الكتاب: تحت راية القرآن المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ) الناشر: المكتبة العصرية - صيدا - بيروت   الطبعة الأولى - 1423 هـ - 2002 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- تحت راية القرآن الرافعي ، مصطفى صادق الكتاب: تحت راية القرآن المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ) الناشر: المكتبة العصرية - صيدا - بيروت   الطبعة الأولى - 1423 هـ - 2002 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: تحت راية القرآن (المعركة بين القديم والجديد) مقالات الأدب العربي في الجامعة، والرد على كتاب " في الشعر الجاهلي " للدكتور طه حسين، وإسقاط البدعة الجديدة التي يريد دعاتها تجديد الدين. اللغة والشمس والقمر. المؤلف: مصطفى صادق الرافعي الناشر: المكتبة العصرية - صيدا - بيروت الطبعة الأولى - 1423 هـ - 2002 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم بعد الصلاة والسلام على أشرف خلق الله تعالى - محمد النبي الأمي وعلى آله ِوأصحابه أجمعين، لقد اعتاد القارئ العربي الكريم الاطلاع على كل جديد التراث الإسلامي والعربي من إصدارات المكتبة العصرية للطباعة والنشر والتوزيع، وها هي الدار اليوم تقدّم للقارئ العربي "تحت راية القرآن" لأحد رجال الفكر الإسلامي العربي الأديب مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله - بحلة جديدة، آملة أن ترضي القارئ الكريم، عله أن يجد ضالته فيما تركه الأديب من مادة، نحن بأمس الحاجة إليها في زمننا هذا. والأديب ينسج خطوط قصصه بريشة شاعر فنَّان، يحقق في عالم الشعر، مصبوغة بوجدان الإيمان العميق، تبغي العدالة، ونشر قيم الإسلام الحنيف ببساطتها وروعتها، وأبطالها يمثلون الفضيلة بجلالها وأصالتها الإسلامية، والحبُّ السامي بخيوطه المحبوكة من قلوب أبطاله الملائكيين في ميولهم وطهارتهم وسمو نفوسهم. وبما أن مصطفى صادق الرافعي شاعر مثقف ثقافة شعرية، يمتاز بحسٍّ مرهف، كان لا بدَّ له من ممارسة عملية النقد الفني الرفيع بتجرد يمزجه بحماس وإعجاب وحبٍّ لمعاصريه من لدن البارودي، مروراً بأحمد شوقي وحافظ إبراهيم. وبالاختصار يمكن اعتبار الرافعي في هدا المجال مؤرخاً للأدب - المصري في مطلع القرن العشرين، بحيث لا يمكن الاشتغناء عقا يقدمه من آراء ومعلومات قيمة عن الحركة الأدبية في الشعر والنثر في عصره. المؤلف في سطور هو مصظفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي: عالم بالأدب، شاعر، من كبار الكتاب. أصله من طرابليس الشام، ومولده في بهتيم (بمنزل والد أمه) ووفاته في طنطا (بمصر) أصيب بصمم فكان يُكتب له ما يراد مخاطبته به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 شعره نقي الديباجة، على جفاف في أكثره. ونثره من الطراز الأول. مؤلفات الرافعى - ديوان شعر، ثلاثة أجزاء. - تاريخ آداب العرب، جزآن. - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية. - تحت راية القرآن. - رسائل الأحزان. - على السفود، رد فيه علىْ عباس محمود العقاب. - ديوان النظرات. - السحاب الأحمر في فلسفة الحب والجمال. - حديث القمر. - المعركة، رد فيه علي الدكتور طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي ". - المساكين. - أوراق الورد. - وحي القلم، ثلاثة أجزاء. دراسات حول المؤلف وتراثه " - حياة الرإفعي ة محمد سعيد العريان. - رسائل الرافعي: محمود أبو رية. وانظر ترجمته في - المنتخب من أدب العرب 1: 55. - تراجم علماء طرابلس 211، في آخر ترجمة عمه عبد الحميد بن سعيد الرافعي. - معجم المطبوعات "26. - الأعلام: 7: 235. - المقتطف 73: 352. - مجلة الرابطة العربية، 18 ربيع الأول سنة 1357 هـ. الناشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 تنبيه نلفت القراء إلى أننا في هذا الكتاب إنما نعمل على إسقاط فكرة خطيرة، وإذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه فقد تكون غداً في من لا نعرفه، ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء، لا جهلُنا من نجهله يلطف منه، ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه. والفكرة لا تسمى بأسماء الناس، وقد تكون لألف سنة خلَت ثم تعود بعد ألف سنة تأتي، فما توصف من بعد إلا كما وُصفت من قبل ما دام موقعها في النفس لم يتغير، ولا نظنه سيأتي يوم يُذكر فيه إبليس فيقال: رضي الله عنه. ونحن مستيقنون أن ليس في جدال من نجادلهم عائدة على أنفسهم، إذ هم لا يضلون إلا بعلم وعلى بينة! فمن ثم نزعنا في أسلوب الكتاب إلى مَنحى بياني نديره على سياسة من الكلام بعينها، فإن كان فيه من الشدة أو العنف أو القول المؤلم أو التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتدي أن يضل، فما به زَجر الأول بل عظة الثاني، ولهذا في مناحي البيان أسلوب ولذلك أسلوب غيره، ألا وإن أقبح من القبح ما جهله يسمى قبحاً، وان أحسن من الحسن ما جهله حسناً، ولكل معنى باعتباره موضع، ولكل موضع في حقه وصف ولكل وصف في غرضه تعبير، ولكل تعبير أسلوبه وطريقته، فهذا ما ننبه إليه. ولو كان أصحابنا غير مَن هم في الأثر والمنزلة لكان أسلوبنا غير ما هو في النمط والعبارة، والسلام. الرافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على رسله وأَنبياء بين يدي الكتاب اللهم هيئ لنا الخير، واعزم لنا على الرشد، وآتنا من لدُنكَ رحمة. واكتب لنا السلامة في الرأي، وجنبنا فتنةَ الشيطان أن يقوى بها فنضعف، أو نضعفَ لها فيقوى، ولا تدعنا من كوكب هداية منك في كل ظلمة شك منا. واعصمنا أن تكون آراؤنا في الحق البين مكان الليل من نهاره، أو تنزل ظنوننا من اليقين النيِّر منزلة الدخان من ناره، نسألك بوجهك، ونتوسل إليك بحمدك وندعوك بأفئدة عرفتك حين كذب غيرها فأقرَّت، وآمنت بك فزُلزل غيرها واستقرت. وأما بعدُ، فإني قد نظرت فإذا كل ما كنتُ أريد أن أقوله في هذه الكلمة قد كتبتُه في هذه المقالات، فهي لا تدع مسألة ولا تترك شبهة ولا تزال تأخذ بيد القارئ فتضعها على غلطات أصحابنا المجددين، بل المبددين، واحدة بعد واحدة، وشيئاً بعد شيء، فهو منها في برهان لائح من حيث بداً إلى حيث ينتهي، كالنجم لا يزال بعين منه أين مشى وكيف تلفت. وما رأيت فئة يأكل الدليل الواحد أدلتها جميعاً كهؤلاء المجددين في العربية، فهم عند أنفسهم كالجمرة المتوقدة، لا يُشبعها حطبُ الدنيا ولكن غرفة من الماء تأكل الجمرة، وهم مخذولون بقوة الله، إذ ليس فيهم رجل فصيح بليغ يكون لهم كالتعبير من الطبيعة عن هذا المذهب، حتى يثبت مذهبهم فلا يُدفع ويقوم فلا يُنقص، ولن يأتي لهم هذا الرجل، فلو أَنه اتفق لهم لكان أشد أعدائهم، ولأغلظ فيهم النكاية، فما زال ينقصهم أبداً ولن يتموا به أبداً، وذلك من عجيب تقدير الله في العربية، لمكان القرآن منها، حتى لا يدخل في طمع أحد ولا تناله يد متناول، فهو محفوظ بالقدَر كما ترى، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) . وإن طائفة من الذباب لو أصابت حامياً مدافعاً من النسور فجاءت تطنُّ بأجنحتها لتلوذ به وتنضويَ إليه، ثم قصفَ النسر قصفة بجناحيه لأهلكها أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بعثرها وشردها، وهو كان في وهمها مَلاذاً وكان عندها حمَى فذلك مثل القوم وما يحتاجون إليه من الرجل البليغ إذا التمسوه فاصابوه! * * * أما إنه ليس يقوم العقل ما يسمى عقلاً، ولكن على ما يسمى غرضاً وحاجة ورغبة واضطراراً، فأهواء امرئ من الناس جاعلة له عقلاً غير عقل من لم تدعه نفسه إلى مثل هذه الأهواء، وإن كان أمرهما واحداً بعد. ومن هنا اختلافنا معْ هؤلاء المجددين، فإن لهم أغراضاً لا مناص أن تجعل لهم عقولاً بحَسبها وعلى مقاديرها في المصلحة والمفسَدة، وهم صُور من ضمائرهم،فليس - في الملحد يكون ضمير مؤمن، ولا في الفاجر ضمير تقي، ولا في المستهتر ضمير ورع، ومن ثم وجب أن تتحذرهم الأمة وأن تقرهم في ذلك الحيز من تخيلاتهم وأوهامهم، فهم من الأمة إذا غلبت هي عليهم وليسوا منها إذا غلبوا عليها، وما مَثلُهم إلا كالرمل والحصى، تكون في مجرى الماء العذب فتكون شيئاً من طبيعته وتحدث فيه لوناً من الحسن والرونق، وإذا هي خيال من شعر النهر، حتى إذا خرجت مع الماء وانساغت في حلق من يجرعه كانت بلاء وأذى وانقلبت للماء سُبة ورُمي بها ورميت به! وهم يريدون بآرائهم الأمة ومصالحها ومراشدها، ويقولون في ذلك بما يسعه طغيانهم على القول واتساعهم في الكلام واقتدارهم على الثرثرة، حتى إذا فتشتَ وحققت لم تجد في أقوالهم إلا ذواتهم وأغراضهم وأهواءهم يريدون أن يبتلوا بها الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، كالمسلول يصافحك ليُبلغك تحيته وسلامه فلا يبلغك إلا مرضه وأسباب موته! ولقد كان من أشدهم عُراماً وشراسة وحمقاً هذا الدكتور "طه حسين" أستاذ الآداب العربية في الجامعة المصرية، فكانت دروسه الأولى "في الشعر الجاهلي" كفراً بالله وسخرية بالناس، فكذب الأديان وسفه التواريخْ "وكثر غلطه وجهله، فلم تكن في الطبيعة توة تعينه على حمل كل ذلك والقيام به إلا المكابرة واللجاجة، فمرَّ يهذي في دروسه، ولا هو يثبت الحقيقة الخيالية ولا يترك الحقيقة الثابتة، وأراد أن يسلب أهل العلم ما يعلمونه كما يسلبك اللص ما تملك بالجرأة لا بالحق وبالحيلة لا بالإقناع، وعن غفلة لا عن بينة. وما يضحكني إلا أن أرى هذا الأستاذ واثنين أو ثلاثة من أشباهه يريدون أن يكونوا ثورة في الأدب العربي، ونسوا أنهم إنما يريدون ذلك لأنهم خُلقوا لذلك، فكان "طه" في الجامعة كالممثل، إنما وسيلته أن يتصنع ويجترئ ويزور. فلما نزعنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 عنه ثوب الرواية، نزعنا في الثوب الحادثة والرواية والممثل جميعاً، ورجع طه حسين وهو طه حسين. وأين هو أو مثله من وسائل القدرة، وما وسائلها إلا القلم الذي لا يجارى، والفكر الذي لا يُنقض، والخيال الذي لا يُلحق، والقوة المستحصدة، والطبع المستجيب، والكلام الذي تراه حياً. سامياً فتحسبه ينبع من موضع يد الله في النفس الإنسانية. على أن أستاذ الجامعة إنما يقلد الهدامين من جبابرة العقول في أوروبا. وإنه منهم ولكن كما تكون هذه الكرة الجغرافية، المدرسية التي تصور عليها القاراتُ الخمس - من كرة الأرض التي تحمل القارات الخمس. . . ولأيسرُ عليه أن يملك أوروبا أو أمريكا من أن يملك عقلاً كتلك العقول التي يحاول مثل عملها في غير هندستها ولا حكمتها ولا سموها ولا معانيها؛ وظنك أنت قد غرستَ في جناح غراب ريشة من الطاووس لتكون زرعاً يُنبت الريش من مثله فينقلب الغراب من ذلك يوماً يزدهي ويتخايل وَيبرُق ويرف بألوانه وتحاسينه، فإنه لينقلب طاووساً قبل أن تعد طه حسين عبقريا فيلسوفاً..! فالرجل متخلِّف الذهن تستعجم عليه الأساليب الدقيقة ومعانيها وأكبر ما معه أنه يتحذلَقُ ويتداهى ويتشبه بالمفكرين ولكن في ثوب الرواية. . .! هو وأمثاله المجددون يسمَّون كتَّاباً وعلماء وأدباء، إذ كان لا بد لهم من نعت وسِمة فى طبقات الأمة، غير أنهم على التحقيق غلطات إنسانية تخرجها الأقدار في شكْل علمي أو أدبي لتعارض بها صواباً كاد يهمله الناس، فيخشى الناس أن يتحئفَ الخطأ صوابهم أو يذهب به، فيستمسكون بحبله ويشدون عليه، ويعود ذلك الصواب بعد ظهور الخطأ الذي يقابله ووقوفِه بإزائه موقف العدو من العدو، كأنما ظهر دليلُه لا نقيضه، فيعرف الناس وجه الحاجة إليه، ومكان الغناء فيه، وضرورة المنفعة به، وكان وشيكاً أن يضيع، فكأنهم استنقذوه، وكل ذلك مما يُكبره ويرفعه ويُبين عنه أحسن إبانة وأوضحها، وكل ذلك مما يُغري به الحرص على سنة طبيعية قاهرة لا تُدافع؛ وما زالت هذه من عجائب حكمة الله فيما يحوط به هذا الدين الإسلامي وكتابه العربي الخالد، فكلما وهَن عصر من عصوره رماه الله بزنديق فإذا الناس أشد ما كانوا طيرة وأبلغ ما كانوا دفعاً ومحاماة، وإذا الدين أقوى ما كان فيهم وأثبت، وإذا الزنديق كأنما سِيقَ إليهم من جهنم ليقول لهم: هلم إليها! فيقول ميسم النار عليه: إياكم وإياها! فالمجددون الملحدون هم جزء من الخطأ يخرج من عمله جزء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الصواب، وما أشبههم بالمواد السامة يُدافُ قليلها في الدواء لتكون قوته من قوتها، فإذا مازجته عادت فيه غير ما كانت وهي في نفسها لا تزال كما هي. وما نريد أن نزيد "طه " على ما قلنا فيه مما ستقرأه في هذا الكتاب، ولكنا نرجو أن يهديه الله فيكون من أمته ويعود إليها، فإنه إن لم يكن بها لا يكن بغيرها، وإنها إن لم تكن به تكن بغيره. وقد كان أمره وأمر أصحابه كما يكون من الوباء يمر بالدنيا مرة فيصيب منها ولكنه يترك في أيدي أطبائها المصل الواقي منه أبدَ الدهر؛ ولقد تركوا لنا هذا الكتاب؛ فالله نسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، نافعاً بهذه النية، مثوباً بهذا النفع؛ وله الحمد في الأولى والآخرة. مصطفى صادق الرافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 المذهبان القديم والجديد "كتب أحد الكتاب فصلاً في مجلة الهلال" الغراء، نحلنا فيه زعامة المذهب القديم، وسمي جديداً وسمي قديماً واحتج ونازع، فرددنا عليه بهدا الفصل" زعم الكاتب فيما كتب أن ما نقول به، من احتذاء العرب في أساليبهم والارتياض بكلامهم، والحرص على لغتهم، وأن يكون الكاتب في هذه اللغة حَسن البيان، رشيق المعرِض، رائع الخلابة، يتثبت في ألفاظه وينظر في أعطاف كلامه ويفتن في أساليبه - كل هذا وما إليه "مذهب قديم". "ووطنية أدبية" ترجع العلة فيها إلى ذلك العقل الباطن الذي يخلط بين الدين والقومية والأدب العربي. ثم قال: "وإن أهل المذهب القديم يهملون العلم، لأن العلوم تتعارض ومعتقدات العرب،. وظاهر أنه يعني بالعرب المسلمين لا غيرهم، فإن الجاهلية أصبحت من أكاذيب التاريخ وبَلِيَتْ معتقداتها بلَى أدخلها في قبور أهلها. فالمذهب القديم إذاً هو أَن تكون اللغة لا تزال لغة العرب في أصولها وفروعها، وأن تكون هذه الأسفار القديمة التي تحويها لا تزال حية تنزل من كل زهن منزلة أمة من العرب الفصحاء، وأن يكون الدين العربي لا يزال هو هو كأنما نزل به الوحي أمس لا يَفتننا فيه علم ولا رأي، وأن يأتي الحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء لا منفعة فيهما معاً إلا بقيامهما معاً. ولكن ما هو المذهب الجديد؛ أنأخذ بالمقابلة فنقول: إذا كان الأبيض هو القديم فالأسود هو الجديد، وإذا كانت الفصاحة، وإذا كان الحرص على ميراث التاريخ، وإذا كان القانون الطبيعي للفضيلة الاجتماعية، وإذا كنا نولد بجلود كجلود آبائنا - فالركاكة، وإهمال القومية التاريخية، والتحلل من قيود الواجبات، والانسلاخ من الجلد لأنها ليست أوروبية - كل هذا جديد لأن كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ذلك قديم؟.. أم هناك حقيقة ثابتة محدودة خفيتْ على عِظمها وخطرها في هذه اللغة خفاء أمريكا في هول المحيط.. حتى بعث الله لها في أيامنا هذه من يرميها ببصره فكشفها وسماها وكان منها المذهب الجديد وكانت هي إياه. لو تأمل أصحابنا تاريخ هذه اللغة وآدابها لرأوا في كل عصر من عصورها شيئاً كان يمكن أن يسمى مذهباً جديداً، ولكنا لم نجد أحداً سماه كذلك ولا بناه على أنه شيء بنفسه إلا في هذه الأيام الأخيرة، ثم لم نجده إلا في هؤلاء الذين غلبت عليهم صناعة الترجمة ورجعوا من العربية إلى طبع ضعيف ومادة واهنة، فورد عليهم من الصناعة ما لا تقوم به أداتهم وسال بهم الوادي عجزاً، فلم يكن بدٌ من أن تُدخِل اللغات الأعجمية الضيمَ على عربيتهم، وصار أكثرهم بِلغتيه كالميزان ثقلت كفة منه فرجحت وخفت الأخرى فظهرت فارغة. . . ولو هو وضع في هذه وزنَ ما في تلك وكافاً بينهما لانقلب الأمر وكانتا على سواء فلا واف ولا ناقص. العلة في الحقيقة لا ترجع إلى مذهب قديم أو جديد، بل إلى الضعف في لغة والقوة في أخرى، وإن صاحب المذهب الجديد.. أخذ بالحزم في واحدة وبالتضييع في الثانية، وأكثر من الإقبال على شيء دون الآخر، فتعلق به وأمضى أمرَه عليه وحسنت نيته فيه واستمكنت فصارت إلى نوع من العصبية للأدب الأجنبي وأهله، فلما ضربتْ هذه العصبية واستحكمت وجهت الذوق في الأدب وأساليبه إلى تفسير معين بحكم المذهب والهوى ثم جعلت الفهم من وراء الذوق. وأنت تعلم أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو عن فهمه، وأن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعاً، ومن ههنا جاء ذلك الخطأ الذي يحسبونه صواباً، على أنك واجد في القوم من لا تتهم فهمه ولكنك لا تبرئ إنصافه، ومن لا تتهم فيه هذا ولا ذاك ولكنه مع ذلك يجيء فهمه خطأ لأنه لا يريد أن يجيء إلا هكذا. . . لمكان العصبية من نفسه لرأي على رأي، أو شخص على شخص، أو دين على دين، مما لا يكون الشأن فيه إلا للحس الباطن. وقد قال علماء الأدب إنه لما اتسعت ممالك العرب وكثرت الحواضر ونزعت البوادي إلى القرى وفشا التأدب والظرف، اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء كئيرة فاختاروا أحسنها مسمعاً وألطفها من القلب موقعاً، وإلى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلسها وأشرفها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 كما رأشهم يختصرون (الطويل) ، فإنهم وجدوا للعرب فيه نحواً من ستين لفظة أكثرها بشع شنع. . . فنبذوا جميع ذلك وتركوه واكتفوا بالطويل لخفته على اللسان. وقع هذا ومثله في عصر بعد عصر، وما رأينا أحداً سماه مذهباً جديداً أو زعمه، والقرآن نفسه مذهب جديد بكل معاني هذه الكلمة، وما قال فيه أحد هذا القول لا من أهل اللغة ولا ممن دخلوا عليها؛ وقد نقل عبد الحميد الكاتب أشياء من الأساليب الفارسية فأدخلها في كتابته، وترجم العلماء عن اللغات المختلفة أكثر مما يترجم كتاب هذه الأيام، ومنهم من كان يرجع في التصحيح وتحرير الألفاظ إلى رجال أهدفوهم لذلك من العلماء باللغة، وظهرت الأفكار المتياينة، وتعددت الأساليب في الكتابة، وافتن المتأخرون من القرن الرابع إلى التاسع في فنون من الجد والهزل، وفي نكت بديعية لم يعرفها العرب إلى أن اختلط لسانهم، وفي كل ذلك لم يقل أديب ولا عالم ولا كاتب إن له مذهبا جديداً من مذهب قديم، لأنهم كانوا أبصر باللغة وأقدر على تصريفها وأعلم بحكمة الوضع فيها وأحرص على وجوه الفائدة منها والانتفاع بها، ثم كانت أسباب اللغة ميسرة لهم، ينشأ الناشئ منهم على حفظ ورواية، ويتلقى عن أشياخ ثقات قد أخلصوا نيتهم للعلم وناصحوا عن أنفسهم فيه وجمعوا واستوعبوا وكأنما عُصرت أرواحهم من الفنون عصراً، وكان في الواحد منهم روح مكتبة كبرى. فلما تعطل الزمن وأصبح الأدب صَحفيا.،. وآلت العربية وآدابها إلى بضعة كتب مدرسية، وانزوى ذلك العلم المستطيل وأصبحت المكاتب له كالقبور المملوءة بالتوابيت. . . "، وفشت العصبية بيتا للأجنبي وحضارته - رجع الأمر على مقدار ذلك في صغر الشأن وضعف المنزلة، واجتاج أهل هذا القليل من العربية إلى أن يعتبره كلا بنفسه لا جزءاً من كله، فكان لذلك مذهباً وكان مذهباً جديداً. . . وإذا أنت لم تجد في كل علماء المتقدمين من استطاع أن يقول إنه صاحب مذهب جديد في اللغة أو يرى لنفسه رأياً إلا أنه يعمل لحفظها ونمائها ورونقها، وإلا أنه يُرفق ما استطاع ويتصرف بما أطاق - فإنك واجد في أهل سنة 1923. . . من يقول في هذه اللغة بعينها: "لك مذهبك ولي مذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ولك لغتك ولي لغتي. . . فمتى كنت يا فتى صاحبَ اللغة وواضعها ومنزِّل أصولها ومخرج فروعها وضابط قواعدها ومُطلق شواذها؛ ومن سلم لك بهذا حتى يسلم لك حق التصرف "كما يتصرف المالك في ملكه!. وحتى يكون لك من هذا حق الإيجاد، ومن الإيجاد ما تسميه أنت مذهبك ولغتك؛ إنه لأهون عليك أن تولد ولادة جديدة فيكون لك عمر جديد تبتدئ فيه الأدب على حقه من قوة التحصيل وتستأنف دراسة اللغة بما يجعلك شيئاً فيها - من أن تلد مذهباً جديدا أو تبتاع لغة تسميها لغتك، فإنك عُمر واحد في عصر واحد بين ملايين من الأعمار في عصور متطاولة، وإن ما تحدثه على خطأ لا يبقى على أنه صواب، ولن يبقى أبداً إلا كما تبقى العلة على أنها علة، فلا يقاس عليها أمر الصحيح ولا يحكم بها فيمن لم يعتل. إن أرادوا بالمذهب الجديد العلم والتحقيق وتمحيص الرأي والإبداع في المعنى، على أن تبقى اللغة قائمة على أصولها، على أن يكون التفنن "طرائق " كما قيل مثلاً في ابتداع القاضي الفاضل الذي سموه الطريقة الفاضلية. لا مذاهب يراد بها إثبات ومحو - فإننا لا ندفع شيئاً من هذا ولا ننازع فيه، بل هو رأينا، بل هو رأي الحياة، بل هو قانون الطبيعة، ولكنا مع هذا نزيد عليه أن الأصل في كل ذلك سلامة اللغة وسلامة القومية، فلا ننظر في آراء الأمم إلا على أننا شرقيون، ولا ننقل من لغات الإفزنج إلا على أننا أهل لغة لها خصائصها، ولا تصرفنا مدنيتهم عن أنفسنا، ولا تأتي بسيوفهم لرقابنا. وبنزغاتهم بقلوبنا، وكوكايينهم لأنوفنا..، بل يُؤثر الفضيلة على الرأي وإن كان من رأس المجنون "نيتشه" ونرغب في المصلحة الجافية الخشنة على المفسدة اللينة الناعمة وإن كانت نعومة الأنوثة الباريسية. وانظر كم بين من يسلم لفلان وغيره من علماء أوروبا لأنهم من علماء أوروبا، وبين من لا يسلم إلا عن اقتناع وعن بينة من المصلحة والعائدة وبعد أن تبلغ الحجة مبلغها! فهذا فلان كاتب شرقي ينزع إلى الاشتراكية ويدين بها ويراها مائدة الخالق التي مُدت في أرضه للناس جميعاً، وينعى علينا أننا نتجاهلها كأننا لم نلمَّ بها، على أننا نراها تلك المائدة بعينها غير أننا نزيد عليه أنها ممدودة للناس جميعاً ليتدافع عنها الناس جميعاً فلا يصل إليها أحد. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ونفضل على كل هذه المائدة الخيالية بما حفلت به من لذائذها وألوانها، تلك اللقيمات التي يفرضها نظام الزكاة في الإسلام فرضاً لا يتم الإسلام لأحد إلا به وعلى هذا فاعتبر ولا يفوتن صاحبنا أن كثرة الآراء في هذا العصر وكثرة العقول المفكرة والاستقلال الفكري التام. . . بلا قيد ولا شرط، ثم الرغبة في أن يكون لكل عقل أثر في الاجتماع، ولكل أثر دليل عليه، ولكل دليل اتباع - كل ذلك سينتهي إلى أن تكون علة الاجتماع الإنساني لا بُرءَ منها إلا بالقيود الإلهية التي تسمى " الأديان "، وها نحن أولاء نرى في أوروبا وأمريكا أن من الغفلة ما هو مذهب، ومن الرقاعة مذهب، ومن تسفل الشهوات مذهب، ومن الجنون مذهب، ومن كل شذوذ مذهب، ومن غير المذهب مذهب أيضاً.. تلك واحدة، والثانية: أنهم إن أرادوا بالمذهب الجديد أن يكتب الكاتب في العربية منصرفاً إلى المعنى والغرض، تاركاً اللغة وشأنها، متعسفاً فيها، آخذاً ما يتفق كما يتفق، وما يجري على قلمه كما يجري، معتبراً ذلك اعتبار من يرى أن مخه بلا غلاف من عظام رأسه، وأن عظام رأسه كعظام رجليه، وأن أصابع قدميه كأهداب عينيه، وأن مطلق التركيب هو مطلق النظام والمناسبة، وأن اللغة أداة ولا بأس بالأداة ما اتفق منها، ولا بأس أن يمزع الجراح مزعاً من جلد العليل بأسنانه أو بأظافره أو بنصل الفأس. . . ما دامت معقمة. وما دام ذلك بعينه هو فعل المِبضَع لا يزيد المبضع عليه إلا في الدقة - إن أرادوا بهذا أو أشباهه ما يسمونه المذهب الأدبي الجديد، قلنا: لا، ثم لا، ثم لا - ثلاث مرات! فأما الأولى فإن خيراً من ترك الجاهل في جهله أن يُزجَر عن جهله. وإذا كان مذهب الضعف أن لا يحمل عليه إلا بقدره وفي طاقته، فهل يجعل ذلك أصلاً للقوة؛ والضعف إن هو إلا استثناء منها، وقاعدة الاستثناء أن يُقيَّد بنصه ولا يُتوسع فيه. . . ثم أيما خير لآدابنا وعلومنا وكتبنا: أن نحرص على الأصل الصحيح القوي الذي في أيدينا ونحتمل فيه ضعف الضعفاء ونصبر على مدافعتهم عن إفساده حتى ينشأ جيل أقوى من جيل وتخرج أمة خير من أمة فتجد الأصل سليماً فتبني عليه وتزيد فيه، أم ندع الصلاح للفساد ونتراخى في القوة حتى تحول ضعفاً فإذا جاء من بعدنا وجدَ الأصل فاسداً فزاده فساداً، ويعود مذهبنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الجديد بعد حين من الدهر مذهباً قديماً فيُستحدَث منه جديد على نمط آخر. ثم يتقادم* هذاً أيضاً على السنة نفسها، وهلم إلى أن تصير هذه العربية في بعض أزمانها لعنةَ على كل أزمانها، فتُنسخ جملة واحدة ويصبح الكلام المأنوس الذي تراه اليوم سهلاً ليناً وهو الجاسِي الجِلف الغليظ الذي يحسن ترجمته يومئذ إلى عالم بصير بما كان يسمى من قبل فعلاً واسماً وحرفاً.،. وإلا فليقل لنا أصحاب المذهب الجديد. ما هو حدُّ التجديد عندهم؛ ولم يقصرونه على حد معين؛ بل كيف يقصرونه وفي الناس من هو أضعف من ضعيفهم فوجب أن يكون له جديد من جديدهم على مقدار صعفه، ما دام شكل القياس واحدا والقضية فيه واحدة والعلة لا تختلف! وأما الثانية، فإن هذه العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلا من لا حَفل به من زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق. فإذا كان المعجِز فى لغة من اللغات بإجماع علمائها وأدبائها هو من قديمها خاصة، فهل يكون الْجديد فيها كمالاً يسمو أم نقصاً يتدلي؟ . . . . . . ثم إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة، ولا يدنو الفهم منها إلا بالمِران والمزاولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء عليها وأحكام - اللغة والبصر بدقائقها وفنون بلاغتها والحرص على سلامة الذوق فيها، وكل هذا مما يجعل الترخص في هذه اللغة وأساليبها، ضرباً من الفساد والجهل، فلا تزال اللغة كلها مذهباً قديماً، وإنما يكون المذهب الجديد فيها رجلاً إلى حين. . . ثم يدخل مذهبه القبر. . . . . . وما عسى أن يصنع كاتب وعشرة ومائة وألف في لغة يخفق على كتابها المعجز - أربعمائة مليون قلب؛ وكم من أسلوب ركيك أو ضعيف أو عامي ظهر في هذه اللغة منذ دَونوا وكتبوه، وكم، من فكر فاسد أو زائغ أو مدخول، وكم من كتاب كان يصلح أن يسمى بلغة اليوم مذهباً جديداً - فأين كل ذلك وأين أثره في اللغة وأساليبها بعد ثلاثة عشر قرناً؛ لقد ابتلعته ثلاث عشرة موجة فانحدر إلى أعماق الموت الطامي! . . . . . . . على أني رأيت لأصحاب "المذهب الجديد" أصلاً في تاريخ الأدب البربي، وكانت جذوره ممن انتحلوا الإسلام وهم يدينون بغيره، وممن كانوا يدينون وتزندقوا فيه، حتى قال الجاحظ في بعض رسائله - يعني هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وأولئك -: "فكل سخنة عين رأيناها في أحداثنا وأغبيائنا تأمل، فمن قبَلهم كان أولها" ورحم الله أبا عثمان، إن التاريخ ليعيد نفسه اليوم "بسخنة عين جديدة". وأما الثالثة فإن الخاصية في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها، ولكن في تركيب ألفاظها، كما أن الهزة والطرب ليست في النعمات ولكن في وجوه تأليفها. وهذا هو الفن كل الفن في الأسلوب، لأنه يرجع إلى الذوق الموسيقي في حروف هذه اللغة وأجراس حروفها، وأشهد ما رأيت قط كاتباً واحداً من أهل "المذهب الجديد" يحسن شيئًا من هذا الأمر، ولو هو أحسنه لانكشف له من إحسانه ما لا يُبقي عنده شكًّا في إبطال هذا المذهب وتوهيته، ولذا تراهم يعتلون لمذهبهم الجديد بالفن والمنطق والفكر وبكل شيء إلا الفصاحة، وإذا فصُحُوا جاؤوا بالكلام الفج الثقيل، والمجازات المستوخِمة، والاستعارات الباردة، والتشبيهات المجنونة.، والعبارات الطويلة المضطربة التي تقع من النفس كما تقع الكرة المنفوخة من الأرض لا تزال تنبو عن موضع إلى موضع حتى تهمد!. ولا نريد أن نطيل في هذا الوجه، فقد استوفينا أكثر الكلام عليه في الجزء الثاني من "تاريخ آداب العرب "، وإنما نقول إن الكلام الوحشي الغريب ينقسمِ إلى قسمين: ما كان خشناً مُستغرَباً لا يعلمه إلا باحث مطلع. وما كان مأنوسا واقعاً في غير موقعه، كما ترى في أساليب بعض كتاب هذه الأيام التي تنفجر بما لا يطاق على رقتها وتهب عليك هبوب النسيم ولكنه بين موضع وموضع لا بد أن يكنس الأرض. . .! فالقسم الأول نافر بنفسه،. فهو وحشي على حالة واحدة لا تختلف. والثاني نافر بموضعه، فهو وحشي يعلو ويسفل على مقدار اضطرابه، ثم هي وحشية المذهب الجديد اختص بها ولا يكادون يتنبهون إليها. هذه كلمة لم نعرض في إجمالها للتفاصيل وإنما حَدَرناها حدراً، وإذا أنت أردت تشبيهاً في مخاصمة المذهب الجديد للقديم وما يتوهمه هذا الجديد وما ينتهي إليه أمره، قلنا لك التمس رجلاً يرى ظل رأسه على حائط فيضربه برأسه الذي على عنقه. -.! ولكن اعلم أنا وإياك إلا نحذره ونمنعه فقد جنينا عليه وإن لم نمسه بأذًى، وإن كان هو برأسه فَلق رأسه..! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الميراث العربي كان أبو خالد النميري في القرن الثالث للهجرة، وكان ينتحل الأَعرابية ويتجافى في ألفاظه ويَتبادى في كلامه ويذهب المذاهب المنكرة في مضغ الكلام والتشدق به، ليتحقق أنه أعرابي وما هو به، وإنما ولد ونشأ بالبصرة، قالوا فخرج إلى البادية فأقام بها أياماً يسيرة ثم رجع إلى البصرة فرأى الميازيب على سطوح الدور فأنكرها وقال: ما هذه الخراطيم التي لا نعرفها في بلادنا. . .؟ فهذا طرَف من العربية يقابله التاريخ في زماننا هذا بطرف آخر من جماعة قد رُزقوا اتساعاً في الكلام إلى ما يفوت حد العقل أحياناً، ووهبوا طبعاً زائغاً في انتحال المدنية الأوروبية إلى ما يتخطى العلل والمعاذير، ورأوا أنفسهم أكبر من دهرهم، ودهرهم أصغر من عقلهم، فتعرف منهم أبا خالد الفرنسي، وأبا خالد الإنجليزي، وغيرهم من أجازوا إلى فرنسا وانجلترا فأقاموا بهما مدة ثم رجعوا إلى بلادهم ومَنبتهم ينكرون الميراث العربي بجملته في لغته وعلومه وآدابه، ويقولون: ما هذا الدين القديم؛ وما هذه اللغة القديمة؟ وما هذه الأساليب القديمة؟ ويمرُّون جميعاً في هدم أبنية اللغة ونقض قواها وتفريقها. وهم على ذلك أعجز الناس عن أن يضعوا جديداً أو يستحدثوا طريفاً أو يبتكروا بديعاً، وإنما ذلك زيغ الطبع، وجنون الفكر، وانقلاب النفس عكساً على نشأتها، حتى صارت علوم الأعاجم فيهم كالدم النازل إليهم من آبائهم وأجدادهم وصار دخولهم في لغة خروجاً من لغة، وإيمانهم بشيء كفراً بشيء غيره كأنه لا يستقيم الجمع بين لغتين وأدبين، ولا يستوي لأحدهم أن يكون شرقياً وإن في لسانه لغة لندن أو باريس! ومنهم كتاب يكتبون بالعربية ويرتزقون منها - وأدباء يبحثون في آدابها وفنونها، وكلهم مجيد محسن إلا حيث يكتب كاتبهم في إصلاح الكتابة ويبحث باحثهم في إصلاح الأدب، فهنالك ترى أكثر هَمِّ الأول أن تسلم له عاميته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فلا ينكر عليه ضعف ولا لحن ولا يهجن له أسلوب ولا عبارة وأن يكون له كل ما يعرض له من النقص معتبراً من الكمال العصري. . . وترى همَّ الثاني أن يُكره الآداب العربية على أساليب غيرها ويقتسرها جزاً وتلفيقاً وتلزيقاً ويبسط فيها المعاريض الكلامية، فهذا عنده كذب ولا دليل عليه، وهذا محال ولا برهان فيه، وهذا قائم على الشك، وذاك على ما لا أدري ولا يدري أحد. حدثني كاتب شهير من هذه الفئة، فكان من أعجب ما قال: إن ابن المقفع فصيح بليغ، وهو مع ذلك ليس بمسلم ولا عربي ولا شأن له بالحديث ولا بالقرآن ولا بالدين، وساق ذلك رداً على ما قلته من أن لا فصاحة ولا لغة إلا بالحرص على القرآن والحديث وكتب السلف وآدابهم. ولا أدري والله كيف يفهم هذا وأمثاله، ولكنك تتبين في عبارته مبلغ الغفلة التي تعتري هذه الفئة من نقص الاطلاع وضعف الفكر وبناء الأمر على بحث صَحفي بلا تحقيق ولا تنقيب، وترى كيف يذهبون عن الأصل الذي يقوم عليه الغرض ثم يحاولون أن يؤصلوا له على قدر عقولهم وأفهامهم، وقد تفلح الفلسفة في كل شيء إلا في تعليل ما علته معروفة، وهل نشأ ابن المقفع إلا على اللغة العربية والأدب العربي والرواية العربية، وكان من أقوى أسباب فصاحته المشهورة أخذه هذه الفصاحة وهذا الأسلوب عن ثور بن يزيد الأعرابي الذي قالوا فيه إنه كان من أفصح الناس لساناً. ولكن أين من ينقب عن هذا ونحوه في تلك الجماعة أو - يتوهمه فيقف عفى حذه، وهل علموا أن ابن المقفع على انصرافه إلى النقل من الفارسية ولليونانية اختار يوماً أسلوب العامة في زمنه، أو استجاده للنقل والترجمة، أو خرج على الأدب الذي تادب به أو حاول فيه محاولة، أو قال بوجوب هدم القديم لأنه لا يرى للعرب مثل الذي لا يعرف لليونان من العلم والحكمة والخيال وأساليب الحكاية الكتابية، أو نزل بأسلوبه وكتابته منزلة من يمكُر الحيلة في اللغة أو يكيد للأدب أو يساهل نفسه لغرض كالذي في نفوس هؤلاء المجددين؟ قال لي ذلك الكاتب في بعض كلامه؛ إن الميراث العربي القديم الذي ورثناه يجب هدمه كله وتسويته بالعدم. تلت: أفتحدث أنت للناس لغة وأدبا وتاريخاً ثم طبائع متوارثة تقوم على حفظ اللغة والأدب والتاريخ أم تحسب أنك تستطيع بمقالة عرجاء في صحيفة مقعدة. . . أن تهدم شيئاً أنت بين أوله وآخره كعود من القش يؤتى به لاقتلاع جبل من أصوله. من أين جاء الميراث العربى وكيف اجتمع وتكامل إلا من القرآئح التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 جدَّت في إبداعه وإنمائه، وأضافت أعمارها صفحات فيه، واستخلصت له آداب الفرس والهند واليونان وغيرهم، فأعربت كل ذلك ليندمج في اللغة لا لتندمج اللغة فيه، وليكون من بعضها لا لتكون من بعضه، وليبقى بها لا لتذهب به؟ ومن ذا الذي يزعم أن العرب هم كل الأرض، وأن آدابهم خلقت على الكفاية لا تحتاج إلى تحرير أو تبديل؛ ولكن من ذا الذي يرضى أن يجعل لكل أرض عربية لغة عربية قائمة بنفسها، ولكل مصر أدباً على حياله، ولكل طائفة من الكتاب كتابة وحدها؛ ومن ذا الذي فعل ذلك أو حاوله في التاريخ الإسلامي كله على طول ما امتد وتساوق؟ لقد كانت القبائل العربية مادة هذه اللغة وسبب اتساعها واستفاضتها. وكان فحول الشعراء من الجاهلية كأنَّ كل واحد منهم قبيلة في التفنن والإبداع مجازاً واستعارة وبديعاً، ثم جاء القرآن الكريم فكان الغاية كلها، ثم تتابع الشعراء والكتاب والأدباء فمن لم يزد منهم على الموجود لم ينقص منه، ثم جاء أدباء المترجمين وفيهم من جمع البراعة من أطرافها فكانوا هم القبائل الحديثة في معاني اللغة وفنونها، وكان مذهبهم في كل ما ترجموه وما اقتبسوه هذه الكلمة التي قالها العتابي " اللغة لنا والمعاني لهم" يريد العجم. وكان ينسخ من كتبهم وقد يسافر في طلب الكتب شهراً، والعتابي من أبلغ من أخرجتهم العربية وكان واحد دهره في الأجوبة المسكتة ولولا فصاحته لما بقي اسمه. فلو صنعت القبائل الحديثة من أبي خالد الفرنسي إلى أبي خالد الإنجليزي هذا الصنيع لكان رأس أمرهم الحرص على اللغة، ثم إن شدُّوا عليها أيديهم فسيحرصون على كتبها التي هي مادتها، ثم إن جمعوا هذه فيدرسونها ويتناقلونها، ثم إن هم تدارسوها فقد رسخت فيهم الملكة واستحكم عندهم الذوق وانقاد لهم الطبع واستفحصوا واستجادوا؛ فإذا انتهينا إلى هذا لم يبق من موضوع يخالفون عليه، وصار أدباء اللغة جميعاً جنساً واحداً ولم يبق إلا النقد يبين شخصاً من شخص وطريقة من طريقة، واللغة بعدُ محفوظة سليمة وإليها المرجع كله ولها العمل كله وهي الأمر كله، وهذا ما تقوم عليه آداب الأمم المستقلة المنفردة بجنسيتها ومقوماتها. ألا يرى أبو خالد الإنجليزي وأبو خالد الفرنسي كيف تُباهي كل أمة في أوروبا بلغتها، وكيف يفخر الفرنسيون بلسانهم حتى إنهم ليجعلونه أول ما يعقدون عليه الخنصر إذا عدوا مفاخرهم ومآثرهم، وهل أعجب من أن المجمع العلمي الفرنسي يؤذن في قومه بإبطال كلمة إنجليزية كانت في الألسنة من أثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الحرب الكبرى ويوجب إسقاطها من اللغة جملة، وهي كلمة "نظام الحصر البحري "، وكانت مما جاءت مع نكبات فرنسا في الحرب العظمى، فلما ذهبت تلك النكبات رأى المجمع العلمي أن الكلمة وحدها نكبة على اللغة كأنها جندي دولة أجنبية في أرض دولة مستقلة بشارَته وسلاحه وعلمه يعلن عن قهر أو غلبة أو استعباد! وهل فعلوا ذلك إلا أن التهاون يدعو بعضه إلى بعض، وأن الغفلة تبعث على ضعف الحفظ والتصوُّن، وأن الاختلاط والاضطراب يجيء من الغفلة، والفساد يجتمع من الاختلاط والاضطراب. إنما الأمور بمقاديرها في ميزان الاصطلاح، لا بأوزانها في نفسها، فألف جندي أجنبي بأسلحتهم وذخيرتهم في أرض هالكة بأهليها ربما كانوا غوثاً تفتحت به السْماء، ولكن جندياً واحداً من هؤلاء في أمة قوية مستقلة، تنشق له الأرض وتكاد السماء أن تقع، فالمذهب الجديد فساد اجتماعي ولا يدري أهله أنهم يضربون به الذلة على الأمة. وتلك جنايتهم على أنفسهم وجنايتهم على الناس بأنفسهم، وهم لا يشعرون بالأولى فلا جرم لا يأنفون من الثانية! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الجملة القرآنية نبهتني إحدى الصحف العربية التي تصدر في أمريكا عندما تناولت الكلام على " رسائل الأحزان" بقول جاء في بعض معانيه أني لو تركت "الجملة القرآنية" والحديث الشريف ونزعتُ إلى غيرهما لكان ذلك أجدى على ولملأت الدهر ثم لحطمتُ في أهل المذهب الجديد حطمةَ لا يبعد في أغلب الظن أن تجعلني في الأدب مذهباً وحدي! ولقد وقفت طويلاً عند قولها " الجملة القرآنية" فظهر لي في نور هذه الكلمة ما لم أكن أراه من قبل، حتى لكأنها "المكرسكوب! وما يجهر به من الجراثيم مما يكون خفيا فيستَعْلن ودقيقاً فيستعظم، وما يكون كأنه لا شيء ومع ذلك لا تعرف العلل الكبرى إلا به. وإاذا أنا تركت الجملة القرآنية وعربيتها وفصاحتها وسموها، وقيامها في تربية الملكة وإرهاف المنطق وحل الذوق مقام نشأة خالصة في أفصح قبائل العرب، وردَّها تاريخنا القديم إلينا حتى كأننا فيه، وصلتنا به حتى كأنه فينا. وحِفظِها لنا منطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنطق الفصحاء من قومه حتى لكان ألسنتهم، عند التلاوة هي تدور في أفواهنا وسلائقهم هي تقيمنا على أوزانها - إذا أنا فعلت ذلك ورضيته، أفتراني أتبع أسلوب الترجمة في الجملة الإنجيلية. . . وأسِفٌ إلى هذه الرطانة الأعجمية المعربة، وارتضخ تلك اللكنة المعوجة. وأعين بنفسي على لغتي وقوميتي، وأكتب كتابة تميت أجدادي في الإسلام ميتة جديدة فتنقلب كلماتي على تاريخهم كالدود يخرج من الميت ولا يأكل إلا الميت، وأنشئ على سنتي المريضة نشأة من الناس يكون أبغض الأشياء عندها هو الصحيح الذي كان يجب أن يكون أحب الأشياء إليها؟ كنت أعرف أن صاحبنا الكاتب البليغ المدقق الشيخ إبراهيم اليازجي لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أرادوه على تصحيح ترجمة الأناجيل رغب إليهم أن يصرف قلمه في الترجمة فينزلها منزلتها من اللسان ويتخير ألفاظها ويزيل عجمتها ويخلصها من فساد التركيب وسوء التأليف ويفرغ عليها جزالة ويجعل لها حلاوة، فأبوا عليه كل ذلك ومنعوه منه وأقاموه فيها بمنزلة من يعرب آخر الكلمة فعليه أن يترك الكلمة إلا آخرها. . . كنت أعرف ذلك وما فطنت يوماً إلى سببه حتى قولة "الجملة القرآنية" كالمنبهة عليه، فرأيت القوم قد أثمرت شجرتهم ثمرها المر وخلف من بعدهم خلف أضاعوا العربية بعربيتهم وأفسدوا اللغة بلغتهم ودفعوا الأقلام في أسلوب ما أدري أهو عبراني إلى العربية أم عربي إلى العبرانية لا يعرفون غيره ولا يطيقون سواه، وترى أحدهم يهوي باللغة إلى الأرض وإنه عند نفسه لطائر بها في طيارة من طراز زبلن. . .! وليتهم اقتصروا على هذا في أنفسهم وأنصفوا منها، بل هم يدعون إلى مذهبهم ذلك، ويعتدونه المذهب لا معدل عنه، ويسمونه الجديد لا رغبة عن دونه، ويعتبرونه الصحيح لا يصح إلا هو، وكلهم يعلم أنه ليس بصاحب لغة ولا هو معنى بها ولا كان ممن يتسمون بعلومها؛ ثم ينقلهم هذا العبث إلى آراء كآراء الصغار في الأمور الكبيرة فيحاولون أن يختلقوا في اللغة فطرة جديدة غير تلك الأولى التي وضعت عليها جبلتها واستقام بها أمرها وتحقق إعجاز الفصاحة العربية بخصائصها. ومرجع هذا البلاء كله أن عربية الجملة الإنجيلية تغزو عربية الجملة القرآنية من حيث يدري أولئك أو لا يدرون، فما أشبه هذه الأساليب الركيكة في مَقرها من الآداب العربية بالمرض الموروث الكامن في الجسم الصحيح يتربص غفلة أو علة أو تهاوناً فيظهر فإذا هو مشغلة للصحة، ثم يستشري فإذا هو مَفسدة لها، ثم يضرب فيتمكن فإذا هو مزاج جديد، ثم إذا هو الموت بعد! على أني لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية والنزول باللغة دون منزلتها إلا واحداً من ثلاثة، مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي أمة به ولن تكون أمة إلا به، وإما النشأة في الأدب على مثل منهج الترجمة في الجملة الإنجيلية والانطباع عليها وتعوج اللسان بها، وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث هو الضعف فإنه ليس كل كاتب يبلغ، ولا كل من ارتهن نفسه بصناعة نبغ فيها لان هو نسب إليها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وإن عد في طبقة من أهلها. والكتابة صناعة لها أدواتها، وفيها النمط الأعلى والأوسط وما دون ذلك. أفمن الرأي أن نعين المستعمرين على خصائصنا ومقوماتنا، أو نتخذ في اللغة أدياناً شتى، أو نجعل قياس العلم من الجهل في بعضه والضعف عن بعضه؛ وإلا فماذا بقي بعد هذه الثلاثة مما ينفسح له جانب العذر إن نحن قلنا بمذهب جديد في اللغة؟ أحسب إخواننا في مصر أنهم كانوا يحسنون اليوم شيئاً من الكتابة الفصيحة لو لم يكن في العصر الذي خلا من قبلهم أمثالُ السيد جمال الدين ومحمد عبده وعلي يوسف والبارودي والمويلحي وغيرهم ممن دفعوا الاستعمار عن اللغة ببلاغتهم، وردوا أساليب السياسة اللغوية بأساليب الفصاحة، وأشرعوا دون الميراث العربي أقلامهم، وحاطوه بألسنتهم، وحفظوه بعقائدهم، حتى أمنوا عليه أن ينتقص أو يمحق أو يزول. . . ألا فليقرأوا هذه البلاغة الجديدة. . . التي أنقلها بحروفها عن صحيفة عربية إسلامية تصدر في طنجة، وليتأملوا أكان فيهم من يكتب اليوم أبلغ منها بعد أربعين سنة ونيف من الاحتلال الإنجليزي والاحتلال الآخر الأوروبي في زيغ الطباع وفسادها، لولا تلك النفوس الشرقية العربية الكبيرة التي كانت في هذا السييل كنفوس الأنبياء قائمة على أنها حمى للحق وشعار فيه ودعوة إليه. وجهاد من دونه؟ قالت الصحيفة وهي تبحث في تاريخ الحج وتكتب كلاماً لم يبق منه معنى ولا لفظ ولا صيغة إلا وردت في الكتب المختلفة بأفصح عبارة وأبلغ أسلوب، بل هو من بعض دين ذلك الكاتب. واقراً ماذا قالت: "زيارة الكعبة المعظمة فريضة على كل مسلم ومسلمة، لو عندهم استطاعة صحية ومالية، ومن مناسك الحج، سبع مرات طواف حول الكعبة كل عام، في المحل المقدس المذكور يجتمع 200000 من المؤمنين والمؤمنات هم الحجاج الكرام، ولابسين كلهم كسوة بيضاء، وسامعين الخطبة لمفتي الأنام في جبل عرفات، لبيك اللهم لبيك. الكعبة مبنية من طرف إبراهيم خليل الله. ولكن بمرور الدهر والأزمان وبتأثير سيلان وأمطار قد خربت مراراً. ولكن تصلحت من موادها القديمة وأحجارها الابتدائية، وحجر الأسود موضوعة بمحلها بيد المبارك المحمدية - صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 "نظراً للتواريخ القديمة إن ماء زمزم خرجت من ضربة قدم سيدنا إسماعيل ومن المعاني والمعالي. . . زيارة بيت الله المقدس أهم المادة وهي اجتماع مسلمين العالم في كل سنة في الأراضي المقدسة الحجازية بتأبيد الولاء والمخالصة بين عالم الإسلامي ". انتهي وأشهد أن لا إله إلا الله!. وأما بعد، فهذه الألفاظ التي نقلناها إنما تنزل من أصولها الجزلة الفصيحة منزلة أولئك الكتاب المفتونين من أصولهم في البلاغة والرأي والتدقيق، فلو خُلق اللفظ من هذه الجملة إنساناً لكان واحداً منهم، ولو مُسخ الواحد منه لفظاً لكان كلمة منها، أفيقبل منا بعد ذلك أن نغفل عنهم أو نتسامح في أمرهم أو نترخص معهم في أسلوب أو قاعدة أو كلمة؟. ألا إن الأوزان إنما هي بمقاديرها في الميزان وفاء ونقصاً، لا بمقاديرها في أنفسها زعماً ودعوى، فلا تزعمت لي أنك أنت من أنت وأن لغتك هي ما هي وأن الرأي ما ترى والكتابة ما تكتب، بل هلُّم إلى ميزانك من علماء الكلام إلى ميزان لغتك من اللغة وإلى رأيك من الحقيقة وإلى كتابتك من الكتابة، وأنت بعدُ وقبلُ أيضاً لا تستطيع أن تهجم على علم من العلوم فتقول فيه قولاً إلا على قياس من العلم نفسه ترد إليه قولك وتقيم به حجتك ثم لا يقبل قولك مع هذا ولا يُعد قولاً حتى تكون من أهل هذا العلم وممن لابسوه وقتلوا مسائله درساً وبحثاً، وأنت كذلك إذا عرضت لك مسألة في فن من الفنون رجعت إلى كتبها وإلى أهلها ففتشت أقوالهم قبل أن تقول شيئاً، وعرفت حكمهم قبل أن تحكم بشيء؛ واتقيت الخطأ بصوابهم، وتحاميت التقصير باجتهادهم؛ ثم ما هو إلا أن تنزل على رأيهم في العلم والفن لا تحاول مكراً ولا تتكل على خداع من الرأي ولا تتعلل بعذر من الأعذار، فليت شعري لِمَ يكون ذلك منك في علم وفي كل علم وفي كل فن ولا يكون كذلك في اللغة وأصولها والكتابة وأساليبها والبلاغة ومذاهبها؟. ثم ما هي اللغة؟ أفرأيت قط شعباً من الدفاتر قامت عليه حكومة من المجلدات وتملك فيها مَلك من المعجمات الضخمة. . . أم اللغة هي أنت وأنا ونحن وهو وهي وهم وهن، فإذا أهملناها ولم نأخذها على حقها ولم نحسن القيام عليها وجئت أنت تقول: هذا الأسلوب لا أسيغه فما هو من اللغة، ويقول غيرك: وهذا لا أطيقه فما هو منها، وتقول الأخرى: وأنا امرأة أكتب كتابة أنثى. . . وانسحبنا على هذا نقول بالرأي ونستريح إلى العجز ونحتج بالضعف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ويتخذ كل منا ضعفه أو هواه مقياساً يحد به علم اللغة في أصله وفرعه، فما عسى أن تكون لغتنا هذه بعدُ وما عسى أن يبقى منها وأين تكون نهايتها؛ ثم أي علم من العلوم يصلح على مثل هذا أو يستقيم عليه؛ وفيم تكون المجاذبة والمدافعة، وبم يقوم المِراء والجدل إذا اتفقنا على أن بعض الجهل لا يمكن أن يكون قاعدة في بعض العلم؟ إن هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت، لأنها أعدت من الأزل فَلكاً دائِراً للنيِّرين الأرضيين العظيمين. كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة السحر، لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع. وأنا أتحدى كل أصحابنا الذين أشرت إليهم أن يأتوني بكاتب واحد تنقّل في منازل البلاغة وأطلق أساليب الكتابة العالية، ثم نزل عنها إلى الركاكة أو المذهب الجديد أو ما شئت من الأسماء ولزمها مذهباً وجعلها طريقة؛ وهذا التاريخ بين أيديهم، وبعضهم بين أيدي بعض؛ فليأتوني بمثل واحد أسلِّم لهم كل ما في يدي من الأدلة على سخفهم وأجعل واحدهم هذا بألف من عندي! فأما أن لا تدري يا أبا خالد وتزعم العفة، وأن تعجز ثم تجنح إلى الرأي. وأن تضعف ثم تتمدح بالسلامة؛ فهذه أساليب ابتدعها مَن قبلك من أذكياء الثعالب. . . وزعموا أنه اقتصر على القول بأن العنقود حامض وأراه ما اقتصر على ذلك إلا لأن زمنه كان أحسن من زمننا وأسلم وأقرب إلى الصدق. . . فلو هو كان من ثعالبنا. . . لزعم أنه ابتاع زجاجة من الخل وصبها بيده في حبات العنقود الحلو وبذا صار إلى الحموضة ولهذا تركه! وكيف تريد ممن عجز عن الفصيح أن يثني عليه، وهو لو أثنى عليه لطولب به، ولو طولب به لبان عجزه وتصوره، ولو ظهر الناس منه على العجز والقصور لما عدُّوه في شيء ولذهب عندهم قليل ما لا يحسنه بالكثير الذي يحسنه؟ لقد سألت بعضهم: ما هو هذا الجديد الذي تحامون عنه؟ قال: هو ما يكتب به في الصحف. قلت: فإن فيما يكتب الضعيفَ والساقط والمرذول، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ما هو إلى الجزالة والفصاحة، ثم ما يلتحق بجيد الكلام، فأي هذه تريد؟ وأيها ليس قياساً من أصله العربي المعروف؟ أفتجعلون النقص مذهباً من كماله، ثم لا تكتفون بخطأ واحد وتدعون أن الكمال في نفسه يجب أن يعد مذهباً من النقص؟ أم الجديد هو ما يكتب به في الصحف تعني لأنك أنت تكتب في الصحف. . .؟ أما إننا لا ندفع أسلوبهم، فهو على كل حال خير من العامية، ولسنا نقول إن كل الناس يجب أن يخاطبوا في كل أمور دنياهم ودينهم من فوق المآذن. ولكن الخلاف بيننا وبين هؤلاء جميعاً ينحصر في أمر واحد وهو تفسير لكل فروعه، وذلك أن هؤلاء الكتاب لا يريدون أبداً أن تسمى الغلطة باسمها. . . . . . . فإذا أخطاوا فلا تقولن أخطأوا، ولكن قل: إنه صواب جديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ما وراء الأكمة حضرة الأستاذ العبقري نابغة الأدب وحجة العرب السيد مصطفى صادق الرافعي نفع الله به. أَراك قد استغربت قول إحدى الجرائد العربية الصادرة في أمريكا إنك لو تركت "الجملة القرآنية" والحديثَ الشريف لكنت الآن المرجع الذي لا ينازع، ولبذَّ مذهبك في البلاغة المذاهب كلها من قديم وحديث. - ويحق لك ولغيرك وأَيمُ الله أن يستغربوا هذا التمني الدال على مرض روحي عند بعض الناس، لأنه قد يجوز أن إنساناً لا يعتقد بتنزيل القرآن ولكن يوجد عربي سليم الذوق لا يعتقد ببلاغة القرآن وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولعمري إن الأمر لكما قال ذلك الذي سأله سائل: هل يقال (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ) ؟ فأجابه: ويحك! هبك تتهم محمداً بأنه لم يكن نبياً، أتتهمه بأنه لم يكن عربياً؟ ولكنك لم تلبث أن فهمت مغزى هذه النزعة الغريبة، وعبرت عما ظهر لك في تلك الجملة الموجزة من المرامي والمقاصد البعيدة، فقلت وأنت سيد القائلين "فظهر لي في نور هذه الكلمة ما لم أكن أراه من قبل، حتى لكأنها "المكرسكوب " وما يجهر به من بعض الجراثيم مما يكون خقياً فيستعلن، ودقيقا فيستعظم، وما يكون كأنه لا شيء، ومع ذلك لا تعرف العلل الكبرى إلا به ". نعم إن وراء الأكمة ما وراءها، إن هناك دسائس خفية تظهر بعض أطرافها في هذه الجملة، ولكن دعني أقول لك إنه ليس مرادهم العدول إلى الركاكة، ولا مناصبة القرآن العداوة لمجرد كونه فصيحاً، وليس الأمر من قبل ما ذكره أحمد فارس في (الفارياق) من أن بعض خدمة الدين ممن كان يتكلم عنهم يتبركون بالركيك من القول ويستوحشون من العربي الجزل البليغ، ولا هو من نمط ما رواه في "كشف المخبَّا عن فنون أوروبا" من أنه كان يعرب التوراة وهو في إنجلترا فكان يقف على الترجمة العربية قسيس إنجليزي شدا شيئاً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 العربية، فكان كلما رأى لأحمد فارس جملة شم منها رائحة الفصاحة مسخها، واستبدل بها جملة ركيكة، فكان الشدياق يعجب من أمره، وقد نقل عنه من هذا النسق جملاً يستغرب لها الإنسان من الضحك، إذ يرى كيف كان ذلك القسيس يتعمد قلب العالي بالساقط، والجيد بالرذل تعمداً، وتهافت على الركيك تهافت الذباب على الحلواء، ويصرح بأنه إنما يتوخى بذلك إبعاد الكلام عن شبه القرآن. كلا يا أيها الأخ، إن هذه الفئة لا تمج الفصاحة من حيث هي، ولا تدين بالركاكة التي كان يدين بها قسوس أحمد فارس فيسخر بهم ما يسخر ولا تحارب اللغة العربية نفسها ولكنها تحارب مها القرآن. . . القرآن. . . إن هذه الفئة تحارب القرآن والحديث وجميع الآثار الإسلامية، وتريد أن تتبدل بها من كلام الجاهلية وكلام فصحاء العرب حتى من المخضرَمين والمولدين، وكل كلام لا يكون عليه مسحة دينية، وهذه الفئة قد تعددت غاياتها في هذا المنزع، ولكن قد اتفقت في الوسائل، فمنها من لا يجهل بلاغة القرآن وجزالته، وكونه من العربية بمنزلة القطب من الرحى، ولكنه يدس الدسائس من طرف خفي لإقصائه عن دائرة الأدب العربي وتزهيد النشءِ فيه، بحجة كونه قديماً وأن كل قديم هو بال، حتى إذا تم لهم ما يبتغون من غض مكانة القرآن في صدور الناس يكونون قد طعنوا الإسلام طعنة سياسية في أحشائه. . . على حين هم يزعمون أن الموضوع موضوع لغوي لا مدخل للسياسة فيه فيُزلقون بهذه الدعوى المدحاض كثيرين ممن لو تفطنوا لما وراء الدعاية البارزة في زي لغوي أدبي من المآرب السياسية الخبيثة لكانوا منها على حذر، بل لانقلبوا عليها وصاروا قرآنيين، ولكن مع الأسف نقول إن الحوادث الأخيرة، لا سيما ما جرى قبيل الحرب الكبرى إلى ما بعدها قد أثبتت أنه ما زالت هناك فئة تلعب بفئة وتسوقها إلى حيث تريد، فلا تستفيق هذه من سكرتها إلا وقد قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، وهذه الدسيسة التي ظهر لكم مكنونها من جملة واحدة، إن هي إلا حلقة لغوية من سلسلة دسائس مقصود منها الإسلام لا القرآن من حيث كونه قرآناً، ولا الفصاحة من حيث كونها فصاحة. . . ولقد أشرتم إلى ذلك في مقالكم الجليل فقلتم: "لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية، والنزول باللغة دون منزلتها إلا واحداً من ثلاثة. فأما مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي أمة به ولن تكون أمة إلا به وإما النشأة في الأدب على مثل نهج الترجمة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الجملة الإنجيلية والانطباع عليها وتعويج اللسان بها، وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث هو الضعف ". فأنا أقول إن الوجوه الثلاثة متوفرة في السبب ولكن الوجه الأول هو أقواها، وأصحاب هذا الوجه منهم من يريدون هدم الأمة في لغتها وآدابها خدمة لمبدأ الاستعمار الأوروبي، ومنهم من يشير باستعمال اللغة العامية بحجة أنها أقرب إلى الأفهام، ولكن منهم من لا يحاول هدم الأمة في لغتها وآدابها لا حباً باللغة والآداب، ولكن علماً باستحالة تنصل العرب من لغتهم وآدابهم، ولذلك ترى هؤلاء دعاة إلى اللغة والآداب على شرط أن لا يكون ثمة قرآن ولا حديث، وأن تكون الصيغة لا دينية، وحجتهم في ذلك حب التجدد وكون القرآن والحديث وكلمات السلف كلها من القديم الذي لا يتلاءم مع الروح العصرية في شيء، وآخرون حجتهم في ذلك النزعة القومية التي هي بزعمهم تناقض النزعة الدينية، وأصحاب النزعة القومية هؤلاء يقولون إنها من باب التجدد، وإن روح القومية هي السائدة في هذا العصر، فالدين والمعاصرة نقيضان لا يجتمعان، فأما إذا سألهم سائل قائلاً إنكم وأنتم من دعاة التجدد ومن قراء الآداب الأوروبية لا تنكرون أن كتاب أوروبا اليوم من فرنسيس وألمان وإنجليز وطليان وإسبانيول وروس. . . الخ الخ إنما آدابهم كلها مأخوذة من اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية وأن آيات التوراة والإنجيل تدور على ألسنتهم وأقلامهم جارية فيها مجرى الأمثال لا يكاد يخلو منها خطاب ولا كتاب حتى إن المنفضين منهم من العقيدة يتكلمون بلغة من الإنجيل والتوراة، وهذا كليمنصو الذي لا يوجد على الدْين حرب أشد منه، كان يجاوب بعض من اعترض عليه من أجل بعض نقاط في معاهدة فرساي قائلاً: "ادخلوا في فرح المعاهدة تجدوها كما تريدون " ومعروف أن جملة "دخل في الفرح " هي آية إنجيلية "ادخل في فرحِ سيدك " وهذا شيء لا يمكن أن يحصى إلا إذا أحصيت رمال يَبرِين وإنما نريد أن نثبت به كون التجدد والمعاصرة لم يمنعها بقاء لغات أوروبا، وآدابها على صيغتها - القديمة ومآخذها من التوراة والإنجيل ومن شعراء يونان وخطباء رومة، وأن أدباء أوروبا في هذا العصر يستهجنون اختراع إنشاء جديد وأسلوب غير مألوف ويحسبونه مخالفاً للذوق ويتمثلون بمعان غابرة لم يبق لها أَثر؛ أنظر هل بقي أثر للقوس والنشَاب، في أوروبا، وهل يوجد أعرق في القُدْمةِ من القوس والنشاب؛ صهالى هذا اليوم يقولون: [. . .] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ترجمتها: "يأخذ نشاباً من كل خشب ومرادهم بها أنه يستعين بأي قوة حصلت في يده، أفتراهم وقد أرادوا مراعاة الأحوال العصرية يقولون يعمل بندقية من كل حديد، أو يصنع قنبلة من كل ديناميت؛ كلا لا يقولون ذلك، ولا يرون الخلط بين العلوم والآداب، ولا يجدون التجدد في الفنون والصناعات داعياً إلى تغيير أسلوب الكتابة بحجة أن هذه التعابير كانت يوم لم يكن تلغراف ولا تليفون ولا أشعة رونتجن، أفرأيت كاتباً أوروبياً يقول: حلقت بمنطاد الفكر في سماء الموضوع؛ كلا ولا ما أشبه ذلك؛ ولا ينكر أنه قد جدَّت في أوروبا فرائد وجمل لم تكن مألوفة في الأعصر السابقة، كما وجدت اصطلاحات في كل عصر من أعصر اللغة العربية، فليس جميع ما اصطلح عليه الناس في أيام العباسيين كان معروفاً في صدر الإسلام أو في الجاهلية، ولكن كل ما يتجدد هنا أو هناك لا بد من أن يرجع إلى نصاب اللغة وينزل على حكمها، ولن تُترك اللغة فوضى لا في شرق ولا في غرب. طالما ترنحت الأعطاف عند ذكر الكاتب الفرنسي العظيم " أناتول فرانس " الذي توفي منذ بضعة أشهر، وكان هدا الكاتب هو الصدر المقدم في الإنشاء عند قومه، لا يرون أحداً في منزلته بعد رنان، وكان مما تميز به النزوع إلى المذاهب الاجتماعية الجديدة والغلو في كره العقائد الدينية والعادات القديمة والنفور من النصرانية بأجمعها، حتى لقد وصفه كثيرون من الشيوعيين، وبالرغم من هذا فقد اتفق جميع من ترجموه لدن وفاته حتى من أدباء الفئة الاشتراكية والشيوعية على أنه كان في إنشائه أصولياً أستاذياً مقلداً يحذو حذو راسين الشاعر الذي عاش قبل هذا العهد بماثتي سنة، وأنه حافظ على الطريقة الكتابية الأصولية المسماة عندهم "كلاسيكاً أي الطريقة المدرسية وقيل للكاتب المشهور موريس باريس - وكان من أنصار الديانة والكثلكة - أفلا ترى مبادئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أناتول فرانس وغلوه في الاشتراكية الخ؛ فأجابهم: قولوا فيه من هذه الجهة ما شئتم، إلا أنه حفظ اللغة. وهي جملة شهيرة يحفظها الجميع في باريس. نعم يقدر العربي أن لا يكون صحيح العقيدة ولا مسلماً؛ ويكون نِصاب اللغة عنده القرآن والحديث وكلام السلف، لأنها هي الطبقة العليا التي تصح أن تكون مثلاً، ولكن ليس هذا مراد هذه الفئة التي تريد حرباً وتوزي بغيرها، تبغي نقض قواعد القرآن - التي هي السد الأمنع الحائل دون الاستعمار والثقافة الإفرنجية وغيرها - وتأتي ذلك من طريق نبذ القديم والبالي والأخذ بالجديد والحالي، ولا يوجد مع الأسف كثيرون ممن ينتبهون لهذه السفسطة ويعلمون مرمى هذه الدعاية، بل إن كثيراً من نشئنا ومن عامتنا هم من فخ إلى فخ. . . ومن جملة هذه الأشراك أن القرآن حائل دون القومية العربية لا يفسح لها مجالاً، فتراهم ينصبون لها العداوة. وأمراض العقول كثيرة كأمراض الأبدان، ولكن أمراض القلوب هي التي لا حيلة فيها. . . هذا لمان بعضاً من أدعياء الجديد - لا دعاة الجديد - لا يحاربون القرآن ولا الشرع عن بحث وتدقيق ومقايسة ومقابلة يتبعون المعقول قديماً كان أو جديداً ويرتادون المفيد مُعرَّقاً كان أو محدثاً كلا، بل هم قد اختاروا مذهبهم من قبل فرجحوا كل جديد كيف كان وبدون محاكمة، وذلك ليقال إنهم رقاة عصريون، أما نظرية أخذ الأحسن من كل شيء، واختيار الأوفق من أي جهة جاء، فهذه ليسوا منها بسبيل، وإنما يؤثرون الشيء إذا علموا أن بعض أمم الإفرنجية أخذت به. ولما وافقت هذه الفئة في تركيا على منع المسكرات لم يكن السبب في هذه الموافقة ضرر المسكرات أو النهي الشرعي، بل حرموا الخمور لمجرد كون أمريكا حرمتها! وخذ لك هذا المثال: كنا في مجلس المبعوثين في الآستانة، وكان من زملائنا زهراب أفندي الأرمني الشهير، ولم يكن علمه وذكاؤه بأقل من شهرته، وكان يصعب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 مبعوث مهما كان قويً العارضة قاطع الحجة أن يخاصم زهراب لا سيما في التشريع، فاتفق أن بعض مبعوثي الترك من المولعين بالجديد - لمجرد ادعاء الرقي العصري - اختلفوا مع زهراب في سن مادة قانونية، فعقدوا لها مجلسا خاصاً؛ وانبرى لزهراب اثنان من هؤلاء العصريين يجادلانه ويحاولان أن يحملاه على رأيهما، فبعد حوار طويل تغلب زهراب عليهما وألزمهما الحجة ولم يبق أمامهما إلا السكوت، إلا أن زهراب أخطأ في شيء، وهو عدم معرفته عقلية هذه الفئة، فبعد أن أخرسهما في الجدال عاد فقال لهم: وهذا أيضاً وفق أحكام شريعتكم (الإسلامية) التي تقول كذا وكذا. حدثنا الأستاذ الفلكي الرياضي فطين أفندي مدير مرصد الآستانة، أنه لما قال لهما زهراب هذا القول عادا فنبرا بغتة قائلين: إذا كان الأمر كذلك فلا نقبل هذا الرأي! ومن بعد تلك الفلتة لم يعد زهراب قادراً أن يقنعهما بوجه من الوجوه، فليس صواب الشيء وعدمه هو الحاكم عند هذه الفئة، بل هو مصدر الشيء بدون نظر إلى أي اعتبار آخر، فإن علموا كونه آتياً من طريق الدين أو ملائماً لحكم وارد في الشرع استمرأُوا مذاقه قبل أن يذوقوه، وليس هذا منحصراً في الترك وفي الفئة التورانية منهم، بل عندنا نحن من هذا النخل فسيل في مصر والشام وغيرهما. ويا ليتك ترى هذه الفرقة على شيء من التحقق بالجديد فيما يلزم فيه الأخذ بالجديد من علم نافع أو فن مفيد أو صناعة دارة، فإن العلم لا يجب أن يكون فيه قديم وجديد، بل هو أصل يتفرع منه فروع كل يوم يتحتم على الإنسان أن يتتبعها كلها ناظراً إلى حقيقتها وصدق تجربتها وفائدتها للاجتماع. كلا يا سيدي، قلما رأيت من هذه الفرقة إلا الادعاء الفارغ والنزوع إلى الثورة على ما يسمونه بالقديم، وهم ينسون أن هناك مبادئ ثابتة وبديهيات ليس فيها قديم وجديد، وأن الاثنين والاثنين أربعة من مائة ألف سنة فلا نقدر أن نعمل على ذلك ثورة، وأن المقولات العشر مما لا تتناوله الثورة وأن الثورة إنما هي واجبة على الجهل والوهم لا على الحق والعلم، وأن العلم لا يكون قديماً، وأن الأدب لا بد أن يراعَى فيه ذوق الأمة وتاريخها وعاداتها وعُرفها، وأنه ليس بتجربة كيماوية. هذا يا أخي هو المرمى الصحيح ممن أخذ عليك "الجملة القرآنية" فأما الفئات الأخرى ممن عجز عن الفصيح فأبغضه، ومن يستأنس بالركيك لأنه هو الشيء الوحيد - الذي يقدر عليه فهذه - خطبها يسير - وقلعتها أوهى من أن يحمل مثل قلمك عليها. لوزان 8 فبراير سنة 1925 م شكيب أرسلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الرأي العام في العربية الفصحى هذا مذهبٌ من الكلام في اللغة، كثيراً ما يشتبه فيه اليقين حتى لا يُنفذ إلى تمحيصه، ويلتوي الظن حتى لا يُطاق على تخليصه، وأنت كيف مددتَ عينيك في هذا الجيل فلست آمناً أن تقع من صغار نَشئه الذين يطمحون إلى مشيخة الكتاب. . . على كل ضيق المَجمّ، ضئيل الهم، ألف اللسان ملتف البيان، كالجبَل عند نفسه ويوضع في بندقة. . . وكالبحر ويصب في فستقَة، وهو مع ذلك يسمع بالفصاحة والفصحاء، ويستطيل في البلاغة والبلغاء، ويبسط في هذا الرهان من جلده على هُزاله، ويُفسح في هذا الميدان من خطوه على كلالِه، ومهما أخطأ فيما يُعَمى عليك من حقيقة أمره، ويكاتم مهب ريحك من دخانه وجمره، فلا يخطئك أن تستبين منه رأياً كأنه في رأسه نزوة أَلم، وعقلاً مدنفاً لو هو مات لما قطرت له دمعةٌ من قلم. ومن آفة الجهل أنه على استواء واحد في نظر أهله على ما يتحزون بزعمهم من النصفة والمعدَلة: فلو تدسَّس أحدهم إلى كل مكروه وأصعد في كل بلاء، لكان ذلك بعضه كبعضه سواء في بادئ الرأي وعند تقليب النظر، لا يدرك فروْ ما بين درجاته، ولا فصل ما بين صفاته، حتى إذا ضرب كل سبب في غايته، واتصل كل مبداً بنهايته، ووقعت الواقعة بركن أمة كان قائماً، وتعثرت المصيبة بشعب كان متقدّماً. عرف ذلك الجاهل من مقدار الرزيئة مقدار جهله، وعلم حينئذ أنه كان يملك من الكف عن هذا البلاء مثل الذي ملك من التسبب له وأشف من ذلك، ولكن بعد أن يكون السهم قد مرق والأمر قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 مضى، وبعد أن لا يكون قد أفاد من الجناية إلا معرفته كيف جناها، فكأن المصيبة على هولها إنما حلت لتفهمه أنه جاهل؛ وما أعزها كلمة لا تفهم إلا من مصيبة!. وليس ينفك الجاهل بالشيء إذا رأى فيه رأياً من خصال: فأما واحدة فاقتضابه الرأي، لا يُغبه للخبرة، ولا يبلوه بالتثبت، ولا يكاد يرى فيه مذهبا لتقليب النظر، لْما هو إلا أن ينزو في رأسه نزوة أو نزوتين حتى يكون قد وزنه ورازه وعرف مقداره صواباً من خطأ وخطأ من صواب فيصدره على أنه مما أنبطه الزمن من قليب قلبه، وافتكه من عقال عقله على أنه الحق لا مراء فيه، وعسى أن لا تجد في باب المراء مثلاً أدل منه على الرأي القائل كيف يهلك أو يقيل. وأما الثانية فتزين ذلك الرأي له على سخفه حتى يدفع عنه كل الدفع. ويحوطه بكل حجة، مُلجلجة، وحتى يرى أن الكد في ذلك هو يثبته، وأن الثبات على الكد هو يحققه، فلا يزال يخور بمقدار ما يشتد في أمره تعنتاً ثم لا يصيب من وجه الأمر إلا ما يضل في مجاهله؛ فيكون قد تأتى من سبيل الثقة إلى الغرور، ومن سبيل الغرور إلى الباطل، وكبُر ذلك مقتاً وساء سبيلاً. وأما الأخرى من تلك الخصال فإن الرأي متى تماسك بما يجم حوله ويستمر عليه من الخواطر؛ فإنه سيكون منه عَقد يخرج عن أن يكون رأيا موضوعاً إلى أن يصير وحياً مرفوعاً، ويكبر عن أن يكون مضطرباً في العقل بين الحجج والبراهين، فينحدر إلى القلب عند مستقر العاطفة والدين ثم لا يكون من هذا إلا ما تراه في كل جاهل من الرأي يصدره وكأنما يصدره شرعاً معصوماً لا يزيغ عنه الزائغ إلا بخذلان من الله. . . فإن هو لم يُتبع عليه ولم يتشيع له فيه أحد كان هذا الجاهل نبئ نفسه، لا يبالي ما ترك الناس مما اتبع هو ولا ما اتبعوا مما ترك! وتلك خصال في نسق واحد وعلى نظام مطرد لا هوادة بين أولها وآخرها؛ فهي وإن تعددت إلا أنها كما يتعدد الموج للغريق، تنتصب منه أشباه الجبال ثم لا يستند الغريق من جميعها إلا إلى الماء الذي يغرق فيه. وهذا تفسير القول آنفاً إن الجهل على استواء واحد في نظر أهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 لا جَرم كان العنت كل العنت والبلاء كل البلاء أن نُفهم من لم يستجمع أداة الفهم لما تلقي إليه، وأن تناظر صاحب الرأي وليس له مما قِبَلك إلا أنه يرى وإلا أنك تدفع، فإن الحجة في مثل هذا وإن وضحت واستبانت بَيد أنها لا تصيب من غرض يستهدف لها، فلا تلزم ولا تُقنع، وإنما تستعرض كما يستعرض السهم من الهواء يمر فيه منطلقاً لا يلتوي؛ فمهما نلت من ذلك لا تنال سبباً إلى الإقناع وليس لك بعد إلا أن تطيب نفساً عن نتيجة أنت فرغت من مقدماتها، وترتد عن غاية كنت في ظل قصباتها، لأن الحجج لا تنتهي إلى الحق إلا إذا كانت متكافئة، فهي تختلف متدابرة ولكنها متى تواجهت وأخذت كل حجة برقبة الأخرى فاختصمت ثم ارتفعت إلى العقل قضى بينها وكشف عن وجه الحق فيها، أما الحجة الواهية التي لا يشد منها علم ولا ينهض بها يقين فهذه تظل مدبرة، وإنما قوتها في إدبارها ولياذها بكل مُنطلِق فأنت تجد في كل الناس إلا في صاحبها مقنعاً ومَعدَلاً وما إن تزال مقبلاً منه على مدبر عنك حتى تنكص عنه غالباً كمغلوب، وتنقلب طالباً كمطلوب؛ وأنا لا أدري ولا جرم ما الذي زين لفلان أن يكون صاحب رأي في العربية وآدابها، وأن يتمحل لرأيه ويشتد للنضال عنه ولا يعدوَ بالخصومة فيه من لا يُقازُه عليه؛ أذلك حين بذلت له اللغة مَقادَتها أم حين جمحت عنه؛ وحين استطاع له علمه أم حين طوع له وهمه؛ وما فلان هذا والعربية وآدابها والمراءَ في كل ذلك، وهو بعدُ في حاجة من هذا العلم إلى استئناف الطفولة كرة أخرى. . . إن التوى عليه أمر اللغة منذ دارسَهُ فيها طلبة يسمونهم معلمين فلم يفيدوه من المعرفة حتى ولا معرفة كيف يعلم نفسه. . . رمى هذه اللغةَ بالنقص وجعل الكمال لله ثم له. فأراد أن يحيلها عن وضع رآها منحرفة فيه، وما انحرف بها إلا حولُ عينه، فذهب في طنطنته الضئيلة كل مذهب. وافترش لسانهْ البكيء فيما يسميه جديداً وفلسفة جديدة وهل اللغة إلا علم بعد أن انقضت فينا الفطرة واختبلت الألسنة؛ وهل يناظر في كل علم إلا أهله؟ ولم لا ينصب هذا وأمثاله لمن يقوم على أداة من الآلات البخارية فيقول له لو كانت هذه القطعة مكان تلك، ولو كان هذا التركب القبيح أجمل - مما هو، ولو أخرتَ أو قدمت، ولو زدت أو أقللت، ولو نقضت أو أقمت، فعلت وفعلت. . .؟ وليت شعري ما يكون أمره وأمر صاحبه ذاك وكيف يراه ويرى فيه من قول كله في وحصر وعلم كله جهل وفضول. ألم يَأنِ أن يعلم هؤلاء أن من الرأي غرَراً، وأن راكب الخطر من ذلك إنما يركب رأسه، وأن الأمة لم توقَف شرعاً على فرد ولا أفراد، وأن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الصمت زاوية باردة مظلمة ثواري المخزيات لو عرف الجاهل معنى المخزية. . .! إن العجز مِطواع؛ وإن كل ما يعني أهلَ الحزم يهم به العاجز ويراه سهلاً. لأن ذلك يحقق معنى عجزه؛ وما زال من يعجز عن الكتابة هو الذي يريد أن يصلح لغتها وأساليبها، ومن يعجز عن الشعر هو الذي يقول في إصلاحه أوسع القول، وهلُمَّ إلى أن تستوعب الباب كله فقد قالوا إننا نخاطب الدهماء والأجلاف ومن يسفُّ إلى منازلهم بكلام أهل نجد وألفاظ أهل السَّراة ونتوهم من سبل الحضارة بَوادي قيس وتميم وأسد، وبالجملة فنحن نضرب في حدود الفوضى التي لا وجه فيها ولا مخرج منها، وفي ذلك مَزأرَة بالأدب ومضرَّة على الأمة وفساد كبير. قالوا هذا وما يجري مجراه ويذهب في نزعته ولم يستحوا أن يصدعوا به وهم يرون إلى جانبهم من المستشرقين أعاجم قد فصُحوا وأقبلوا على آدابنا وتاريخنا فوسعوها بما اتسع لهم من العلم، وأحاطوا بها ما أطاقوا، بل كادوا يكونون أحق بها وأهلها: وقد كانوا في غنى عن كل ذلك بلغاتهم وآدابهم وما أفاء الله عليهم ومكن لهم فيه، ثم لم يشفق أصحابنا أن يبتلوا تاريخهم بالعقوق وهو الثْكل الذي لا عزاء معه، فأرادونا على أن نخلع بأنفسنا هذا التاريخ لا نعطيه طاعة، ولا نبايع له منا عن جماعة ثم نكون كزنوج أفريقيا إذا غابت عنهم الشمس غاب عنهم التاريخ وإذا طلعت عليهم استأنفوا تاريخاً جديداً. . .! أليسوا ينقمون منا أننا نشد أيدينا على لغة لسيت لنا، فلِم لا ينقمون أننا نصرف وجوهنا إلى قبلة ليست في أرضنا؟ ثم يقولون إنهم يهجنون التصرف في اللغة وإرسال الألفاظ والأساليب على وجوهها العربية، ويريدون أن يزيلوا التدبير في هذه الصناعة عن هذا الوجه، لأنهم لا يحسنونه ولا ينفذون فيه إذا تعاطوه، ويريدون فوق ذلك أن يطرحوا عنا كذ الصناعة لتكون خاتمة عجائبنا في هذا الجيل صناعة بلا كد. ولعمري كيف يؤاتيهم هذا الأمر أو يستوسق لهم إذا قلبوا أوضاع الكلام وزايلوا بين أوصاله وذهبوا فيه مذهب الترقيع في الخلق بالجديد وفي الجديد بالخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 لقد أهملنا اللغة ثم أهملناها حتى صارت معنا إلى حال من الجفوة جعلتها كالواعلة علينا والغريبة عنا، وجعلتنا من نقص فهمنا فيها بحيث نضطر إلى التماس شيء غيرها نفهمه، فصار إصلاح اللغة كأنه دُربة لإفسادنا وإفسادها فيما نتوهمُ دُربة لإصلاحنا، إنما هما خطتان لا تفضي كلتاهما إلى شر من أختها مبداً أو مُنقلبا" وإن أقبح ما ترى من شيئين أن يكون أحسن الرأي تركهما جميعاً. زعموا أنهم يريدون أن تسهل الألفاظ وتنكشف المعاني وتكون الكتابة في استوائها وجمالها كصفحة السماء، فهل البلاغة العربية إلا تلك وهل هذا أمر عربي؛ بلى وهل يعرفون - أصلحهم الله - أن الطفل يرى كل ما يدور في مسمعه من ألفاظ والديه كأنه إنما يتفق لهما اغتصاباً واعتسافاً واستكراهاً، إذ لا يفهم من كل ذلك شيئاً إلا بمقدار ما يعتاد وعلى حسب ما تبلغ حاجته وإذ هي لغة أوسع من لغته مادة وصناعة، فلم لا يكون الرأي أن ينزل الآباء إلى لغات أطفالهم ويقتصر هذا المنطق الإنساني على المترادف المتوارد من أسماء الألعاب الصبيانية وما يلتحق بها..؟ ثم ما هو حكم العامي - وهو في كل أمة الطفل العلمي - بجانب أهل العلوم: أتراه يَلقف عنهم إلا بميزان تلك الغريزة الفطرية في الصغير مع أبويه؛ فلم تمحى العلوم وألفاظها ومصطلحاتها وأساليب التعبير عنها ونحو ذلك مما تتراخى به شُقهُ الفهم إذا تعاطاه ذلك العامي أو خاوله، ويكون جهد العلماء فيما تطيقه العامة وسداد العامة فيما يطيقه الأطفال. . .؟ وأنت إذا تخطيت أمر الطفل اللغوي والطفل العلمي وأسندت في الحد الأعلى لهذه الطفولة لم تر إلا طراز أصحابنا وهم أطفال الأدب، فهل يكبر عليهم أن يكبروا ويشتدوا أن يساوقوا الفطرة في مجراها، فيأخذوا الشيء بأسبابه، ويأتوا الأمر من بابه، ويدعوا الرأي إلى يوم يكونون من أربابه؟.. يصدرون رأيهم على جهل، فإذا كشفت لهم معناه وبصرتهم بمصايره ووقفت بهم على حدوده وأريتهم وجوههم في مرآة النصيحة، أنكروا ما جئت به وحسبوك تفتري الكذب وأصروا واستكبروا استكباراً لأن رأس علمهم أن يظنوا لا أن يحققوا ما يظنون، فالرأي عندهم هو الرأي في ذاته لا ما يتعلق به ولا ما يتأدَّى إليه. إنما اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة، والأمة تكاد تكون صمْة لغتها لأنها حاجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها ولا قوام لها بغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فكيفما قلبت أمر اللغة من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها واشتمالها جلدة أمة أخرى، فلو بقي للمصريين شيء متميز من نسب الفراعنة لبقيت لهم جملة مستعملة من اللغة الهيروغليفية، ولو انتزَت بهم أمة أخرى غير الأمة العربية لهجروا العربية لا محالة؛ وكذلك يتوجه هذا القياس طرداً وعكساً كما ترى؛ وإن في العربية سراً خالداً هو هذا الكتاب المبين (القرآن) الذي يجب أن يؤدى على وجهه العربي الصريح ويُحكم منطقاً وإعراباً بحيث يكون الإخلال بمخرج الحرف الواحد منه كالزيغ بالكلمة عن وجهها وبالجملة عن مؤداها، وبحيث يستوي فيه اللحن الخفي واللحن الظاهر، ثم هذا المعنى الإسلامي (الدين) المبني على الغلبة والمعقود على أنقاض الأمم والقيِّم على الفطرة الإنسانية حيث توزعت وأين استقرت فالأمر أكثر من أن تؤثر فيه سورة حمق أو تأخذ منه كلمة جهل، وأعضل من أن يزيله قلم كاتب ولو تناهت به سن الدهر حتى يلقى من الأمة أربعة عشر جيلاً كالتي مرت منذ التاريخ الإسلامي إلى اليوم!. والقرآن الكريم ليس كتاباً يجمع بين دفتيه ما يجمعه كتاب أو كتب فحسبُ، إذ لو كان هذا أكبر أمره لتحللت عُقده وإن كانت وثيقة، ولأتى عليه الزمان، أو بالحريّ لنُفس من أمره شيء كثير من الأمم، ولاستبان فيه مساغ للتحريف والتبديل من غالٍ أو مُبطِلٍ، ولكانت عربيته الصريحة الخالصة عذراً للعوام والمستعجمين في إحالته إلى أوضاعهم إذا ثابت لهم قدرة على ذلك. ولو فعلوه لما كان بدعاً من الرأي ولا مستنكراً في قياس أصحابنا. . . لأنهم لم يَعدُوا منفعة طلبوها من سبيلها وخطةً انتهجوها بدليلها. وليس يقول هذا إلا ظنين قد انطوى صدره على غل واجتمع قلبه على دِخلة مكروهة وإلا جاهل من طراز أولئك لا يستطيل نظره بتجربة ولا ينفذ بعلم وإنما هو آخذ بذنب الرأي لا يُوَجهه ولكن يتوجه معه، ولا يُقبل به ولكن يدبر به الرأي. إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهله مستعربين به متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكماً حتى يتأذن الله بانقراض الخلق وطيِّ هذا البسيط، ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن على الناس وردهم إليها وأوجبها عليهم لما اطرد التاريخ الإسلامي ولا تراخت به الأيام إلى ما شاء الله، ولما تماسكت أِجزاء هذه الأمة ولا استقلتِ بها الوحدِة الإسلامية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ثم لتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين ونضب ما بينهم فلم يبق إلا أن تستلحقهم الشعوب وتستلحمهم الأمم على وجه من الجنسية الطبيعية - لا السياسية - فلا تتبين من آثارهم في أنفسهم بعد ذلك إلا كما يثبت منْ طرائق الماء إذا انساب الجدول في المحيط. إنما يصب الله علينا بلاء فتياننا لأنهم ينشأون في أرضنا نشأة المستعبَد الرقيق، وإن غُنماً لهم أن نحرص على ما بقي من جنسيتنا العربية، وأن نشعَب لحفظ هذه الصلة وتوثيق تلك العقدة بيننا وبين أسلافنا ونمد من ذلك سبباً إلى حاضرنا ثم إلى مستقبلنا فلا يكون في تاريخنا اقتضاب ولا بتر، ثم - لكيلا نكون على ديننا ولغتنا ما كان أولئك الأوشاب والزعانف من الترك والديلم إلى غيرهما من أصناف تلك الحمراء التي اجتاحت العرب منذ الدولة العباسية ورتعت في أمور الناس وجعلت بأسهم بينهم لعلة المباينة في الجنسية اللغوية، حتى لم يكن في ثمانمائة سنة من استبدادهم ما يعدل ثمانين سنة كانت منذ أول العهد بالإسلام، ولكن أنى لفتياننا ذلك وهم لا يأخذون من لغتهم ولا يصيبون من آدابها إلا كما يأخذ الإسفنج من الماء: ينتفخ بقليل منه ثم لا يلبث أن يمجه أو يتطاير منه ولا يثبت فيه شيء. على أنك لو اعترضت كل من يهجن العربية ويُزري على سبكها لرأيته أجهل الناس بتركيبها وحكمة اشتقاقها ووجوه تصريفها، ثم لرأيت له غِرّة في تاريخ قومه، فهو إن عرف منه شيئاً فقد تجرد من ثمرة المعرفة كأنه يحفظ طلاسم لا يتخبط فيها حتى يتخبطه الشيطان من المس، ثم ترى الآفة الكبرى أنه مُستدرَج من حيث لا يعلم، فهو يكافئ محبة لغة أجنبية أحكمها بعداوة لغته التي جهلها ويَجزي منفعة تاريخ عَلِمه بمضرة التاريخ الذي لم يعلمه، والناس أعداء ما يجهلون!. نعم بقي لأصحابنا مذهب آخر ينتحلونه ويستدفعون به الظنة، وهو من أحسن رأيهم الذي يعانون عليه، لو فهموه على الوجه الذي يفهم منه، ولو أبدوا لنا صفحته دون قفائه. . . وذلك أنهم يقولون إننا أن نلائم بين حاجة الأمة من الكلام وبين الكلام الذي تبلغ به هذه الحاجة، ونريد الإصلاح ما استطعنا، فنلبس تاريخنا وعاداتنا ديباجاً من الكلام بطراز وغير طراز ولا نترك أمتنا على سَوْم بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 العربية واللغات الأجنبية ونحن نقول إن هذا أمر ليس له مَترك ولا عنه مَحيص، ولكن أين ما ينزعون إليه مما ينزعون به، وهم إنما خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وإنما يُؤتؤن من حساب العربية الفصحى لغة أثرية لا تماد الزمن ولا تشايع روح التاريخ، فيرون أنها لا بد أن تكون قد انقرضت مع أهلها فلا تبقى إلا لقوم في حكم أولئك المنقرضين، ثم يُفضون من هذا الوهم إلى تلك المحرقة التي أشرنا إليها في صدر الكلام، لأنهم لم يمارسوا هذه اللغة إنما علموها عن عُرُض، وهذا ولا جرم ضرب منْ الجهل العلمي؛ ولو هم فقهوا سر العربية ووقفوا على طرق تركيبها وجاذبوا من أزمتها وصرفوا من أعنتها واكتنهوا محاسنها الفطرية التي خرجت بها من ثلاثمائة تركيب إلى ثمانين ألف مادة كما فصلنا القول فيه لعرفوا كيف يتسببون للإصلاح اللغوي الذي ينشدونه، وكيف يكشفون لفظ الإصلاح عن معنى غير فاسد كما ذهبوا إليه، ولتقلدوا البلية من حيث يدفعونها لا من حيث تدفعهم ولكنهم كما ترى يصفون لنا الفوضى وهم صفاتها، وَيطِبون للأمة وهم آفاتها، ويبادرون حسمَ الأمور بما يتفاقم به صَدعُها، ويضعون أوزار النوائب بما يثور به نَقعها، وما عليهم إذا تبينوا أن يصيبوا قوماً بجهالة أو يردوهم عن الهدى إلى ضلالة، فاللهم بصِّرنا بأقدارنا، ولا تُذلنا بصغارنا، ولا تخذلنا في الأمل وأنت الرحيم، دون غاية أتحت لنا وقتها، ولا تجعلنا في العمل كأهل الجحيم، (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) . . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 تمصير اللغة نريد بهذا التمصير ما ذهبت إليه أوهام قوم فضلاء يرون أن تكون هذه اللغة التي استخفِظوا عليها مصرية بعد أن كانت مُضرية، وأن تطرد لهم مع النيل بعدد الترع وعداد القرى حتى ترسل الكلمة من الكلام فلا يجهلها في مصر جاهل، ويصدر الكتاب من الكتب فيجري في أفهام القوم على طريقة واحدة ويأخذ منهم مأخذاً معروفاً غير متباين بعضه من بعضه. ولا ملتو على فئة دون فئة، ومن ثم يزين لهم الرأي أنه لا يبقى في هذا الجم الغفير. . . من علمائنا وكتابنا وأدبائنا من لا يعرف أين يضع يده من ألفاظ اللغة ومستحدثاتها إذا هو كتب أو مصّر عن لغة أجنبية - ولا نقول عرْب، فإن هذا بالطبع غير ما نحن فيه - بل يأخذ من تحت كل لسان، ويلقف عن كل شفة، ولا يُبعِد في التناول إلى مضطرب واسع، ولا يمضي حيث يمضي إلا مُخِفًّا من هذه القواعد وتلك الضوابط العربية، إذ تتهادن يومئذ العدوتان: هذه العامية وهذه الفصحى. وتصلحان بينهما أن لا ترفع إحداهما في وجه الأخرى قلماً ولا لساناً، وعلى أن تبيح كلتاهما للثانية حرية الانتفاع بما يشبه حرية التجارة إلا في "المواد" السامة التي يعبر عنها دهاة السياسة اللغوية بالألفاظ العلمية المبتذَلة والألفاظ العربية الغريبة، ثم على أن لا تحفل إحداهما ما تركت الأخرى مما سوى ذلك، فتستمر العامية على ما هي وتذهب الفصحى على وجهها. يقولون إن هذه هي شروط الصلح بين اللغتين، أو هي المعاني التي ترجع إليها وتترادف بها متى أرادوا أن يبسطوا من هذه الشروط ويخرجوا بها إلى التعدد والكثرة، وإنما تلك آراء كان يتعلق عليها بعض فتياننا إفراطاً في الحمية ومبالغة في الحفيظة لمصر وأملاً مما يكبر في صدورهم على ما ترى من تهافتها وضعف تصريفها واضطراب أولها وآخرها لأنهم لا يُثبتون النظر فيها ولا يحققون خطوةً ما بين الإرادة والقدرة، وفَوْتَ ما بين الأمل والعمل، ثم لا يعرفونها إلا أحلاماً قريبة الأناة ساكنة الطائر فكان ذلك عذر العقلاء إذا مروا بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 لِماماً، وتروحوا بالإعراض عنها سلاماً، حتى تناولها الأستاذ مدير "الجريدة" فحذفها وسواها وأخرج منها طائفة من الرأي تصلح أن تسمى عند المعارضة رأيآ! فقال بالإصلاح بين العامية والفصحى على طريقة تجعل هذه تغتمر تلك وتحيلها إليها فعسى أن يأتي يوم لا تكون العامية فيه شيئاً مذكوراً. بَيدَ أنه أخرج هذا الرأي البليغ من غير بابه، وتسبب إليه في النظر بما ليس من أسبابه، وجاء به قولاً إن يكن فيه صواب فهو ما آثره من تقريب ما بين العامة والخاصة، وإزالة الجفوة بين هؤلاء وهؤلاء، وتوثيق العقدة المنحلة بين الألسنة والأقلام، أو بين لغة الكتاب ولغة الكلام، ثم ما رآه من التخطي بالعربية إلى الأمام، وإن يكن فيه خطأ فهو ما وراء ذلك مما أرسله في أقواله البليغة سِناداً لرأيه وتثبيتاً لحجته. وإن مَجمَّ هذا الرأي ومسْتَجمَعَه أن الأستاذ يرى أخذ أسماء المستحدثات من اللغة "اليومية" وإمرارها على الأوزان العربية بقدر الإمكان، فإن لم يكن لها ثمة أسماء فمن معاجم اللغة وكتب العلم - لأن هذه عنده دون اللغة اليومية - فإن لم يصب في هذه أيضاً وضع لها الواضع ما شاء، وأن في استعمال مفردات العامة وتركيبها إحياءَ للغة الكلام وإلباسها لباس الفصاحة، إذ يكون من ذلك رفع هذه اللغة إلى الاستعمال الكتابي والنزول بالضروري من اللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب والتعامل، ذلك وإن ما استعملته العامة إنما هو "قرارات " الأمة في هذه الكلمات التي لا تريد النزول عنها، وأن الطريقة الوحيدة لإحياء اللغة هي إحياء لغة الرأي العام من ناحية وإرضاء لغة القرآن من ناحية أخرى، وإننا إذا أردنا الصلح بين اللغتين فأقرب الطرق لهذا الصلح أن نتذرع إلى إحياء العربية باستعمال العامية، ومتى استعملناها في الكتابة.. اضطررنا إلى تخليصها من الضعف وجعلنا العامة يتابعون الكتاب في كتاباتهم.. الخ الخ. هذا هو تحصيل رأي الأستاذ، وأكثر ما أوردناه إنما هو من ألفاظه بحروفها، فإن طال عليك ذلك السرد وبَرِمتَ به جملة فإن لك أن تدمجه في كلمتين. ثم لا تكون قد أخللت من جميعه بشيء، وذلك أن الأستاذ يرى "تمصير اللغة" لأننا إذا تابعناه فإننا نلتمس كل ما أشار إليه من العامية المصرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وحدها ونعطي هذه العامية سَعَة أنفسنا وبذلَ أقلامنا، فنلبسها بالفصيح ونخلط منها عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ولعل هذا الرأي أن يشيع من ناحيتنا نحن المصريين ويطمئن في كل أمة لها عربية فتأخذ مأخذنا في عاميتها وتنزع إلى نزعنا إليه، فإذا أمكن أن يتفق ذلك وأن تتوافى عليه الأمم، كان لعمري أسرع في فناء العربية ومحوها وجَدَا عليها شؤمُ هذا الرأي ما لا يجدو تألب الأعداء ولو استأصلوا أهلها، وبلغ منها ما لا يبلغه الفاتحون ولو ملكوا تلك الأرض كلها، ثم نتسامح في استعمال المفردات والتراكيب العامية، وسينقاد لذلك من بعدنا ثم من بعدهم إلى أجيال كثيرة يتراخى بعضها عن بعض، فيوشك أن يأتي يوم تكون نجيه تلك اللغة الفصحى في كتابها الكريم ضرباً من اللغات الأثرية، لأننا لا ننظر فيما يترخص فيه الآن من كلمات معدودة صدرت بها " قراراتالأمة" أن لا تزال على وجه الدهر عامية، ولكنا ننظر إلى الأصل في قاعدة التسامح والترخيص، فإذا أثبتناه وأخذ به غيرنا ولم يكن عندنا لذلك نكير فما أشبهها أن تكون كالقاعدة الاستعمارية التي تبتدئ بالتسامح للمستعمرة والغزاة في أخذ الشيء القليل، ثم تنتهي بالتسامح في كل شيء قلَّ أو كثر! ونحن فإن كنا نفهم رأياً من هذه الآراء الحاضرة فإننا لا نفهم كيف يكون إحياء العربية باستعمال العامية، وكيف يُرضي لغة القرآن التي تأبى إلا أن تتقيد بها اللهجات الأخرى كما محت من قبلُ لغات العرب جميعها على فصاحتها وقوة الفطرة في أهلها وردتها إلى لغة واحدة هي القرشية، ثم نرضى من جهة أخرى هذه اللهجات العامية التي تأبى أن تتقيد بشيء وهي أبداً دائمة التغير بالأسباب المختلفة التي تؤثر فيها وتديرها في الألسنة حتى صارت في بعض قرى مصر كأنها مالطية "متمصرة" وصار بعض هذه القرى لا يفهم عن بعض كما ترى بين أقصى الدلتا وأقصى الصعيد. وإذا حاولنا مذهب الإصلاح العامي فليت شعري من أي لهجة نأخذ، وأي لهجة في مصر هي غير مصرية فننبذها؛ وإذا ابتغينا بهذا الإصلاح استدراج العامة ليتابعوا الكتاب والخطباء فيما يكتبون ويخطبون فهل يتابعونهم على العامي وحده حتى يُنزل في الفصيح إذ يستمرئونه ويسيغونه حتى إذا عرض لهم الفصيح خالصاً أنكروه وغضوا به، أم تكون المتابعة على العامي والفصيح جميعاً؛ وإذا جاز على القوم أن يتابعوا الكتاب والخطباء على الفصيح الممزوج بالعامي، فلمَ لا يكون ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 إذا كان الفصيح خالصاً مأنوساً وكانت القرائن قائمة على ما فيه من جديد أو غريب وكانت ألفاظه لا تبراً من معانيه ولا هذه تشق على تلك؟. نحن لا نماري في وجوب الإصلاح اللغوي ووجوب أن يكون للغة في هذه النهضة مجمع يحوطها ويصنع لها ولو على الأقل " كمصلحة الكنس والرش". ولا نقول إن هذه العربية كاملة في مفرداتها، ولا إنه ليس لنا أن نتصرف فيها تصرف أهلها، فإن من يذهب إلى ذلك لا يعدو باللغة وسيلة من وسائل العيش وأداة من أدوات الاجتماع الفطري، وليت شعري ما يصنع أولئك إذا صارت العربية لغة العلوم والفنون الحديثة وجاؤوا إلى طائفة واحدة من الحشرات يقسمها العلماء إلى عشرين ألف ضرب اعتبروا في وضع أسمائها تباين ما بينها في طبقات التشريح؛ ثم ماذا يصنعون بضروب سائر الحيوان والنبات وغير النبات مما لا يأتي عليه الإحصاء من متعلقات العلوم وفروعها، وهل تجزئُ في ذلك كله ألفاظ لسان العرب وكتب الحيوان والنبات العربية وما إليها مما أطلقت ألفاظه واضطربت أوضاعه واختلفت معانيه واستفاضت حدوده حتى ليصح أن تعم اللفظة الواحدة بكثرة ما تطلق عليه في هذه اللغة شطراً من معاني العلم التي هي فيه؟ ألا وإن أعجب ما في أمرنا في المعروف والمنكر أن تختلف الأمم في معاني الألفاظ واختراعها وتحديدها ووجوه الانتفاع بها ولا نختلف نحن إلا على ألفاظ هذه المعاني، وأنها عربية أو معربة، وهل نتقبلها أو نردها، ونثبتها أم ننفيها، ونننسخها أو نمسخها. . . وقد فاتنا أن العرب أنفسهم لم يكونوا يعرفون شيئاً يسمى لغة إنما كان همهم استيعاب أجزاء البيان في كل ما ينطقون به على أصول الفطرة اللغوية التي ينشأون عليها، وقد ضُبطت هذه الأصول فيما انتهى إلينا من قواعد اللغة وما نقل من ألفاظها، فصار لنا حكمهم إذا نحن تدبرناها ونفذنا في أسرارها وأحستا القيام عليها. وليس عندنا في وجوه الخطأ اللغوي أكبر ولا أعظم من أن يظن امرؤ أن اللغة بالمفردات لا بالأوضاع والتراكيب، فإن اللغات المرتقية هي تلك التي تمتاز بوجوه تركيبها ونسق هذه الوجوه فيها، ولا يمكن ألبتَّة أن تكون لغة من اللغات ذات وَفْر وثروة من الألفاظ إلا أن تدعو إلى ذلك وجوهُ أوضاعها وتراكيبها، ولا تجد عندنا من الإنكار على من يقول بإباحة التصرف في تراكيب العربية ثم التكذيب له والاستعظام لما جاء به إلا كما عندنا من الرد لقول من يمنع التصرف في مفرداتها - بالتعريب وغير التعريب - ما دامت الحاجة إلى ذلك ماسة، وما دام ذلك لا يخرج اللفظ الموضوع عن الشبه العربي الذي يجريه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 اللغة ويجعله إليها ويلحقه بمادتها ثم ما دمنا نعمل هذا العمل فنقضيه صريحاً محكماً ونستن فيه سنة العرب في طريقة الوضع اللغوي وحكمة هذه الطريقة ووجه هذه الحكمة. فأنت ترى أنه لا ينقصنا من اللغة شيء وهي على ما هي من إحكام الأوضاع والتراكيب والاتساع للمفردات ولو أقبلت كأعناق السيل، ولكن ينقص هذه اللغة رجال يعملون ويحسنون إذا عملوا، ويعرفون كيف يتأتى عملهم إلى الإحسان، وكيف يكون عملهم عملاً. ولقد كان من سوء الصنع لهذه العربية أن قامت لإحيائها "مجتمعات" كلها كان يكدح في هذا العمل الجديد على قاعدة قديمة، فلا يعدُون في طريقة العمل وجهة القصد منه أن يبدلوا لفظاً بلفظ وحرفاً بحرف وينبهوا إلى خطأ في بعض الاستعمال وصواب في بعض الإهمال مما يستخرجونه أو يقفون عليه أو يتفق لهم اتفاقاً؛ وهذا عمل تكون الجماعة فيه مهما اعتزمت واشتدت كأنها فرد واحد، ويقوم الفرد المضطلع بالجماعة، بل قد يفي بها ويمسح وجهها ويكون منها مكان الإمام ممن خلفه. وإن كانوا صفوفاً متراصة متقابلة، وهو أمر كان قديماً، فإن العلماء والكتاب كانوا يتلقون الرواة والحفاظ بالمسألة عن صواب الكلمة وعن وجه استعمال الحرف من اللغة، وكان المأمون العباسي قد أرصد من هؤلاء طائفة في "دار الحكمة" ليرجع إليها المترجمون، ثم ليتصفحوا عليهم فيصلحوا خطأ أو يقيموا وزناً أو يغيروا كلمة، وكذلك فعل بعض الأمراء المتأخرين في دواوين الإنشاء حين ضعف الأدباء عن اللغة والتوت الألسنة وغلبت العامية، وقد تولى ذلك للفاطميين طاهر بن بابشاذ في القرن الخامس، وابن بري في القرن السادس وتولاه كبرهما من بعدُ إلى هذه الغاية في عصور ودول مختلفة. على أن كل ذلك قد مضى مع أهله وبقيت اللغة تضرب في حدودها مقبلة مدبرة لم يزد فيها ما زادوا ولم ينقص منها ما نقصوا. ولسنا نرتاب على حال أنه لو قام في صباح كل يوم مجمع لغوي على هذه الطريقة لانتقض في مساء كل يوم مجمع منها، لأن القوم يَدعُون الجهات الملتبسة إلى الصريحة ويتخطون الأصول إلى الفروع، ويعملون في سد خلة محتملة ويتكلفون لضرورة في الوسع والطاقة، واللغة وافية بكل ما يأتون به، لا يصد عنها إلا الجهل والإهمال، وإلا سوء طلب الطالب وتحصيل المحصل، وهذا - أصلحك الله - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أهون الخطب وأخف الضرر وأيسر ما التاث علينا من أمر هذه العربية فإن المحنة فيها باقية أبداً ما بقي في الأرض معنى ليس له فيها لفظ، وما دمنا لا نطرق فيها لهذه الألفاظ المحدَثة بقواعد ثابتة وعلى طرق نهجته، وما دامت في أيدينا جامدة لا نغمزْ منها ولا نعيدها سيرتها الأولى في الوضع والاشتقاق بما لا يفسدها ولا يضار أصولها ولا يأتي بنيانها من " القواعد،. وإن ذلك لأمر أولُ التبعة فيه على متقدمي العلماء ممن دونوا الأمهات في اللغة وممن كتبوا في العلوم أو ترجموا من كتبها، لأنهم - عفا الله عنهم - لم ينظروا لمن بعدهم، فلم يضعوا في ذلك ديواناً جامعاً، ولا أمضوا فيه بإجماع معروف ينتهي إليه علم أو يقف عليه طريق من طرق الرواية، إنما كان لكل واحد منهم رأيه ونظره ومبلغ علمه وإحاطة روايته؛ فإن اضطر أحدكم إلى ما يُعجله عن الأناة وإحالة الرأي في اختيار اللفظ وتعريبه ودفع إلى الكتابة والتأليف من هذه المضايق، لم يبال أن يتناول اللفظ كما هو في لسان أهله ولغة واضعه ما دام لا يرسله إلا في أسلوب محكم من اللغة ولا يحيطه إلا بالتركيب العربي المبين، وهم كانوا أبصر بما قررناه من أن اللغة بالأوضاع والتراكيب لا بالمفردات بالغة ما بلغت، وأن الشأن فيما ينتظم الكلمة الأعجمية انتظاماً عربياً لا في الكلمة نفسها. وهذا الجاحظ عالم كتاب هذه الأمة وفردُ بلغائها المتسعين في الكتابة تتصفح كتبه فتعثر بالشيء من أسماء الأدوات ومصطلحات الفنون، وبعض ذلك لا سبيل إلى فهمه ومعرفة مدلوله إلا بالرجوع إليه في الفارسية والهندية والرومية ونحوها، وإلا أن اتفق للباحث أن يعثر على بيانه وتفسيره في بعض المعجمات العربية أو كتب الفنون، وقد كان دأب هذا البليغ أن لا يتوقف عند اللفظة المحدثة يقليها ويشققها، ولا يتردد عند الكلمة الدخيلة ينظر فيها ويحققها، وهو قد نص على ذلك في موضع من كتابه "الحيوان" فقال بعد أن ساق ألفاظاً من مصطلحات الزنادقة، كالساتر والغامر والبطلان وغيرها، وأنكر غرابة الدلالة فيها وأنها مهجورة عند أهل دعوته وملته وعند العوام والجمهور: "إن رأيي في هذا الضرب من هذا اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمادة فيها، على أن ألفظ بالشيء العتيد الموجود الهتكليف لما عسى أن لا يسلس ولا يسهل إلا بعد الرياضة الطويلة، وأرى أن ألفظ بالفاظ المتكلمين ما دمت خائضاً في صناعة الكلام مع خاص أهل الكلام، فإن ذلك أفهم عندي وأخف لمؤنتهم علي. ولكل صناعة ألفاظ قد جُعلت لأهلها بعد امتحان سواها فلم تلزق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بصناعتهم إلا بعد أن كانت بينها وين معاني تلك الصناعة مشاكلات، وقبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين في خطبة أو رسالة، أو في مخاطبة العوام والجار، أو في مخاطبة أهله وعبده وأمته، أو في حديثه إذا حدث أو خبره إذا أخبر، وكذلك من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب وألفاظ العوام وهو في صناعة الكلام داخل، ولكل مقام مقال ولكل صناعة شكل" اهـ. على أننا لا نستقصي القول في هذه الجهة، فإن موقع النية أن نتكلم في "تمصير اللغة" وإنما أفضينا إلى الكلام من هذه الناحية إذ كانت هي سبيلنا إليه، فإن القائلين بهذا الرأي والغالين فيه والمكابرين عليه إنما يدعون به الإصلاح ويذهبون إلى أنه خير ما ينتهي إليه الصواب من رأي وخير ما يمكن لهم في جانب تلك الغاية، فإنهم زعموا يريدون الإصلاح من أقرب السبيل، ويطلبون الحاجة الراهنة والمنفعة الدانية؛ وقد رأوا سواد الأمة عاميًّا فلا بأس أن يكون من هذا السواد ظل في اللغة أو على اللغة أو قريباً من اللغة، وفاتهم أن من دون هذا السبيل سبلاً أخرى هي أقرب في منحاهم وأدنى إلى غايتهم لو كانوا يرمون إلى تعليم الأمة وإلى الغاية من هذا التعليم، فإن الزمن الذي تعرب فيه الكتب أو تمصر ثم تطبع وتنشر ثم تقرأ وتدرس لا يذهب باطلاً إذا هو ذهب في تعليم لغة أجنبية من لغات العلوم ثم إلقاء هذه العلوم بها، ويكون في ذلك أن الأمة تستفيد العلوم والفنون محققة وتربح معها فضلاً كبيراً، وأن تربح إلى لغتها لغة أخرى برمتها وتجمع إليها آدابها وفوائدها، وهذا ما لا يتيسر بعضه إذا مصرنا العربية لتلك الغاية التي زعموا وما يطلبون بها من الكفاية والإصلاح. وقد أخذت بهذا الرأي جمهورية الصين الحديثة، فإنها فرضت اللغة الإنجليزية على كل من يطلب علماً أو صناعة، حرصاً على الوقت أن تضيع به الترجمة والطبع والدرس، وتفادياً مما تدخله الترجمة على مصطلحات العلوم والفنون من الضيم في الشرح والتعيين وتحديد الدلالة ونحوها مما ليس منه بد في النقل بين اللغات المتباينة لغة إلى لغة. على أنه إن يكن في رأي التمصير خير فليس يقوم خيره بشؤمه، وهب أن أمراً من ذلك كائن، وأننا أجرينا التراكيب العامية في الفصيح، وأقحمنها مفردات القوم في اللغة، ومكنا للعامة على ما يتوهمون من مقاليد الكلام وأتبعناه مَقادتهم، فما جداء ذلك عنهم وماذا يرد على الأمة، ونحن نعلم أن جمهورها إذا احتاجوا إلى كتب في العلم فإنما هي كتب ألف باء تاء. . . قبل كتب المصطلحات العلمية والفنية! وإنه لعجيب أن نبداً بالتربية من آخرها، وإن نجيء إلى حال من الضعف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فنتوهم فيها القوة، ثم فمضي على ما نخيل نعتده حقًّا فنقرر الأحكام ونؤصل الأصول ونقابل شيئاً بشيء ونستخرج حالاً من حال، وليس لنا مما قِبلَ ذلك جميعه إلا أنه ظن توهمناه يقيناً، وفرض حسبناه قياساً، وإلا أنها العامية جعلنا لسومها ما ليس في طبيعتها وحسبناها أصلاً بائناً بنفسه متميزاً من سواه بالصفات التي تجعل الأصل أصلاً وتنفيه من صفات فروعه، مع أن أصل هذه العامية لا يزال في ألسنتنا وأقلامنا، ولا نبرح نردها إليه ونحكمها به ونقيمها على طريقه، ومع أن هذه العامية لا تصلح في تراكيمها وصِيغها للكتابة ما لم تفضح على وجه من الوجوه، وهي بعد لا وزن لها في كل ما ابتعدت به عن الفصيح إلا في عبارات قليلة مما يكون أكبرُ حُسنه أنه أخرج على نسق معروف في البلاغة العربية: كضرب المجاز والكناية وما إلى ذلك، فإذا نافرت الفصيح لفظاً أو نسقاً فلستَ واجداً فيها إلا أطلالاً من كلمات عربية يأباها من يعرفها صحيحة ماثلة، ويَعُدها من النقص يقيمها سوية كاملة، وكيفما أدرتها لا تعرف لها إلا رقة الشأن - وسقوط المنزلة بإزاء أصلها الفصيح الذي خرجت منه ولا تزال فيها مادته. فما اختلافنا في لغة هي في طبيعتها اللغوية تأبى أن تكون أصلاً وأن تعد لغة ومهما جهدتَ بها لا تتحول الا إلى أصلها المعروف المتميز، فإذا أريدت على غير ذلك التاثت واضطربت وفرت إلى الأسواق والسُّبل! فإن عارضنا القوم بأنهم يريدون تقريب الفصيح من العامة، لا من العامية ليسهل عليهم أن يتأدبوا أو أن يتعلموا، قلنا: ذلك وجه وسبيله غير ما يقولون به من تمصير هذا الفصيح العربي، فإن لهم مندوحة في طرق مختلفة يفصحون بها العامية نفسها بردها إلى أصولها القريبة على نحو ما كانت عليه أيام الأمويين والعباسيين، فإني لأحسب أن العامي من أهل ذلك الزمن لو بُعث اليوم لرأى أكثر أساليبنا الفصيحة دون عاميته. وقد كنا بسطنا جانباً من القول في مقالتَينا اللتين نشرتا في "البيان" عن الرأي العامي في العربية الفصحى والجنسية العربية في القرآن وأبَنَّا ثمة فساد الرأي في إحالة الفصحى عن وجهها، فلا نعيد شيئاً مما بسطناه وانما نرسل كلمة في تحقيق استحالة هذا الرأي، وأن القائلين به مهما عملوا فإنهم لا يعدون أن يجتذبوا إليهم طائفة من ضعاف شبابنا المتفرنجين يناصرونهم بما تعده الأمة خذلانا، ويزيدون فيهم بما لا تشعر به الأمة زيادة أو نقصاناً، وذلك أنهم يغفلون عن الروح الدينية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 التي ينشأ عليها المسلمون - أهل هذه العربية - في جهات الأرض، وأن هذه الروح قائمة على نفي العصبية والوطنية كالمصرية وغيرها، فقد كانت هذه العصبية عامة في قبائل العرب حتى محاها الإسلام، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وجعلهم إخوة، ثم نفاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ونفى المؤمنين منها بقوله: "ليس منا من دعا إلى عصبية. . . الحديث. وما عصبية قبيلة وقبيلة في المعنى إلا كعصبية بلد وبلد ومصرِ ومصر، وما يقولون به من تمصير اللغة لا يعدو أن يكون وجهاً من وجوه هذه العصبية الممقوتة، فإنك لتجد المسلمين يختلفون في كل شيء حتى في الدين نفسه ولا تجدهم إلا شعوراً واحداً بالروح الدينية العربية التي مِساكها الكتاب والسنة في عربيتهما الفصيحة، وهي لا سبيل إلى التغيير أو التبديل فيها، لا على وجه التمصير ولا على وجه آخر، وسواء أكان في ذلك إصلاح بين العامية والفصحى أو لم يكن. فإن شذ عن الجماعة فئة من شبابنا قد أخذوا بغير أخلاق هذا الدين ونشأوا في غير قومه وعلى غير مبادئه فرأوا فيه بظنونهم وقالوا برأيهم ورضوا له ما لا يرضاه لأهله، فهؤلاء مهما كثروا لا يستطيعون أن يحدثوا حدثاً، بل يفنون والجماعة باقية، وينقصون والأمة نامية، ويذهبون إلى رحمة الله، ومن رحمة الله أنهم لا يعودون ثانية. ولن تجد ذا دِخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة، وإن كنا لا نقول بالعكس، فإن فينا من الفضلاء من يخطئ في الرأي يراه أو يعجَل به دون أن يُطيل ترديده وتقليبه، فإذا بصرته بما فيه أعانك على نفسه وأحكم ناحية الصواب منها وأعطاك عن رضا وكان في عمله خليقاً أن تعرفه بالحكمة وأن ترى تحوله عن الخطأ صواباً إن لم يكن أحسن من صوابك فليس بدونه. هذا وإن أصحابنا لا يجهلون أن الأصل في التربية العامة بالحمل على الأخلاق لا على العقول، وعلى روح الأمة التي تتميز بها وتتفق فيها لا على صفاتها الأخرى، ونحن لا نجد في ذلك شيئاً في المسلمين كافة من المصريين وغيرهم إلا ما أومأنا إليه من الروح الدينية التي تشملهم جميعاً والتي هي أساس هذا الدين فلا سبيل لتمصير العربية واعتبار هذه المصرية أصلاً لغوياً مجمعاً عليه إلا بتمصير الدين الإسلامي الذي تقوم عليه هذه العربية، فإن بعض ذلك سبب طبيعي إلى بعضه؛ فمن كشف لنا عن الوجه الذي يكون به الدين مصرياً وطنياً. . . وبصرنا باسباب ذلك ونتائجه قلنا له: أخطانا وأصبت (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 جلدة هرَّة ْكان الأستاذ الكاتب البليغ الذي يكتب (ليالي رمضان) في جريدة السياسة قد سئل: ما الجديد وما القديم وما مثَل كل منهما وماذا يُبين أحدهما من الآخر؟ فأحال في الجواب على قوم سماهم ممن يتسِمون بهذا وذلك وعدنا فيهم، فكتبنا إليه هذه الكلمة الموجزة: إلى كوكب الليالي المباركة: كنت قررت أن أمسك عن الجواب حتى أرى ما عسى أن يكتب الذين سميتهم فأتعقب أقوالهم، فإن آرائي معروفة منشورة، ولكن حجة أهل الجديد لا تزال هي كلمة الجديد. أحسبك لا تظفر بشيء منهم بعد كلمة "الدكتور صبري " وهو يبين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وإن ظفرت بعد أيام بكلمة وكلمات فمن لك بليلة أو ليال تزيدها يا شوال على رمضان. . . أم تريد أن تتخذ لك في التاريخ الإسلامي مذهباً جديداً كمذهبهم في الأدب العربي فتدعي لشيء ما ليس له وتنحل شهر رمضان من شهر يوليو. . . لم أقرأ إلى يوم الناس هذا في معنى هذا (الجديد) كلاماً يبلغ أن يصور منه برهان أو تؤلَف منه قضية صحيحة، وكل أقاويلهم ترجع إلى ثلاثة أبواب جديدة، ومجدد، ولنجدد، فأما الأول فهو عندهم تقبيح القديم والزراية عليه والنفير منه. وأما الثاني فهو العائب والشاتم والمهزئ، وأما باب قولهم (ولنجدد) فهو لا يزال إلى الآن مقصوراً على قول كل واحد منهم للآخر (ولنجدِّد) . . . على أن القديم هو الواقع الثابت الذي يقوم به الماضي والحاضر معاً وقد رأيتَ أن الجديد لا يعدو أمراً يتوهمونه أمراً وهو بعدُ لم يقع، فليس الممكن أولى به من المستحيل ولا المستحيل أحق به من الممكن، وإنما أضيعُ الناس في الناس رجلان: واحد يأتي قبل زمنه، والآخر لا يكون إلا وقد مضى زمنه، أفلا ترى والحالة هذه أن كل السائغ الممكن لأهل الجديد هو أن يجادلوا أهل المستقبل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وأنا والله لا أعرف أهؤلاء القوم يجدون أم يسخرون؟ ولكن الذي لا أجهله أن في بعض الناس أرواحاً وأمزجة انطبعت فيها صور الاجتماع الأوروبي بما يحوي من فضائله ورذائله - لأن هذه نتائج تلك، ما منها لهم بد - فتريد هذه النفوس الرقيقة الجميلة أن تنسخ الرسم الإسلامي الشرقي وتقر كل ذلك الأوروبي في مكأنه، وتلك هي نزعة الجديد. وأنت فإذا كنت محامياً أفلا يكون من واجبك أن تلبس اللص إذا دافعت يوماً عن لص، فتقف الوقفة الشريفة وإن فكرك وذكاءك ومنطقك كل ذلك يحتال احتيال اللصوص ويتصل بمعانيهم ويستنبط من الوسائل ما لعل اللص نفسه يعجز عن بعضه. هذا هو المثل لا غيره، ولأقل لك فى صراحة إن مساجد القاهرة ترى ألف سائح كل سنة ولا ترى في السنة كلها واحداً من أهل الجديد، فهذا هو مَرد تلك النزعة، ثم إن هناك فئة قليلة من الصَّحفيين ترى في كلمة الجديد معنى بديعاً من معاني "لغة الإعلانات" وهذه اللغة لا تبالي ما ينفع مما يضر. ولا ما يصدق مما يكذب، ولكن ما يروج وما يكسد، وما يربح وما يخسر. فالجديد العربي عند هؤلاء إنما هو كذلك في تسميته، أما في معناه فهو جديد أمريكاني. إن كان الخلط أيها الناس يسمى جديداً فقد كان في القوم من يخلط وإن كانت الركاكة ففي القديم ما شئتم منها حتى ومن أساليب "جراميق الشام وأمريكا" وإن كان التحامل والطعن والعيب فذلك كله قديم، وإن كانت الإنسانية فهي قديمة، وإن كان العقل فإن أعظم العقول البشرية من القديم وحده، فماذا إذاً؟ لعلكم تريدون الذوق، فكيف تصنعون وأنتم ترون لكل امرئ ذوقه وتبصرون الأحوال تجري في ذلك بأشياء غريبة حتى في أجمل ما في الجمال. فلقد يكون أثقل ما في الثقل على بعض الطباع كثقل الفصاحة على طباعكم، وثقلكم أنتم على طباعنا فليس لكم في الذوق شيء لا يكون لنا مثله. أم تريدون من الجديد تصوير الحياة العصرية بمذاهبها في الشعر والنثر؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فمن الذي يدفعكم عن هذا ومن الذي يقول بغيره منا أو منكم؟ فنحن في ذلك سواء لا نختلف. أم تريدون الأسلوب واللغة والسهولة في السبك والضعف في التأليف والتسمح في القواعد وأخذَ اللفظ من حيث يتفق وكيف قدر عليه كاتبه؛ فهذا لا يسمى جديداً وإنما هو في الجملة ضرب من العجز واحتيال فقهي.. على جعل ما ليس بقاعدة قاعدة. لقد سئمت نفوسنا هذه الدعاوى الفارغة فاعملوا ثم سموا عملكم. وصيدوا الدب ثم بيعوا للناس جلده، فلعلكم وأنتم تبيعون فروة دب لا تحصلون إلا على جلدة هرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 مقالات الأدب العربي في الجامعة المصرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 للتاريخ ظهرت الجامعة المصرية في سنة 1908 للميلاد، وكانت يومئذ فكرة وطنية سياسية انشق لها مكأنها في الحوادث فجاءت كما تجيء الحادثة الوطنية قائمة - على ما قبلها ليقوم عليها ما بعدها، وبذلت فيها الأمة وشمَّرت لها وجدَّ بها الجِد فإذا هي ما هي. ولم يكن في ذلك العهد ما يعرف "بتاريخ آداب اللغة العربية" إلا كراسة صغيرة الحجم لفقها بعض الأساتذة على طريقة المستشرقين، وكانت تدرس في مدرسة دار العلوم، وإلا بعض فصول كان كتبها على هذه الطريقة صديقنا العلامة جرجي زيدان صاحب "الهلال" ونشرها في مجلته، ثم كتابان في علوم اللغة العربية الاثني عشر، أحدهما كتاب الوسيلة الأدبية للأستاذ الشهير الشيخ حسين المرصفي، وهو كتاب قديم، إلى كتب أخرى مما يجمع من مختارات النظم والتثر، أو مما يجمع من كل شيء كالمواهب الفتحية للأستاذ الحجة الكبير الشيخ حمزة فتح الله، فكتبنا يومئذ في (الجريدة) مقالاً تراه بعدُ، ولنسمه "مقال الجريدة الأول" وكان مدير الجريدة هو الأستاذ النابغة مدير الجامعة اليوم فكان من أثر ذلك المقال أن نشرت اللجنة الفنية للجامعة دعوة على الأدباء إلى تأليف كتاب في "أدبيات اللغة العربية" جعلت جائزة الفائز فيه مائة جنيه، وضربت أجلاً لتقديمه إليها سبعة أشهر، فكتبنا المقال الثاني في الجريدة، فعادوا ونشروا المسابقة لتأليف كتاب في "أدبيات اللغة العربية" وجعلوا المدة سنتين والجائزة مائتي جنيه، وقالوا: (ولأجل مساعدة المؤلف على نشر الكتاب تتعهد الجامعة بالطبعة الأولى على نفقتها. . . فإن لم يستحق الجائزة أحد تتجدد الدعوة لهذه المسابقة مرة ثانية لميعاد آخر مدته سنتان بهذه الشروط بعينها". وكان ذلك من عملنا ولله الحمد والمنة - هو السبب في تدريس الآداب العربية وتاريخها في الجامعة المصرية، وهو السبب كذلك في وضع ما وُضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 من الكتب في هذا العلم، ولكن أحداً لم يعرض كتابه على الجامعة إلى اليوم. ثم كان أسبق تلك المؤلفات ظهوراً الجزء الأول من كتاب العلامة جرجي زيدان، ثم الجزء الأول من كتابنا "تاريخ آداب العرب " سبقه ذاك بشهر أو شهرين سبقاً مطبعياً. ثم ألحقت الجامعة بوزارة المعارف وفُتحت سنة 1925 فاختاروا لتدريس الأدب العربي فيها الأستاذ الدكتور طه حسين، وكنا نعلم أنه يُلقي دروسه "في الشعر الجاهلي ". غير أنا لم نقف على شيء منها ولا أردنا ذلك ولا فكرنا فيه. إذ لم يخطر لنا أن كائناً من كان يزين له الغرور أن يحمل كرة الأرض فيُلقي بها في غير مدارها كما فعل طه شبيهاً من ذلك في الأدب، حتى نبهنا مقال الأستاذ عباس فضلي الذي نشرته له "السياسة" ثم كتب بعده صديقنا الجليل كاتب الشرق الأكبر الأمير شكيب أرسلان مقاله "التاريخ لا يكون بالافتراض" في جريدة "كوكب الشرق"، فكتبنا نحن بعد ذلك هذه المقالات في "الكوكب ". وقد تركناها كما هي لم نمسسها إلا في الفرط والندرة والحمد لله على ما وَفق من قبل ومن بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 مقال الجريدة الأول الأدب العربي في الجامعة المصرية قالوا إن فئة القائمين بامر هذه الجامعة قد تعجلوا لنا العمل في هذه السنة فلم يُطَيبوا ولم يُتضجوا لمكان العجلة من تلك الحال، وعُقم الأمة بالنابغين من الرجال. ولذلك جعلوا الدروس فيها محاضرات من مستطرف الأحاديث ومستظرف النوادر والأمالي في تاريخ الحضارة والبلدان والآداب الأجنبية وطرف مما تعتبر به اللغة، ثم هم في الغابر يستحدثون الجديد ويطرحون أيديهم في العمل المفيد متى تمت لهم الأداة واجتمعت القوة ولفَّ شملهم بأولئك الفضلاء الذين أنفذوهم إلى أوروبا، وكذلك قالوا إنهم بادروا العمل وما تلبثوا إلا يسيراً، تنزيهاً لعهدهم، وتفادياً من سوء المؤاخذة على الرَّسْلة ووناء الهمم، ولأن الفائدة لا ينفيها أن تكون من القليل إذا لم يتهيأ أكثر منه، فإن لجلجة المضغة عند الجوع خير من جمود الفكين!. ونحن نؤمن بكل ذلك ولا نحاول أن ندلس على عيب أمتنا ونكتم نقائصها، فقد لا يستقيم هذا الأمر عندنا إذا ابتدأ كاملاً، وإن من يركم أحجار البناء كلها في فضاء الأرض لا يبلغ أن يكون بذلك قد رفع بناء، بل لا بد من إمساك الحجر بالحجر على نسبة معينة في التنسيق والاطراد، وما قط ابتُغِيت حاجة من غير مَبغاتها. ونزيدهم على هذا أيضاً أننا أمة ترك بها الزمانُ ما ترك من عادة وخُلق بين سيئ وحسن، فلا تجتمع على بغض ولا رضا، ولا يزال بعضها حرباً لبعض في العادات والأخلاق، كما تكون الأمم في أول جهادها للتقدم، وتلك هي المزلَّة التي يهوي فيها الأساة، والمنزلة التي يحارُ بها الهداة؛ فلو قذفتنا المقابر بمن فيها من الفلاسفة وحكماء المجتمع ما زادوا على أن يبتدئوا تعليمنا بالقليل، ولكن ليس كل قليل لازماً، بل أخرِ في ذلك أن يكون شيء ألزم من شيء. فلا سبيل إلى عذر القوم في إغفال الأدب العربي وهم قد نصُّوا في دستور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الجامعة على نوعين من الآداب الأجنبية. فإما أن تكون هذه أحق من ذلك بالتقديم وأقرب إلى فائدة الأمة منه، أو هم يمتهدون اليوم لحاجتهم فينشئون لنا في أوروبا أديْباً ويخرجون بعلوم الأعاجم عربياً صليباً، أو لا هذا ولا ذاك ولكنهم يمضون على غير هدى كما تخيل النفس ما دامت هذه الأمة قد بذلت وتابعت على ما يريدون. فإن كان الأول فهو الرأي الفائل والسوءة التي لا يسترها إحسانهم بأجمعه إذ لا يكون ذلك في أمة لا يزال يغلط كبار كتابها غلطاً قبيحاً فيما يستعملون من لغتهم، لا يرون ذلك هُجنة ولا نقصاً؛ حتى أصبحت اللغة في الأيدي كالثياب المتداعية: كلما حِيصت من جانب تهتكت من آخر. وانظر كيف يتسمى الكتاب المسترسلون في الجرائد "بالمحررين"، وأنت إذا سألت عن سواد الكتاب في الأمة قيل هم أولئك ولكنهم مع ذلك لا يعلمون أنها مذمَّة لهم، فإن المحرر فيما سبق به الاصطلاح هو كاتب الخط لا غير "الخطاط" لأنه يحرر الأصول ويضبط الأحرف ويراعي اعتدال النسب بين ما يعزله من البياض في القرطاس أو الكاغَد عن يمين الكتاب وشماله، وأعلاه وأسفله، وتباعُدِ ما بين السطور، وسعة الفصول وضيقها ومرجع ذلك جميعه إلى مُفاد لفظة "التحرير". ولا أخوض في تفصيل الرأي الثالث وبسطه فإني أنزه رجال الجامعة عن هذه الشبهات، إما أن يكونوا منتظرين أن يُنشئوا في أوروبا من يدرس الأدب العربي أو يستعين بما يدرسه عليه، فذلك ما نرمي إليه بهذه الكلمات وإن علينا بيانه: لا أعلم ماذا يراد بقولهم: "آداب اللغة العربية" إلا أن يكون ذلك إحاطةَ الأديب بفُصَح اللغة وتمكنه من استعمالها في تنزيل الكلام، ومعرفة الإعراب والأبنية والتصاريف، وبُعد النظر في معاني البلاغة وأساليب الفصاحة والاقتدارَ عليهما نظماً ونثراً، ثم معرفة الرجال ومراتبهم وطبقات كلامهم وآثارهم واختلافِ العصور بهم، مع البصر بالنقد ومواضع المؤأخذة إلى الطبع السمح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 والفطنة المؤاتية، حتى لا يكون برماً بالحجة إذا نزع بها، ولا ضعيف الدليل إذا حاول الاستخراجَ والتعليل، ثم الإحاطة بذلك كله إحاطة تاريخية فلسفية وتدبره على اختلاف وجوهه وأسبابه، وهو كله جملة واحدة لا يغني فيه بعضه عن بعض، وعلى مقدار ما يبلغ منه الأديب يكون أدبه، فقد يقال للعالم باللغة لغوي، ولصاحب النحو نحوي، ولمن يقرض الشعر شاعر، وبالجملة ينسب كل ذي علم إلى علمه إلا الأديب، فلا علم له إلا مجموع تلك العلوم وإحسان المشاركة فيها جميعاً. ولا أذهب بك بعيداً في انتزاع المثال، أو أحيلك على أن تتبع ذلك في أوصاف الرجال، ولكي أسوق لك هذا الخبر عن ابن عبدون الأديب الشاعر الأندلسي، لتستبين منه أصل الأدب فيمن كانوا يسمونه أديباً: ذكروا أن أبا بكر بن زهر الوزير الأندلسي حضر إليه في داره - وهو فتى - شيخ كان ينسخ له كتاب الأغاني، ومعه كراريس مما كتب ولكنه نسي أن يحضر أصولها من الكتاب، فبينما هو يكلم شيخه إذ دخل عليه رجل بَذ الهيئة، غليظ الثياب، على رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان، فتقدم إليه أن يستأذن له على أبيه الوزير أبي مروان، فحملته نزوة الصبي وما رأى من خشونة هيئته على أن تكلَّف جوابه وكَرَّهَ له من وجهه، فسكت عنه الرجل ساعة ثم سأله عن الكتاب الذي في يده وإلى أين بلغ الكاتب منه وما له لا يكتب، فعبث به أبو بكر وجعل يسخر منه ويضحك على قالبه وشكله، ومع ذلك لا يتكلف له إلا النبذ من خبر ما يسأل، فلما علم الرجل أن أصل الكتاب غيرُ موجود لدى الناسخ ليعارض به، قال له: يا بني، خذ كراريسك وعارض فإني كنت أحفظ الكتاب في صباي، فتبسم الفتى ضاحكاً من قوله، فقال الرجل بعد أن تراءى ذلك منه: يا بني أمسك على وجعل يقرأ. قال ابن زهر فوالله إن أخطأ واواً ولا فاء حتى قرأ نحواً من كراستين. ثم أخذ له في وسط السفر وآخره، فإذا حِفظه في ذلك كله سواء، فقام مسرعاً حتى دخل على أبيه وذكر له الخبر وصاحبه؛ فخف الوزير أبو مروان من فوره، وكان ملتفا برداء ليس عليه قميص، وخرج حاسر الرأس، حافي القدمين لا يرفه على نفسه، وابنه بين يديه وهو يقول: يا مولاي اعذرني! فوالله ما أعلمنا هذا الجلفُ إلا الساعة! وجعل يسب ابنه والرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 يخفض عليه ويقول: ما عرفني، فيقول الوزير: هبهُ ما عرفك. فما عذره في حسن الأدب؟ ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به فتحدثا طويلاً حتى خرج "الوزير" بين يديه على هيئته تلك، فلما أن ركب وانفصل قال الفتى لأبيه: من هذا الذي عظمته هذا التعظيم؟ . . . قال: اسكت ويحك! هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في "علم الآداب" هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون أيسر محفوظاته كتاب الأغاني - انتهى. ومن ذلك نعرف كيف ابتذل هذا اللقب العظيم - لقب الأديب - في زمننا حتى لم يُحرم منه إلا العامة من الجهلاء، وإلا نفر ممن لا يدفعون ثمنه للجرائد في أخبار الهناء والعزاء. وقد نظرت في كتب يقول أصحابها إنهم صنفوها في "آداب اللغة العربية" وما أظن كتاباً طبع في ذلك للمحدثين ولم أقف عليه، ولا أظن كأني وقفت من ذلك على كتاب. . . فهم يثبتون في كتبهم بعض فصول في تاريخ اللغة ونظمها ونثرها، ويومئون إلى طائفة من الكتاب والشعراء غير منتقدين ولا مميزين، ويأتون بشيء من كلامهم يصيبونه - كما يقول النحاة - حيثما اتفق، وقد يتكلمون في العلوم الاثني عشر ويسردون لك أسماء من الكتب المؤلفة فيها، وإنك ما أصبت من فائدة في بعض كتبهم فذلك حكم الجمع ومما يطرده لك التأليف، ولا أقبح من كتاب تستعرض فيه العقول وتتصفح الآراء إلا عقل صاحبه ورأيه وهم وإن ذكروا أن اختيار المرء قطعة من عقله إلا أن ذلك على جهة نوع المختار ومنزلتيه من الأشباه والنظائر، لا على جهة أن للعقل في ذلك عملاً يُلزمه التبعة ويأخذه بالعهد، إذا كان الاختيار على حسب ما تنبعث له الرغبة، وكانت الرغبة على مقدار ما يهيئه الطبع وتعطيه القوة، فلا يحسن عند الفقيه مثلاً اختيار الطبيب من أهل الفقه، ولا عند اختيار صاحبه مما هو بسبيله، وهكذا. وليت شعري أين من عهدنا طبقات الرواة والحفاظ وأهل النقد والجرح والتعديل، فإنهم منا كطِباق السماء مع الأرض، وما ذلك لانقطاع الرواية وذهاب أثرها، فإن في دراسة الكتب وتصفح الأسفار بعض الغناء، ولكنه من فساد التلقين وسوء التلقي بما نشأت عن موت الذين يصلحون للإفادة، ولقد كانت الرواية في ذلك الصدر درساً من أحسن الدروس الجامعة، إذ يتناول مجلس الرواية الأدبيات بأنواعها بحثاً وشرحاً وإيراداً وتمحيصاً، فيعي الطالب من ذلك في الساعة الواحدة ما لو تُرك فيه لنفسه ومبلغ همته لدأب في تحصيله بضع سنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وما أدري الجامعة مفلحةَ في الأدب إذ هي لم تحيِ ذلك العهد ولم تَطو الأيام إليه، فإن الأمة لا تحيا إذا ماتت لغتها، ولن تموت لغة أمة حية، وما دامت العربية على أصلها فأدبها ما أخرجه لنا السلف، لا ينقص منه ولكن يزاد عليه بما تمثله الأيام وتبتدعه الأفهام وتستانفه القرائح وتتدبره العقول ويمحصه التحقيق وتُبدعه مذاهب النقدِ، وذلك منشأ الحاجة في الأدب العربي إلى الآداب الأجنبية، وهي حاجة إذا مس إليها فضل الإتقان وزيادة الإحسان فإنه! لا تبلغ أن تجعل أدبنا حَميلة على غيره، لا يقوم إلا به ولا يتعلق إلا عليه، وإنما شأننا في ذلك شأن أدباء الغربيين فيما أخذوه عن اليونان والعرب وغيرهم إلى أن اتجهت لهم هذه الطريقة التي هم عليها اليوم. فإن كان رجال الجامعة يتوخون تلك الطريقة التي أشرنا إليها فلا عذر لهم فيما أهملوه، وإلا فهم قد أعذروا من أنفسهم، وهيهات يفيد من لا يعرفون آداب لغتهم أن تلقى إليهم "المحاضرات عليها باعتبار علاقتها بأهل أوروبا وخصوصاً بإيطاليا". فهذا رأينا قذمناه لرجالنا الفضلاء "وإن تعتِب الأيام فيهم فربما.. ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 مقال الجريدة الثاني الأدب العربي في الجامعة عزيزي. . . الرافعي: لم تزل مقالتك "عن الأدب العربي والجامعة " - التي نشرتها الجريدة - في مستقرها من الأذهان. ولن تذهب هذه الفترة بين تنبيهك القائمين على ذلك الأمر وإجابتهم مقترحَك في هذه الأيام، بما لك من حسن الأثر وفضل السابقة. قلت إنهم تعجلوا العمل فلم يطيبوا ولم يُنضِجوا لمكان العجلة من تلك الحال، وعقم الأمة بالنابغين من الرجال. فهم اليوم قد طيبوا وأنضجوا وفرضوا جائزتهم لمن يضع الكتاب الوافي في أدبيات اللغة العربية وتاريخها. ولا أخالك إلا قد هيأت مادة هذا الكتاب وأخذت في إبرازه متثبتاً في اعتزامك، وإني لأعلم أن الزمن إلى موعدهم قصير، وأن العمل في اقتراحهم كثير، وأن القلم لن يصبح من أجلهم طائراً يطير، ولكنها أيضاً عجلة الفوز في الزحام، ومثار الهمة من الهمام، وموضع الفصل بين التأخر والإقدام، فلعلك محقق أملي في أدبك والسلام؟ . . . إبراهيم سيدي الفاضل: أنت أعزك الله قسِيم في المعرفة بأني لا أتكلف ما لا أحسن، ولا أحسن ما لا أتقن عملاً يضيق به وقته ولا تبلغ فيه وسائله، وإن استفرغتُ له الجهد وأقمت فيه الوهجَ المتعب وجعلت الليل والنهار عليه أنفساً حِراراً. وهؤلاء الذين قرروا تعميم الدعوة على الأدباء لوضع كتاب واف في أدبيات اللغة العربية وتاريخها، وجعلوا لذلك العمل إلى فصاله سبعة أشهر إنما مست بهم الحاجة إلى كتاب وأعوزهم مؤلفه فالتمسوه بتلك الدعوة يفتشون عنه في ضوء الجائزة. . . ولو كان هذا الأمر على حكمهم لجاز أن يمضي على إرادتهم، ولكنه على الخلاف، إلا أن يكون فى الأدب ما لا نظنه ولا نعلمه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وفي الأدباء من لا نعرفه ولا نتوهمه، وفي ذلك الأمر ما أحكموه وليس في الناس من يُحكمه! إني إذا أغمضت عيني فتمثلت لي الكتب هيأت لي منها خواطري كتابا ممتعاً في الآداب العربية يوفي على الغاية وأشف من الغاية، ولكني التمست ذات مرة طرفاً من أخبار الرواية والرواة عند العرب في فصل من هذا الباب فجعلت أستقصي وأتصفح وأتقصص حتى نفضت على القلم سواد خمس عشرة ليلة، ولم يكن هذا البحث مما جردت فيه رسالة أو أفردت له مقالة، فما بالك بكتاب يكون هذا بعضَ فصوله وفرعاً من أصوله؟ وعندنا مباحث أخرى كمبحث التنظير والموازنة، ومبحث الصناعات اللفظية وتحقيقها وتاريخها، وهي المادة الخبيثة التي لم يقم لها الأدب بعد أن فشت فيه وكانت مسقط البلاء عليه، وناهيك من مبحث لم يضبط منه كتاب في الأدبيات إلا كما يحفظ الماء من أثر السابح وإن هو ضرب فيه بيديه ورجليه! هذا إلى ما يعترض من أبواب كثيرة لا بد من كتابتها بما يستوفي حق التاريخ وحق النقد وحق الأدب، وذلك مَقذف الحصا والجمار والنصَب الذي لا يستخف به إلا من يقتحم على الرجال والأقدار، والرمض الذي لا يُسار فيه إلا على مثل حر النار، التراجم على طريقة النقد والتمحيص. وأنت خبير بأن تاريخ العظماء إذا لم يكن في كتابته ابتسام العظمة وبشاشة الحياة وأثر الأخلاق فإنما هو صور ميتة منهم، وإنك إذا كتبت أن فلاناً الشاعر الكبير ولد سنة كذا وتوفي سنة كذا. . . ومن شعره قوله، وقوله، وقوله، وكان الناس لا يعلِّقون حساب أعمالهم على سنة ولادته ولا سنة وفاته، فما عدوتَ أن نشرتَ لهم من ذلك الميت صورة ميتة أيضاً! ولعلك تذكر أيها العزيز ما بسطتُه في المقالة الأولى من نمط التأليف الذي جرى عليه المعاصرون في ذلك، وكيف يجيئون بالطم والرَّم ولا يميزون خبيثاً من طيب، وهم مع ذلك يُظهرون الاستبصار فيه ويتكلفون التبجح به، وقد قيل في رجل محروم منحوس الحظ يتعاطى مثل هذا الشأوِ من الطمع والرغبة: إنه ما رئي أحد عَشق الرزقَ عشقه ولا أبغضه الرزق بُغضه، وكذلك أرى أصحابنا وأولى لهم! ألم يكن في الأدب إلا بعض فصول التاريخ ومختارات النظيم والنثير، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 يُمسح القلم ويُرسل الكتاب وفي صدره اسم صاحبه يسعل به في الناس كما يسعل المصدور، وأنت لو تصفحت الكتاب واعتبرت بعضه ببعض لرأيته على ما احتفل فيه كورم الأنف في غير الكريم: يبلغ ما يبلغ به الغضب ثم ينحل بكلمة للزجر والتأنيب، أو صفعة للمؤاخذة والتأديب! ولقد أستشفُّ أن القوم إنما يريدون في تأليف ذلك "الكتاب الوافي " هذا النوع الذي يسميه الظرفاء من أهل الصحافة "التحرير بالمقص"، فمن كل كتاب فصل إلى فصل حتى تجتمع كلها في كتاب. فإن لم يكن مرماهم إلى هذا ولا إلى قريب منه، فما هذا الموعد الذي ضربوه أجلاً "للمسابقة" وما بالهم تعجلوا آخراً بقدر ما أبطاوا أولاً دون أن يزنوا صواب العجلة بخطأ الإبطاء. ونحن إنما أخذنا عليهم أنهم - بدأوا - بتدريس الآداب الأجنبية وحدها، فإما أن يكونوا قد انححطوا في هوى، أو شالت كفة الرأي منهم أو لهم غرض يتربصون به أسبابه وذرائعه، فلو أنهم إذ أخطاوا في الأولى أصابوا على قدر ذلك في الثانية، لكان الأمر بينهما ولخرج آخره كفارة لأوله. أما وقد نشروا الدعوة إلى أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، ووثقوا من أنفسهم بأول خاطر ظنوه صواباً، وأمَّلوا في مهب الريح أو غبرة توهموها سحاباً - فقد صار لنا أن نظن أنهم لم يتبينوا مواضع النفرة في ذلك النمط السخيف المبتذل فكان بعيداً عليهم أن يوافقوا مكامن الرغبة في الممتع الممتنع. اعتبر ذلك بأنهم على الأغلب سيعهدون بتدريس الكتاب لغيره مؤلفه. فيكون الحاضر لديهم كالغائب عنهم، ولا فضل لدارهم إلا أنها مصدر التلقين، فإذا طبع الكتاب صارت كل مكتبة في حكم الجامعة، لأن العلم هو الكتاب لا الذي يلقيه، وإلا فما بالهم لا يعهدون بالتأليف لمن سيعهدون إليه بالتدريس؛ وهل يقتصرون على أن يكون من كفاية الأستاذ القدرة على إلقاء درسه دون القدرة على استنباط الدرس واستجماع مادته، حتى لا يزيد على أن يكون هو بين تلامذته التلميذ الكبير. . .؟ ثم من هم أولئك الذين سيحكمونهم في التفضيل والتنظير والمقايسة بين الكتب الوافية التي تنتهي إليهم؟ لا جرم أن أولى الناس بالحكم أبصرهم بالمحكوم فيه، وإلا كان حكمه في الخصومة خصومة أخرى تحتاج إلى حكم من غيره، وليس أولئك المحكمون في وزن من فُرضت لهم الطاعة والتسليم على الناس كفئة الفضاة في الشرع والنظام، فلا يكون ثمة دليل على كفايتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 للحكم إلا تسليم الأدباء لهم بهذه الكفاية، وإذا كان ذلك فلمَ تنفضُ إدارة الجامعة يدها من قوم هم رؤساء الصناعة وظهور مناصبها العالية وألسنة الحكم فيها، ثم تلتمس من ضعف الأفراد ما لم تؤمله في قوة الجماعة، وهي تعلم أن الحمل الذي تتوزعه الأكفُّ يهون على الرقاب؟ هذه - أصلحك الله - بعض أسباب الفساد في ذلك الاقتراح، فإن كانت فيه جهة صالحة لم تنكشف لي فذلك لأن هذا الأمر عندي أمرُ ليل مشتبه مظلم، وما أحتسبك الآن إلا وقد ضننت - بسبعة أَشهر - من عمري وعرفت أني سأكون من قراء الكتاب ومنتقديه إن شاء الله، لأني وإن كنت أحمل القلم غير أني لم أعوده أن يكون ناسخاً يتمسك بحرف الكلام، ويمشي في الكتاب مشية الضرير لا يستفيد من ضوء ولا يستضيء من ظلام، فأما وقد أرادوا القلم على ما أرادوه، فالسلام على الأقلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الدكتور طه حسين وما يقرِّره تفضل الأستاذ الدكتور طه حسين بإلقاء محاضرته على تأثير الوثنية واليهودية والنصرانية على الشعر العربي، وانتهى إلى نتيجتين: 1 - أن لا تأثير للوثنية واليهودية والنصرانية على الشعر العربي، والجاهلي منه على الأخص. 2 - أن ما وجد من الشعر مشتملاً على مبادئ الوثنية أو اليهودية أو النصرانية إنما هو مدسوس على من نسب إليهم، وإنه لم يكن موجوداً في عصرهم. وأرجع هاتين النتيجتين إلى ما يأتي: ا - إن الحكام المسلمين منعوا تداول كل شعر اشتمل على مبادئ هذه الديانات مما يخالف سنن الإسلام ومبادئه ومحَوه جميعه. 2 - إن أهل هذه الملل بعد سكون حركة الفتوحات واستتباب السلم وتيقظ الحركة الفكرية في ميدان الأدب والعلم قد دفعهم تعصبهم لشعراء ملَّتهم السابقين إلى التقول عليهم بما لم يقولوه ونسبةِ أشعار إليهم لم تكن من نسج بيانهم ولا هي من منتجات عقولهم. وإننا نستمح الأستاذ الفاضل ونتقدم إليه بحق حرمة حرية البحث أن يتفضل علينا بالإجابة على ما تلجلج في صدورنا من أثر ما قرره حضرته ويفيدنا بما وسعه علمه الغزير عن المسائل الآتية: 1 - قرر حضرته أن لا أثر للوثنية واليهودية والنصرانية على الشعر العربي لأن العرب بعد الإسلام محوا جميع الأشعار التي تشتمل على مبادئ هذه الديانات أو على مبادئ تختلف مع الدين الإسلامي وتناقض أصوله، وهذه تهمة لا يعزب عن فطنته أنها على جانب من الخطورة لا يصح السكوت عليها على أنها من مقررات العلم المسلم بها، لأن الأبحاث العلمية ليست أساسها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المشاعر وقيام نزعات وميول خاصة عند من يقررها، وإنما أساسها دائماً اليقين الذي يطمئن إليه الباحث في بحثه ويقتنع به كل من يدلي إليه بهذا البحث. وإذا كان الأمر كذلك فليتفضل علينا الأستاذ ويقل لنا: مَن مِن ملوك المسلمين وحكامهم هو الذي أمر بوأد الشعر الوثني واليهودي والنصراني ومحوِه؟ مَن مِن أعوان هؤلاء الحكام الذىِ تولى ذلك؟ وكيف كانت طريقة المحو؟ وهل كتب لها النجاح في كل بلاد الإسلام؟ وهل لم تجد لها في البلاد الأخرى ملجأ إليه؟ وهنا نستلفت حضرته إلى أن الشعر كان يتناقل بالرواية وتعيه صدور الحفاظ، وأن هؤلاء الحفاظ كانوا على ما وصل إليه علمنا في أكثرية ممن يعرفون القراءة والكتابة، وأنه إذا كان لحاكم أيًّا كان أن يمحو ما حوته بطون الكتب فكيف السبيل له أن يذهب بما وعته صدور الحفاظ من أهل هاته الملل وأن يعقل ألسنتهم عن أن ينقلوا إلى أهل ملتهم من بنيهم ومُعاشريهم ومخالطيهم وأصدقائهم والى غيرهم ممن لهم ضِلع معهم من صداقة أو صلة علمية؛ وهل بعد هذا يمكننا أن نسلم بأنه لم يتسرب إلينا من شعر هاته الملل شيء أصلاً؟ وهل بعد هذا يمكننا أن نسلم في راحة من الضمير أن ما نُسب إلى شعراء هاته الملل من الشعر المشتمل على مبادئ دياناتهم واعتقاداتهم ليس هو من شعرهم وأنه ملفق كله ولا يشتمل أي مأثور من أقوالهم؟ وإذا تجوزنا وقلنا باحتمال الشك فيما نقل إلينا من الأشعار المنسوبة إلى هؤلاء القوم، فهل لا يحسن بالأستاذ أن يبين لنا مميزات الشعر الجاهلي والأموي والعباسي بحيث يمكن التفريق بين كل منهم في كل فن من فنون الشعر؟ وهل له أن يبين لنا أن هاته الفروق هي من الأصول الثابتة لم يخرج عليها أحد من أهل تلك العصور؟ وهل لم يكن بينهم - على ما نعهده في رجال الأدب من معاصرينا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ميل إلى الغريب والمهجور ويتعمد التعقيد في العبارة أو يميل إلى الابتذال. وأنه لم يكن ثم من بينهم المتعصب إلى القديم والثائر عليهم المتعشق لكل جديد؟ - وهل يحسن بالأستاذ أن يبين لنا ما طباع كل شاعر ممن نسب إليهم هذا الشعو كالأعشى وزهير وعبيد بن الأبرص وغيرهم من أصحاب المعلقات وشعراء الجاهلية؟ وهل له أن يتنبأ لنا عما قام بنفسه وما كان يتملكه من الإحساس طول حياته، في غضبه وحلمه، وزهده وتفاخره، وسرائه وضرائه، وما تكيفت به نفسيته في حله وترحاله، وصحته ومرضه وجِده ومجونه، وعبثه ولهوه، وفرحه وحزنه، وعبادته وعمله، وشبابه وهرمه؟ وأن يبين لنا وجه استحالة أن يصدر منه ما نسب إليه من الشعر؟ أظن - وليعذرني الأستاذ في ذلك - أن الوصول إلى شيء من هذا الذي بيناه ليس هو الشيء الهين إن لم يكن من المستحيل، وبعبارة أخرى أنه يستحيل الجزم بحال من الأحوال بأنه لم يصدر من واحد من هؤلاء أي شعر مما هو منسوب إليه الآن. وإذا كان الأمر كذلك كان من المستحيل أن يقرر بطريقة علمية وعلى وجه الجزم واليقين بعدم تسرب شعر أهل هاته الديانات إلينا، وأن الموجود منه بين أيدينا متقول على أصحابه. وهناك دليل آخر نسوقه إلى حضرته، وهو أن ديناً يحث على نشر العلم ويزهو نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أنا مدينة العلم" يستحيل عقلاً أن يعمل على دثر آثار شعراء هاته الديانات لمجرد مخالفة مبادئهم لمبادئه، فقد جاء في الكتاب العزيز (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) . كما دلت الآثار على أن المسلمين كانوا على فهم تام لهذا المبدأ، إذ بينما يحرم دينهم الخمر ويلعن رسولهم شاربها وحاملها وساقيها تراهم قد وسِعَت صدورهم ما ضمنه الشعراء عنها في أشعارهم، بل زاد بهم التسامح حتى أن زعيم المتصوفة والكثير منهم أتوا بخمريات في أشعارهم، في حين أن هؤلاء من لا مطعن عليه في دينه ولا مطعن في أخذه بمبدأ تحليل الخمر! والأبلغ من ذلك تلك القصائد الكبيرة التي تضمنتها مجموعاتُ الأدب الكبرى والطبقات الوافية من كتبه المعتبرة، كالأغاني والأمالى والعقد الفريد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وغيرها، مما هو صريح في مسائل الملامسة والغزل. وما ورد في المساحقة وغيرها من مسائل الاختلاط الشهواني والتعبير عن وسائل هذا بألفاظ هي غاية في الصراحة، وبالأخص في خروجها على آداب الدين ومبادئه وهي مع ذلك لم يمتنع تناولها ولا أمكن توقيف تيار تسربها من قائليها إلينا مع طول الفترة التي تفصل بيننا وبينهم. وسواء قلنا بأن هذه الأشعار وصلت إلينا بسبب تسامح المسلمين أو بسبب استحالة عملية الوأد والمحو، فالنتيجة المنطقية لذلك واحدة، وهي أنه لا يمكن التسليم بحال من الأحوال بما أراد حضرته أن يصلَ إليه وهو أن جميع الشعر المنسوب إلى شعراء الملل غير الإسلامية في الجاهلية على الأخص هو شعر مدخول عليهم مدسوس بحكم التعصب ونعرة الانتصار لأهل الملة. هذا وإن مجرد القول بعدم وجود شعر لأهل الملل غير الإسلامية من شعراء الجاهلية وعصور الخلفاء الراشدين ودولتي بني أمية وبني العباس هو قول يناقضه الواقع، ويكفينا ما حكاه الأستاذ الفاضل في محاضرته بأن هناك مجموعة كبيرة اسمها: شعراء النصرانية، وأن هناك طائفة أخرى منسوبة إلى شعراء أهل الملل والديانات الأخرى، إذ الأصل في الناس إذا ما رووا أن يحكموا الصدق، ولا يصح نسبة الكذب إليهم لغير علة ظاهرة. وكل رواية لا تناقض العقل ولا تتنافى مع المشهور عن أخلاق من نسبت إليه والمتعارف من عاداته وطباعه ووسطه الذي نشأ فيه وببيئته التي تربى في أحضانها، لا يمكن ولا يصح أن يسلَّم بالشك فيها، كما أنه لا يتفق مع كرامة العلم واعتلاء عرش الأستاذية أن يتبرع الأستاذ بسرد التهم جزافاً إلى طوائف وجماعات بغير حجة قائمة عليهم تبعث اليقين إلى كل من عرضت عليه من أهل الحصانة، ومن باب أولى إن الأمانة تقضي بالتريث في الحكم بالإدانة في أية تهمة لأن من ألزم اللزوميات لمبادئ العلم رجوعها إلى قضايا يقينية وإلا فقدت قيمتها، لأن ما يرتكن على قضايا تخمينية أو تصورية إنما يرتكن على أساس لا هو بالمأمون ولا هو محل للثقة والاعتبار. وإذا كانت هذه هي المبادئ الأولية المسلَّم بها في كل بحث علمي الواجب اتباعها عند الحكم على أية مسألة من المسائل، فإن اتهام العرب من المسلمين أو حكام دولهم بأنهم محوا الشعر المشتمل على مبادئ لأهل الوثنية واليهودية والنصرانية تختلف عن مبادئ الدين الإسلامي - هو قول لا يرتكن إلى شيء من الحقيقة اليقينية، وكان أيضاً القول بتلفيق كل الموجود من شعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 هؤلاء القوم مما هو منسوب إلى العصر الجاهلي أو الأموي أو العباسي هو الآخر قول لم يقم الدليل على صحته، فضلاً عن مخالفته لمقتضى المعقول الذي يجزم باستحاله منع تسرب شعر هؤلاء القوم. وأظنني وقد وصلت إلى عكس ما ذهب إليه الأستاذ، ولم يطاوعني لا ذمتي ولا ضميري على مشايعته في حكمه القاسي الذي حكمه، قد بينت لحضرته مثار الشك في كل ما قرره. عباس فضلي القاضي بالمحاكم الأهلية قلنا وقد نشرنا هذا المقال بحروفه لأنه كان سبباً في أن الدكتور طه حسين أسقط من كتابه ما كان قرره في الجامعة مما أشار إليه صاحب المقال حتى لتستطيع أن تضع يدك على مكان التمزيق من تلك المرقعة. . . ولم يرد "طه" على هذا المقال ولكن ردت الطاء من طه. . . فكتب لأحد تلاميذه أو كتب أحد تلاميذه، وهو وتلميذه كما قيل في حمار الأخطل: هو وذيل حماره سواء! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم لا أريد أن أناقش أحداً ولا أن أسمي أشخاصاً ولا أن أحمل على باحث أديب بتجهيل وإنما ألمح من خلال الكتابات التي يجود بها بعض أدباء، الوقت - منزعاً؛ وإن كان في حد ذاته محموداً فقد ينقلب في إساءة استعماله مذموماً ويصير ضلالاً. ولع بعض الأدباء باتهام التاريخ الإسلامي الذي لدينا وسلوكِ طريقة في التعليل لم يسلكها الأولون، ارتياداً لوجوه جديدة وأسباب للحوادث لم تكن معروفة، بحيث يقال: إنهم كشفوا حقائق تاريخية لم يعرفها غيرهم أو عرفوا أسراراً أعماها التاريخ الديني أو عمتها السياسة وأهواؤها على الجمهور. ويسمون ذلك تمحيصاً وتحقيقاً، ويظنون أن التمحيص والتحقيق هما مجرد المخالفة والخروج عما عليه الرأي العام. والحقيقة أنه إن كان مقصدهم مجرد المخالفة وتغيير الأسلوب لعدم الصبر على طعام واحد فقد أصابوا الغرض. ولكن إن كانوا يزعمون أن هذه التعليلات الغريبة هي الأصل في تلك الوقائع فليسمحوا لنا أن نستعفيهم من التصديق لأننا نعرف التاريخ بالأدلة العقلية والنقلية وملاحظة ما سبق وما لحق واستنباط النتائج من المقدمات، ولا نعرفه تخرصات وافتراضات وأبنية على غير أساس، فإن كان هذا هو التمحيص التاريخي الذي يتوخى بعض العصريين أن يقلد به الإفرنج فلا كان هذا التمحيص الذي هو عبارة عن قلب الحقائق لأجل الإتيان بالبدع، ويجهل علماء الإفرنج عن أن يكون تمحيصهم من هذا النمط، وقد خلط منهم من خلط في معرض التمحيص ولكن نبه المدققون منهم على أنهم خلطوا. فعندما يقوم واحد فيذهب إلى أن تاريخ حرب اليمامة محاط بالغموض. وأن مقاتلة أبي بكر لأهل الردَّة لم تكن من أجل إقامة الدين بل من أجل تأسيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الملك، وما أشبه ذلك من التوجيهات التي لم يقم عليها أدنى دليل - نعلم أنه حاول أن ينهج مناهج الممحصين فظن التمحيص مجرد الخروج عن الإجماع ولو كان الإجماع صحيحاً، فلم يصب المرمى. وعندما يقوم آخر فيدعي أن السلف في صدر الإسلام وضعوا "سانسورا" على الشعر الجاهلي المُشرَب مبادئ الوثنية أو النصرانية أو اليهودية - نعلم أن هذه الدعوى مبنية على الافترَاض والتخيل، وأنها لا تستند على دليل بل الواقع يناقضها من كل الجهات. أعجبتني جداً عبارة الذي رد على هذه الفئة فقال لهم: "مَن مِن ملوك المسلمين وحكامهم أمر بوأد الشعر الوثني واليهودي والنصراني ومَحوه؟ مَن مِن أعوان هؤلاء الحكام تولى ذلك؟ وكيف كانت طريقة المحو؟ وهل كتب لها النجاح في كل بلاد الإسلام؟ . . . الخ ". والحقيقة أنه ليس لهم من جواب على هذا السؤال، ولا حيلة لهم في التخلص منه إلا بإيراد أدلة واهية لا تدفع شيئاً من حقيقة حرية الرواية في ذلك العصر ومِن كون بابها بقي مفتوحاً على مصراعيه؛ ولا تنفي أن عصر الصحابة لم يعرف "السانسور" ولا مراقبة الرواية، رلا كمِّ الأفواه، ولا شيئاً من أوضاع "ديوان التفتيش ". وإذا تأملتَ في كلام هذه الفرقة رأيتهم يشيرون من طرف خفي إلى نزول درجة الحضارة التي كان عليها الصحابة، وأن شرائعهم وقوانينهم إنما كانت شرائع قوم في طفولة المدنية، وأنها "لا تمس الحياة إلا قليلاً"، وما أشبه ذلك، ثم ينسون أن مراقبة الكتابات والروايات إن هي إلا من أوضاع الهيئات الاجتماعية المتمدينة التي استبحر فيها العمران وتأثل الملك، وأن "السانسور" لا يأتي مع بداوة المجتمع ولا يعقل وجوده في أيام السذاجة كالتي عاش فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضوان الله عليهم. فمراقبة الكتب والخطب كانت تقع في رومية والقسطنطينية لعهد عظمة القياصرة، وفي أيام سلطة الباباوات، وفي عهد ملوك فاتحين كـ لويس الرابع عشر، وقد بالغ فيها نابليون الأول ثم الثالث، وقد وقعت من أيام العرب في عهد العباسيين وغيرهم من ملوك الأعاجم، أو الملوك العرب الذين اتخذوا أطوار الأعاجم، فأما القول بأنها كانت في عهد الخلفاء الراشدين وفي أيام الصحابة فمحض تحكم ومكابرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 نعم كان هؤلاء الناس من شديدي التحمس بالدين الجديد الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكن حماستهم هذه لم تقلع ما في قلوبهم من حب الحرية التي نشأوا عليها في الجاهلية والتي لا يوجد في الشرق ولا في الغرب أمة بلغت شأو العرب فيها، ومن قال: "إن العرب أعرق الأمم في الحرية" فغير مبالغ، لهذا تجدهم رووا بألسنتهم وكتبوا بأقلامهم جميع مطاعن المشركين في النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ولم يُخفوا منها قليلاً ولا كثيراً، ونقلوا الشبه والاعتراضات التي كانت تقع عَلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورهطه، وذكروا كثيراً مما كان يرد به بعض العرب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أن اثنين تخاصما إليه فحكم لأحدهما، فقال المحكوم عليه: هذا حكم لم يُرد به وجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام: " أوذِيَ موسى من قبلي بأكثر من هذا" وغير ذلك مما هو مستفيض في كتب السيرة النبوية وأخبار صدر الإسلام، ومما رواه الرواة المسلمون وحرره الكتبة المسلمون وأقرأه العلماء المسلمون، ولم يكن عندهم حرج في نقل تلك الأحاديث وإبرازها كما جاءت، لأنهم كانوا على بينة من دينهم الذي دانوا به، وكانت قلوبهم مطمئنة بالإيمان، وكانت سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معلومة عندهم بدقائقها، فلم يكونوا يحتاجون فيها إلى "السانسور" دَرءاً للشبهات عنها وخوفاً من أن يُفضي تدأول هذه الروايات إلى زعزعة عقيدة الإسلام التي لم تكن منذ بها جاء بها صاحبها - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم على شفا جُرف هار. إن الإسلام مولود رُزق الصحة ووثاقة التركيب منذ ولادته. نعم في هاتيك الأيام وما يليها كانوا يردون أهاجي بعض الشعراء للصحابة والأنصار و "لبني النجار" وفي تلك الأيام كان يعاتبُ الرسول ويقال له: ما كان ضَرك لو عفوتَ فربما. . . مَن الفتى وهو المَغيظُ المُحنقُ في أيام السلف كان ينادي الأخطل: ولستُ بصائم رمضانَ عمري. . . ولستُ بآكل لحم الأضاحي ولستُ بقائل ما عشتُ يوماً. . . قُبيل الصبح حيَّ على الفلاح كان يقول هذا ويدخل على الخلفاء ويجيزونه الجوائز السنية، وكان هو وغيره من النصارى واليهود يفتخرون بدينهم ويعلنونه في أشعارهم التي كان يرويها المسلمون ويقيدونها في دفاترهم، ولما جاء الملكَ النعمانَ ابن المنذر رجل نصراني في اليوم الذي كان عنده يوم بؤس وأمر النعمان بقتله، استماحه النصرانى مهلة أن يذهب ويودع أهله، فأذن له، على أن يقدم كفيلاً يحل محله فى القتل إذا هو لم يرجع، فرجع، وتعجب النعمان من وفائه، فسأله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ما حملك على الوفاء؟ فأجابه النصراني: حملني ديني! فقال له النعمان: وما دينك؟ قال له: النصرانية. وتنصر النعمان بعد هذه فكانت هذه الرواية مما حرره المسلمون ولم يغمطوا النصرانية حقها، ولا غمطوا اليهودية أيضاً حقها، وأجمع العرب المسلمون على نقل مآثر السموأل وكان السموأل يهودياً، وما زال السموأل مضرباً للأمثال في علو النفس وكرم السجية إلى يومنا هذا، حتى قال شوقي - شاعر العصر - منذ أيام قلائل: كأَّ من السموأل فيه شيئاً - فكل جهاته كرم وخُلقُ فكيف يكون المسلمون الأوائل حاولوَا خنق كل صوت غير صوتهم ومحو آثار النصرانية واليهودية والوثنية من شعر العرب؟ ثم إن شعر شعراء النصرانية في الجاهلية يملأ الدواوين، وما منهم إلا مَن حَرص علماء الإسلام على التنبيه أنه كان نصرانياً، وقد نقلوا خُطب قس بن ساعدة الذي كان مطراناً، ونقلوا ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما كون ديوان شعراء النصرانية المطبوع في بيروت موضوعاً وأن الشعراء المروية أشعارهم فيه لم يكونوا نصارى بل جعلهم صاحب الديوان نصارى وهم جاهليون لا غير، فمن يقول هذا، ومن يصل به المراء إلى إنكار أن أكثر أولئك الشعراء كانوا نصارى؟ غاية ما يقال إن بعض أولئك الشعراء لم تثبت نصرانيتهم. وهذا لا ينفي أن شعراء كثيرين مثل العبادي والأخطل والقطامي كانوا نصارى مجمعاً على نصرانيتهم، وأن المسلمين نقلوا أشعارهم كما هي، ولم يحذفوا منها شيئاً، وكان الشعراء المسملمون يناقشونهم ويداعبونهم، وكان جرير يقول: قال الأخيطل أن رأى راياتهم. . . يا مارِ سرجس لا نريد قتالا! فالقول بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لم يبقوا على أي نزعة تخالف دين الإسلام، وأنهم طووا شعر النصارى واليهود والمشركين محض تحكم لم يقم عليه أدنى دليل، بل قام الدليل على حرية الإسلام وتساهله في الدين. ونقل رواة المسلمين ليس شعر النصارى واليهود والمشركين فقط، بل أهاجيَ كثيرة قالها هؤلاء في النبي وأصحابه وأنصاره. يا إخواننا، إنه في صدر الإسلام كانوا يتناقلون مثل قوله: لعبت هاشم بالدين وما. . . نبأ جاء ولا وحي نزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ليت أشياخي ببدر شهدوا. . . جزعَ الخزرج من وقع الأسل روى هذا المسلمون وما زالوا يروونه، وفي زمان بني أمية كان العهد بسذاجة الجاهلية قريباً، فكانت الحرية في القول تامة والألسنة منطلقة، ومما عُزيَ إلى يزيد يوم جيء برأس الحسين رضي الله عنه: مذ أقبلت تلك الرؤوس وأشرقت. . . تلك الشموس على ربي جيرون صاح الغراب فقلت صح أو لا تصح. . . إني قضيتُ من النبي ديوني ثم عُزي الوليد أنه قال وقد سكر ومزق القرآن: إذا ما جئتَ ربك يوم حشر. . . فقل يا رب مزقني الوليدُ نعم رُويت هذه الأشعار وأمثالها مع لعن قائلها، ولكنها رويت وقيدت في التواريخ ولم تمنع روايتها، ولا كان قلم مراقبة ولا ديوان تفتيش ولا كتب جائزة ولا كتب ممنوعة. وأما عدم حرمة النبي والصحابة للشعر وقولهم إِن روايته ضلال، فهذا زعم باطل مخالف للإجماع، فقد روى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشعر واستحسنه وقال: "إن من الشعر لحكمة" ورواه عمر وعلي وسائر الصحابة وتناشدوه وطربوا له وكان فكاهة مجالسهم. وقصة كعب بن زهير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنشاده إياه " بانت سعادُ" واهتزاز النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه القصيدة وإنعامه على كعب ببُردته الشريفة - كل ذلك لا يحتاج إلى بيان، ولكن الشعر كسائر الأشياء إذا أسيء استعماله انقلب إلى الضرر، وإذا كان وقع من عمر رضي الله عنه - وهو من أبصر الناس بنقد الشعر وأشدهم اهتزازاً لجيده - تضييق على الشعراء، فيكون في المواطن التي أسيء فيها استعمال الشعر وصار باباً للمشاحنات والفتن، وكما أن للخليفة طبيعة ينعش بها إلى الأدب، ويعجب بسحر البيان، فإن عليه واجباً هو حماية الأعراض وحفظ السلام. أما إزراء الشعراء بالعلماء وما قاله بعض هؤلاء في الإعراض عنه والتعوذ منه فهو من باب التورع من بعض الفقهاء، وذلك لأنهم كانوا يرون فيه مبالغة وغلوًا وعبثاً، فأشفقوا من أن يؤثر الاعتماد عليه في أخلاق النشءِ ويصرفهم عن العبادة؛ ولكن هذا الزهد في الشعر لم يحملهم ولا حَمل الخلفاء والسلاطين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 على منع قرض الشعر وروايته والتأدب به، وذلك كما أن نصرانية الأخطل والقطامي وأمثالهما لم تمنع متأدبي الإسلام من رواية أشعارهم وحفظها والتأدب بها، وأن وثنية أكثر شعراء الجاهلية لم تحل دون انطباع طلاب الفصاحة من المسلمين بأساليبهم ونسجهم على منوالهم، ومَق مِن العلماء والمؤرخين المحققين يقدر أن يقول إن أدباء العرب بعد الإسلام رغبوا عن شعر الجاهلية وأهملوا روايته من أجل أن قائليه كانوا شركين؛ أو أن المسلمين طووا كلام قس بن ساعدة لأنه كان نصرانياً؛ أو لم يعجبوا بقصيدة "إذا المرء لم يَدنس من اللؤم عرضه " لأن صاحبها كان يهودياً؛ مَن يا رب يقول هذا إلا الذين يبنون التاريخ على الأهواء والخيالات؟ وقع التشدد في مثل هذه الأمور في أيام الدولة العباسية؛ لبعد العهد بسذاجة الدور الأول، وميلِ هذه الدولة إلى مناحي الأعاجم، وفُشُوِّ الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية في دار السلام، مما أخاف الخلفاء ووزراءهم على العقيدة الدينية وحَفَزهم على الاحتياط لعدم انحلالها، وهذا أشبه بما كان في أوروبا في القرون الوسطى، لا بل في القرون الأخيرة، لا بل بما لا تزال بقاياه إلى هذه الآونة، وبرغم ما كان من هذا الاحتياط في أيام العباسيين ومَن في عصرهم من ملوك الإسلام فقد كان الناس يروون أهاجيهم ومثالبهم ويتناشدون المطاعن الفاحشة في أعراضهم حتى في مجالس أقرب الناس إليهم، وقد قال ْالمأمون للقاضي يحيى بن أكثم: من ذا الذي يقول: قاض يرى الحدَّ في الزناءِ. . . لا يرى على من يلوط من باس يشير إلى أن هذا البيت قيل فيه، فأجابه: هو الذي يقول يا أمير المؤمنين: لا أرى الجور ينقضي وعلى الأمَّة. . . والٍ من بني العباس وقد شاعت أقاويل التعطيل والإلحاد في هاتيك الأيام برغم الضبط والمراقبة ودونت أقوال الملحدين والدهريين. ورويت أشعار المعري ومن في سبيله حتى ما يخالف الدين الإسلامي مثل قوله: وقوم أتوا من أقاصي البلاد. . . لرمي الجمار ولثم الحجر وكثير غير هذا من أقواله، ورسالة الغفران وصلت إلينا، ولولا أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 تدوولت بالنسخ من قراب ألف سنة ما وصلت إلينا، ولو كان هناك "سانسور" ما أبقى على رسالة الغفران. وتجادل نصراني في الدين مع أحد بني العباس، ونال النصراني من العقيدة الإسلامية، وبلغ المأمون ذلك فقال ما معناه، ما كان أغنى ابن عمنا عن تعريض دينه للطعن! والكتاب الذي كتبه أبو بكر الخوارزمي لشيعة نيسابور أشهر من " قِفا نبكِ. وليس بكتاب خاص أو رسالة مكتومة، بل هو خطاب لأهل بلدة كانت من أشهر البلاد، وفيه من السب لمعاوية ما فيه، ومن النعوت لخلفاء بني أمية وبني العباس والخوض في أعراضهم ما لا يردُ في أقذع الجرائد وهو الذي يقول عن الرشيد: "هارون بن الخيزران"، وعن المتوكل "المتوكل على الشيطان لا على الرحمن " وهلم جرَّا، وكان أبو بكر الخوارزمي في زمن بني العباس، وكان إذا قال أثر الناسُ قوله وتدارسوه. ولا أنفي - مع ذلك - أن الدولة الإسلامية في القرون التالية كانت تحجر أحياناً على الفلسفة التي يراد منها التعطيل أو الالحاد، ويسمونها الزندقة، فأما إزالة شعر النصارى أو اليهود أو المشركين ومنع روايته فشيء لم يقع لا في زمن الصحابة ولا في أيام بني أمية ولا أيام بني العباس. وقد ألف النصارى في تعظيم دينهم في زمان بني العباس كتباً كثيرةَ وتواريخ أيدوا بها مذهبهم، وما اعترضهم أحد ولا منعت الدولة كتبهم. وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، وأَجلى عمرُ النصارى واليهود عنها، فلم يكن ذلك لينقص شيئاً من حرية النصارى واليهود في دينهم في سائر بلاد الإسلام، بل من حرية الصابئة والمجوس، وما قال مؤرخ غربي ولا شرقي إن الإسلام أكره أحداً في الدين أو منع كتب الملل الأخرى. فيا إخواننا إن التاريخ لا يكون بالظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً. وهذا نتف من كثير، ووشل من بحر؛ ولو كانت بيدنا الآن كتب لأحلناكم على شواهد لا تنتهي، فإن كنتم مع هذا تصرون على المخالفة لأجل المخالفة فليس هذا مما يزيد الثقة بعلمكم، بل هو مما ينقصها، وبدلاً من أن يضع العلم على قواعد اليقين يضعه على قواعد أوهى من بيت العنكبوت. . . شكيب أرسلان رومة في مارس سنة 1926 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 أسلوب طه حسين لم ينفرد الأستاذ - طه حسين بانتحال الجديد والتجديد، ولا هو أول من زعم ذلك أو حامى عنه أو كابر عليه، فقد سبقه آخرون لكنه أول من اجترأ على الأدب العربي بالمسخ والتكلف،. وقال فيه بالرأي الأحمق، وأداره على الوهم البعيد، وتناوله من حيث يأخذه علماً ليتركه جهلاً وهو يحسب أنه آخذُه جهلاً وتاركه علماً، ثم كان أول من استعمل الركاكة في أسلوب التكرار كأنه يمضغ الكلام مضغاً، فنزل به إلى أحط منازله، وابتلى العربية منه بالمكروه الذي لا صبر فيه، والمرض الذي لا علاج منه، وصار ذلك طبعاً بالإدمان عليه، فلا يأتي - بالجملة الواحدة إلا انتزع منها الانتزاعات المختلفة، ودار بها أو دارت به تعسفاً وضعفاً وإخلالاً بشروط الفصاحة وقوانين العربية. والآفة الكبرى أنه كان يحتسب ذلك إبداعاً منه في الأسلوب وإحكاماً في السبك وطريقة بين المنطق والبلاغة! ْوإن من عَجزأن يعلوَ لا يعجز أن يسفل، بيد أنا لم نجد ولم نعرف غير هذا الأستاذ أحداً يرضى لنفسه أنْ يتمدح بالعيب، ويتحسَّن بالقبح، ويرفع المنازعة مما لا نزاع فيه، فكان يزعم أنه لا ينساغ لأديب أن يرد عليه هذه الطريقة، وأنه هو لا يحصي من قلَّدوه فيها، حتى رميناه في جريدة "السياسة" بهذه الكلمة التي تراها فجعل من بعدها يتحفظ على نفسه ويتوقى التكرار بجهده، وقد أثبتنا الكلمة لأنها ستأتي الإشارة إليها، ثم لأنها مما يحسن أن يحفظ للتاريخ ليعرف مَن بعدنا كيف كان "جديد" من قبلهم.. وترى الكلمة على طريقة السؤال والمداراة في وجه غير النقد أو التصريح، لأن الأستاذ كان يتولى "صحيفة الأدب" في جريدة "السياسة" الغراء ويقوم على كل ما ينشر فيها، فكان لا يجيز إلا ما أراد نشره أو وقع من نفسه موقعاً، وليس مع رأيه في ذلك رأى ألبتَّة، فاحتلنا عليه بتوجيه الخطاب وجهة لا ينفر منها وإن لم يأنس إليها، ولا ينكر إن لم يقرَّها، وجازت عليه الحيلة فوقع فيها ثم فطن لها من بعدُ، نبهه صديق كنا حكيناها له فأسرَّها في نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 إلى الأستاذ الفاضل الدكتور طه حسين. عرفنا أنك تدعو إلى نمط جديد في الكتابة تنتقل به أساليب الإنشاء أو تتغير به رسوم هذه الأساليب أو تَعفُو طرائق هذه الرسوم، وأن هذا مما تبعث عليه سنة التطور لأنه فصلُ ما بين القديم والحديث، ثم هو هو الذوق الأدبي الجديد الذي تزعمه والذي يختلج إليه الطبع في هذا الزمن وتقتضيه ضرورة العلم والاتساع فيه، والأدبِ والتحقق فيه، واللغةِ والرغبة في إحيائها. وقد كشف لنا الأستاذ الفاضل ومن يجاهدون في سبيله ويكتبون على طريقته أو يحتذونها - عن حقيقة ذلك النمط وعرضوا أمثلة، وحققوا معنى مصاحبة الطبع ومفارقة التكلف في هذه اللغة الفصحى التي لا يولد أحد فيها ولا ينشأ أحد عليها. . . وبينوا كيف يكون الكاتب حضرِياً في رأيهم وكيف يتسمَّح لهذا الذوق ويترفق فيه، ويتظرف به، وكل ذلك بما كتبوا ويكتبون من هذه المقالات السائغة اللينة الحلوة. . . التي تسرع في تلاوتها إلى الطبع بأشد مما تسرع كتابتها إلى المطبعة، غير أني حفظك الله رجل قد جعل الله فيما جعل من محنتي وبلائي أني داثب على الاستقراء لهذه اللغة والتتبع لأساليب الكلام فيها، مما يسمح أو يلتوي، ومما يأبى أو ينقاد، ومما يتسهل أو يتوغر، ومما يؤمن به عصر ويكفر به عصر آخر، لأن فلسفة ذلك باب من أبواب كتاب أضعه، ولكني في كل ما قرأت من بدء اتصال الرواية بالعرب إلى اليوم لم أصب مثل هذا الأسلوب الذي تكتب به. كقولك في صدر قصة المعلمين التي نشرتها "السياسة" اليوم "نعم قصة المعلمين، فللمعلمين قصة وللمعلمين قضية، وكنا نحب ألا تكون للمعلمين قصة وألا تكون للمعلمين قضية، لأننا نربأ بمقام المعلمين عن أن تكون لهم قصة أو قضية، ولكن أراد الله ولا مرد لما أراد الله أن يتورط المعلمون في قصة، وأن يتورط المعلمون في قضية، ليست قضيتهم أمام المحاكم وإن كانت أوشكت في يوم من الأيام أن تصل إلى المحاكم. وليست قصتهم مفزعة مُهلعة (كذا كذا) وإن كانت أوشكت في يوم من الأيام أن تكون مفزعة مهلعة". فهذه عشرة أسطر صغيرة دار "المعلمين" فيها عدد أيام الحسوم. . . وحكيت "القصة" ست مرات، وكان "للقضية" ست جلسات، غير ما هناك من مفزعة ومهلعة قد أفزعت وأهلعت مرتين وكير ما بقي مما هو ظاهر بنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ولا ريب أن الأستاذ إما أن يكون قد نحا بهذا نحواً لا نعرفه وقصد إلى وجه لم نتبينه، فهو يدلنا عليه لنجريه فيما أجرينا من أساليب البلاغة ونؤرخ له في الذوق الجديد، وإما أن يكون عند ظننا به في اعتبار هذه الكلمات رُقى وطلاسم للتسخير بقوتها وروحانيتها. . . فإذا قرأ المعلمون هذه المقالة عشر مرات انحلت المشكلة وجاءهم الرزق وهم نائمون، ولكن يبقى يا سيدي أن تختم الكلام بعد هذه الهمهمة والغمغمة بقولك. الوحَى الوحَى العَجَلَ العَجَلَ الساعةَ الساعةَ. . . والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 القنبلة الأولى ولما أهدينا إلى جريدة " السياسة " كتابنا "رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب"، كتب عنه الدكتور طه حسين في صحيفة "الأدب" - بعد مجلس كان لنا معه عند رئيس التحرير أغضبناه فيه بقولة الحق - فما زاد في كتابته على المماحكة والسفه وما عرف به من التحامل وزعمه أنه لم يفهم الكتاب، وهذا الزعم حلة قديمة فيه، لا يبالي معها أَن يُباهتَ بها نفسه ويُزري على عقله ورأيه، فقد كتب في سنة 1912 في "الجريدة" نقداً لكتابنا "حديث القمر" كان كله دائراً على أنه لم يفهم من الكتاب شيئاً، ولما جرى يومئذ في كلامه ذكر الجزء الأول في كتابنا "تاريخ آداب العرب" قال فيه "هذا الكتاب الذي نشهد الله على أننا لم نفهمه أيضاً ثم جاء هو نفسه في سنة 1926 فخص هذا الجزء الذي أشهد الله على أنه لم يفهمه، بأجمل الثناء ونوه به أحسن تنويه في كتابه " الشعر الجاهلي " فتأمل وأعجب! وقد رددنا في "السياسة " على نقده للرسائل بهذا الفصل، وهو أول ما نشرته "السياسة" نقداً صريحاً على الأستاذ الفاضل، وكانت قبل ذلك في يده كالقلعة المحصنة، تخرج منها القذائف ولا تدخل إليها. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب إلى الأستاذ الفهَّامة الدكتور طه حسبن يسلم عليك المتنبي ويقول لك: وكم من عائبِ قولاً صحيحاً. . . وآفتُه من الفهم السقيم! ولقد رووا أن كيسان مستملي أبي عبيدة كان يكتب غير - ما يسمع، ويقرأ غير ما يكتب، ويفهم غير ما يقرأ؛ وكنت أحسب الخبر موضوعاً يتملح به للظرف والنكتة؛ أو معدولاً به عن وجهه إلى ناحية المبالغة، ولكني رأيت فيك دليلاً على أنه إن لم يكن صحيحاً فليس بعيداً، وإن لم يكن واقعاً فليس يمتنع، أكتب إليك فتفهم غير ما تقرأ، وأحدثك فتحسب غير ما تسمع، وأراك إذا انتقدت كلامي دارت بك الأرض حول نفسك فأخذتك الغشية ولم يبق في الألفاظ ولا في المعاني ولا في الأساليب ولا في الشعر ولا في النثر إلا صورة تمر بسرعة دوران الأرض فلا تتبين منها شيئاً ولا تفهم منها شيئاً! هن ثلاثة أيها الفاضل؛ فإما طبيعة في النفس مبنية على المكابرة والمراء لا تبالي معها أن تحذف العقل وتُسقط الخلُق وتمتهن الكرامة، وتقول هذا الذهب حجر وهذا الحجر ذهب، وتمضي في تعليل ذلك وإقامة الدليل عليه والدفع عنه، ثم اللجاج والسفسطة وإثبات المنفي ونفي الثابت كما يفعل كل أهل الجدل في غير طائل ولا منفعة إلا غلبة ثرثرة على ثرثرة، وإما طبع في الكتاب مستوخم بارد تجذب إليه أصول ضعيفة في الخيال والفكر، فلا يرتفع ارتفاعاً سامياً وانما يُسِف ويخبط؛ وإما عقل لا كالعقول. ونسأل الله السلامة. فما من واحدة من هذه لك بُد! قرأت يا سيدي ما كتبته عن "رسائل الأحزان " مما أتسمَّح في تسميته نقداً، وألممتُ بالغاية التي أجريت إليها كلامك، وما كان يخفى علي أن في الحق ما يسمى تعسفاً، وفى النقد ما يدعى تهجُّماً، وفى المنطق ما يعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 بالمغالطة، وفي كل صناعة ما هو انتحال ودعوى وتلفيق؛ وإلا ففيم يخالف بعض الناس على بعضهم، وكيف ترى الرجل الذي لا بأس بعقله يكون عليه الدين مؤكداً بالايمان والوثائق حتى لا سبيل إلى إنكاره ثم ينكره ويحلف على ذلك ويكابر فيه كان الذي حلف به عندما أخذ منك غيرُ الذي يحلف به عندما أنكر عليك، ثم يدبرك معه على كل أساليب الباطل ويمر بك في كل قضايا المغالطة، وإن في دمه ولحمه لو شُق عنه لأنطقه الله بأنه كاذب! ولعمري لقد كنت تكتب غير ما كتبت لولا أنك سمعت مني ما سمعته في تخطئتك والرد عليك حين قام الجدال بينك وبين الأستاذ هيكل؛ ورأيتك وقتئذ تكاد تبتلعك ثيابك، وكان كلامي منك كالماء يسقي شجرة الحنظل المر فما يزيد إلا مرارة. ولو عقلتَ أيها الشيخ لعرفت أني أغضبتك عامداً متعمداً، وأفرطتُ عليك حتى اقتلعت نفسك من المجلس اقتلاعاً، وما أردت بذلك إلا أن أعرف مبلغ إنصافك، وأمتحن هذه الحرية التي تدعيها في كل ما تكتب، فإنه ليس ينفعني أن تثني على، وليس يضرني أن تجهد في ذمي، ولا أنا أحفل بشيء من ذلك، وما أحسبك تظنني ألتوي في يدك أو ألين لغمزاتك، فقد بلغ من إنصافك حين تغضب أن تنفس علي كلمة واحدة من اللغة فلا تذكرني بها، فقلت فيما علقت على كتاب الأستاذ هيكل "أنكرت عليه استعمال كلمة مهوب بالواو لا بالياء، ونبهني " بعض الأدباء" إلى أن هذا الاستعمال صحيح، فرجعت إلى المعاجم، فمن الذي نبهك وردَّك إلى المعاجم؟ ولماذا لم تذكر اسمه وحقدت عليه حتى في الصواب الذي تعترف به، وأنت قد اندرأتَ عليه طعناً في ثلاثة أنهر من الصحيفة التي تقول فيها هذا القول، أفيشق عليك أن تذكر لي حسنة واحدة في كلمة كنت لا تعرفها، ثم تسمِّي نفسك بعد ناقداً حرًّا منصفاً وتريد أن يقبل الناس منك ويستمعوا لك ولا يعرفوا الذهب ذهباً صحيحاً حتى ينظروا " دمغتك " عليه، ولا الجوهر جوهراً كريماً حتى يسمعوا شهادتك فيه. . .؟ ثم أنزلت نفسك منزلة دون هذه وكنتُ والله أرفعك عنها، فقلت "كنت أصف العقاد في فصل مضى بشدة الغموض أحياناً، وقد مضى الأستاذ الرافعي عن هذا الفصل وأنباني أنه لم يرض عن شيء مما كتبت كما رضي عن هذا الفصل" ولكن كيف أنبأتك هذا النبأ، بل متى تفهم دقائق الكلام وأغراضه وتكون حكيماً في سياسة المعاني وأساليب الفكر؟ لقد كتبت إليك وإنه لم يعجبني شيء مما قرأتُ لك ما أعجبني ما كتبته في هذا الأسبوع والذي قبله " أي انتقادك من انتقدت: فلاناً وفلاناً وفلاناً والعقاد جميعاً لا العقاد وحده كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 تزعم، وهذا هو ظاهر اللفظ، ولكن ما باطنه أيها الفهامة، فإنه يقال إن للكلامِ ظهراً وبطناً وحدًّا ومطلعاً. لو كنت تعرف هذا أو تفهمه أفلا تسأل نفسك لِمَ لم تعجبني كل الفصول التي كتبتها في الأدب وتاريخه وأنت تتخبط منذ سنتين وتكتب كل أسبوع مرة، فإن سألتها فهل تستخرج من ذلك إلا أن هذه الفصول هي في رأيي خلط مخلوط تركب فيها الشطط ثم تعتسف الطريق ثم تضع التاريخ كما تخلقه أنت لا كما خلقه الله، وتصول على الأموات الذين لا يملكون دفعاً ولا ردًّا ولا حواراً ولا جواباً، فإذا استخرجت هذا فهل ينتج لك إلا أن إعجابي بهذين الفصلين خاصة إنما كان لأنك تصادم الأحياء الذين يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم وأن يردوك إلى الطريقة المسلوكة والنهج القاصد إن كانوا على شيء مما يسمى به الكاتب كاتباً والأديب أديباً، ولم يكونوا بهذا الجبن الهالع المخزي الذي ميز أبا حية بسيفه الخشبي. . . وجعله بطل المعركة، وأنت تعرف القصة بعد. ثم رأيتك تنحط في منزلة دون المنزلتين مما يدل على بعدك من الإنصاف وذهابك عن حقيقة النقد، فتزعم أن "كل جملة من جمل الكتب تبعث في نفسك شعوراً قوياً أن الكاتب يلدها ولادة وهو يقاسي في هذه الولادة ما تقاسيه الأم من آلام الوضع" كذا كذا، لقد نبغت في الخيال بعد أن قرأت "رسائل الأحزان " وستنبغ أكثر من هذا بعد أن تقرأ "السحاب الأحمر" الذي أهديتك إياه، على أني لو أردت أن آخذ معك في كتابتي هذا المأخذ لجعلتك تتلوى من الكلام المؤلم على مثل أسنان الإبَر، ولاستقبلتك بما لا تدري معه أين تذهب ولا كيف تتوارى، كالإعصار الذي يأخذ عليك الجهات الأربع من آفاقها، أفانت تقوم لي في باب الاستعارة والمجاز والتشبيه؛ ولكني أدع هذا الآن، فحدثني من أين علمت أني أكتب على هذه الهيئة؟ لعلك أخذت هذا المعنى البذيء من قولي لك "أتظن أني أكتب هذه الكتابة وأنا نائم؟ ألا إني أتعب نفسي لتجديد الآثار الفنية في البيان العربي " هذه هي كلماتي بالحرف الواحد، فأنا لا أكاد أنسى ما أقول وما يقال لي. ولقد كتبت رسائل الأحزان في ستة وعشرين يوماً فاكتب أنت مثلها في ستة وعشرين شهراً، وأنت فارغ لهذا العمل وأنا مشغول بأعمال كثيرة لا تدع لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 من النشاط ولا من الوقت إلا قليلاً، وها أنا أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها، وإن لم يكن الأمر عندك في هذا الأسلوب الشاق عليك إلا ولادة وآلاماً من آلام الوضع كما تقول فعلى نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله. . . وإني لأتحداك وأنا أخبر الناس بما تطيق وما لا تطيق. وسبحان من خلق النسر خلقة والديك الرومي خلقة أخرى. . . ومنزلة رابعة هي أحط وأدنى من كل هذه الثلاث، فقلت "أنا أعلم أن الأستاذ الرافعي قد تكلف مشقة لا تكاد تَعدلها مشقة في وضع هذا الكتاب. . . وهو تكلف العناء في طبعه ونشره، وأنفق مالاً في هذا الطبع والنشر، فقد يكون من الإسراف في القسوة أن نعرض لعمل كهذا فيه مشقة وعناء ومال فنعلن أنه غير جيد. . . الخ الخ ". فما أنت والمال والطبع والنشر؟ ولكن اعلم أن هذا الكتاب لم يمض على صدوره أربعون يوماً معدودة حتى رد كل ما أنفق عليه غرشاً غرشاً، وسل كل طابعي الكتب العربية وكل المؤلفين هل اتفق لهم حادث واحد مثل هذا؟.. ألا عدْ عن هذا الأسلوب، أسلوب شفقة الضرَّة على الضرة، وأبق مثل هذا الكلام لكتبك وأمثال كتبك. إني والله - على إعجاب كان بك - أصبحت مستيقناً أن الله تعالى لم يهبك إلى اليوم قلم الكاتب، ولا أودعك دهاء السياسي، ولا خصك بفهم الحكيم، وكيف يكون لك من ذلك وأنت تصف رئيس تحرير "السياسة" في ظرف ولطف. . . بأن يزدري القراء ويزدري الناس ويتخذ هذا قولاً ومذهباً وفلسفة، ففي أي شيء يكون عمل الرجل في الجريدة الكبرى في أمة هي أشد الأمم حاجة إلى من يتألفها ويتولى إرشادها وهدايتها بأخلاق كأخلاق الأنبياء، تتسع كلما ضاقت الصدور، وتنعطف كلما نفرت القلوب، ولا ترى في الناس طبيعة تُزدرى، ولكن خطأ يُستصلح؟ عساك تحسب هذا مني دهانا ومصانعة لرئيس التحرير، فسل أديب هذا العصر الأمير شكيب أرسلان ماذا كتبت له منذ سنة خلت في ردِّي على بعض كتبه، وهل أثنيت له على غير الدكتور هيكل، وهل وصفت غيره بالذكاء وعمق الفكر وحسن الوصف وبلاغة التعبير، على حين لم تكن بيني وبينه شابكة، ولم يكن رآني ولا رأيته إلا مرة واحدة جاء فيها إلى طنطا مع الأستاذ الجليل لطفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 السيد؛ ولكن الإنصاف يا سيدي إن لم يكن فوقه إلا الحق فذلك لأنه هو أساس الحق، ولقد أخبرتك أن هذه الحرية التي تزعمونها في الكتابة والنقد إن لم تكن مقيدة بالإنصاف وتواعده فهي سخافة ودعوى، وطلبتَ مني هذه القواعد ولعلي أكتبها لك يوماً إن شاء الله. * * * ولننظر الآن في نقدك "رسائل الأحزان"، والعلة في أنك لا تفهمها. فأما النقد فليس هناك إلا أنك لا تفهم كما تدعي على نفسك، وماذا علي من ذلك، ولقد قلت لك إن الذي لا تفهمه أنت يفهمه سواك، وإن الله خلق رؤوساً غير رأسك وعقولاً غير عقلك، وإنه ليس من أَحد يعترف أنك مقياس العقل الإنساني في الأرض؛ فمسختَ هذا كله وزعمتَ أني قلت لك "لِمَ تتخذ نفسك مقياساً للناس " ثم رددت على هذه الكلمة بقولك: "إني أتخذ نفسي مقياساً لنفسي" ففسر لي أصلحك الله كيف تكون نفسك مقياساً لنفسها؟ أليس المقياس آلة لقياس غيره، فكيف يتأتى لك أن تكون نفسك التي تقيسها غير نفسك التي تقيس عليها؟ أم أنت ستلجأ إلى أصول البلاغة وتجعل العبارة على التجريد؟ فلم لا تفهم الكلام البليغ على هذه الأصول بعينها؟ وما هذا التحذلق وما هذا التداهي؟ (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) . وإما أنك لم تفهم فلست أردُّ عليك بفلان وفلان ممن فهموا الكتاب وأعجبوا به وأثنوا عليه، وأنت تعرفهم وتذعن لهم وتبالغ في تقديمهم، ولا أرد عليك بأن الطلبة فهموه، ولا بأن النساء فهمنه؛ وانظر ماذا كتبت مجلة "السيدات " في مصر وماذا كتبت مجلة "منيرفا" في سورية، فإنك لا تطمع في سطر واحد من مثل هذه الكتابة. لا أراد عليك بهذا ولا بنحوه، ولكني أقول لك إن العسكري روى عن الأنصاري قال: قلت لبعض الكتاب - كتاب الخراج وأشباههم من رجال الديوان -: ما فعل أبوك بحمارِه؟ قال باعِه! قلت: فلمَ تقول باعِه؟ قال: وأنت فلم تقول بحمارِه؟ فقلت: أنا جررته بالباء. قال: فمن الذي جعل باءك تجر وبائي أنا. . . لا تجر "يعني الباء التي في فعل باع". . . أليس هذا فهماً يا دكتور، وقد اجتهد الرجل في القياس وانتهى إلى هذه النتيجة؛ فما عسى أن تقول، ولمن تشكو مثل هذا الفهامة؟ إلى السلطان؟ إلى أهل اللغة؟ إلى الأطباء؟ . . . ولكن هل كان فهمه أن الباء في "باعه " حرف جر مما يفسد مقاييس النحو ويكره اللغة على أن تتسع لحكمه وتطرد على قياس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فهمه؛ وأنت أفلا ترى معي ومع الناس أن سوء الفهم وخطاً الفهم وعدم الفهم. كل ذلك في مَرَدًه إلى معنى واحد هو سقم الفهم. إنك لتجمع الكتب وتحفظ التاريخ وتدرس الأدب، فهل نفعك ذلك في قول الشعر حتى ذهب ديوان طه حسين بديوان المتنبي. . .؟ وأنت تدرس البلاغة وتعرف قواعدها وأمثلتها، فهل أعانك ذلك في قطعة بليغة يعرفها لك الناس ويتناقلونها ويرونها من البيان في موقع ومن الجمال في منزلة؛ وهل جئت قط في كتابك بشيء من الوصف، أو قضى لك الناس بخيال ابتدعته أو مجازٍ اخترعته؟ وهل كتبت شيئاً في الحب والجمال وفلسفتهما وأوصافهما؟ فهذا كله من بعض العلة في أنك لا تفهم "رسائل الأحزان " إن صح قولك أنك لا تفهم! وعلة أخرى: لمَ تكرر الكلام دائماً في غير حاجة إلى التكرار مع أن أصحابك يرون هذا من أقبح العيوب، ويقولون إن المذهب الجديد. . . قائم على الأسلوب التلغرافي، فإذا كتبتَ فقدر أنك سترسل المقالة بالتلغراف وتدفع أجرة إرسالها، لقد كنتَ أفلستَ من زمن بعيد يا دكتور لو حققوا معك هذه القاعدة وأرسلوا مقالاتك بالتلغراف.. ولكن لِم تلتزم هذه الطريقة حتى أصبح كالشعوذة المطبعية أن تكتب ستة أسطر وهي ثلاثة بعد حذف المكرر والحشو؟ كنت أقرأ مقالة افتتاحية في "السياسة" ومعي أديب، فدفعتها إليه وقلت: لمن ترى هذه المقالة؟ فنظر فلم يجد عليها توقيعاً، فقلت له: لا يجب أن يكون التوقيع في ذيل المقالة بل قد يكون في أثنائها! قال: فأين هو؟ قلت: اسمع: هذا هو التوقيع. "فعلوا هذا، نعم فعلوه، فعلوه؛ أقسم لقد فعلوه، فعلوه. . . ". أفمن يكتب هذا الهُراء ونحوه يرتقي به الفهم إلى دقائق المجازات والاستعارات والكناية والإشارة ونحوها مما قامت عليه هذه اللغة في بيانها وبديعها، وما لو حذف منها لتعطلت من كل محاسنها ولما صح أن يكون فيها كلام معجز ولا مقبول ألبتة؟ وما العلة في هذا وما السبب في أنه لا ينفق لك أبداً خيال رائع، ولا تبدع شيئاً مما يبدعه الكتاب في كل الأمم، إلا مرة واحدة أردت أن تصف المرأة الجميلة في رواية "الإغواء" منذ أسابيع فقلت: صورتها، حركاتها، ألفاظها. زيها، مذهبها في الحوار والكلام: هي فتنة تتحرك ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فتنة تتحرك! لا أعرف لك في كل كلامك أحسن ولا أبدع من هذه الكلمة، وأنت تعرف من أين أخذتها وإن كنت لم تحسن السرقة، وإلا فما قولك حين تكون هذه (الفتنة) نائمة؛ أفتريد أن أدل قراءك في أي رسالة "من رسائل الأحزان " وصف الألفاظ والحركات والزي والمذهب في الجدال والشكل والدل وأنها فتنة خلقت امرأة؟ تقول في نقدك: "يجب أن أكون منصفاً (كذا وكذا) فأنت تستطيع أن تقطع كتاب الرافعي جملاً جملاً، وأن تجد من هذه الجمل طائفة غير قليلة "اسمعوا. . . اسمعوا" فيها شيء من جمال اللفظ يخلبك ويستهويك "تنويم مغناطيسي بالبلاغة" وفيها معان قيمة لا تخلو من نفع، ولكن المشقة كل المشقة في أن تصل هذه الجمل بعضها ببعض وتستخرج منها شيئاً". إذن فالمشقة عليك ليست في الفهم ولكن في صلة الجمل بعضها ببعض. وأظن هذه المشقة بعينها هي التي تجعل من طبعك تكرار الكلام دائماً في غير طائل ولا منفعة، وإذن فمن سبيلك أن تحسن فهم كتب التاريخ والحوادث وحدها دون سواها مما لا يقع في الذهن متصلاً بعضه ببعض، وإذن فلك مذهب لا ينبغي أن نعرض له كما لا ينبغي لك أن تجعله قياساً تقيس عليه! ثم كيف يكون في الكتاب "معان قيمة" وجمل تستهوي وتخلب وهي مع ذلك طائفة غير قليلة، مع أنك تصرح قبل هذا الكلام بنصف سطر أبيض. . . - يعني مباشرة بالكلام الذي تفهمه - فتقول "أتممت الكتاب " ولم تفهم منه شيئاً؟ لا بد أن لك منطقاً خاصاً بك إذا كانت المقدمة فيه أنك أتممت كتاباً برأسه لا تفهم منه شيئاً. فالنتيجة من هذه المقدمة أن في الكتاب طائفة غير قليلة تستهوي وتخلب وفيه معان قيمة أيضاً. . .! وهل هذا أقبح في التناقض أم قولك "ورأي في الكتاب أني لا أفهمه، فلا "أستطيع " أن أقول إنه جيد أو رديء، بل "أستطيع" أن أقول إني لم أفهمه. وإذن "فلا يمكن " أن يكون جيداً. . . لا. فأية الاستطاعتين هي الكاذبة المردودة؟ وإذا كنت لا تفهمه وكان من أجل ذلك (من أجل ذلك وحده) لا يمكن "يعني يستحيل " أن يكون جيداً، أفلا يعد هذا اعترافاً منك بما أنكرته من أنك تعتبر نفسك مقياساً للعقل الإنساني في الأرض المؤمنة بالله وكتابه وسنة نبيه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ألا يرى القراء كيف يتهافت الشيخ كان في جوفه شيئاً يغلي على شيء يتضرم وكيف تقول "لا يمكن " إلا إذا كنت أنت الممكن كله يا مولانا..؟ * * * ألا ليت شعري كيف يجمع الكلام العالي بعضه إلى بعض ويستخرج منه شيئاً وهو يراه ملء كتاب، إذا كان لا يستطيغ جمع كلامه هو في مقال صغير حتى ينفي عنه مثل هذا التناقض العجيب الذي يأتيك بسطر مؤمن يلعنه سطر كافر؟ أنا لا أقول إن الأستاذ طه ليس شيئاً في فضله وأدبه وعلمه، بل هو عندي أشياء كثيرة، بل هو مكتبة تنطق كتبها، ولكنه لم يلابس صناعة الشعر ولا أساليب الخيال، ولا أخذ نفسه في ذلك بمزاولة ولا عمل، فليس له أن ينقد هذه الصناعة ولا أن يقول في هذه الأساليب إلا بعد أن يجيء بمثل ما يكتب أهلها، فإن لم يكن ذلك في طبعه ولا في قوته ولم يستوِ له شيء منه فلا يغرنه أن يكون مؤرخاً، ولا يخدعنه أن يكون مِنطيقاً، ولا يحسبن فهمَ شيء هو فهم كل شيء، ولو كان الأمر موضوعاً في الأدب على الاتساع في الكلام والقدرة على القول الكثير صواباً وخطأ، لما كان أكبرُ أديب هو أكبرَ الأدباء، ولكن أكبرُ الثرثارين. . . ويقول الأستاذ إنه يفهم القرآن وكذا وكذا ولا يفهم كتابي، وأنا لا أصدق من هذا شيئاً، وأين حقائق البلاغة المعجزة في القرآن ممن إذا انتقدت بيت شوقي: يا لطفُ أنت هو الصدى. . . من ذلك الصوت الرخيم فهِمَ أن والشاعر يقول إن أرسطو كان ذا صوت رخيم. . . وأورد على ذلك أنه لا هو ولا شوقي سمع هذا الصوت. . . علم الله لو تقدم صاحب هذا القول إلى الامتحان في الأزهر وفسر لهم في البلاغة هذا التفسير لأعطوه "المكعب " كما يقول الأزهريون، والمكعب عندهم هو الصفر في درجات الامتحان! أيفهم هذا حقائق البلاغة في القرآن ودقائق الإشارات التي فيه؟ وقد قال صاحب المثل السائر وهو من كبار المجتهدين في علوم البلاغة ومن أبلغ كتاب الدهر: " كنت أقرأ في اليوم ختمة، ثم في الشهر. ثم في السنة، ثم ها أنا أقرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 في ختمة واحدة منذ كذا وكذا سنة ولم أفرع منها، وكلما أعدت النظر ظهر لي ما لم يكن ظهر من قبل". هذه هي أصول البيان العربي المعجزة، وهذه هي طريقة فهمه، فخذ أو فدع! * * * إن المجاز وهو أساس البيان يمنعك أن تفهم إلا بالقرينة والعلاقة، فلا يطلق لك الفهم بل يقيده بهما، ولا يترك لك أن تقول أفهم ولا أفهم بل إحدى اثنتين: إما أن تقر للكلام وإما أن تقر على نفسك. وقد كان العرب أصحاب أذهان حديدة، وكانوا لا يكتبون، فاضطرهم ذلك إلى الابداع في ألفاظهم وطئ المعاني الكثيرة في الكلمات القليلة والاكتفاء باللمحة الدالة والإشارة الموجزة والكناية الرائعة والتفنن في أساليب القول على وجوه شتى ومذاهب كثيرة؛ فليس يتولى هذا البيانَ العربي إلا الذهنُ الدقيق والفطنة الحادة والبصيرة النقادة، وإلا من جَرَى مجرى العرب أنفسهم، ينزعه طبع أو يجذبه أصل؛ فإن لم يكن هناك فابعَدَهُ الله، والسلام! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 إلى الجامعة المصرية قرأت في بعض الحكم هذه الكلمة: "تحَّز من سُكر السلطان وسكر المال وسكر العلم وسكر المنزلة! ". ولست أعرف أحداً قد سَكِرَ من هذه الأربعة حتى عربد وخرج إلى السخف والهذيان غير الأستاذِ المربع. . . الدكتور طه حسين، منذ ولي تدريس تاريخ الأدب في الجامعة، ووالله ما ندري كيف لا يعهدون إليه مع درس تاريخ الأدب بدرس آخر كشرح القانون المدني مثلاً.. فإنه لقادر على هذا قدرته على ذاك، إذا كان لا مادة له إلا أن يفكر فيما يقول، ثم يقول كما يفكر، ما هو إلا الظن قبل العلم، وإلا الشك قبل اليقين، وإلا الوهم قبل الحقيقة، ولا أكثرَ من الكلام عند كل رجل يُسقط الخطأ والصواب من حسابه، ولا أيسرَ من الإنكار على من يكون رأس المال في علمه العناد والمكابرة. سَكر الدكتور طه حسين لأنه سُلِّم إلى وزارة المعارف مع الجامعة بعقد واحد.. وهذا هو سكر السلطان، ثم حثوا له من خزانة الدولة قبل أن يسمعوا منه حرفاً في تاريخ الأدب أو يعرفوا له وزناً فيه أو يَبلُوا منه بلاء، وتلك سَكرة المال، ثم ابتدع للجامعة علماً يلقيه على من يذهب إليه من عُرض الطريق وإن كان لا يميز بين أبي جهل وأبي زرع. . . فجاءت من ذلك سَكرة العلم، ورأى مع كل هذا أنه قارٌّ في منزلته، يريدون أن يجعلوه آمناً من العزل ممنوعاً من الصرف؛ فتم له سُكر المنزلة. لا نحسب هذه الجامعَة تملك الأدب بعقد ولا وثيقة شرعية فتنزل عنه لهذا الأستاذ، ولا نظنها تدعي حقاً على التاريخ فتسوغ له أن يهدم فيه ويبني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فهي وحدها مأخوذة بعبثه، مسؤولة لخطئه، محاسَبة على ما يجني، ونحن على ذلك فرع إليها هذه المسائل التي نريد أن نناظرها فيها لنكشف لها عن حقيقة أستاذها، ولتعلم إن كانت لما تعلم أن الرجل مفسد لا مصلح، وملفق لا محقق وأن مَأتى ذلك فيه من ضعف اطلاعه على مادة التاريخ الأدبي فهو يتوسع بالثرثرة، ومن نقص خياله فهو يتزيَّد بالشك، ومن انحطاط قوته البيانية فهو يتماسك بمحامل الجدل. نسأل إدارة الجامعة: 1 - هل قرر أستاذها أن المسلمين محوا شعر النصارى واليهود ومنعوا روايته خوفاً على الإسلام، فمن أجل ذلك لم ينته إلينا من شعرهم شيء؟ 2 - وأنه لا يوجد شعر جاهلي بل هو مصنوع بعد الإسلام، وأن هذا الجاهلي لا يستشهد به على القرآن بل القرآن هو الذي يحتج به للشعر؟ 3 - وأن العصر الجاهلي الذي ضاع شعره قد حُفظ لأن القرآن الكريم يمثله؟ . . . 4 - وأن الغزل المروي لامرئ القيس هو لعمر بن أبي ربيعة؛ ونقتصر من خلط الرجل على هذه المسائل الأربع. نسأل إدارة الجامعة هل قرر أستاذها كل ذلك في دروسه التي تأجره عليها من مال الأمة أم لا؟ وما هي أدلته؟ بل ما هي أدلتها - فلم يعد الرجل كاتباً في جريدة "السياسة" لا يجيب إلا بالشتم ولا يبالي وهي تنشر له ولا تعبأ - ولا نظنه يملك أن يقول لمدير الجامعة كما قال لرئيس تحرير "السياسة": أغضبتك في السنة الماضية فأثنيتَ على الرافعي في مقال صدَّرتَ به كتابك، وهأنذا أعتذر إليك فانس السنة الماضية وانزل لي عن هذا الفصل. . . أما إنه قد باعد الله بين صاحب هذا القول وبين الفهم، كان رئيس تحرير " السياسة" لا يكتب للحق ولا يرى من رأي للحق، بل للغضب والرضا ولا ثالث لهما؛ أليس من المضحك أن يكون صاحب هذا الكلام المعكوس هو أستاذ الأدب العربي في الجامعة؟ " وماذا بمصرَ من المضحكات. . . وحَسبُك طه حسين بها "ولكنه ضحكْ كالبكا. . . على علمها وعلى كُتبِها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وإلى الجامعة أيضاً. . . كتبنا نسأل إدارة الجامعة في تلك المسائل الأربع مما يخلط فيه أستاذها الدكتور طه حسين، لنناظرها فيما يقول الرجل، وما يقول إلا سخفاً؛ وإنها لتعلم وكأنها لا تعلم، وإنها لَترى كأنها لا ترى؛ وإنها لعلى حال ننكرها أشد الإنكار فيما تسميه مجازاً درس تاريخ الأدب، وما هو في الحقيقة إلا درس نفسية طه بما يضطرب فيها من الزيغ والشك وما تضطرب فيه من سوء الفهم وضعف الرأي وفساد القياس؛ فالجامعة تبتلي طلبتها بالرجل في درسه، ثم درسُهُ يبتليهم بطباعه، وطباعه تأتيهم بدواهيه، ومن دواهيه ما عرفنا من جُرأة في الباطل لا تعبأ بالحق، وحماقة في الرأي لا تعرف القصد، وإسراف في الظن لا يصلح معه اليقين! وعلى أنه لو كان أستاذ الجامعة بليغاً معروفاً وشاعراً معدوداً وحكيماً متفلسفاً، ثم كان فيه شيء من تلك الخلال السوء، لنزلت به وغضت منه فكيف وهو هو ذلك الذي عرف الناس جميعاً أنه سيئ الفهم في أساليب البيان، إذ كان بطبعه لا يحسن منها شيئاً؛ قاصر الذهن في معاني الشعر ومناحي البلغاء، لأنه بعيد منهم؛ وليس فيه إلا أنه غليظ الحس، بليد التصور، منطفئ الخيال؛ ثم هو مع هذا كله يجمع في كل هذا الدعوى الفارغةَ والاستطالةَ والشر وبذاءةَ اللسان، حتى ليس في مصر سباب لعَّان يُعرف له من مقالات السب واللعن ما يعرف لاثنين أحدهما أستاذ الجامعة. ولذلك من سوء الأثر في عقل الرجل ورأيه ما لا بد من مثله في مثله، حتى ما نرى شذوذه وخروجه على الآراء المجمع عليها في التاريخ إلا أسلوباً من أساليب شتم التاريخ نحن نقرر للجامعة أنه لا سبيل إلى تصديق الدكتور طه حسين فيما يهرف به إلا على اعتبار واحد، وهو أن يكون هذا الرجل روحاً متناسخة لا تزال تنحدر في مَهواة الزمن، فإذا هو استوى على كرسي الجامعة مرت هذه الروح بأدوارها في التاريخ فذكرت صحبتها.. لامرئ القيس في سنة 200 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 قبل الإسلام. . . ثم يكر شريط السينما. . . من دهر إلى دهر إلى يوم الناس هذا، والأستاذ في كل ذلك يحكي عن عيان ويخبر عن مشاهدة وهو على كرسي الجامعة في حلم مغناطيسي، نائم أشد ما كان يقظة، ويقظان أبعد ما استغرق نوماً، ولا سبيل في هذا إلا هذا، وعلى إدارة الجامعة أن تتبينه فلعها ولعله. إن مجلس الجامعة ليعرف أن هذا الذي يسميه الناس "تاريخ الأدب العربي" إنما هو علم حديث النشأة، لم يتولَّهُ أهله، ولا وضع في زمنه، ولا أصاب وسائله، ولا تنبه إليه أحد أيام كان العلماء والرواة، وكانت مصادر النقل متوافرة، ولم يتناوله المعاصرون إلا تقليداً، وعلى قِلةِ من الكتب، وفي موت الرواية، وبعد انقطاع الدهر الإسلامي من مواضع كثيرة، ولو أنه وجد بيننا رجل قرأ كل مطبوع ومخطوط من الكتب العربية المبعثرة في نواحي الدنيا لم يَفُته منها ورقة ولا بعض ورقة، ثم استخرج منها العلم، لجاء به ناقصاً مضطرباً ضعيفاً، - لضياع أكثر الكتب في النكبات التاريخية المختلفة، ولفساد طريقة التأليف في أكثر الكتب التي انتهت إلينا، فما هو كالعلوم التي دونت وضبطت وفرغ منها وصار الكتاب الواحد يغني فيها عن الكتب الكثيرة، كالنحو والصرف والبلاغة وأشباهها، ولا هو كالفنون التي يكشف منها الاختراع وتستحدث الحاجة والتجربة، كالطب والقانون والكيمياء ونحوها. فمن ثَم لا تستطيع الجامعة أن تسمي أستاذها أستاذها كما تقول أستاذ القانون وأستاذ الطب؛ ولا تعتبره كذلك أو تجري عليه حكم هؤلاء، بل هو أستاذ على المجاز، ومدرس للضرورة، ويجب أن يستثنى بخصوصه من كل ما يتمتع به الأساتذة، فقد ينكشف - يوماً عن أقبح العجز وأفحش الخطأ. وهو ما نعرفه ونؤكده ولا نرتاب فيه؛ ومن ثم يجب على الجامعة أن تسمع لكل قول في الأستاذ وتحسن اعتبار أي قول كان وعلى أي وجه جاء ومن أي شخص تلقته، وإنها لتعلم أن أستاذ الأدب يجب أن يكون من أوسع الناس اطلاعاً، لا في الروايات المثيلية الفرنسية، ولكن في كتب الأدب العربي، وأن يكون على اطلاعه من أبلغ الناس كتابة وأشعرهم شعراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وأسماهم خيالاً وأدقهم حساً وأذكاهم فهماً. بيد أن هذه الصفات التي حرمها كلها الدكتور طه حسين، فهو أستاذ بالوظيفة اسمها ومرتبها، لا بعلمها وحقها وكفايتها. ومن أجل ذلك قلنا: إن الجامعة مأخوذة بعيثه، وملزمة أن تجيب عنه، فإنه يدرس علماً غير مدون ولا مجتمع الأسباب، ولا يزال الرجل يمتاز فيه عن الرجل بنص أو بسطر أو بكلمة أو برأي كل ذلك أو بعضه، فلتعلم الجامعة إن كانت لا تعلم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا. . . كتب قس فاضل في النسخة الأسبوعية من جريدة "السياسة" يذكر تاريخ القديس "بفنوس" الذي تناوله أناتول فرانس في رواية "تاييس" فعبث به وسخر من تقواه وصلاحه ورماه بامرأة بغي تركته في الإثم وسقوط النفس وليس بينه وبين أمثالها منزلة ولا فرق، على حين سما بها الكاتب في آخر الرواية فجعلها قديسة تنفتح لها أبواب السماء وتتلقاها الملائكة، وبين القس الفاضل أن ذلك مما تعمد أناتول فرانس أن يفسد به التاريخ، وأنه كذب عمد وإفك صراح. فعلق الدكتور هيكل على هذا بأن لكاتب فرنسا رأياً في التاريخ، فهو يعتبره نوعاً من القصص خاضعاً لأهواء الناس وشهواتهم، وقد وضع لجان دارك الفرنسية الشهيرة تاريخاً بين فيه أن شيئاً اسمه جان دارك لم يوجد، فحسبك أن تظهر ما في الأدلة على وجود شيء في الأشياء من الضعف لتبعث إلى النفوس الشك في وجوده. . . ثم قال: وقد لا ترى في عمل أناتول فرانس موضعاً للدهشة إذا أنت رجعت إلى ما يأخذ به أساتذة الأدب في الجامعة المصرية. فهذا صديقنا الدكتور طه حسين يرى رأي الذين يقولون إن غير واحد من الشعراء الذين يقال إنهم وجدوا لم يوجد قط، فإن ذهب أناتول فرانس مثل هذا المذهب مع الراهب "بفنوس" فذلك أنه أخذ بمثل النظريات التي أخذ بها كثير من العلماء والكتاب، ومن بينهم صديقنا الدكتور طه في شأن الشعراء وغير الشعراء ممن يتناقل الناس أخبارهم. انتهى ملخصاً. فعلم أستاذ الجامعة "ليس أهون منه" وهل أيسر من الإنكار؛ ولكن هل أدل على الحمق من هذا الإنكار بعينه؛ وهل الإنكار بلا دليل إلا نوع آخر من الكذب والاختلاق كما يخترع الوضاعون أشخاصاً لا دليل على وجودهم؛ إنهم يزعمون كذباً أن شاعراً وُجد وقال كيت وكيت، وكان من خبره كذا وكذا، وأنت تزعم أن شاعراً لم يوجد، فما الذي يجعل الكذب منهم صدقاً منك؟ وكيف تريدون وأنتم سواسية كأسنان الحمار أن تكون بعض هذه الأسنان نابَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الليث، فى حين لا تنسب الباقيات إلا للحمار وحده؛ لعمري ما أنت بأصدق منهم ولا هم بأكذب منك، وفضل ما بينك وبينهم أنهم إلى وجه الكذب وأنت إلى - قفاه. . . والكذب كله بينكما وجهاً وقفاً. . . يعبث أستاذ الجامعة برجال التاريخ العربي " من الشعراء وغير الشعراء" عَبثَ أناتول فرانس بذلك الراهب الفاضل، ولكن فات الأستاذ المقلد المنعكس أن الغراب لا يصلح طاووساً ولا حمامة، فإن كاتب أوروبا إنما ألحد وسخر وتماجَن لأن هذه ألوان من ألوان بلاغته التي تضرب الكلام بعضه ببعض وتقوم على المتناقض كما تقوم على المتلائم، فلو هو تركها لتكلف للكتابة وجرى فيها على غير طبعه وفقدَ أحسن ما يميزه في القَصص والرواية، ثم هو يرى التاريخ فنا لا علماً، لأنه كاتب لا مؤرخ، وقاص لا محقق، فيتولاه بالخيال لا بالحافظة، ويأخذه من الروح أكثر مما يأخذه من الفكر، وبذلك انتهى في رأيه إلى أن الأدلة التاريخية إنما هي منازع تختلف العواطف عندها، فأنكر ما شئت فلك ذلك لأن لك عاطفة، وأثبت ما شئت فذلك إليك لأن لك عاطفة أيضاً. . . والتاريخ عنده هو كل شيء إلا الحقيقة، لأن الحقيقة بزعمه لا تلتمس فيه ألبتَّة، ولهذا الكاتب آراء فاسدة ظاهرة البطلان، منها رأيه في التاريخ ولكنه يسوقها في عبارات بليغة إذا أنت كنت بصيراً بصناعة البيان ودققت فيها رأيت فساد المعاني وحركة اضطرابها في ذهن هذا الرجل من ألطف أسباب بلاغته، كأنه يريد أن يأتيك بالبلاغة في هيئة راقصة خليعة مبتذلة تتطوَّسُ لك في ألوانها وخُيلائها وتُفحِش عليك في دلِّها وغَزَلها فلا تشك في سقوطها وسفالها، ولكنك لا تنكر أيضاً أن هذا كله أجمل الجمال فيها، ثم إنه رجل ذو فكر واسع ينتظم النقائض من أطرافها، ويأخذها على ما أرادها من معاني نفسه لا من معانيها، ويعطيها قرَّاءه على الوجه الذي يريده من معانيه كذلك لا من معانيها. وما البلاغة إلا مثل هذا السحر إن لم يكن هو إياها. ولكن ما بال أستاذ الجامعة في عبارته الركيكة وذهنه الفج وخياله المطموس وقلبه المطبوع عليه وفلسفته الزائفة وتقليده الأعور؛ وما له يجهل فرق ما بين التاريخ يتولاه كاتب للقصة والحكاية، وما بينه حين يتولاه أستاذ للتمحيص والتحقيق! ثم بين التاريخ على أنه مادة فلسفية من الأعمال والحوادث، وبينه على أنه مادة علمية من الأنفس والعقول؛ وما عسى أن يكون غناء الإنكار مع الحجج والنصوص المجمع عليها، إلا أن تكون تلك حيلة احتال بها الأستاذ، وهو يعلم أنه قليل الاطلاع، فيجعل الكثير الذي لم يقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 عليه بسبيل من القليل الذي وقف عليه، ويبني للمعلوم والمجهول بناء واحدا هو الشك الذي لا يدري أحد أين يقع ولا ماذا يمحو ولا كيف يكون، ولكنه مع ذلك يمحو ويكون كما يريد طه حسين، ولا طه في الدنيا إلا طه الذي في الجامعة. . . يعلم هذا مَن عَلِمَ ويجهَل من جهل! يحتج الدكتور هيكل لمذهب أناتول فرانس بأستاذ الجامعة الذي عبر عنه بأنه "أساتذة الجامعة".. ومنذ أيام احتج بعض المبشرين المسيحيين بأستاذ الجامعة أيضاً لأنه أثبت "رسمياً في الجامعة التي أنشأتها دولة مسلمة" أن الإسلام دين الحرج والتعصب وضيق الفكر، وإلا فما المعنى من أن المسلمين وحكامهم يمحون في أول الإسلام شعر اليهود والنصارى والوثنيين إن لم يكن هو هذا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وغفر الله لك أيها المبشر طه حسين! عجباً يقلد طه أناتول فرانس! ألا فجئنا أيها الرجل مرة واحدة في مثل بلاغة من تقلده، ثم أظهر بعد ذلك مائة مرة في مثل سخافة آرائه، نغتفر لك مائة بواحدة، فأما أن تكون ممن محق الله خيالهم ثم تكون مع ذلك ممن صرف الله قلوبهم فتلك المصيبة لا مصيبة مثلها، وما نراك اتبعك فيها إلا الذين هم أراذلنا، وما نراك إلا كالذي استهوته الشياطين في الأرض حَيران! وإن لأناتول فرانس كلمة تنطبق على أستاذ الجامعة كأنَّ الله ألهمه إياها لتقع إلينا، فهو يسمي علم مثل هذا الأستاذ "بالضلالات المعقدة" كأنه يعني أنهم يحسبون تعقيدها علماً وحلها علماً، مع أنها في نفسها ضلالة، والضلالة في نفسها جهل، والجهل في نفسه ليس بعلم! قرأنا مرة جريدة "البلاغ " الغراء بتوقيع "فرحات " أن محاضرة أستاذ الجامعة في امرئ القيس مسروقة من دائرة المعارف الإسلامية المطبوعة في ألمانيا، واليوم نرى في كلام "السياسة" أن الرجل مقلد تقليداً مضحكاً، يستعمل الغِربال في مكان المُنخُل فيأتينا بالدقيق الترابي. . . وهذا كله مما يزيدنا إصرارا على أسئلتنا التي رفعناها إلى الجامعة، فإن هذا الرجل إنما هو بلاء على الأدب وفساد في التاريخ، وإن الجامعة لا تملك أن تُضِل الناس به، وما دامت قد أعطتهم من كلامه فلتأخذ من كلامهم، وهي إن كانت على حق في آراء أستاذها فلتذكر للناس باطلنا بالمناظرة التي ندعوها إليها، وإن كانت على باطل فما سبيلها إلا أن تسألنا الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فلسفةٌ كمضغ الماء قالوا: إن هذه الجامعة إنما أنشئت للبحث العلمي لا للعلم نفسه، إذ العلم قليله وكثيره عِلم، وجيده ورديئه عِلم، وما صح فيه وما تشابه منه كل ذلك علم؛ أما البحث العلمي فمداره على التحقيق والتمحيص، فهو فوق العلم لأنه سببه وغايته والواسطة إليه، والبحث يتناول الباطل كما يتناول الحق لأنه بحث، ولذلك وضع، وبذلك مادته، فلو أطبق الناس جميعاً على رأي من الآراء أو مذهب من المذاهب ثم قام أستاذ في هذه الجامعة فنقض ذلك الرأي وذهب خلاف ذلك المذهب كان له أن يفعل ما وسعه وأن ينقض وأن يخالف، وهو مصيب وإن أخطأ، وقريب من الحقيقة وإن بعُد، وعالم وإن جهل الجهلة التي لا يلعن ما قبلها إلا ما بعدها. قالوا: فإنه إنما يبحث ليهتدي إلى شيء، فإن اهتدى فقد اهتدى، وإن ضل شفع له أنه مجتهد، وأنه لم يسلب الرأيَ الصحيحَ إلا برأي ظن الصحة غالبةَ عليه. ومعنى هذه الفلسفة أَن مضغ الماء كمضغ الخبز، كلاهما يحتاج إلى الأسنان الحادة والأضراس الطاحنة والأنياب الشكسة، ما دام الذي يمضغ الماء أستاذاً في الجامعة وما دام المضغ عنده يسمى بحثاً، إذ العبرة به وحده إن تعاقل وإن تحامق، وإن صدق وإن كذب؛ وما الجامعة إلا مصنع ومختبر تكشف فيه آراء وتصنع فيه آراء، وتزوَّر فيه آراء، والأستاذ في الجامعة يقول ما يشبهه رأياً وعقيدة وعلماً وجهلاً، ويمضي في "البحث" على ما يخيل له حقاً أو باطلاً، فما رآه هو الصحيحَ فلا صحيح غيره ولا صحيح من قبله أو بعده. فيا أيها الناس. . . وحيثما كنتم فولُّوا وجوهكم شطره: (وجعل الله الكعبة البيتَ الحرامَ قياماً للناس) وجعل الله الجامعة الحرام قياماً للناس! على إنه إن صح شيء من ذلك أو قارب أن يصح فقد وجب أن لا يتولى التدريس في الجامعة إلا رجل لا يوازن به أحد في علمه الذي يتولاه. ويكون من أيسر صفاته أنه فوق كل صفة معروفة في نظائره وأنداده - قد تم من حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 يتمون وزاد عليهم أشياء ليست في المواهب المعروفة، بل تقع في أقصى ما يبلغ العقلُ الإنساني عند الأفق القريب من الوحي والإلهام، فإن ظفرت الجامعة بمثل هذا العقل الفذ كان لها أن تقول ما هي قائلة وأن تزعم ما شاء لها الزعم، وهي في ذلك آمنة أن يُرد عليها لأنها حينئذ تتكلم بما لا يسمو إليه كلام آخر. وتأتي للناس بما فيه زيادة على الناس ويكون ذلك مع حجتها عليهم، فيسكت المتكلم، وينقطع المكابر، ولا يبقى إلا التسليم للأقوى، وعلى الأصل الذي بنيت عليه الطبائع كلها. ولقد يتفق للجامعة المصرية مثل هذا الأستاذ - الذي يأكل الأساتذة - تجده في علم كالقانون أو الطب أو الفلسفة ونحوها مما تعاوَرَهُ العلماء من أجيال بعيدة وفرغوا منه تدويناً، وتعليقاً وشرحاً وتحققاً ولم يبق إلا مثل ما بقي مما تتفاوت به العقول وتختلف القرائح في حدة الذكاء وقوة الملاحظة من رأي يزاد عليه أو ينقص منه، ولكن أين مثل ذلك في تاريخ الأدب العربي وهو علم لا يزال يتخلق، ولا يزال كالجزائر البركانية: تظهر الجزيرة بحالها في البغتة والفجأة وتخسف الأخرى في مثل ذلك، وما علة ما يظهر إلا علة ما يخسف، ولكن لا بد أن يقع الحدَثُ ثم تجيء الفلسفة والتعليل بعد ذلك. ومن العجيب أن أستاذ الجامعة الدكتور طه حسين لم ينتهج إلا الطريقة التي لا تلتئم مع طبيعة هذا التاريخ، فهو يبحث دائماً عن العلة في أحد شيئين: إما في غير معلولها، وذلك خطأ كبير؛ وإما في معلولها بعد أن يغيره على ما يتوهم، وذلك شر من الأول، ومثل هذا إن سُمي بحثاً وسمي فلسفة في التاريخ لا يمكن ألبتَّة أن يسمى تاريخاً، ولا يخرج منه إلا كلام مستفيض هو على كل حال كلام قائله وعلى قدر من عقله وذكائه واطلاعه وطريقة فهمه، لا بحسب التاريخ ورجاله وعلله، فيكون الأستاذ كأنه يدرس فناً من الكلام بعض مادته من التاريخ، لا فناً من التاريخ بعض مادته من الكلام. وهذه الطريقة التي تسمى علمية هي في التاريخ أجهل الطرق، لأنها تختلف فيما تقرره باختلاف الرجال والأزمنة، مع أن التاريخ شيء ثابت لا يختلف ولا يمكن أن يُخلَق مرة أخرى، لا بإنشاء الجامعة المصرية ولا بأمر وزارة المعارف. . . ومتى ولد التاريخ لم يهرم ولم يمت، ثم تلك الطريقة هي أيسر الطرق وخاصة على من كان قليل الاطلاع، فإنك لا تتقيد فيها بمعروف تعرفه ولا بمنكر تنكره، إلا ما شئت وشاءت لك غفلة من حولك، ثم أنك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 تركب إليها كل أسلوب فإذا جميع الطرق تؤدي إلى غايتها، لأنها لا غاية لها إلا ما توهمته غاية وقلتَ إنه غاية. والتاريخ نوعان: أحدهما طُوِي عليه الدهر وقد وقع وانقطع فلا تغني فيه هذه الطريقة شيئاً، والآخر تُطوى عليه أدمغة مؤلفي الروايات ومن ينسجون في العلم على منوالهم. . . ولا أفيَدَ في كشف أسرار هذا النوع وإظهار حقائقه. . . من هذه الطريقة! فالبحث في تاريخ الأدب على الأصل العلمي الذي أنشئت له الجامعة - كما يقولون - إنما ينتهي بهذا التاريخ إلى أن يكون فناً من الكذب تلبسه الجامعة صفتها العلمية فيصبح كذباً صحيحاً، وهذا نصف الشر فيه، أما النصف الآخر فإنه متى جرى مجرى الصحيح وتناوله الناس بهذا الاعتبار لم يبق إلا أن تكون الكتب العربية التي بين أيدينا كذباً محضاً، وهذا ما يرمي إليه الدكتور طه حسين، كما بيناه. فالجامعة تقيم له الأساس ثم هو يبني، هذا إن سكتت الجامعة عنه وظلت تتحنفُ بهذا السكوت الفلسفي. وقد حضرتني الآن أرجوزة صغيرة أحب أن أهديها لصاحبنا الدكتور طه حسين ليتقاصر قليلاً، فإنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً، وما هو إلا كما هو: يا عجباً (طه) أديبُ العصر أصبح مثلَ انجلترا في مصر أسطولُهُ يراعة في شِبر وملكهُ مترٌ بنصف متر في مجلس للدرس بل للهِتر يجلس فيه مثلَ ضَبِّ الجُحر معقداً من ذَنَب لظهر تعقيدَ من (قد) خُلقوا للمكر وهبطوا الدنيا لأمر نُكر يحتك في كل أديب حرّ يخيفه بالشتم أو بالشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 كأنَّ فيه روحَ حرف جر. . . يا ويحه من واهم مغتر يفزع الليثَ بوجه الهر. . . إسفنجة جاءت لشرب البحر وشمعة ضاءت لشمس الظهر والشيخُ طه في انتقاد الشعر ثلاثة مضحكة لعَمري! (حاشية) بعد كتابة هذه الكلمة تلقيت كتاب الدكتور طه حسين "في الشعر الجاهلي" فتجاوزت المقدمة وقرأت الفصل الذي سماه "مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن" فيا عجباً، إنه والله لتهكم شديد من القدَر أن لا يكون مقر الجامعة إلا قريباً من مستشفى الأمراض العقلية. وسنقراً هذا الكتاب فهو الجامعة التي رفعنا أسئلتنا إليها. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى (عِلْمٍ) بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ قرأت كتاب "الشعر الجاهلي " وقد كتب في عنوانه "تأليف طه حسين: أستاذ الآداب العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية ". فما أكثر أسماء الهر وما أقل الهر بنفسه. . . إن معنى العبارة أن الرجل أستاذ الشعر والكتابة وأساليبهما وما دخل في ذلك من تفسير ونقد ثم تاريخ الأدب وتحليله وتصحيح رواياته وجميع مسائله والمقابلة بين نصوصه ثم علومه الأدب المعروفة، كفنون البلاغة وفنون الرواية، فهذه "الآداب العربية" ومهما ادعى أستاذها في الجامعة فلن يدعي أنه شاعر ذو مكانة، ولا أنه كاتب ذو فن، واذا أسقطنا هذين فماذا يبقى منه إلا ما يتمحل من بعض الأسباب التاريخية، ثم ما غَناء هذه الأسباب وتاريخ الأدب قائم على الشعراء والكتاب، وصاحبنا يرجع في ذلك إلى طبع ضعيف لم تحكمه صناعة الشعر ولا راضته مذاهب الخيال، ولا عهد له بأسرار الإلهام التي صار بها الشاعر شاعراً ونبغ الكاتب كاتباً، وما هو إلا ما ترى من خلط يسمى علماً، وجرأة تكون نقداً، وتحامل يصبح رأياً، وتقليد للمستشرقين يسميه اجتهاداً، وغض من الأئمة يجعل به الرجل نفسه إماماً، وهدم أحمق يقول هو البناء وهو التجديد. وما كنا نعرف على التعيين ما الجديد أو التجديد في رأي هذه الطائفة حتى رأينا أستاذ الجامعة يقرر في مواضع كثيرة من كتابه أنه هو الشك، ومعنى ذلك أنك إذا عجزت عن نص جديد تقرر به شيئاً جديداً فشك في النص القديم، فحسبك ذلك شيئاً تعرف به ومذهباً تجادل فيه؛ لأن للمنطق قاعدتين: إحداهما تصحيح الفاسد بالقياس والبرهان، والأخرى إفساد الصحيح بالجدل والمكابرة ومَثَل طه والقدماء مَثل رجلين من أهل المنطق، أحدهما قال: هذا اللون أسود فلا يجوز أن يكون أبيض. والآخر - الحسينى. . . - قال: كلا بل هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 اللون ليس بأبيض فيجوز أن يكون أسود، وما الفضل بين يجوز أن يكون ولا يجوز أن يكون إلا موهبة من الله إذا هي لم توجد لم يُغنِ البرهان من الحق شيئاً، ولا يزال أحد الرجلين مع الآخر في لجاج ومكابرة قد تهاترت بيناتهما وسقطت، لأن المنطق لا يصح منه إلا ما صحح العقل منه، فحيث لا قيمة للعقل فلا قيمة للمنطق. وإنه لولا ضعف خيال الدكتور طه وبُعدُه من الصناعة الفنية في الأدب واستسلامه لتقليد الزنادقة وبعض المستشرقين الذين لا يوثق برأيهم ولا بفهمهم في الآداب العربية، ثم لولا هذه العصبية الممقوتة التي نشأت فيه من هاتين الصفتين إلى صفات أخرى يعرفها من نفسه حق المعرفة، لكان قريباً من الصحة فيما يرى، ولتدبر الأمور بأسبابها القريبة منها، واستعان عليها بما يُصلحها. ولتوقى بذلك جناية التهجم التي هي في أكثر أحوالها علم الجهلاء وقوة الضغفَى وكياسةُ الحمقى وعقل الممرورين. على أن العصبية هي دائماً نصف الجهل وإن كانت في أعلم الناس وأذكاهم، وقديماً أفسدت من تاريخ الأدب العربي أكثر مما أفسد الغلط والجهل معاً. وقد نقحوا على أن ذهاب الواضح الجلي من الأدب الذي لا يُمترَى فيه إنما يكون على اثنين، أحدهما: من لم يكن مُرتاضاً بالصناعة متدرباً بالنقد بصيراً بما يأتي ويدع، والثاني: الرجل العالم يعرف أنه يعرف ثم تحمله العصبية على دفع العيان وجحد المشاهد فلا يزيد على التعرض للفضيحة والاشتهار بالجور والتحامل. هذا في العالم المتدرب المرتاض، فكيف بالعصبية في العالم القائم على ركن واحد من ثلاثة أركان؟ فإن أستاذ الآداب يجب أن يجمع إلى الإحاطة بتاريخها وتقصي موادها ذوقاً فنياً مهذباً مصقولاً، وليس يمكن أن يأتي له هذا الذوق إلا من إبداع في صناعتي الشعر والنثر، ثم يجمع إلى هذين الإحاطةِ والذوقِ تلك الموهبةَ الغريبة التي تلف بين العلم والفكر والمخيلة فتبدع من المؤرخ الفيلسوف الشاعر العالم شخصاً فوق هؤلاء جميعاً هو الذي نسميه الناقد الأدبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 متى لم تجد الخيال القوي في مؤرخ الأدب، ومتى رأيت هذا المؤرخ لا يتوكأ إلا على المنطق والمقاييس والأوزان، فاقذف به وبتاريخه وأدبه وآدابه حيث شئت؛ فإنه لا يمتنع في يدك ولا يستعصي عليك، لأن سكونه واستقراره - ولو كانا على كرسي الجامعة - لا يأتيان من أنه وثيق ركين، ولا من أن أصوله شابكة متصلة بل من سكون الريح من حوله وحياطته بالأستار من هنا وهناك. فإن صاحب العلم رجل وصاحب الفن رجل غيره، والأصل في العلم العقل. والأصل في الفن الغريزة، ودليل العقل المنطق والقياس، ودليل الغريزة الحس والموهبة. والأدب من العلوم كالأعصاب من الجسم، هي أدق ما فيه ولكنها مع ذلك هي الحياة والخلق والقوة والإبداع، ولا تقاس بمقياس العظام المشبوحة الغليظة، ولا توزن بميزان العضلات المكتنزة الشديدة، ولا ينفع فيها المتر ولا الكيلو.. فإن جاءك صاحب المتر أو الكيلو فاقذف به الطريق، وإن قال لك إن المتر مقسم إلى مائة جزء وكل جزء إلى عشرة أجزاء. . . * * * قبل أن نخوض في كتاب الأستاذ طه حسين نشكر له ما تفضل به من الثناء علينا في كتابه واستثناءه إيانا في بعض المعاني من كل من درسوا تاريخ الآداب العربية، ونحن، دون هذا في نفسنا ودون ما أبلغَنا إياه مع بعض أصدقائنا وإن كنا نعرف من صنيع الأستاذ الفاضل أنه لا ينصفنا مرة إلا بعد أن يظلمنا مراراً، وأنه اتخذ الوقيعة فينا مذهباً عُرف به وغلب عليه. حتى لا يكاد يقول أنصار القديم أو يكتب أنصار القديم أو يذم أنصار القديم إلا توجه ذلك عنده إلينا خالصاً لنا من دون المؤمنين. . . وهو لو عافاه الله من التعنت بعلمه على الناس، ورَزقه نعمةَ الوقوف عند حده وحَفظ عليه الفضيلة الشرقية الإسلامية، لربحناه ربح الذهب والفضة، ولكننا كيفما عاملنا به في سوق الشرق والغرب لم نجده في يد الشرق إلا نحاساً وفي يد الغرب إلا ذهباً، فهو ولكن في الديون التي علينا، أما في الديون التي لنا فلا يُحسب لنا إلا. . . "بقرش خردة!. التمسنا في كتاب الشعر الجاهلي تلك المسائل الأربع التي رفعناها إلى الجامعة فإذا الأستاذ قد حذف منه أعظمها خطراً وأكبرها شأناً، وهي مسألة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 محو المسلمين شعر النصارى واليهود، لم يقل فيها شيئاً ولا أشار إليها إلا إشارة خفيفة، كأنَّ في الأمر أثراً من حزم الأستاذ الكبير مدير الجامعة. فقال في صفحة 84 عن أمية بن أبي الصلت: "إنه وقف من النبي - صلى الله عليه وسلم - موقف الخصومة هجا أصحابه وأيد مخالفيه. ورثى قتلى بدر من المشركين، وكان هذا وحده يكفي للنهي عن رواية شعره، وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هُجي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حين كانت الخصومة شديدة بينه وبين مخالفيه من العرب الوثنيين واليهود". وقال في صفحة "5: "ليس إذن شعر أمية بن أبي الصلت بدعاً في شعر المتحنفين من العرب أو المتنصرين والمتهودين منهم. وليس يمكن أن يكون المسلمون قد تعمدوا محوه إلا ما كان منه هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ونعياً على الإسلام؛ فقد سلك المسلمون فيه مسلكهم في غيره من الشعر الذي أهمل حتى ضاع". فأنت ترى أن ههنا شيئاً من الإصلاح والحذف والاحتراس، وبقي أن أستاذ الجامعة انخدع بقول كليمان هوار المستشرق الفرنسي فيما زعم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن رواية شعر أمية، فتابعه طه وظن ذلك صحيحاً، غير أنه علل النهي بغير العلة الحمقاء السخيفة التي جاء بها هذا المستشرق (1) . ولكن ما الدليل على صحة خبر النهي وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استنشد من شعر أمية وما زال يقول للمنشد " إيه إيه " حتى استوفى مائة بيت! إن هؤلاء المستشرقين أجرأ الناس على الكذب ووضع النصوص المبالغة في العبارة متى تعلق الأمر بالإسلام أو بسبب يتصل به، وكل ما عُرف من أمر ذلك النهى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن رواية القصيدة التي رثى بها أمية قتلى المشركين في بدر، وهي مع ذلك لا تزال مروية في كتب السيرة إلى اليوم؛ فإن وقوع النهي لا يقتضي محو المنهى عنه ولا تركه عند من أراده. وقد نهى الله عن أشياء كثيرة ما زالت تؤتى، وستبقى ما بقيت الفطرة الإنسانية، فما أهمِل شعر أمية ولا نهي عن روايته، ولكنه الكذب والغفلة من الأستاذين.   (1) يرى هذا الرجل أن شعر أمية مصدر من مصادر القرآن. . . أخذ بعض القرآن منه فلذلك وقع النص عن روايته، وليس في الجهل أجهل من هذا، ولكنه مع ذلك قول أستاذ مستشرق اسمه (كليمان هواراً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 على أن الدكتور طه يقول في صفحة 54: كان الأنصار يكتبون هجاءهم لقريش ويحرصون على أن لا يضيع. . . فكيف ضاعت إذن " الكثرة المطلقة "؟ وما يمنع قريشاً أن يكتبوا هجاءهم كما فعل الأنصار؛ وإذا كانوا يكتبون مثل هذا فذلك نص على أنه لا حرج من روايته! لقدكتب شيخ الأدب صديقنا الأمير شكيب أرسلان مافيه الكفاية للرد على أستاذ الجامعة في بناء التاريخ على التحكم والافتراض وزعمه أن المسلمين محوا شعر النصارى واليهود أوتسببوا بمحوه؛ فلا نطيل في هذا المعنى، غير أننا نضيف إلى ما قاله شيخنا الجليل أنه لما أسر سهيل بن عمرو من مشركي قريش، وكان أعلم - أي مشقوق الشفة السفلى - وأرادت قريش فداءه، قال عمر بن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو السفليين يدلع لسانهُ فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبدا! فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأطلق الرجل، فلو أنه كان يمحو شيئاً أو يأمر بشيء في توفي الكلام وإبطاله لمحا أكبر وسائل الخطابة في هذا الخطيب المشرك، ولتركه ما يُبين حرفاً من حرف ولا يقيم الكلام على أصواته فلا يفلحْ بعدها في الخطابة أبداً. وما يزال المسلمون يَروون إلى اليوم قول ابن الزبَغرَى في الرد على النبي - صلى الله عليه وسلم -: حياة ثم موت ثم نشر. . . حديثُ خرافةٍ يا أم عمرو! وقول ذلك اليهودي حين ضلت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لايدري أين ناقته! وهنا نريد أن نقول للدكتور طه: إن بعده من صناعة الشعر هو الذي أوقعه في هذا الرأي السخيف، فلو نظم اليهودي هذه الكلمة فما عسى أن تزيد على ما قال؟ وهل شعر النصارى واليهود إلا كشعر سائر العرب في الفخر والهجاء والوصف والنسيب وغيرها؟ أم حسب الدكتور أن شعر النصراني يجب أن يكون في عقائده وإنجيله، وشعر اليهودي في توراته وتجارته.. ولعله لا يعلم أن أضعف ما يكون الشعر في الصناعة إذ هو تناول هذه المعاني وأشباهها كما يقع في شعر العلماء والمتصوفة، حتى قالوا إن شعر حسان بن ثابت نزل في الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 إلى دون ما كان عليه في الجاهلية. قال الأصمعي: الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان - أي ضعف - ألا ترى أن حسان بن ثابت كان عَلا في الجاهلية والإسلام؛ فلما دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي - صلى الله عليه وسلم - وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهما لأن شعره.. وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول، مثل امرئ القيس وزهير والنابغة. صفات الديار والترجل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الخمر والخيل والحروب والافتخار، فإذا أدخلته في باب الخير لان. انتهى. على أن شعر اليهود والنصارى بهان متميزاً في الرواية فإن لم يكن وقع إلينا فذلك لسقوط الرواية وضياع الكتب لا لضياع الشعر في نفسه بإهمال المسلمين. وقد ضاعت معانٍ كثيرة من عادات الجاهلية وأعمالها مما أبطله الإسلام أو لم يبطله، ومع ذلك أدَّاها الشعر ولم يتحرج العلماء من - روايته؛ وهذا ابن قتيبة يقول في كتاب " الميسر والقداح": إن الميسر أمر من الجاهلية قطعه الله بالإسلام، فلم يبق عند الأعراب إلا النبذ اليسير منه، وعند علمائنا إلا ما أدى - إليهم الشعر القديم. وقد كتب الجاحظ فيما روى قال: "أدركت رواة المسجديين والمربذيين ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب ونسيبَ الأعراب والأرجازَ الأعرابية القصار وأشعارَ اليهود فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة، فهذا نص على أن رواية شعر اليهود كانت في الإسلام باباً خاصاً من أبواب الرواية ونوعاً متميزاً من طرائف الشعر. وللإمام المَرزُباني كتاب قالوا إنه في أكثر من خمسة آلاف ورقة، كسره على اثني عشر باباً منها باب خاص بديانات الشعراء في أشعارهم ومنهم اليهود والنصارى. "إن أستاذ "الجامعة ليعلم علماً لا يدخله الشك الذي يتباهى به. . . أن كتب السلف لم تنته إلينا بجملتها، ولا انتهى أكثرها، ولا ما يقال فيه إنه كثير، وأن الرواية لم تتأدَّ إلينا بما كانت تحمل من ذلك العلم المستطيل من الأشعار والأخبار والنقد، فكيف يجوز له أن يحكم على شعر الجاهلية بأنه موضوع أو محمول على أهله، أو الكثرة المطلقة منه موضوعة محمولة، وهو لا يروي هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الشعر، وهو لا يعرف ما مقداره، ولا يحيط بأقله فضلاً عن أكثره، وقد قالوا إن ابن الأعرابي أملى وحده من الشعر أحمالاً، فأين هذه الأحمال اليوم حتى يقابل ما فيها بعضه يبعض، ومن الذي يستطيع في عصرنا أن يقول في الشعر: هذا يشبه شعر الجاهلية وهذا لا يشبهه، والتوليد في هذا بيِّن، والصنعة في ذلك ظاهرة، وهذا بقول فلان أشبهُ وهذا ليس من نسج فلان ولا من طبقته، وذلك منحول رويناه في شعر فلان. . . الخ الخ؟ وقد وضع ابن سلام كتاباً في طبقات فحول شعراء الجاهليين لا يُعرف إلا اسمه، أفتحسب راوية مثله يضع في أوائل القرن الثالث كتاباً في أسماء هؤلاء " الفحول " وليس بين يديه من شعرهم الكثير الصحيح قد غُربل ونخل ونُفي منه الموضوع والمنحول وما تقولته العشائر بأهوائها وما دسه الرواة بسبب من أسبابهم؟ نحن لا ندفع أن يكون فيما يُعزَى إلى الجاهلية شعر محمول على أهلها حملاً، وشعر قد نحلوهم إياه من كلام الشعراء المغمورين، وقد بينا ذلك في "تاريخ آداب العرب" في باب الرواية والرواة من الجزء الأول، وهو الباب الذي بنى عليه الدكتور طه كتابه في الشعر الجاهلي. ولكن بيننا وبين الجاهلية ثم من نقلوا عنها أزماناً متناسخة كادت توفي خمسة عشر قرناً، وقد باد أكثر الكتب وذهبت فيها أقوال الرواة وعِلم العلماء مما حققوه ونصوا علبه، وما تسامحوا فيه وتوسعوا به، فلا يجوز لكائن من كان بين قطبي الأرض أن يثبت أو ينكر ويزيد أو ينقص إلا بنص عن المتقدمين؛ لأن هذا العلم لا يمكن أن يستقيم على اتباع الظن ولا أن يصح على الشك، فإن محل الشك والتخمين والحدس والاستنتاج إنما يجيء بعد أن تجتمع المادة من أطرافها بحيث لا يشد منها إلا القليل الذي يفرض فيه لقلته أنه لا ينقض حكماً ولا يبطل رأياً، للاستغناء بالنصوص الأخرى المتوافرة التي تتحقق بها غلبة الظن إن لم يأت منها اليقين، والأمر في يد أستاذ الجامعة المبتلى بالشك. على النقيض من ذلك فلا هو يستطيع أن يرد ما ذهب من الكتب فيستوعبها، ولا هو يمكنه أن يطلع على كل ما هو فبعثر في زوايا الدنيا من الكتب التي لم تذهب، ولا هو اطلع على كل ما تناله أيدي الأدباء: ثلاث درجات يَسفل بعضها عن بعض، فالعجب الذي ليس مثله عجب أن يكون الأستاذ ناقصاً هذا النقص كله ثم يزعم أنه يدعو إلى الطريقة العلمية في تاريخ الأدب، وأنه يمحص ويحقق، ويثبت وينفي، ويوقن ويشك، وهذا هو المضحك من أمره. فإن أخص شروط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الطريقة العلمية في درس التاريخ وكتابته أن يستوعب المؤرخ كل ما قيل وكتب في موضعه، مما يتعلق بحادث أو شخص أو موضوع، لا يفوته من ذلك شيء، فإذا هو أتى على المادة ووضع يده منها حيث أراد وأمِنَ أن يكون ندَّ عنه أمر ذو بال جاء الشرط الثاني لهذه الطريقة ووجب حينئذ أن ينتفي من أهوائه ونزعاته، ويتجرد من شخصه الإنساني، ليصبح في عمله شخصاً، كما يتجرد القاضي ليكون في قضائه شخصاً قانونياً ليس غير! بيدَ أن طه تجرد قبل أن يلبس. . . وهذا نوع من الهزل إن احتمل من كاتب في صحيفة لا يحتمل من مدرس في جامعة! ومع أن الطريقة العلمية قائمة على استقراء المادة والإحاطة بها من جميع جهاتها، فهي لا تخرج التاريخ نفسه كما هو في الواقع، وإنما تجيء برأي فيه يكون معياره دائماً ذكاء صاحبه وعقله وخياله، ولهذا اشترطوا في صاحب تلك الطريقة أن يكون ممن رُزقوا البراعة كل البراعة في إصابة الحدس وقوة الخاطر وسمو الخيال، وإلا خرج عمله بلا معنى، أو بمعنى لا قيمة له، أو بقيمة ضعيفة تنزل من التاريخ منزلة الهيكل العظمي من الجسم الحي. وضع الإمام المرزباني كتاباً غير الكتاب الذي أومأنا إليه آنفاً. قال ابن النديم إنه أكثر من خمسة آلاف ورقة أتى فيه على أخبار (الشعراء المشهورين) من الجاهلية، وبداً بامرئ القيس وطبقته، ثم المخضرمين، ثم الإسلاميين إلى أول الدولة العباسية، فهذه أخبار شعراء مائتي سنة من التاريخ، بل المشهورين منهم، وقد كتبت في خمسة آلاف ورقة، أي عشرة آلاف صفحة، لم ينته إلينا منها صفحة واحدة، فكيف مع ضياعها وضياع كثير من أمثال هذا الكتاب الجامع الممتع يُقبل عقلاً من مؤرخ علمي يجلس في كرسي التحقيق أن يقرر مثل هذا الهُراء الذي جاءنا به الدكتور طه حسين في إنكار الشعر وإثباته، على حين أنه مع هذا النقص الفاضح تنقصه كذلك ملكة الشعر فما هو بشاعر يدرك بالحس كما أدرك مثل ذي الرمة حين سئل عن شعر أنشده حماد الرواية في مدح بلال بن أبي بردة فقال: إنه جيد وليس له، فلما عزم بلال على حماد ليخبرنَّه قال: إن الشعر قديم ولا يرويه غيري وقد انتحلته. ولجرير والفرزدق وغيرهما من الشعراء أَخبار كثيرة من مثل هذا، يقرأون بنفوسهم كما يقرأون بأعينهم، فلا يحسن أن يقول المؤرخ في الشعر إلا إذا كان شاعراً يوثق بملكته، فإن الحس والملكة من أقوى أسباب الرأي في مثل ذلك. ومع نقص النقص في أستاذ الجامعة فهو لا يحسن نقد الشعر، لأن النقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قائم بالملكة والفهم لا بالفهم وحده، ولم ينتقد في كتابه الشعر الجاهلي نقداً فنياً إلا بيتاً واحداً من قصيدة عمرو بن كلثوم المعروفة بالمعلقة، وهو قوله: ألا لا يجهلنْ أحد علينا. . . فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا قال الأستاذ: "قلت إن هذاً البيت يمثل إباء البدوي للضيم، ولكني أسرع. . . فأقول إنه لا يمثل سلاسة الطبع البدوي وإعراضه عن تكرار الحروف إلى هذا الحد الممل فتمد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات واشتد هذا الجهل حتى مُل " انتهى. قلنا ليته لم يسرع ولم يفرح بهذا الخاطر فقد عثر من إسراعه فامتلأ فمه تراباً، ومتى كان الأستاذ طه حسين يفطن إلى عيب تكرار الحروف وهو الذي كانت تضرب به الأمثال في التكرار قبل أن نلقنه ذلك الدرس في جريدة "السياسة"، وهو لم يبرأ بعدُ من هذه العلة، فقد رأينا له مقالاً في "مقتطف" شهر مارس من هذه السنة 1926 جاءت فيه هذه الشأشأة. . . " يمضي حيث يشاء ويصور الأشياء كما يشاء لا كما تشاء الأشياء" فتأمل. نقول لأستاذ الجامعة: إن التكرار في بيت عمرو بن كلثوم هو سر البلاغة فيه، وهو اللون الذي نفضه الشاعر من ألوان روحه على المعنى ليخلقه خلقاً حياً بحيث لو لم يكن هذا التكرار لضعف المعنى وسقطت رتبة الشعر؛ فإن هذا الشاعر يمثل في البيت غضب قومه وحفاظهم وقدرتهم على المجازاة والنقمة والأخذ الشديد لمن عز وهان، فلم يقل: إذا جهل أحد علينا فعلنا وفعلنا، وكان يستطيعه إذا جعل البيت: متى ما يجهلن أحد علينا جهلنا. . . الخ، بل نبه أولاً بقوله: "ألا" ثم نهى بعد ذلك أن يجهل أحد عليهم، ليشعِر أن لقومه الأمر والنهي؛ فهذه واحدة، ثم كرر بعد ذلك لفظ الجهل بالفعل والمصدر واسم الفاعل، ومضى به إلى منقطع الشعر جهلاً بعد جهل، ليشعر النفوس أن انتقامهم بلاء لا آخر له، يتتابع فيه الجهل الذي لا عقل معه فلا رحمة فيه. وكأنه يقول: إن الصاع بثلاثة، وإن من أساء إلينا واحدة رددناها عليه ثلاثاً؛ وكل ذلك إنما أفاده التكرار، وهذا هو غضب الطبع البدوي وحفيظته، فلا تنتظر من هذا الطبع الحر سلاسة ولا رقة في موقف الغضب والتحذير وإنذاره أعداءه البطشة الكبرى، بل ترقب الهول الهائل الذي تمثله لك الجيمات والهاءات واللامات إذا ملأ بها شدقيه عربي جهير الصوت فخم الإنشاد ثائر العاطفة غضوب الدم يهدر بالكلام هديراً، أفرأيت يا أستاذ الجامعة؟ * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 من أقبح ما في كتاب الدكتور طه حسين أنه يعلن في مقدمته تجرده من دينه عند البحث، يريد أن يأخذ النشء بذلك، اتباعاً لمذهب ديكارت الفلسفي الذي يقضي على الباحث بالتجرد من كل شيء عندما يبحث عن الحقيقة. قال الأستاذ: يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها " وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به!. وهذا لعمري هو منتهى الجهل، فإنه هناك فرقاً بين البحث عن حقيقة فلسفية عقلية محضة، وبين البحث عن حقيقة أدبية تاريخية قائمة على النص وقول فلان وفلان، وإذا هو نسي دينه (وتأمل ما في هذه العبارة) فماذا يكون من أثر هذا التاريخ ما دامت المادة التاريخية لم تجتمع له كما أسلفنا، وما دام الأستاذ مبتلى بالنقص من كل جهة. أما إنه قد نسي دينه حقيقة في رده على كليمان هوار المستشرق الفرنسي الذي زعم أنه اهتدى إلى مصدر عربي من مصادر القرآن هو شعر أمية بن أبي الصلت "الذي يجب أن يكون النبي قد استعان به كثيراً أو قليلاً في نظم القرآن " كما جاء في كتاب طه، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) . وقد كان رد أستاذ الجامعة الذي نسي دينه أنه أنكر الاستعانة بشعر أمية ولكنه لم يرد على حماقة هوار في زعمه أن القرآن من نظم النبي، بل سكت عن ذلك، بل قال بالحرف الواحد في صفحة 83: "ليس يعنيني هنا أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أو لا يكون" فالأمر عنده على حد الجواز كما ترى، وليس يعينه أن يكون دينه ودين أمته صحيحاً أو كذباً. . . ولو كان طه حسين بليغاً من أئمة البلاغة لقلنا: رأي رآه وإن كان كفراً وإلحاداً، ولكنه هو هو هو. . . على أن كلامه في هذا الكتاب عن القرآن الكريم كلام من "نسي دينه" بل كلام من لا دين له، فليس في الأمر عنده معجزة ولا إعجاز ولا تنزيل. وسيأتي هذا مفصلاً بعدُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 إن هذا الكتاب السخيف الذي جاءتنا به الجامعة مما تضيق به النفس لكثرة ما فيه من الخطأ، حتى لا يطيقه إلا من كان في عقل صاحبه وضعف حجته وتهافت آرائه وكثرة سقطه، وقد وجدنا أن أقوى ما يستند إليه المؤلف في كذب ما روي من الشعر الجاهلي دليل واحد اجتهد فيه وكرره وسماه عقدة لغوية وأيقن أن أنصار القديم لا يستطيعون فيه شيئاً، وذلك ظنه أن اختلاف لهجات العرب يجب أن يكون في أشعارها. ولما كان شعر الجاهلية ليس فيه شيء منها فهو موضوع بعد الإسلام وبعد أن صارت اللغة قرشية، قال: "فهذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر، في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام، وإذا لم يكن نظم القرآن وهو ليس شعراً ولا مقيداً بما يتقيد به الشعر قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل "يريد اختلاف القراءات " فكيف استطاع الشعر، وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي "؟ فما هي اللهجات يا أستاذ الجامعة؟ كان ينبغي أن تستقر بها قبل أن تعترض بها، فإنك لو فعلت لرأيتها في الجملة لا تغير شيئاً من أوزان الشعر. فهي في معظمها بين إبدال حرف بحرف أو حركة بحركة أو مد بمد، وكل ذلك لا يؤثر في إقامة الوزن كثيراً ولا قليلاً، والاختلاف في الحقيقة هيئات في النطق والصوت أكثر مما هو هيئات في الوضع واللغة، ومع ذلك فقد نصوا على أن العربي الفصيح غير مقيد بلغة قبيلته إذا نافرت طبع الفصاحة فيه، فمنهم من يوافق اللهجة ومنهم من يخالفها لسبب عند هذا وعند هذا راجع إلى الفطرة وقوتها، ومن القبائل من تأخذ لهجة غيرها كما فعلت قريش، فقد كانت لا تهمز، فلما نزل القرآن بالهمز اتخذت هذه اللهجة. ويجب أن تعلم يا أستاذ الجامعة أن عندنا نصاً عن ابن الكلبي أن العرب لم ترو من شعر الجاهلية إلا ما كان إلى مائة سنة قبل الإسلام، أي عمر رجلين يروي أحدهما عن الآخر، وذلك هو الزمن الذي نهضت فيه اللغة وأخذ العَرب بعضهم عن بعض. ومع كل هذا فهناك نص آخر على أن من اختلاف اللهجات ما يؤخذ به في إنشاد الشعر إذا وجد في لغة من ترتضى عربيته، ومنه ما لا يؤخذ به إذا وُجد في لغة من لا تُرضي عربيته، فذلك دليل قاطع على أن العلماء حذفوا أشياء لم يَرضوها وغيروا في إنشاد الشعر لا في نظمه، قال شاعر من بني تميم: ولا أكول لكدْر الكوم قد نضجت. . . ولا أكول لباب الدار مكفول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 يريد: لا أقول لقدر القوم الخ، وهي القاف المعقودة التي ينطقونها بين القاف والكاف، وكانت شائعة في العرب، وهي غير القاف الخالصة التي يُقرأ بها القرآن، فهل رُوي كل شعر بني تميم على هذا الوجه؟ وماذا لو أبدلت الكاف في البيت قافاً لتوافق اللغة الفصحى في الإنشاد؟ وفي الحديث من لغة حِمير "ليس من امِبر امصِيامُ في امسفَرِ" إذ كان من لغتهم إبدال لام التعريف ميماً، وهذه العبارة لو أشبعت فيها حركة السين في " ليس " خرج منها شطر موزون من الرجز، فإذا أنشدته بالفصحى وقلت "ليسا من البر الصيامُ في السفر" فأين تأثير اللهجات في الوزن والتقطيع الموسيقي. . . والبحر والقافية؟ فالدليل الذي حسب أستاذ الجامعة أنه ليس أقوى ولا أعضل منه في بابه هو كما تراه أوهَنُ أدلته وأسرعها اضمحلالاً، فكيف بغيره مما تمحل فيه وتكلف له التلفيق؟ إذا أخذت قيس عليك وخِندِف. . . بأقطارها لم تدرِ من أين تَسرَحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أستاذ الآداب والقرآن إلى هيئة كبار العلماء ومجلس إدارة الجامعة لقينا صديق من أدباء المسيحيين فقال، ويحكم! أيها العلماء والكتاب الذين أقاموا القيامة على رسالة الأستاذ الشيخ علي عبد الرزاق (1) فإن هذه الرسالة إنما هي تسبيح لله في جنب كتاب طه حسين الذي درَّسه في الجامعة. فقلنا لهذا الأديب: وكتاب طه حسين هو تسبيح لله في جنب ما يكون في نفس طه حسين، فلولا دين الحكومة والقضاء والنيابة - كما يقول هو في كتابه - لكان قد هدم السماء والأرض وترك الآخر يلعن الأول، ولافترى بين يديه ورجليه ويَسْرته ويُمناه وما فوق وما تحت، سخطة على الدين وكتابه، والإسلام ونبيه، وعلى الأمة وعلمائها؛ وهو على ما يعرف من دين الحكومة والقضاء والنيابة لا تراه ينظر في معنى من معاني الإسلام إلا جاء بشرِّ النظرين وأشدهما جهلاً وحمقاً؛ وتراه يُزهى في كتابه بأنه ممن "خلق الله لهم عقولاً تجد من الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضا" - صفحة 5 - وأنه من فئة (حسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقيناً، وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه - صفحة 6 - فهو لا يعد نفسه من أولئك الذين قال الله فيهم: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) بل كرَّه الله الإيمان وزين في قلبه القلق والاضطراب والشك، ولو نعلم أن كتابه وإلحاده   (1) رسالة شهيرة اسمها " الإسلام وأصول الحكم" ويخيل إلينا أن بعض الناس لهم قوة على تنويم إبليس تنويماً مغناطيسياً. . . فالأستاذ البليغ الذكي الشيخ علي عبد الرزاق نوَّم إبليس وتلقى بعض آرائه، أما طه حسين فنوَّمه إبليس. قلت: كان لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" حديت بين أهل العلم وأهل السياسة في سنة 1925 - قبل حديث كتاب الدكتور طه حسين بنحو عام - وقد ثارت ثائرة العلماء من مشيخة الأزهر على مؤلفه حتى جردوه من صفته وأخرجوه من وظيفته ونسبوه إلى ما يشبه الكفر؛ ثم دارت الأيام دورتها ورضي عنه أهل السياسة، فاسترد اعتباره وعاد كما كان: عالماً من العلماء ورجلاً من رجالات الإسلام! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 حديث بينه وبين نفسه أو بينه وبين مثل "كازانوفا" لأهملناه، ثم لما كان حكمه عندنا إلا ما قال الله تعالى: (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) ولكن كتابه دروس ألقاها في الجامعة، على طلبة يقول هو إنهم زهاء مائتين؛ فلقد أمِر أمرُهُ إذن بقوة هذه الجامعة، وأصبحت الجامعة هي المتهمة بإزاغة عقيدة مائتي طالب، وصارت في معناها العلمي كمستشفيات المبشرين في معناها الطبي. . . ومن ثم وجب على أئمة الدين أن يحيطوا عقائد أبنائنا وإخواننا، وأن يَزعوا الجامعة ويردوا جماحها ويكسروا شِرَّتها، وإلا شركوها في الإثم وأعانوها عليه، وقد أبلغنا فاللهم اشهد؛ وإنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب! ولننظر الآن في حماقة طه وتكاذيبه التي زعمها في القرآن، ووقاحته العجيبة فيما يكتب جهلاً بأساليب الكتابة وذوقها واسترسالاً مع طبعه الأحمق السفيه. يقول في صفحة 26 "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً؛ ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة. . . قال: ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والتوراة والقرآن من جهة أخرى". انتهى. . . فانظر هذه الوقاحة في قوله "للقرآن أن يحدثنا" كأنه زَعْمُ زاعمٍ له أن يقول وأن لا يقول؛ وإذا لم يكف النص في كتاب سماوي تدين له الأمة كلها لإثبات وجود المنصوص عليه فما بقي معنى لتصديقه، وما بقي إلا أن يكون القرآن كما يزعم المستشرقون أساتذة طه حسين وأولياؤه كلاماً من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه. ومن نظمه وعمله كما نقل عن هذا الخرف المسمى كليمان هوار؛ فهو يدخله ما يدخل كلام الناس من الخطأ والغفلة والحيلة والكذب، فله أن يزعم ما شاء ولكن ليس علينا أن نصدق أو نطمئن، وإذا هو ذكر اثنين من الأنبياء، وإذا هو ورد فيه قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) فذلك غير كاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 في رأي الجامعة المصرية لإثبات أن إبراهيم واسماعيلَ شخصان كان لهما "وجود تاريخي "، ولا أنهما هاجرا إلى مكة ورفعا قواعد البيت الحرام وبنيا الكعبة؛ وإذن فالقصة في رأي الجامعة المصرية من الأساطير الموضوعة ومما يلتحق بحيل الروائيين التي يشدون بها المعاني الاجتماعية، والسياسية. والتاريخية، ويؤتى بها في الرواية على أنها من الكذب الفني توصلا إلى سبك حادثة أو تقرير معنى أو شرح عاطفة أوَلاً يعلمُ أستاذ الجامعة أن النصوص واردة بأن العرب لا يعذون اليهود منهم (1) وإن كانت الدار واحدة واللغة واحدة، فما حاجتهم إلى حيلة روائية سخيفة، وهم لم تفصل طباعهم على طباع طه حسين، ليكذبوا وينافقوا وهم يعلمون أنهم كاذبون منافقون، على حين أنهم مستيقنون أن اليهود أهل كتاب وعلم فلا يقبلون من أمة جاهلة أن تضع لهم التاريخ؛ ثم كيف دخل هذا الكذب واندست هذه الحيلة في القرآن؟ نبئوني "بعلم " إن كنتم صادقين. ويقول الأستاذ في صفحة 18: "فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية، ونهضة دينية وثنية؛ وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة. . . قال: واذا كان هذا حقًّا، ونحن نعتقد أنه حق، فمن المعقول أن تبحث هذه النهضة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تحدث عنها الأساطير، قال: وإذن فليس ما يمنع قريشاً من أن تتقبل هذه "الأسطورة" التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم. . . كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة " أسطورة" أخرى صنعها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس ابن بريام صاحب طروادة". انتهى كلام الجامعة المصرية، ومعناه الصريح أن قريشاً قبلت هذه الأسطورة الخرافية التي تثبت أن الكعبة من بناء إسماعيل وإبراهيم، فأخَذَها مَن وضع القرآن عن قريش لأنه منهم؛ وبذلك تجزم الجامعة المصرية أن في القرآن كذباً وتلفيقاً، لأن الأسطورة كما يقول أستاذها في صفحة 29 حديثة العهد ظهرت قبل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني" أي فهي كذب صريح يعلم   (1) تجد النص على هذا في الأغاني وغيره، وقد كانت العداوة طبيعة مستحكمة بين العرب واليهود، ونص القرآن عليها بعد الإسلام، وكان اليهود قلة فيهم، قال الجاحظ: جاء الإسلام وليست اليهودية بغالبة على قبيلة إلا ما كان من ناس من اليمانية ونبذ يسير من جميع إياد وربيعة، ومعظم اليهودية إنما كانت بيثرب وحمير وتيما ووادي القرى في ولد هارون دون العرب فتأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الإسلام أنه كذب ويتغفل به العرب لسبب ديني. فماذا بقي من هذا الدين الذي يتناول الخرافة المخترعة قبل الإسلام بقليل ويوردها في كتابه على أنها منزلة من السماء وأنها وحي يُوحَى. وتماماً على هذه الخرافة يقول أستاذ الجامعة في صفحة 80 فهو - يعني القرآن - يذكر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى، وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئاً آخر هو صحف إبراهيم، ويذكر غير دين اليهود والنصارى ديناً آخر وهو ملة إبراهيم، هو هذه الحنيفية التي لم نستطع إلى الآن أن نتبين معناها الصحيح، وإذا كان اليهود قد استأثروا بدينهم وتأويله، وكان النصارى قد استأثروا بدينهم وتأويله ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم (تأمل!) ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويلها، فقد أخذ المسلمون يردون الإسلام في خلاصته إلى دين إبرَاهيم" انتهى. ولكن، أهمُ المسلمون الذين زعموا هذا، أم نزل ذلك في قرآنهم في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) . إلى آيات أخرى؟ فإذا كان ذلك من فعل المسلمين فالقرآن كذلك من صُنعهم عند أستاذ الجامعة؛ وهذا الأستاذ يشير (بالحنيفية) التي لم يفهم معناها الصحيح إلى ما ورد في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعثتُ بالحنيفية السمحة السهلة ". وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، فكيف سمعها العرب ورواها العلماء ولم يفهموها، وكيف يكون ذلك وهي مبنية على آيات كثيرة وردت في القرآن، مثل قوله تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) وقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) . إلى آيات كثيرة كلها نص قاطع في أن معنى الحنيف إنما هو الذي مال عن الشرك والتشبيه والتجسيد مما يزعمه اليهود والنصارى والمشركون، والحنفُ في اللغة: الميل، وكان العرب يقولون في كل من تعبد واعتزل الأوثان: إنه تحنَّفَ، وكل من حج واستقبل البيت سموه حنيفاً، لأنه بيت إبراهيم، ثم توسع الإسلام في الكلمة على سنته في الألفاظ الإسلامية المعروفة، فالمعنى الصحيح للحنيفية أنها الشريعة النقية التي لا شَوْبَ فيها من الإلحاد والشرك، والتي تعدل بالناس إلى الله وتوجه الخلق إلى الخالق وحده. وانظر كيف يقول الله: ((مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا) ثم يزعم أستاذ الجامعة أنَّ قصة إبراهيم "حيلة" فى إثبات الصلة بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 اليهود والعرب، وبين الإسلام واليهودية وبين التوراة والقرآن. . . فهل في الجهل أوسع مْن هذا؟ والعجب أن شيخ الجامعة مع كل هذا الخلط وكل هذه الحماقة يقول في صفحة 126: "القرآن وحده هو النص العربي القديم الذي يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخصاً للعصر الذي تلي فيه، فأين الشك الذي ابتلي به هذا الرجل، وكيف يستطيع على قاعدته في البحث والتحليل "ووضع علم المتقدمين كفه موضع الشك" أن يثبت هذا القول؛ وهل هو يجهل أنه كان قبله بزمن بعيد قوم "يجدون في الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضا" وهم الرافضة، وقد شكوا في نص القرآن وقالوا إنه وقع فيه نقص وزيادة وتغيير وتبديل؛ فإذا أخذ طلبة الجامعة المصرية بقاعدة الشك التي يقررها أستاذهم ويريد أن ينشئهم عَليها فهل يصدقون طه حسين أم يصدقون الرافضة؟ وما الذي يجعل طه أصدق منهم أو يجعلهم أكذب منه ما دام الأمر إلى الشك والتعسف؟ يعتقد الأستاذ أن القرآن يمثل العصر الجاهلي " ويشخصهُ"، وأنه أصدق مرآة للحياة الجاهلية - ص 16 - وأن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يَضع، وأنَّا نستطيع أن نصوره تصوراً واضحاً قوياً صحيحاً، بشرط أن لا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية والتاريخ والأساطير. . . من ناحية أخرى - ص 8 - ومعنى هذا الخلط مضافاً إلى ما تقدم وإلى قوله في ص 83: "ليس يعنيني أن يكون القرآن تأثر بشعر أمية - ابن أبي الصلت - أو لا يكون، أن القرآن عند هذا الرجل كتاب أشبه بالكتب التي يضعها المؤلفون فتكون تمثيلاً للعصر الذي وُضعت فيه لأنها صادرة عن فكر متأثر بالأسباب الكثيرة التي أنشأت العصر نشأته الخاصة به والمميزة له، مؤثرة بهذه الأسباب عينها فيما يضعه ويؤلفه، كما ترى في إلياذة هوميروس مثلاً؛ وإذن فلم يبق معنى لما ورد فيه من أنه (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) . ويلتحق هذا ومثله "بالأساطير التي استغلها الإسلام لسبب ديني" وتكون هذه هي عقيدة الجامعة المصرية في القرآن لا عقيدة طه حسين وحده، ما دامت الجامعة تدرس هذا وتقره وتمتحن الطلبة فيه وتجيزهم عليه. هل يدري طه حسين معنى قوله تعالى: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) ومعنى قوله (وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) ؟ وهل يفهم هذه البلاغة المعجزة التي يسجد لها البلغاء؛ إن معناها يا أستاذ الجامعة أن القرآن لا يشخص عصراً ولا يمثله، بل هو كتاب كل عصر، وهو الثابت على كل عِلم وكل بحث وكل اختراع واستكشاف على مدى الأزمنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 في أيها جاء مما سيستأنفه التاريخ؛ وهذا معنى (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) وأيها ذهب مما يطويه الماضي، وهذا معنى (وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) ؛ وليس يخفى عليك أن العصور يصحح بعضها بعضاً ويكشف بعضها خطأ بعض، وقد يتقرر في زمن ما يثبت بعد أزمان طويلة أنه كان خطأ فقوله: ((لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) من الكلمات التي لا تخطر بفكر إنساني يُظنْ أنه يشخص العصر الجاهلي، بل هي عِلم من لا يعلم غيره أن ستجد أمور وتحدث علوم وتُمَحَّص تواريخ وتنشأ مخترعات، فلو فهم الجاهل لما تكلم إلا الفاهم؛ وقد قال الله في أشباه طه حسين (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) . ولقد عجبت لأستاذ الجامعة كيف يعتمد في تصور العصر الجاهلي على التاريخ والأساطير وهو الذي يقول بالشك، وكيف تصح عنده الأساطير ويصح التاريخ العربي دون الشعر الجاهلي؛ وهل جاء هذا الشعر إلا من الطريق التي جاءت منها الأساطير والتاريخ، أي بالرواية والإسناد، ومن الحفظ والتلقين؟ وإذا جاءت ثلاثتها من طريق واحدة وكان الكذب والوضع قد دخلها جميعها ونص العلماء على أشياء من ذلك في الأبواب الثلاثة، فكيف يكون العصر الجاهلي في اثنين منها دون الثالث مع أن الوضع فيهما أيسر من الوضع في الشعر، إذ هما كلام كالكلام لا مؤونة فيه ولا تعب ولا صناعة ولا كذلك الشعر، وخاصة ما يوضع منه على ألسنة فحول الجاهليين. إنما جاء أستاذ الجامعة هذا العلم الغريبُ من جهله بالشعر وصناعته وأغراضه، فهو يحسب أن الشعر الجاهلي لا يكون جاهلياً ولا تصح نسبته إلى الجاهلية إلا إذا مثل الحياة الدينية عند العرب، ولقد ذكر القرآن اليهود والنصارى والمشركين والصابئة ولم يذكرهم الشعر الجاهلي، بل هو كما يقول في ص 18: "يُظهر حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي. . . " فالقرآن عنده لذلك أصح تمثيلاً، والشعر لذلك عنده غير صحيح. قال في ص 19: "وقريش كانت متدينة قوية الإيمان بدينها، ولا يمثل لها الشعر الجاهلي من ذلك إلا قليلاً" فليذكر لنا الأستاذ شعراء قريش من عهد امرئ القيس، وليقل لنا متى كان الشعر في قريش وقد نصوا على أنها أقل القبائل شعراً وشعراء في الجاهلية، ثم - ليذكر لنا هذا الباحث المحقق. . . كيف مثل الشعر الإسلامي الحياة الدينية الإسلامية، وأين هذا في شعر جرير والفرزدق والبحتري والمتنبي، وهل يحسب أستاذ الجامعة أن القرآن يجري مجرى الشعر في الوضع والسبب والغاية؛ ألم يعلم طه حسين إلى سنة 1926 أن القرآن نزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بشريعة تنسخ الشرائع، ودينِ يتمم الأديان وعبادة تمحو العبادات، فكان لا بد من ذكر كل ذلك فيه بإجمال حين يُجمل وتفصيل حين يُفصل وقَصص حين يقصى وبرهان - حين يحتج وقياس حين يقايس، - وأنه ما هو عاطفة شاعر ولا وصف كاتب ولا حكاية مؤرخ ولا حيلة قاصٍّ روائي، ولا هو بعلم على قياس فكر طه حسين مدرس الجامعة المصرية. . . لقد تناولت الآن هذا الكتاب الكريم عندما انتهيت في الكتابة إلى هذه الكلمة وسألت الله أن يخرج لي آية تشير إلى طه حسين وغروره وحماقته وتخاليطه، ثم فتحته على هذه النية فوالله لقد خرج قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) . ويا أسفاً ثم يا أسفاً - ثلاث مرات، كما يقول الفرنسيون - لو فهم طه ما في قوله: (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) إذن لأكل نصف أصابعه عضاً من الندم! القرآن يا شيخ الجامعة يقارع أدياناً فهو يذكرها ويصفها ويحتج عليها. فماذا يقارع الشعر الجاهلي ليذكر الأديان والشعور الديني القوي؛ وهذا على أنك لم تحط بهذا الشعر ولا بأكثره ولا بكثيره، وعلى أن ما انتهى إليك في الكتب إنما هو ما اختاره الرواة والعلماء للغة والفن والصناعة، لا للتاريخ ولا للبحث التاريخي ولا "لتشخيص" عصر من العصور، ولو هُم أرادوا ذلك وفطنوا له لجاءتك كتب وافرة مصنفة وتاريخ تام محفوظ ولكنهم أهملوا من أمر الشعر في اتصاله بالتاريخ وأسبابه ومعانيه مثل الذين أهملوا في ذلك من أمر اللغة، كما كانت تقتضيه طبيعة عصرهم وعلومهم. أفليس الحمل على هذا المعنى أقربَ إلى العقل من ذلك الهذيان؟ * * * وفي ص 20 من كتاب طه حسين ترى الجهل المركب تركيباً مزجيا كبعلبك ومعديكرب. . . فهو يزعم أن القرآن يمثل للعرب حياة عقلية توية في الجدال الديني والفلسفي، لأنه وصفهم بشدة الخصام. قال: "وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون؛ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة. . . فيها حياتهم " فيا فضيحة الجامعة المصرية في جامعات الأمم! ألا يتفضل أستاذها على الأدب والتاريخ فيذكر لنا مجلساً واحداً من هذه المجالس العربية الفلسفية وما دار فيه من البحث والتحقيق والجدل والخصام والمحاورة في معضلات الفلاسفة التي ينفقون فيها حياتهم، لنصدق أن معنى اللَّدد والخصام الواردين في القرآن صفة للعرب إنما هو الحوار في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 مسائل الدين والجدال في معضلات الفلسفة؛ أمِن حُججهم الفلسفية كانت تلك الحجارةُ التي نص التاريخ على أنهم كانوا يقذفون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يُلجئوه إلى الحائط، وذلك الترابُ الذي كانوا ينثرونه على رأسه؟ أم قولهم: شاعر وساحر وكذاب ومجنون، ونحوها مما يدخل في باب الحمق والسفاهة والاستهزاء؟ ومتى كانت هذه من صفات الفلاسفة يا شيخ الجامعة؟ أم كان من حججهم الفلسفية حين عرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام ويتلو عليهم القرآن أن أتبعوه عمه عبدَ العُزى يقول من ورائه: "يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب" أو كانت مجالسهم العلمية والدينية والفلسفية حين كان - صلى الله عليه وسلم - يجلس فيدعو الناس ويتلو عليهم القرآن ثم يقوم فيأتي عالمهم ومتكلمهم النضر بن الحارث فيخلفه في مجلسه ويقص على الناس من أخبار ملوك فارس ويقول: والله ما محمد بأحسنَ حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتُها!.. إن معنى الخصام واللدد أنهم سفهاء أهل تكذيب وعناد ومكابرة وتأبٍّ على من يريد هدايتهم وإرشادهم، لا يمكن صرفهم عن رأي يكون فيه الهوى، كما لا يمكن مثل ذلك في الجاهل الأحمق المصر المبتلى بالاستهتار والشك. فإن أصل الألد في اللغة الشديد اللدد أي صفحة العنق، فلا يلوي عنقه في الصراع، وذلك من أكبر الأدلة على وثاقة تركيبه الجسماني فإن عنق المصارع ثُلث المصارع، ولقد كانت هذه الطباع الجاهلة الحمقاء المكابرة من أوضح الأدلة على إعجاز القرآن، لأنه مع إصرارها بلغ منها، ومع عنادها أثر فيها ببلاغته، فلو كانوا كما زعم طه " أصحاب علم وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة" لما كانت هدايتهم شيئاً يذكر في باب المعجزة. أولسنا نرى اليوم في الأمم المتحضرة الرقيقة ذات النغمة الفاشية من ينقادون أسهل انقياد وأسرعه لكل ذي مذهب، حتى لعبادة الشيطان في أمريكا بلاد كل شيء ذهبي. . .؟ وكيف يكونون "أصحاب عيش فيه لين ونعمة " وهم أنفسهم حين اجتمع أشرافهم من قبائل قريش ليكلموا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخاصموه حتى يعذروا فيه قالوا له فيما قالوا: "قد علمتَ أنه ليس أحد من الناس أضيقَ يداً ولا أقل ماء ولا أشد عيشاً منا" ولما نزل قوله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) . قال الزبير بن العوام عن أي النعيم نسأل يا رسول الله؟ إنما هما الأسودان - التمر والماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما إنه سيكون فيا سبحان الله! جهل بالأدب وجهل بالتاريخ وجهل باللغة وجهل بالشعر ثم يكون من هذا كله علم الجامعة المصرية! والطامة الكبرى في صفحة 22 إذ يزعم الأستاذ أن وجود سورة في القرآن تسمى سورة الروم دليل على أن العرب لم يكونوا في عزلة سياسية بل هم أصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، وقد أخذت ذلك من قوله تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ) . كأنه يعني أن هدْا التاريخ كان معروفاً في أهل السياسة من العرب وفي وزارة خارجية قريش. . . فأخذه القرآن عنهم كما زعم الرجل في إبراهيم وإسماعيل، وغفل أستاذ الجامعة الذي لا يفهم عن قوله تعالى: (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) فلم يدر أن هذا إنباء بالغيب يدخل في باب المعجزة لا في باب التاريخ ولا في باب السياسة. فذِكر الروم في القرآن وما يجري مجراها في قصص الأمم إعجاز من النبي الأمي في هذه الأمة الأمية، فهو بذلك دليل على جهل تلك الأمة وبدأوتها لا - على علمها وحضارتها، ولن يكون القرآن - دليلاً - على علم العرب وحضارتهم ومعرفتهم بالتاريخ واتصالهم بالسياسة كما يقرر طه حسين في الجامعة إلا إذا كان القرآن كلام النبي الذي جاء به لم يكن وحياً ولا تنزيلاً، فلتنظر الجامعة أين يذهب أستاذها الخبيث في قوله في ص 23 "وكيف يستطيع رجل عاقل أن يصدق أن القرآن قد ظهر في أمة جاهلة همجية" وهل نصدق طه فيما يستنتج بفكره العقيم من أن العرب كانوا أمة متحضرة راقية "وكانوا أصحاب علم ودين وسياسة متصلة بالسياسة العامة" أو نصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إنا أمة أمية لا نحسُبُ ولا نكتب " ومن أين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 تجيء الحضارة ويأتي العلم وتستقيم السياسة مع جهل (الأمة) بالكتابة والحساب؟ إن طه حسين هذا مجموعة أخلاق مضطربة وأفكار متناقضة وطباع زائغة. وما من عالم في الأرض إلا وأنت واجد آراءه قائمة بمجموع أخلاقه أكثر مما هي آتية من صفاته العقلية، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان" وطه رجل أرسلوا لسانه وقلبه إلى أوروبا، فرجع بلسانه وترك قلبه هناك في خرائب روما. . . فيجب أن يكون نفاقه وثرثرته مقصورين على نفسه، ويجب أن تحمي الجامعة طلبتها منها، ويجب أن ينهض علماؤنا في إلزام 1 هذه الجامعة أن تعلن براءتها من آراء أستاذها حتى لا يزيغ به أحد فتبقى قيمته وقيمة آرائه كما هو في نفسه وأهوِن به، لا كما هو بالجامعة وأعْظِم بها. وإذا كان عميد كلية الآداب لا يحسن من العربية شيئاً ولا يفقه من هذه المباحث شيئاً ولا هو من دين الأمة فى شيء فماذا نقول في الأستاذ الأديب الذكي البليغ مدير الجامعة الذي اسمه: أحْمد (1) .   (1) قلت يعني أحمد لطفي باشا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 للتاريخ بعد نشر المقالة التي سلفت نهض العلماء في جميع المعاهد الدينية، في أسيوط وإسكندرية وطنطا ودمياط والزقازيق والقاهرة فحققوا إلحاد أستاذ الجامعة وجهله وخطله، ثم أرسلوا البرقيات إلى جلالة ملك مصر ورئاسة وزرائها ووزارة المعارف ونبهوا الأمة جمعاء، فخفق البرق من كل جهات القطر بالاحتجاج على أستاذ الجامعة، وأصبح الرجل ملعَنةَ هذه الأمة بأديانها الثلاثة: الإسلام، والنصرانية، واليهودية. وإليك ما كتبه أحد علماء الأزهر ونشرته الصحف، وهو يصف ما كان من الأزهر الشريف وحده دون سائر المعاهد التي أشرنا إليها آنفاً، قال: العلماء يطاردون الإلحاد أهم علماء الأزهر الشريف طلائع تلك الحملة المدبرة ضد الأديان السماوية التي في مقدمتها كتاب "في الشعر الجاهلي " تأليف طه حسين، فرأوا بعد أن جودل بالحجة والبرهان فلم يخضع لسلطانها وأظهر عناداً وإصراراً على الخروج والإلحاد، أن يرفعوا الأمر إلى جلالة الملك وحكومته المسؤولة عن حماية دينها الرسمي، قياماً بما يقضي به واجبهم نحو الدين الذي هم ممثلوه ودعاته، فاجتمع منهم زهاء مائتي عالم بسكرتارية المعاهد الدينية، ومن هناك يمموا "قصر عابدين " يتقدمهم فضيلة أستاذهم الأكبر شيخ الجامع الأزهر وهيئة كبار العلماء، حيث قابلوا صاحب الدولة توفيق باشا نسيم وبسطوا له شيئاً من المطاعن التي وردت في ذلك الكتاب، فأبدى عظيم استيائه لهذا التبجح. وأعلن دولته تضامنه مع العلماء في حفظ بيضة الدين والذود عن حياضه. فخرجوا شاكرين لدولته هذه الروح العالية والنزعة النبيلة. وقصدوا تواً إلى صاحب الدولة زيور باشا رئيس الوزراء بوزارة الخارجية. وهناك اجتمعوا بدولته وصاحبي المعالي وزيري الخارجية والمعارف مجتمعين. فشرحوا لدولته ومعاليهما كذلك بعض ما في هذا المؤلف من كفر وإلحاد. فعظم عليهم الأمر وأكبروه جد إكبار من شخص مسلم من أبوين مسلمين في أمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 متمدينة يطعم ويكسى من أموالها ويحسب في عداد أبنائها وهو أقبح أثراً وأكبر إجراماً من أعدائها. وأعلنوا مجتمعين اتخاذ الوسائل الحاسمة في القريب العاجل، فحمد العماء لهم هذه الهمة العالية والعناية الجليلة التي ستعقد لسان الأديان السماوية وجميع معتنقيها على حمدهم والثناء عليهم، ويستوجبون بها عند الله عظيم المثوبة وجزيل الأجر (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) ولقد عاد العلماء من هذا التطواف ممتلئين ثقة وإيماناً بأن حضرة صاحب الجلالة نصير الدين والعلم، وحكومته الرشيدة، سيضعان الحد الفاصل والسد المنيع والعلاج الناجح لهذه الأوباء الفتاكة التي هي أولى بالمطاردة والإفناء من الجراثيم المعدية. حفظ الله دينه ورعى بعنايته جلالة مليكنا المعظم وولي عهده المحبوب. إنه سميع الدعاء. عبد ربه مفتاح من علماء الأزهر وكان الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر قد أمر، فتألفت لجنة من العلماء لدرس كتاب طه حسين ورفع تقرير بما فيه، فرفعت إلى فضيلته هذا التقرير الذي ترى نسخته، ثم نشرته في الصحف. وهو: كتاب الشعر الجاهلي، ورأي لجنة العلماء فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 كتاب الشعر الجاهلي رأي لجنة العلماء فيه حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر. السلام عليكم ورحمة الله: وبعد، فقد اجتمعت اللجنة المؤلفة بأمر فضيلتكم من الموقعين عليه لفحص كتاب طه حسين المسمى "في الشعر الجاهلي" بمناسبة ما قيل عنه من تكذيب القرآن الكريم، واطلعت على الكتاب، وهذا ما نرفعه إلى فضيلتكم عنه بعد فحصه واستقراء ما فيه: يقع الكتاب في 183 صفحة، وموضوعه إنكار الشعر الجاهلي وأنه منتحل بعد الإسلام لأسباب زعمها - وقال إنه بنى بحثه على التجرد من كل شيء حتى من دينه وقوميته عملاً بمذهب " ديكارت" الفرنسي. والكتاب كله مملوء بروح الإلحاد والزندقة، وفيه مغامز عديدة ضد الدين مبثوثة فيه لا يجوز بحال أن تلقى إلى تلامذة لم يكن عندهم من المعلومات الدينية ما يتقون به هذا التضليل المفسد لعقائدهم والموجب للخلاف والشقاق في الأمة وإثارة فتنة عنيفة دينية ضد دين الدولة ودين الأمة. وترى اللجنة أنه إذا لم تكافح هذه الروح الإلحادية في التعليم ويقتلع هذا الشر من أصله وتطهر دور التعليم من (اللادينية) التي يعمل بعض الأفراد على نشرها بتدبير وإحكام تحت ستار حرية الرأي، اختل النظام وفشت الفوضى واضطرب حبل الأمن لأن الدين هو أساس الطمأنينة والنظام. الكتاب وضع في ظاهره لإنكار الشعر الجاهلي، ولكن المتأمل قليلاً يجده دعامة من دعائم الكفر ومعولاً لهدم الأديان، وكأنه ما وضع إلا ليأتي عليها من أصولها، وبخاصة الدين الإسلامي، فإنه تذرع بهذا البحث إلى إنكار أصل كبير من أصول اللغة العربية من الشعر والنثر قبل الإسلام مما يرجع إليه فى فهم القرآن والحديث، هذا ما يرمى إليه الكتاب فى جملته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ولنذكر نبذاً منه بعضها كفر صريح وبعضها يرمي إلى الإلحاد والزندقة فنقول: قال في صفحة 26 ما نصه: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل. وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة". أنكر المؤلف بهذا هجرة سيدنا إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام وقال إن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، وهو تكذيب صريح لقول الله تعالى في سورة إبراهيم حكاية عنه عليه الصلاة والسلام (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) . وقال في الصفحة نفسها "نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة - يريد قصة الهجرة - نوعاً من الحيلة لإثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة من جهة أخرى". وهو في هذا النص يصرح بأن القرآن اختلق هذه الصلة بين إسماعيل والعرب ليحتال على جلب اليهود وتأليفهم، ولينسب العرب إلى أصل ماجد زوراً وبهتاناً لأسباب سياسية أو دينية. وهذا من منتهى الفجور والفحش والطعن على القرآن الكريم في إثباته أبوة إبراهيم للعرب في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) الآية. وقال في صفحة 27 "وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة - الهجرة المذكورة - في القرن السابع للمسيح. . . إلى أن قال في صفحة 29 "إذاً فليس ما يمنع قريشاً من أن تقبل هذه الأسطورة التي - تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم، كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعتها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب طروادة، أمر هذه القصة إذاً واضح. فهي حديثة العهد قبيل الإسلام، واستغلها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضاً، وإذاً فيستطيع التاريخ الأدبى واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وهو تكذيب صريح لقول الله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) الآية سورة البقرة، ولقوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) . وقوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) . إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا الموضوع، وهو فوق تكذيبه للقرآن، يقول إن فيه تدليساً واحتيالاً لأسباب سياسية ودينية من أجلها اختلق هذه الأخبار - بهذا وأمثاله يقرر المؤلف أن القرآن لا يوثق بأخباره ولا بما فيه من التاريخ. وكم يترك هذا الكفر الفاحش في عقول الطلبة من أثر سيئ وهدم لعقائدهم ودينهم وماذا بقي في القرآن من ثقة وحرمة في نفوسهم بعد هذا التكذيب؟ وقال في صفحة "33 وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه أو تفصيل القول فيه، وهو أن القرآن الذي تُلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً. . . إلى أن قال: إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل ويسيغه النقل وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما يتلوه النبي وعشيرته من قريش، فقرأته كما كانت تتكلم" إلى آخر ما قال. وهذا تصريح منه بأن القراءات لم تكن منقولة كلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هي من اختلاف لهجات القبائل، فالسبع المتواترة ليست عنده واردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومعلوم في أصول الدين أن السبع متواترة وأن طريقها الوحي فمنكرها كافر. وعدا ما سردناه توجد صحائف عديدة فيها مغامز مؤلمة، منها ما قاله في صفحة 81، وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم. وفي الصفحة التي قبلها "أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل" وهو في هذا يكذب قوله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقوله تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الموضوع، ومنها غير ذلك كثيراً مما هو مبثوث في الكتاب. ولا ريب في أن هذا هو عين ما يطعن به المشركون على القرآن في مبدأ أمره، قال تعالى في سورة الفرقان (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) . فاللجنة ترفع إلى فضيلتكم ما وصلت إليه على سرعة من الوقت مما سطره المؤلف من الكفر الصريح، وتترك ما ينطوي في ثناياه من الإلحاد والزندقة مما لا يخفى على الناظر. نرفعه مطالبين فضيلتكم والحكومة بوضع حدٍّ لهذه الفوضى الإلحادية. خصوصاً التي تنبت في التعليم لهدم الدين بمعول الزندقة كل يوم، فما نفرغ من حادثة إلا ونستقبل حوادث لا تدع المؤمن مطمئناً على دينه. نطالب فضيلتكم والحكومة بذلك حرصاً على أبناء الدولة أن يتفشى هذا الداء فيهم، وهم رجال المستقبل وسيكون بيدهم الحل والعقد في مهام الأمور. ونحن لا نفهم كيف تُصرف أموال المسلمين وأوقافهم على تعليم نتيجة هذا الإلحاد الذي يبثه الداعي ويتقاضى عليه مرتباً ضخماً من هذه الأموال. وهل بهذه الطريقة وعلى هذا النحو تخدم وزارة المعارف أبناء الأمة ورجال الغد وتبني صرح التعليم والتربية؟.. نسأل الله أن يوفقكم لما فيه المصلحة والسلام. 26 شوال سنة 1344 الإمضاءات محمود الديناري. عبد المعطي الشرشيمي. محمد عبد السلام القباني. عبد ربه مفتاح، عبد الحكم عطا. محمد هلالي الأبياري. عبد الرحمن المحلاوي. محمد علي سلامة. * * * قلنا فما كان بعد ذلك إلا أن خنَس أستاذ الجامعة وذهبت كل شجاعته الأدبية فى رغيف من الخبز. . . وأصبح دينه بين عقله وبطنه، فجعل له خوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الجوع ديناً، وخشي أن يخرجوه من الجامعة فرفع هذا الكتاب إلى مديرها لينشره على الأمة، قال: حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل مدير الجامعة المصرية أتشرف بأن أرفع إلى عزتكم ما يأتي: كثر اللغط حول الكتاب الذي أصدرته منذ حين باسم: " في الشعر الجاهلي " وقيل إني تعمدت فيه إهانة الدين والخروج عليه، وإني أعلِّم الإلحاد في الجامعة؛ وأنا أؤكد لعزتكم أني لم أرد إهانة الدين ولم أخرج عليه، وما كان لي أن أفعل ذلك وأنا مسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأنا الذي جاهد ما استطاع في تقوية التعليم الديني في وزارة المعارف حين كففت العمل في لجنة هذا التعليم، ويشهد بذلك معالي وزير المعارف وأعوانه الذين شاركوني في هذا العمل، وأؤكد لعزتكم أن دروسي في الجامعة خلت خلواً تاماً من التعرض للديانات، لأني أعرف أن الجامعة لم تنشأ لمثل هذا. وأنا أرجو أن تتفضلوا فتبلغوا هذا البيان من تشاؤون وتنشروه حيث تشاؤون وأن تقبلوا تحياتي الخالصة وإجلالي العظيم. طه حسين فكتبنا المقالة الآتية: فلما أدركه الغرق. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فلما أدركه الغرق . . . عندي نسخة من كتاب " كليلة ودمنة " ليس مثلها عند أحد، ما شئتُ من مَثل إلا وجدته فيها، وقد رجعت إليها اليوم. (13 مايو سنهَ 1926) فأصبت فيها هذه الحكاية. قال كليلة: أما تضرب لي المثل الذي قلتَ يا دمنة؟ قال دمنة: زعموا أن سمكة في قدر ذراع كانت في غدير، فلما سال به السيلُ جرى بها الماء إلى نهر قريب، فدخلها الغرور فقالت: هذا لعمري ميراث أبي قد كنت عنه غافلة، وما أكثر ما يضيع التهاون والعجز! ثم إنها لبثت في النهر ما شاء الله حتى خرج بها التيار إلى البحر، فقالت: يا ويلتا، أعجزت كل هذا العمر عن ميراث أعمامي! . . . ثم ما زالت فىِ ميراث أعمامها حتى قذف بها الماء إلى المحيط فاتسع لها منه ما يسعها. . . فقالت: قبَّح الله العجز ولو من كسل وهُوَينا، لقد كدت أسلَبُ ميراث أجدادي! . . . لولا أن من دمهم فيّ لم يزل يدفعني ولم يزل يسمو بي. ثم إنها طفت يوماً على الماء فإذا الأسطول الإنجليزي يمخر العُباب إلى جبل طارق في عشر بوارج وعشرين مدرعة ومائة سفينة طوربيد وخمسين غواصة، فطار بها الغيط قِطعاً وقالت: مَن هذا الوقح المتهجم على ميراث أجدادي لا يخشى أن يقتحم علي وقد حميتُ هذا الملك من حيث يجري الماء إلى حيث يبلغ الماء؛ ثم إنها شدت نحو الأسطول وهي تخبط بذنبها من الغيظ تريد أن تضربه بهذا الذنب ضربة تلوي به، ولكن الأسطول كان بعيداً، ثم إنه كان سريعاً، ففاتها فقالت: أولى لك، ما نجا بك والله إلا حِدة الهرب وسرعة الفرار. قال دمنة: ثم اضطجعت على الماء تسكن من غضبها فنامت واسترخت. فمر بها زورق صيد، فما أحست إلا الشبكة وقد أخذتها، فغاصت في الماء وجعلت تختبط عالية سافلة لا ترى مذهباً ولا مفرًّا، فلما أعياها ذلك وبلغ منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الجهد قالت: أيتها الشبكة، دعيني، فوالله ما قلت إن المحيط ميراث أجدادي ولا البحر ميراث أعمامي ولا النهر ميراث أبي! قال كليلة: فمثلُ مَن هذا يا دمنة؟ قال: مثل طه حسين في كتابه لمدير الجامعة. . . * * * قرأت اليوم هذا الكتاب وفيه يقول طه: "أؤكد لعزتكم أني لم أرِد إهانة الدين ولم أخرج عليه، وما كان لي أن أفعل ذلك وأنا مسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. . . وأرجو أن تتفضلوا فتبلغوا هذا البيان من تشاؤون وتنشروه حيث تشاؤون ". ونحن فقد أصبحنا من أتباع مذهب ديكارت، فوالله ما نصدق طه حسين ولا سمكة دمنة حتى نبحث متجردين من كل عاطفة. فليبحث معنا القراء: 1 - الكتاب مؤرخ 12 مايو، فأين كان طه منذ اتهم بالإلحاد من كاتب واحد ثم من علماء أسيوط ثم الإسكندرية ثم دمياط ثم الزقازيق ثم طنطا ثم الأزهر ثم الأمة كلها ثم الحكومة! أيقبل هذا كله على نفسه إلا متعنت كل التعنت مُصِرٌّ أشد الإصرار معاند بغاية العناد؟ 2 - ألم يصرح في منهج البحث من كتابه أنه تجرد من دينه لهذا البحث وأوجب ذلك على الأدباء، وقال في صفحة 45: إن عقليته اصطبغت بالصبغة الغربية، وفي صفحة 46: إنه خلص شخصيته من الأوهام والأساطير وإن سخط الناس على كتابه "لن يقلل من تأثيره في هذا الجيل الناشئ، فهذا سخط الناس على كتابه فما باله اليوم؟ وهل العقلية الغربية الباحثة على مذهب ديكارت متجردة من الدين ومن العواطف تعقل الوحي وتقرُّ به؟ 3 - هل يجد القراء في كتابه لمدير الجامعة أنه رجع عن إلحاده وتبراً من آرائه في كتاب الشعر الجاهلي من نسبة الخرافة إلى القرآن وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتهكم به وبحديثه الخ الخ؟ أم كان أمره كما حكى الله عن فرعون (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ) ؟ 4 - ما الغرض من الكتابة لمدير الجامعة؟ أكان الأستاذ المدير يجهل منهج الدراسة في كلية الآداب إلى هذا التاريخ؟ أم كان لا يعرف أن كتاب الشعر الجاهلي منسوب إلى أستاذ الجامعة وأن اسم الجامعة مطبوع في عنوائه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أم كان لا يقرأ في الصفحة الأولى منه أن طه (تحدث بهذا البحث إلى طلابه في ْالجامعة وهم أكثر من مائتين" وأنه مصرٌّ على بحثه مكابر فيه " غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزوَر"؟ 5 - ألا تنطق عبارة الكتاب أنه ما كُتب إلا لغرضين: أولهما أن "تبلغه" الجامعة الحكومة كأنه حل حاسم للمشكلة معها؛ والثاني أن "تنشره" الجامعة في الصحف كأنه حل لمشكلتها مع الأمة. فهل مع مثل هذين الغرضين يكون للنية السليمة موضع أو للإيمان محل في هذا الكتاب؟ 6 - كيف يصدق طه في أنه لم يُرِد إهانة الدين والإهانة في كتابه، وكتابه لا يزال يباع ولا يزال الرجل مصرًّا عليه لم يتبرأ منه ولا تبرأت الجامعة. وما وردت تلك الإهانة في كتابه إلا ليجعلها برهاناً على نظريته في أن العرب العدنانية لم تتخذ لغة إسماعيل التي ورد في شأنها الحديث الشريف والتي هي أساس لغة القرآن، فإذا لم يتبرأ من هذا الرأي ويعلن أنه رجع عنه وكانت الإهانة هي البرهان الوحيد على هذا الرأي فكيف يقول إنه لم يرِدها؟ 7 - هل يظن طه أن الأمة وعلماءها وأدباءها من البلاهة والغفلة بحيث يقنعهم هذا العذر البارد، عذر 12 مايو؟ هذه سبعة اعتراضات لابد من ردها قبل أن نصدق سمكة دمنة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 موقف حرج لوزارة المعارف قبل أن نكتب كلمتنا اليوم نسوق حرفين إلى معالي وزير المعارف، فإن معاليه رجل عالم ذكي، بل نابغة في ذكائه وحدة خاطره؛ لا تخطئ الفراسة أن تعرف منه رجلاً أي رجل، وهو خير من يعلم أن لكل فن منهجاً ولكل علم طريقة؛ وأن نادرة الأذكياء في الطب وعالم الدنيا فيه لو هو سمت به همته ونازعته نفسه لأن يطاول أهل القانون ويفسر لهم ويبصرهم بعلومهم ودقائق علومهم لجعلوه سخرية بينهم، ولتناولوه من ألسنتهم بما يُلقي في أعصابه كلل آلاف المرضى في مستشفى طويل عريض كمستشفى المجاذيب. . . والأستاذ طه حسين مدرس الآداب في الجامعة لا يمكن أن يعرفه معالي الوزير في هذا الفن الأدبي معرفة ذات نسب بينهما، كمعرفته أستاذ القانون الجنائي مثلاً، أو معرفة التشريح لأستاذ الأمراض العصبية، أو مثل ذلك لمثل ذلك، بل معرفة عامة غير محدودة بصفات مشتركة ولا متميزة بخصائص متشابهة، بل معرفة أوسع وأشمل كمعرفة كل من يقرأ لكل من يكتب؛ فلا ريب عندنا أن معالي الوزير يكون معنا فيما نقرره من وجوب نقد طه وتمحيص آرائه وبيان أغاليطه وفيما نوجهه إلى الجامعة من ذلك، وليس هذا بحكم منصبه فقط، بل بحكم ذكائه وعلمه أيضاً، ثم بحكم إخلاصه لأمانة العلم فوق ذلك كله، لا يمكن غير هذا ولا نصدق غير هذا إلا إذا اعتبرت الجامعة المصرية ملجأ أو في حكم ملجأ للدكتور طه حسين، فذاك شيء آخر، والرجل بحيث ترى إن لم تَعُرَّه الجامعة عَرَّها. والآن يا معالي الوزير الكبير قد تناولك كتاب الأستاذ طه فحصرك في موضع أحكم شدَّ ثلاث من جهاته الأربع بحيث لا رجعة ولا تحول وليس إلا المضى بعزيمة لا تنفع فيها الهوينا وحزم فرغت كل الحيل منه وفرغ منها؛ ذلك أن وزارة المعارف تدرس هذا العلم الذي يسمى آداب اللغة في مدارسها الثانوية ومدرسة دار العلوم والقضاء الشرعي، وقد جاءت المدرسة الكبرى التي تسمى الجامعة فسفه أستاذها كل هذه المدارس ونفى ما يعلَّم فيها من ذلك الفن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وأفسده وقال بخطئه من أصوله إلى فروعه، فما يسمَّى في تلك المدارس شعر امرئ القيس وعَبيد وطرفة وعمرو بن كلثوم وغيرهم تسميه الجامعة كذباً وتدليساً وخرافة، وما يقال له هناك إعجاز القرآن يوصف في الجامعة بأنه خرافات وأكاذيب الأعراب واستغلال ديني أو سياسي وهكذا. . . فوزارة المعارف بين اثنتين لا بد من إحداهما ولا تستطيع كل قوانين الطبيعة أن توجد لهما ثالثة: فإما أن تعلن الوزارة أن هذه الكتب التي تدرس في مدارسها خطأ محض ليست لها ولا لأساتذتها قيمة، ثم تصحح علم طلبتها، ثم تنشر ذلك في كل الصحف ليعلمه من ضلُّوا بهذه الوزارة وبعلومها قديماً وهم لا يُحصون كثرة؛ وإما أن تعلن أن كتاب الجامعة المصرية سخيف وأن أستاذها قد ذل وضل وقل، فأما أن يكون نصف العلم يكذب نصفه في وزارة واحدة بحيث يجيء الأعلى نقضاً على الأسفل فهذا ما لا نكاد نعقله، وهو إذا استمر كان صريحاً في الدلالة على أن وزارة المعارف المصرية ليست لها قيمة ولا ثقة بها ولا بمدارسها ولا أمانة فيها للعلم (1) ؛ ثم نرجو أن لا تنسى الوزارة - إذا صح عندها كتاب طه حسين فأمرت بتصحيح العلم والتاريخ - لا تنسى أن تأمر وزارة الأوقاف يومئذ بإنارة مآذن جامع القلعة.. ليعلم الأزهر الشريف أن ما أقيمت عليه علوم العربية واللغة والبلاغة والتفسير من الشواهد الكثيرة المنسوبة إلى شعراء الجاهلية، وأن القرآن وبلاغته وإعجازه وأخباره، كل ذلك يجب الصوم عنه منذ اليوم، لأن أستاذ الجامعة أثبت لوزارة المعارف أنه رأى "هلال "الشك ". . . الوزارة موسومة الآن في العالم العربي كله بالنقص والخطأ في إحدى جهتيها، ما يرتاب في ذلك أحد؛ ولسنا نكره أن يكون الأستاذ طه حسين نادرة المشرق وفخر العربية، ولكنا نكره أن يكون فضيحة مصر، وأن يجعل الجامعة المصرية معرضاً للسخرية بهذه الدروس التي نقول من ناحيتنا إنها حماقة في الرأي وفساد في الفهم وتعكس في التأويل والاستخراج، ونقول أكثر من ذلك إنها تشبه رجلاً به مسٌّ فزُيِّن له أن يخالف الناس لأن جنونه أوهمه أنهم مجانين وأن العاقل مثله يجب أن يتميز منهم ليُعرف بينهم فلا تجري عليه أوصافهم، ثم رأى أنه لا يُعرف بينهم إلا بالمخالفة حتى يبين منهم فـ. . . فـ. . . فوضع رأسه في حذائه ومشى. . .   (1) عرض كتاب طه على مدرسة دار العلوم لتقر تدرشه لطلبتها فاجتمع مجلس إدارة المدرسة ونظر فيه ثم قرر نبذه وإهماله، وقطع بأنه كتاب لا يجوز تدريسه ولا قيمة له، ووقع هذا القرار وزير المعارف ثم رد الكتاب إلى الجامعة كما رجع حذاء أبي القاسم لأبي القاسم. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ومن بعدُ؛ فالقول في أغاليط أستاذ الجامعة لا ينتهي، ونحن إنما نبحث فيما نبحث عن أصول الخطأ في هذا الأستاذ لا عن فروعه، ونعد من ذلك مثلما يعدون من الشجر فيقولون واحدة وفي الواحدة فروع كثيرة، لأنهم إنما ينظرون إلى الجذع الذي يحمل ذلك ويخرجه، فكذلك أمرنا مع طه حسين؛ لماذا نحن كسرنا الجذع فما نبالي ما عدد فروعه، لأنها مكسورة وإن بقيت في جذعها. لقد عثرنا في كتاب أستاذ الجامعة على نوع غريب من الترجمة، وهو ترجمة من أصول الخطأ في فكر الرجل أو فكره أصل فيه، ولا تحسبنها ترجمة من الفرنسية أو اليونانية، بل هي من العربية، وذلك أشنع لها، فلو أنت تدبرت النصوص التي ينقلها الأستاذ في كتابه ويحملها على أغراضه أو يحمل أغراضه عليها وكنت فطناً باحثاً نقاباً لرأيت هذه النصوص تشكو إليك وتستجير بك مما أصابها من القلة والذلة، فإن طه لا يجد النص أبداً في كتب العربية إلا كلاماً جزلاً بليغاً محكم السرد موثق التركيب قد نُزلت فيه الألفاظ على منازلها وجُلبت لمعانيها وتلاءمت مع أشكالها وخرج منها أسلوب رصين مطبوع كمصنوع أو مصنوع كمطبوع؛ فإذا أصابه في الكتب على هذه الصفة من البلاغة خشي منه على أسلوبه وكتابته، ورأى أن أشد ما يفضح الثوب القذر أن تنزل فيه رقعة نظيفة لها جدة ورونق، فلا يكون له مِن هَمٍّ غير أن يعمد إلى النص فيُمِرَّه لسانه ويديره على أسلوبه ويرصفه كرصفه ويترجمه من عربية إلى عربية غيرها فيختل ويرك، ثم يندمج في عبارة طه فإذا هو لا يَنبُهُ عليها ولا هي تنبه عليه، ثم يكون لـ طه من ذلك فائدتان غير هذه؛ أما واحدة: فإن النص إذا نقل على أصله اختلفت فيه العقول وكانت حَرية أن تتفاوت فيما تدرك منه ففهم كل إنسان بمقدار ذكائه واطلاعه وعلى حسب ما تيسر له وسائله، ولا كذلك النص المختلف عن أصله المزال عن جهته، فإنه لا يؤتي إلا معنى واحداً هو ما سيق له، ثم لا يكاد يدرك أحد حقيقةَ ما وضع النص فيه. ومما اتفق لي من ذلك أني وقفت في بعض الكتب على نص في تكذيب خبر المعلقات وأنها كتبت أو علقت، ووقف عليه صاحب كتاب في آداب اللغة فإذا هو يسوقه في كتابه نصاً على خبر التعليق مع أنه برهان قاطع في خبر النفي، وإذا الخلاف كله في أنه أخطأ قراءة فعل نقله على غير وجهه فانقلب المعنى وانتكس النص. وأما الفائدة الثانية التي يرمي إليها طه فإنه إذا ترجم النص وحذف. . . وحذف منه وغيَّر وبدَّل استطاع أن يجد من ذلك سبيلاً إلى صلة المعنى الذي في الكلام بالغرض الذي في نفسه، وتسهَّل عليه القول الذي كان صعباً، وقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الرأي الذي كان بعيداً. فربما كذب الأستاذ وهو عندك صادق، أو غلط وهو عندك مصيب، أو نحل الناسَ ما لم يقولوه والنص يوهم أنهم قالوه؛ وأي ذلك قد كان فإنما له نتيجة واحدة، هي أن يقهر النص على أداء معنى لا يراد به إلا ما أراد طه؛ وما هذه بأمانة ولا هذا بصدق، فإنه يجب على كل عالم يحتج بكلام غيره أو على كلام غيره أن يورد الكلام بحروفه وإن حَذَف دل على موضع الحذف، وإن غير أو أبدل نبه إلى أنه تصرف وتعمل، وذلك واجب في العلم، ولهو في التاريخ أوجب، إذ الكلمة التاريخية حادثتها أو معناها كالاسم في الناس على مسماه: مهما بدلتَ فلا يجوز تبديله ومهما قلتَ فليس فيه إلا قول واحد إذا أردته لحقيقته. ونريد أن نبين للناس وللجامعة التي يظهر لنا أنها في غفلة مغطاة أن صنيع طه حسين في بتر النصوص وترجمتها طريقة معروفة للطاعنين في الإسلام وعلومه، سبقه إليها ابن الراوندي العالم الزنديق المشهور الذي كان يؤلف الكتب لليهود والنصارى في الطعن على المسلمين ونبيهم - صلى الله عليه وسلم - وقرآنهم وأئمة دينهم وأشياخ الكلام فيهم، إذ كان من شأنه الحكايةُ للنص مبتوراً، قالوا: يُسمِّجه ويوحِشُ الناس منه، ثم ليتأتى له أن يستخرج الرأي الفاسد من كلام يظنه الناس صحيحاً متى عزاه إلى المصححين والثقات. فإياكم ثم إياكم أيها الأدباء وأيها الطلبة أن تصدقوا أستاذ الجامعة فيما يستخرجه من النصوص إلا إذا أورد هذه النصوص بعبارتها وحروفها فإنه أحياناً مريض الذهن، وعسى من يفهم منكم ما لا يفهمه؛ وإه دائماً مريض النية، فهو بذلك جريء جراءة من خولط في ناحية من عقله، لا يوفر إماماً ولا يرضى رأياً ولا يتحرج ولا يقيد نفسه إلا بما يقيده به قانون العقوبات فقط. . . وما دام يأمن (النيابة والقضاء) فما شيء أراد أن يقوله إلا قاله! وهنا معنى يحسن أن لا ندعه وأن نصل به الكلام، فإن أستاذ الجامعة رجلُ شك، ولا يمكن أن يكون رجلاً من غير شك. . . فإن لزمَنا عنده العيبُ والشتعة واتهمنا بالغفلة لأننا نصدق دلالة النصوص ونأخذ بها في التاريخ لزمه عندنا أكثر من ذلك إذا هو احتج أو استخرج منه نتيجة علمية، ولم يكن له شيء من الحجة إلا كان لنا عليه أضعافه، إذ ما يدريك يا أستاذ الشك أن هذا النص الذي تحتج به وتسوقه لما تريد ليس من النصوص المكذوبة أو المشكوك فيها. وكيف تقطع على صحته ولعله أقواها وأضعفها صدقاً؟ وما كنت أنت من أبناء الدهر الأول فتشهد عليه شهادة العدل، ولا الذي رواه أبوك أو أخوك أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 حموك.. فيكون لك إليه سبب من الصهر والقرابة يقوم دليلاً في التعديل والتجريح؛ وكيف يجوز الكذب والوضع على أكثر النصوص التي نحتج بها ولا يكون النص الذي تحتج به أنت مما هذه سبيله. . .؟ أفتراك يا طه في ريب بعد أو تشك في أن مذهب الشك في التاريخ يهدمك قبل أن تهدم به شيئاً، ويظهر الناس على غفلتك وأنت تتوهم أنك ظهرت على غفلاتهم؟ وهل في العلم أحمق من أن تقول إن الكثرة المطلقة في الشعر الجاهلي موضوعة وأنت لا تعرف القلة الصحيحة منه ولا تستطيع تعيينها ولا تعيين بعضها ولا الجزم ببيت واحد منها؟ نحن لا نرجع عن رأينا في أن تقليد بعض المستشرقين هو الذي أفسد طه، فقد صحبهم وأخذ عنهم ثم نزع إلى مذاهبهم وأقاويلهم، لأنه وإياهم سواء أو متقاربون في الركاكة وسقم الفهم والوقوع بالبعد البعيد من أسرار الكلام العربي ومعانيه؛ وقديماً ما أفسد شيخ الرافضة هشام بن الحكم إلا صحبة أبي شاكر الديصاني إمام الديصانية، وكان هذا أبو شاكر رجلاً يظهر الإسلام ويبطن الزندقة كما يظهر بعض المستشرقين الميل إلى العربية وينطوي على هدم الإسلام بهذا الميل، وعلى استعمار أرضه واستعباد أهله. والعجيب أن مذهب الرافضة هو بعينه مذهب هذه الفئة من المستشرقين. فإن أكبر شأنهم جحد الرسالة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - والتكذيب بالقرآن ورد ما أجمعت عليه الأمة، وهذا كله يدور عليه كتاب أستاذ الجامعة إيماء وجَهرة وتعريضاً وتصريحاً. وأعجب ما عجبنا له أن الأستاذ تورط في الهلكة وطعن في القرآن وكذب به واشتمل كتابه من ذلك على ما بيناه في المقال السابق، وهو كان في غنى عن كل ما تكلف منه، وكان في عافية وسعة، لأن شيئاً من ذلك لا يداخل موضع الشعر الجاهلي، ولا هو من أدلته لا بالقرب ولا بالبعد، وما نحسبه أراد به الحشد في كتابه وتكبير حجمه، فإن كتابه مع كل هذه الثرثرة ومع كل ما استعان به من الكلام في الشعراء وتراجمهم ضئيل الحجم قليل الورق في تسعين ونيف من القطع الصغيرة؛ فما بقي إلا أن يكون قد أراد غرضاً علمه الله منه ففضحه به وخذله فيه! ولقد أخذ فكرة الشك في شعر الجاهلية عن المستشرقين أيضاً، فقد كان حدثنا الأستاذ العلامة الكبير صاحب مجلة "المقتطف" فى شهر سبتمبر من السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الماضية أن مجلة الجمعية الأسيوية نشرت بحثاً للشيخ. . . مرجليوث المستشرق الإنجليزي المعروف، أنكر فيه صحة الشعر الجاهلي، ثم ساق لنا الأستاذ بعض أدلته فلم نجد مقنعاً ولا رضا، وقلنا هو رأي في العلم لا عِلم، ثم هو من مستشرق وذلك أوهن له، وما كان لنا أن نأخذ عن القوم في الأدب العربي إلا بتمريض واحتراس. ولما فتحت الجامعة إذا المسشر. . . طه حسين ينتحل الفكرة ويدعيها ويبوب لها أبواباً ويفصل فصولاً ويدرس ذلك فى الجامعة، فباءت هذه الجامعة المسكينة من عمله بالخزي والفضيحة، واستمتع هو بمنزلتها وأموالها؛ والجامعة كما رأيناها مريضة يتحامل بعضها على بعض، حتى لو طنت عليها ذبابةُ انتقاد لفزعت وخافت، أما الشيخ فلو قرضوا جلده بالمقاريض لما أحس شيئاً، كأنَّ الله تعالى خلق نصف دمه من "الكلورفورم " فجلده مبنج في كل وقت. . . ولنرجع إلى ما كنا فيه من النصوص، فانظر كيف يصنع شيخ الجامعة. قال في صفحة 66: "ولابن سلام مذهب في الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع، لا بأس أن نلم به، فهو يرى أن طرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدهم تقدماً، وهو يرى أن الرواة المصححين لم يحفظوا لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر، فهو يقول: إن لم يكن هذان الشاعران قد قالا إلا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقان هذه الشهرة وهذا التقدم. وإذن فقد قالا شعراً كثيراً ولكنه ضاع ولم يبق منه إلا هذا القليل، وشق على الرواة أو على غير الرواة ألا يروى لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا". انتهت الترجمة. . . أما الأصل في اللغة العربية فهو: "ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة والمصححين لطرفة وعبيد. والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وُضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكأنهما من أفواه الرواة، ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير. غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر، وكانا أقدم الفحول؛ فلعل ذلك لذلك، فلما قل كلامهما حُمل عليهما حمل "كثير". انتهى النص، وعارِض أنت بلاغة ببلاغة ولغة بلغة، وقابِل بين ما ذهب إليه طه وما أراد ابن سلام؛ فمهما أخطأ فلن يخطئك أن تعرف الفرقَ بين الثرثرة والقصد، وبين هزيل الكلام وسمينه؛ وبين صحة الفكر وفساده وبين الأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 من الدليل بقيده والاتساع في الدليل على إطلاقه، وما يرى ابن سلام إلا أن كثرة ما ضاع من شعر طرفة وعبيد إنما كان لأنهما أقدم الفحول، فبعد العهد به ومات بموت من علموه من عرب الجاهلية. فهذا نص على بعض أسباب ضياع ما ضاع من الشعر إن كثيراً أو قليلاً، ثم في عبارته نص آخر ينقض كتاب الجامعة كله، وهو إثبات أن لنا "رواة مصححين"، وأنهم صححوا لطرفة وعبيد قصائد بقدر عشر، وأثبتوا أن ما عداها غثاء حُمل عليها حملاً. ويلزم من هذا أنهم درسوا الشعر وجمعوه وحققوا روايته وأثبتوا الصحيح ونصوا عليه وميزوا المنحول وردوه وفصلوا الشعراء وقالوا في كل منهم وعارضوا بين الأقوال ورجحوا واستدلوا واحتجوا وناظروا، فوجب من ثم أن نصير إلى قول أولئك المصححين ونأخذ بعلمهم ونقف عند ما نضوا عليه، لأنهم كانوا أهل هذا العلم ولا أهل له من بعدهم إلا بِصلة تنتهي إليهم؛ وهو ظاهر أن هؤلاء الرواة لم يُثبتوا في كتبهم إلا ما صح عندهم، وأنه ليس على الأرض اليوم من يستطيع بعض ما فعلوه، لأننا بالإضافة إليهم أمة من الأعاجم؛ وبديهي أن ما يكون من وسائل العلم والرواية والنقد بعد مائة سنة من تاريخ الجاهلية لا يكون مثله ولا بعضه ولا بعض من بعضه بعد أربعمائة وألف سنة، وخاصة مع انقطاع الأسانيد وضياع الكتب؛ فأين هذا كله مما يذهب طه إليه وما خرف به في كتابه؟ ويقول شيخ الجامعة في صفحة 67 بعد أن بين أن العصبية كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على وضع الشعر ونسبته إلى الجاهلية، قال: وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلى هذه النتيجة؛ وأريد أن ترى أنهم قد شقوا بها شقاء كثيراً، فابن سلام يحدثنا بأن أهل العلم قادرون على أن يميزوا الشعر الذي ينتحله الرواة (كذا وهو يريد الوضع لا الانتحال) (1) في سهولة، ولكنهم يجدون مشقة وعسراً في تمييز الشعر الذي ينتحله العرب أنفسَهم!. انتهت (الترجمة) أما الأصل المعرَّب العربي فهو: " ثم كانت الرواة بعدُ فزادوا في الأشعار، وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك ولا ما وضع المولَّدون وإنما عَضَل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من وَلَدِ الشعراء أو الرجلُ ليس من ولَدِهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال" اهـ. فانظر إلى الفرق البعيد بين قول ابن سلام: "الرجل من أهل بادية" وبين   (1) يقال: انتحل القصيدة: إذا ادعاها وليست له، ونحلته إياها: نسبتها إليه كذباً. وطه لا يستعمل في كتابه الانتحال إلا خطأ، كرر ذلك في نحو تسعين موضعاً فتأمل واعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قول طه "الذي ينتحله العرب أنفسهم " وتأمل معنى (يشكل بعض الإشكال) ومعنى "يجدون مشقة وعسراً". وكلام ابن سلام صريح قاطع في أن الشعر الذي نسب إلى الجاهلية وأشكل أمره على الرواة قليل جداً، ثم هو لا يشكل إلا "بعض الإشكال" ثم لا يكون كذلك إلا حين يجيء من عربي قح له عرق في الشعر فتعَينه الوراثة أو عربي في حكم ذلك بالقريحة والقوة والطبع، أما الذي زاده الرواة والذي صنعه المولدون فكل ذلك متميز معروف لا إشكال فيه، وهو بعض ما يقوم عليه الرواة، لأنه من مادة علمهم ولا فائدة للرواية إن لم تتحقق به، فقل لي بعيشك أين هذا مما ذهب إليه طه في الحكم بتزوير (الكثرة المطلقة) من الشعر؟ وقال في صفحة 54: قال ابن سلام - كان الله لك يا ابن سلام. . . - وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام. قال: وليس من شك عندي في أنها استكثرت بنوع خاص من هذا الشعر الذي يُهجى فيه الأنصار. وترجم هذا النص في صفحة 66 ترجمة أخرى فقال عن ابن سلام: (وهو يحدثنا باكثر من هذا: يحدثنا أن قريشاً كانت أقل العرب شعراً في الجاهلية. فاضطرها ذلك - تأمل - إلى أن تكون أكثر العرب انتحالاً للشعر في الإسلام) . أما ترى؟ أما تعي؟ أما تعجب؟ هل كان في النص الأول أن قريشاً كانت (أقل العرب) شعراً في الجاهلية فاضطرها ذلك اضطراراً لأن تكون (أكثر العرب) انتحالاً؟ على أن كتاب ابن سلام مطبوع، ولم نعثر فيه على أصل النص، وإنما الذي رأيناه من كلامه في الكتاب كله أنه علل قلة شعر قريش في الجاهلية بأنهم لم يحاربوا ولم تكن بينهم نائرة، وإنما تكثر الأشعار في الحروب والوقائع. وقال في موضع آخر: وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان. ففي كلام أستاذ الجامعة كذب وسرقة: فأما الكذب فنسبته إلى ابن سلام أنه قال إن قريشاً "أكثر العرب انتحالاً للشعر في الإسلام" وأما السرقة فقوله: "وليس من شك عندي" في أنها استكثرت بنوع خاص. . . من هذا الشعر الذي يهجى فيه الأنصار فذلك من عند ابن سلام لا من عند طه حسين، ويبقى أن تعرف أن - ابن سلام الزيادة كلها من هذا النوع أما أستاذ - الجامعة فجعلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 من أنواع كثيرة وهذا النوع هو " الخاص" منها؛ فكيف ترى الصنيع وكيف تسميه؟ والغريب أن هذا الأستاذ الذي يحاول ما لم تحاوله أمة كاملة من العلماء والرواة وأهل الأدب، لا مرجع له في اللغة العربية في علمه ونُقوله إلا كتابان: أحدهما الأغاني والآخر طبقات ابن سلام (1) أفبكتابين يصبح في رأي الجامعة شيخ المتقدمين والمتأخرين ويمحو ويثبت - كلما شاء كما يشاء لا كما تشاء الأشياء حينما تشاء الأشياء. . . -؟ وسنتم القول في هذا المعنى وفي عقم استنتاج شيخ الجامعة وفساد آرائه التي يقهر النصوصَ عليها في فصل آخر إن شاء الله. (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) .   (1) أما سرقاته من كتب المستشرقين فلا نعرفها نحن، وقد فضحها بعضهم وهي كثيرة، وكثرتها خزي وهي في نفسها خزي آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 طه حسين ابن الجامعة البكر. . .! " روى المقطم أن الأستاذ الجليل مدير الجامعة حشد فيها لحفلةْ رياضية جمعت الرؤساء والأساتذة والطلبة؛ وأنه خطب في الجميع فنصح للطلبة بالجد والمثابرة. قال: "وخطب حضرة الأستاذ الدكتور طه - حسين خطبة ممتعة ناقش فيها برفق وأدب. . .! نصيحة صاحب السعادة "مدير الجامعة". ثم كان ختام الحفلة كلمة لسعادة المدير ذكر فيها جلالة الملك المفدى أبا الفاروق الأعظم نصر الله بحوله وقوته أعلامه، ونضر بفضله وكرمه أيامه، وألقى من طالع يمنه السعيد على وجه الحياة المصرية أجملَ ابتسامة. قال المقطم: ثم ناقش خطبة الدكتور طه قائلاً: إنه الابن البكر للجامعة المصرية! ثم قال: يا بني الاعتدال. . . الاعتدالَ ". اهـ. فأما اندفاع طه للرد على مدير الجامعة في حفلة رسمية أقيمت للألعاب الرياضية على حين لم يزد المدير فيها على نصح الطلبة بالجد والمثابرة، فهذا هو الأصل في طه وذلك طبعه وخُلقه، بُني على المجاذبة والمماراة، فما من كلمة إلا ولها عنده بنت عمة أو بنت خالة. . . ولو أن الخطبة في هذه الحفلة كانت في تعليم المشي على الحبل. . . لردَّ طه بنوع من الرد ولجأ بنبذ من الاعتراض، فإن العبرة عنده بما يهجس في خاطره لا بما هو الحق ولا الواقع ولا مقتضى الحال، وتلك طريقته في العلم وهي آفة من آفاته وأصل من أصول الخطأ فيه، ومثل هذا لا تزال الشبهة قائمة على لسانه، ولا يزال مُعِدًّا لكل قول قولاً، فما يسمع شيئاً إلا خُيل له شيء آخر، ولا يفكر في أمر إلا لبس عليه أمر غيره، ولا تفاتحه رأياً فيرضاه إلا إذا أراد لأمر أن يرضاه، ولا تجادله فيقتنع إلا إذا شاء لغرض أن يقتنع؛ لأن الأصل في تركيبه المراء، والحدة، واللجاجة، وطغيان القول وهي أربع مظاهرها فيه الشك والاضطراب والقلق وفساد النية، ونتائجها الإنكار والخلط والسفه والعناد، وكل ذلك يجمع طه حسين، وأما أنه ناقش مدير الجامعة (برفْق وأدب) فهذا هو الغريب عن طبعه، والنص هنا على الرفق والأدب يُفهم شيئاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ولا يمكن أن يقع المقطم في هذه الهفوة البيانية الدقيقة، فهو أستاذ هذا الباب من البلاغة، وإنما كتبت العبارة في الجامعة، كتبها طه أو ذَنَبه أو رأسه. . . وأتى المقطم بها فنشرها - - نريد أن نستجيز لهذا القلم مناقشة الأستاذ الجليل لطفي بك السيد مدير الجامعة، وهو عقل من العقول النادرة في مصر بل في الشرق كله، يكاد يكون مُلهماً محدثاً إذا كتب أو قرأ أو فكر، وهو كذلك شعاع ساطع من تلك المرآة العلوية التي ترسل على آفاق الدنيا نور الذكاء والنبوغ والفلسفة، وقد كنا نحسبه أول من يستجيب لرأينا في وجوب نقد طه وتمييز خطئه من صوابه ورد الرأي عليه فيما لم يصح، فإنه يجب أن تكون الجامعة موضع الثقة في علمها، ويجب أن تعرف الأستاذ بعلمه لا العلم بأستاذه، فإن أظهرها إنسان على غلطة أو نبهها إلى زلة بحثت وحققت وسألت أهل الذكر وأهل الفكر ورجعت إلى كل ذي فطنة، ثم أعلنت ما تنتهي إليه من خطأ أو صواب بحججه وأدلته ولم تصرَّ ولم تستكبر ذهاباً بنفسها أو ممالأة لأستاذها أو تغطية لعيبها؛ لأنه إذا كان طه حسين ابن الجامعة البكر فالأدب العربي ليس ابنها الثاني ولا الثالث. . . وإذا كان طه ابن الجامعة البكرْ فماذا؟ أيترك لطيشه ولهوه وعبثه، ويخلى لشكِّه وحيرته واضطرابه ويدلل حتى على العلم ويضحك له - حتى من أغاليطه، ويُكافأ حتى على ما يجنيه إذا كان ما يجنيه متصلاً بحنان أهله ونازِعتهم أكثر مما هو متصل بأسباب الجناية ونتائجها؟ لعمري إذا كان هذا كله لابن الجامعةِ البكر وكان - اسم الله عليه. . . - يجعله من عذره في - نتف لحية أبيه وعمه وخاله ويعتده من أسباب الرضا عنه إذا وقع في قبيح أو دخل في كبيرة - إذا كان هذا لابن الجامعة البكر فما بقي على الجامعة إلا أن تضع له بجانب منبر التدريس حصاناً من الخشب. . . ليلهو على هذا وعلى هذا، فمن المنبر إلى الحصان ومن الحصان إلى المنبر. . . ولا تلُم الصبيان فيه على الرقص!. ثم إن الأستاذ الكبير يقول لـ طه. يا بني الاعتدال. . . الاعتدال: كلا يا سيدي الأستاذ، لا محل للاعتدال، ولا نقبل منك هذه الكلمة ولا يقبلها طه، أما هو فإنه يقول بوضع علم المتقدمين كله موضع الشك. فأين يعتدل وفيم وكيف؟ وأما نحن فإننا نريد منك أن تقول له: يا بني التوبة التوبة! فقف خرج في درسه على دين الأمة وكذب القرآن ونسب إليه الخرافات وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً سياسياً يحتال الحيل ولا يؤمن فيما بلَّغ عن ربه، ثم جاء في تاريخ الأدب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 بأقبح الجهل ودل من نفسه على عجز وضعف وسوء فهم ونية مدخولة وذهن مريض؛ فأين تريده أن يعتدل من ذلك كله؛ على أننا في هذا الكلامِ إنما نأخذ بظاهر الرأي، أما في الحقيقة فنحن نعرف من بلاغة مدير الجامعة وغوره البعيد في أنه بكلامه أراد النصيحة لـ طه كما نصح الطلبة، جعله بذلك لا يزال في حكم الطالب وإن كان أستاذاً وأنزله هذه المنزلة على أعين الملأ، ثم إنه كأنه يقول له: "يا بني إنك مائل فاعتدل، ومعوج فاستقم؛ ومجازف فتبصر، وحديد الطبع فاستأنِ وكثير الخطأ فتعقل! يا بني إنك مصغر مستصغر لا تستكفي بنفسك ولا تستقل بأمرك فاسمع وأطع ". (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) فكيف بمثقال ستين كيلو جراماً من إلحاد وخطأ هي في جلد ولحم ودم؟ ولقد فهمنا كلاماً كثيراً من كلمتي الأستاذ البليغ الدقيق، ولكن يجب أن يفهم طه وأمثاله، فقد ذهب بعضهم إلى أن مدير الجامعة يرد علينا بهذه الكلمة. كأنه يبلغنا أن طه مغفور له معفو عنه إذا قلب الأثاث أو كسر الصحون وأن خطأه طَلق، وأشد ما تعاقبه الجامعة به أن تقول له الاعتدال الاعتدال! لأنه ابن الجامعة البكر! أي غزالها. . . (1) هكذا قال لنا بعض الأدباء وهكذا فهم. ولكنا على يقين من الأستاذ مدير بربخ الجامعة، وسيرى الناس أنه مرجع طه إلى ما هو أليق به وأولى بسمعة الجامعة. . . إن الذي يُخشى من طه أمران: أولهما أنه يقلد المعرِّي ويحتذيه ويسير على أعقابه إما إلى الجنة وإما إلى النار، وقد صرح هو بهذا التقليد في على أعقابه إما إلى الجنة وإما إلى النار، وقد صرح هو بهذا التقليد في مدينة بيروت في خطبة له، وقال إن للمعري الفضل عليه في إظهاره كما هو. فيريد الرجل أن قي يهدم كما هدم ذاك. وليس له رواية المعرِّي ولا حفظه ولا شعره ولا فلسفته   (1) في أمثال العامة قولهم "القرد في عين أمه غزال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ولا غيرها مما يصرفه إلى الكناية والإشارة والغميزة ويجعل بعض شره في بعض خيره ويفسح له من أبواب البلاغة في باب التوجيه والتعاليل فلم يبق إلا الخلط والخبط والحماقة والدعوة الفارغة ومحض التشبه وما يجري هذا المجرى. وما علم هذا المقلد مع الفارق أن أكثر إلحاد المعري إلحاد شعري تجيء به القافية ويحمل عليه التخيل، فهو من بعض الوجوه في باب الشعر كالقول في الخمر والغزل والمجون والسفه وما يتصل بها؛ فلما فقدنا هذا من طه لم نر إلا الحثالة والقشر، فهو المعري الذي بقي من المعري في مُنخل الأدب! وهذا التصريح منه بالتقليد والاحتذاء يُسقط الثقة به وبما يدعي من حرية الفكر، لأن الحرية لا تأتي بتقليد الأحرار، ولكن بالاشتمال على وسائلهم وأسبابهم ومواهبهم، وأما بغير ذلك فلا حرية وإنما هناك غرض من التقليد يقلد الحرية حتى في اسمها، وكل أعمال المقلد تُحمل منه على هذا الغرض الدنيء لا على ذلك المبدأ السامي. والأمر الثاني الذي نخشاه من طه أنه أداة أوروبية استعمارية تعمل في إفساد أخلاق الأمة وحل عروتها الوثقى من دينها في أدبه ولغته وكتابه وتحقير كل من يتسم بشيء من ذلك عالماً أو متعلماً أو متورِّعاً، فهو دائب في إزالة ما وقر في نفوس المسلمين من تعظيم نبيهم وكتابهم وإيثار دينهم وفضيلتهم وإجلال علمائهم وسلفهم، مرة بالتكذيب، ومرة بالتهكم ومرة بالزراية، ومرة بإفساد التاريخ، ومرة بنقل الأخلاق الفاحشة المتعهرة من مدينة الفرنسيين، وهلم جرا! حتى كأنه شيطان عاقبه الله فطمره في جلد إنسان، وتالله لو تم لهذا وأمثاله ما أرادوا فاجترأ الناس على دينهم وكتابهم وعلمائهم، وسخروا من تاريخهم وتقطع ما بينهم وبين أسلافهم، وخاطروا بما في أيديهم من دين وعلم وتاريخ وفضيلة على ما تسميه صناعة الكتابة مدنية وفناً وفلسفة - إذن تكون أوروبا قد بلغت منا بمدافعها وجنودها وحيلها ودهاتها بعض ما بلغت بهذه الأدوات الإنسانية التي تسمى طه حسين وفلاناً وفلاناً. . . أما إن هذه فئة من الناس، ولكنها كذلك فئة من المذاهب، والمصيبة أنهم ما فيهم من فيلسوف ولا عالم ولا أديب ولا من يستطيع أن يقول هذه فلسفتي وهذا علمي وهذا أدبي، بل كلهم عيال على أدب أوروبا وعلمها وفلسفتها وكلهم مقلد وكلهم سارق وناقل؛ فإذا كانوا على هذه الصفة ثم رأيناهم قد زاغت عقائدهم وفسدت طباعهم وانتقلت أهواؤهم أفيكونون بيننا إلا من وسائل التدمير والخراب والاستعمار، شعروا أو لم يشعروا وأرادا أو لم يريدوا؛ وماذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 يجدي علينا صياحهم العلمي أو السياسي أو الأدبي وهم إنما يحترفون هذا الصياح ويؤجرون عليه ويعيشون منه، كالرجل من أهل الغناء والموسيقى ربما كان في نفسه مثالُ البؤس والهم والحزن ويستأجره الناس ليغني. . . إن لشيطان طه سبلاً كثيرة فهو يتراءى لنا في معان مختلفة تذهب بنا أحياناً بعيداً عن كتابه. ولكن هذا أيضاً من شؤم كتابه، إذ يرجع هذا الكتاب إلى أسباب في طباع مؤلفه قائمة على النكر والمراء والزيغ أكثر مما هو راجع إلى أشباب في التأليف قائمة على البحث والرأي والتحقيق. فلنعد إلى ما نحن بصدده من القول في فساد رأيه وسوء استخراجه وأنه ليس معه إلا الانتحال على غير توفيق، والخنط على غير هدى والجرأة على غير تحقيق ولا استبصار. لقد توارد أستاذ الجامعة مع الإمام الجاحظ في استخراج واحد من مسألة واحدة، وكلاهما شك فيها، ونريد أن نعرض ذلك على الجامعة لنعلم صحة قولنا إن العالم يأتي بالرأي من مجموع أخلاقه وطباعه أكثر مما يأخذه من صفاته العقلية، وأنه لو كان طه حسين أذكى الأدباء في الرأي والعقل، وأجمعهم في المادة والحفظ، وأبلغهم في المنطق والأسلوب، ثم كان على بعض فساده وزيغه - لوجب تنحيته عن التدريس الأدبي وحماية النشء منه؛ لأن تعليمه ينقل إلى هؤلاء الأطهار الأغفال علمه وأهواءه جميعاً فلا يقوم ما فيها من طيب بما فيها من خبيث. قال طه في صفحة 152: "وهناك لون من ألوان القصص كان الناس يتحدثون به ويميلون إليه ميلاً شديداً ويروون فيه الأكاذيب والأعاجيب وهو أخبار المعمَّرين الذين مُدت لهم الحياة إلى أبعد مما ألف الناس، رويت حول هؤلاء المعمَّرين أخبار وأشعار قبِلها العلماء الثقاتُ في القرن الثالث للهجر ة " انتهى. وقال الجاحظ: "وقد ذكرت الرواة في المعمرين أشعاراً وصنعت في ذلك أخباراً، ولم نجد على ذلك شهادة قاطعة ولا دلالة قائمة ولا نقدر على ردها لجواز معناها، ولا على تثبيتها إذ لم يكن معها دليل يثبتها". فأنت ترى من الفرق بين الجاحظ وطه أن هذا يبالغ ويهوِّل ويتعمد الكذب فيزعم أن الناس كانوا يتحدثون بذلك النوع من الكذب ويميلون إليه ميلاً شديداً، كأنه كان شاهدَ أمرهم ورأى الناس يتحدثون ويميلون. ثم يوهمك أن العلماء الثقات فى القرن الثالث قبلوا تلك الأخبار والأشعار وما كان الجاحظ إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 في القرن الثالث، ثم ينفي طه كل ما قيل من ذلك كأنه على ثقة من أن العرب لم يعمَّر منهم أحد، مع أن في زماننا هذا من ارتفعت به السن إلى قرن ونصف، فلو كان هذا شاعراً فماذا يمنعه أن يقول في هرمه وامتدادِ العمر به. وثقل الحياة عليه وتبرمه بها ما قال أولئك أو شبيهاً بما قالوا؟ ومن غفلة أستاذ الجامعة وهي من الأدلة الكثيرة على سوء فهمه وتعلقه بأول خاطر وأنه لا يتبين أسباب المعاني ولا يحققها - أنه يقيسى على ظاهر الرأي كيفما وقع له؛ فلا يذكر أن العرب قوم لا حساب عندهم ولا يؤرخون إلا الحوادث الكبر، فإذا عُمر شيخ منهم وبلغ خمسين ومائة سنة مثلاً - وهو عمر طبيعي - حسبها ثلاثمائة أو تزيد، وخاصة إذا خَرِف وأسرف وبَعدَ ما بين فكره ولسانه أو أراد التهويل على عصره وقبيلته؛ وكيف يعرف مثلُ هذا حقيقة سنة وما يعد ولا يكتب ولا يحسُب ولا عنده من يدون له، ولا في قبيلته من يحفظ من التاريخ أو يردُّ منه شيئاً إلى أصل بعيد.. فالرواة إنما نقلوا من هذا ونحوه وما انتهى إليهم فإن كان فيه الكذب ففيه الصدق، وإن كان فيه الموضوع ففيه الصحيح؛ وما كانت المبالغة سبباً من أسباب العدم، بل هي بعض أسباب الوجود، ولا بد في المنحول من أصل يقاس عليه وصحيح يبالغ فيه، وهذا كله فهمه الجاحظ، فهو لا يرد ما ورد من ذلك، لأن معناه غير بعيد ولا مستحيل. ولا يثبته بعينه لأنه ليس معه دليل قاطع. ولو كان الجاحظ ضعيف الفهم قليل الاطلاع بعيداً من آداب العلماء لوافق في الرأي أستاذ الجامعة وتحامق وكذب وسب الرواة وتهزأ بهم كما فعل هذا. ومن العجائب أن طه يتوارد أيضاً في طريقة الاستنتاج مع الرافضة ويطابقها مطابقة النعل للنعل؛ ولا تستبعدن ذلك ما دام كِلا الفريقين أسقط الإيمان من حسابه "وتجرد من دينه" عند البحث والرأي؛ وكأن شيخ الجامعة يقيس على نفسه فلا يصدق أنه كان في الأمة الإسلامية قوم يؤثرون الله ورسوله على كل وساوس النفس وأهوائها، وليس عنده إلا العصبية والميل مع طبع الجاهلية حتى في إمام أهل الحق عمر بن الخطاب، وقال الشيخ في صفحة 53 وقد ذكر الرواةُ أن عمر مر ذات يوم فإذا حسان في نفر من المسلمين يُنشدهم شعراً في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بأذنه وقال: أرُغاء كرغاء البعير، قال حسان: إليك عني يا عمر! فوالله لقد كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك! فيرخي عنه عمر ويمضي.. قال: وفقهُ هذه الرواية يسير لمن يلاحظ ما قدْمنا من أن الأنصار كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 موتورين وأن عصبيتهم كانت لا تطمئن إلى انصراف الأمر عنهم فكانوا يتعززون بنصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتصافهم من قريش. . . وكان عمر قرشياً تكره عصبيته أن تزدَرَى قريش، وينكر - كذا كذا - ما أصابها من هزيمة - يعني في غزوة بدر - انتهى. ولكن من أين لأستاذ الجامعة أن حساناً كان ينشد يومئذ في هجاء قريش في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعزي الأنصار وينوح لهم كالنائحة المستأجرة حتى ثارت لذلك عصبية عمر ورجع وهو أمير المؤمنين إلى طبع الجاهلية! ومن أين له أن عمر كان ينكر ما أصاب قريشاً من الهزيمة في غزوة بدر أو فتح مكة! وهل كان عمر كـ طه حسين يشك في التاريخ ويكذبه مع أن سيفه كان من تلك السيوف التي هزمت قريشاً؟ ثم كيف يجوز لأستاذ الجامعة أن يكذب ويغير النص فيقول: "فيتركه عمر ويمضي، وكل الروايات في الكتب متفقة على أنه قال لحسان: صدقت أو صدقه. ولكن إذا قال عمر صدقت كان ذلك نصاً على أنه لم ينكر ما أنكر، لا حمية ولا عصبية لأن العصبية تأبى عليه أن يصدق، بل يكظم على غيظه (ويتركه ويمضي) فانظروا أيها الناس ما يصنع الخبيث لرمي الرجل الذي أعز الله به الإسلام واتهام إيمانه وصدقه مع ورود الحديث الشريف " ليس منا من دعا إلى عصبية" وقد رأيت كم تكرر لفظ العصبية في كلامه ثم إن قول عمر لحسان: صدقت، يدل من جهة أخرى على أنه لم ينكر عليه إلا هيئة الإنشاد. كان ينشد الشاعر العربي فينتفخ ويربو في ثيابه ويتكلف التفخيم والتشذق وإدارة اللسان وتقليبه ويهدر كما يهدر البعير حين يستفحل ويرغو وكل ذلك في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك حيث يقول عمر أرغاء كرغاء البعير؟ على أن الأستاذ المخلط الذي يرمي عمر بالعصبية قال في الصفحة نفسها: تحدثت الرواة "وهنا ترجم نصاً فلننقله عن ابن سلام"، قال: قدم ضرار بن الخطاب الفهري وعبد الله بن الزبَعرى المدينة أيام عمر بن الخطاب فأتيا أبا أحمد بن جحش. . . فقالا له: أتيناك لترسل إلى حسان فنناشده ونذاكره، فإنه كان في الإسلام ويقول في الكفر - أي الجاهلية - فأرسل إليه فجاء، فقال: يا أبا الوليد، أخواك تطربا إليك يذاكرانك وينشدانك. قال: نعم، فأنشداه - أي مما قالا في الأنصار - حتى إذا صار كالمرجل يفور قعدا على رواحلهما إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 مكة، فخرج حسان حتى أتى عمر فأخبره خبرهما، فقال: لا جرم والله لا يفوتانك! فإرسل في أثرهما فردا، وقال لحسان: أنشد؛ فأنشد حسان حاجته حتى قال له: اكتفيت؟ قال: نعم! قال: شأنكما الآن إن شئتما فارحلا وإن شئتما فأقيما. انتهى. ترك الأستاذ هذا النص الواضح الجلي ونقل رواية الأغاني وفيها زيادة وصنعة ولها توطئة وخاتمة، إذ جاءت بعد رواية ابن سلام بنحو مائة سنة واستخرج منها أن الأنصار كانوا يكتبون هجاءهم لقريش! ولكن يا أستاذ؛ كيف غفلتَ هذه الغفلة المطبقة بين صفحتين اثنتين.. وأين ما قلت في عصبية عمر؟ وكيف مالأ حساناً على أكبر شعراء قريش وتركهُ يُنشد في هجاء قومه مما قاله في الجاهلية حتى اكتفى؛ أليس هذا هو العدلَ والقصاص: إنشاداً بإنشاد وكلاماً بكلام وإن في قريش؟ على أن ما قاله طه في عصبية عمر هو كاستنتاج الرافضة وعلى طريقهم في الرأي والفكر؛ إذ يقولون إن الصحابة بايعوا أبا بكر وتركوا علياً، لا طاعة ولا رغبة بل عصبية منهم على عليٍّ، ورجوعاً إلى طباع الجاهلية؛ إذ كان علي قتل من عشائرهم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتل في الغزوات والفتوح؛ فليس يمحو الإسلام عندهم شيئاً، ولا يكون المؤمن إلا على أصله التاريخي وطبيعة الجاهلية، ويسقطون ما عدا ذلك من مظاهر النفس الإنسانية التي من أعظمها في الإسلام ذلك اليقين الديني وكان عجيبةَ العجائب وأنزل فيه الله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) . وليت طه يفهم معنى قوله؛ (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) ولكن قلبه هو لوح ممسوح، ونعوذ بالله من خذلانه. ومتى تجرد الباحث في التاريخ الإسلامي "من دينه" فهو شيء واحد إن كان من الرافضة أو كان أستاذاً في الجامعة، لأن هذا التاريخ إنما يقوم في أصله على معان لا يعقلها ولا يصدق بها من يجرد نفسه منها، وكيف يعقل الجبان المنخوب القلب أفعال بطل من أبطال الدنيا الذين شذت فيهم طبيعة القوة والجرأة فيقال في أحدهم إنه يحمل مائة قنطار وأنه يقطع سلاسل من الحديد بيديه وأنه يصلب رجلاً كطه حسين في خنصره. . .؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ْإن التاريخ الإسلامي إذ حُمل على غير طريقته وتولاه غيرُ أهله لم يأت منه إلا ما هو دخيل فيه، وتقل الرويةُ ويكثر التكذيب ويخصل الخطأ ويقع الخلل، لأن الأشياء بما كانت عليه لا بما تتوهم أنت أنها كانت عليه وذلك هو السر في خلط المستشرقين والمسيحيين والديكارتيين من أمثال طه حسين إذا هم تعاطوا الكلام في تاريخ الصدر الأول أو ما يتصلى به نوعاً من الاتصال في الأدب أو الشعر أو نحوهما. وإذا كتبت الشياطين تاريخ الملائكة واتبعت مذهب ديكارت. . . فتجردت من قوميتها ودينها فهل تراها تُسلب طبيعتها وخُبثها. وهل يدخل عليها الخطأ إلا من ناحية هذه الطبيعة في تركيبها على غرائز وأوصاف لا تتحول؟ وانظر حمق العصبية في قول طه صفحة 55: "وأنت لا تنكر أن يزيد هو صاحب وقعة الحرّة التي انتهكت فيها حرمات الأنصار في المدينة والتي انتقمت فيها قريش من الذين انتصروا عليها في بدر "لا حول ولا قوة إلا بالله " والتي لم تقم للأنصار بعدها قائمة، ولأمر ما يقول الرواة حين يقضون وقعة الحرة إنه قتل فيها ثمانون من الذين شهدوا بدراً " أي من الذين أذلوا قريشاً". يا هذا، ألك ثأر على الأنصار أم كان أبوك من قريش، وأنا أعلم أن أباك وأسرتك يتبرأون إلى الله منك ويخشون أن يقال في الآخرة يوم العرض: هؤلاء أهل طه حسين! هَبِ الإسلام ليس شيئاً ولم يُحدث أثراً ما في نفوس المسلمين إلى زمن يزيد؛ وهب وقعة الحرّة نقمة من غزوة بدر التي لم يغزُها الأنصار إلا بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هب ذلك معقولاً في رأي رجل مسلم، فيبقى أن الرواة والمؤرخين لا يقولون تلك الكلمة وهم يريدون التفسير الذي جئت به إلا إذا كانوا هم أيضاً متعصبين على - الأنصار، وكان إسلام الأنصار عندهم غير إسلام قريش، وكانوا مع ذلك أهل جبن ونفاق يخشون الأنصار بعد إذلالهم وبعد أن لم تقم لهم قائمة؛ فيعبرون بكلمة مبهمة لا يفتحُ الله بتفسيرها على أحد إلا بعد 1255 سنة وعلى طه حسين وحده. . . ألا تفهم شيئاً، وكيف صرت أستاذاً في الجامعة وأنت بهذه الغباوة إنما يريد الرواة أن وقعة الحرة كانت شديدة النكاية في الإسلام قبيحة الأثر فيه. وكانت مع ذلك عدواناً صرفاً وجهلاً محضاً حتى قاتل فيها أهل بدر وقتل منهم ثمانون، وأهل بدر بنص الحديث الصحيح أفضل المسلمين، وهم نجوم الأفق النبوي بعد أن غاب كَره الأزهر. وما كل ما مر بك أيها القارئ بأشنع من قول طه فى صفحة 72: "ونوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 آخر من تأثير الدين في انتحال - كذا - الشعر وإضافته للجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ناحية أسرته ونسبه في قريش؛ فلأمر ما اقتنع الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قُصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مُضر، ومضر صفوة عدنان؛ وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها" انتهى. فما هذا الأمر يا شيخ الجامعة؟ ثم ما هذا التهكم؟ وهل تتهكم أيها الأحمق المغرور إلا بالحديث الصحيح: "إن الله تعالى: اصطفبى كِنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش. بني هاشم. واصطفاني من بني هاشم " ألا قبحك الله من شيخ سوء! وسيحيق بك ما كنت تستهزئ؛ ومن عساك تظن أنك تبلغ ضُرَّه بهذه الحماقة فتضره؟ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 عصبية طه حسين على الإسلام قيلت لي عبارة لم أصدقها ولا أزال في ريب منها، وأرجو أن تكون حديثاً مفترى وكذباً صُراحاً، وأن يكون الشيخ طه بريئاً منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، إن الدم ليس غريباً من الذئب. وليس الذئب إلا طبيباً دموياً، ولكن ابن يعقوب له دم غير دماء الناس، وقد كان لا بد لهذا الدم الزكي أن ينشأ به ذلك الفكر النبوي المفهَم فيستنقذ مصرَ وأهلها من المجاعة والقحط. فلو أن الذئب ولغَ فيه لقتل به أمة كاملة، وبهذا كانت براءة الوحش من ذلك الدم كأنها فضيلة نقلته من طبع الذئاب إلى طباع أهل النْسُك من عباد الله المقرَّبين وجعلت تهمته مثلاً مضروباً في الظلم دائراً في الأفواه باقياً في ميراث بني آدم من الحكمة والبلاغة، وعاد الذئب - وإنه لذئب بعد - كأنما استُشهد وكأنما وقعت عليه التهمة فقتله في سبيل الله فأصبح قديساً اخضرت أظفاره من ريح الجنة فأنبتت ورق الريحان وانقلب ما كان سَفكه من الدم فنبت منه الورد، وبدا الذئب القديس في التاريخ كأنه طاقة زهر فيها الأخضر والأحمر، وفيها أوراق الياسمين البيضاء من أنيابه وأضراسه. . . وطه حسين إن لم يكن ذئباً، ولكنا نرجو أن يرحمه الله ببراءته من تهمة كتهمة الذئب تعدو على النبوة وتمزق بأظفارها أديم الإسلام، وقد علمنا إن كان لبريئاً منها، ولكن يقال والله أعلم إن المبشرين وجدوا في كتاب "الشعر الجاهلي " ما كانوا يحومون حوله فلا يصلون إليه (1) وما قضوا في البحث عنه ستين سنة تحت شمس المشرق يلتمسون بعضه في كلام عالم من العلماء المسلمين أو رجل ذي منصب فيهم أو أديب له شهرة ومكانة، فأصابوه اليوم في   (1) بعد نشر هذه المقالة بشهرين جاء في مجلة "الفتح " الإسلامية التي يحررها بعض علماء الأزهر الشريف ما يأتي: ليقل لنا طه حسين كم يتقاضى من رجال التبشير. أو بعبارة أدق من رجال الدول الغربية من أجر على دعايته تلك لهم وعمله لصالحهم وجهاده من أجلهم هذا الجهاد الطويل العنيف الذي لا يرهب فيه أمة بأسرها. . . إن ذلك الأجر لا بد أن يكون عظيماً جدًّا كما يتحدث به الناس في أنديتهم الخ الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 دروس أكبر جامعة في أكبر مملكة إسلامية، وأصابوه من أستاذ كبير مصرّ عليه معاند فيه تؤيده الجامعة وتحميه وتدفع من ورائه وتنصره، وإن خَذَلت فيه الأمة كلها، وإن سفهت كل أهل العلم وأهل الأدب، وإن أهانت دين الأمة والحكومة تأييداً - زعموا - لحرية الفكر، لا يبالون أكان هو الفكر الناضج الصحيح أم الفكر العاجز المستهلك الذي يشبه أفكار الصبيان في إقامة ما يبنونه على شاطئ البحر من قصورهم الشاهقة في أملاكهم الواسعة، أو أفكار البنات تبني ما يلدن من الدُّمى والعرائس، أو أفكار طه حسين فيما زعم في القرآن والنبوة. لقد ضاعت الثقة بهذه الجامعة فكأنها لا تفهم أن كلام طه ليس برهاناً واحداً عند المبشرين. ولكنه برهان عليه براهين، فهو في نفسه دليل ونسبته إلى الجامعة دليل، ومجيئه من بلاد الأزهر تقوية للدليلين معاً، وإصرار الجامعة عليه خاتمة للأدلة؛ ألا ليت شعري ما تملك الجامعة أن تصنع إذا ترجم المبشرون خلاصة هذا الكتاب وشرحوه وبسطوه ونقلوه إلى الإنجليزية والفرنسية والسنسكريتية والصينية واليابانية وغيرها، وطبعوا منه الملايين - ولهم المطابع الكبيرة، ولديهم الأموال الطائلة المحبوسة على محاربة الإسلام، وفي أيديهم الدعوة العريضة - وأذاعوا في أقطار الأرض أن الجامعة المصرية الإسلامية لحكومة مصر قررت في دروسها أن القرآن وضع إنساني فيه الخرافة وفيه الكذب، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل سياسي فلا نبوة ولا رسالة (1) ، وأن أئمة المسلمين يكذبون في تأويل تاريخهم ويؤيدون هذا التاريخ بقول الزور والانتحال. ويستشهدون لقرآنهم وحديث نبيهم - وهما أصلا الدين كله - بشعر لفقوه تلفيقاً ونسبوه إلى أشخاص خلقوهم خلقاً. وأن هذا الكذب مرتفع ممتد يرتقى في عصورهم وأجيالهم إلى زمن الخلفاء الراشدين، وأن ورود الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يؤثر من كلام أصحابه عن شيء اسمه امرؤ القيس وغير امرئ القيس لا يوثق به، إذ لم يكن من هذا شيء؛ فالأحاديث الصحيحة كذب، وأسانيدها التي حققها العلماء وحفظوها وتناقلوها وأجاز بها بعضهم بعضاً زمناً بعد زمن إنما هو تواضع على الكذب من هذه الأمة. وحسبكم بأمة يمضي عليها زهاء أربعة عشر قرناً ويكون عديدها ثلاثمائة مليون وتنبث في أقطار الأرض كلها ثم لا ينبغ فيها رجل يعرف الصحيح ويفطن   (1) أسرعت الجامعة بعد هذه المقالة فجمعت نسخ كتاب طه ومنعت بيعه لكنها اشترتها منه شراء. فجعلت لعلمه ثمناً ثم لما ظهر لها أنه جهل دفعت فيه ثمناً آخر. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 له ويستعلن به للناس ويقرره ويعلمه إلا رجلا واحدا هو العلامة حجة المبشرين.. الدكتور طه حسين!.. " ما عسي أن تفعل الجامعة المصرية في هذا البلاء الداهم وهذه الفتنة الآكلة، وكيف لها بسد الثْلمَة إدْا انفجرت - وانبثق منها هذا الشر العظيم، وهي إلى اليوم كأنها مأخوذة لا تعي، ومسحورة لا تفهم، وعميد الآداب فيها رجل أعجمي لا يزال من العربية في المنزلة التي يقال له فيها: إذا نقلت النقطة من تحت الباء إلى فوق صارت نوناً. . . فما رأينا هذه الجامعة تبرأت من هذا الكتاب. - ولا انتفَت من نسبته إليها، ولا تزال تحسبه كتاباً في الشعر - الجاهلي. . . وهو كتاب في التنكيل بالإسلام.. وهو في موضوعه شبه بالسلسلة صفحاته حلقاتهْ، " فلا تستهيننَّ بحلقة لتقول إنما هي واحدة وإنما هي ضئيلة ولا خطر لها، فإنه ليس الشأن في حلقة حلقة ولا في صفحة صفحة، بل في اتصال بعض ذلك ببعضه واجتماع جملته من أجزائه وتفرق أجزائه على جملته. وعلم الله ما كتبنا هذه المقالات إلا لنقنع الجامعة بجهل شيخها وفساد رأيه ومرض نيته، ثم لنرد عليه " هذا الغِل الذي في قلبه للمسلمين، وهذه السخرية التي في لسانه وقلمه لدينهم وأئمتهم وعلمائهم، وهو على ذلك ضعيف الفهم سخيف التقليد. وهو في غاية تحصيله رجل حافظ كالأوراق المجموعة من كتاب إلى كتاب. وفي غاية عمله رجل جريء يقع في الأشخاص وفي المعاني، ويستوحِل في كل وَحَل، وقد لبسه عقله الناقص الأهوج فلا يتثبت ولا يتحرج ولا تسوؤة السيئة من نفسه ولا تسره الحسنة من أحد؛ وما زلنا نذكر له كلمة غريبة لو خلق الله منها شيئاً بعد موت طه لجاء منهما طه نفسُهُ مرة أخرى. فقد لقيناه في جريدة "السياسة" عند رئيس تحريرها وقلنا له فيما قلنا: إنك لست بالعقل العام - ولا الحقيقة الكلية فيسوغ لك أن تظن أن ما لا تفهمه أنت لا يفهمه أحد، وإن الناس خُلقوا على درجات قد يبعد أعلاها من أسفلها حتى ليكون العالم من عالم أذكى منه بموضع كموضع الجاهل من العالم، وروينا. له قصة إمام عصره بهاء الدين العاملي حين اجتمع له العلماء في مجلس وفيهم علامة الشام الإمام البوريني، فبدأ البهاء يتكلم في التفسير بكلام صريح واضح فهمه كل من في المجلس من عالم وغير عالم، ثم دقق حتى لم يفهمهْ إلا العلماء، ثم علا حتى لم يفهمه إلا البوريني وحده، ثم غمض غموض السر في حقائق المعقولات حتى لم يفهمه ولا البوريني. فما كان من جواب الأستاذ الأديب المهذب طه حسين إلا هذه الجملة بحروفها "دا مغفل لازم ". . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أما والله إن المغفل هو الذي يحسب أن سنن الكون تنشئ له أمة جديدة بكتاب ككتاب الشعر الجاهلي، وتفسد له أمة قديمة بمجموعة كمجموعة قصص السياسة، ثم لا يعلم أن الفاسق الفاجر يكون من الهوان على الله بحيث لا يجعل الله أمره في هذه الأمة المسلمة يزيد شيئاً على حانة في شارع في مدينة. كلما نظرنا في كتاب "الشعر الجاهلي" لم نزدد إلا يقيناً. بأن هذا الأستاذ الذي يسبح بمذهب ديكارت هو أشد الناس خروجاً في كتابه على هذا المذْهب، فإنه لا يكتب ولا يفكر إلا لغرض واحد - يبتغي له وسائله وأسبابه بكل ما استطاع، وهو توهين أمر الإسلام وصدعه من مفاصله وتفكيك العُقَد المحكمة التي يتماسك بها في تاريخه وناهيك به دائباً يجمع من هنا وهناك من أثينا إلى مكة. . .! فالأستاذ لا يبحث كما يدعي وكما هو الأصل في مذهب ديكارت، وإنما يقرر تقريراً، وشتان بين بحث يراد منه ما ينتجه من غير تعيين لنتيجة محتومة. وبين تقرير النتيجة التي يساق لها البحث وتجمع لها الأدلة، فإن الأول يصلع على التجرد من الأسباب التي تؤثر في الرأي كالعاطفة والعصبية وغيرهما، وأما الثاني فزَعمُ التجرد فيه حماقة وسخرية؛ لأن النتيجة المعينة لا تجاذب إلا مقدماتها. وهذه المقدمات - لا تستدعي إلا أسبابها، وهذه الأسباب لا تقوم إلا بأحوال مقررة منها الرأيُ والعصبية والميلُ والهوى ونحوها؛ وذلك ما حمل طه في اقتحام هذه - الخطة وركوب - هذا النهج، على ما فعل من تحريف النصوص وإرادتها لما ليس فيها؛ وعلى ذلك الخبط من سوء الفهم وفساد الاستنتاج، ومن أجل ذلك تناول الدين بالتكذيب والرد، وتعصَّبَ تلك العصبية الحمقاء في تأويله وسياق أدلته، وجعل الشبهة حجة والحجةَ شبهة. ليستوي له أن يخالف الإجماع، فإذا خالفه نقضه، فإذا نقضه وظن أنه قد تهيأ له نسق تاريخي ولو مزوراً مكذوباً عاد بالهدم على التاريخ وعلى الأسباب الطبيعية الواشجة فيه وكسر كل قياس كان العلماء يقيسون عليه، فيتم له. بذلك ما يسميه هو وأمثاله جديداً وهو من السخف - بحيث ترى. ولسنا نتحرج أن ننبه هنا إلى أصل هذا الجديد الذي يزعمونه ويتشدَّقون به، فكل فاسق، وكل ملحد، وكل مقلد أحدَ هذين، وكل متهوس بإحدى هذه العلل الثلاث - هو مجد إذاً جرى في انتحال الأدب العربي وتعاطيه مجرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 التكذيب والرد والنقيصة والزراية عليه وعلى أهله والخبط ما بين أصوله وفروعه، على أن لا يستخرج من بحثه إلا ما يخالف إجماعاً، أو يعيب فضيلة، أو يغض من دين، أو ينقض أصلاً عربياً جزلاً بسخافة إفرنجية ركيكة، أو يحقر معنى من هذه المعاني التي يعظمها الجامدون أنصار القديم من القرآن فنازلا، وبالجملة فالتجديد أن تكون لصاً من لصوص الكتب الأوروبية، ثم لا تكون ذا دين؛ أو لا يكون فيك من الدين إلا اسمك الذي ضُرِب عليك فلا حيلة لك فيه ولا تستطيع أن تستدرج منه إلا في أولادك المساكين كما فعل أبو مرغريت الشيخ (1) . . . ثم لا حاجة للجديد بإلحادك وزيغك إلا إذا طبعتَ بأحدهما أو كليهما مسائل التاريخ الإسلامي والأدب العربي، وأفسدت الخالص بالممزوج. وحقرت الناس والمعاني، وكنت حراً طليقاً من قيود السماء والأرض إذا صدرت أو وردت، فتقول على قدر عقلك، ثم تعقل على قدر زيغك، ثم تزيغ قدر ما أنت قادر! أما إن بحثت وقايست وتعقلت وكنت أذكى الناس وأبلغ الناس، ثم كنت لا تستخرج من التاريخ والأدب إلا ما يزينهما ويزيدهما ويكشف عن أسرارهما وحقائمهما الصحيحة، ولم تكن لص كتب أوروبية ومذاهب أوروبية فالويل لك فما أنت إلا قديم وما أنت إلا نفس حجرية ولو المسلمون تقديس الكعبة وحجرها، وإن العصر لفي غنى عنك وعن كتبك وآرائك لأن خمسة أو ستة - أو خمسين أو ستين - هم العصر وهم الأمة وهم من التاريخ المترامي إلى المستقبل كالقطار: فيه ما فيه من عربات تحمل من العروض على أجناسها وأنواعها ومن الناس على درجاتهم وطبقاتهم، ولكن الخمسة أو الستة هم وحدهم عربة الآلات والبخار وفحم نيوكاسل. . . بل أيها المجددون، غير أنه ليس على الأرض معصوم من الخطأ، وغير أننا نعرف أن غلطة العالم تدل على علمه كما يدل صوابه. وأن شبهة الجاهل تدل على جهله كما يدل خطأُه، إذ كان الأول متحرزاً يتوقى جهده، وكان الثاني متحمقاً يسترسل جهده، فعلى قدر قوة الشبهة وضعفها، وبحسب نوع الغلطة وشكلها، يُعرف نوع الفكر وتتبين حالة العقل، وبهذين تعرف صفة النفس، وبالنفس لا بغيرها يقوم التاريخ الإنساني.   (1) وهو أبو "البرت" أيضاً؛ فكأنه مادة من مواد التحول الأجنبي في هذه الأمة وإخراج أبنائهم على غير دينهم ولغير وطنهم لا أكثر الله من أمثاله، ولا جعل في مرآته غير خياله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فتعالوا نسألكم لو أن عيسى عليه السلام كان مَعه مائة ألف من أمثال الخواجة المجدد سلامة موسى أيكون معه إلا مائة ألف مكابر سخيف يفسدون عليه ولا يُغنُون في أمره ما يغني رجل واحد من أولئك الصيادين الذين كانت في أنفسهم الصافية روحُ الماء العذب! ولو أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان معه خمسمائة ألف من أمثال الشيخ المجدد طه حسين، أفيردون عليه ما رد عربي واحد قلبُه روحُ سيفه؟ أرأيتم الآن أيها الفضلاء جداً.. أن الأمم في غنى عنكم، وأن حاجتها كل الحاجة إنما هي إيمانها وقديمها، وأنكم لا تنزلون منها ومن تاريخها وأسباب تاريخها إلا منزلة الثرثرة في المعنى الصريح من المعنى الصريح، وأن مَثلكم معها كمثل حادثة تاريخية عظيمة أخذت ما أخذت من الناس وتركت ما تركت فيهم حتى مضت لسبيلها وصارت حديثاً في الأحاديث، جاء رجل متسكع متلكع فاحتسى ألف كأس من الخمر وأحرق ألف دخينة من التبغ وأضرم النار وروح النار على دماغه ليخرج من دماغه رواية تمثيلية في تلك الحادثة تزخرفها بالكذب وتزينها بالفلسفة وتزيدها بالتحليل والمنطق وتجملها بالخيال والشعر، ثم لا تكون مع هذا كله في جنب الأصل إلا مَلهاة وهزءا وسخرية ليس فيها إلا حسام لا يقطع، وبطل لا يمنع، ونار لا تحرق وبحر لا يغرق؟ أتظنون أنْ التجديد لا يقوم إلا بالهدم، وهل يبلغ ما أنتم فيه من الحماقة وضعف البصر بعواقب الأمور وأسرار الأشياء أن تقولوا إن البناء الجديد لا يقوم إلا بعد هدم القديم وإزاحة أنقاضه وإقرار الجديد في موضعه؛ أهو بناء من الطوب والحجارة والأخشاب ترفعون هذا وتضعون هذا، أم هو بناء بالكلام على أرض من الورق، فكل ما جاء ليبنى بَنَى وكل ما جاء ليهدم هدم؛ أفلا تعلمون أن القديم لا يهدم ألبتة لأنه هو الذي يُباع الجديد ويشقه؛ فإن هُدم في أمة من الأمم زال الجديد بزواله ولم يبق من الأمة إلا بقايا لا تستمسك على حادثة ولا تقر على صدمة. وأن سنة الكون في الجديد أنه ترميم في بعض نواحي القديم وتهذيب في بعضها وزُخرُف في بعضها الآخر، وإلا لوجب أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 يتجدد التركيب الإنساني والتركيب العقلي، وهو ما لم يقع ولن يقع منه شيء. فالشأن في الجديد أن تتصل المادة الجديدة بالقديم فإذا هو هو، ولكن ببعض الزيادة أو بعض الزينة أو بعض القوة، وكل ذلك لإحداث بعض المنفعة، فالرجل المجدد لا يوجد نفسه أيها الفضلاء جديداً، وما هو من الهوان على الكون ونواميسه وعلله بحيث يقول ساكون فيكون؛ ولو أن كل أسود في مطعم أو حانة كأسود بني عبس لفسدت الأرض ولم يبق للشجاعة تاريخ يُحفظ، ولو أن كل لون أحمر يقول أنا الورد لما بقي للورد معنى إلا أن يكون خجلاً في وحه الدنيا. . . المجدد أيها الفضلاء جديداً لا تخرجه للأمة إلا أقوى عناصر القديم متى اجتمعت فيه صحيحة متظاهرة يمد بعضها بعضاً، فإن من انتهى إلى غاية من الغايات كان هو الحريُّ أن يستشرف لما بعدها وأن يأتي بما لا يستطيع مَن دونه، ولكن الشرط أن يكون قد بلغ هذه الغاية، وما يبلغها إلا إذا كان مهيأ بوسائلها، ولن تأتي له هذه الوسائل على أتمها وأكملها إلا إذا شاءت الحكمة الإلهية أن تنقح شيئاً في أسأليب الحياة والنظام القديم. فالذي يحصل من كل ما تقدم أن لا جديد إلا حيث تُباع الحكمة شيئاً ثم تتصل نواميس الحياة النفسية بهذا الشيء فإذا هي تفعل به ما اقتضته الحكمة مما نسميه هدماً أو بناء، فأنت إذا كنت مجدداً في اللغة مثلاً وكانت فيك العناصر الكافية لاجتماع قوة من قوى الناموس العام فلا بد أن تباع شيئاً غير موجود لا يستطيعه غيرك كما تستطيعه أنت، فإذا أبدعت واستحدثت رأيت القديم نفسه هو الدليل على أنك جددتَ فكنت بشهادته مجدداً؛ وهي شهادة كما ترى لا تنالها بأنك "محرر" صحيفة أو مترجم مجلة أو ملخص من بعض آراء الفلاسفة، بل من حياة عصرك وطبيعته وقوانين وجوده، إذ تكون أنت زيادة في العصر وآية في الطبيعة وكلمة جديدة في قوانين الأمة.   (1) ذلك أصل جديد في زمننا، فهو راجع إلى العامية والإلحاد والتهور والفساد الأوروبي وما جرى هذا المجرى، ويقابله من معنى القديم، العربية والإسلام والفضائل الرقية وما اتصل بها. أما الجديد فيما عرف من تاريخ الأدب العربي فكان أن الرواة لم يكونوا يحملون الشعر إلا للمثل والشاهد، فلا حجة لهم من كلام المحدثين ولا رواية الا من الشعر القديم وحده إلى آخر المائة الأولى، وبهذا انصرفوا عن بثار وأبي نواس وطبقتهما وتجنبوهم في الرواية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 كأن هذا بعيد عن موضوعنا، ولكن كيف نصنع وموضوعنا طه حسين. وهو رجل كشبكة الصائد: كلها عيون وخروق، وبين كل خرق وخرق عقدة. . . رأينا عصبية طه على الإسلام تلبس ثلاثة وجوه: أولها عقيدته في القرآن وأنه من وضع الذي جاء به لا من وحي ولا تنزيل ولا معجزة. وثانيهما رأيه في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه رجل سياسي فلا نبوة ولا رسالة. وثالثها عمله في توهين أمر الأئمة من الصحابة فمَنْ بعدهم وقياسهم في الإنسانية وأهوائها وشهواتها على قياس من نفسه وطباعه. . . فأما القرآن فقد أفردنا له مقالاً افتضح به أستاذ الجامعة أشد فضيحة وأخزاها، ونزيد عليه هنا أن الأستاذ يقول في صفحة 85 في الرد على المستشرق هوار الذي زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من شعر أمية بن أبي الصلت واستعان به في نظم القرآن: "من الذي يستطيع أن ينكر أن كثيراً من القصص القرآني كان معروفاً بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى وبعضه عند العرب أنفسهم، وكان من اليسير أن يعرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - تأملوا - كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبي؛ ثم كان النبي وأمية متعاصرين، فلمَ يكون النبي هو الذي أخذ من أمية ولا يكون أمية هو الذي أخذ من النبي؟ وهذه العبارة ناطقة برأي قائلها، حتى كأنه يقول إن القرآن لا ينقصه إلا أن يكتب عليه "تأليف فلان" ونعوذ بالله ونتوب إليه ونستغفره. ويقول في صفحة 18 في بيان أن القرآن ليس في حاجة إلى شواهد من الشعر على ألفاظه ومعانيها عند العرب: " نخالفهم أشد الخلاف، لأن أحداً لا ينكر عربية النبي فيما نعرف. . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 يعني إذا لم ينكر أحد عربيته لم ينكر صحة كلامه؛ ونعوذ بالله ونتوب إليه ونستغفره. ثم يقول في صفحة 76 عن علماء الموالي وعلماء العرب: "وأرادوا هم - علماء العرب - أو الموالي، أو أولئك وهؤلاء، أن يدرسوا القرآن درساً لغوياً ويثبتوا صحة ألفاظه ومعانيه؛ ولأمر ما شعروا بالحاجة إلى إثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب، فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلى الشك في عربيتها" انتهى. والرجل يكرر هذا المعنى ويطيل فيه، ولا يفهم أن الاستشهاد بالشعر لا يراد منه إثبات عربية القرآن ولا مطابقة ألفاظه لألفاظ العرب، ولا هو من شك في العربية ولا "من أمر ما. . . " وإنما يراد به اتخاذ القرآن سبباً في جمع مادة اللغة وشواهدها، كما كان هو السبب في وضع العلوم العربية كلها؛ أفترى وضع النحو كان لإثبات أن القرآن ليس فيه لحن، أم كان لإقامة الألسنة الزائغة حتى يسهل عليها الأداء والقراءة؛ ثم يراد من تقييد تلك الشواهد وجمعها وتدوينها تفسير كلمات القرآن ليفهمها من يجيئون بعد العرب كما فهمها العرب أنفسهم، وظاهر أنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالنص على معاني الكلمات عندهم، ولا ثقة بهذا النص إن لم يكن عليه دليل من شعرهم، إذ هو وحده، المحفوظ عنهم، وهو كان متن اللغة والخبر والأثر؛ ولعمري لولا صنيع العلماء في جمع هذه الشواهد لقام ألف زنديق يضيفون إلى مطاعنهم في القرآن أن فيه خطأ في اللغة، فانظر، أين هذه الحكمة مما يخبط فيها أستاذ الجامعة. ويقول في صفحة 91: "إن اليونان يقدسون الإلياذة والأوديسا ويعنون بجمعهما وترتيبهما وروايتهما وإذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن الكريم ". ولم نفهم شيئاً من هذا الكلام، لأنه يحتمل كل شيء، ولو فسرَ لنا فسرنا له وأريناه مبلغ جهله وسوءِ أدبه! وأما رأيه في النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن أعجب ما عجبنا له أنه ما من عالمٍ أو كاتب مسلم يذكره - صلى الله عليه وسلم - إلا صلى عليه أو وضع رمز الصيغة ولو هذا الحرف "ص" وترى كتاب المسيحية يأخذون بهذا الأدب في كتبهم العربية، لأن المسلمين يقراونها؛ أما أستاذ الجامعة فكأنه لا يتولى النبى - صلى الله عليه وسلم - ولا يحس عظمته ولا أثره. فقد ذكره في كتابه مراراً تفوت العدَّ فلم يتأدب معه ولا مرة واحدة، فلا بعقيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 المسلمين أخذ، ولا بمجاملة المسيحيين اقتدى، بل طريقته هي طريقة المبشرين بعينها، تُشعرك وقاحة الكاتب وغرورَه وانتشار عُقَدِه، مع أنهم قالوا إن هذه الصلاة من الرجل المسلم إنما تكون دليلاً على خلوص نيته وقوة عقيدته، وأنه لا شوب فيها ولا شرك، وعلى أن بشاشة الإيمان قد خالطت قلبه، ولكن شيخ الجامعة قد تجرد من دينه منذ الصفحة الأولى، وقد والله صدق فيه الحديث. "رَغِمَ أنفُ عبد ذُكِرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ " فما أنف أَرغَمُ من أنف طه حسين كمداً وذلاً وخزياً ولعنة. والأستاذ يكذب الحديث الصحيح ويتهكم به كما رأيت في بعض ما مر. وما نظن أحداً يسلم من تكذيبه، بل هو يقول في صفحة 128: " فأنا لا أقدس أحداً من الذين يعاصرونني ولا أبرئه من الكذب والانتحال". فإذا كان هذا من رأيه فيمن يعاصرونه ويعرفهم حق المعرفة، فيهم أستاذه وصديقه وأبوه وأمه، فكيف به فيمن لا يعرفهم إلا من الكتب، بل هو يكاد يصرح في صفحة 101 أن كل شخص لا يعرفه فأكبر الظن عنده أنه من أشخاص الأساطير لم يوجد قط؛ قال: "نحن لا نعرف مَن سَعد ومن مالك ومن زيدُ مَناة، فأكبر الظن عندنا أنهم أشخاصُ أساطير لم يوجدوا قط ". فهل تعرف يا أستاذ الجامعة أولئك الذي ألفوا كتب التاريخ؛ وإذا كنت لا تعرفهم فليس ما يمنع أن يكونوا أشخاص أساطير، وإذن فالكتب قد ألَّفَت نفسها. . . إذ لو قلت: إن غير أولئك ألفوها قلنا لك: وهؤلاء لا تعرفهم؛ فلا تزال تدور في محال لو أخذنا بقياسك الفاسد ورأيك السقيم! قالوا: سعد ومالك وزيدُ مَناة وفلان وفلان، وفسروهم وأخبرونا خبرهم. فإن قلنا إننا لا نعرفهم ولم نثبتهم عياناً فيجوز لذلك أن يكونوا رجال أساطير - صدق هذا على كل ما كان قبلنا، وسيصدق علينا وعلى تاريخنا إذا جاء من بعدنا ووِرثتنا الدنيا، فلا يكون العلم التام إلا الجهل التام، وحسبك بهذا جهلاً ممن يقول به. ثم إنه ليس في الطبيعة الإنسانية تواطؤ على نمط واحد من الخُلُق، فإن وُجد الكذب وُجد معه الصدق، وإن كانت الغفلة كان التحزز، وإن عُرف التلفيق عُرف النقد والتمحيص، وما قطُّ وُجدت أمة يُجمع كل أدبائها وعلمائها على الكذب. ولقد امتازت الأمة الإسلامية دون كل الأمم بعلم الرواية وشروطه الكثيرة، كما بسطنا الكلام عليه في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فإن كان عندنا الكذابون والوضاعون ومن لا ثقة بهم، فإن عندنا الناقدين والمصححين والثقات؛ ولكن ما أنت صانع في رجل كطه حسين جَهله أوسعُ من علمه، ولسانه أوفى من عقله، ولا يدري إلى الآن أنه متى صار التاريخ إلى الطريقة الجدلية فلا حاجة إلا اطلاع ولا فكر ولا علم، وكل عاقي هو مؤرخ، إذ حسبه من العلم أن يقول فيما لم يكن إنه كان، وفيما كان: يجوز أنه لم يكن، وعجيب أن تكون هذه هي طريقة أستاذ الأدب في الجامعة وأن يكون رجال هذه الجامعة من الغفلة بحيث يظنون هذا علماً أو تجديداً في العلم. . . ويقول في صفحة 48 يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أول أمره مع قريش: "ولم يكن يطمع في ملك ولا تغلب ولا قَهر، أو لم يكن ذلك في دعوته ". وهذه العبارة الأخيرة يقلد فيها دهاة السياسة في لغتهم العملية التي يجعلون لكل جملة منها بابين، غير أن طه سدَّ في عبارته البابين والنافذة أيضاً. . . فإن معناها الصريح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولَ أمره لم يكن يطمع في ملك، أو كان يطمع، ولكنه كتم ذلك فلم يُظهره في دعوته التي دعا بها الناس إلى الله. وإذن يا شيخ الجامعة فقد كان للدعوة بطن وظهر، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت من عنده هو لا من عند الله، وليتأمل القراء شنعة ما يخرج من هذا القياس من إنكار النبوة والرسالة، نعوذ بالله ونتوب إليه ونستغفره. ثم يقول في صفحة 55: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحرض على الهجاء ويثيب عليه أصحابه، ويتحدّث أن جبريل كان يؤيد حساناً". وهذا الجهل مما تضيق به الصدور فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن به الهجاء ولا الإقذاع، وإنما كانت تلك سُنة عربية اضطرته إليها طبيعة العرب لحماية أعراض المسلمين، فقد كان من هذه السنّة عند العرب أنه إذا سكت المشتوم صدق الشاتم فجرى كلامه مجرى التاريخ الصحيح، ثم كانت معارك الألسنة لا يسكت فيها إلا الذليل فسكوته ذل، ولا يُغلب فيها إلا العَيي فعيه ذل آخر، وكل ذلك من أمرهم فلم يكن بدٌّ من المصير إليه ليتعالمه العرب فلا يؤثر هجاء قريش أثره فيهم ويكون سبباً لنفرتهم ولتوهين أمر المسلمين عليهم (1) . وما كان جبريل   (1) كأنَّ أستاذ الأدب في الجامعة لا يحفظ القرآن ولم يتل قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) . فهؤلاء الذين انتصروا من بعد ما ظلموا هم شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس هجاؤهم هجاء ولكنه انتصار من ظلم حاق بهم فتأمل هذا فإنه من أدق معاني الأدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 يؤيد حساناً في الهجاء، ولكن في الكفاح عن نبيه كما ورد في الحديث: "إن الله ليؤيد حساناً ما كافح عن نبيه" والعبارة بهذه اللفظة (الكفاح) تُفهِم معانيَ كثيرة وليس منها معنى الهجاء، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - كُشف له أن طه حسين سيدعي عليه ويغض منه فقيد غرضه بها ليقول للناس: انظروا فإنه. . . وافهموا فإنه.. * * * وأما عصبية الرجل على أئمة المسلمين فقد مر من ذلك نبذ، وانظر كيف يقول في صفحة 51 عن أبي سفيان في فتح مكة: "فنظر فإذا هو بين اثنتين: إما أن يمضي على المقاومة فتفنى مكة، وإما أن يصانع ويصالح ويدخل فيما دخل فيه الناس "وينتظر. . . " لعل هذا السلطان "السياسي" الذي انتقل من مكة إلى المدينة، ومن قريش إلى الأنصار، أن يعود إلى قريش وإلى مكة مرة أخرى؛ قال: وألقى الرماد على هذه النار التي كانت متأججة بين قريش والأنصار وأصبح الناس جميعاً - في ظاهر الأمر - إخواناً مؤتلفين في الدين" انتهى نصاً. وقد طال "انتظار" أبي سفيان في رأي الشيخ المأفون حتى قام حفيده يزيد بن معاوية فانتقم من غزوة بدر في وقعة الحَرّة كما قال في صفحة 55، وفي هذه الصفحة يقول: "إن يزيد صورة صادقة لجده أبي سفيان في السخط على الإسلام وما سنَّه للناس من سنن (1) . فأبو سفيان والصحابة أو أكثرهم منافقون في رأي الجامعة المصرية. لأنهم لم يكونوا إخواناً مؤتلفين في الدين إلا - في ظاهر الأمر - وأبو سفيان مع ذلك من كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد شهد معه حنينا والطائف وفُقئت عينه في هذه. وهو القائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة حنين: "والله إنك لكريم فِداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك فنِعمَ المحارَب كنت، ولقد سالمتك فنعم المسالم أنت" أفهذا كلام منافق ينتظر ويتربص؟   (1) هذا أيضاً من جهل الشيخ بالتاريخ، فقد جعل ميراث أبي سفيان في أولاده السخط على الإسلام والانتقام منه والحمق في ذلك، مع أن المعروف في التاريخ أن معاوية إنما ورث حلمه الذي يضرب به المثل من أبيه أبي سفيان، حتى أنه لما قتل حجر بن عدي وجماعته بعد أن ثاروا عليه في خبرهم المشهور أرسلت إليه عائشة أم المؤمنين تشفع فيه وفي أصحابه؛ فبلغه رسولها وقد قتلوا، فقال لمعاوية: "أين غاب عنك حلم أبي سفيان " فتأمل قول من عرفوا الرجل وعاصروه. وقول أستاذ الجامعة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 على أن الذي ما يُقضَى العجبُ منه أن رأي طه حسين هذا هو بعينه ونصه رأي الرافضة ومذهبهم، فقد زعموا أن الصحابة كانوا منافقين في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وجلة المهاجرين وخيارَ الأنصار. فكيف يتفق كل هذا في كتاب الجامعة، وهل الذي فيها أستاذ للآداب أم هو أستاذ للفكر والرفض؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ قبل أن يجري القلم في هذه الكلمة نصحح قولاً جئنا به في بعض ما كتبناه، فقد ظنَنا أن أستاذ الجامعة أخذ فكرة الشك في شعر الجاهلية عن المستشرق مرجليوث، ولكن أحد الفضلاء نبهنا إلى أنه قبلَ جحا قد كان أبو دلامة. . . فإن هذه الفكرة من آراء مستشرقي الألمان، وهي مبسوطة بكثير من أدلة طه حسين في كتاب "الشعر العربي قبل الإسلام " المطبوع في باريس سنة 1880؛ فيسرنا والله أن نباهي الأمم كلها بجامعتنا المصرية التي جاءت في تاريخ الدنيا بمعجزة فوق المعجزات، إذ ظفرت لتدريس الآداب العربية بأستاذ عظيم تُسرَق آراؤه وتُطبع وتنشر في أوروبا قبل أن يولد هو في مصر ببضع سنوات. . . وما زالت بلادنا هذه مُرَزأة مسكينة لا تبرح الأقدار تمسها في كنوزها الغالية وترميها بالمتلصصة من آفاق الأرض، فما كفى أوروبا أن تسرق آثار ملوكها وفراعنتها بعد موتهم، بل اجترأت كذلك فسرقت آراء الفرعون العظيم طه حسين قبل ولادته. . . أما بعد أيتها الجامعة، فإنما نخاطبك ونكتب لك وحدك، وإياكِ نعني. وعلى قدرِك ما أجملنا وفصلنا؛ لأنك مؤتمنة على عقائد أبنائنا ونراك خائنة. وفيك مَثابة العلم ونراك جاهلة، وإليك الرأي في هذا الأدب ثم لا يسف ولا يسقط في الرأي غيرك؛ وقد كان الظن بك أن للعلم حرمة عندك وللأمانة موضعاً فيك، وأنك تعلمين الفرق بين علم مفروغ منه وعلم قد بُدئ؛ فيه وبين العقل العام الذي يجتمع من صواب العلماء جميعاً وبين العقل الخاص الذي يحمله كل عالم وكل جاهل، وكنا نرجو بذلك أن تدركي أن الأدب لا يلبس ثياب طه حسين ولا يحيا بحياته ولا يموت بموته، وأن هذا الرجل هو مِرآتك في الأمة، فهو رادك إلى طبعه وخلقه، وممثلك بجهله وحمقه، ودامغُك بزيغه وإلحاده؛ فتَعَالَمتِ به حتى فضحك جهله، وأمنت له حتى لبسك كفره؛ ثم أنت بعد ذلك لا خطأ نفيتِ ولا صواباً أتيت، بل ذهبتِ بنفسك؛ غروراً منك بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 اسمك الجامعة، وتعصباً لباطل أستاذك الملحد واستكباراً في الأرض ومكرَ السيئ، فكنتِ ما كنتِ، إلى صلابة وعناد، وإلى شدة ونكاية؛ وملتِ إلى ناحية الازدراء بالأمة والتهكم بدينها والتحقير لعلمائها وأدبائها، كأنه ليس في كل أولئك عالم ولا أديب، وكان مجموعة الأمة المصرية لا توزن عندك "بابن الجامعة البكر" لأن قلبك يزيد فيه حتى يصير جبلاً، وينقص من الأمة حتى ترجع حصاة، والميزانُ ميزان قلبك؛ ثم هو في يدك المتصلة بهذا القلب. فسبحان الله! كأننا لا نجادلك في العلم والأدب ولكن نعذلك في العشق والهوى، وأضيع شيء ما تقول العواذل! فما بك إلا الخلاف والمكابرة والإصرار واعتدادُ كل سيئة من سيئات المحبوب حسنة من حسنات الحب. . . فلقد صار لنا أن نفهم أن الأمر عندك إنما هو بين أشخاص وأمزجة ومصالح تجعل علماء الدين في مصر بأسمائهم وألقابهم وإجازتهم كأنهم صفحة مكتوبة تقرأ وترمى في سلة المهملات. أما طه وحده فهو الحي العالم القادر المتكلم الابن البكر الذي تجعله شهادة السوربون كأنه الآية الناسخة، ثم لا تكون الآية المنسوخة إلا الأزهر الشريف، على حين لا يكون الخلاف إلا دينياً وفي كتاب الله. وصار لنا أن نفهم أن هذه التي تسمى الجامعة المصرية لا تبالي حُسنَ أثرها على الأمة أو سوء أثرها عليها، ولا تعبأ بسمعة تمدح أم تذم كأنها هي وحدها مركز المخ من الجسم المصري، أما سائر الناس والطبقات فجلد وعظم وأدوات وشيء كالصبغة فيما تغِله على صاحبها، أو نحو من هذا التشبيه أو قريب من نحوه، فإن سقط رجل فيها كطه حسين ونبذته الأمة كلها لم يكن للجامعة هم إلا أن تشده إلى كرسيه ولو بالحبال، وتثبته ولو بالمسامير، كأنما وظيفته في الجامعة أن لايتركها وحسبُ. . . أما العلم والأدب فكل كلام هو علم وأدب ما دام قائله "ابن الجامعة البكر" وما دام التمييز مفقوداً والأهواء ملتبسة، إذ البغية عندهم كما وضح لنا وللناس جميعاً أن يجد أستاذ الأدب عيشه لا أن يجد الأدب أستاذه، والأمران مختلفان جدا كماترى وبينهما بعد باعد لا تقريب فيه. نسأل الجامعة سؤالاً مكشوفاً لتجيبنا عليه إن استطاعت أن تجيب بعد ذلك السكوت منها: مَن الذي يصلح من رجالها والقائمين عليها أن يكون حَكماً فيما شَجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بينها وبين الأدباء من خلاف؛ فهم يرمون أستاذها بالجهل في تاريخ الأدب ويهدمون عليه دروسه ينقضون آراءه، وذلك إما حق فينفذ وإما باطل فيرد. فمن عساه يقول هذه الكلمة الفاصلة من أساتذة الجامعة ورجالها؛ ومن هو هذا الذي يرى في نفسه قوة في هذا العلم ويكون من أهله بهذا الموقع، وما علمنا أن في الجامعة الأصمعى ولا أبا عبيدة ولا الجاحظ ولا من فيه من هؤلاء وأمثالهم رائحة، وليس في الأرض كلها من يقول إن عالماً بالقانون هو من أجل ذلك عالم بالأدب، وأن فيلسوفاً في العقليات هو بفلسفته مؤرخ للشعر والكتابة، وما كل من يحسن شيئاً يحسن كل شيء. ولقد ادعى الأدباء والعلماء وجاؤوا بالبينة وساقوا الحجج وأثبتوا للجامعة إلحاد شيخها وضعف رأيه وسوء فهمه وعقم استنباطه، وأنه على ذلك نزر المادة يتوسع فيها بأشياء من نفسه يسميها التحليل والمنطق، لا بالأسباب التي تكون المادة نفسها مما يسمى بالنصوص والعلل ونحوها. قد أقيمت الدعوى فأين القاضي؟ أتريد هذه الجامعة أن تتهزأ بالعلماء والأدباء جميعاً، وأن تتغفل الأمة كلها فتضع لـ طه حسين لحية كثة على عارضيه وفروة بيضاء على رأسه وتخرجه للناس يقول: نحن قاضي الجامعة، فتحت الجلسة وحكمنا أن طه حسين لم يلحد في دين الله ولن يلحد فيه، ولم يخطئ في تاريخ الأدب ولن يخطئ، ولم ولن عشر مرات على بياض..؟ ليضع فيها طه حسين ما شاء كلما شاء؟ " أيتها الجامعة، لا نسألك إنصافاً ولا بعضاً من الإنصاف، ما دمت تخصين أستاذك بالمراعاة وبفضل من المراعاة، ولكن ويحك ما أنت صانعة في تاريخ الأدب، ومن الذي ورثك إياه أو وفقه عليك حتى يكون علمك هو العلم وحده، وأية قوة هذه التي تجعل الغلطة منك ذات عنصر ليس في الغلط حتى لا يطمع أحد في تنبيهك إليها أو حسابك عليها، وفي هذا القياس من الذي يجعل حديدك ذهباً، وثلجك البارد لهباً، وحطبك عُود الند، وجَزرَك أعلى المد، سبحانكِ بيدك الخير، وأستاذكِ ولا غير، وورثت ملكَ سليمان "بعِفريت"، وملكت حرارة الشمس في علبة كبريت. . . أما إنه عزيز علينا والله أن يجري بنا القول إلى هذا المعنى، ولكن الكلام لا مَقادَة له إلا من الواقع، وما كان لنا أن نرى في المرآة قفاً عريضاً ثم نقول في وصفه تبارك الله ما أبدع سحرَ العين، وما أحلى ندَى الابتسام على ورق الشفتين، وهذا الخد، قافية في شعر الورد، وذاك الفم على وزن الدم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ويا عليل الطرف أين منك الدواء، وما هذا الحاجب إلا حاجباً محكمة الهوى. . . * * * وبعد فلندع الجامعة في أستاذها ولتسخر من الأمة ما شاءت، ولكنا نريد أن نفهمها أن السماجة كل السماجة في أستاذها أنه يزعم في كتابه تصحيح الحياة الأدبية الإسلامية، وقد علم أنه ما كان فيها ولا شارك أهلها ولا أحاط بأسبابها، ولا هو يتولاها بالذهن اللطيف والبصيرة النافذة والطبع الشعري وما يشبه أفكار أهلها ومنازعهم وأغراضهم، بل يزعم في غرور أي غرور أنه تجرد من العاطفة والدين ليدرس ويستثبت ويحقق، وهو لو كان على علم وبصر وكان قد توفر على ما هو بسبيله من هذا الأدب للبس ولم يتجرد. فكان يكسو فكره وخياله عواطف العرب وأذواقهم وعاداتهم وطبائع عصرهم، ويقارب أذهانهم الحِداد وقرائحهم القوية، ثم يقول بعد ذلك في تاريخهم، وتاريخ أدبهم وينكر ويثبت. فإنه أحرى أن يقبل منه؛ إذ يكون كأنه اتصل بالحادثة التي يؤرخها بمثل ما يرده العيان والمشاهدة على من عاين وشاهد، وكأنه شارك فيها بإيجاد وخلق، فمن ثم لا يقول فيها من هو أصدق منه أو أقرب إلى الصدق؛ ويكون فيما يحكيه أو يصفه أو يستنبطه كأنه بقية دهر تصف دهرها، فما ثم إلا القبول منه والمصير إلى قوله ورأيه؛ وينزل عصره منه منزلة الفتى الناشئ الذي يسمع لقصة الهرِم الفاني الذي يقصها عن نفسه. من أين للفكر المستفاد من عصرنا هذا عصر الشك والإلحاد أن يستبطن خفايا العصور المؤمنة الغالية في إيمانها، ومن أين للعقل الذي تنشئه أسباب التخنث ويقوم على النعمة واللين والحياة الوادعة أن يمضي في أسرار الأعصر المخربة المدمرة البالغة في جبروتها؛ وليت شعري عن أستاذ الجامعة إذ يجانس فكرُه الغربي الأوروبي ذلك الفكرَ الشرقي العربي حتى يقع التمازُجُ بينهما. هل يكون كلا الفكرين إلا سبًّا للآخر ونقضاً عليه؟ كما ظهر في كتابه الذي سب تاريخ الأدب به وسبه به تاريخُ الأدب؟ أنت يا راكب السيارة وممتطي القطار تزعم أن الحمق أشد الحمق أن تمتطي الناقة أو تركب الجمل فتزري عليهما وتحقر شأنهما وتقول فيهما ما يبلغ لؤمُ القول، ثم تجاوز بهذه السمة إلى أهل الناقة والجمل، ثم تتعداهم إلى عصرهم فتقول عصر البطء والبلادة والقلة وضياع الوقت والإسراف في إنفاق العمر وكيت وكيت؛ ولكن أيها الأحمق غامر بنفسك مرة في الصحراء وارتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 هناك بين العرض والطول الملتبسين في خيط واحد، ثم اجمع شواهدك وحججك واستعرضها حجة حجة ودليلاً دليلاً فإنك مشرى الجمل يهدم عليك ذلك المنطق كله ببعره. . . وستتعلم هناك منطقاً آخر تؤمن فيه أشد الإيمان بأن الناقة والجمل ليسا من الحيوان، بل هما الكوكبان اللذان خلقهما الله بقدرته لتلك السماء من الرمل. إن أقوى أسباب الخطأ في تاريخ الأدب شيئان: ضعف الفكر عن النفاذ في إدراك الأسرار التي انطوى عليها ذلك التاريخ، وضعف المادة التي تجمع لك صور التاريخ وتعين أجزاء هذه الصورة وتحقق أوضاع هذه الأجزاء؛ أما الفكر فلا نفاذ - له إلا - أن يكون فكر شاعر كاتب بليغ على أصل من الفلسفة والذكاء الشفاف والعلم العربي، وأما المادة فلا قيمة لها ما لم تكن من الاتساع بحيث تتناول عصراً عصراً ورجلاً رجلاً وما نقص من ذلك، فالنقص في التاريخ بحسبِه وعلى مقداره. ولنضرب مثلاً بأستاذ الجامعة؛ فقد صنع فصولاً في أبي نواس جعل فيها هذا الشاعر الماجن الخليع المتخنث ديناً لعصره ومذهباً للحياة في زمنه فقال إنه كان عصر شك وإلحاد وزندقة؛ وغفل عن قول الأصبهاني جامع شعر أبي نواس: " إن تعاطيه لقول الشعر كان على غير طريق الشعراء لأن جل أشعاره في اللهو والغزل والمجون والعبث كأشعاره في وصف الخمر ولغة النساء والغلمان، وأقل أشعاره مدائحه، قال: وليس هذا طريق الشعراء الذين كانوا في زمانه". فإذا كان هذا النص صريحاً قاطعاً في أن شعراء زمن أبي نواس كانوا على غير طريقته فكيف يكون الزمن نفسه على طريقته. وما دمنا في طه حسين فلنضرب به هو مثلاً، فقد جاء في كتابه الشعر الجاهلي بمخزيات كثيرة من الإلحاد والتهكم بالدين، فإذا مضت ألف سنة ثم جاء أديب في مثل فكره وفهمه العجيب فوقف على كتابه أو نبذٍ منه أفلا يقطع بهذا الدليل إذا لم يجد غير هذه المادة من التاريخ أن الجامعة المصرية كانت في سنة 1926 معهد كفر وإلحاد، ثم ينساق به الفكر إلى الأمة المصرية فيستنبط أنها كانت بقَضها وقضيضها أُمة كافرة ملحدة، لأن الجامعة هي أكبر مدارس الحكومة، والحكومة أقوى مظاهر الأمة الدستورية، ولكن هذا الأحمق - مقدماً وسلفاً. . . - إنما يقع في هذا الخلط الشنيع من ضعف استجماعه لمادة التاريخ وإن كان سديد الرأي صحيح القياس، فلو هو اطلع على برقيات المعاهد الدينية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 المذيَّلة بأسماء جميع علمائها، وعلى قرار علماء الأزهر، وعلى احتجاج الشعب المصري، وعلى ما كتبه الأساتذة الكبار، وعلى مقالاتنا الضعيفة أيضاً، لعلم من كل ذلك فضيحة الجامعة فتغير رأيه، فتغير حكمه، فتغير التاريخ الذي يجيء به ويؤلفه. لا جرم كانت المادة المحفوظة هي التي تنشئ التاريخ إنشاء على حسبها فلا تجزئ عنها الفلسفة ولا الفكر ولا مذهب ديكارت ولا مذهب طه حسين؛ إذ هي وحدها سبيلنا إلى ما لا يمكن أن نلحق به أو يرجع إلينا، أما اتهام الرواية والجرح والتعديل وما كان من الانتحال بزيادة أو نقص ولسبب وغير سبب، فهذا وما يجرى مجراه عمل الفكر الذي أفيضت عليه تلك المادة لا الذي انحسرت عنه، فعلى قدر ما يعجز المؤرخ عن استيعاب المادة يكون عجز فكره، ويدخل رأيه من الخلل والاضطراب والنقص بمقدار ما عسى أن يكون في تلك المواد التي سقطت عنه من الإحكام والضبط والزيادة وغيرها من أسباب الرأي، ولن يسلم مؤرخ الأدب من ذلك ولن يكون لفكره نفاذ ولن يكون رأيه رأياً إلا إذا أزاح هذه العلة بالاطلاع والجمع والاستقصاء؛ وذلك ما نبهنا إليه الجامعة في غير موضع من كلامنا، لنعلم أن المطلب بعيد والطريق وعر، وأن تاريخ الأدب ليس مقالة إلى مقالة ولا فكرة إلى فكرة، ولا هو من باب الكلام الصحفي، ولكنه مادة إلى مادة وتحقيق إلى تحقيق؛ فلتعاير كتاب أستاذها بهذا المعيار، ولتبحث فيه عن المادة قبل الرأي، لَكنها ستراه كله خلطاً أحدثه تمازج عصرين متناقضين، أحدهما: عصرنا هذا بما فيه مما يعرف الأستاذ عياناً وتصديقاً، والآخر: عصر العرب بما كان فيه مما لا يعرف إلا بعضه وهماً وتكذيباً، لأنه لا ينساغ في طبيعته المعتلة الزائغة التي أفسدتها العقلية الأوروبية. ومتى سُلط الفكر التاريخي بالمشاهدة على الوهم وبالتصديق على التكذيب وكان لا يجري في ذلك إلا بميل وهوى، لم يبق من التاريخ شيء. فإن بقي شيء لم يكن تاريخاً بل عملاً كتابياً يُكد فيه الذهن ويُعنتُ الخاطر لغرض من الإبداع أو الإغراب أو التفلسف أو التضليل ونحوها من الأغراض العقلية - أيها كان إلا غرضَ التاريخ. وانظر كيف يصنع هذا الخلط، قال أستاذ الجامعة في صفحة 52: وفي الحق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكد يدع هذه الدنيا - هذا تعبير المبشرين، كأنه حازها ثم تركها، أما التعبير الإسلامي فهو: لم يكد يلحق بربه، أو بالرفيق الأعلى - حتى اختلف المهاجرون من قريش والأنصار فى الخلافة أين تكون ولمن تكون؟ وكاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الأمر يفسد بين الفريقين لولا بقية من دين "كذا كذا، بقية فقط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحزمُ نفر من قريش، ولولا أن القوة المادية كانت إذ ذاك إلى قريشاً وهذا كذب على التاريخ؛ فما هي إلا أن أذعنت الأنصار وقبلوا أن تخرج منهم الإمارة، وظهر أن الأمر قد استقر بين الفريقين، وأنهم قد أجمعوا على ذلك لا يخالفهم فيه إلا سعد بن عبادة الأنصاري الذي أبى أن يبايع أبا بكر وأن يبايع عمر وأن يصلي بصلاة المسلمين وأن يحج بحجهم وظل يمثل المعارضة قوي الشكيمة ماضي العزيمة حتى قتل غيلة في بعض أسفاره قتلته الجن فيما يزعم الرواة انتهى. ثم قال في صفحة 71: وأعجب من هذا أن السياسة نفسها قد اتخذت الجن أداة من أدواتها "نهنئ الجامعة". . . وأنطقتها بالشعر في العصر الإسلامي نفسه، فقد أشرنا في الفصل السابق إلى ما كان من قتل سعد بن عبادة، ذلك الأنصاري الذي أبى أن يذعن بالخلافة لقريش، وقلنا إنهم تحدثوا أن الجن قتلته، وهم لم يكتفوا بهذا الحديث وإنما رووا شعراً قالته الجن تفتخر فيه بقتل سعد بن عبادة هذا: قد قتلنا سيد الخز. . . رج سعدَ بن عباده ورميناه بسهميـ. . . نِ فلم نخطئ فؤاده انتهى كلام الشيغ. وسنقف هنا وقفة نبين لك فيها ضلالة هذا الرجل وخلطَه وتعمدَه الكذب وقلة تَحفظه وأخذِه على نفسه فيما يقوله ويراه، وستطلع من ذلك على دخيلة نفسه الخبيثة وتعلم يقيناً أن غايته تحقير الإسلام وتهوين أمره، وأنه كالمكره على أن يسوق كلامه مَساق الشبهة مع أنه في سعة من التاريخ ونصوصه واللغةِ وأساليبها، وأنه دائماً يتبع طريق الزنادقة في جعل الكلام مقدمات فاسدة ثم الإمساك عن النتيجة الآتية منها فلا يصرح بها بل يدع الطالب يستخرجها بفكره؛ ليجعل ذلك من عمله فيكون أَلصق به وأشد تأثيراً في نفسه وعقله، ويخرجه ذلك إلى أن يعتقد ما انتهى إليه ويتأدى به الشك إلى التهمة، وتسلمه التهمة إلى ما لا يَسلم عليه إيمان ولا يصح به يقين. يصور الشيخُ سعدَ بن عبادة كما تفهم أنت من موقف كموقف الحزب الوطني في البرلمان مثلاً، فهو يمثل "المعارضة" وظل يمثلها إلى أن قتل، أي سنة خمس عشرة للهجرة على بعض الأقوال وبعد وفاة أبي بكر - رضي الله عنه - بنحو سنتين، والمعارضة إنما كانت معارضة حين نشأت مسألة الخلافة فما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بقاؤها بعد أن استوثق الأمر وهل تسمى بعد إجماع الأمة عصياناً وخروجاً أو معارضة يمثلها رجل سياسي؛ ثم يقول إن سعداً هذا كان لا يصلي بصلاة المسلمين الخ، فهل يفهم القارئ من هذه التعمية إلا أنَّه كان يصلي بصلاة النصارى أو اليهود، مع أن صريح المعنى فيها أن الرجل كان يصلي بصلاة المسلمين لم يغير ولم يبدل، ولكنه يصلي وحده وفي بيته لا مع الجماعة في المسجد؟.. ثم يقبول إن الجن قتلته غيلة في بعض أسفاره، والرجل لم يُقتل وإنما"سار. إلى الشام وأقام بحوران إلى أن مات ووجدوه ميتاً على مغتسله، ولم يختلف المؤرخون في ذلك؛ وإنما يذهب شيخ الجامعة إلى جعل القتل سياسيا لمكان "المعارضة" حتى يحسن التلفيق وهذا أفضح لجهله، فما حاجة المسلمين إلى فتل رجل ضعيف مغترب وقد استقر الأمر وبويع أبو بكر ثم بويع عمر ومضت سنتان على ذلك ولم يُقتل، ولا فتنة ولا خلافَ ولا شيء مما يدعو إلى القتل غيلة؟ ثم يقول إن السياسة التي قتلته أنطقت الجن بذينك البيتين، وأنهم تحدثوا وروَوا؛ وكل ذلك جهل من الأستاذ؛ والخبر أن قريشاً وضعت فيما وضعت من الشعر بيتاً نحلته الجن في سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، فزعموا في أول الإسلام، أنهم لسمعوا صائحاً يصييح ليلاً على جبل أبي قُبيس: فإن يُشلم السعدانِ يُصبِح محمدٌ. . . بمكة لا يخشى خِلافَ مخالِف لما كان لهذين الرجلين من الشأن والخطر في قومهما، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اششارهمافي غزوة الخندق دون سائر الناس، فلما كانت هذه من أولية سعد زعم ابن سيرين في قَصصه أنه لما مات بالشام عُرف خبر موته في المدينة "بالتلغزاف. . . " ولا تلغرافَ يومئذ إلا من الجن، فزعم أنهم لم يشعروا بموته بالمدينة حتى سمعوا قائلاً من بئر وأنشد البيتين؛ فأنت ترى لطف الصنعة في هذه الواية ورقتها وحسن سبكها، فإن الصائح الأول قبل إسلام سعد كان على ظهر - جبل والصائح الآخر بعد موته كان في قعر بئر. . . وكل ذلك تعظيم لشان سعد، ولا سياسة ولا قتل ولا زندقة، وإنما قيل في الشعر - قد قتلنا - لأن عبارة ابن سيرين في ذلك أن الرجل كان قائماً يبول فاتكأ فمات، فهذه الفجأة هي ما يسمونه قتلاً من الجن، وهي كثيرة في أخبارهم؛ ولا يذهبن عنك أنه إذا صح أن الرجل قتلته السياسة فما قتله إلا عمر بن الخطاب، وما أشنعها تهماً أخزى الله قائلها! ويبقى بعد كل هذا أن شيخ الجامعة قد جانب الفكر وترك التحليل في هذه الحادثة مع أنه كثيراً ما يقول في كتابه: "وفِقهُ هذه الرواية "كيت ذيت" فما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 باله غفر الله له؟ ونحن نقول له إن "فِقه هذه الرواية" أن سعد بن عبادة كان سيد الأنصار وأجودَهم وصاحبَ رايتهم في المشاهد كلها، وكان غيوراً حتى ورد في الحديث: "إن سعداً لغيور وإني لأغيرُ من سعد واللهُ أغيرُ منا وغيرة الله أن تؤتى محارمُه " وكان يرمي بهمته بعيداً، حتى كان من دعائه: "اللهم هَب لي مجداً. لا مجد إلا بفعال، ولا فعَال إلا بمال، اللهم إنه لا يُصلحني القليل ولا أصلح عليه". فهذه كلها أخلاق الرجل وطباعه، فلما لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بربه طمع في الخلافة لمكانته وسابقته، وكان وقتئذ مريضاً لا يُسمع صوته، حتى إنه لما اجتمعت له الأنصار قال لابنه: لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم ولكن تلقَّ مني قولي فاسمعهُموه، فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله فيرفع صوته فيُسمع أصحابه، فلعل هذا المريض لو كان صحيحاً لصح رأيه ولم تغلبه الفلتة الجاهلية ودخل فيما دخل الناس فيه، وهو إن كان قد غضب بعد أن تولاها أبو بكر فما غضب على المسلمين كافة ولكن على الأنصار بخاصتهم، لأنهم قومه الذين خذلوه. وإذا كان هذا كان الزعم أنه "يمثل المعارضة" زعماً مضحكاً. ثم يبقى قول أستاذ الجامعة "ولولا أن القوة المادية كانت إذ ذاك إلى قريش " وما ندري من أين جاء بهذا إلا أن يكون سخافة من سخافاته، كأنه خيل إليه أن الأنصار لو كانوا يملكون القوة المادية لذهبوا بالخلافة، فلما ذهبت بها قريش كان ذلك نصاً على أن القوة كانت فيهم. وهذا الأشتاذ والله في حاجة شديدة إلى طبيب يحميه الاستنتاج كما يُحمَى المريضُ الأطعمةَ الغليظة، ونحن نشير عليه أن يرحم نفسه فلا يحمل ذهنه على هذا النوع الدقيق من معاناه الفكر، فإن لم يرحمها فليرحمنا. . . كيف تكون القوة المادية في قريش، وفي خبر اختلاف الأنصار معهم أن الحباب بن المنذر قال: يا معشر الأنصار، ملكوا على أيديكم فإن أبوا عليكم ما سألئموه فأجلوهم عن هذه البلاد، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين مَن دان. أفيكون هذا كلام الأنصار ومنطق أسيافهم ومبلغ عزيمتهم ثم تكون القوة المادية إلى قريش ولا تذعن الأنصار إلا خوفاً ورهباً من هذه القوة لا رغبة ولا إسلاماً ولا إيماناً ولا إرادةَ وجه الله ولا تأثراً بعاطفة؛ ثم ما معنى "القوة المادية "، أكانت وزارة الحربية في قريش، أم كانت في أيديهم مصانع الذخيرة. . . أم كان سلاحهم السيوف والرماح، وسلاح الأنصار العصي والنبابيت. . .؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رجعتُ إلى النسخة العتيقة التي عندي من كتاب "كليلة ودمنة" وقد قلت إنه ليس مثلها عند أحد غيري، وأنه لا تأبى عليها حكمة ولا تهولها حادثة ولا يتعاظمها مَثل، وقد تصفحتها لعلني أصيب فيها مثلاً للجامعة وشيخها صاحب المعجزات والخوارق، فإذا كليلة يقول في بعض قوله: فاضرب لي مثلاً في الرجل تعجبه نفسه فتغرُّه فتقحِمهُ في الجهلة المنكرة يراها وحده علماً ولا يعرفها الناس أجمعون إلا حمقاً وجهلاً، فإنك أمسكت عن الحديث آنفاً عند مثل المدرسة التي زعموا أن اسمها الجامعة في إيمانها بشيخها وتربصها أن تقع منه المعجزة، وقلتَ إنه كان رجلاً مفتوناً فجمعت عليه بين الغرور فيه والغفلة منها، وزادت في حمقه بضعف تمييزها فانقلب لا يمسكه عقل ولا دين، وإنه كان يتقي بعض السوء على نفسه، وكان يعتبر على علمه بعض الاعتبار، فلما رأَى الجامعة مهملة مُخلاة ورأى أنه وحده فوق المئذنة وأن المصلين وإمامهم على الأرض، أذن في المسلمين بلغة الروم، وقال: إذا كان المصلون غِرباناً فالمؤذن ولا عجب من البوم. . . وزعمتَ يا دمنةُ أنها كانت مدرسة كمدرسة الحمار، فما مثل مدرسة الحمار؟ قال دمنة: زعموا أنه كان بأرض كذا حمار خُيًل إليه أنه عظيم الهامة حتى لا يكبره الثور إلا بقرنيه، وغمه زيادة القرنين في الثور، فلما فكر وقايس واعتبر صح عنده أن أذناً من أذنيه الطويلتين ترجح بالقرنين جميعاً وكان حماراً ذا قياس ومنطق عجيب، فزعم لنفسه أن رأساً في قدر رأسه لا بد أن ينشئ عقلاً، وأن عقلاً كهذا العقل يباع إنساناً، وأن إنساناً لا يكون حماراً، فاهتدى من ذلك إلى أنه خلقٌ غير الحمير وقال: فما يمنعني أن آتي عملاً لا يتعلق فيه أحد بذيلي. ثم يكون دليلاً في الحمير على أني فوق الناس، فإنه يُشبه أن أكون لهذا خلقت، وما ينفعني أن أكون فخم النهيق، إن لم يكن معي من القدرة والتمكين ما تحصل به الفضيلة على من لاينهق؟ قال دمنة: وكان له صديق منِ الكلاب يأنس به جماعة من صبيان القرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فيمسحونه ويطعمونه ويعبثون به، فأسرَّ إليه الحمار يوماً أنه ليس حماراً. قال: وما عساك تكون؟ وما هذا الجلد؟ وما هذا الحافر؟ ثم اقتصه القصة فزعم له الحمار أن هذا الجلد الذي هو فيه إنما أشبهَ به الحمير ليكون إرهاصاً للمعجزة التي بُعث بها! قال الكلب: وإنك لصاحب معجزة؟ قال: نعم فإياك أن يعتريك شك أو تكذيب، وإنما بعثت حماراً لأن جنس الإنسان قد فطر على ضرائب من اللؤم والخمسة والدناءة فليس أقربَ إليه من الشك والحسد والجحود، وما تغني فيه الآيات والنذُر، ولا يجيئه من نبي ولا رسول بمعجزة إلا حسده فردها عليه بالحسد فكفر بردِّها عليه، وكان في الأنبياء مَن فَلق البحر ومن أحيا الموتى ومن شق القمر نصفين، ثم لا يزال الكفر مع ذلك باقياً على الأرض فلم يَغُز كما يغور الماء، ولم يمت كما يموت الحي، ولم يَبْل كما يَبلَى الميت، فلعمري ما بقي في حكم العقل ولا في حيلة الظن لإيمان هذا الجنس الممقوت إلا أن تجيئه المعجزة في جِلد حمار! قال الكلب: لعمري وعَمرُ أبي إن هذا لهو الرأي، وإن أمرك لأمر له ما بعده، وأنا حَوارِيُّك في هذه الرسالة، أخبرني ما أنت صانع فلعلي أن أقوم فيه مقاماً، فإنك لتعلم ما عندي من الوفاء والأمانة، وأنت حقيق أن يستكفيني بعض أمرك، فقد عُرفنا معشر الكلاب بهذه الخلال الفاضلة، حتى إن الناس لا يجدون لهم أمثالاً يضربونها إلا منا كلما ذكروا الوفاء أو تمثلوا فيه. قال الحمار: أخزى الله هؤلاء الناس؛ يضربون بكم المثل في الأمانة والوفاء ثم لا يَسبُّ بعضهم بعضاً إلا قالوا يا كلب ويا ابن الكلب. . .! قال دمنة: ثم إنه قال للكلب: ادْنُ مني حتى أعهد إليك، وإياك أن يعتريك داء الكلام في الصياح لكل نبأةِ فتفشي ما ائتمنتك عليه؛ فقد قالت العلماء إن أشقى الخلق من شَقَى بصاحب معجزة! قال الكلب: وإن كان حماراً. . .؟ قال: اعْزبْ عني فَعل الله بك وفَعَل، ما أنتَ بصاحبها وإن الكلاب لكثيرة بعدُ؛ وتالله إن رأيتُ كلبَ سَوْءٍ كاليوم؛ فانكسر الكلب وخشي أن يصيبه ما قالت العلماء، وبصبص بذنبه قليلاً ثم إنه دنا من الحمار وقال: ما أخطأ الناس في تنابزهم بالكلاب فقد عرفتُ معرَّة جنسي، وأنا تائب إليك مما فرط مني، فاعهد إليَّ بعهدك وخُذني بما أحببت فلن تجدني إلا حيث يسرك أن تجدني. قال الحمار: بارك الله عليك " وأَعظَم " لك. . . فقد ترى هؤلاء الصبيان الذين يألفونك ويُلقون إليك بَكسر الخبز، فانظر فيما تحتال به حتى تأتيني بهم فإن أولَ بَدأتي في المعجزة أن أكون معلم صِبيان. فذهب الكلب فربض على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مَزجَر قريب منهم وهم يتعابثون ويلعبون، ثم قام فانسل أصغرهم فتمسح به، ثم التقم خبزته فوثب بعيداً، ثم جعل يستطرد لهم ويعدو عدواً رفيقاً وهم يتبعونه يريدون أخذه وإمساكه، حتى إذا جاء موضع الحمار دفع بين رجليه، ورفع الحمار راية ذيله فأصبح الكلب في حمايتها. . . وكان هذا الحمار قد رأى في بعض أسفاره قراداً يرقص قرداً وقد اجتمع له الصبيان، وعاين ما استخرجته حركات القرد من عجبهم ولهوهم، فلما اجتمع أولئك الصبيان يريدون أخذ الكلب طَفق يصنع لهم كما رأى القرد يصنع، وبذل في ذلك غاية جهده وبلغ فيه منتهى حماريته. . . فبهِتَ الكلب وجعل ينظر كالمتعجب ويقول في نفسه: أقرد هذا أم حمار؟ وأين ويحه المعجزة التي زعم، فإنما هذا رقص كالرقص. وإذا كان الرقص أكبرَ أمرِه فما في أمره كبير عندنا؛ فإن أهوَنَ الكلاب لأقوى عليه من أعظم الحمير. قال دمنة: وكان في النظارة خبيث نقاد، فقال: ما لهذا الحمار وخِفةَ القرود ونَزَقَها وما تصنع من الطيش؛ إِن هذه الشياطين إِنما تُتخذ لمحض اللهو والعبث، وهذا الغبي لا يرتبط إلا للحمل والمنفعة، فإذا هو ركبتهُ هذه الطبيعة وتُرك لها حتى تأخذ مأخذها فيه فوالله إن بقي أحدٌ يأمنه على أولاده، ويوشك أن يَقمص بأحدهم هذا القِماص فيرمي به فيدق عنقه أو يهشم عظماً من عظامه. ثم إنه راغ إلى داره فجاء بهراوة غليظة والحمار في عمَى مما يصنع. وقد قام في نفسه أنه موحَى إليه، وأنه أكبر معلم للعلم في أكبر مدرسة في الدنيا. . . فما راعه إلا الخبيث قائماً يدق ظهره بالهراوة وأسرع الصبيان فتناولوا ما أصابته أيديهم من عود وخشبة وجلدة وما خف وثقل وداروا بالأستاذ الحمار فاعتَوَرُوه، وخرج الكلب يشتد عدواً حتى إذا نجا بعيداً أنحى على نفسه وقال: ويحك يا نفس! ما كان أجهلك! لقد كدت والله تهلكينني، أفيمكن في عقل العاقل أن تكون معجزةُ حمار إلا شيئاً كتقليد القرد. . .؟ * * * وما دمنا في التقليد وانتظار المعجزة من وراء العجزة فإتا نقول إن فلاسفتنا المضحكين من أمثال طه حسين يُخرجون عجزهم مخرجَ الحيلة. فيُحكمون له التدبير ويأتون به في مثل أسلوب السحر والتلبيس والشعوذة، فإذا امتهدوا له من صناعتهم وبذلوا فيه العفو والجهد ثم جاؤونا به، نظرنا وحققنا فلم نر شيئاً، فقلنا: ما أهون وما أضعف وما أسخف، ثم قلنا لهم إنكم مقلدون مفضوحون؛ وإن أحدكم لهزيل ولا يرى إلا حُلة البادن الغليظ، وقصير ثم لا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 يلبس إلا ثياب المارد الطويل، ومفلس ثم لا ينفق على أعين الناس إلا ذهبا أصفر فهو ماذا؛ ثم قلنا لهم إنكم علماء بالعلم الذي تسرقونه ولكنكم جهلاء لما تتعاطون من السرقة، وإنكم فلاسفة بالآراء التي تنتحلونها ولكنكم أغبياء لما تصنعون من سوء الانتحال، ومصلحون بالأقوال التي تزخرفونها ولكنكم مفسدون لجهلكم عواقب هذا التمويه. ثم قلنا إننا لا ننخدع ولا نغتر ولا نتعبد للأسماء، ولتأت الأسماء من حيث هي آتية في المغرب والمشرق فهاتوا حققوا فلسنا في سرعة التقبل منكم مثلكم في سرعة الأخذ من الأوروبيين، ولا نحن في الشراء من دين الغرب مثلكم فيما بعتم من دين الشرق، وفصلُ ما بيننا وبينكم أن في أيدينا أصل الفضيلة فهو قياس لرذائلكم عندنا كما هو قياس لفضائلنا عند أنفسنا؛ وفي أيديكم أصل الهوى فهو قياس لكل شيء عندكم إلا ديننا وفضائلنا، ثم قلنا لهم من علامة الضعف في عقولكم الجبارة. . . والاستخذاء في نفوسكم الراقية. . . أنكم تقدسون فلاناً وفلاناً من فلاسفة الأوروبيين حتى فيما يؤخذ عن سواهم، وتحقرون فلاناً وفلاناً من فلاسفة الشرقيين حتى فيما لا يؤخذ إلا عنهم؛ فهل هذه ويلكم إلا سِمَةُ المستعبَدين والعجزة والمتواكلين، تجعلون الأسماء الأوروبية كأنها أسماء الدول العظمى والأسماء الشرقية كأنها أسماء المستعمرات، ولا تعلمون أيها الفلاسفة المغرورون أن هذا من شر ما تستعبد به الأمم الضعيفة؛ لأن قديمنا الذي تزرون عليه يذهب في جديدهم الذي تدعون إليه، ثم لا يكون جديدهم من بعد إلا مزجا بيننا وبينهم، ثم لا يكون هذا المزج إلا لعاب السياسة في أشداق الاستعمار لإساغة اللقمة أولاً وَحدرِها ثانيا وهضمها بعد ذلك. فإذا قلنا لهم هذا ونحوه قالوا: متحجرون، وقدماء، وأنصار القديم. فنعم نعم؛ غير أننا مع ذلك نلين لما لا يكْسِرنا، ونتجدد بما لا يفنينا، ونريد أن تبقى الأمة ولو هلك ألف من أمثال طه حسين، لا أن يبقى هؤلاء وتهلك الأمة، وما هلاك الأمم بالانقراض ولا بالأوبئة ولا بما يجتاحها من اصطدام النواميس، فإن مع كل شيء من هذه ونحوها عذره القائم وضرورته الملجئة، ولكن الهلاك الذي لا هلاك غيره أن تضعف الضمائر المؤمنة وأجسامها ضارية، وتمحق الفضائل والشهواتُ عنيفة، وتموت العقائد والحياة قتال ونزاع؛ فإن كان الشك والزيغ ومذهب فلان وطريقة فلان ورواية فلان والجامعة المصرية وطه حسين والبلاء الأسود - إن كان هذا مما يؤدي إلى ذلك أو بعض ذلك فالنجاةَ النجاةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أيتها الأمة والسلامةَ السلامةَ، فإن هذه الجامعة المشؤومة لا تصنع لك دينا بدينك، ولا تؤلف لك فضيلة من فضائلك، ولا ترد عليك ما تسلبك من ذات نفسك، وما حجتها إلا حجة الزنادقة في كل عصر، وما حجة الزنادقة إلا حرية الفكر والبحث، ولو لم يكن في الإنسان إلا الفكر وحده لقلنا عسى. . . ولكن هناك النية القائمة على الخلق، والخُلق القائم على الطبع، والطبع الذي منه خبيث لا يطيب وطيب قد يخبث! النجاةَ النجاة أيتها الأمة، فلو استطاعت الجامعة المصرية أن تجعل هذا المغرور طه حسين يرد على الميت عمره وينقله من قبره ويجعله تلميذاً في الجامعة يكفر بإبراهيم وإسماعيل ومحمد صلوات الله عليهم - لما أمكنها أن ترد على ملحد إيمانه الضائع، وعلى شاك يقينه الذاهب، وهذا لو أنها تكفر أبناء المسلمين بالعلم وللعلم، فكيف والأمر كله جهل في أستاذها وسقوط في نفسه وضعف في عقله وسوء تقليد منه أو تقليد سوء، وهو رجل لا يعرف علته الفلسفية ولا يدرك أنه منهزم أمام الحس، فهو يهدم ويخرب بقانون طبيعي فيه، لأنه أشعل من داخله لينفجر من داخله ولما منعته الحياة أن يعبث بحواسه ذهب عبثه كله إلى فكره وتسلط على لسانه، فهو رجل قانونه الطبيعي أنه مهما يأخذُ يفسِد ومهما يدع يصلح. . . ولقد أفسد مذهب ديكارت وعدا عليه، فإن هذا الفيلسوف لا يأخذ بمذهبه إلا مَن يحسن التفكير ويقوى على أن ينتج فيه إنتاجاً صحيحاً ويستجمع لذلك مادته الطبيعية من الذكاء والعلم والرأي. وإلا فديكارت إذن أحمقُ، بل يكون أجهلَ الخلق، إذ لو أطلق لكل إنسان أن يشك ويذهب بفكره ما يذهب على قدر ما يتهيأ له من الوسائل لانقلبت الأرض مارستاناً للمجانين، ولخرجت كل حرية عن وضعها في الطبيعة وفي الاجتماع وزاغت عن طريقها في نظام الدنيا القائم على اختلاف أنواع الحرية لا لتتنافر بل لتلتقي في الغاية، وعلى اصطدامها لا لتتناقض بل لتنتظم في ترتيب بعينه، ومن أجل ذلك يرجع ديكارت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فلسفته إلى الشخصية، وليس بهين أن يقال في هذه الشخصية إنها حيث يطمع كل طامع. وإن ديكارت مع ذلك ليخشى على التكوين الاجتماعي من الشك، لأن الشك لا حدَّ له، إذ هو المجهول كله، فهو من أجل هذا يشترط أن لا تُمس أصول الدين ولا يُجترأ على ما أنزله الناس في منزلتها من أصول العادات؛ وكل ذلك على ما فيه من القيود لا يتفق على أحسنه إلا لمن كان عقله من الذكاء والنفاذ كأنه قيد للمعاني والخواطر، فهو إطلاق لا يراد منه الإطلاق الأحمق كما ظهر في كتاب أستاذ الجامعة، بل تقيد الحقيقة التي لا سبيل إليها إلا من البصيرة، وما البصيرة أن تَعمَى عن الحق بشيء من العاطفة أو العصبية، ولا بشيء من الجهل أو ضعف الذهن، فإن هذين كهذين، ومذهب ديكارت كفه تجده على أسماه وأبعده من الاعتراض وما يدخله من الشبهة في قوله تعالى: (هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) وأنت فلا يذهبن عنك معنى "البصيرة" وأنها أذكى الذكاء وأسمى العقل وأقوى الخلق وأصح الطباع، وكل ما نفذ بك إلى الحقيقة المستكنة في حجبها وجنبك عمى النفس بدرجاته المختلفة، وهذه البصيرة كلمة واحدة ولكن كل وسائل الحقيقة واليقين منطوية فيها فهي من الكلام الجامع المعجز، ثم إنها قيد ينفي عن هذا المذهب من لم يكن قد جعلته الطبيعة من أهله أو لم تكن الطبيعة هيأته بالأسباب التي بها يطيقه وبها يُحسن القيام عليه. وأغرب ما في هذا القيد أنه يقيد السبيل أو المذهب بالدعوة إلى الحق خاصة ولا يطلقه في كل دعوة، إذ كانت النفس الإنسانية لا تتعاطى هذا الشاو البعيد إلا إذا قويت بالحق قوةَ بالغة وكانت من أسمى النفوس وأعظمها وأقربِها إلى الانسلاخ من جلدتها الأرضية، وفيما عدا ذلك فهذا المذهب الفلسفي وهم وخيال وتجاوُز لمقادير الحقائق في طلب هذه الحقائق وأنت خبير أن الصدق إذا نقصت منه كلمة فغيرت من حقيقته استحال كذباً، وإذا زيدت فيه كلمة فغيرت من حقيقته رجع كأنه نقَص ولم يَزِد وما الزيادة والنقص إلا من هوى أو جهل والهوى بعضُ أثرِ النفس، ولن تجد التهمة على الحقائق إلا حيث تجد هذا الأثر. وانظر ماذا يقول أناتول فرانس في مثل ما يزعم طه حسين أنه ينتحله من مذاهب النقد المجرد، فهو يقول: "إن النقد لا قيمة له إلا قيمة الناقد، وهو كالنوع من أنواع القصص، وما مرجع القصة على الحقيقة إلا سيرة من يقضها، فبنفسه يكتب عن نفسه. وهؤلاء الذين يباهون بأنهم يضعون في فنهم شيئاً غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أنفسهم لا تعدهم إلا في المغرورين، ولا يكبرن منهم أحد في وهمك، فإن الإنسان لن يخرج من ذاته ". ويقول الفيلسوف الإنجليزي جون تيودور مرتز: " إن هذه الطريقة التي يعكف عليها من يزعمون التجرد للحقيقة تنتهي إلى أن ينظر إليها الناظر فيراها طريقة لم يبتغ أهلها أن ينطلقوا من قيود التقليد، بل هم خدعوا أنفسهم أو خدعتهم فظنوا أنهم أحرار فيما صنعوا وما كانوا قطّ إلا مقيدين بخيالهم مستسلمين لوهمهم الذي يتحكم فيهم التحكم كله ". ونحن لم نقل في طه حسين إلا هذا، فهو يتوهم على التاريخ وعلى الحقائق، ثم يتسيب بالوهم إلى الحكم؛ وهو يطلق لنفسه كل قول عرض له، ثم يجعل ذلك من العلم ويُكرِه العلم على قبولُه، وقد يكون جاهلاً بالخبر وأصله، ومع ذلك يقول صدقوني وكذبوا الناس، وتراه سقيم الفهم ضعيف التخريج ثم يأبى إلا أن تكون الأذهان كلها على أساس من فهمه. وهو بعدُ خبيث ملحد مستهزئ يقلد أناتول فرانس في السخرية، والمعرِّي في الإلحاد على بُعد ما بينه وبينهما، ثم لا يريد إلا أن تكون نفسه هذه روحَ التاريخ الإسلامي. فإن امتنع أن يكون التاريخ قد جاء منه إذ كان قد سبقه في الوجود لم يمتنع أن يُخرج هو حقائقَه وفلسفته مطبوعة بطباعه زائغة بزيغه، فلا يأتينا إلا بما هو من جنسه، ولا يُخرج لنا غير المضحكات التي لا تليق إلا بأمة من أمثاله، ولقد والله وإن تاريخ لا يصحح ولا يحقق إلا بمثل طه حسين، ولقد والله ذلت أمة لا يكون القول في تاريخها إلا لمثل "عارورة الجامعة" كما سماه الأستاذ وحيد بك (1) . وسنأتيك الآن بمضحكة عجيبة من مضحكات دروس الجامعة المصرية. فقد تكلم أستاذها عن القصص عند المسلمين ليثبت أنه من أسباب الوضع في الشعر، فزعم في صفحة 92 "أن الأدب لم يُدْرس في العصور الإسلامية الأولى لنفسه، وإنما دُرس من حيث هو وسيلة إلى تفسير القرآن وتأويله واستنباط الأحكام منه ومن الحديث، وكان هذا كله أدنى إلى الجد وألصقَ به من هذا   (1) نال الأستاذ طه حسين ألقاباً كثيرة من الأمة، منها إبليس الجامعة وبومة الجامعة، وفيضة الجامعة، وعارورة الجامعة، وأبو جهل الجامعة، وغيرها. أما هذه الجامعة فظهر أنها أبعد في الموت من أن يصل إليها صوت من أهل الدنيا. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 القصص الذي كان يمضي مع الخيال حيث أراد ويتقرب من نفس الشعب ويمثل له أهواءه وشهواته ومُثُلَه العليا، فليس غريباً أن ينصرف عن القصص أصحاب الجد من المسلمين " انتهى. قلنا: وهذا عجيب جداً من أستاذ الجامعة، فإن معناه أنه لم يشتغل بالقصص إلا أصحاب الهزل والرقاعة. ونحن نقرر أنه لم يكن يقص في أولية هذا الفن الإسلامي إلا أصحاب الجد من المسلمين وبه عُرِفوا وبهم نشأ وبفصاحتهم نبغ، وهذا الحسن البصري كان أشهر قاص في زمنه، وهو من سادات التابعين وكانت أمه مولاة لأم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت أم سلمة تُرضعه أحياناً؛ وقد قالوا إنه جمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة، وقال أبو عمرو بن العلاء إنه ما رأى في عصره أفصح منه؛ ولكن أستاذ الجامعة يخلط في معنى القصص والقاص لأنه يريد بعد هذه العبارة التي كتبها أن يأخذ اسكندر دوماس صاحب القصص الفرنسية المعروفة - وهو من أكبر المزورين والمدعين والمنتحلين - فيقحمه في التاريخ الإسلامي ويشبه به علماءنا كما سيأتي بعد، فيجعل القصص بذلك روايات وخيالات، أو كما يقول: " أهواء الشعب وشهواته ". . . ثم إننا نقرر له أن القاص لا يسمى قاصاً عند المسلمين إلا إذا كان يقص للتعليم والوعظ وللتذكير بالآخرة والتزهيد في الدنيا وحفظ الروح والخُلق ونحوهما، وأن أساس هذا الفن كان تحريضَ المؤمنين على الجهاد والترغيبَ فيما عند الله وإيثاره على الحياة، فكان مرجع القاص في قصصه إلى التفسير والحديث والحكمة وما تناوله من أخبار الماضين وما لا حرج عليه في وضعه مما يراد به غرض من تلك الأغراض، وقد قرروا أن الحديث الضعيف يُعمل به في فضائل الأعمال، فكذلك القصة الموضوعة يؤخذ بها في الوعظ دون التاريخ؛ لأنها إنما وضعت لذلك دون هذا؛ وما نشأت أهواء الشعب في القصص إلا بعد أن تعاطاه الهفال المقتحمون عليه من غير أهله وجعلوه من عملهم للحياة والعيش، ومع هذا فأمثال هؤلاء يعرفهم العلماء من أول التاريخ ويعدون قصصهم بدعة ويحذرون منهم كما يحذر أهلُ كل علم من الواغلين عليه. وبعد أن ذكر الأستاذ مصادر القصص على زعمه قال: " إن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يَزِنه الشعر من حين إلى حين" (كذا، وإنما لحين الزمن) وضرب مثلاً بألف ليلة وليلة وقصة عنتر، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قال: "وإذن فقد كان القصص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حد لها من الشعر يزينون بها قصصهم ويدعمون بها مواقفهم المختلفة". فتأمل بالله كيف يقاس أولُ الزمن أيام بني أُمية على آخر الزمن أيام قصة عنتر؛ ونحن نقرر للشيخ أن القصص أبعد أنواع الكلام عن اجتلاب الشعر وعن الحاجة إليه ولا يدخله منه إلا مقادير قليلة حيث يراد الشاهد والدليل، فسبيل الشعر في هذا سبيله في غيره من فنون الأدب جميعاً. وإذا وضع القاص شعراً أو وُضع له شعر فإنما يكون قليلاً على جهة التظرف وليستروح إليه من الجد ويعلل به من يقص لهم استجماعاً للنشاط، فهذه واحدة، والثانية أن يقصد إلى الإغراب في الخبر الذي يقصه ليقال إنه واسع الحفظ، وهذه كانت سبيل الرواة أيضاً فيما وضعوه من الشعر، والثالثة أن يكون القاص قد وعظ ويريد المبالغة في التأثير فيُجري في كلامه قليلاً من الشعر كما تتغرغر الأعين ببعض الدمع؛ وليس غير هذه، ففي أيها تجد المقادير التي لا حد لها. ثم يقول الشيخ طه: "وأكاد لا أشك في أن هؤلاء القُصاص لم يكونوا يستقلون (يريد يقومون) بقصصهم ولا بما يحتاجون إليه من الشعر، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم من الأحاديث والأخبار ويلفقونها، وآخرين ينظمون لهم القصائد (صارت قصائد لا أبياتاً ومقاطع) . قال: ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض، فقد يحدثنا (كذا) ابن سلام أن ابن إسحاق كان يعتذر عما (كذا) كان يروي من غُثاء الشعر فيقول: لا علم لي بالشعر. إنما أوتى به فأحمله" فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله. فمن هؤلاء القوم؟ انتهى خلط الرجل. وهذه عجيبة من عجائب الفهم. فإذا قال ابن إسحاق إنما أوتى بالشعر فأحمله، وكان ابن إسحاق من المعروفين بالكذب، لم يكن كلامه عند طه إلا صدقاً، ثم لم يكن معنى كلامه إلا أن قوماً يدقون عليه بابه ويهزأون به ويقولون يا ابن إسحاق خذ الشعر واروِه؛ ومن ترى يكون هؤلاء المجانين الذين يُغنِتون أنفسهم ويكدْون الذهن ويتعبون الخاطر في عمل الشعر ليسمعوه بعد ذلك مروياً لعاد وثمود وفلان وفلان ممن هلكوا وبادوا. إذا كان ابن إسحاق بهذه الغفلة وجب أن لا يُصدق ولا يؤخذَ كلامه مأخذ النص ألبتة. على أن عبارة ابن سلام هكذا: وممن هجن الشعر وأفسده وحملَ - يعني روى - منه كل غثاء: محمد بن إسحاق، وكان من علماء الناس بالسيَر، فقبل الناس منه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر إنما أوتى به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فأحمله؛ ولم يكن ذلك عذراً، فكتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط. . . الخ!. فأنت ترى أن الكلام يدور على تهجين الشعر وإفساده، ومثل هذا لا يستقيم في العقل أن يعتذر منه ابن إسحاق بقوله لا علم لي بالشعر، إلا إذا كان رديئاً فاسداً وكان من ساقط الكلام وما لا يجوز على أهل البصر بالشعر، فإذا كان على هذه الصفة فلم لا يكون من عمل ابن إسحاق الذي لا علم له بالشعر ويكون العذر تلفيقاً من كذبه؛ وإن يكنْ أن هناك قوماً يصنعون له الشعر ويأتونه به، فيبقى أن ابن إسحاق ليس أعجمياً؛ بل عربياً بليغاً؛ وكلامه في السيرة من الطبقة الأولى؛ ومن كان بهذه المنزلة وكان في حاجة إلى الشعر وجب عليه أن يستجيد له فلمَ يُهمل أن يختار لعمل الشعر شعراء وهم كثيرون فيأتونه بالجيد لا السفساف، وإذن فلا يكون ما يحمله غَثاً ضعيفاً؛ وإذن فلا وجه لأن يعتذر منه بقوله لا علم لي بالشعر. فإن قلت إنه كان بليغاً يميز جيد الكلام من رديئه وكان هو الذي يصنع الشعر الهجين الفاسد وجب أن لا يرضاه لمكانه من الضعف، قلنا: هذه شيمة العلماء، حتى إنهم جعلوا شعر العلماء طبقة على حدة، وهم يتسمحون في الرديء من شعرهم لأنهم لا ينافسون به أحداً ولأنهم غير معدودين في الشعراء. وطه حسين نفسه يقع في مثل هذا. فهو يميز الشعر؛ وإن له لشعراً في منتهى الركاكة، سنطرف القراء بشيء منه في بعض ما يأتي: فهما اثنتان في تأويل خبر ابن إسحاق لا ثالثة لهما، وكلتاهما نقض للأخرى، وكلتاهما هدم على أستاذ الجامعة ودليل على سوء فهمه. وهنا نمسك القلم خمس دقائق لنضحك من الجامعة كما نضحك من شارلي شابلن، الممثل الهزلي المشهور، فقد كشفت الجامعة المصرية عن آثار مصنع إسلامي عظيم للتلفيق والكذب رؤساؤه العمال من القصاص والعمال فيه طائفتان عظيمتان، إحداهما لتلفيق الأخبار والأخرى لوضع الشعر، وكلما اجتمع مقدار من إنتاج المصنع أرسل إلى الأسواق، وذلك حيث يقول طه في صفحة 96: "أليس من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب، إنما كان كل واحد منهم - تأمل - يشرت على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النطام والمنسقين، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم. . . وأذاعوه بين الناس، ومثلهم لي هذا مَثلُ القاصق الفرنسي المعروف " إسكندر دوماس الكبير" اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ولكن يا سيدنا ومولانا أنت تعلم أنه كان من الرواة والعلماء والمتكلمين قوم متعصبون على العرب قد نحتوا أثلتَهم نحتاً، كأبي عبيدة صاحب كتاب المثالب الذي هتك فيه العرب وتناول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم علماء الشعوبية؛ ثم متكلمي الزنادقة وأدبائهم، وكانوا كلهم معاصرين للقصاص الذين تتكلم أنت فيهم؛ فكيف سكتوا ولم يفضحوا العرب وتاريخهم وأدبهم بهذا المصنع العجيب، وكيف غفلوا كلهم عنه وتركوه لك لتكشفه بعد ألف ومائتي سنة؛ أيكون سكوتهم عن ذكر ذلك إلا دليلاً قاطعاً على كذبك أنت فيه؟ النصّ النصّ إن كان عندك رسم المصنع وحجته الشرعية. . . وإلا فاستر على نفسك يرحمك الله! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وشعر طه هو طه الشعر نريد أن نسجل في هذه المقالات كلمتين كبيرتين، فإننا إنما نكتبها لجيل سينتهي وأجيال ستبئدئ، ولقد رسخ في يقيننا أن الله تعالى ما أشهر أستاذ الجامعة بهذه الفضيحة التي نشرها في آفاق الأرض ملكُ الرعد. . . إلا ليجعله خزياً لقوم ملحدين، وعبرة لقوم منافقين، ومثلاً عند قوم مؤمنين، وما لغير حكمة وتقدير كانت الفضيحة مدخرة حتى تُفتح هذه الجامعة الكبرى لتبدأ تاريخ العلم العالي في مصر ويرتقي طه منصبه فيها، وقد ملئ غروراً وزهواً واستطال وبذخ وتوافرت له العلل من نفسه ومما حوله ورفعته في طويل أرادت أن يكون حبال المعالي وأراد الله أن يكون من حبال المشانق. . . فلو هو سقط هذه السقطة في غير هذه الجامعة لوقع بالجناحين اللذين ارتفع، ولكنها الجامعة التي قالوا إنها أكبر من جبال الألب، فلما تمت صنعة الجبل في بضعة أشهر (1) وأراد القدر أن يعلن في الناس مبلغ علوه وارتفاعه لم يكن القياس إلا طه حسين يتدحرج من أعلاه إلى أسفله. . . إن للأقدار مقاييس عجيبة لا يراد بها الكمية ولكن الكيفية، ولا يُطلب منها تحديد الشيء في ذاته ولكن تحديده في عواقبه. ويكون القياس على هذا اليوم الذي نحن فيه مثلاً، ولا يراد به إلا مقدار ما سيكون في غد أو بعد غد أو أي الأزمنة مما يُستقبل، ويأتي رجل كأبي جهل فيكون في أول الإسلام قياساً للكفر والتعصب في الكفر واللجاج في التعصب، ولكن كل ذلك مَرَده ليشد النبوة ويقيمها على طريقها ويسددها فيه، كان الأقدار تبني بناء فإذا سألت ما الأساسُ قيل لك أوله هذه الحفرة. . . والأستاذ طه حسين هو حفرةُ اليوم، وكان لا بد من حفرة إذا لم يكن بد من أساس، فالله أعلم ماذا يبلغ هذا الأساس وماذا يحمل، أما الحفرة فأمرها   (1) كانت هذه الجامعة مصنوعة لم تقمها أصبابها، وإنما جاءت تلفيقاً بغير رجالها وفي غير وقتها ولغير طلبتها، وهذا من أكبر أصباب سقوطها، فما ير إلا دار وموظفون وقانون وأسماء وكلام قضى صنة كاملة ينتظر معانيه، فلينتظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 إلينا نتولاها كيف شئنا بعد أن غارت وانخسفت، وإنه من أجل ذلك نفيض فيما نكتبه ولا نزال نتبسط في الشرح ونتسع في تحليل نفسية طه وإيراد معايبه وبيان أغلاطه وأسبابها، ومن أجل ذلك نسجل هاتين الكلمتين كما أشرنا آنفاً، إذ هما عندنا باب من القول على حدة. فالكلمة الأولى هي للدكتور طه حسين حديث له مع جريدة " الأنفورماسيون " ترجمته "السياسة". قال والإشارة في حديثه لحضرات علماء الدين: "قيل لهؤلاء البسطاء. . . إني أطعن في الإسلام، فشهروا الحرب علي جميعاً، وعلى أني أقول عالياً إنه ليس في كتابي كلمة يمكن أن تؤول ضد الدين، والعبارة الوحيدة التي يمكن أن أنتقد من أجلها تضع النصوص المقدسة بعيدة عن قسوة المباحث التاريخية. . . ". والكلمة الثانية للأستاذ الشيخ عبد ربه مفتاح من علماء الأزهر في مقالة نشرها "الكوكب "، وهي قوله والخطاب لـ طه حسين "وكيف تزعم أيها الدكتور أن بعض العلماء أثار هذا الأمر - أمر كفرِك - وهأنذا أصرح لك - والتبعة في ذلك على وحدي - بأن العلماء أجمعين وعلى بكرة أبيهم يحكمون عليك بالكفر، وبالكفر الصريح الذي لا تأويل فيه ولا تجوُّز؛ وأتحداك وأطلب منك بإلحاح أو رجاء أن تدلني على واحد منهم "وواحد فقط" يحكم عليك بالفسوق والعصيان دون الكفر. أجل إني وأنا من بينهم أتهمك بالكفر وأتحمل تبعة هذا الاتهام. وعليك تبرئة نفسك من هذا الاتهام الشائن والمطالبة بما لك من حقوق نحوي. اهـ. نسجل هاتين الكلمتين للعلم والتاريخ والأدب، ثم ليعلم الناس مبلغ مصيبة الجامعة في أستاذها الذي كله مصائب، فالأعين ممتدة إليه في هذه البلاد ولا يستحي أن يظن نفسه في أرض قفر، والأمة كلها توفر علماءها وتفزع إليهم في أمر دينها وتراهم من رحمة الله بها ولا يخجل هو أن يسميهم (البسطاء) وهو يعلم أَنها كلمة عامية لا يراد بها في لسان العامة إلا البلاهة والغفلة وما إليهما. وكل العلماء إجماع على كفره الصريح حتى لا تأويل ولا تجوُّز ولا مطