموضعين: والذي أراه أن المسألة في الموضعين تُفهم على المجاز المرسل. الذي علاقته الجزئية لأن القوم عُمْىٌ لا يبصرون شيئاً. والحجَّة أو الأنباء بعض أفراد ما لا يبصرونه، فكما يقال: رعت الإبل الغيثَ - ويراد به النبات المتسبب عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 الغيث يقال هنا على الأنباء إذا لم تُبْصَر بأنها عمياء. . لأنها جزء ما لا يبصره القوم. وأولى من هذا عندى أن يُقال إن في العبارة قلباً على حد قول الشاعر: * وَلاَ يَكُ مَوْقِف مِنَ الوداعَا * أما ما ذكره الراغب والزمخشري فلا يسلم من المآخذ كما رأينا. وبعد هذا يمكن أن يقال: إن هاتين الآيتين " عَمَه " و " عمى " في القرآن مادتا مجاز. * * * * الاشتراء والضلالة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) . عبَّر عنهم باسم الإشارة الموضوع للبعيد. إشارة إلى بُعدهم عن الحق الذى باعوه فكان في هذا التعبير براعة استهلال من أول مطلع، و" الاشتراء " افتعال من الشراء. وهو هنا مستعار من معناه اللغوي المعروف لاستبدالهم الضلالة بالهدى. لأنه يفيد اختيارهم للضلالة على الهدى، والاستعارة فيه تصريحية تبعية لجريانها في المشتق. ولعل السر البلاغي الذي عدل من أجله عن أصل التعبير - الذي هو الاستبدال - لأن المشترِي يكون راغباً في الشيء المشترَى. باذلاً للثمن فيه. لأنه غير راغب فيه إذا قورن بما اشتراه. هذا غرض. . وغرصْ آخر: إن الشيء المشترَى ملازم لمن اشتراه. أما الثمن المبذول فيه فمفارق له متى وقع البيع بين الطرفين صحيحاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وهؤلاء كانوا زاهدين في الهدى، ولذلك بذلوه ثمناً فيما بحبونه - وهو الضلالة، فبين هذا المجاز معان وخفايا مستورة لم يكن للوقوف عليها سبيل لو عبَّر عنها بأسلوب الحقيقة اللغوية. * * استعمالات " شَرَى " وقانونها: وهذه المادة - مادة " شَرَى " - وردت في القرآن خمساً وعشرين مرة جاءت على صور المجاز في ثلاث وعشرين مرة منها. وعلى المعنى الحقيقي في مرتين فحسب، ولها في القرآن منهج وقانون. فلنذكره مطبقين عليه بالأمثلة: 1 - إذا خلت من تاء الافتعال كانت بمعنى " باع "، وجاءت على هذه الصورة في أربعة مواضع. ثلاثة منها على المعنى المجازي. وواحد بالمعنى الحقيقي وهي على الترتيب: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) . (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) . (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) . وهذه هي المواضع الثلاثة التي استُعْمِلت فيها المادة استعمالاً مجازياً كما هو ظاهر من السياق. أما الموضع الرابعء. فهو قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) . " شَرَوْهُ ": باعوه. فالاستعمال هنا حقيقي وليس مجازياً. . لأن البيع وقع بمعناه المعروف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 2 - وإذا لم تخل من تاء الافتعال. كانت بمعنى " الشراء " لا البيع، إلا فى موضع واحد جاءت فيه بمعنى " البيع " وسنشير إليه عند وروده. وهي في هذه الحالة في جميع الصور مستعملة استعمالاً مجازياً إلا في موضع واحد جاءت فيه على المعنى الحقيقي. وهو قوله تعالى حكاية عن عزيز مصر: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) فالشراء هنا حقيقة وليس مجازاً. وقد مضى إخبار القرآن عن إخوة يوسف. وأن " شَرَوه " هناك بمعنى باعوه حقيقة لا مجازاً، وكذلك فإن " اشترى " هنا من بين أخواته وقع بمعنى الشراء حقيقة لا مجازاً. وهذه معادلة تدعو إلى الدهش والاستغراب. * المجاز اللغوي في " شَرَى ": أما مجيء المادة على المجاز اللغوي فيتمثل في العشرين موضعاً الآتية: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) . لما كان المجاهد يبذل نفسه في سبيل الله ويدفع بها إلى الأخطار. والنفس أغلى شيء يمتلكه الإنسان والجود بها أسمى مراتب الجود. ولما كان يبذل ماله مع روحه في سبيل الله، وللمال عند الناس شأن عظيم. والمجاهد يتحمل من المشقات في المرابطة والسهر، وهجر المال والزوجة والولد مقبلا على ربه. حاملاً روحه في كفه. . فإن الله يثيبه على هذه الأعمال الجليلة أجراً عظيماً فليس له مأوى إلا الجنة. فهنا نفس مبذولة. ومال مبذول. يقابلهما رضا الله وفضله لمن صحت نيته فى الجهاد وأكرمه الله بالاستشهاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 صور القرآن هذه الحالة بما فيها من طرفين متقابلين بصورة البيع والشراء، فالمجاهد بائع نفسه وماله لله. والله مشتر تلك النفس الطاهرة وذلك المال المزكى. المؤمن المجاهد يقدم نفسه وماله عروضاً مبيعة. والله ينعم بالرضوان والجنة ثمناً مبذولاً. وهذه عملية رابحة. . فالنفس لا شك ميتة. والمال زائل أو مُفارَق. أما الجنة فلا تُنال إلا لمن عمل لها كالمجاهدين. فالتعبير يحتمل المجاز المركب. وهو فيه أظهر، كما يحتمل الإفراد، وفي إسناد الشراء إلى الله إشعار بضمان الثمن ووفرته. وقد صرحت بهذا نفس الآية إذ جاء فيها: (وَمَنْ أوْفَى بعَهْده منَ الله) ظ . . لا أحد. وإذا أخذنا باعتبار أن المجاز فيها مفرد. ففى " اشترى " استعارة تصريحية تبعية. وقد مهدت ورشئحت لاستعارة أخرى من جنسها وهي قوله تعالى: (فَاسْتَبْشرُواْ ببَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُم به) . . . فاكتمل بذلك شطرا الحسن وإن هاتين الاستعَارتين لتتعانقان. فماَ دَام الله مشترياً لنفس ومال المجاهدين. فهم - إذن - بائعون. فليستبشروا ببيعهم هذا. . ومَن أوفى بعهده من الله؟ وتلك بقية المواضع: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) . (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوا الحَيَاةَ الدُنْيَا بِالآخِرَة) . (بئْسَمَا اشْتَرَوا به أنفُسَهُمْ أن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزلَ اللهُ بَغْياً) . (وَلقَدْ عَلِمُواْ لمَنَ اشْتَرَاهُ مَا لهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) . والموضع الثالث هو الموضع الذي لم تخل فيه المادة من تاء الافتعال. ودلت مع ذلك على البيع دون الشراء مخالفة بذلك سنن أخواتها حسبما ذكرنا آنفاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) . (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) . (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) . (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) . (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) . (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) . (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا) . (لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) . (وًيشْتَرُونَ بِهِ ثَمَمْاً قَلِيلًا) . (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ) . (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) . (خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) . (يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) . (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) . وبهذا اكتملت مواضعها الخمسة والعشرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وقانون هذه المادة في القرآن يتلخص فيما يأتي: أولاً: إذا خلت من تاء الافتعال كانت بمعنى " باع " واستعمالها حينئذ يأتى على طريق المجاز الاستعاري إلا في موضع واحد فإنها تكون فيه حقيقة وليست مجازاً، وجملة هذا النوع أربعة مواضع. ثانياً: إذا لم تخل من تاء الافتعال كانت بمعنى " الشراء " المعروف واستعمالها حينئذ مجازي إلا في موضع واحد فإنها جاءت فيه على المعنى الحقيقي. ثالثاً: أن هذه المادة يتجاذبها طرفا البيع والشراء، والحقيقة والمجاز، فهى بمعنى " البيع " في أربعة مواضع. وبمعنى " الشراء " في بقية المواضع، وهى بمعنى الحقيقة في موضعين وبمعنى المجاز في ثلاثة وعشرين موضعاً، ولهذا يمكن أن نطلق عليها - في القرآن - أنها مادة مجاز. . لأنه الغالب على استعمالها. رابعاً: إذا أريد استعمالها في جانب المدح جاءت منفية إلا في موضع واحد جاءت فيه مثبتة. وهو: (إن اللهَ اشْترَى منَ المُؤْمنينَ) لأن شرف المعنى فيها كان من حيث إسناد الشراء إلى اللهَ تعالىَ فَأفادت كفالته بإثابة المجاهدين، وتكون في هذه الحال حديثاً عن المؤمنين. أما إذا أريد استعمالها في مواضع الذم فإنها تأتي مثبتة ولا تكون حينئذ إلا في سياق حديث عن الكافرين. * * التجارة والربح: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) . تقدم أن القرآن سمى تمسك الكافرين بالضلالة: " شراء " على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. ولذلك ناسب أن يسمى عملهم هذا: " تجارة"، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 ولما كان العرض البيع " الهدى " ليس متعادلاً مع الثمن المبذول " الضلالة " كانت التجارة خاسرة. وفي إطلاق معنى " التجارة " عليه مجاز استعاري أيضاً لكنها استعارة تصريحية أصلية لجريانها في غير المشتق. وإسناد نفى الربح عنها مجاز عقلي حقيقته: فما ربحوا في تجارتهم. وسره البلاغي أن إثبات الخسارة لتجارتهم مفيد لبطلانها أساساً. وإذا خسرت تجارتهم كانوا هم خاسرين من باب أولى. فهذا المجاز حقق غرضين دفعة واحدة. وفيه فوق ذلك تخييل لا تخفى عذوبته. وإذا تأملنا صور المجاز في هذه الآية في مواطنه الثلاثة: " اشتروا "، " ربحت "، " تجارة "، ثم الإسناد إلى ضميرها. . وجدنا المجاز فيها يتضام ويتعانق في أُلفة وإخاء. وللزمخشري إطراء رائع في هذا. . يقول فيه: " فإن قلتَ: هَبْ أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة. كأن ثمة مبايعة على الحقيقة؟. قلتُ: هذا من الصنعة البديعية التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا. وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات. وإذا تلاحقن لم نر كلاماً أحسن منه ديباجة وأكثر ماءً ورونقاً وهو المجاز المرشح. وذلك نحو قول العرب في البليد: كأن في أذنى قلبه خطلا. وأن جعلوه كالحمار. ثم رشحوا ذلك دوماً لتحقيق البلادة. فادعوا لقلبه أذنين. وادعوا لهما الخطل ليمثلوا البلادةَ تمثيلاً يلحقها ببلادةِ الحمار مشاهدة ومعاينة". * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 * المجاز في " التجارة " عقلي: وقد أسند القرآن الحكيم أحداثاً للتجارة على سبيل المجاز العقلي في أربعة مواضع غير هذا الموضع. واحد منها الإسناد فيه إلى صريح لفظها، والثلاثة الأخرى الإسناد فيها إلى ضميرها. وهي على الترتيب: 1 - (رجَالٌ لا تُلهِيهِمْ تجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذكْرِ اللهِ) . 2 - (إلَا أن تَكُونَ تجَارًةً حَاضرَةً تُديرُونَهَاَ بَيْنَكُم) . 3 - (يَرْجُونَ تجَارَةً لَن تَبُورَ) . 4 - (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) . والنظر في هذه الآيات يكشَف عن عدة أمور: 1 - أن الإسناد في المثال الأول إلى صريح لفظ التجارة، وفي الأربعة الأخرى إلى ضميرها. وفي كُلا الإسناد مجازي وسره المبالغة. في تقرير المعنى وتأكيده. 2 - أن المواضع الخمسة - اثنين منها استعملت كلمة " التجارة " فيها فى المعنى الحقيقي وهما آية النور، وآية البقرة الثانية. أما الثلاثة الباقية فإن "التجارة" فيها مجاز لغوي على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية. وسره إبراز المعقول في صورة المحسوس. 3 - أن المواضع الثلاثة التي استعملت فيها " التجارة " في المعنى المجازي تحتوي على مجازين في كل مثال: الاستعاري اللغوي الذي شرحناه، والإسنادي العقلي الذي سبقت الإشارة إليه. وعليه. . فإن استعمال هذه المادة في القرآن لم يخل من صور المجاز فهى إذن مادة مجاز فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 * الكافرون واستيقاد النار: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) المفسرون على أن هذا المثل، والذي بعده بيان - معاً - لحال المنافقين، وقد رأينا أن الدكتور محمد عبد الله دراز يجعل هذا المثل لبيان حال الكافرين، والذي بعده لبيان حال المنافقين، على طريقة اللف والنشر المرتب. . وقد جارينا الدكتور دراز في هذا التقسيم لسبب ذكره هو هناك. . ولسبب آخر نذكره نحن. وهو أن عرض القرآن لقصة الكافرين كان موجزاً إذ لم يتعد الآيتين - كما سبق آنفاً - أما عرضه لقصة المنافقين فقد كان مفصلاً إذا ما قيس بقصة الكافرين. وهذان المثلان - كذلك - أولهما موجز بالقياس إلى ثانيهما، وهذا يمكن الاستئناس به بل التمسك به عندما يقال إن المثل الأول وارد لبيان حال الكافرين. وأياً كان الخلاف فإن هذا لا يؤثر على جوهر الموضوع. فلنأخذ في البيان: " مثلهم ": أي قصتهم العجيبة الشأن. ويرى الزمخشري أن المثل - هنا - مستعار استعارة الأسد للمقدام. يريد بذلك الاستعارة التصريحية الأصلية للحالة أو القصة أو الصفة إذا كان لها شأن أو فيها غرابة كأنه قال: إن حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً. وهذا التشبيه معقود بين صورة معقولة - وهي المشبه - وصورة محسوسة هى المشبَّه به. والفائدة فيها عائدة على المشبه شأن كل تشبيهات القرآن، ووجه الشبه هو الحيرة والشك والتخبط. والتورط في الظلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وقد عبَّر القرآن في ثنايا هذا التشبيه بـ " الإضاءة " في حال الإثبات، وبـ " النور " في حال النفي دون الإضاءة، ليفيد الذهاب بكل ما حصل لهم من نور. وإحلال الظلام محله. ولو عبَّر بنفى الإضاء لأفاد ذلك نفى الزيادة في النور مع بقاء أصل النور لأن " إضاءة " فرط النور. وفي: " ذهب الله بنورهم " استعارة تمثيلية. لأن الواقع أن لا نور حقيقة ولا ظلمات. وفي إسناد الذهاب والترك إلى " الله " تسجيل عليهم بالضلال الذي ليس بعده هدى لأن الذاهب بالنور، والتارك لهم في الظلمات، هو الله الذي لا معطي لما منع. ولا مانع لما أعطى. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) . * * بين التشبيه والاستعارة: أما قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) . فالزمخشري يرى فيه وجهين: أن يكون تشبيهاً - وعليه المحققون. أو يكون استعارة. وهذا مختَلف فيه. وجعله تشبيهاً أولى لذكر الشبه وهم المنافقون. وهذا بناء على أن المحذوف - المنوى ذكره - كالمذكور. " وهذا عند مفلقى البيان من باب التمثيل البليغ المؤسس على تناسى التشبيه ". وهنا ظاهرة جديرة بالتسجيل هي أن الشبه في القرآن الكريم قد يكون محذوفاً مع حذف الوجه والأداة وبقاء المشبَّه به فحسب. ومع هذا يعتبر الأسلوب تشبيهاً. والبيانيون يسمون هذا " استعارة تصريحية أصلية "، والقول ببقاء التشبيه مع هذا الحذف لم يقولوا به خارج دائرة القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 والذى حملهم على ذلك قوة ملاحظة المحذوف. وهذه خاصة من خصائص التشبيه القرآني. تضاف إلى ما ذكرناه من خصائص في الفصل السابق. وقد مهَّد القرآن لهذا الحكم بقوله تعالى: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) . * * * الكافرون. . والصيِّب: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) وهذان المثلان - فضلاً عما فيهما من دقة تصوير وإصابة مرمى - يشتملان على صور جزلة من المجاز اللغوي والعقلي. وضروب من التشبيه ازدان بها الأسلوب. وقوى المعنى. فقد قال: (ذَهَبَ اللهُ بنُورهِمْ) ولم يقل: ذهب نورهم. . لأن الذهاب المجرد ليس مثل أن يذهب الله به. فنحن نلمس الفرق بين أن يقال: شرب الخمر حتى ذهب عقله. وأن يقال: شرب الخمر حتى ذهبت الخمر بعقله. فالعبارة الثانية أقوى من الأولى. لأن الخمر ذهبت بالعقل وانتبذت به مكاناً قصياً. فهنا ذاهب ومذهوب به. وكذلك: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أقوى من أن يقال: ذهب نورهم. ومنه قولهم في المبالغة: ذهبت به الخيلاء. وذهب السلطان بماله. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 * عبارة تنبئ عن إحساس نفسي: وفي المثل الثاني صور من المجاز ترجمت عن مشاعر الخوف والقلق والحيرة عند المنافقين. فهم لفرط فزعهم يجعلون أصابعهم في آذانهم. وهذه لقطة مثيرة للانتباه فى قصة هذا الفريق. والواقع أنهم جعلوا أطراف أصابعهم في آذانهم لأن الأذن لا تتسع لجعل الأصابع فيها. وطريق هذا التعبير هو المجاز المرسل. وعلاقته هنا الكلية لأن أطراف الأصابع جزؤها. والسر البلاغي فيه أن قصف الرعد قد أطار أحلامهم. فأخذوا يتقونه بسد الأذن حتى لا يسمعوه. وهم إزاء هذا القصف لم يكتفوا بوضع أطراف الأصابع. بل كانوا يحاولون غرزها كلها في كل آذانهم اجتهاداً منهم ألا يسمعوه. وكان للصواعق المصاحبة للبرق والرعد أثر كبير في بلوغ خوفهم المدى. ولم يكونوا يخافون خطراً يسيراً. وإنما كانوا يخافون الموت. وقد جاء هذا المجاز في موضع آخر من القرآن حكاية قول عن نوح يشكو قومه إلى ربه: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) . بَيْدَ أن المقام مختلف " فما في سورة البقرة كان المقام مقام خوف وفرار من الهلاك المتوقَع. وقد بيَّن ذلك الخوف قوله تعالى: (منَ الصوَاعق حَذَرَ الموْتِ) . والمقام في " نوح " مقام عناد ونفور عن سماع دعوة الحق. وقد بئن هذا العناد والنفور قوله تعالى: (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 وفى قوله: (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) كناية عن صرف أبصارهم عنه حتى لا يبصروه، فكما وضعوا أصاَبعهم في آذانهم حتى لا يسمعوه. جعلوا ثيابهم أغشية على أعينهم لئلا يبصروه. وهو كناية عن صفة. كما جعلوا أصابعهم في آذانهم كناية عن صرف أسماعهم عنه حتى لا يسعوه وكان المجاز المرسل فيها من حيث إطلاق الأصابع على البعض. وكذلك يمكن حمل الكناية الثانية على المجاز المرسل لأنهم استغشوا جزء ثيابهم لا كلها، فقد اجتمع في هذين التعبيرين الكناية - وهي واسطة بين الحقيقة والمجاز - ثم المجاز المرسل. * * * إحاطة علم الله: (وَاللهُ مُحِيط بالكَافِرِينَ) أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحَاط به المحيط. وفي هذا التعبير مجاز. قال العلامة أبو السعود: " شبه شمول قدرته تعالى لهم، وانطواء ملكوته عليهم، بإحاطة المحيط بما أحاط به فى استحالة الفوت ". وشبه الهيئة المنتزعة من شئونه تعالى معهم بالهيئة المنتزعة من أحوال المحيط مع الحاط. فالمجاز هنا على ما بينه العلامة أبو السعود محتمل الإفراد والتركيب. صُورَ فيه العقول بالمحسوس لتقريره وسرعة تصوره. وقد استعمل القرآن هذه المادة: " أحاط " مترددة بين الحقيقة والمجاز فى صور شتى. وجانب المجاز فيها أكثر من جانب الحقيقة. وقد تشتمل بعض المواضع على مجازين لغوي وعقلي. وتلك أمثلتها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 أولاً - الصور الحقيقية: (أ) (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) . (ب) (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) . (ب) (إنَّا أعْتَدنا لِلظَالِمِينَ نَاراً أحَاطَ بِهِمْ سُرّادقُهَا) . هذه المواضع الثلاثة التي استخدم القرآن فيها مادة " أحاط " في معانيها اللغوية لا رابع لها. لأن جهنم محيطة بالكافرين على الحقيقة. وكذلك سرادقها. ثانياً - الصور المجازية: (أ) (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) . يقول الراغب في هذا المجاز: فذلك أبلغ استعارة، وذلك أن الإنسان إذا ارتكب ذنباً واستمر عليه استجره إلى ما هو أعظم منه فلا يزال يرتقى حتى يُطبع على قلبه فلا يمكنه أن يخرج عن تعاطيه. (ب) (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) . (جـ) (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) . (د) (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 (هـ) (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) . (و) (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) . (ز) (وَظنُواْ أنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) . (ح) (بَلْ كَذبواْ بِمَا لمْ يُحِيطواْ بِعِلمِهِ) . (ط) (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) . (ى) (إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) . (ك) (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ) . (ل) (وَإذْ قُلنَا لكَ إن رَبَّكَ أحَاطَ بِالناسِ) . (م) (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأصْبَحَ يُقَلَبُ كَفيْهِ عَلى مَا أنفَقَ فِيهَا) . (ن) (وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) . (س) (كَذَلِكَ وَقَدْ أحَطنَا بِمَا لدَيْهِ خُبْرًا) . (ع) (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) . (ف) (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 (ص) (فَقَالَ أحَطتُ بِمَا لمْ تُحطْ به) . (ق) (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) . (ر) (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) . (ش) (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)) . (ت) (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ) . (ث) (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) . * * صياغة القرآن لمادة " أحاط ": تلك هي المواضع التي استخدم القرآن فيها مادة " أحاط " استعمالاً مجازياً، وقد بلغت خمسة وعشرين موضعاً باعتبار أن آية " النمل " فيها موضعان: " تحيطوا "، و " لم تحط ". وقد ترددت هذه الصور من حيث الصياغة بين الفعل الماضي والمضارع واسم الفاعل. وهذا أكثرها إذ بلغت صوره عشراً وكذلك الفعل الماضي. أما المضارع فأقل الأنواع إذ لم تزد صوره عن سبع. * * المعاني الواردة فيها: أما من حيث المعنى فإن هذه المادة قد استعملت - مجازاً - في الأغراض الآتية: 1 - العلم. وهو أكثر مواضع استعمالها مثل: (وَلا يُحيطونَ بشَىْءٍ مِنْ عِلمِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 ومثل: (وَقَدْ أحَطنَا بِمَا لدَيْهِ خُبْرًا) . ومثل: (وَأن اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُل شَىْءٍ علمًا) . 2 - القدرة مثل: (وَإذْ قُلنَا لكَ إن رَبَّكَ أَحَاطَ بِالناسِ) . ومثل: (وَاللهُ مِن وَراهِم مُحِيطٌ) . ومثل: (وَظنُواْ أنهُمْ أُحَيطَ بِهِمْ) . 3 - المنع: مثل: (إلا أن يُحَاطَ بكُمْ) . . أي إلا أن تمنعوا وتغلبوا. 4 - الحفظ: مثل: (ألاَ إنهُ بكُلِّ شَيء مُحِيطٌ) . . أي حافظ له من جميع جهاته. 5 - الحصر والشمول مثل: (وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) إذ هو من إحاطة العدو وهو صفة لليوم لا للعذاب، والمراد: محيط بهلاكه وعذابه. ومنه قوله تعالى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) . . أي أهلك كله. قال الزمخشري: " وأحيط به: عبارة عن إهلاكه وأصله من: أحاط به العدو. لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه. ثم استعمل في كل إهلاك. ومنه قوله تعالى: (إلا أنُ يَحَاطُِ بْكم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 قلت فيما سبق: " أن بعض هذه المواضع قد يحوى مجازين: لغوياً وعقلياً. وذلك مثل قوله تعالى: (وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) . . فقد أسند اسم الفاعل: " محيط " إلى ضمير اليوم. وفاعل الإحاطة فى الواقع هو الله تعالى، إذن ففى هذا الإسناد مجاز عقلي علاقته الزمانية. وسره البلاغي المبالغة في شدة هوله حتى كأن اليوم نفسه أصبحت له إرادة الهلاك والقصاص العادل منهم. ومنه قوله تعالى: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) . * " مواضع الحقيقة والمجاز فيها: ومن هذا كله نستنتج: 1 - إن القرآن لم يستعمل هذه المادة في معانيها الحقيقية اللغوية إلا فى سياق الحديث عن جهنم. فإذا ما خرج الحديث عن جهنم فإن الاستعمال المجازي لازم لها في جميع صورها. 2 - إن المجاز يغلب على هذه المادة إذ جاء في أربع وعشرين صورة تقدم الحديث عنها. أما الاستعمال الحقيقي فقد اقتصر على مواضع ثلاثة. هي التى تحدثت عن وجهنم وسرادقها. ولذلك يمكن القول بأن مادة " أحاط " في القرآن مادة مجاز. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 * الكافرون والبرق: (يَكَادُ البَرْقُ يَخْطفُ أبْصَارَهُمْ) . تقدم مثلهم بـ " الصيب " الذي فيه ظلمات ورعد وبرق. وكان من أثر الرعد مع الصواعق - المصاحبة له - أن جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوه. وهناك كان البرق بعد الرعد فجاء حديث القرآن هنا عن البرق. وبعد أن بيَّن هناك أثر الرعد. والبرق كان ساطعاً قوياً حال دون أبصارهم ودون الإبصار بها. لأنه طاقة هائلة من الضوء. والضوء إذا كان قوياً لم تستطع معه العين الرؤية. . يحدث هذا لو حلق أحد ببصره نحو قرص الشمس فإنه يكل بصره. ولما كان البرق غير دائم الظهور وإنما هو يلمع ثم يختفي فيعود لامعاً. كان المسند إليه: " يخطف ". مناسباً أيما مناسبة لظهوره السريع واختفائه الأسرع، لأن الخاطف دأبه دائماً أن يقفز فيخطف ثم يسرع مدبراً. ولا خطف هنا على الحقيقة، ولذلك كانت: " يكاد " مفتاح تصور الحَدَث كما هو في الواقع. نافية عنه كل مظنات الغلو البغيض. والتعبير - بعد - من المجاز: إذ هو استعارة تصريحية تبعية شبه فيها أثر البرق على أبصارهم من الضعف والكلال بـ " الخطف ". والجامع ما يترتب على كل من إزالة ما يترتب على الشيء موجوداً. والقرينة استحالة وقوع الخطف من البرق. وإسناد الخطف إلى البرق مجاز عقلي علاقته السببية لأن المزيل الحقيقي لأبصارهم هو " الله " والبرق سبب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وسره البلاغي في الموضعين: إبراز المعنوي في صورة المحسوس للإيضاح والتقرير. هذا في تشبيه الإزالة بالخطف. . لأن الخطف يفيد نزع الأبصار نفسها من أماكنها وتركها بلا آلة بصر. أما الإزالة فقد يقف معناها عند سلب الأثر وهو الإبصار دون آلته. وفي المجاز العقلي صار البرق عدواً لهذا الفريق. ذا إرادة وتدبير وتربص. . يتحين الفرص ثم يقفز في حركة سريعة وينزع أبصارهم من أماكنها ثم يولى. وأين لهم أن يطلبوه وهم لا يبصرونه ولا يعرفون طريقه. هو في السماء وهم على الأرض! * * منهج القرآن في مادة " خطف ": وقد ذكرت مادة " خطف " في القرآن على سبيل المجاز في الصور الآتية: 1 - (تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) . 2 - (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) . 3 - (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) . 4 - (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) . 5 - (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) . يقول الراغب في توجيه هذه الاستعمالات: الخطف والاختطات: الاختلاس بالسرعة يقال: خَطفَ - يَخْطِفْ - وخُطِفَ يُخْطفْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 يعني (وَيُتَخَطَّفُ الناسُ منْ حَوْلهمْ) : أي يُقتلون ويُسلبون. . وعلى هذا فإن المجاز ظاهر فيما عدا: " فتَخَطفه الطير " لأن الاستعمال الحقيقي هنا أقرب إلى التصوير لأن الطير يخطف الهاوي جزءاً جزءاً. وعلى هذا أيضاً يمكن أن نقول: أولاً: إن هذه المادة في القرآن الكريم يغلب عليها جانب المجاز إذ هو ظاهر فى كل أمثلتها - ما عدا موضعاً واحداً - فإن الحمل على المعنى الحقيقي فيه أقرب إلى التصور. ثانياً: إن هذه المادة لم تستعمل فيه إلا في مقام الامتنان. وذلك في موضعين: أحدهما: (تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) . وثانيهما: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) . أو مقام الخوف والهلاك وذلك في بقية مواضعها: (يَكَادُ البَرْقُ يَخْطفُ أبْصَارَهُمْ) . (إن نتبِع الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطفْ مِنْ أرْضِنَا) . (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) . (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) . وعلى هذا - أيضاً - يمكن القول بأن هذه المادة في القرآن مادة مجاز. وقد أسند القرآن إلى البرق في هذه الآية فعلين آخرين غير الخطف: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) . والإسناد في كليهما مجازي علاقته السببية. وفي الآية مقابلة بين ثلاث وثلاث: أضاء وأظلم، لهم وعليهم، مشوا وقاموا، لأن المراد ب " قاموا " وقفوا ولم يمشوا لشدة الظلام. * وقد على " أظلم " بـ " عليهم " لأن الإظلام مضر. والإضاءة بـ " لهم " لأنها مفيدة. فقرن كلا منهما بما يناسبه. * * * ذهب وخطف: (وَلوْ شَاءَ اللهُ لذَهَبَ بسَمْعهمْ وَأبْصَارهمْ إن اللهَ عَلى كلً شَىْء قَدِير) . (لذَهَبَ بسَمْعهِمْ) مجاز لغوي حقيقته: لأزال سمعهم وأبصارهم. وسره البلاغي فوقَ إبراز المعقول في صورة المحسوس. لتسجيل الشقاء عليهم واستمرارهم في تلك الخطوب الأليمة. لأن الذهاب هنا فيه معنى الإمساك بالشيء المذهوب به، وفيه معنى المصاحبة على حد قولهم: ذهب السلطان بماله - لأنه أبلغ من أذهب السلطان ماله، ومن: ذهب ماله - لما في الصورة الأولى من الإمساك والاستصحاب وهذا المجاز صنو المجاز السابق: (يَكَادُ البَرْقُ يَخْطفُ أبْصَارَهُمْ) . . ولكننا إذا قارنا بينهما ظهرت لنا دقة التعبير فى القرآن الكريم عجيبة عاجبة: فى جانب " البرق " كان اللفظ المستعار (الخطف) المفهوم من الفعل " يخطف "، وفي جانب " الله " كان المستعار " الذهاب " المفهوم من الفعل " لذهب " والسر في اختلاف لفظي المستعار عجيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 لأن مفهوم الخطف أن يكون هناك تربص وترقب للفرصة. فإذا ما سنحت كانت الحركة السريعة في الانقضاض للخطف. ولا بدَّ للخاطف من التولي السريع ناجياً بنفسه وبما خطف. والخاطف خائف وجل. أما الذهاب في: " لذهب " فلا يقتضي شيئاً من ذلك، فالآخذ الذاهب قد يكون أخذه على سبيل القوة والاستعلاء - كما هنا - فلا تربص ولا ترقب، ولا تَحين فرصة ولا انقضاض ولا فرار خشية اللحاق ولا طلب يُتوقع من المأخوذ منه لأن الآخذ قادر قوى. والمأخوذ منه عاجزٌ ضعيف، ولأنه لا حَول له ولا قوة يعصمانه من حَولِ وقوة الله. لهذه الاعتبارات - والله أعلم - كان اختلاف لفظي المجاز كل واقع موقعه لا نابٍ ولا مستكره ولا وقوع في مخالفة حس أو شرع. وهذه خاصة من خصائص التعبير القرآني. تنتظم الأسلوب كله من " الحمد " فى افتتاح فاتحة الكتاب. . . إلى " الناس " في اختتام خاتمته. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 الفصل الثالث 2 - المجاز القرآني دراسة تحليلية حول نص مختار من سورة الأعراف قال الله تعالى يحكى طرفاً من قصة موسى عليه السلام: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 * موضوع هذه الآيات: حكت هذه الآيات طرفاً من قصة موسى عليه السلام. وهو طرف مثير من تلك القصة وقد اشتملت هذه الآيات على صور شتى من المجاز والمعاني والبديعِ. إذ هي نص محكم متماسك يطالعك بمطلع مثير: (وَلمَا سَكَتَ عَن مُوسَى الغَضَبُ) فقد أسند السكوت إلى الغضب، وصار الغضب فاعلاً للسكوت. وهذا العمل يدعو إلى التأمل والتفكير. فليس الغضب ممن يتكلم حتى يُسند إليه السكوت. وليس السكوت من الأحداث التي تثبت للغضب أو تنفى عنه. الغضب عن ذلك بمعزل. * * مجاز على وجوه ثلاثة: إذن فإن في التعبير تجوزاً. وهو محتمل لثلاثة وجوه: أ - أن يكون استعارة تصريحية تبعية. بأن يشبه زوال الغضب. ب " السكوت " بجامع انعدام الأثر في كل. والقرينة - إذن - هى إسناد السكوت إلى الغضب. 2 - أن يكون استعارة بالكناية. ووجهه أن تشبه الغضب بإنسان ثائر يقذف الحمم من لسانه ويضرب ويبطش ويصول ويجول. ثم تحذف المشبه به. وترمز له بشيء من خواصه وهو - هنا - السكوت. وإلى هذا الرأي يميل الزمخشري فيقول: " كأن الغضب كان يغريه على ما فعل. ويقول له: قل لقومك كذا. وألق الألواح وجر برأس أخيك إليك. وتُرِك النطق بذلك. وقطع الإغراء. ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذى طبع سليم. وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 ويميل إليه العلامة أبو السعود فيقول: " وفي هذا النظم الكريم من المبالغة والبلاغة بتنزيل الغضب الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول منزل الآمر بذلك المغري، ثم استعير التركيب الدال على المشبَّه به للمشبه وفى التعبير عن سكونه بالسكوت ما لا يخفى ". ويذهب الإمام النسفي مذهبهما فيقول موجزاً: ولما كان الغضب لشدته كأنه هو الآمر لموسى بما فعل قيل: (وَلمَا سَكَتَ عَن مُوسَى الغَضَبُ) . 3 - أن تكون استعارة تمثيلية بأن تشبه الهيئة الناشئة عن الغضب بهيئة إغراء مغر. فإذا انقطع عنه الإغراء سكن المغري ثم استعير التركيب الدال على المشبَّه به وهو " سكت " للمشبه. هذه توجيهات ثلاثة لتحديد نوع المجاز في الآية. والواقع أن روعة التعبير فيها لا تتوقف على معرفة ما هو نوع مجازها. والذي أميل إليه ما اختاره المفسرون من حمل المجاز على الاستعارة المكنية لأن الغرض وصف الغضب بأنه كان حاداً قد بلغ مداه من نفس موسى عليه السلام، حتى أصبح هو الذي يقول ويفعل، وهذا لا يتأتي على أكمل وجه إلا في الاستعارة المكنية. وبهذا يبدو ذوق المفسرين وكونهم أقرب إلى طببعة الأسلوب القرآني وجزالته. وفي قوله تعالى: (وَفى نُسْخَتهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ) مجاز مرسل علاقته اعتبار ما سيكون لأن الوصاَيا التي فيها إذا تمسك به قوم موسى هدتهم إلى الحق. وجعلتهم أهلاً لأن يرحمهم الله. والقرينة اعتبار أن يكون الهدى والرحمة ملتبسين بالنسخة تلبساً حقيقياً وقائمين بها. أو العلاقة اللزومية. . لأن مَن يتمسك بتلك الوصايا لزم أن يكون مهتدياً مرحوماً. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 * بنو إسرائيل والرجفة: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) . " الرجفة " من الرجف، والرجيف: هو شدة الحركة والاضطراب. ويقال: بحر رجاف. والإرجاف: إيقاع الرجفة إما بالفعل وإما بالقول. والمقصود بها في الآية حركة الجبل الشديد، واضطرابه وعليه المختارون من قوم موسى. والمراد معنى الأخذ المجازي الذي هو: الهلاك والموت. يقال: أخذته الحمى - إذا أماتته. وفاعل الأخذ بالمعنى الحقيقي الذى شرحناه هو الله تعالى. وإسناده إلى الرجفة مجاز عقلي علاقته السببية. والقرينة استحالة وقوع الهلاك من الرجفة بغير إذن الله وإرادته وقدرته. وسره البلاغي هو المبالغة في تصوير الهلاك حتى صارت الرجفة عدواً لهؤلاء الناس فصرعتهم لا كفروا. وفي إطلاق الأخذ على الهلاك مجاز لغوي على طريق الاستعارة التصريحية التبعية والجامع ما يترتب على كل من اختفاء الميت والمأخوذ. والقرينة استحالة أن تأخذهم الرجفة أخذاً. كلما يأخذ صاحب المتاع متاعه. واجتماع المجازين في هذه العبارة شبيهه من كلامهم قول الشاعر: وَتُحْيى لهُ المالَ الصوارمُ والقَنَا. . . وَيَقْتُلُ مَا تُحْيِى التبَسُمُ والجَدَا حيث استعار الإحياء والقتل لجمع المال وتفريقه. وأسند كلا من " تحيى " و " يقتل " إلى غير ما هو له. وهو " الصوارم " في الأول. و " التبسم " فى الثاني. وسره البلاغي المبالغة في تصوير المعنى. والبيت كناية عن الشجاعة والكرم أو استعارة تمثيلية وهو الأظهر. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 * الحقيقة والمجاز في مادة " أخذ ": ومادة " أخذ " في القرآن استعملت في المعنيين - الحقيقي والمجازي - والمعنى المجازي لها فيه عدة صور: 1 - فأحياناً يأتي بمعنى الهلاك والدمار. ويغلب في هذا النوع أن يكون إسنادها إلى الله تعالى. أو إلى ظواهر طبيعية كالرجفة والصيحة والصاعقة والطوفان. والإسناد إلى الله حقيقي بداهة. أما الإسناد إلى الظواهر الطبيعية فعلي طريق المجاز العقلي. وعلاقته - دائماً - السببية. . ومن أمثلة هذا النوع: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) . (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) . (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) . (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) . (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) . 2 - وأحياناً يكون بمعنى الابتلاء والاختبار. والإسناد في هذا النوع لا يكون إلا لله ومن أمثلته: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) . (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) . ولعل معنى الابتلاء والاختبار واضح في هذه الآيات الثلاث. 3 - وأحياناً يكون بمعنى العقاب والمجازاة. ومن أمثلته: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) . (قَالَ مَعَاذَ اللهِ أن نَأخُذَ إلا مَن وَجَدنا مَتَاعَنَا عندَهُ) . (مَا كَانَ لِيَأخُذَ أخَاهُ فِى ديِنِ الملِكِ) . وإنما كان الأخذ هنا بمعنى العقاب - أعنى آيتى يوسف - لما ذكره الزمخشري من أن السارق في شريعة يعقوب يغرم مثل ما أخذ وإلا استُرِقَّ سنة. ولهذا كان حمل الأخذ على معنى العقاب أظهر وأولى. بل على معنى الاسترتاق. 4 - ومرة يكون بمعنى الهيمنة والسلطان. وذلك مثل قوله تعالى: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) . 5 - وأخرى تكون بمعنى الإمساك. ومنه قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 6 - وحيناً بمعنى التقبل. ومثاله: (هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) . 7 - وآخر بمعنى الغلبة ومثاله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) . . لأن الذي ينام يغلبه النوم فيمتثل له. والله سبحانه منزه عن هذا. 8 - وبمعنى الإعداد. ومثاله قوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ) . 9 - وتأتي كذلك بمعنى التوثق والعهد. ومن أمثلته: (وَإذْ أُخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ) . (وَإذْ أُخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النبيِينَ لمَا آتَيْتُكُم مًن كِتَابٍ وَحِكْمَة) . (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) . 10 - وتأتي بمعنى اللبس والتزين. ومن أمثلته: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) . (يَا بَنِى آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلً مَسْجِدٍ) . 11 - وتأتي معنى الاستحضار والاستصحاب، ومن أمثلته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) . (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) . 12 - وتأتي بمعنى العمل. ومن أمثلته قوله تعالى: (وَأمُر قَوْمَكَ يَأخُذُواْ بِأحْسَنِهَا) . (وَمَا آتَاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ) . 13 - وتأتى بمعنى التخلق والانتهاج. ومن أمثلته: (خُذِ العَفوَ) . (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) . 14 - وبمعنى الإزالة والإذهاب. مثل قوله تعالى: (قُلْ أرَأيْتُم إنْ أخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأبْصَاكم) . * * صيغ مادة " أخذ ": والحق أن هذه المادة وردت كثيراً في القرآن في صورة الثلاثى المجرد: " أخذ " أو " يأخذ " أو " خذ "، وفي صورة اسم الفاعل منها " آخذ " وهما الصورتان اللتان عرضت بعض أمثلتهما مما وردت فيه مجازاً. . وقد وردت كذلك في صورتين أخريين هما: إحداهما: أن تدخل عليها تاء الافتعال " اتخذ " أو " يتخذ " أو "متخذ " وهي هنا تفيد الجعل مع اختصاص المتخذ بالولاء. أو الاستئثار به. مثال الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 قوله تعالى: (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) . ومثال الثاني قوله تعالى حكاية عن زعم الكفار: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) . وقوله تعالى: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) . وقوله تعالى في التسامي بغريزة الجنس: (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) . وثانيتهما: أن يزاد ألف في أولها وتصبح حينئذ رباعية مختصة بالمجازاة والعقاب. مثل قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) . وقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) . * * نتائج مهمة:. إن الدارس لمادة " أخذ " في القرآن يخرج بالنتائج الآتية: أولاً: أنها تستعمل ثلاثية في المعنى الحقيقي والمجازي. والاستعمال المجازي فيها أكثر وروداً. وهي في هذه الحالة تقع مجازاً عن معان كثيرة قد أحصينا منها خمس عشرة حالة تردد بين المجاز المفرد هو الغالب عليها. وبين المجاز المركب. . مثل قوله تعالى: (لأخَدنا منْهُ باليَمين) لأنه تمثيل لقدرة الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 ومثل: (حَتى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وازينَتْ) . ثانياً: إذا لم تكن ثلاثية مجردة - بأن زيدت الألف في أولها، أو دخل عليها تاء الافتعال - فإن المعنى يصبح مع الأول محصوراً في المجازاة والعاقبة سواء أكانت اسماً أم فعلاً، والمعنى مع الثانية يصبح محصوراً في الجعل مع إضافة هذا الجعل إلى نفس المتخذ بأن يخص هو الشيء المتخذ بالولاء. أو الاستئثار به. ولا يخلو الاستعمال في الصورتين من المجاز. لأن أصل المادة موضوعة لتناول الشيء المأخوذ أخذاً حسياً. والمجاز في الأولى مرسل علاقته الإطلاق والتقييد. فيقال: آخذه - بمعنى لامه أو عاقبه، وسره البلاغي ما يُشعر به أصل الفعل من التناول والإمساك. والمجاز في الثانية تمثيلي مركب وسره البلاغي ما يشعر به أصل الفعل من تعظيم الشيء المأخوذ ومنزلته عند الآخذ. ثالثاً: وبعد هذا يمكن القول بأن هذه المادة - في القرآن الكريم - مادة مجاز وإن كان المجاز في بعض صورها لا يكاد يظهر لشيوع استعمال المعنى المجازي حتى صار كالحقيقة. * * الإسناد المجازي لمادة " رجف ": أما مادة " رجف " فقد أسند الله إليها أحداثاً غير ما تقدم. وذلك فى ثلاثة مواضع هي: 1 - (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 2 - (فَأخَذَتْهُمُ الرجفَةُ) . 3 - (فَأخَذَتْهُمُ الرجفَةُ) . وفي إسناد الأخذ إلى الرجفة تهويل لما أنزله بالكافرين. ومبالغة في تصوير المعنى لا يخفى أثرها. * * * الدعاء: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) . دعاء وتضرع من موسى عليه السلام. وتوبة وإنابة إلى الله ورغبة قوية فى توفيقه، والمراد بالكتابة: التقدير والإثبات. فمعنى " اكتب ": قَدِّر وأثبت واقسم لنا هذه الأشياء. فالتعبير عن التقدير والقسم بالكتابة مجاز لغوي على طريق الاستعارة التصريحية التبعية شبه فيها القسم - وهو معنوي - بالكتابة، وهي أمر حسي، والجامع التوثق في كل والعلاقة امتناع أن تكتب الحسنة. واستعمال " كتب " في الدعاء مجاز مرسل علاقته الإطلاق والتقييد. حيث أطلق الأمر وأراد به الدعاء. والقرينة امتناع أن يأمر الله آمر. * * مادة " كتب " في القرآن: وقد استخدم القرآن مادة " كتب " كثيراً ويغلب المجاز على استعمالها فيه إذا كانت فعلاً. وقد استخدمها مجازاً في أغراض شتى. نذكر منها ما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 1 - بمعنى الفرض. . ومنه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) . 2 - وبمعنى الحلال. . ومنه قوله تعالى: (فَالآنَ بَاشرُوهُن وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لكُمْ) . 3 - وبمعنى التثبيت. . ومنه قوله تعالى: (أُوْلئكَ كَتَبَ فِى قُلوبِهمُ الإيمَانَ) . 4 - وبمعنى التقدير. . ومنه قوله تعالى: (قُل لَن يُصيبَنَا إلا مَا كَتَبَ اللهُ لنَا) . 5 - وبمعنى الجعل. . ومنه قوله تعالى: (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) . 6 - وبمعنى التخصيص. . ومنه قوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) . 7 - وبمعنى التملى. . ومنه قوله تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) . 8 - وبمعنى الإحصاء. . كقوله تعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) . * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 * ملاحظات مهمة: ويلاحَظ - هنا - أن المجاز مقصور على استعمالها فعلاً. أما إذا استعملت صفة فإنها لا تخرج عن المعنى الوضعي. ومن ذلك قوله تعالى: (كِرَاماً كاتِبِينَ) . وقوله: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) . ويلاحَظ - كذلك - أن استعمالها فعلاً ليس دائماً بمعنى المجاز. بل قد تأتى فى المعاني الوضعية كالآية المتقدمة، وكقوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) . ويلاحظ - كذلك - أن المجاز فيها متردد بين الاستعارة والمجاز المرسل، وقد بينا وجه الاستعارة في صدر هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها. . أما المجاز المرسل فظاهر في قوله تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) . وقد قلنا: إن معنى المجاز هنا هو التملى - حسب زعمهم - والتملى صائر إلى الكتابة فعلاقته اعتبار ما سيكون، والقرينة امتناع إيقاع الكتابة دون مصدر يمد بما سموه: أساطير الأولين. * * التوبة والرجوع الحسي: و (هُدنا إليْكَ) : أي تبنا. من هاد يهود - إذا رجع. أو هاد يهيد. والمعنى حركنا إليك أنفسنا وأملناها نحوك، ويجوز على ما ذكره الزمخشري أن يكون الفعل مبنياً للمفعول. . أي: حركت إليك أنفسنا وأميلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وفى التعبير عن التوبة بالرجوع الذي هو عدول السائر عن وجهة كان يريدها إلى أخرى عرضت له مجاز يجوز حمله على وجهين: الأول: أن يكون تمثيلاً شبهت فيه هيئة التائب - وهي أمر معنوي - بهيئة الراجع، وهي أمر حسي. وسره التقرير والإيضاح. والجامع بين الأمرين رجوع التائب عن المعاصي والإقبال على الطاعات ورجوع السائر عن وجهته إلى أخرى. فالعدول هو الأمر الجامع بين الأمرين. والقرينة استحالة الرجوع المحسوس إلى الله. لأنه غير حال في مكان دون آخر يرجع إليه فيه. الثاني: أن يكون استعارة مفردة شبهت فيه التوبة بالرجوع - مطلق رجوع - والجامع والقرينة كما سبق، فهى استعارة تصريحية أصلية. * * * التعميم والتخصيص في الرحمة: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) . رحمة الله: نعمه وألطافه. والرحمة في الأصل: الشفقة والحنان. مشتقة من " الرحم " الذي هو موضع نمو الجنين لا يلقاه فيه من أسباب الراحة ووجوه الإنعام. ويراد بها في جانب الله لازمها. وهو ما يترتب عليها من الإكرام والتنعيم والإلطاف. ولما كانت الرحمة هيئة من هيئات النفس وشعوراً وجدانياً. . فإن وصفها بالوسع ضرب من المجاز ومعنى: " أن رحمة الله وسعت كل شيء " أن من شأنها أن تشمل جميع الموجودات لكثرتها وسعة فضلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وعلى هذا فالمجاز فيها محتمل لوجهين: الأول: أن تكون استعارة تمثيلية شبهت فيها هيئة الرحمة وما يمكن أن تظله فيها من المخلوقات بشيء محيط متسع ذى طاقة هائلة من الوسع. فالهيئة الأولى تخيلية والهيئة الثانية واقعية حسية. . وسره البلاغي إبراز المتخيل المعنوي في صورة الواقع الحسي. . والقرينة امتناع أن تتصف الرحمة بالوسع لأنها ليست ذات مساحة. . فتخيل إسناد الوسع إلى الرحمة هو قرينة المجاز. الثاني: أن تكون استعارة بالكناية. شبهت فيها الرحمة بشيء ذى وسع ثم حذف المشبه به ورُمِزَ له بخاصة من خواصه وهي " الوسع " ومعنى التمثيل فيها أظهر. والمعنى لا يتغير بتغيير التوجيه الاصطلاحي. فرحمة الله غير متناهية تكفي أهل السموات والأرض وما بينهما. وتزيد لتشمل كل شيء حتى الجمادات. وقد استعمل القرآن هذه المادة " وسع " تمثيلاً لبيان مقدار الرحمة أو العلم فى المواضع الآتية: أولاً - في جانب الرحمة: 1 - (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) . 2 - (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) . 3 - (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) . 4 - (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) . وقد قامت المغفرة في هذا المثال مقام الرحمة، لأن المغفرة جزء من الرحمة في معناها الشامل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 ثانياً - في جانب العلم: أ - (وَسِعَ كُرْسِثهُ السماوات والأرْضَ) (1) . 2 - (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) . 3 - (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا) . 4 - (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) . 5 - (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) . وهذا الموضع مشترك بين العلم والرحمة. ولذلك أثبتناه في جانب الرحمة باعتبار. . وفي جانب العلم باعتبار. ومن النظر الفاحص في هذه النصوص يتضح أن كلاً من رحمة الله وعلمه يتخذ القرآن الكريم منهجاً واحداً للكشف عنهما وبيان مقدارهما فهما محيطان كل في موضوعة إحاطة شاملة تكاد تدرك بالحواس لشدة ظهور آثارها الدالة عليها. * * " واسع ". . وصفاً لله سبحانه: وجاءت هذه المادة على صورة اسم الفاعل وصفاً للهِ على سبيل المجاز كذلك متلوة بلفظ الحكمة مرة وبلفظ العلم سبع مرات. وهذه مواضعها على الترتيب: 1 - (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) .   (1) على القول بأن المراد من " الكرسى " هنا العلم. وفي رأي: أن المراد به العظمة - والآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 2 - (واللهُ يُؤْتِى مُلكَهُ مَن يَشَاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) . 3 - (واللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) . 4 - (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) . 5 - (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) . 6 - (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) . 7 - (إن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْله واللهُ واسِعٌ عَلِيمَ) . 8 - (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) . * * مسوغات الوصف: تلك هي مواضع استعمال هذه المادة وصفا لله سبحانه على التمثيل المجازي وقد حرص القرآن الكريم على أن يقرن إلى وصف الله بهذه الصفة: " واسع " كلمات وأوصافاً أخرى تمهد لهذا الوصف المجازي وتشير إلى جهة مسوغ هذا الوصف. وهذا المسوغ نوعان: 1 - وصف يُذكر بعده - أي بعد الوصف المجازي - وكاد ينحصر هذا الوصف في " عليم " إلا في موضع واحد كان هذا الوصف " حكيماً ". ولا شك أن العلم يوصف بالسعة وكذلك الحكمة لأنها بمعناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 2 - كلمات تتقدم عليه وكادت تنحصر هذه الكلمات في الفضل. والفضل يوصف بالسعة فإن لم تكن " الفضل " فهى السعة والمغفرة والحكمة والمضاعفة. هذه المعاني متقدمة أو متأخرة مهَّدت لوصف الله بالوسع. فلم يكن هذا الوصف مستغرياً أو نابياً وإن كان يستخدم في وصف المساحات. وشتان ما بين المساحات وبين اسم " الجلالة " الموصوف في هذه الآيات. * * وصورتان أخريان: هذا وقد بقى من معانيها المجازية في القرآن الكريم - أو معان كالمجازية لأن أصلها المجاز وقد شاع استعمالها حتى أصبحت كالحقيقة اللغوية فيما استعملت فيه من هذا النوع - بقى صورتان. إحداهما بمعنى الطاقة، والثانية بمعنى الفضل والسعة في الرزق. واستعمالها في المعنى الأول: " الطاقة " جاء في خمس آيات هي: 1 - (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) . 2 - (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) . 3 - (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا) . 4 - (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) . 5 - (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وإنما كانت كانت هنا بمعنى الطاقة لأنها وقعت في حَيز التكليف. والتكليف منوط بما كان في قُدرة الإنسان وطاقته. وفي تشبيه الطاقة بالوسع تصوير أيضاً للمعنوي بالمحسوس والمجاز فيها يصح حمله على المركب والمفرد. أما استعمالها في الفضل وسعة الرزق فتلك هي مواضعه وهي خمسة أيضاً: 1 - (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) . 2 - (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) . 3 - (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) . 4 - (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) . 5 - (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) . تدل الكلمة في هذه المواضع الخمسة على الفضل والتوسعة في الرزق، ويؤيد هذا عطف السعة على الفضل في الآية وهو عطف تفسير. والفضل إنما يوصف بالقِلة والكثرة، أما وصفه بالضيق والوسع فعلي طريق المجاز لا غير. * * الوسع وصفاً للأرض: ولهذا لم تأت الكلمة في القرآن - أي كلمة وسع - في المعنى الحقيقي إلا وصفاً للأرض في قوله تعالى: 1 - (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 2 - (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) . 3 - (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) . فإجراء - الوسع - في الآيات الثلاث وصفاً للأرض جار مجرى الحقيقة اللغوية لأن الوسع أصيل في الأرض. * * موضع آخر بين الحقيقة والمجاز: وبقى مثال واحد لاستعمال هذه المادة في القرآن الكريم يتجاذبه جانبا حقيقة ومجاز. وهو قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) . قال في مختار الصحاح: " أي أغنياء قادرون، ويقال: أوسع الله عليك - أى أغناك ". وعلى هذا التفسير فإن جانب المجاز ظاهر في الآية. ويمكن حمل العبارة على معنى الوسع الحقيقي - أي موسعون في البناء - وهو الأفضل لما هو واقع مشاهَد. وهذا هو جانب الحقيقة في التعبير. * * حصيلة هذه الجولة: إذا تقرر هذا فإن النتائج التي يمكن تسجيلها حول استعمال القرآن لهذه المادة تتلخص فيما يأتي: أولاً: أن الاستعمال المجازي غالب عليها. أما الاستعمال في المعنى الحقيقي فحظه فيها قليل لم يأت إلا في ثلاث آيات كانت في سياق الحديث عن الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 وموضح رابع يتردد التعبير فيه بين الحقيقة والمجاز. ثانياً: يمكن أن يطلق على هذه المادة بأنها في القرآن مادة مجاز وأن المجاز ظاهر في بعض مواضعها. ويحتاج إلى روية في البعض الآخر. * * * مادة " تبع في القرآن ": (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) . . فى هذه الآية شروع في بيان صفات أخرى لمستحقي رحمة الله. وأول هذه الأوصاف إتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -. و" تبعه " في اللغة: سار خلفه أو مَرَّ به فمضى معه. وكذا " أتبعه ". والمعنى اللغوي ليس مقصوداً للآية بل المراد العمل بالشريعة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام والاقتداء به في قوله وفعله. وإنما عبَّر عنه بالاتباع لتصوير المعقول بالمحسوس لأن النفس حين تتأمل هذه الصورة ترى أن التابع ملازم للمتبوع متحر للسير معه في نفس الاتجاه الذى يبغيه. كما يدرك أن المتبوع رائد يسير أمام جنوده يسلك بهم أحسن الطرق إلى أشرف الغايات. وقد جاءت هذه المادة في القرآن الكريم - مادة تبع - فيما يزيد عن مائة وخمسين آية، وكثرة ورودها لا تحول دون أن نقف معها وقفة تكشف لنا عن منهج القرآن في استعمالها. وليكن ذلك مع بعض أمثلتها لا على سبيل الاستقصاء. والباحث يرى استعمالات القرآن لها تجرى على المنهج التالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 أولاً - في مقام المدح: 1 - (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) . 2 - (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) . 3 - (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) . 4 - (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) . 5 - (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) . 6 - (ثُمَّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتبِعْهَا) . ثانياً - في مواطن الذم: 1 - (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) . 2 - (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) . 3 - (وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلنَا قَلبَهُ عَن ذكرِنَا واتبَعَ هَواهُ) . 4 - (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ. 5 - (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 6 - (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) . 7 - (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) . * * وقفة مع هذه المادة: هذه النصوص المختارة في الموضعين. . استعملت فيها المادة " تبع " استعمالاً مجازياً. ويختلف تقدير المجاز باختلاف الاعتبارات. فمثلاً قوله تعالى: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ) يمكن حمله على الاستعارة التصريحية التبعية حيث شبَّه الامتثال والانقياد لما جاء به الوحي بالسير المعلوم. ويجوز حمله على الاستعارة بالكناية. بأن يُشبِّه الهدى برائد يتقدم الركْب على غاية شريفة. ثم حذف ورمز له بالاتباع. ويمكن حمله على المجاز التمثيلي بأن تشبه هيئة المؤمنين في اقتدائهم بالرسول عليه السلام من امتثال الأمر واجتناب النهي بهيئة ركب يسيرون وراء هاد لهم. ناصح أمين. وهذا التوجيه صالح لتطبيقه على الآية الثالثة والآية الرابعة والآية السادسة من الطائفة الثانية. . وموطن المجاز فيها: (وَاتبَعَ هَواهُ) عبارة مشتركة بين الثالثة والرابعة. (واتبَعُواْ الشهَواتِ) وهي عبارة الآية السادسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 فالهوى والشهوات صنوان، ومَنْ يتبعهما واقع في أسرهما. يصرفانه كيف يشاءان. لذلك فإن حمل المجاز في هذه المواضع على المفرد بنوعيه - التصريحية والمكنية - أو التمثيلي منه رأي سديد. * ملاحظات مهمة: وهنا ملاحظات هامة تبدو أمام النظر: أولاً: أن الاستعمال المجازي يغلب على هذه المادة حتى لا تكاد تجد من بينها ما استعملت فيه في معناها الوضعي إلا نادراً. وأن المجاز فيها يتردد بين المفرد والمركب. ثانياً: إذا كان متعلق المادة أمراً محموداً استعملت حينئذ في مقام المدح إخباراً عن المؤمنين. أو خطاباً لهم. أو في سياق الحديث عما ينبغي أن يكون. وفي هذا المقام لا تجيء إلا مثبتة. أما في سياق الحديث عن العصاة والكافرين. فإنها لا تجيء إلا منفية ما دام متعلقها أمراً محموداً. تحقيقاً لذمهم لما هم عليه من ضلال وكفر. ثالثاً: إذا كان متعلقها أمراً مذموماً. فإن كان سياق الحديث عن المؤمنين فإنها تجيء منفية. حفاظاً على صفة الكرامة والنزاهة لهم. وإن كان في سياق الحديث عن العصاة والكافرين. فبقاؤها على الإثبات أمر مطرد. تحقيقاً لصفة الذم والتحقير. رابعاً: وإذا كانت مخاطبة بين الكافرين فيما بينهم بعضهم لبعض. أو فيما بينهم وبين المؤمنين. فالحال مختلف تبعاً لاختلاف معايير الفضيلة عندهم. وهي تجرى على النحو الآتى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 1 - إذ خوطبوا ليتبعوا ما أنزل الله من البينات والهدى تمسكوا بما وجدوا عليه آباءهم من عقائد ضالة ونحل فاسدة قائلين: (بَلْ نَتبِعُ مَا ألفَيْنَا عَليْهِ آباءَنَا) . 2 - وإذا تدارسوا الموضع فيما بينهم بُغية الوصول إلى موقف يتخذونه قالوا: (أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) . أو قالوا: (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) . 3 - وإذا خاطبوا الرسل أو أشياعهم المؤمنين قالوا: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) . أو قالوا: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) . 4 - وإذا مثلوا أمام ربهم لم يستطيعوا تمويه وجه الحقيقة تمنوا لو تعاد لهم الكرة فيؤمنوا ويتبعوا الرسل قائلين: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) . فهنا - كما قلنا - معايير للفضيلة مختلفة. ولذلك إذا أرادوا إثباتها لأنفسهم جاءت الكلمة مثبتة. والغرض من إثباتها حينئذ إثبات الفضيلة - حسب زعمهم - إلى أنفسهم. أما حين يخاطبون المؤمنين فإثبات هذه الكلمة دليل الذم - في نظرهم - فهم مثلاً لا يتبعون الهدى لأنهم لو اتبعوه شردوا في الأرض. ومزقوا كل ممزق، فالعزة عندهم في البقاء على الضلال. والهوان في الدخول في الدين وإتباع تعاليمه. ألا ساء ما يحكمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وهم لا يتبعون الرسول، لأنه - عندهم - رجل مسحور. أو لأن الذين اتبعوه من الناس ما هم إلا أراذلهم وضعفاؤهم. ولا يفيقون من سكرتهم إلا ساعة العرض على الله. وحينئذ يتمنون العودة إلى الحياة ليتبعوا الرُسل. 5 - وإذا لم يكن متعلقها مما يُحمد أو يُذم. وليس جارياً في مخاطبات بين الكافرين بعضهم بعضاً. أو بينهم وبين المؤمنين. فهى - إذن - تفيد ترتب أحداث تاريخية وقعت أو ستقع. فمن الأول. . قوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا ( (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ. (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) . (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) . (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) . ومن الثاني. . قوله تعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) . ويلاحَظ هنا أن المعنى باق على مجازيته. إذ ليس المراد بالاتباع المعنى اللغوي الذي هو: سار خلفه. إلا في قوله تعالى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) فالاستعمال حقيقي فيه. ذلك هو قانون هذه المادة في القرآن الكريم. أو نهجها الذي تأتي عليه. . والمجاز غالب فيها. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 * الرسول في التوراة والإنجيل: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) . الضمير المنصوب في " يجدونه " - وهو " هاء " الغائب - راجع إلى الرسول المذكور قبل هذه العبارة ولمرجعه عليه اعتباران: أن يرجع عليه باعتبار الذات: أي يجدون ذاته. وهو المعنى المتبادر إلى الذهن من قوله تعالى: " يجدونه ". . وهذا غير مقصود. أن يرجع عليه باعتبار آخر غير الذات - الاسم أو الصفة مثلاً - وهو المعنى المراد. لأن " مكتوباً " يخصص عود الضمير على الاعتبار الثاني. ولأن الذات لا توجد بين ضفاف الكتب عن طريق الكتابة. وهذا يسلمنا إلى القول بالتجوز في التعبير. وأنها من المجاز المرسل لأن المعنى كما نص عليه الزمخشري: يجدون صفته. والصفة جزء الذات. . فالعلاقة الكلية لأنه أطلق الكل وأراد الجزء، والقرينة استحالة أن توجد الذات بين الكتب. وقد فسَّر القرآن نفس الصفات التي وجدوها مكتوبة فيما بين أيديهم من الكتب السماوية وهي كونه آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر. مبيحاً لكل الطيبات. مانعاً لكل الخبائث. واضعاً عنهم ما كانوا ينوؤون به من أثقال وأغلال. وهنا نسأل سؤالاً: لماذا عبَّر القرآن الكريم عن الصفات بما يصح حمله على وجود الذات؟ وما مغزى هذا التعبير وسمته البلاغية؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 والجواب: لعل السر في ذلك - والله أعلم - أن الأوصاف التي ذكرت فى الكتب السماوية السابقة قبل القرآن بالغة الدقة في التصوير. حتى إن القارئ عندما يتلو "نصاً فيه تلك الأوصاف يحس - وهو يتلو - بأن ذات الموصوف قد مثلت أمامه نموذجاً واضحاً. وإن كان سراً في ضمير الغيب. وهذا منحى له وزنه في بلاغة القول، وفنون التعبير. فنحن نعد الكاتب الذي يخط قصة. أو يصف واقعة وصفاً دقيقاً. ويرسم الأشخاص رسماً عادقاً. حتى يسلب القارئ حدود الزمان والمكان، فتجيء قصته عملاً فنياً محكماً ووصفه شاملا. نعد هذا الكاتب أو الواصف قد ملك من البيان قدراً كبيراً ومن البلاغة حظاً وفيراً. وفوق هذا وذاك بيان القرآن وبلاغة القرآن. * * * الطيبات والخبائث: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) . هذان وصفان للرسول ذكرا بعد وصفين آخرين هما: (يَأمُرُهُم بالمعْرُوف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكَرِ) . وأصل الحل حل العقدة، ومنه قوله تعالى: (واحْللْ عُقْدَةً مًن لسَانِي) . واستعماله هنا في الحل - الذي هو ضد المنع - ففى أصل هذا التعبير مجاز ولكنه كثر استعماله حتى عار كالحقائق اللغوية. فكأن المحلل كان معقوداً ففك عقده وحل. والطيب ما لذ حساً. فعبَّر به عن الحلال ترغيباً فيه. والتحريم: المنع. والمراد به هنا المنع الشرعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 والأصل في الخبيث: القبيح وما لا يوافق النفس حساً أو عقلاً. سمى الحرام خبيثاً من باب المجاز تشبيهاً له بالقبيح الذي تعافه النفس وتمجه الطباع. تنفيراً منه، وتزهيداً فيه. فقد وضع كل لفظ في موضعه اللائق به. واستعير للحلال ما يُرغب فيه، وللحرام ما يُنفر عنه. * * * " حل " في القرآن: واستعمال مادة " حل " في القرآن له ثلاثة أنواع: أولاً. أن يكون بمعنى الإزالة والفك، ومثاله قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام داعياً متضرعاً: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) . . أي أزل وفك. ثانياً: أن يكون بمعنى الإباحة والجواز. وهذا المعنى هو الغالب عليها وله أمثلة كثيرة، منها قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) . ومنها قوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) وقوله: (يَا أيُهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا يَعِل لكُمْ أن تَرِثُواْ الئسَاءَ كُرْهاً) . وقوله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 ثالثاً: أن يكون بمعنى الحلول. وهذا المعنى كثير فيها. ومنه قوله تعالى: (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) . وقوله تعالى: (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) . وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) . وقد احتمل قوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) وجهين: أحدهما: وأنت حلال مستباح لهم يؤذونك ويناوئونك. وثانيهما: وأت حال نازل بهذا البلد. * ملحظ عجيب: ومن الملاحظات العجيبة أن القرآن استعمل " حلال " من الحل وله فيه طريقتان: إحداهما: أن ترد في مقام الحث. وقد اطرد القرآن وصفها بكلمة " طيب " فى جميع صورها وهي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) . وقوله: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 وقوله: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) . وقوله: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) . ثانيتهما: أن ترد في مقام الإنكار والزجر. فتقطع عن ذلك الوصف. وذلك فى موضعين: الأول: قوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) . الثاني: (أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) . * * والسر: ولعل سر هذا الاختلاف أن الحلال في المواضع الأولى التي حثت الناس على الأكل مما رزقهم الله هو حلال أصيل في موضوعه فآثر القرآن وصفه بالطيب ترغيباً فيه وطلباً له. أما الحلال في المواضع الأخرى. فحلال مزعوم. والإنكار مسلط عليه أن يكون، فضلاً عن أن يوصف بالطيب. * * * " طاب " في القرآن: أما مادة " طاب " فإن استعمالها في القرآن الكريم يختلف باختلاف نوع اللفظ المستعمل فعلاً أو غير فعل. فإن كانت فعلاً - ولم ترد فيه كذلك إلا بلفظ الفعل الماضي في ثلاثة مواضع - فإن المعنى يختلف من موضع إلى آخر وتلك هي مواضعها فعلاً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 ا - (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) . ومعناها هنا: ما حل لكم. 2 - (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) . ومعناها هنا: طهرتم من خبث الخطايا. 3 - (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) . ومعناها هنا: سمحن أو وهبن. وعبَّر عن السماح بالطيب لأن المراعَى تَجافى أنفسِهن عما وهبنه وسمحن به فلا هن مكرهات عليه. أما إذا كان اللفظ المستعمل منها غير فعل. فهو على نوعين: أولاً: أن يكون مصدراً بمعنى الطيب. وله مثال واحد هو قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) . فـ " طوبى " مصدر كبُشرى، ومعنى طوبى لك: أصبتَ خيراً وطيباً. ثانياً: ألا تكون مصدراً ولا تكون حينئذ إلا صفة في المعنى أو المعنى والإعراب معاً. وهذا الاستعمال يستبد بكل أمثلتها. وتقع صفة بالمعنى المذكور لعدة أمور هي: 1 - أن تكون صفة للرزق وذلك كثير متعدد. . منه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وقوله تعالى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) . 2 - أن تكون صفة لـ " بلد ". . ومنه قوله تعالى: (وَالبَلدُ الطيًبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ) . وقوله تعالى: (وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) . 3 - أن تكون صفة لكلام. . ومنه قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) . 4 - أو تكون وصفاً لمساكن. . ومثاله قوله تعالى: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) . 5 - أو وصفاً للريح. . ومثاله قوله تعالى: (حَتى إذَا كُنتُمْ في الفُلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طيِّبَةٍ) . 6 - أو وصفاً لا يعلو الأرض من تراب. . ومثاله قوله تعالى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) . 7 - أو وصفاً للشجر. . ومثاله قوله تعالى: (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) . 8 - أو وصفاً للحياة. . ومثاله قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) . 9 - أو وصفاً للتحية. . ومثاله قوله تعالى: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 10 - أو وصفاً للناس - مذكورين أو غير مذكورين - بأن تقوم الصِفة مقامهم، وذلك كثير. ومنه قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) . وقوله تعالى: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) . هذا وقد بقى من استعماله - غير فعل - صورة واحدة تجرى مجرى الاسم مراداً بها الحلال ويقابلها في ذلك الخبيث بمعنى الحرام والباطل. ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) . وقوله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) * * منهج القرآن في " طاب ": أولاً: أن القرآن يُفرق بين استعمال هذه المادة فعلاً أو اسماً. وفي استعماله لها فعلاً فإن كل موضع فيه قد أريد به معنى خاص غير ما يراد بغيره منها. أما استعماله لها غير اسم. فهى إما مصدر بمعنى الطيب، وإما صفة فى المعنى أو المعنى والإعراب وتقع كذلك لموصوفات متعددة. ثانيا: أن المجاز غالب على استعمالاتها في القرآن ما دام المراد ب " الطيب " فى اللغة ما لذَّ حساً، ولا يمكن حملها على معانيها الحقيقية إلا إذا وردت صفة لا يوصف باللذة الحسية كالرزق لأن منه المأكول والمشروب. أما مادة " حرم " فإن معناها اللغوي: المنع، وعلى هذا الفهم تدور صور المادة في القرآن الكريم مراداً بها المنع الشرعي أو القهري، ومن معانيها أيضاً التعظيم والحرمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 ولما كانت هذه المعاني قريبة جداً من المعنى اللغوي للكلمة فلنكتف بهذه الإشارة إليها دون الخوض في ذكر الأمثلة. فذلك لا يؤدى إلى جديد. * * * المعاني المرادة من " خبث ": وأما مادة " خبث " فقد مرَّت أمثلتها مع - مادة " طاب " لأنها لم ترد منفردة. ولو رجعنا إلى تلك الأمثلة لبانَ أن القرآن يستعمل تلك المادة مجازاً فى الأغراض الآتية: 1 - أن يُطلقها على الحرام والباطل. 2 - أن تأتي وصفاً لبلد. 3 - أن تكون صفة لفريق من الناس. 4 - أن تكون وصفاً لكلمة. 5 - أن تكون وصفاً لشجرة. وإلى هنا ينتهى دور هذه المادة في القرآن الكريم. وتفترق عن مادة " طاب " بأن " طاب " إذا جرى وصف منها على الرزق فلا يمنع ما منع من إرادة المعنى الحقيقي. أما " خبث " إذا جاءت وصفاً للكسب أو الرزق فإنه مجاز دائماً لأن الحرام قد يلذ حساً. * * * الإصر والأغلال (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) . وهذه صفة من صفات الرسول. فهو بعد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإحلال الطيبات لهم وتحريم الخبائث. يضع عنهم الأمور الشاقة التي كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 تأصرهم وتثقل كواهلهم والأغلال التي كانت تكبلهم من الحركة وحرية التصرف. تلك صفة من صفات الرسول يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل. فهى إذن نعمة عظيمة لأن فيها تحرير الإنسان. وقد نص المفسِّرون على أن المراد بـ " الإصر والأغلال " هو التكاليف الشاقة. قال الإمام النسفي في تفسير " الإصر ": " المراد التكاليف الصعبة كقتل النفس في توبتهم وقطع الأعضاء الخاطئة ". وقال في تفسير " الأغلال ": " هي الأحكام الشاقة نحو بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم وظهور الذنوب على أبواب البيوت. شبهت بالغل للزومها لزوم الغل ". ويتابع النسفي كثير من المفسرين. وفي العبارة مجاز تمثيلي شُبِّهت فيه هيئة القوم وما هم فيه من تكاليف شاقة بهيئة قوم ينوؤون بأثقال وأحمال وقد قُيّشدوا في السلاسل والأغلال فجاء رجل وخلصهم مما هم فيه ففك أغلالهم. وأنزل أحمالهم. فذلك هو هو إنسان النور والخلاص. هذا من حيث النظر إلى التعبير جملة. فإذا انظرنا إليه نظرة تفصيلية فإننا نحصل على ثلاثة مواضع فيه للمجاز المفرد. وهي: " يضع " لأن الموضع فى أخص معانيه الحط. ولا يقال إلا لحامل شىء قد أنزله. و" الإصر " هو الحمل الثقيل حساً. واستعماله هنا في المعنويات مجاز، وكذلك " الأغلال " لأن الأغلال هي السلاسل والقيود الحسية. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 * " وضع " بين الحقيقة والمجاز: أما " وضع " فقد استعملت فيه حقيقة ومجازاً. ومن استعمالها حقيقة قوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) . وقوله تعالى: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) . والموضع في هذين الموضعين مراد به الإنجاب. ومنه قوله تعالى: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) . وقوله تعالى: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) . أما استعمالها مجازاً فيأتي مراداً به عدة معان: 1 - أن يكون بمعنى الجعل. ومنه قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) . وقوله: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) . ويفيد هذا الموضع - مع الجعل والإيجاد - معنى البسطة والتهيئة. 2 - أن تكون بمعنى الخلع والإلقاء. ومثاله قوله تعالى: (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِنَ الظهِيرَةِ) لأن الثياب - هنا - ملبوسة وليست محمولة حتى توضع. 3 - أن تكون بمعنى البناء والإشادة. . ومثاله قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 4 - أن تكون بمعنى الإزالة. . ومثاله قوله تعالى: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْركَ) يعني أزلنا همومك التي كانت تثقلك. 5 - أن تكون بمعنى الظهور والبروز. . ومثاله قوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) . 6 - أن تكون بمعنى التهيئة. . ومثاله قوله تعالى: (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) . وكلمة " يضع " في آياتنا استعارة تصريحية تبعية حيث شبه إزالة الإصر والأغلال وإعفاءهم من كثير من الأعمال الشاقة بالموضع، والجامع ما يترتب على كل من الراحة وإلغاء العناء. والقرينة حالية. * * استنتاجات: إن القرآن استعمل مادة " وضع " في الحقيقة والمجاز. واستعمالها المجازي فيه يفيد عدة أغراض متباينة فيما بينها وإن شملها هدف عام كان سبباً فى التجوز والمشابهة. أما الإصر فهو في اللغة عقد الشىء وحبسه وقهره. يقال: أصرته فهو مأصور. والأصر والمآصير: محبس السفينة. ومن معانيه. الحمل الثقيل. واستعماله هنا في الأمور الشاقة مجاز على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية، والجامع ما يترتب على كل من المشقات وقهر النفس بالعناء. وقد زاد من روعة المجاز الترشيح له بمجاز آخر هو " يضع " والترشيح مهيئ للنفس لتبعد بالمستعار عن معناه الحقيقي. لأن الحمل يوضع حقيقة فهو من ملائمات المعنى المجازي. المفيد للتقوية والتأكيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 والمتتبع لاستعمال القرآن لمادة " إصر " يصل إلى الحقائق الآتية: 1 - أن تكون بمعنى المشقة والعناء وذلك في موضعين: أحدهما: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ) . ثانيهما: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا) . والإصر فيهما استعارة أصلية تصريحية - كما سبق - وقد سبقه استعارة مرشحة في الموضعين فالترشيح في الأولى " يضع ". والترشيح في الثانية "تحمل ". . وكلاهما من ملائمات المشبه على القول بأن الإصر من معانيه: الحمل الثقيل. 2 - أن تكون بمعنى العهد الموثق. ومثاله قوله تعالى: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) . وتشبيه العهد بالإصر - على ما يرى الراغب - أنه يؤدى بناقضه إلى الحرمان من الخيرات ويثبطه عنها. والأولى أن يشبه العهد المؤكد بالإصر بمعنى الحمل الثقيل من حيث التزام المعاهد بالوفاء بالعهد. ويكون المعنى - هنا - عظم العهد نفسه وخطورة المسئولية فيه. والخلاصة: أن هذه المادة لم تُستعمل في القرآن إلا مجازاً ولم تأت فيه إلا اسماً منكراً في موضع ومعرفاً في موضعين. أما الأغلال فهى - كذلك - استعارة تصريحية أصلية. وتكاد تصور بجرسها وموسيقاها المعنى المراد منها. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 * معاني " غل ": 1 - " أن تأتي بمعنى القيد. . ومن ذلك قوله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) . ومنه قوله تعالى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) . وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) . ومنه كذلك: (وَجَعَلنَا الأغْلالَ فِى أعْنَاقِ الَّذِينَ كفَرُواْ) . 2 - أن تكون بمعنى الخيانة. . ومنه قوله تعالى: (وَمَن يَغْللْ يَأتِ بمَا غَل يَوْمَ القِيَامَةِ) . 3 - أن يأتي بمعنى الضغائن والأمراض النفسيه الحاقدة. . ومنه قوله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مَنْ غِل تَجْرِي من تَحْتِهمُ الأنْهَارُ) . ومنه أيضاً: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) 4 - أن تأتي بمعنى البخل. . ومنه قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلولةً إلى عُنُقِكَ) . ومنه قوله تعالى: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) . والخلاصة: أن القرآن استعمل مادة " غل " في الحقيقه والمجاز. فإذا كانت مستعملة في معناها الحقيقي دلت على معنى القيد والتكبيل. وأظهر ما يكون ذلك في شأن أهل النار بدليل قرن الأغلال فيها بالسلاسل والسحب في قوله تعالى: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 فالأغلال بالنسبة لأهل النار أغلال حقيقية. . أما المجاز ففيما عدا ذلك. فإن كان الكلام وارد في وصف عام كالكفر. . فالمجاز المركب التمثيلي هو أظهر ما يكون في توجيه العبارة. . فمثلاً قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) . يقول الزمخشري فيه: " مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ". فهذه استعارة تمثيلية شُبِّهت فيها صورة القوم في كفرهم بصورة مَنْ غُلَّ وقُيِّدَ وسبغ " الغل " جسمه حتى ذقنه فلم يستطع حركة. ويكون قوله تعالى: (فَهُم مُقْمَحُونَ) . . ترشيحاً للمجاز والقرينة حالية. * * ثلاث كنايات: وإن كان الكلام في وصف خاص كالبخل فالكناية أظهر في توجيه العبارة. . فمثلاً قوله تعالى حكاية عن اليهود دعنهم الله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) . . فقولهم: (يَدُ الله مًغلُولة) ، وَقوله في الرد عديهم: (غُلت أيْديِهمْ) وقوله أيضاً: (بَل يَدَاهُ مَبْسُوطتَان) الأظهر في هذه العبارات أن يَكون قولهم: (يَدُ الله مَغْلولةٌ) ، وقوله: (غُلتْ أيْديهِمْ) كنايتين عن البخل. وأن يكون قوله تعالَى: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطتَانِ) كناية عن الكرم الواسع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 والخلاصة: أن هذه العبارات يجوز اعتبارها مجازاً مركباً أو مفرداً بأن يكون المجاز فيها استعارة بالكناية فيما يصح فيه ذلك. ويجوز جعلها من باب الكناية حتى في عبارة اليهود: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) ، ولا يمنع من إيراد الكناية عليه أنه يجوز فيها حمَل الكلام على المعنى الحقيقي - وهذا قول فيه خلاف - لأنا نقول: إن الله قد صرَّح في القرآن بأن له يداً في غير هذا الموضع. وعلى ما بين السَّلف والخَلف من خلاف في هذا المجال فإن العبارة محكية عن اليهود وهم لا يراعون مثل ما نراعيه نحن المسلمين من هذه الاعتبارات الدقيقة في مجال الاعتقاد. هذا. . وقد بقى توجيه واحد للزمخشري في عبارة الرد التي ذكرها الله رداً على مقولة اليهود حيث قال: (غُلتْ أيْدِيهِمْ) . والزمخشري يُجَوز أن تكون العبارة من الاستعمال الحقيقي بأن تُحمَل على الوعيد أي أنه توعدهم بصيرورة حالهم إلى تلك الحال يوم يلقونه في الآخرة. والأولى بالاعتبار حملها على المجاز وإنَّا لنرى اليهود مضرب المثل في البخل بين العامة والخاصة فحق عليهم القول فبخلوا. * * * " النور " في القرآن: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) . وهذه صورة مجازية رائعة،. شُبِّه فيها القرآن بـ " النور " على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية والجامع: الهداية والإرشاد، والقرينة لفظية هى قوله: (أنزِلَ مَعَهُ) . وعبد القاهر الجرجاني يجعل هذه الاستعارة أبلغ أنواع الاستعارات ويسميها الضرب الصميم الخالص من الاستعارة. وضابطها عنده أن يكون الشبه مأخوذاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 من الصور العقلية. وذلك كاستعارة النور للبيان والحُجة الكاشفة عن الحق المزيلة للشك النافية للريب كما جاء في التنزيل من نحو قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) ، وكاستعارة الصراط للدين في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) . ثم يقول: " واعلم أن هذا الضرب هو المنزلة التي تبلغ عندها الاستعارة غاية شرفها ويتسع لها كيف شاءت المجال في تفننها وتصرفها ". وقد استعار القرآن كلمة " النور " في تصرفاتها المختلفة كثيراً. والمتتبع لوروده فيه يجده على النحو الآتى: 1 - أن يكون وصفاً لكتاب. ولهذا عدة صور ففى سياق الحديث عن القرآن وردت الصور الآتية: (أ) (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) (ب) (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) . (ب) (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) (د) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) . (هـ) (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) فى الآيات الخمس جاء " النور " في سياق الحديث عن القرآن الكريم، وفى القرآن مواضع أخرى يمكن حمل النور فيها عليه، وسوف نشير إلى ذلك فى مواضعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 2 - في سياق الحديث عن التوراة. وذلك مخصوص بموضعين: أولهما: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) . وثانيهما: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ) . 3 - في سياق الحديث عن الإنجيل، وذلك مخصوص بموضع واحد، هو قوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) . مما تقدم نستنتج: أولاً: أن القرآن قد وُصفَ بأنه نور في خمسة مواضع، على أن وصفه بالنور محتمل فيما يأتي من أَمثلة أخرى. ثانياً: أن التوراة وصفت بالنور في موضعين. ثالثاً: أن الإنجيل وصف به في موضع واحد. رابعاً: أن سورة المائدة وحدها ورد فيها وصف الكتب الثلاثة - القرآن والتوراة والإنجيل - بالنور. وقد قدم القرآن ثم جيء بعده بالتوراة وأخيراً الإنجيل. * * سؤال وجواب: والآن لا بدَّ من سؤال: هل لكثرة الحديث عن القرآن ووصفه بالنور فى مواضع تفوق مواضع التوراة والإنجيل مجموعة من سر؟ وهل تقديمه عليهما فى " المائدة " ثم تقديم التوراة على الإنجيل وزيادتها عليه بموضع. هل لكل ذلك سر بلاغي اقتضاه؟ والجواب: نعم. . لكل ذلك سر وهو - فيما أرى والله أعلم - أن كثرة وصف القرآن بالنور، ثم تقديمه على التوراة والإنجيل في سورة المائدة لا للقرآن من أثر بالغ في الهدايةِ من ثلاث جهات: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 أولاً: أن فيه لكل مشكلة حلاً، فقد شملت هدايته وتوجيهاته: العقائد، والعبادات، والمعاملات. وجاء بكثير من العلوم والمعارف: بَشَّر، وأنذر، وأجمل، وفصَّل، ورغَّب، ورهَّب، وشرَّع فأحكم، وقصَّ، وهذَّب. . وصدق الله إذ يقول: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) . وهذه ميزة من حيث الموضوع. . ثانياً: أن كل نبى كان يُبعث إلى قومه خاصة ومنهم موسى وعيسى عليهم السلام. وكتاب كل نبى كان وصايا وإرشادات لأولئك القوم. ومحمد عليه الصلاة والسلام بُعِثَ للناس عامة، فجاء القرآن عاماً لهؤلاء الناس. وليس لشعب جزيرة العرب خاصة. وهذه ميزة من حيث المكان. . ثالثاً: والرسالات السابقة كانت واجب العمل بها ما دام رسولها حياً، فإذا قُبِضَ أُفسح المجال لرسول آخر ورسالة أخرى. أما رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهى خالدة إلى يوم القيامة لا يلغيها رسول بعده ولا يبطل العمل بها بحال. وهذه ميزة من حيث الزمان. . وهذا يُفسِّر لنا تلكما الظاهرتين وهما كثرة وصفه بالنور ثم تقديمه عليهما فى " المائدة "، أما تقديم التوراة على الإنجيل وزيادتها عليه بموضع، فلأن التوراة أسبق وجوداً من الإنجيل، فالترتيب بينهما زمني محض. أما الزيادة المذكورة فلأن التوراة أصل للإنجيل وهو مكمل لها. فلذلك خصصت بزيادة موضع عليه حين وصفا بالنور. 4 - في سياق الحديث عن كتاب مفروض وجوده في معرض الجدل. . وذلك فى موضعين هما: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 أولاً: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) . ثانياً: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) 5 - في سياق الحديث عن الكتب التي أنزلها الله في الأمم السابقة. وذلك في موضعين أيضاً وهما: أولاً: (جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) . ثانياً: (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) . ونلاحظ الفرق بين الموضع الثالث والرابع. إذ الكتاب في الموضع الثالث " مُنكر " وفي الموضع الرابع " مُعرف " وسر التنكير هناك لأن الكتاب فى الثالث لا وجود له. بل مفروض وجوده في معرض الجدل. فهو موغل فى التنكير. أما في الموضع الرابع فالحديث عن كتاب سبق وجوده. والألف واللام فيه فى موضعيه لتعريف الجنس باعتبار القيد الذي هو الوصف. وقد جاء " منيراً " جزء وصف تمثيلي للنبى - صلى الله عليه وسلم - فى قوله تعالى: (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) ، وكون الرسول " سراجاً منيراً " تجرَيد متضمن للتَشبيه لأن الذات المجردة مخالفة للذات المجرد منها. وتجريد الشيء من غيره متضمن للتشبيه بخلاف تجريد الشيء من نفسه لئلا يلزم تشبيه الشيء بنفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 ولا شك أن التجريد المتضمن للتشبيه - كما هنا - أبلغ من التشبيه المجرد لإفادة هذا من وجهين: التشبيه الذي تضمنه التجريد، ثم تجريد المشبه به. وهذا وحده في قوة الاستعارة التصريحية الأصلية. * * * النور للهدى والإيمان: وإذ تركنا القرآن وهو يتحدث عن الكتب واصفاً لها بـ " النور " وما اشتق منه من أسماء الفاعلين فإننا نراه يستعير النور للهدى والإيمان في مواضع متعددة وفي هذا النوع فإنه كثيراً ما يستعير " الظلمات " للضلال والكفر فى مقابلات عجيبة بين الأضداد والمتخالفات. ويتضح هذا من الأمثلة الآتية: 1 - (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) . 2 - (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) . 3 - (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . 4 - (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) . 5 - (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) . 6 - (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . ًَ7 - (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 8 - (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . 9 - (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . 10 - (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) . 11 - (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) . 12 - (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) . فى هذه النصوص ضرب الله " النور " مثلاً للإيمان والهدى. و " الظلمات " مثلاً للضلال والكفر. * * ْ* منهج آخر للقرآن في استعمال النور: وللقرآن الكريم منهج آخر في التعبير بالنور، حيث صاغها في جمل وعبارات ترسم صوراً حسية معبراً بها عن معان ذهنية بغية الإيضاح والتقرير؟ من ذلك مشهدان من مشاهد التكريم خَصَّ الله بهما عباده الطائعين يوم العرض الأكبر. أحدهما قوله تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) فهذا فريق من الناس كافأه الله حُسناً. فمنحه نوراً يوم القيامة يسير على هداه ويبدو أن المراد بالنور - هنا - نور حقيقي لا مجازي. ومع ذلك فإن الآية لم تخل من المجاز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 فقد أسند السعى إلى النور وليس هو فاعله الحقيقي. وهذا مجاز حكمى - كما يسميه عبد القاهر - أو عقلي كما اشتهر عند المتأخرين. والتقدير: يسعون بنورهم. والعلاقة اللزومية لأن النور ملازم لهؤلاء. والقرينة: استحالة أن يسعى النور منفرداً. * السر البلاغي لهذا المنهج: والسر البلاغي أن كل شيء أصبح في خدمة هذا الطريق. حتى النور أصبح خادماً لهم، يمهد الطريق ويسير عن أيمانهم وبين أيديهم. فهاتان كنايتان رائعتان بديعتان. فهو يسعى بين أيديهم وبأيمانهم لأن هاتين الجهتين هما اللتان يتلقى المؤمنون سجلات أعمالهم عن طريقهما، كما أن الكفار يؤتون كتبهم عن شمائلهم ومن وراء ظهورهم. إذن فهما كنايتان عما قدموا من عمل صالح. فحققوا لأنفسهم رضا الله ورحمته، ويجوز حمل العبارة على التمثيل. بأن مثل الله حالهم وما يلقونه من تكريم ورضوان بقوم هذه حالهم من سعى النور أمامهم وعن أيمانهم. وصورة أخرى مماثلة. وهي قوله تعالى: (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) . وليس بين الصورتين إلا فرق، واحد ففى الآية الأولى قدم: " يسعى " على الفاعل المجازي: " نورهم " وأسند الفعل إلى صريح لفظ الفاعل. وفي الآية الثانية قدّم: " نورهم " وجعل مبتدأ وأخر الفعل: " يسعى " وأُسند إلى ضمير النور إسناداً مجازياً. . . وليس بعد ذلك بينهما من فرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 ولعل السر أن الله أراد أن يثبت صفة النور للمؤمنين والمؤمنات بكلتا الطريقتين المعروفتين في العربية - الجملة الاسمية والجملة الفعلية - ليفيد أن ذلك حاصل لا محالة. متجدد مستحدَث. وثابت متأصل، * * محاولات يائسة: وصورة أخرى مختلفة مع هاتين: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) . والنور هنا صالح حمله على القرآن والإسلام. . " مثلت حالهم بحال مَنْ ينفخ فى نورالشمس ليطفئه بفيه ". وهذا التمثيل له دلالتان: قوة نور الله وظهور أمره حتى مثل أمامهم نوراً حقيقياً كنور الشمس. . وهذا أحد الدلالتين. أما ثانيتهما: فضعف كيد الكافرين. لأن كل محاولاتهم لم تكد تعدو النفخ بأفواههم وما ذلك بمحقق لهم ما يريدون. وكلمة: " بأفواههم " تعبير جميل رشيق. لأن المعنى تم بدونه فجاء هو لإضافة ظلال رقيقة على المعنى العام اكتسى بها جمالاً ورواء. فقد أفادت - أولاً - أن كيدهم للقرآن لم يعد كلمات جوفاء اتهموه بها: أساطير الأولين - رئى من الجن - شِعر - لو نشاء لقلنا مثل هذا. هذه الكلمات لم يكن لها نصيب من الوجود سوى التلفظ بها لم تتمكن حتى من قلوب قائليها. وهذا يدل على ضعف كيدهم. وهى تفيد - ثانياً - أن النور كان ماثلاً أمامهم حتى قصدوه قصداً فى مكان وجهة، وهذا يدل على ظهور أمر الله وقوة انتصاره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 وهى تفيد - ثالثاً - أن هذا النور لم يكن لأى عامل آخر أن يطفئه. ريح شديدة - مثلا - أو عاصفة مدمرة. فهو قائم رغم هذه التقلبات التي لا يكاد يخلو منها وقت. فكيف يتسنى لهم أن يطفئوه بأفواههم.؟ إنه نور قوى باهر وسيظل - هكذا - نوراً باهراً قوياً. . ولو كره الكافرون. وبعد هذا يمكن أن نستنتج الحقائق الآتية: أولاً: أن القرآن الكريم يضرب " النور " مثلاً للمعاني الشريفة والصفات الحميدة. كما يضرب " الظلمات " مثلاً للمعاني الوضيعة والصفات الذميمة. ثانياً: أن القرآن لم يستعمل النور في تلك الأغراض إلا مفرداً اسماً أو صفة، أما " الظلمات " فلم يستعملها في أغراضها إلا مجموعة - لا مفردة ولا مثناة - فهل لهذا من سر؟ نقبتُ عن هذا السر في مظانه فلم أعثر على توجيه. لا في كتب التفسير ولا خارج كتب التفسير. ولذلك فإنى أسجل - هنا - ما خلصتُ إليه مما ظننتُ أنه يصلح أن يكون توجيهاً لهذا الصنع. * * لماذا أفرد القرآن " النور " وجمع " الظلمات ": إن النور سواء أكان المراد به كتاباً يهدى إلى الرُّشد، أو حُجة تكشف النقاب عن الشُبهات. أو رسولاً يدعو الناس إلى الحق. أو إيماناً يعمر به قلب المؤمن. أو عملاً يحقق لصاحبه رضوان الله. . . كل ذلك له مصدر واحد هو الله سبحانه وتعالى. والقرآن على ذلك خير شاهد: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) ، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 ولهذه الاعتبارات وَحَّد النور في القرآن تبعاً دوحدة مصدره. وهو " الله " نور السموات والأرض. أما الكفر والجهل والضلال فقد تعددت أسبابها ومصادرها. فالشيطان ضال مضل. والأصنام والأوثان مضلة. والأهواء مضلة، وأصدقاء السوء ضالون مضلون. . ولهذا تعددت الظلمات تبعاً لتعدد مصادرها. . والله أعلم. * * * خصائص المجاز القرآني: أولاً: أن المجاز في القرآن بأنواعه المختلفة. سواء أكان لغوياً أو حكمياً، واللغوي سواء أكان استعارياً أو مرسلاً، يؤدى وظيفة جليلة الخطر في البيان القرآني من التوسع في ضروب التعبير. واستخدام المادة الواحدة سواء اختلفت مشتقاتها أو اتحدت في البنية في معان شتى وأغراض مختلفة. لم يكن لها هذا الاتساع لولا فن المجاز. ثانياً: أن المجاز في القرآن يختار الكلمات الوافية بحق المعنى والمصورة تصويراً حسياً للمعاني كاستعارة " الطيبات " للحلال ترغيباً فيه وحثاً عليه، واستعارة " الخبائث " للمحرم تنفيراً عنه وتزهيداً فيه. ثالثاً: قد رأينا التفرقة العجيبة بين مشتقات المادة الواحدة. كمادة " مرض " فقد اختص القرآن صورها الفعلية بالمجاز إلا في موضع واحد جاءت فيه المادة فعلا مراداً به المعنى اللغوي. وهو قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفين) . . وما عدا ذلك فمجاز مستعمل في مقام الذم. فإذا استعملت اسماً أو صفة. . فلا تجوز فيها حينئذ، مثل: (وَلا عَلى المريضِ حَرَجٌ) ، ومثل: (أوْ كُنتُم مَرْضَى) وتستعمل هنا فى مقامَ التشريع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 رابعاً: يحقق المجاز القرآني - وتدخل في ذلك كناياته - سمه هامة من سماته البلاغية هي التصوير والتجسيم والتخييل. وقوة المعنى وتقريره وإيضاحه . . وهو لذلك يغلب فيه المجاز الاستعاري لتصوير المعقول بالمحسوس كما يكثر فيه المجاز المركب، وكل مجاز فيه بالغ حد الإعجاز بحيث لو بدلت صورة بأخرى لنبا المعنى ورفضه إحكام الأسلوب كما يرفض الجسم الصحيح عضواً غريباً رُكِّب فيه. * * سكوت الغضب ووضع الحرب: خذ إليك مثلاً موضعين متشابهين من مجاز القرآن. وليكونا قوله تعالى - مصوراً هدوء ثورة موسى على قومه -: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) . وقوله تعالى مصوِّراً إنهاء الحرب الطاحنة: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) . فسكوت الغضب أمكن - كما مَرَّ - حمله على المجاز المركب أو الاستعارة المكنية. . أو الاستعارة التصربحية التبعية. و" تضع الحرب أوزارها " استعارة مكنية كذلك أو تمثيل، والعبارتان تعبران عن الهدوء الذي يعقب الحركة الشديدة. فهما متشابهان وقد اختلفت الألفاظ من عبارة إلى أخرى - فالسكوت والغضب في الأولى، والوضع والأوزار في الثانية - كل منها موفٍ بمعناه واقع موقعه من البلاغة. فموسى إنما كان يتكلم ويتحرك فناسب ذلك السكوت بشرط أن يكون فاعله الغضب، والحرب يُحمل فيها السلاح الثقيل والخفيف، وهي نفسها شدة وخَطب، فناسب ذلك الموضع. لأنه يكون في المحمول والأوزار - كذلك - لأنها أحمال. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 * عض الأنامل وعض الأيدي: وكذلك إذا أجرينا ذلك بين كنايتين متشابهتين. . وليكونا قوله تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) . وقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) . كلتا العبارتين تدل على الألم والحسرة فهما - إذن - كنايتان عن صفة وقد تفاوتتا في تصوير المعنى. لأن عض الأنامل دون عض الأيدي، وذلك التفاوت راجع إلى تفاوت المقامين. فالمنافقون يتحسرون عندما يرون قوة المسلمين وظفرهم وتتابُع انتصارهم، وهم على ما هم عليه من النفاق لاحول لهم ولا قوة، وهذا خطأ يمكن إصلاحه بأن يؤمنوا ويتبعوا الهدى. أما الظالم فحسرته أشد وألمه أوقع، لأنه يكون في وقت لم تبق فيه فرصة لمستتيب ولا نفع لنادم. ولهذا يمكن فهم المبالغة في الكناية الثانية بالعض على الأيدي دون الأنامل فكل من العبارتين وقع موقعه من غير ما قصور أو فضول، وهذه سمة أيضاً من سمات الإعجاز البياني في القرآن. * * منهج فريد: خامساً: للمجاز في القرآن الكريم منهج لم يُعرف لسواه، فهو فضلاً عما تقدم - نراه في بعض الصور يعمد إلى وصف له صلة بأمرين، وهذا الوصف من حيث صلته بالأمرين قائم بأحدهما وواقع على الآخر. وقيامه بأحدهما يكون عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 طريق الحقيقة، ويكون عن طريق المجاز. . أما وقوعه على الآخر فعلي طريق الحقيقة. وهذا الوصف - هنا - هو العمى، فالكافر - وهو أحد الأمرين - يوصف به، على طريق المعنى اللغوي بأن يكون أعمى حقيقة، وليس هذا بمراد لنا هنا، ويوصف به على طريق المجاز بأن يشبه جهله بالعمى، وهذا هو المراد لنا، وكثيراً ما شبه القرآن الكافرين بالعمى، واستعار ذلك لهم. أما الأمر الثاني - الذي له صلة بهذا الوصف من حيث وقوعه عليه - فهو البينات التي جاء بها الرسل، فهى يُعمى عنها، ولا تعمى هي. إذا تقرر ذلك. . فإن في القرآن موضعين وصف فيهما الأمر الثاني بالعمى مجازاً، أحدهما قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) . وثانيهما: قوله تعالى: َ (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) . فقد أسند العمى إلى الأنباء في الأولى على أنها فاعل له، وأوقع عليها فى الثانية. . وكل هذا إنما هو من قبيل المجاز. فالأنباء لا تعمى وإنما العمى يحجب رؤيتها عمن قام به، والبينات أو الرحمة لا تعمى وإنما يعمى عنها ما من شأنه أن يراها، إذن فلماذا سلك القرآن هذا المسلك؟ إن حقيقة الموضعين أن يقال: خفيت عليكم الأنباء، وخفيت عليكم البينة أو الرحمة، فلماذا إذن شُبِّه خفاؤهما بالعمى؟ وإنما العمى صفتهم لا صفة الأنباء ولا البيِّنة ولا الرحمة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 أقول باختصار - وقد سبق الحديث عن هذين الموضعين -: إن في هذا التعبير تعريضاً بهم في الموضعين، وفيه كذلك مبالغة في وصفهم بالعمى. أما التعريض. . فلأنهم يدركون أن الأنباء لا تعمى، ويقياس سهل، يدركون أن الأعمى إنما هم لأنهم هم الذين لم يروها، والبينة أو الرحمة لا تعمى، وبنفس القياس السهل يدركون أن الذي أعماه جهله إنما هو هم، لأنهم لم يفقهوا البينة أو الرحمة وقد فقهها آخرون. وهذا هو جانب التعريض في التعبير. . أما المبالغة: فإن وصفهم بالعمى قد فاق حد التصور حتى عَم المكان الذى هم فيه، وحتى أصاب ما من شأنه ألا يعمى بالعمى، لزيادته على كل حد معهود وقدر معروف. * وضوح المناسبة: سادساً: ويمتاز المجاز القرآني بوضوح المناسبة بين المستعار منه وبين المستعار فى المجاز الإفرادى والمجاز التركيبى، وقوة الصلة بين الصور المكنى بها وما تدل عليه من معان كنائية. كما يمتاز بالإبداع والجزالة، وأنه قد منح الجمادات حياة، والمعاني حدوداً وأبعاداً ومساحات، وأمثلة ذلك كثيرة. * * الذوق في القرآن: سابعاً: أن المجاز القرآني يجمع بين الأضداد وما هو كالأضداد، ويؤلف بين المتباعدات والمتباينات، فلا تحس مع ذلك غرابة في الأسلوب ولا ضعفاً فى المعنى. ولنأخذ لذلك استعارة واحدة لنرى ما انتظمته من أجناس وأنواع، وهذه الاستعارة هي " ذاق " وما تصرف منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 لهذه الاستعارة شأن عظيم في القرآن الكريم، ولم تأت هذه الكلمة في القرآن إلا استعارة، فلنذكر أمثلتها مكتفين من كل نوع بمثال ما لم تدع إلى الزيادة ضرورة. وقد استعيرت هذه الكلمة في جانب الموضوعات الآتية: 1 - مع الشجرة: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) . 2 - مع الوبال: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أمْرِهَا وكَانَ عَاقِبَةُ أمْرِهَا خُسْراً) . 3 - مع البأس: (كَذَلِكَ كَذبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتى ذَاقُواْ بَأسَنَا) . 4 - مع السوء: (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) . 5 - مع العذاب: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) . 6 - مع الكنز: (فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) . 7 - مع العمل: (وَيَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنتُم تَعْمَلونَ) . 8 - مع الفتنة: (ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم به تَسْتَعْجلونَ) . 9 - مع الس: (ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ) 10 - مع اللباس: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) . 11 - مع الرحمة: (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 12 - مع الخزى: (فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَ) . 13 - مع الضعف: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) . 14 - مع النعماء: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) . 15 - مع الموت: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) . 16 - مع البرد: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) . وهذا هو الموضع السادس عشر وقد أوقع فيه الفعل منفياً على البرد، معطوفاً عليه الشراب. * الذوق لغة وبياناً: والذوق في اللغة وجود الطعوم بالفم، وأصله أن يكون بطرف اللسان فيما قَل من مأكول أو مشروب، فإذا كثر فهو أكل أو شرب وليس ذوقاً. فما السر البلاغي في القرآن الذي اقتضى إيقاع هذا الفعل على ما ليس بمذوق وقد علمنا أن هذا التعبير مجاز استعاري في جميع صوره حتى في: (ذَاقَا الشجَرَةَ) ، وفي هذا المثال مجازان استعاري ومرسل: أما الاستعاري فإنه عبَّر عن الأكل بالذوق، والمعروف أن آدم عليه السلام وحواء أكلا من الشجرة، أكلا ولم يتذوقا، وهذا هو المجاز الاستعاري. . أما المرسل فلأن الذوق هو ثمار تلك الشجرة وليست الشجرة نفسها. * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 * مقام المخالفات: ومن الملاحظات الهامة أن هذه الاستعارة لم ترد إلا في مقام المخالفات سواء أكان ذلك حال الحياة أو بعد الموت، فآدم وحواء خالفا ربهما بعصيان أمره، والكافرون المقول لهم: (ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ) مخالفون لشرائع ربهم. والذى أذاقه الله الرحمة مخالف لربه حيث لم يشكره في السراء ولم يصبر فى الضراء. والذي يقال لهم: (فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) مخالفون لربهم في كنزهم المال وعدم التصدق منه وإخراج زكاته. ففى هذه الاستعارة معنى التهكم وهذا واضح في ما خوطب به الكافرون أو أسند إليهم مثل: (ذُقْ إنكَ أنتَ العَزيزُ اْلكَرِيمُ) ، ومثل: (هَذَا فَليَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) . . ويظهرَ هذا التهكم في كل ما يُقال للعصاة يوم القيامة. أما فيما أُسند إلى آدم وحواء فلبيان أن بدو السوءات حصل بأقل ما يكون من الأكل بمجرد الذوق، وهذا يبيِّن أن نصح الله لهما كان من أجل مصلحتهما وأنهما حين خالفا أسرع إليهما أثر تلك المخالفة فالحكمة كانت في امتثال أمره. والصورة الأدبية التي أراد القرآن إيضاحها في: (فَأذَاقَهَا اللهُ لبَاسَ الجُوع وَالخَوْف) أن الجوع والخوف محيطان بهما إحاطة اللباس بلَابسه وتكون فائدة الإذاقة حينئذ أنهم وجدوا طعمهما المر وأحسوه كما يحس المتذوق طعم ما ذاقه من مأكول أو مشروب، وفي هذا معنى التهكم حيث جعل طعامهم ولباسهم جوعاً وخوفاً، وأوقع عليهما الإذاقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 كما يبدو التهكم مع التعجيب من شأن مَن يُعرِض بجانبه بمجرد أن يذيقه الله الرحمة فإذا سمل منها طغى وتكبر. فانظر إلى سحر المجاز في القرآن الكريم وروعة أثره ووظيفته الكبرى فى التربية والتهذيب، وهو - على كثرته وتنوعه فيه - خال من التكلف والمآخذ بل هو آية الآيات في الحُسن والجمال. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 الباب الخامس البديع. . في القرآن الكريم * المحسِّنات المعنوية. * المحسِّنات اللفظية. * قيمة البديع القرآني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 الفصل الأول المحسِّنات المعنوية الظاهر أن نظرة الكُتَّاب لم تتفق على آراء محددة في فنون البديع، ولذلك يجد الباحث خلطاً في كتاباتهم، وهذا الخلط له عدة مظاهر: أولاً: لم يحددوا تحديداً دقيقاً الفرق بين المعنوي واللفظي منه، فالخطيب يذكر " الاطراد " ضمن المحسِّنات المعنوية، وهو من اللفظية على الأصح. كما ذكر ذكر المشاكلة ضمن المعنوية والظاهر أنها من اللفظي. ثانياً: درجهم فنوناً تحت اسم " البديع " وهي ليست منه. مثل الالتفات والكناية والإيغال والتذييل والاعتراض. . إلخ. ثالثاً: اختلافهم في الفنون البديعية نفسها. . فقوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) . يعده بعضهم إيهاماً، وبعضهم تورية وآخرون يذكرونه تحت اسم " تجاهل العارف ". والمطابقة درج الأكثر على أنها: الجمع بين الأضداد أو ما في حكمها مثل: الليل والنهار. والصدق والكذب. وقدامة بن جعفر يخرق هذا الإجماع ويرى أن المطابقة هي، اشتراك المعنيين فى لفظة واحدة بعينها، ومثل لها بقول الأفوه الأودي: وَأقْطعُ الهَوْجَلَ مُسْتَأنِساً. . . بِهَوْجَل عَيْرانَةٍ عَنْتَرِيسْ فلفظ " الهوجل " في البيت اشترك في معنيين: المفازة البعيدة، والناقة التي بها هوج من سرعتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 أما المطابقة. . فهى عنده التكافؤ، وهذا التكافؤ يطلقه ابن أبى الإصبع على المطابقة إذا كان طرفاها مجازين وكانت الأوصاف لموصوف واحد. . وأمثلة هذا كثيرة جداً. رابعاً: إيرادهم فنوناً مختلفة تحت اسم واحد. فالتطريز - مثلاً - يُعرِّفه أبو هلال بقوله: " أن يقع في أبيات متوالية من القصيدة كلمات متساوية فى الوزن فيكون فيها كالطراز في الثوب. . ". ثم يقول: " وهذا النوع قليل في الشعر. وأحسن ما جاء فيه قول أحمد بن أبى طاهر: إذَا أبُو قَاسِم جَادَتْ لنَا يَدَهُ. . . لمْ يُحْمد الأجْوَدان البَحْرُ والمطرُ وَإنْ أضَاءَتْ لنَا أنْوَارُ غُرتِهِ. . . تَضَاءَلَ الأنْوَرانِ الشمْسُ وَالقَمَرُ وَإنْ مَضَى رَأيُهُ أوْ جَدَّ عَزْمَتُهُ. . . تَأخرَ الماضيَانِ ت السيْفُ وَالقَدَرُ مَنَْ لمْ يَكُنْ حَذراً مِنْ حَدِّ صَوْلتِهِ. . . لمْ يَدْرِ مَا المزعِجَانِ الخَوْفُ وَالحَذَرُ؟ ويعرفه ابن أبى الإصبع فيقول: " أن يذكر المتكلم - شاعراً أو نأثراً - جملاً من الذوات غير منفصلة ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب العدد الذي قدره في تلك الجُمَل الأولى ". ومثل له بقول ابن الرومى: أُمُوركُمو بَنِى خَاقَانِ عِنْدِى. . . عِجَاب فِى عِجَابٍ فِى عِجَابِ قُرُونٌ فِى رُءُوسٍ فِى وُجُوهٍ. . . صِلاَبٌ فِى صِلاَبٍ فِى صِلاَبِ فأيهما التطريز إذن؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 لعل الصواب في ذلك مع ابن أبى الإصبع. لأن ما ذكره أبو هلال قد عدَّه العلماء من فن التوشيح. وعرفوه بـ: " أن يأتي المتكلم، باسم مثنى في حشو العجز ثم يأتي تلوه باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى يكون الأخيرة منهما قافية بيته، أو سجعة كلامه. . ". والتوشيع معروف أنه أحد فروع الإطناب الذي هو من مباحث المعاني. وهذا يقوى وجهة نظر ابن أبى الإصبع. * * سبب الخلط: ولعل السر في هذا الخلط راجع للأسباب الآتية: 1 - كثرة الكاتبين في الفن البديعي. 2 - مرونة الفن البديعى نفسه. 3 - دقة علله وتداخل جهاته. ولنعرض - الآن - نماذج من صور البديع في القرآن الكريم ثم نعقب ذلك بفصل نتبين فيه منزلة البديع عامة، وبلاغة البديع في القرآن خاصة. على أننا في ذكرنا لتلك النماذج سنجعل الأساس في ضبطها ما ذكره ابن أبى الإصبع في كتابه " بديع القرآن " لأنه حرص على التمثيل لكل فن من فنونه بنصوص قرآنية. أما غيره فإن التمثيل بالقرآن ليس بلازم عندهم وهذا لا يمنع من ذكر آراء الآخرين إذا تطلب ذلك غرض هام. 1 - الطباق: لم يعرفه ابن أبى الإصبع بل اكتفى بتقسيمه فقال: " الطباق على ضربين: حقيقي ومجازي. . وكل من الضربين على قسمين: لفظي ومعنوي، فما كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 بألفاظ الحقيقة أبقوا عليه اسم الطباق. وما كان كله بألفاظ المجاز أو بعضه سموه تكافؤاً بشرط أن تكون الأضداد لموصوف واحد. فإن كان الضدان أو الأضداد لموصوفين والألفاظ حقيقية فهو الطباق إن كان الكلام جامعاً بين ضدين فذين، وإن كانت الأضداد أربعة فصاعداً كان ذلك مقابلة. . فالفرق بين الطباق والمقابلة من وجهين: أحدهما: أن الطباق لا يكون إلا بالجمع بين ضدين فذين فقط، والمقابلة لا تكون إلا بما زاد على الضدين من الأربعة إلى العشرة. " والوجه الثاني: المقابلة تكون بالأضداد وبغير الأضداد ". والعلماء - ما عدا قدامة بن جعفر - على أن الطباق هو الجمع بين الشيء وضده، وابن الأثير يُصوب رأى قدامة هذا، ويرى أن المعنى اللغوي للكلمة ينصره. ومثل ابن أبى الإصبع للتكافؤ بقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) . ومن شواهد التكافؤ قوله تعالى: (أوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأحْيَيْنَاهُ) . أى ضالاً فهديناه. . وعلى هذا فلا بدَّ أن يكون في الكلام المتضمن التكافؤ استعارة، فإن لم تكن فيه استعارة فلا تكافؤ. أما الطباق الحقيقي فهو على ثلاثة أقسام: طباق سلب. وطباق إيجاب. وطباق ترديد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 ومثل للأول بقوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) . وقوله عزَّ وجلَّ: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) . ومثل للثانى بقوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) . ثم علق على هذه الآيات فقال: " فانظر إلى فضل هذا الطباق، كيف جمع إلى الطباق البليغ التسجيع الفصيح لمجىء المناسبة التامة بين فواصل الآي ". قال: ومما جاءت المطابقة فيه على انفرادها من هذا القسم قوله تعالى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) . . أى ما تنقص وما تزيد. ومن هذا القسم قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) . فجمع سبحانه للمؤمنين في هذا الوصف بين الفعل والترك. . وهذا كله من طباق الإيجاب المعنوي. والقسم الثالث - طباق الترديد - قسَّمه أيضاً إلى قسمين: طباق سلب، وطباق إيجاب. وعرفه فقال: " أن يرد آخر الكلام الطابق على أوله، فإن لم يكن مطابقاً فهو رد الأعجاز على الصدر ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 ومثل للموجب بقوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) . وقد جمعت هذه الآية بين المقابلة وبين طباق السلب المعنوي. فالمقابلة بين الكراهية والحب، والخير والشر، والطباق بين ثبوت العلم لله، ونفيه عن البَشر. ولم يمثل لطباق الترديد السلبى، وقد صرح بأن للطباق نوعاً غير ما تقدم يجتمع فيه الطباق والتكافؤ. ومثل له بقوله تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) . فهمود الأرض واهتزازها ضدان، لأن الهمود سكون خاص، والاهتزاز ههنا حركة خاصة، وهما مجازان، والربو والإنبات ضدان، وهما حقيقتان، فالأول تكافؤ والثاني طباق. أما أبو هلال فقد ساق للطباق الآيات الآتية: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) . . وهو من طباق الترديد الموجب (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . . أي من الكفر إلى الإيمان وهو منَ التكافؤ - حسب ما ذكَره ابن أبى الإصبع. وقوله تعالى: (بَاطِنُهُ فِيهِ الرحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ) . . وهذه مقابلة بين الباطن والظاهر، والرحمة والعذاب. وقوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) . . وقد جمعت هذه الآية العكس والتبديل إلى الطباق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 وقوله تعالى: (لا يَخْلقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلقُونَ) . وقوله تعالى: (وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) . وهو من طباق السلب الحقيقي المعنوي. وقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) . ثم ذكر قوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) . فقال: " وقد تنازع الناس هذا المعنى. قال ابن مطير: " تَضْحَكُ الأرْضُ مِنْ بُكَاءِ السَّمَاءِ ". وقال آخر: " ضَحِكَ المزْن بِهَا ثُمَّ بَكَى ". وقال آخر: فَلهُ ابْتِسَامٌ فِى لوَامِع بَرْقِهِ. . . وَلهُ بُكاً مِنْ وَدْقِهِ المتَسِّربِ وقال آخر: لاَتَعْجَبِى يَا سَلمُ مِنْ رَجُلٍ. . . ضَحِكَ المشِيبُ بِرَأسِهِ فَبَكَى ثم علق عليها فقال: " فلم يقرب أحد لفظ القرآن في اختصاره وصفائه ورونقه وبهائه وطلاوته ومائه وكذلك جميع ما في القرآن من الطباق ". وهذه لمحة نقدية بارعة لم نعثر على مثلها عند ابن أبى الإصبع. وإن كان هو مولعاً بتحليل الأسلوب القرآني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 وقد زاد ابن الأثير والخطيب القزويني موضعاً فيه دقة، وهو قوله تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) . قال ابن الأثير: " فإن الرحمة ليست ضد الشدة، وإنما ضد الشدة اللين، إلا أنه لما كانت الرحمة من المسببات عن اللين حسنت المقابلة بينها وبين الشدة ". أما الخطيب. . فقد جعل هذا الموضع من الملحق بالطباق. وعلله بما علل به ابن الأثير، ثم قاس عليه موضعاً آخر هو قوله تعالى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) . فإن ابتغاء الفضل يستلزم الحركة المضادة للسكون، والعدول عن لفظ الحركة إلى لفظ " ابتغاء الفضل "، لأن الحركة ضربان: حركة لمصلحة وحركة لمفسدة، والمراد الأولى لا الثانية، واستبدال هذا اللفظ بذاك نوع بديعى يسمى الإرداف. * * * الطباق والتشبيه المسلوب: ذلك ما ذكره العلماء من تقعيد وتصنيف لهذا الفن البديعى " الطباق "، والواقع أنه كثير الورود في القرآن الكريم. وربما كان أكثر ألوان البديع وروداً فيه، وكل ما ذكرناه من أمثلة التشبيه السلبى في القرآن داخلة في أسلوب الطباق، وهو غير مقصور عليه بل تعداه إلى كثير من صور التعبير وذلك أن القرآن كثيراً ما يتحدث عن الإيمان والكفر في سياق واحد أو ما يشبه السياق الواحد، والطاعات والمعاصي، والظلمات والنور، والنفع والضر، والرفد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 والغى، والجنة والنار، والسماء والأرض، والحسناتِ والسيئاتِ، والحياة والموت. . . إلى غير هذه المعاني المتقابلة، ولذلك كان أسلوب الطباق أصيلاً فيه لم يجتلب تكلفاً أو ترفاً في الأسلوب. بل هو من مقتضيات الأحوال إذا ما أحسنا التفكير والفهم، يقول سبحانه: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) . ويقول: (الَّذِي خَلقَ الموْتَ والحَيَاةَ) . ويقول: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) . وقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) . وقال: َ (وَإذَا جَاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذَاعُواْ بِهِ) . وقال: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) . وقال: (ألمْ تَعْلمْ أن اللهَ لهُ مُلكُ السماوات والأرْض يُعَذًبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلى كُلً شَيءٍ قَدِيرٌ) . * وقال: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) . ًوقال: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 وقال: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) . وقال: (لهُ مُعَقِّبَاتٌ من بَيْنِ يَديْهِ وَمِنْ خَلفِهِ) . وقال: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) . * * نتائج مهمة: من تلك اْلنصوص التي ذكرناها - وهي قليل من كثير - نتبين الأمور الآتية: أولاً. أن القرآن يستخدم أسلوب الطباق كثيراً، وهي كثرة قد تفوق كل ألوان ما سموه " البديع " وذلك في المجالات الآتية: (أ) العظة والاعتبار عند ما يقص أنباء الأمم الماضية مثلاً. . كقوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَليْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) . (ب) بيان قُدرة الله، وذلك كقوله تعالى: (فَجَعَلنَا عَالِيَهَا سَافِلهَا) . (ب) للتمييز بين نوعين مختلفين، كقوله تعالى: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) . (د) في تمثيل الحقائق تمثيلاً يتضمن المدح في جهة، والذم في أخرى. . وذلك كقوله تعالى: (يُخْرِجُهُم مًنَ الظُلُمَاتِ إلى النُّورِ) . (هـ) فى الكشف عن سلوك قوم ضلُوا عن الحق. . كقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) . . وغير ذلك كثير، قد تتعدد أغراضه بتعدد أمثلته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 ثانياً: أن القرآن يستخدم هذا الأسلوب في معان أساسية داخلة - لا محال - ضمن مقتضيات الأحوال. وهو بهذا يسمو بالطباق - كما يسمو بغيره من ألوان البديع - فوق ما يعتبره البلاغيون من الحسن الإضافى إلى الدلالة الذاتية. خاصة عندما يُجرى القرآن مقارنة بين حقيقتين مختلفتين فيكون التقابل بينهما - حينئذ - واجباً في حكم البلاغة. . وإلا فكيف يمكن إجراء تلك المقارنة فى غياب طرفيها؟ ثالثاً: أن الطباق في القرآن الكريم - ومثله كل فنون البديع - يؤدى دوراً هاماً في مظاهر إعجازه، وهو سمة عظيمة من سمات أسلوبه قد سلم - مع كثرته - من التكلف بل هو آية الحسن ومصدر العجب، بينما نرى كل مسرف فيه يسير ثم يكبوا ويصيب ثم يخطئ. . وإن شئت فوازن بين قوله تعالي، وقد طابق فيه بين أرِبعة وأربعة: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) . وبين قول الشاعر وقد طابق فيه بين خمسة وخمسة: أزُورُهْم وَسَوادُ الليْلِ يَشْفَعُ لِى. . . وَأنْثَنِي وَبَيَاضُ الصُبْحِ يُغْرِي بِي وازن بينهما لترى الفَرق من حيث نزاهة الألفاظ وجزالتها في القرآن ثم دقة التعبير وشرف المعنى، وهل أنت واجد في قولة هذا الشاعر نظيراً لتلك؟ ولم يسلم بيت أبى الطيب المذكور من المآخذات، قال ابن سنان ينقده: " فهذا البيت مع ما به من التكلف كل لفظة من ألفاظه مقابلة بلفظة هي لها عن طريق المعنى بمنزلة الضد: فأزورهم وأنثنى، وسواد وبياض، والليل والصبح، ويشفع ويغري، ولي وبي. وأصحاب صناعة الشعر لا يجعلون الليل والصبح ضدين، بل يجعلون ضد الليل النهار، لأنهم يراعون في المضادة استعمال الألفاظ، وأكثر ما يقال: الليل والنهار، ولا يقال: الليل والصبح ". * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 * شروط الطباق: ويضع ابن سنان شرطاً لاستعمال الطباق، لم يخالفه فيه أحد قال: " وهذا الباب يجرى مجرى المجانس، ولا يستحسن منه إلا ما قَل ووقع غير مقصود ولا متكلف. . فأما إذا كان مَعْنيا الكلمتين غير متناسبيين لا على جهة التضاد ولا التقارب فإن ذلك يقبح ". فحُسن الطباق إذن يتوقف على ثلاثة أمور: 1 - عدم الإسراف فيه. 2 - تناسب المعاني بالتضاد. 3 - تناسب المعاني بالتقارب. وكذلك يرى عبد القاهر الجرجاني: " وأما التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع فلا شُبهة أن الحُسن والقبح لا يعترض الكلام بهما إلا من جهة المعاني خاصة، من غير أن يكون في ذلك للألفاظ نصيب، أو يكون لها في التحسين أو خلاف التحسين تصعيد أو تصويب ". وعملاً بهذه القواعد حكموا بحسن كثير من النصوص، كما عابوا كثيراً منها. * 2 - التورية: التورية نمط من التعبير فيه خلابة وله أسر، ومادة " ورى " تدور في اللغة حول الاختفاء والستر. يقال: واريت كذا - إذا سترته. قال تعالى: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) . وتوارى: استقر، قال: (حَتى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وروى أن النبي عليه السلام كان إذا أراد غزواً أورى بغيره، والورى - قال الخليل -: " الورى الأنام الذين على وجه الأرض في الوقت، ليس مَن مضى ولا مَن يتناسل بعدهم فكأنهم الذين يسترون الأرض بأشخاصهم ". والتورية في اصطلاح البلاغيين عرَّفها ابن أبى الإصبع فقال: " أن تكون الكلمة تحتمل معنيين، ويستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله " وقد صرَّح قبل بأنها تسمى التوجيه، وهذا التعريف فيه طول. وأجود منه ما ذكره الخطيب: " أن يطلق لفظ له معنيان. قريب وبعيد، ويراد به البعيد منهما ". وأجود منهما ما نراه في بحوث المحدَثين: " التورية: أن يذكر لفظ له معنيان: بعيد مراد، وقريب غير مراد ". والفرق بينها ويين التوجيه أن المعنيين في التوجيه في نحو قول الشاعر فى أعور: " ليْتَ عَيْنَيهِ سَواء ". إن تصور المعنيين في التوجيه يأتي بدرجة واحدة لا قُرب ولا بعد في أحدهما. أما التورية. . فأحد المعنيين قريب، والآخر بعيد. فليسا سواء في التصور، والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ظاهرة لأن المعنى القريب غير المراد، يستر البعيد ويخفيه. وقد قسَّم الخطيب - وتابعه آخرون - التورية إلى: مجردة ومرشحة. والمجردة هي التي لا تجامع شيئاً مما يلائم المورى به - يعني المعنى القريب - الذي يشبه المعنى الحقيقي لتبادره إلى الفهم. ومثله من القرآن الكريم: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 فـ " استوى " له معنيان، قريب هو الاستقرار، وهو غير مراد، ولم يقرن بما يلائمه. ومعناه البعيد المراد هو الاستيلاء، والقرينة استحالة الاستقرار الحسي فى جانب الله. والمرشحة هي التي قرنت بما يلائم المورى به ومثاله من القرآن الكريم: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) . فقد أراد ب " الأيدي " المعنى البعيد الذي هو القدرة، وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب الذي هو الجارحة المخصوصة، وهو " بنيناها " لأن البناء يكون باليد، والذي يبدو أن الآية من قبيل الاستعارة التمثيلية وإذ معناها يرجع إليها عند التحقيق. وعلى القول المشهور بأنها تورية فإن القرينة هي استحالة الجارحة في حق الله سبحانه. وللتورية - كما يرى السكاكي - دور كبير في توجيه متشابهات القرآن كقوله تعالى: (أنِ اصْنَع الفُلكَ بِأعْيُنِنَا) . وقوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) . وقوله تعالى: (وَلقَدْ خَلقْنَا الإنسَانَ وَنَعْلمُ مَا تُوَسْوسُ به نَفْسُهُ وَنَحْنُ أقْرَبُ إليْه مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ) وقوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 فما في هذه الآيات، وما أشبهها، من إثبات العين أو الوجه، أو القُرب والمكان، كلها محمولة على التورية، بأن يراد من الأعين: الرعاية والحفظ، ومن الوجه: الذات التي لا يعلمها إلا هو، والقُرب: قُرب العلم لا قُرب المكان والملاصقة. ومن العندية: العندية المعنوية لا عندية المكان. وقد ذكر ابن أبى الإصبع ثلاثة مواضع أخرى كانت التورية فيها في معانٍ ليست وصفاً لله، وهى قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام: (إنكَ لفِى ضلاَلكَ القدَيِمِ) لأن الضلال يُحمل على ضد الهدى ويحتمل الحب، فاستعملوه مريدين به ضد الهدى مورين به عن الحب ليعلم أن المراد ما أهملوا، لا استعملوا. وقوله تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) . . فالبدن يُطلق على الجسد، وعلى الدرع، وقد استَعمله بمعنى الجسم وأهمل معنى الدرع ومراده ما أهمل، لأن نجاة فرعون - أي خروجه من البحر بعد الغرق - بدرعه، أعجب من خروجه مجرداً، ثم قال: " ومن التورية اللطيفة قوله تعالى بعد ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) . ولما كان الخطاب لموسى عليه السلام من جانب الطور الغربي توجهت اليهود إليه وتوجهت النصارى إلى الشرق، وكانت قبلة الإسلام وسطاً بين القبلتين قال سبحانه وتعالى: (وكَذَلكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خياراً، وظاهر اللفظ يوهم التوسط مع ما يَعضده من توسط قبْلة المسلمين، صدق على لفظ " وسط " هنا أن يسمى تعالى به، لاحتماله المعنيين. ولما كان المراد - والله أعلم - أحد المعنيين الذي هو الخيار دون الآخر، صلحت أن تكون من أمثلة هذا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وأياً كان. . فإن التورية في القرآن الكريم لها وظيفة هامة. وهي قريبة من المجاز، بل كثيراً ما يُراد المعنى المجازي فيها كإرادة القُدرة من اليد، وهذا ظاهرٌ فيها. وقد سبق عن السكاكي أن متشابهات القرآن من قبيل التورية. فهى فيه إذن ذات دور هام لم تُجتلب لتأدية معنى إضافى، أو تحسين عرضى، فعدها من البديع فيه تسامح، وأجدر بها أن تلحق بأقسام البيان إنصافاً ووصفاً لكل فن فى موضعه، وإلى هذا ذهب العصام في " الأطول " حيث قال في تعريفها: " فالمختصر الواضح أن يقال: هوأن يطلق اللفظ على غير ما وضع له بقرينة خفية مما يتعلق بإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوع الدلالة ". ثم قال: " فهو داخل في أصل البلاغة فكيف عُدَّ من البديع "؟. * 3 - المشاكلة: عرفها الخطيب. وغيره، فقال: " ذكر الشىء بلفظ غيره لوقوعه فى صحبته، تحقيقاً أو تقديراً ". ومثَّل لها من القرآن بقوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) . . فأطلق النفس على ذات الله. وقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيئَةٍ سَيئَة مِثْلهَا) . فسمى الجزاء سيئة. أما وقوعه تقديراً فقد مثل له بقوله تعالى: (صبْغَة اللهِ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) . . أي تطهير الله. وفي الواقع فإن أسلوب المشاكلة كثير في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: (فَمَن اعْتَدَى عَليْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَليْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَليْكُمْ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 وقوله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الماكِرِينَ) . وقوله تعالى: (يَدُ اللهِ فَوْقَ أُيْدِيهِمْ) . وقوله تعالى: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) . وقوله تعالى: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) . وقوله تعالى: (إن تَسْخَرُواْ مِنا فَإنا نَسْخَرُ مِنكُمْ) . هذه بعض النصوص التي وردت على أسلوب المشاكلة من القرآن الكريم وهى ذات ملامح بلاغية آسرة. ولنأخذ لذلك أمثلة: فى قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيًئَةٍ سَيًئَةٌ مَثْلهَا) . على طريق المجاز المرسل الذي علاقته السببية، لأنه مسبب عن السيئة وهذا تعبير اقتضاه الحال لأن فاعل السوء قمين بأن يُساء إليه، فإطلاق السيئة على الجزاء أوقع لإقلاعه عن عمل السيئات وألم على نفسه، لأن النفس ترهب أن تُعامَل بالسوء. وكذلك قوله تعالى: (فَاعْتَدُواْ عَليْه) . وقوله تعالى: (فَإنا نَسْخَرُ منكُمْ) . . سمى الجزاء كذلك اعتداءً وسخرية ليكون أوقع في نفس المعتدي فيكَف عن الاعتداء، وفي نفس الساخر ليُقلع عما هو فيه. أما في نحو قوله تعالى: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ) . . أي جازاهم على مكرهم - فإن العدول إلى لفظ " المكر " في جانب الله لتربية الرهبة في نفوس الماكرين لأن الويل كله لمن مكر الله عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وقوله تعالى: (وكَذَلكَ اليَوْمَ تُنْسَى) . . فيه تهكم بالمخاطب وتوبيخ على ما قدم، لأن الواقع ألا نسيان ولا إهمال بل جزاءً وفاقاً، أي نعاملك اليوم بمثل ما كنتَ تعاملنا به في الحياة الدنيا. * * أصالة المشاكلة في القرآن: فأسلوب المشاكلة أسلوب أصيل في القرآن الكريم، وهو جدير بأن يُلحَق - كذلك - بأقسام البيان الأصيل، لأنه من مقتضيات الأحوال، كما نَصَّ على ذلك العصام فيما نقلناه عنه، فهى إما مجاز مرسل كقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيئَة سَيئَةٌ مَثْلهَا) وما جرى مجرى هذه الآية، وإما استعارة كقول أبى الرقعمق: قَالُواْ اقْتَرِحْ شَيْئاً نُجِدْ لكَ طبْخَهُ. . . قُلتُ اطبِخُوا لِى جُبَّةً وَقَمِيصاً قال الإنبابي: " وقد تلخص من كلام ابن يعقوب والحفيد أن المشاكلة واسطة بين الحقيقة والمجاز والكناية، وقيل: إنها دائماً مجاز مرسل علاقته المجاورة التي هي هنا الوقوع في الصحبة، وقيل: إنها تجامع المجاز المرسل والاستعارة إن لوحظ علاقتهما، وإلا فهى واسطة - قاله بعض المشايخ ". وقد خالف عبد الحكيم القول بأن المشاكلة من المجاز فقال معلقاً عليه: " القول بكونه مجازاً ينافى كونه من المحسِّنات البديعية، وأنه لا بدَّ في المجاز من اللزوم بين المعنيين في الجملة، فتعيَّن الوجه الأول ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 ومهما كان الخلاف فإن المشاكلة من أساليب البلاغة الأصيلة وليست محسناً ثانوياً كما يقال عنها، ولها فوق ما تؤديه من خدمة للمعاني وظيفة من حيث اللفظ لا يُستهان بها، هي: أن المشاكلة بالجُناس من حيث تماثل اللفظين، بل من الجُناس التام لاتفاق اللفظين في جنس الحروف وعددها وهيئتها وترتيبها. ولا فرق بينها إلا من حيث المعنى، وللجُناس وظيفة سنذكرها في موضعها، وما دامت المشاكلة شبيهة بالجُناس - بل التام منه - فإن ما يثبت له من مزايا يثبت لها كذلك. 4 - صحة الأقسام: عرفه ابن أبى الإصبع تحت هذا العنوان بقوله: " صحة الأقسام عبارة عن استيفاء المتكلم جميع أقسام العتى الذي هو آخذ فيه، بحيث لا يغادر شيئاً". وعرفه أبو هلال تحت عنوان: " صحة التقسيم " فقال: " التقسيم الصحيح أن تقسم الكلام قسمة مستوية تحتوي على جميع أنواعه ولا يخرج منها جنس من أجناسه ". وعرفه ابن سنان فقال: " أما الصحة في التقسيم فأن تكون الأقسام المذكورة، لم يخل بشىء منها، ولا تكررت ولا دخل بعضها تحت بعض ". وقد تحدث عنه آخرون كعبد القاهر في " الدلائل "، وابن الأثير وغيرهما وكلهم يرفعون من شأنه، ويظهرون الاهتمام به، وقد أفاض ابن أبى الإصبع فى التمثيل له من القرآن الكريم وبدأ بقوله تعالى: (هُوَ الذىِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفاً وَطمَعاً) . . إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق، والطمع في الأمطار. ولا ثالث لهذين القسمين. . ثم أخذ يبين سر تقديم الخوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 على الطمع. فقال: " ومن لطيف ما وقع في هذه الآية: تقديم الخوف على الطمع، إذ كانت الصواعق يجوز وقوعها من أول برقة. ولا يحصل المطر إلا بعد تواتره لا يكاد يختلف. لهذا كانت العرب تعد سبعين برقة، وتنتجع فلا تخطئ الغيث ". والذي أراه: أن تقديم الخوف على الطمع من تقديم الأهم على المهم. لأن متعلق الخوف الحرص على أصل الحياة، ومتعلق الطمع الحرص على الزيادة من متع الحياة. ومن صحة الأقسام قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قيَاماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبهمْ) . . فلم يترك سبحانه قَسماً من أقسام الهيَئات حتى أتى به، وقد جَاءَ ترتيب الهيئات على حسب الأفضلية، فقدم الذكر قياماً عليه قعوداً، وقدم الذِكر قعوداً عليه رقوداً، وفي هذا من حسن النسق وجودة الترتيب ما فيه. ويجوز حمل التقديم فيها على مراعاة الأكثر فالأكثر، لأن ذكر الله قياماً أكثر من ذكره قعوداً، وذكره قعوداً أكثر من ذكره رقوداً. ومن صحة الأقسام قولَه تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) . ًفهيئَات الدعاء هنا ثلاث كهيئات الذكر هناك، ولم يفت ابن أبى الإصبع أن يلحظ اختلاف النظم في الترتيب في الآيتين، فتراه يقول: " لكن وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها البلاغة. فتضمن الكلام بها الائتلاف. وذلك أن الذكر يجب فيه تقديم القيام لأن المراد به الصلاة - والله أعلم - والقعود لمن يسَتطيع القيام. والاضطجاع للعاجز عن القعود. والضر يجب فيه تقديم الاضطجاع لغلبة الضعف ومبادئ الإعلال وتزيدها وإذا أزال بعض العلة. . قعد المضطجع. وإذا زالت العلة كلها وتراجعت القوة قام القاعد. والمراد بالدعاء هنا الصلاة أيضاً ". * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 * تعقيب: وأقول: لقد وفق المؤلف إلى توجيه الترتيب في الآيتين توفيقاً ليس وراءه مزيد فيما نرى. ولكنى أرى ضرورة مناقشته في المراد بالذكر والدعاء فيهما. فقد حمل الذكر في الأولى على الصلاة، وهذا صواب، ولكن ما المانع أن يراد به مطلق ذكر. . فتدخل الصلاة فيه دخولاً أولياً؟ أما الدعاء. . فقد حمله على الصلاة أيضاً، والأولى - هنا - حمله على الدعاء الحقيقي، لأن مس الضر يلجأ منه الإنسان إلى ربه فيدعوه ليكشف عنه ضره فلو أبقاه على أصله لكان أصوب. كما أشار إلى العدول عن " الواو " إلى " أو " وبيَّن أن السر فيها الإشارة إلى تعداد الضرورين لتوخى الصدق في الخبر. كما عَدَّ من صحة التقسيم قوله تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) . ومن صحة التقسيم كذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) . فالآية الأولى استوعبت جميع الأوصاف المحمودة إذ وُصِفَ المؤمنون فيها بجميع العبادات. لأن العبادات كلها نوعان: بدنية ومالية، والبدنية قسمان: عبادة الباطن وعبادة الظاهر، والمالية أيضاً قسمان: ما يشترك فيه المال والبدن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 كالحج والجهاد، وما ينفرد به المال كالزكاة وصدقة التطوع. . فقوله: (يُؤْمنُونَ بالِغَيْبِ) إشارة إلى عبادة الباطن، وقوله سبحانه: (وَيُقيمُونَ الصلاةَ) تصريح بعبادة الظاهر. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمما رَزَقْنَاهُمْ يُنفَقُونَ) إشارة إلى العباده المالية. فاستوعبت جميع الأقسام على الترتيب فقدم عبادة الباطن على عبادة الظاهر، وعبادة البدن على عبادة المال. وأما الآية الثانية فاستوفت أقسام الزمان في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إليْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) . فإيمانهم بما أنزل على الرسول إيمان في الحال، وبما أُنزل على الرسل من قبله إيمان في الماضي، وإيمانهم بالآخرة إيمان بالمستقبل، وعبَّر عن إيمانهم بالآخرة باليقين ليدل على قوة تصديقهم بالرسول وما أخبر به. قال ابن أبى الإصبع: " فحصل في هذه الآية مع نهاية المدح صحة الأقسام فى اللفظ، والمبالغة في معنى المدح والإيغال في الفاصلة ". ثم تعرض لنقض بيت زهير، وهو أجمل ما جاءت فيه صحة التقسيم وأبلغه، وهو قوله: وَأعْلمُ مَا فِى اليَوْم وَالأمْسِ قَبْلهُ. . . وَلكِنى عَنْ عِلم مَا فِى غَد عَمِى داعياً للموازنة بينه وبين الآية الثانية من آيتى البقرة، منتصراً للآية عليه مبيِّناً ما فيه من زيادة لم يؤت بها إلا من أجل الوزن، وهي قوله: " قبله " ملاحظاً ما بين فاصلة الآية وقافية البيت من فروق جوهرية، لافتاً النظر إلى ما تضمنته الآية الكريمة من معان شريفة، لو عددت بألفاظها الموضوعة لها ملأت الأكوان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وذكر ابن الأثير لصحة التقسيم نصوصاً غير ما ذكره ابن أبى الإصبع، فمن ذلك قوله تعالى: (. . فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) قال معلقاً على هذه الآية: " وهذه قسمة صحيحة. فإنه لا يخلو العباد من هذه الثلاثة: فإما عاص ظالم لنفسه، وإما مطيع مبادر بالخيرات، وإما مقتصد بينهما. ومثَّل أيضاً بقوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) . وقال معلقاً عليها: " وهذه الآية منطبقة المعنى على الآية التي قبلها: فأصحاب المشأمة هم الظالون لأنفسهم، وأصحاب الميمنة هم المقتصدون، والسابقون هم السابقون بالخيرات ". * * رأي لابن الأثير: ويعالج ابن الأثير في هذا الموضع موضوعاً مهماً لم يتنبه إليه سواه قال: " فإن قيل: إن استيفاء الأقسام ليس شرطاً، وترك بعض الأقسام لا يقدح فى الكلام. وقد ورد في القرآن الكريم، كقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) . فَذكر أصحاب الجنة دون أصحاب النار، فالجواب على ذلك أنى أقول: هذا لا ينقض على ما ذكرته. فإن استيفاء الأقسام يلزم فيما استبهم الإجمال فيه، ألا ترى إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 قوله تعالى: (ثُمَّ أوْرَثْنَا الكتَابَ الَّذِينَ اصْطفَيْنَا مِنْ عبَادنَا) فإنه حيث قال: " فمنهم " لزم استَيفاء الأقسَام الثلاثة، ولو اقَتصَر على قسمين منها لم يجز، وأما هذه الآية التي هي: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) فإنه إنما خص أصحاب الجنة بالذكر للعلم بأن أصحاب النار لا فوز لهم، وَلو خص أصحاب النار بالذكر لعلمَ أيضاً ما لأصحاب الجنة وكذلك كل ما يجرى هذا المجرى فإنه إنما ينظر فيه إلى المستبهم وغير المستبهم فاعرفه ". * 5 - المذهب الكلامي: سبق أن أبا هلال حين تعرض لهذا الفن نفى أن يكون منه شىء في القرآن الكريم، متابعاً في ذلك ابن المعتز، بحجة أنه مظنة التكلف فالقرآن منزه عنه. ولم يسلم هذا الزعم من التعليقات، فابن أبى الإصبع يقول: " الذي ذكره ابن المعتز أن الجاحظ سماه هذه التسمية وزعم أنه لا يوجد منه شيء فى القرآن، والكتاب الكريم مشحون به، منه قوله تعالى - حكاية عن الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام -: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ) . . . إلى قوله تعالى: (وَتلكَ حُجتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلى قَوْمِه) . . ثم ذكر تعريفه فقال: " إنهَ احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجَة تقطع المعاند له فيه على طريقة أرباب الكلام ". وفي هامش الصناعتين: " هو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام، وهو أن تكون المقدمات بعد تسليمها مستلزمة المطلوب ". . ومؤدى التعريفين واحد كما ترى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 ومن أمثلته في القرآن الكريم: (قُلْ إنْ كَانَ للرخْمن وَلدٌ فَأنَا أو@لُ العَا بِدينَ) . قالَ الزمخشري: (قُلْ إنْ كَانَ للرحْمن وَلدٌ) وصَح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحُجة واضحة تدلونَ بها فأنا أول من يُعَظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له. . وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفى الولد والإطناب فيه، وأن لا يترك الناطق به شُبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات المقدَّم في باب التوحيد. وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالاً مثلها، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. وليس في هذا الكلام اعتراض لنا - بل هو في غاية الجودة - بَيْدَ أنى أضيف ملاحظتين: أولاهما: أن نفى الولد مستفاد من نفى عبادته، فالرسول إنما كان يعبد الله وحده. ثانيهما: أن في هذا التعبير رمياً لهم بالجهل، فإن الرسول عليه السلام يقول لهم: يا معشر الجاهلين: أنا أعلم منكم بالله وما يجب له، ولو فُرِضَ أن له ولداً وصح ذلك عندى لكنت أولاكم بالطاعة والامتثال له. ومن شواهد هذا الفن في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) . وقوله تعالى: (لوْ كانَ فِيهِمًا آلهَةٌ إلا اللهُ لفَسَدَتَا) . وقوله تعالى: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وقوله تعالى: (أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلقُ) . وغير ذلك كثير. والواقع أن ما سموه بالمذهب الكلامى دعامة أساسية فى الأسلوب القرآني، مثل الطباق، لأن القرآن خاصمَ وجادصل كثيراً في سبيل إحقاق الحق، ودحر الباطل. وكثيراً ما كان يُشرك العقل والإحساس والعواطف والوجدان في الخطاب، ولذلك فإن المذهب الكلامى فيه لم يأت على الطريقة النطقية الجافة. بل ساق لهم الحقيقة نابضة حية لا يحير في تمثيلها عقل ولا تجمد في الإحساس بها عاطفة، ولا يتبلد شعور. * * * * قياس المذهب الكلامى: وطريقة القياس فيه سهلة واضحة. ومقدماته صادقة معتَرف بها حتى عند ألد الخصوم. ونتائجه واضحة مسلمة إلا مَن كابر وعاند وناقض نفسه والواقع. انظر إلى هذا الوضوح: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) . وهذه حقيقة مسلمة ثم انظر كيف استخدم القرآن هذه الحقيقة في إثبات البعث: (أوَ ليْسَ الَّذِي خلقَ السماواتِ والأرْضَ بِقَادرٍ عَلى أن يَخْلقَ مِثْلهُم) . ثم تأمل كيف وصل القرآن إلى نفى تعدد الآلهة في كلمات قصار لفتت الأنظار إلى حقيقة كبرى لا يختلف فيها اثنان، ثم اتخذ من هذه الحقيقة الكبرى مبدأ للقياس: (لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَة إلا اللهُ لفَسَدَتَا) . لا فساد في السموات والأرض. هذا حق ثابت، إذن فهو دليل التوحيد فلا إله إلا الله. ذلك هو دور المذهب الكلامى في القرآن. . جدلٌ حيٌّ، ومنطق وجدان. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 الفصل الثاني المحسِّنات اللفظية * الجناس : لم يعرفه ابن أبى الإصبع بمعناه العام. بل اهتم بتقسيمه، ثم أخذ في تعريف كل فرع من فروعه عند التمثيل لها. وقد عرفه كثير من العلماء، نذكر منهم ابن المعتز وقد عرفه بقوله: " هو أن تجىء الكلمة تجانس أخرى في بيت شِعر وكلام ". وقدامه بن جعفر: وقد عرفه بقوله: " أن تكون في الشعر معان متغايرة قد اشتركت في لفظة واحدة وألفاظ متجانسة مشتقة ". وأبو هلال العسكرى، وقد عرفه بقوله: " أن يورد المتكلم كلمتين تجانس كل واحدة منهما صاحبتها في تأليف حروفها حسبما ألف الأصمعي في كتاب الأجناس ". وضياء الدين ابن الأثير، وقد عرفه بقوله: " إن حقيقته أن يكون اللفظ واحداً والمعنى مختلفاً ". وابن سنان الخفاجى. وقد عرفه بقوله: " وهو أن يكون بعض الألفاظ مشتقاً من بعض وإن كان معناهما واحداً. أو بمنزلة المشتق إن كان معناهما مختلقاً. أو تتوافق صيغتا اللفظتين مع اختلاف المعنى ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 والخطيب القزويني، وقد عرفه بقوله: " هو تشابههما في اللفظ ". وغير هؤلاء كثير كالرماني. ولم يخل تعريف منها من النقد، والأقرب إلى الصواب ما ذكره الخطيب مع اختصاره. والأستاذ على الجندى يفضل تعريف العلوي وهو: " اتفاق اللفظين في وجه من الوجوه مع اختلاف معانيهما ". ولست أدرى ما الذي يحملنا على تفضيل هذا التعريف بعد ذكر تعريف الخطيب وهو أقرب من تعريف العلوي إذ يقال: " ما المراد بوجه من الوجوه؟ وما أكثر الوجوه التي يشترك فيها اللفظان ولا يقال إنهما متجانسان كاشتراك لفظين في الاسمية أو الفعلية. . . وهكذا. وكل ما يؤخذ على الخطيب أنه أغفل اختلافهما في المعنى. ولهم مع ذلك تقسيمات كثيرة للجناس، لا أراها أنها تهمنا هنا بقدر ما يهمنا وروده فى القرآن. ووظيفته في جمال التعبير. * * * من صور الجُناس في القرآن: ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) . الساعة الأولى: القيامة، والثانية: المراد بها اللحظة من الزمن، وهذا يسمى عندهم الجُناس التام الماثل. وقد أثار ابن أبى الحديد جدلاً حول عد هذه الآية من الجناس وذلك فى تعقيبه على رأى ابن الأثير بجعلها من الجُناس، ولكن الهق أن في الآية جُناساً لاختلاف معنى اللفظين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 قال السيوطي: " قيل: ولم يقع منه - أي الجناس التام المتماثل - فى القرآن سواه - أي هذه الآية المذكورة - واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر موضعاً آخر هو قوله تعالى: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) . ومنه قوله تعالى: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) . فالجناس بين: يسقين ويشَفين. وهذَا مَن الجناس المصحف، وضابطه أن تختلف الحروف في النقط. ومنه قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) . والجناس بين مُنذِرين ومُنذَرين. وهذا من الجناس المحرف. وضابطه أن يقع الاختلاف في الحركات. وقد اجتمع المحرف والمصحف في قوله تعالى: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) . ومن الجناس قوله تعالى: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) . وقوله تعالى: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) . والجُناس بين الساق والساق. وكلي وكل. وهذا من الجُناس الناقص وضابطه أن يكون الاختلاف في عدد الحروف. ومنه المذيل، وضابطه أن تكون الزيادة بأكثر من حرف كقوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وقوله تعالى: (وَلكنَّا كُنا مُرْسلينَ) ، و (مَنْ آمَنَ بالله) ، و (إنَّ رَبَّهُم بِهِمْ) ومنه المضارع. وضابطه أن يختلفا بحرف مقارب في المخرج كقوله تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأوْنَ عَنْهُ) . فإن اختلفا بحرف غير مقارب فهو اللاحق. كقوله تعالى: (وَيْلٌ لَكُلً هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) . ومنه المرفق: وهو ما تركب من كلمة وبعض كلمة كقوله تعالى: (جُرُف هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ) . ومنه اللفظي: بأن يختلفا بحرف مناسب للآخر مناسبة لفظية كالضاد والظاء فى قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) . ومنه القلب: بأن يختلفا في ترتيب الحروف كقوله تعالى حكاية عن هارون عليه السلام: (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) . ومنه الاشتقاق: وهو أن يجتمعا في الأصل الاشتقاتي ويسمى المقتضب كقوله تعالى: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) . وقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) . وقوله تعالى: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا) . ومنه تجنيس الإطلاق: بأن يتفقا من حيث الظاهر مع اختلاف المادة المشتق منها. كقوله تعالى: (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 وقوله تعالى: (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ) . فاأنت ترى أنهم عثروا في القرآن الكريم على أمثلة لكل فروع الجُناس وما شاكله. وبقى من الجُناس نوع سموه " مستوفى " وهو ما اختلف لفظا الجناس فيه بين الاسمية والفعلية. ويقابله المماثل وهو ما اتحد طرفاه: اسمية أو فعلية. وقد قسَّم ابن أبى الإصبع الجناس إلى قسمين كبيرين. سمى أحدهما: جناس مزاوجة، والثاني: جناس مناسبة. . وفرع منهما عشرة فروع. ما بين اللفظي والمعنوي. أما جناس المزاوجة فقد مثل له بأمثلة المشاكلة: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (فَمَنِ اعْتَدَى عَليْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَليْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَليْكُمْ) . وسبب هذه التسمية أن الله تعالى - كما قال هو - سمى جزاء السيئة سيئة. وجزاء الاعتداء اعتداء ليكون في الكلام مزاوجة. واشتراط المثلية في الاعتداء توخياً للعدالة. أما ما سماه جناس المناسبة، فقد مثل للفظي منه بأمثلة جناس الاشتقاق وهى قوله تعالى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا) . وقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 * الجُناس يجامع فنوناً أخرى: رأينا أن ابن أبى الإصبع قد مثل لما سماه جُناس المزاوجة بأمثلة هي بعينها أمثلة المشاكلة. ومنه نستطيع القول بأن الجُناس في القرآن قد يجامع المشاكلة. كذلك فإن جُناس الاشتقاق قد جامع فيه الطباق في قوله تعالى: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) . وقوله تعالى: (واللهُ يَعْلمُ وَأنتُمْ لا تَعْلمُونَ) . وجامع الجُناس الترديد في قوله تعالى: (لا يَسْتَوِى أصْحَابُ النًّارِ وَأصْحَابُ الجَنًّةِ، أصْحَابُ الجَنًّةِ هُمُ الفَائِزُونَ) . والترديد هو إيراد الكلمة بعينها مرتين، وبعضهم يخصها بالشعر، ولكن العلوي وابن أبى الإصبع أجازا مجيء ذلك في النثر. ومن أمثلته عند ابن أبى الإصبع قوله تعالى: (حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) . وقوله تعالى: (حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) . وقوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) . ومن العجيب أن الآية الثانية جمعت بين ثلاثة فنون من فنون البديع فى موضع واحد باعتبارات مختلفة: 1 - الطباق حيث وقع العلم منفياً مرة ومثبتاً أخرى، فهو من طباق السلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 2 - الجُناس لتماثل اللفظين " يعلمون "، " يعلمون ": فهو من جناس الاشتقاق. 3 - الترديد حيث تكرراللفظان وكل منهما متعلق بمعنى مختلف. وقد - يجامع الجُناس التعطف. الذي هو إعادة اللفظة بعينها غير مشروط اجتماعهما ومثاله قوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) . فقد أعيدت الكلمة هنا أرلع مرات: " تربصون بنا "، " ونحن نتربص بكم "، " فتربصوا "، " إنَّا معكم متربصون ". ولا شك أن بين هذه المواضع الأربعة جناس اشتقاق. ويجامع الجناس التصدير. ومن أمثلة ذلك في الكتاب الحكيم قوله تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) . * * * وظيفة الجناس: للجناس وظيفتان، إحداهما من حيث المعنى، والأخرى من حيث اللفظ. . أما التي من حيث المعنى فيقول عنها الإمام عبد القاهر في الأسرار: " وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيساً مقبولاً، ولا سجعاً حسناً حتى يكون المعنى هو الذى طلبه واستدعاه وساق نحوه. وحتى لا تبغي به بدلاً، ولا تجد عنه حولاً. ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه، وأعلاه وأحقه بالحسن وأولاه، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه. . وذلك كما يُمثلون به أبداً من قول الشافعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 رحمه الله - وقد سئل عن النبيذ - فقال: " قد أجمع أهل الحرمين على تحريمه ". ويقول: " واعلم أن النكتة التي ذكرتها في التجنيس، وجعلتها العلة فى استيجابه الفضيلة، هي: حُسن الإفادة مع أن الصورة صورة الإعادة ". ومعنى هذا أن الكلمة المكررة في التجنيس مع أن الصورة توهم السامع فى أول أمرها أنها لم تأت بجديد. بل هي مكررة لمعنى سابقتها، فإذا حصل للسامع منها المعنى الجديد جاءه ذلك من غير مظانه ومن حيث لم يتوقعه. وفى ذلك متعة للنفس، وربح من غير انتظار. وقال العلوى: " هو عظيم الموقع في البلاغة، جليل القدر فى الفصاحة ". ويقول ابن السبكى: " وكفى التجنيس فخراً قوله عليه الصلاة والسلام: " غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله. وعصية عصت الله ". . ويرى بعضَهم أنه أشرف الأنواع اللفظية ". وأما وظيفته من حيث اللفظ فإنه يحمل السامع على الإصغاء، كما يقول صاحب كنز البلاغة (عماد الدين إسماعيل بن الأثير الحلبى من علماء القرن الثامن الهجري) : " لم أر مَن ذكر فائدة الجُناس وخطر لي أنها الميل إلى الإصغاء إليه. فإن مناسبة الألفاظ تُحدث ميلاً وإصغاءًإليه. ولأن اللفظ المشترك إذا حُمل على معنى ثم جاء والمراد به معنى آخر كان للنفس تشوق إليه ". وفي هذا النص بيان للوظيفة اللفظية. وإشارة إلى الوظيفة المعنوية. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 * مقومات الجمال في الجناس: وإذا أمعنا النظر في جمال الجُناس حين يقع جميلاً أمكن أن نرجعه إلى ثلاث أسباب: 1 - تناسب الألفاظ في الصورة كلها أو بعضها، ومما لا شك فيه أن التوافق في الصورة واقتران الأشباه والنظائر بعضها ببعض تميل إليه النفوس بالفطرة. وتأنس به وتغتبط ويطمئن إليه الذوق لأنه نظام وانسجام وائتلاف. ويخلع على النفوس راحة وبشاشة. وهدوءاً وقراراً. 2 - التجاوب الموسيقى المصادر من تماثل الكلمات تماثلاً تاماً أو ناقصاً فيطرب الأذن، ويهز أوتار القلوب. 3 - ذلك هو العمل الأخَّاذ الذي يسلكه " المجنس " لاختلاف الأذهان واستمالة الأفهام. وفي هذا يقول عبد القاهر: ". . وقد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها. . ويوهمك كأنه لم يزدك شيئاً، وقد أحسن الزيادة ووفاها ". ولهذا فإن الجُناس من مقتضيات الأحوال. وموجبات البلاغة وشرط ذلك أن لا يكون الجُناس متكلفاً. * * * منزلة جُناس القرآن: وقد جاء الجناس في القرآن الكريم على أحسن صورة وأجمل موقع لا تكلف فيه، ولا تصنع، ولا جور على المعنى لحساب اللفظ. . ولا اقتسار للفظ بدون دلالة حسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 سواء في ذلك التام منه أو الناقص. وسواء ما كان جُناساً خالصاً. أو اختلط بغيره من ألوان البديع، فليس فيه موضع نازل في معناه. أو مستكره في لفظه بل هو - كله - جار مع طبيعة الأسلوب القرآني في قوته وجزالته ويلاغته وفصاحته. وإن شئتَ فتأمل هذه المواضع مع ما سبق من نصوص ورد فيها الجُناس فى القرآن الكريم: (ثُمَّ انَصرفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلوبَهُم) . (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلبُ فِيهِ القُلوبُ والأبْصَارُ) . (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) . فإنك تجد فوق روعة المعنى وسحر الجرس. مناسبة بين ركني الجُناس جد رائعة، وهذه المناسبة لو لم يكن للجُناس وظيفة سواها لكانت كفيلة بأصالته وحسنه: " انصرفوا - صرف " - " تتقلب - القلوب " - " الربا - يربى " وهكذا في كل جناس أنت واجد خلابة وسحراً. وأسراً للسمع والفكر معاً. وهل أنت واجد في هذه إلا جمالاً وحسناً. والآن فانظر إلى سجع الناس المتكلف لترى الأصالة هنا - أي في القرآن - والزيف فيما عداه، إلا مَن عصم الله. * * * 2 - ائتلاف اللفظ مع المعنى: عرفه ابن أبى الإصبع فقال: أن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضاً ليس فيها لفظة نافرة عن أخواتها. غير لائقة بمكانها. كلها موصوف بحسن الجوار، بحيث إذا كان المعنى غريباً فجاً كانت ألفاظه غريبة محضة، وإذا كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 المعنى مولداً كانت الألفاظ مولدة. وإذا كان المعنى متوسطاً كانت الألفاظ كذلك، وإذا كان متداولاً كانت الألفاظ معروفة مستعملة. * * ائتلاف اللفظ مع المعنى سمة للقرآن كله: هذا ملخص ما ذكره المؤلف. ونحن إذا نظرنا إلى عنوان الباب كان القرآن كله مثالاً له. لأن الألفاظ في القرآن مؤتلفه مع معانيها لم يند منها موضع واحد. وعلى هذا فإن إيراد الأمثلة فيه شىء من التسامح. هذا بالنظر إلى عنوان الباب كما قلنا. أما بالنسبة للأحوال التي ذكرها كشرح وتعريف للباب. فإن التمثيل واجب لبيان الأقسام الواردة في التعريف. ولم يختص ابن أبى الإصبع بالكلام عن هذا الأصل بل تحدث عنه كثيرون من العلماء كابن سنان وابن الأثير والعلوي. وقد مثَّل ابن أبى الإصبع له بقوله تعالى: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) . وقد وجَّه النص بما ملخصه: فإنه سبحانه لما أتى بأغرب ألفاظ القَسَم وهي التاء - إذ الواو والباء أعرف منها عند العامة وهما أكثر دوراناً على الألسنة - لما أتى بها أتى بأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار، لأن " كان " وبقية أخواتها أعرف عند الكافة من " تفتأ " وأكثر منها استعمالاً. . وكذلك " حرضاً " فإنها أغرب الألفاظ الدالة على الهلاك، فاقتضى حسن النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة أو الاستعمال. توخياً لحسن الجوار ورغبة فى ائتلاف المعاني بالألفاظ. ولتتلاءم الألفاظ في الموضع وتتناسب في النظم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 ويتضح هذا إذا ما قورن بمثله. وهو قوله تعالى: (وَأقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيْمَانهمْ) . . فلما كان هذا الموضع كل ما فيه من ألفاظ معروفاً مسَتعملاً قال: " أقسموا "، و " بالله " فلم تأت لفظة غريبة تفتقر إلى ما يشاكلها فى الغرابة ويلائمها. ومن أمثلته أيضاً قوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) . لأن الركون إلى الظالم دون فعل الظالم نفسه. ولذلك وجب أن يكون العقاب عليه دون عقاب الظالم، ولهذا قال سبحانه: " فتمسكم النار "، فالركون إلى الظالم يناسبه مس النار للراكن. فلم يقل: "لا فقد دخلوا النار " - مثلاً - لأن المتبادر إلى الفهم أن مس النار أول ملاقاة الجسم لها. * * * المس والذوق: هذا وقد جاء " المس " في غير هذا الموضع مراداً به العذاب المؤلم ولا يكون إلا بالدخول في النار والمكث فيها، كقوله تعالى: (ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ) . فالمعوَّل - إذن - على القرائن كما يقول ابن أبى الإصبع نفسه: " وإذا احتملت اللفظة احتمالات صرف منها إلى ما تدل عليه القرائن ". وحتى في هذه الآية - (ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ) - قد يبلغ ائتلاف اللفظ مع المعنى ومع اللفظ منتهاه. فإذا كان المس أول ملاقاة الجسم للنار، فإن الإذاقة هى أول ملاقاة الطعوم للسان - إذن - فههنا مقابلة آسرة. . ولعل السر البلاغى فى هذا التعبير أن إذاقة مس سقر كاف في الإيلام فما بالك بدخولها؟ وبهذا تنتهى أمثلة ابن أبى الإصبع لهذا الباب من القرآن الكريم. والقرآن - بعد - مشحون بهذه الصور الآسرة. فلنورد بعضها فيما يأتي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 * ذل اليهود ومسكنتهم: (. . وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) . هذا إخبار من الله تعالى عن اليهود لما عصوا الله وكفروا به. وقتلوا الأنبياء ظلماً وعدواناً، وخلاصة هذا الإخبار أن اليهود أذلاء وضعفاء أينما كانوا وحيثما حلوا. جزاء لهم على جرائمهم النكرة، فلازمتهم الذلة والمهانة، وجاء التعبير وافياً بالغرض أيما وفاء. يقول الزمخشري: " جُعِلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم فهم فيها كما يكون في القبة مَنْ ضُرِبت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يُضرب الطين على الحائط فيلزمه ". ويُفهم من هذا معنيان: الإحاطة، واللزوم. وفي التعبير معنيان آخران ذلك أن الضرب في نفسه مشعر بذل المضروب فاختير هنا ليناسب لفظة " الذل " المجعولة عليهم. والضرب من شأنه إيلام المضروب وإيجاعه. وهذا يُشعر بالأثر السيئ الذى يجده اليهود من ملازمة الذلة والمسكنة لهم. وإحاطتهما بهم. وهذا الضرب مجاز طريقه الاستعارة التمثيلية أو المكنية. ويجوز حمله على الاستعارة التصريحية التبعية. وهذا من باب مناسبة اللفظ للمعنى. وفي قوله تعالى بعد هذا مباشرة: (. . . . وَبَاءُوا بِغَضَب مِنَ الله) مناسبة كذلك، فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم يناسبه: (وبَاءُوا بِغَضَب مِنَ اللهِ) . * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 * غرابة اللفظ لغرابة المعنى: ويدخل في هذا الباب من غرابة الألفاظ لغرابة المعاني قوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) . وقوله تعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) . وقوله تعالى: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) . فـ " القسورة " الصياد أو الأسد. وهما أكثر من لفظ: " قسورة " دوراناً على الألسن ووروداً في الاستعمال. وهذا مناسب لغرابة نفور العصاة عن الدعوة إلى الطاعة والهدى. و" رءوس الشياطين " لم يستعمله أحد لأنه لم يقف على حقيقته فجاء مثالاً لثمار أغرب شجرة تنبت في أصل الجحيم. وقسمة الإناث للهِ سبحانه والمذكور للكافرين قسمة غريبة فدل عليها بأغرب لفظة عرفتها لغة العرب. وهذا ميدان واسع في القرآن الكريم يظهر في حقيقته ومجازه، وما أردنا بما ذكرنا إلا التدليل والتمثيل. * * * 3 - المساواة: عرَّفها ابن أبى الإصبع بقوله: " أن يكون اللفظ مساوياً للمعاني لا يزيد عليه ولا ينقص عنه ". ثم يعلق عليها فيقول: " وهو من أعظم أبواب البلاغة، بل هو بعينه نفس البلاغة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 ومعروف أن المساواة من مباحث علم المعاني - وهذا هو شأن البديع - إنما هو فى معظم أبوابه مسائل منتزعة من علمي المعاني والبيان، وللعلماء مذهبان فى أسلوب القرآن. فالجمهور يرى أن القرآن فيه الإطناب والمساواة والإيجاز. . وعرفوا الأول بأن الألفاظ فيه تزيد على المعنى زيادة تؤدى فائدة. والمساواة قد سبق تعريفها. أما الإيجاز. . فأن تكون الألفاظ أقل من المعنى المفهوم منها، وقسَّموا الإيجاز إلى إيجاز حذف، وإيجاز قصر. وقد مثلوا للمساواة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) . قال ابن أبى الإصبع في بيان المقصود من هذه الآية: " إن الله سبحانه أراد أن يأمر بجميع المحاسن الممدوحات المنجيات، وينهى عن جميع القبائح الموبقات المذمومات. فأخرج المعنى في لفظ هو طبقه. وقالب هو قدره وصوره مساوية لمعناه لا تزيد ولا تنقص عن فحواه،. ومصداق ذلك أن أي لفظة لو حذفتها من ألفاظ الآية اختل شيء من المعنى بحذفها اختلالاً ظاهراً. . . وكذا إذا زيد في ألفاظها لفظة حصل من الاختلال بالزيادة ما حصل منها عند النقص. ولا معنى للمساواة غير هذا. * * * نقد وتحليل: ولكن الحق أن الآية ليست من قبيل المساواة، بل هي شاهد ناطق على الإيجاز وهذا نلمحه من ناحيتين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 من حيث الصناعة النحوية فإن فيها حذفاً في مواضع لا أظن أن المؤلف يخالفنا فيها، وتلك المواضع هي: حذف معمول " يأمر " - حذف معمول المصدر "إيتاء " - حذف معمول " ينهى " - حذف معمول " تذكرون ". هذه المحذوفات وإن كانت كثيرة في الأسلوب القرآني، فإنها تنقل الآية من شاهد المساواة إلى شاهد الإيجاز بالحذف. ومن ناحية دلالة الكلمات أنفسها. . فإن " العدل " تحته أفراد. وكذلك " الإحسان " و " الفحشاء " تحتهما أفراد. وكذلك " المنكر " و" البغى "، فهذه أسماء جوامع دالة على كثير وهذا ينقل الآية من شاهد المساواة إلى شاهد الإيجاز بالقصر. * * * ابن أبى الإصبع يناقض نفسه : وكلام ابن أبى الإصبع نفسه دليل على أن الآية فيها إيجاز قصر حيث يقول: " إن الله سبحانه أراد أن يأمر بجميع المحاسن المنجيات الممدوحات. وينهى عن جميع الموبقات المذمومات "، فكيف يستقيم بعد أن يقال إن الآية من قبيل المساواة؟ ومن شواهد المساواة أيضاً - حسبما ذكروه - قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) . وهذه الآية كأختها شاهد إيجاز وليست شاهد مساواة. وإنى لأعجب لابن أبى الإصبع إذ أورد هذه الآية في باب المساواة وهو نفسه يعلِّق عليها تعليقاً واضحاً بأنها من باب الإيجاز، فهو يقول: " فإنه سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 وتعالى أراد اقتصاص هذه القصة بأوجز لفظ وأبلغه فجاء بها كما ترى مرتبة الألفاظ والجمل حسبما وقع ". فمن هذا النص تعلم أن ابن أبى الإصبع قد سلك الآية في موضعها اللائق بها من البلاغة والإيجاز وحسن النسق. ويعدها مباشرة يقول: " فإن قيل لفظة: " القوم " زائدة تمنع الآية من أن توصف بالمساواة لأنها إذا طرحت استقل الكلام بدونها بحيث يقال: " وقيل بعداً للظالمين ". قلت: لا يستغني الكلام عنها ". ثم أخذ في بيان أصالة لفظة " القوم " في موضعها هنا فوُفقَ أيما توفيق. والذي نأخذه عليه اضطرابه في نسبة الآية إلى المساواة مرة، والإيجاز مرة أخرى، وكونها من الإيجاز أمر لا يحتاج إلى دليل. ثم أخذ يبرر هذا الخلط والاضطراب فقال: " واعلم أن البلاغة قسمان - كما قيل - البلاغة إيجاز من غير اختلال وإطناب من غير إملال. والمساواة معتبرة فى القسمين معاً ". * والسؤال الآن: كيف تكون المساواة معتبرة من قسمى الإيجاز والإطناب. . وعلى أي أساس يمكن فهم هذا التقسيم وبين الأقسام الثلاثة حواجز وضوابط لا تسمح بالتداخل بينها؟ إن في ما يقول ابن أبى الإصبع خروجاً عن إجماع العلماء. ثم تورط أكثر وأكثر عندما راح يطبق فكرته الغريبة هذه على نصوص القرآن. وهذا يظهر مما يأتي: قال. " فما جاء من قسم الإيجاز وهو موصوف بالمساواة! قوله تعالى: (وَلكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ) . فإن معنى هذه الجملة جاء في قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) . ثم قال: " لكن الأول إيجاز والثاني إطناب. . وكلاهما موصوف بالمساواة ". وفضلاً عن هذا الخلط والاضطراب فإننا نرى في كلامه ضعفاً حيث يرى أن معنى الآية الثانية متفق مع معنى الآية الأولى - وظاهر أن معنى الآية الأولى بيان أن " القصاص من القاتل " يُضعف رغبة الناس في الاعتداء بالقتل، فتحفظ الحياة بصون الدماء. ومعنى الآية الثانية هو تشريع يبيح لولي القتول المطالبة بالاقتصاص من القاتل مع الاقتصار في الدعوى على الجرم الحقيقي لا يتعداه إلى سواه. فهل بعد هذا يقال: إن معنى الآية الأولى جاء في الآية الثانية؟ وعلى أى أساس أيضاً يدعى الاتحاد بين معنى الآيتين؟! * * * 4 - الإرداف: وهو مفرع كذلك عن ائتلاف اللفظ مع المعنى. وعرفوه فقالوا: أن يريد المتكلم معنى فلا يُعبِّر عنه بلفظه الموضوع له، ولا بلفظ الإشارة الدال على المعاني الكثيرة. بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب الردف من الرديف. ومنه في الكتاب العزيز قوله تعالى: (وَقُضِيَ الأمْرُ) ، وحقيقة ذلك: وهلك مَن قضى الله بهلاكه. ونجا مَن قضى بنجاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وإنما عدل عن هذه الحقيقة إلى لفظ الإرادف لما فيه من الإيجاز والتنبيه على أن هلاك الهالك ونجاة الناجى كان بأمر آمر مطاع، وقضاء مَن لا يُرد قضاؤه، والأمر يستلزم آمراً وقضاؤه يدل على قُدرة الآمر به، وطاعة الأمور تدل على قدرة الآمر وقهره وأن الخوف من عقابه ورجاء ثوابه يحضان على طاعة الآمر ولا يحصل ذلك كله من اللفظ الخاص ". ومن أمثلته أيضاً قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) . قال: " فإن هذا الكلام عُدلَ فيه عن المعنى الخاص في موضعين توخياً للمناسبة والتسجيع لأن المعنى الخاص في الموضعين أن يقال: لأخذناه أخذاً شديداً وأهلكناه. لكن هذه العبارة خالية من المناسبة لما تقدَّم هذين الموضعين وما تأخر عنهما. ولما كانت المناسبة والتسجيع أمراً مطلوباً عدل عن اللفظ الخاص الذي لا يعطى ذلك إلى لفظ يعطيه مع جزالة فيه ". وأقول: إن المواضع التي ذكرها شواهد للإرداف لا تخرج عن الاعتبارات الآتية: 1 - إيجاز القصر. . وذلك في قوله تعالى: (وَقُضِىَ الأمْرُ) وقد جرى هذا التعبير مجرى الحكمة لإجازة لفظه ووفرة معناه. 2 - الكناية عن الصفة. . وذلك في قوله تعالى: (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) ، وقوله تعالى: (ثُمَّ لقَطعْنَا منْهُ الوَتينَ) لأن الأولى كناية عنَ العفة. والثانية كناية عن الهلاك. والوتين: نياط القلب إذا قُطِعَ مات صاحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 3 - الاستعارة التمثيلية. . وذلك في قوله تعالى: (لأخَذنا منْهُ بِاليَمين) شبه حاله - سبحانه - في سيطرته عليه بحال مَن يمسك يمينه فلاَ يستطيعَ دفَعاً ولا فوتاً. * * * 6 - التمثيل: وهذا مفرع كذلك عن ائتلاف اللفظ مع المعنى. وقد عرفه ابن أبى الإصبع فقال: " هو أن يريد المتكلم معنى فلا يُعبر عنه بلفظه الخاص ولا بلفظى الإشارة ولا الإرداف بل بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف قليلاً. . . ". ومنه: (وَاسْتَوَتْ عَلى الجُوِديِّ) فإن حقيقة ذلك: وجلست على هذا المكان، فعدل عما فيه زيغ إلى ما لا زيغ فيه ولا ميل ولا حركة ولا اضطراب، فإن بهذا الجلوس تسكن قلوب أهل السفينة فحصل تمام الأمن وتمام السكينة، ولا يحصل هذا من قولنا: " جلست "، فلذلك عدل عن لفظ الحقيقة إلى لفظ التمثيل. . هذا معنى من معاني التمثيل وخلاصته: إيثار لفظ مكان آخر، ليس أحدهما مجازاً. * * * معان آخرى للتمثيل: ومعنى آخر مثلوا له بقوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) . فإن ألفاظ هذه الآية ومعناها تمثيل مجازي أتى به لتتبين به حقيقة أمر مراد. لأنه لما كان هؤلاء المحدث عنهم بذلك لا ينتفعون بما يسمعون من الزواجر. ولا يرتدعون بما يشاهدون من الآيات. . كان امتناعهم عن ذلك بختم وغشاوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 حالا بينهم وبين ما يسمعون وما يبصرون وما يعتقدون، إذ لولا هذه الحيلولة لسمعوا وأبصروا وعقلوا. وفي هذا فإن التمثيل يكون بإيثار لفظ مجازي على آخر حقيقى كـ " الختم " ومعنى ثالث للتمثيل عندهم. وهو حمله على الاستعارة التمثيلية التي تشبه بها الهيئات. . وقد نَص على ذلك كثير منهم كابن أبى الإصبع إذ يقول في توجيه الآية المذكورة: " ويجوز أن تُضرب الجملة مثلاً لصفة أحوالهم كقولهم: سال بهم الوادى - إذا هلكوا، وطارت بفلان العنقاء - إذا طالت غيبته ". ومعنى رابع للتمثيل عندهم هو أن يراد به المثل. وهذا كثير في القرآن الكريم. . منه قوله تعالى: (ليْسَ لهَا مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ) . * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 الفصل الثالث قيمة البديع القرآني نعرض في هذا الفصل نصوصاً من القرآن الكريم، محاولين توضيح ما فيها مما أطلقوا عليه " بديعاً " سواء دخل عندهم في المعنوي، أو اللفظي، والفرق بين ما قلناه فيهما، وما نقوله في هذا الفصل واضح. 1 - من سورة البقرة (آيات: 26 - 27) : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) . جاءت في هاتين الآيتين ضروب عدة من البديع نذكرها فيما يلي: (أ) المشاكلة: وذلك في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا. .) وهي مشاكلة من النوع الثاني الذي ذكروه في قولهم: " المشاكلة هى ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً ". فهى مشاكلة تقديرية. وذلك بناء على ما ذكره المفسرون. فالزمخشري يقول: " ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة. فقالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب - إشارة إلى قوله تعالى: (لن يَخْلقُواْ ذُبَاباً) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال - وهو فن من كلامهم بديع وطراز عجيب منه قول أبى تمام: مَنْ مُبْلِغُ أفْنَاءَ يَعُرُبَ كُلِّهَا. . . أني بَنِيتُ الجَارَ قَبْلَ المنزِلَ ويلاحَظ أن اللفظ " المشاكل " هنا مجازي المعنى حقيقته الترك. فمعنى: " إن الله لا يستحيي " أي لا يترك الضرب بالبعوضة ترك مَن يستحيي أن يمثِّل بها لحقارتها. . . لأن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يُعَاب به أو يُذَم وهو بهذا المعنى مستحيل في جانب الله. إذن فقد اجتمع هنا لونان بديعيان: المشاكلة. . وقد تقدم شرحها. (ب) المماثلة أو التمثيل. . وقد سبق أنهم يعتبرونه لوناً بديعياً. وسبق كذلك أنه عندهم يُطلق على عِدَّة أمور: الاستعارة المفردة، الاستعارة التمثيلية، المثل السائر. (ب) الإبهام: وذلك بناء على ما ذكره المفسرون - كذلك - من أن " ما " فى قوله تعالى: (مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) أن " ما " الأولى إبهامية، وهى التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شياعاً وعموماً. وكون " ما " إبهامية مشروط بنصب " بعوضة " - كما هي القراءة المشهورة - وإن رفعت " بعوضة " فإن " ما " تصبح موصولة. (د) التوجيه: وذلك في قوله تعالى: (فَمَا فَوْقَهَا) فإن الفوقية هنا لها معنيان، أحدهما: فما تجاوزها في المعنى الذي ضُرِبت فيه وهو القِلة والحقارة. وثانيهما: فما زاد عليها في الحجم. ولما كان أحد هذين المعنيين لم تنصب قرينة على إرادته بعينه، وبقى الفهم والاعتقاد شركة بينهما حصل النوع البديعي الذي يسمونه " التوجيه "؟ وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 أن يكون للفظ معنيان لم تقم قرينة على إرادة أحدهما. والمتأمل يرى أن كلا المعنيين هنا صالح للفهم والاعتقاد. (هـ) حسن التقسيم: حيث قسَّم الناس بالنسبة لضرب الأمثال بالبعوضة وما زاد عليها في الحقارة أو ما زاد في الحجم إلى فريقين: فريق مؤمن مُصدِّق، وآخر كافر مُكذِّب. (و) المقابلة: حيث طابق بين " آمنوا " و " كفروا " و " يضل " و" يهدى "، وقد جامعت المقابلة هنا التكافؤ حسبما يرى ابن أبى الإصبع لأن " يهدى " و " يضل " مجازيان. (ز) التعطف: وذلك في ثلاثة مواضع " مثلاً " و " مثلاً "، " يضل " و" يضل "، " كثيراً" و " كثيراً". (ح) البيان بعد الإبهام: وذلك أنه سبحانه قال: (يُضل به كَثيراً وَيَهْدى به كثيراً) فبئن أن فريقاً يضل به وآخر يهدى، ولم يبين مَن المهدى ومَنَ المضل، َ ثم عاد فقال: (وَمَا يُضِل بِهِ إلا الفَاسِقِينَ) ليعلم مَن هو الفريق المضل وفي هذا البيان معنى الاحتراس. (ط) صحة التفسير: حيث فسَّر " الفاسقين " في قوله تعالى: (وَمَا يُضِل به إلا الفَاسقينَ) بقوله تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) . أى النزاهة: وذلك لأنه سبحانه حين أراد ذمهم لم يستعمل فيه هجين اللفظ، ولا قبيح المعنى، بل سجَّل عليهم نقضهم ميثاق الله، وترك ما أمر الله بفعله وفسادهم في الأرض، وأخبر عنهم بأنهم هم الخاسرون لا غيرهم. (ك) التكافؤ: وهو - كما عرفه ابن أبى الإصبع - أن يكون ركنا الطباق مجازيين لا حقيقين، وأن تكون أركان المقابلة مجازية كذلك. والتكافؤ بهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 المعنى وارد في الآية الثانية: (يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْد ميثَاقه وَيَقْطعُونَ مَا أمَرَ اللهُ بِه أن يُوصَلَ) ، حيث قابل بين النقض وَالتوثقَةَ، والقطع والوصل، وهذه كلها أركان مجازية، فالنقض لا يكون إلا في المركبات الحسية، وكذلك التوثقة، والقطع لا يكون إلا في المتماسك الحسي وقد استعمل هنا مراداً به الترك، والوصل صنو القطع، واستعمل هنا في أمر معنوي هو: الإتيان والفعل. (ل) الترشيح: وذلك أنه قال: (يَنقُضُونَ عَهْدَ الله) وهو الذي رشح لإيقاع النقض على العهد، وهو لا يكون إلا في المركب الحسى و " العهد " معنى من المعاني، فالذي رشح له أنهم يسمون العهد " حبلاً " على سبيل الاستعارة. قال الزمخشري: " فإن قلتَ من أين ساغ استعمال النقض فى إبطال العهد؟ قلتُ: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لا فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين " (م) التسجيع: وهذا ظاهر من فاصلتى الآيتين: (وَمَا يُضِل به إلا الفَاسقينَ) ، (أولئكَ هُمُ الخَاسِرُونَ) فاتحدت الفاصلتان في حرفَ النون مسبوقاًََ بحرف مد في الموضعين. (ن) التذييل: وذلك في قوله تعالى: (أولئكَ هُمُ الخَاسِرُونَ) فإنه تذييل جاء مؤكداً لما فُهِم من أوصاف الفاسقين. (س) حسن النسق: حيث جاءت الجمل مترتبة ترتيباً حسناً خالية من عيوب النظم. فقد بدأ - سبحانه - بأنه مطلق الإرادة يمثل بما شاء لما شاء. والناس إزاء هذا التمثيل ضربان: مؤمن مصدِّق، وكافر مستريب، وفي هذا يضل اللهُ مَن يشاء وهم كثيرون، ويهدي مَن يشاء وهم كثيرون، ثم بيَّن أنه لا يضل إلا الفاسقين، ثم شرع في بيان صفات الفاسقين فبدأ بنقضهم عهد الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 وتركهم ما أمر الله به أن يؤتى، ثم عطف عليه كونهم مفسدين في الأرض. ثم أخبر عنهم بأنهم الخاسرون. والمتأمل يرى أن كل جزء تقدم على آخر فإنه كالسبب فيه أو أخص منه وما أتى بعده عام. أو حكم تقدمت مسبباته. فجاء التعبير محكم البناء، موصول العرى، متلاحم الفقرات. (ع) الانسجام: وقد عرَّفه ابن أبى الإصبع بأن يكون الكلام منحدراً كانحدار الماء النسجم بسهولة سبك وعذوبة ألفاظ وسلامة تأليف. حتى يكون للكلام موقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس لغيره وإن خلا من البديع. وهذا الانسجام ينطبق على آيتينا هاتين بل ينطبق على كل موضع في القرآن الكريم فهو وصف عام له. لم يختص به موضع دون آخر. (ت) المجاز: هكذا عدُّوا المجاز من فنون البديع، وهو في آيتنا ظاهر فى بعض مواضعها كالنقض في الإبطال، والتوثق في الحفاظ على عهد الله، والقطع في الترك والوصل في الفعل، ومن قبل هذا كان الاستحياء في الترك أيضاً. (ص) الإدماج: وهو كما عرَّفه ابن أبى الإصبع أن يدمج غرض فى غرض أو بديع في بديع بحيث لا يظهر إلا أحد الغرضين. وهذا قد مَرَّ بنا فى موضعين من النص الكريم: أحدهما: دمج التكافؤ في المقابلة في قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) . فإن " يضل " و " يهدى " مَجازيان - كماَ سبق - وهذا تكافؤ مدمج في المقابلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وثانيهما: دمج التكافؤ في المقابلة - كذلك - في قوله تعالى: (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) على ما سبق بيانه. (ق) التفصيل: وهو الواقع بعد " أما " و " أما " في قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ. .) . ولا يقف بنا الأمر عند هذا الحد، فإن لنا أن نصفَ النص بما يأتي: (ر) ائتلاف اللفظ مع المعنى: لأن كل لفظ فيه قد ائتلف مع معناه. فهما مقدران بقدر، وموضوعان بحكمة وهذا اللون - وإن مثلوا له ببعض آيات القرآن - فإنه وصف عام ليس له فيه موطن دون موطن بل القرآن كله موصوف بائتلاف ألفاظه مع معانيه. (ش) حسن الجوار: وهذا مثل سابقه: وصف عام للقرآن حيث لم تقع فيه لفظة واحدة متنافرة مع سابق عليها أو لاحق لها، وهو ينطبق على آيتينا باعتبارهما جزءاً من التنزيل الحكيم. فهذه أكثر من عشرين لوناً بحثوها في ألوان البديع، وقد جاءت في القرآن على أحسن موقع وأجمل مطلع. وهل ترى في هذا النص - وقد علمنا ما فيه من ألوان البديع - قصوراً فى معناه الذي سيق من أجله؟ أم انتصاراً للفظ على المعنى؟ ليس في النص شىء من هذا. بل هو وافٍ بالمراد في وضوح وقوة، وهذا هو الفارق بين كلام معجز، وكلام هو عرضة للخطأ والمغالاة. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 2 - من سورة هود (44) : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) . هذه الآية الكريمة تصور لنا في إيجاز نهاية قصة الطوفان في عهد نوح عليه السلام، وقد اشتملت على الألوان البديعية الآتية: (أ) المناسبة اللفظية التامة، بين " أقلعى " و " ابلعى ". فقد جمع بين اللفظين وهما هنا موزونان مقفيان بزنة وقافية واحدة وهذا هو معنى المناسبة التامة. (ب) المطابقة: بين " السماء " و " الأرض " في قوله تعالى: (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) وقد مَرُ تعريف المطابقة فلا حاجة إلى ذكره. (ب) الاستعارة: في قوله تعالى: " أقلعي " و " ابلعي ". (د) المجاز المرسل: في قوله تعالى: " يا سماء " والحقيقة: يا مطر السماء والعلاقة: المجاورة. (هـ) الإشارة: وهي أن يدل اللفظ القليل على المعنى الكثير بحيث يكون اللفظ لمحة دالة. وذلك في قوله تعالى: " وغيض الماء " لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء، فدل هذا التركيب القليل: " وغيض الماء " على أن كل ذلك قد حدث. (و) الإرداف: في قوله تعالى: " واستوت على الجوديِّ " وقد مَرَّ بحث هذه العبارة. (ز) التمثيل: وقد مَرَّ تعريفه والتمثيل له بهذه العبارة: " وقُضِى الأمر ". (ح) التعليل: لأن " غِيضَ الماء " عِلَّة الاستواء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 (ط) صحة التقسيم: حيث استوعب - سبحانه - حالة الماء حين نقصه. (ى) الاحتراس: من توهم متوهم أن الماء قد عم مَن لا يستحق الهلاك وقد تحقق " الاحتراس " بالدعاء على الهالكين. (ك) الانفصال: لأن لقائل أن يقول: إن لفظة " القوم " يستغنى عنها للمعنى إذ لو قيل: " وقيل بُعداً للظالمين " لتم الكلام. (ل) المساواة: لأن لفظ الآية لا يزيد على معناه ولا ينقص عنه، وستأتي مخالفة هذا الوجه. (م) حسن النسق: في عطف القضايا بعضها على بعض حسبما وقعت الأول فالأول. (ن) ائتلاف اللفظ صع المعنى: لكون كل لفظة لا يصلح غيرها مكانها، وقد مَرَّ تعريفه. (س) الإيجاز: لأن الله اقتص قصة السفينة بلفظها مستوعبة في أخصر عبارة بألفاط غير مطولة. (ع) التسهيم: لأن من أول الآية إلى قوله تعالى: " أقلعي " يقتضي آخرها، والتسهيم أن يكون في أول الكلام ما يدل على آخره لأنها تقتضيه. (ف) التهذيب: لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن كل لفظة سهلة مخارج الحروف عليها رونق الفصاحة. (ص) حسن البيان لأن السامع لا يتوقف في فهم معنى هذا الكلام لوضوحه، وصفائه. (ق) التمكين: لأن الفاصلة مستقرة في قرارها. مطمئنة في مكانها غير قلقة ولا مستكرهة. (ر) الانسجام:: هو تحدر الكلام بسهولة وعذوبة سبك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 (ش) الإبداع: وهو في مجموع الآية. هذا خلاصة ما ذكره ابن أبى الإصبع في بديع هذه الآية. ولنا عليها ملاحظة هامة. . ذلك أنه وصف الآية بالمساواة وجعل المساواة فناً من فنون البديع كما جعل الاستعارة كذلك. ثم عاد ووصف الآية بالإيجاز، والإيجاز والمساواة ضدان لا يجتمعان، فإما أن يكون الكلام مساوياً أو غير مساو بأن يكون موجزاً أو مطنباً، أما أن يوصف كلام واحد بعينه بأنه مساو مرة وموجز مرة أخرى فهذا شىء غير مفهوم على الإطلاق، ونحن - إذا جاريناه على أن الإيجاز من فنون البديع - فإن الآية موصوفة به لا بالمساواة إذ هي قد اشتملت على نوعى الإيجاز: ففيها إيجاز الحذف. ويكفي في تصور ذلك أن في الآية قد بنى الفعل للمفعول في عدة مواضع: " قيل يا أرض " و " غيض " و " قضى الأمر " و" وقيل بعداً ". كما طوى ذكر السفينة وأضمر فاعل الفعل " استوت "، وحذف معمول " أقلعي ". . . وهذا موسوم بإيجاز الحذف. وفيها إيجاز قصر. . لأن بعض ألفاظها قد حوى كثيراً من المعاني مثل: " غيض الماء " و " قضى الأمر ". وبهذا يظهر خلط ابن أبى الإصبع في عَدِّ الآية من باب المساواة مرة والإيجاز مرة أخرى. وكيف ساغ له ذلك وهو البلاغي الضليع والناقد الأديب؟ لا أرى سبباً وراء ذلك إلا ولوعه بألوان البديع وكثرة محصوله منها. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 3 - من سورة يوسف عليه السلام (26 - 27) : (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) . * المعنى الإجمالى لهاتين الآيتين: تكذيب يوسف عليه السلام لدعوى امراً: العزيز، ثم تأييده فيما قال بشهادة شاهد من أهلها لفت نظر العزيز إلى قرائن الأحوال التي منها علم العزيز صدق يوسف عليه السلام وكذب امرأته هو على يوسف. والناظر فيهما لا يجد تكلفاً في العبارات. ولا نقصاً في المعنى، ومع هذا فقد جاءت فيها فنون شتى من البديع لم تخرج عن سمات البلاغة الأصيلة، والبيان الآسر. وتلك الفنون هي: 1 - المناقضة: وهي - هنا - مناقضة المتكلم غيره في معنى. فقد ادعت امرأة العزيز أن يوسف عليه السلام راودها عن نفسها. فنقض هذا المعنى فى قوله: (هِىَ رَاوَدَتْنِي عَن نفْسِي) . 2 - الكناية: في قوله أيضاً: (رَاوَدَتْني عَن نفْسي) وحقيقته: طلبت مني الفحشاء. والمراودة: أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد، فقد كان يوسف عليه السلام عزوفاً عنها فأرادت أن تثنيه عن رأيه لتحقق مقصودها. 3 - النزاهة: لأن في قوله: (راوَدَتْنِي عَن نفْسِي) بُعداً عن الألفاظ المعيبة. وفيها كذلك الاعتدال في الاتهام ويبدو هذا جلياً إذا ما قورنت هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 العبارة: بعبارة امرأة العزيز: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) . فهي تدل على نفس حاقدة كَائدة مغيظة إذ لم تكتف بمجرد الاتهام. بل بالغت فيه مقترحة الجزاء: إما السجن، وإما العذاب الأليم. 4 - جُناس الاشتقاق: وذلك في قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ) لأنهما يرجعان في اللفظ إلى أصل واحد. 5 - الاستقصاء: وهو في قوله تعالى: (مًنْ أهْلهَا) وصفاً للشاهد، وفي هذا مدخل عظيم الأثر في براءة يوسف عليه السلام، وإدانة امرأة العزيز. 6 - حسن البيان: لأن المعنى في هاتين الآيتين واضح لا يعوق عنه فهم ولا يغرب عن طالب. 7 - حسن التفسير: لأن قوله تعالى: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) ، والآية التي بعدها - كل هَذا تفسير للشهادة التي أشارت إليهَا العبارة السابقة. 8 - حسن التقسيم: حيث قسَّم قرائن الواقعة إلى قسمين باعتبار ما حدث من قَد القميص. 9 - المزاوجة: حيث زاوج بين الشرط والجزاء، فقَد القميص من القُبُل يترتب عليه صدقها وكذبه. وقَده من الدبر يترتب عليه كذبها وصدقه. 10 - الإيهام: حيث ساوى بين امرأة العزيز ويوسف عليه السلام في احتمال دعوى كل منهما في الصدق والكذب، والقرائن التي أشار إليها الشاهد تخص دعواها بالكذب. وتثبت الصدق ليوسف عليه السلام. 11 - المقابلة: حيث طابق بين القُبُل والدُبُر، والصدق والكذب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 12 - العكس والتبديل: حيث قدم الصدق مرة وأخره مرة أخرى، وقدم الكذب تارة وأخره تارة أخرى. 13 - التمكين: لأن الفاصلة في الموضعين قارة في مكانها لا نافرة ولا قلقة. 14 - التسهيم: لأن قوله في الآية الأولى: (إن كانَ قَمِيصُهُ) إلى: (فَكَذَبَتْ) يدل على الفاصلة وكذلك القول في الآية الثانية. 15 - التسجيع: لأن الفاصلتين في الموضعين متماثلتان: " الكاذبين " " الصادقين ". 16 - لزوم ما لا يلزم: حيث التزم في الفاصلة الياء المكسور ما قبلها وذلك نلحظه في الموضعين. 17 - الإيجاز: ففى الآيتين لوحظ حذف بعض الكلمات منها: " قال " قبل: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِن أَهْلِهَا) وحذف الفاعل في " قد " في الموضعين. وكان في هذا الحذف من الفخامة والروعة ما فيه. 18 - حسن النسق: حيث رتبت الأجزاء ترتيباً حسناً فبدأ بتكذيب يوسف لدعوى امرأة العزيز ثم ذكر شهادة الشاهد الذي أيَّده. ثم تفصيل تلك الشهادة وما يترتب عليها في عرض حسن ونسق جميل. 19 - الانسجام: وذلك ظاهر من جزالة الألفاظ، وجودة السبك والترتيب المنطقي لأجزاء القضية. 20 - الافتنان: وقد عرفه ابن أبى الإصبع بأن يأتي المتكلم في كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين، وقد جاء ذلك ظاهراً في الجمع بين البراءة والإدانة، ثم الإدانة والبراءة في قوله تعالى حكاية عن شاهد واقعة امراً: العزيز: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 ففى الآية الأولى جمع بين براءة امرأة العزيز - فرضاً - وإدانة يوسف عليه السلام، وفي الآية الثانيهَ جمع بين إدانتها - حقيقة - ويراءة يوسف عليه السلام. وإلى هنا فإننا تناولنا ثلاثة نصوص من القرآن الكريم. وقد أبنا على طريقتهم ما يحتمله النص من وجوه البديع، هذه النصوص في جملتها تتكون من خمس آيات: آيتان من سورة البقرة (26 - 27) ، وآية من سورة هود (44) ، وآيتان من سورة يوسف (26 - 27) . * * * صور البديع فيما تقدم: وكان جملة ما ظهر لنا من فنون البديع فيها - بعد حذف المكرر - واحداً وأربعين فناً. وهي: 1 - التمثيل 2 - المشاكلة 3 - الإبهام 4 - التوجيه 5 - حسن التقسيم 6 - المقابلة 7 - التعطف 8 - البيان بعد الإبهام 9 - صحة التفسير 10 - النزاهة 11 - التكافؤ 12 - الترشيح 13 - التسجيع 14 - التذييل 15 - حسن النسق 16 - الانسجام 17 - المجاز 18 - الإدماج 19 - التفصيل 20 - ائتلاف اللفظ مع المعنى 21 - حسن الجوار 22 - الإشارة 23 - الإرداف 24 - التعليل 25 - الاحتراس 26 - الانفصال 27 - المساواة 28 - التسهيم 29 - التهذيب 30- التمكن 31 - الإبداع 32 - المناقضة 33 - الكناية. 34 - الجُناس اللفظي 35 - الاستقصاء 36 - المزاوجة 37 - الإيهام 38 - العكس والتبديل 39 - لزوم ما لا يلزم 40 - الإيجاز 41 - الافتنان. * * * نتائج مهمة: والباحث في بديع القرآن مع إطلاق القول به حتى يشمل ما هو من المعاني والبيان يخرج بعدة نتائج: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 أولاً: أن العلماء قد اشترطوا لقبول البديع وحسنه وبلاغته شروطا منها: ألا يكون متكلفا ولا مسرفاً فيه صاحبه، وأن يُرسَل مع الطبع والسجية ولا يكون على حساب المعنى. وبديع القرآن قد تحقق فيه عدم التكلف وكونه لا على حساب المعنى. أما الشرط الثاني - وهو عدم الإكثار - فلم يتحقق ذلك إذ أن نصوص القرآن قد اشتملت على كثير من ألوان البديع، وقد رأينا أن آية هود المذكورة آنفاً قد استخرج منها العلماء أكثر من عشرين فناً من فنون البديع، ولم تزد كلماتها على سبع عشرة كلمة، بل إن ابن أبى الإصبع قد استخرج من حرف واحد وهو " ثُمَّ " - في قوله تعالى: (ثُمَّ لا يُنصَرُونَ) - قد استخرج من هذا الحرف وحده ثمانية فنون بديعية. * * * كثرة وجوده: ومع هذه الكثرة في بديع القرآن لم تجد له إلا بلاغة وحُسناً، ولم يجرؤ أحد من العلماء والنقاد بتقليل قيمة بديع القرآن، وما رأيناهم قد استحسنوا فيما سواه ما كثر في القصيدة أو البيت لأن التاريخ والنقد الأدبيين لم يجدا مكثرا منه أو مسرفاً فيه إلا كان خطؤه أكثر من صوابه وإجادته أقل من رداءته. ولم يكن الإقلال منه عاصماً من التكلف فيه حتى يكون مع الإكثار عذر لذلك التكلف. فقد أخطأ المقلُّون كما أخطأ المكثرون. فمثلاً. . قد ورد في القرآن الكريم أسلوب مراعاة النظير فسلم وحسن، كقوله تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) . وتناول الشعراء هذا الأسلوب فأصابوا وأخطأوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 فقد خطأ نصيب الشاعر الكميت في قوله: أمْ هَلْ ظعَائِنُ بِالعُليَا رَافِعَة. . . وَإن تَكَامَلَ فِيهَا الدَلُ والشَنَبُ قال نصيب للكميت: أين الدل من الشنب، ألا قلت كما قال ذو الرمة: لمْيَاءُ فِى شَفِتيِهَا حَوة لعَسٌ. . . وَفِى اللثَاتِ وَفِى أنْيَابِهَا الشَنَبُ فإن الشنب يُذكر مع اللمس، والدل ئذكر مع الغنج. وبمثل هذا عاب ابن الأثير قول أبى نواس يصف الديك: لهُ اعْتِدَالٌ وَانْتِصَابٌ قَدٍّ. . . وَجِلدُهُ يُشْبِهُ وَشْىَ البرَد كَأَنَّهَا الهِدَابُ فِى الفِرند. . . مَحْدُوبُ الظهْرِكَرِيمُ الجد لأنه ذكر الظهر وقرنه بالجد. وهذا لا يناسب هذا، لأن الظهر من جهة الخلق والجد من جهة النسب. وكذلك خطأه في قوله: وَقَدْحَلِفتُ يَمِيناً. . . مَبْرُورَة لا تَكْذِب بِرَبِّ زَمْزَم والحَوضُ. . . وَالصَفَا وَالمِحْصَب لأن ذكر الحوض مع الصفا والمحصب غير مناسب. وإنما يُذكر الحوض مع الصراط والميزان. وجاء التكرار في القرآن فعزب وراق. كقوله تعالى: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) . وقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 وقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) . وهو على تقاربه تجد له قوة وجزالة وأغراضه: إما المدح، وإما التهويل وإما للاستبعاد كما في قوله تعالى: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ) . . . إلى غير ذلك من الأغراض التي مرت في مبحثه الخاص. وهذا التكرار لا يخرج عندهم عما سموه الترديد أو التعطف. أو الجُناس والمشاكلة. . وقد جاء في الشعر وغيره من كلام الناس فلم يسلم من العيب إلا فيما قَلَّ. فمما عيب قول أبى الطيب: فَقْلقْلتُ بِالسَهْم الذِى قَلقَلَ الحَشَا. . . قَلاَقِل عَيْشٍ كُلهُن قَلاَقِلُ غَثَاثَةُ عَيْش أن تُغَثُ كرامَتِي. . . وَليْس بِغَثٍ أن تُغَثٌ المآكِلُ قال ابن سنان معلَقاً عليهما: " فقد اتفق له أن كرر في البيت الأول لفظة مكررة الحروف فجمع القبح بأسره في صيغة اللفظة نفسها، ثم في إعادتها وتكرارها، واتبع ذلك بغثاثة في البيت الثاني وتكرار " تغث " فلست تجد ما يزيد على هذين البيتين في القبح ". وقال أبو تمام: قَسَمَ الزَمَانُ رُبُوعَها بين الصَبَا. . . وَقَبُولُهَا وَدَبُورُها أثَلاْثَا وقد أخطأ أبو تمام في ذكر " القبول " مع " الصبا "، لأن الصبا هي القبول لذلك عدَّه النقاد غير مفيد. * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 * المبالغة: وجاءت المبالغة في القرآن قولة جزلة لا تنبو عن ذوق ولا ينكرها عقل. مثل قوله تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) . ففى هذه الآية مبالغة مقبولة غير منكرة ولا نافرة تصف أثر الخوف وهذا يصوره زوغان الأبصار لشدة الاضطراب وهذا أمر واقع، عطف عليه أمر قريب من الواقع هو بلوغ القلوب الحناجر فإن القلب حين يضطرب تظهر آثار اضطرابه فى تهدج الصوت واضطرابه، والصوت يكون مسموعاً بعد مروره بالحنجرة، فلذلك ساغ هذا التعبير وقوى به المعنى وحَسُن. ومثل قوله تعالى: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) . . مبالغة في صفاء الزيت. وقوله تعالى: (إذا أخْرَجَ يَدَهُ لمْ يَكَدْ يَرَاهَا) . . مبالغة في تصوير الظلمة المحيطة به. وجاءت هذه المبالغة على ألنسة الشعراء فأصابوا وأبعدوا في الخطأ. قال الأعشى: فَتىً لو يُنَادىِ الشَمْسَ ألقَتْ قِنَاعَهَا. . . أوِ القَمَرَ السارِي لألقَى المقَالِدَ فقد غالى في تصوير المعنى فعلق تبذل الشمس على مجالسته لها، وكذلك (تخلى القمر الساري عن المقالد مرهون بتلك المجالسة، وهذه مبالغة موصوفة بالغلو. ولم يخل كلامه من التكلف. فقد أثبت للشمس قناعاً وللقمر مقالد وجوز في جانبهما المنادمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 وقال أبو نواس: وَأخفْتَ أهلُ الشِرْكَ حَتى أنهُ. . . لتَخَافَكَ النُطفُ التِي لم تُخلقْ وهذا البيت معيب " لما في ذلك من الغلو والإفراط الخارج عن الحقيقة ". * * * صحة التقسيم: وصحة التقسيم جاء في الكتاب الحكيم على أبلغ وجه، وأصح منهج كقوله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفاً وَطمَعاً) . وقوله تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) . الآية الأولى: تبين قسمى أثر البرق عند الناس. والآية الثانية: تبين أقسام الناس يوم العرض، فهم ثلاثة لا رابع لهم. فهذه قسمة صحيحة. وقد أخطأ بعض الشعراء عندما تناولوا هذا الفن. مثل قول البحترى: قِفْ مَشُوقاً أوْ مُسْعِداً أوْ حَزِيناً. . . أو مُعِيناً أوْ عَاذرِاً أو عَذُولا قال ابن الأثير: " فإن المشوق يكون حزيناً والمسعد يكون معيناً، وكذلك يكون عاذراً. . وكثيراً ما يقع البحترى في مثل ذلك ". وعابوا قول أبى الطيب: فَافْخَر فَإن الناسَ فَيكَ ثَلاَثَة. . . مُسْتَعْظِمٌ أوْ حَاسِدٌ أو جَاهِلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 لأن المستعظم يكون حاسداً، والحاسد يكون مستعظماً، ومن شرط التقسيم ألا تتداخل أقسامه بعضها في بعض " " وأما صحة التقسيم. . فأن تكون الأقسام المذكورة لم يخل بشىء منها، ولا تكررت ولا دخل بعضها في بعض ". ومثَّل للمعيب منه بقول جرير: صَارَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلثُهُم. . . مِنَ العَبِيدِ وَثُلثٌ مِن مَوَاليهَا ثم علق عليه قائلاً: فهذه قسمة فاسدة من طريق الإخلال لأنه قد أَخل بقسم من الثلاثة. وقيل: إن بعض بنى حنيفة سُئل من أي الأثلاث هو؟ قال: من الثلث الملغى ". وهذه لمحة نقد بالغة الدِّقة. * * * الإيجاز: وجاء الإيجاز في القرآن الكريم بقسميه: إيجاز الحذف وإيجاز القصر، فلم يبهم معه معنى ولا اختفى معه مراد. كقوله تعالى: (وَاسْأل القَريةَ) ، وقوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ) ، وقوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) ، وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) ، وقوله تعالى: (أُولئكَ لهُمُ الأمْنُ) ، وقوله تعالى: (إنمَا بَغْيُكُمْ عَلى أنفُسِكُم) ، وقوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 والقرآن ملىء بمثل هذه الدرر الغوالى مع قوة المعنى ووضوحه وشدة أسره للأفهام. وقد تناوله قوم فأصابوا وأخطأوا، فأما ما جاء في القرآن فهو أبلغ منه وأوجز، ولعل مضرب الأمثال في ذلك قوله تعالى: (وَلكُمْ فِى القصَاصِ حَيَاةٌ) . فإذا قورن به قول العرب: " القتل أنفى للقتل ". فإن عبارة القرآن قد فاقته من عدة وجوه قد عنِىَ العلماء بإفاضة القول فيها. مع أن هذا القول المصادر عن العرب كانوا يعدونه أبلغ ما قيل في معناه. * * * نصوص معيبة: على أن كثيراً من الشعراء قد أوجزوا فأخلُوا، وشرط بلاغة الإيجاز وضوح المعنى. . من ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أعَاذلُ عَاجِلُ مَا أشْتَهِى. . . أحَبُ مِنَ الأكْثَرِ الرَائِثُ لأنه أراد: عاجل ما أشتهى مع القِلة أحب إلى من الأكثر البطيء، فترك "مع القلة " وبه تمام المعنى. ومنه قول عروة بن الورد: عَجِبْتُ لهُمْ إذْ يَقْتُلُونَ نُفَوسَهُم. . . وَمَقْتَلهُم عِنْدَ الوَغَى كَانَ أعْذَرُ لأنه أراد أن يقول: عجبتُ لهم إذ يقتلون نفوسهم في السلم وقتلهم فى الحرب أعذر، فترك " في السلم " وبه تمام المعنى كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وكذلك قول الحارث بن حلزة: والعَيْشُ خَيْر فِى ظِلالِ النَوْكِ. . . مِمنْ عَاشَ كدَّا أراد: العيش الناعم في ظلال الجهل خير من العيش الشاق في ظلال العقل. . والوجه الذي يُقرب هذه الأمثلة الثلاثة إلى الصواب أنه يمكن أن يقال: إن دليل الحذف فيها ما قابل المحذوف. فقوله: " ومقتلهم عند الوغى " دليل " في السلم " المحذوف، وإلا لخرج الكلام مخرج الآحاجى والألغاز، ولما استحق أن يدخل في باب الأدب. * * * بين القرآن والناس: ولو أننا تتبعنا سائر فنون البديع بمعناها العام لوجدنا أمثلتها في القرآن لا تخرج عن البلاغة الأصلية مع الوفاء بحق المعنى، وحق اللفظ. فليس فيه إحسان في موضع وإساءة في آخر، بل هو على وتيرة واحدة فى جميع فنونه وطرق تعبيره، وهذا هو الفرق الذي رمناه بين بديع القرآن وبديع الناس فالناس - شعراؤهم وناثروهم - إذا أكثروا من استعمال البديع لم يسلم لهم منه إلا القليل، وإذا لم يكثروا منه - وهذا شرط قبوله - فإنهم ليسوا فى مأمن من السقوط والكلفة، كما وقع لبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبى تمام، وكما وقع للمتأخرين منهم حينما أسرفوا وغالوا في السعى وراء البديع فضعف معه المعنى أو زال من أساسه كبديع الزمان الهمذانى وصفى الدين الحلي، وغيرهما من عشاق البديع ومصروعيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 والبديع في القرآن فِطري جرى مع طبيعة الأسلوب ولم يُصرْ إليه إلى حلية لفظ أو تزويق عبارة، وهو فيه سمة من سمات إعجازه وحسنه سواء أكان راجعاً إلى المعنى أو راجعاً إلى اللفظ وحسنه ذاتي لا عرضي، ولو ذهبنا ننحى ما جاء من بديع القرآن عن أصالة أسلوبه وروعة معانيه، لذهبنا بشطر الحُسن فيه لقوة صوره وأصالة وروده فيه، وقد تقدم لنا أن كثيراً من فنون البديع من صميم طرق التعبير في القرآن الكريم - كالمطابقة - لأنه كثيراً ما يقارن بين أنواع متضادة أو كالمتضادة، والمشاكلة والسجع. . . وما إلى هذه الألوان الآسرة. * * * ملاحظتان مهمتان: على أن هنا ملاحظتين إحداهما ترجع إلى البديع بعامة، والثانية ترجع إلى بديع القرآن بخاصة. أما ما ترجع إلى البديع بعامة. . فإنه فن في حاجة إلى الإنصاف وإعادة النظر، ونحن هنا أمام طريقين: إما أن نطلق كلمة " البديع " على فنون البلاغة جميعاً، وإما أن نرد كل حق إلى نصابه، فنرد ما للمعاني للمعاني، وما للبيان للبيان - مما يدرس ضمن فنون البديع - ولو فعلنا ذلك لما بقى شىء يمكن أن يُطلق عليه بديعاً، لاختلاس هذه الفنون من علمي المعاني والبيان، إلا فيما ندر. وأما ما يتعلق ببديع القرآن. . فإن بعض الباحثين مسرف في إثبات الألوان كما فعل ابن أبى الإصبع في كتابه الموسوم " بديع القرآن " مثل التفويف والتنكيت والانفصال، والتردد والاطراد، فإن إدراك جمال التعبير في القرآن لا يحتاج إلى أكثر من الذوق وصفاء النفس فلا داعي لكثرة التلقيب والتنويع. والحمد لله في الأولى والآخرة. . * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 قائمة المصادر والمراجع للجزء الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 1 - بديع القرآن - ابن أبى الإصبع العدوانى. 2 - البرهان في علوم القرآن - الزركشي. 2 - بحث جديد في القرآن - محمد على صبيح. 2 - البحر المحيط - أبو حيان الأندلسي. 2 - البلاغة التطبيقية - د. أحمد إبراهيم موسى. 2 - البلاغة تطور وتاريخ - د. شوقى ضيف. 2 - البيان والتبيين - الجاحظ. 2 - البيان الأدبي - د. بدوي طبانة. 2 - البيان القرآني - د. رجب البيومى. 2 - تاريخ آداب اللغة العربية - جورجى زيدان. 2 - تأويل مشكل القرآن - ابن قتيبة. 3 - تحرير التحبير - ابن أبى الإصبع. 3 - التصوير الفني في القرآن - سيد قطب. 3 - التفسير البياني - بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن) . 3 - تفسير جزء عم - محمد عبده (الإمام) . 3 - تفسير الجواهر - طنطاوى جوهرى. 3 - التفسير الكبير - الرازى. 3 - تفسير المنار - رشيد رضا. 3 - الجامع لأحكام القرآن - الإمام القرطبى. 3 - جواهر الألفاظ - قدامة بن جعفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 3 - حاشية السيد على المطول - السيد الشريف. 4 - حاشية الصبان على الأشمونى - الصبان. 4 - حاشية عبد الحكيم على المطول - عبد الحكيم السيالكوتى. 4 - الحُجة في القراءات - أبو على الفارسى. 4 - حجج النبوة - الجاحظ. 4 - حول إعجاز القرآن - د. على العمارى. 4 - الحيوان - الجاحظ. 4 - خزانة الأدب - الحموى. 4 - الخصائص - ابن جنى. 4 - ديوان ابن الرومى - ابن الرومى. 4 - دائرة المعارف الإسلامية 5 - دُرة التأويل - الخطيب الإسكافي. 5 - دلائل الإعجاز - الإمام عبد القاهر الجرجاني. 5 - روح الاجتماع - جوستاف لوبون. 5 - زهر الآداب - الحصرى. 5 - سر الفصاحة - ابن سنان الخفاجى. 5 - شذرات الذهب - ابن العماد. 5 - شروح التلخيص - سعد الدين التفتازاني وآخرون. 5 - الشعر والشعراء - ابن قتيبة. 5 - الشفا في التعريف بحقوق المصطفى - القاضي عياض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 صبح الأعشى - القلقشندى. الصبغ البديعى - د. أحمد إبراهيم موسى. الصناعتين - أبو هلال العسكرى. الطراز - العلوى. الظاهرة القرآنية - مالك بن نبى. العِقد الفريد - ابن عبد ربه. عقود الجمان - جلال الدين السيوطي. علم اللغة - د. على عبد الواحد وافى. العمدة في صناعة الشعر ونقده - ابن رشيق. التفكير فريضة إسلامية - عباس محمود العقاد. الفلسفة اللغوية - جورجى زيدان. الفلك الدائر على المثل السائر - ابن أبى الحديد. فن الإسجاع - الأستاذ على الجندى. فن التشبيه - الأستاذ على الجندى. فن الجُناس - الأستاذ على الجندى. الفهرست - ابن النديم. الكشاف - الزمخشري. كسُف الظنون - حاجى خليفة. الكامل - المبرد. الكتاب - سيبويه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 لسان العرب - ابن منظور. اللغة بين المفرد والمجتمع - محمد عبد الرحمن أيوب. اللغة الشاعرة - عباس محمود العقاد. اللغة العربية وطرق تدريسها - الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد. المثل السائر - ابن الأثير. محاضرات في الأدب - د. سليمان ربيع. محاضرات في البلاغة - د. محمود فرج العقدة. المطول - سعد الدين التفتازاني. معالم النقد الأدبي - د. عبد الرحمن عثمان. معترك الأقران في إعجاز القرآن - جلال الدين السيوطي. المعجزة الكبرى - الإمام محمد أبو زهرة. مفتاح العلوم - أبو يعقوب السكاكي. المغنى عن كتب الأعاريب - ابن هشام. المغنى في أبواب التوحيد والعدل - القاضي عبد الجبار. مفردات القرآن - الراغب. المفضليات - الضبى. المقدمة - ابن خلدون. مقدمة تلخيص البيان - عبد الغنى حسن. مقدمة الظاهرة القرآنية - الأستاذ محمود شاكر. المناهج الجديدة في تفسير آيات الله المجيدة - د. عبد الغنى الراجحي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 99 - مناهل العرفان في علوم القرآن - الشيخ عبد العظيم الزرقانى. 100 - من بلاغة القرآن - د. أحمد بدوي. 101 - من حديث الشعر والنثر - د. طه حسين. 102 - المنهج الحديث - د. عبد الغنى الراجحي. 103 - الموازنة - الآمدى. 104 - الموشح - الرقدانى. 105 - النبأ العظيم - د. محمد عبد الله دراز. 106 - النحو الوافى - د. عباس حسن. 107 - نسمات من عبير الأدب - د. محمد سرحان. 108 - النقد الأدبي - أحمد أمين. 109 - النقد الأدبي - سيد قطب. 110 - النقد الأدبى - د. محمد غنيمى هلال. 111 - النقد المنهجي عند العرب - د. محمد مندور. 112 - نقد الشعر - قدامة بن جعفر. 113 - الوساطة - القاضي على بن عبد العزيز الجرجاني. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483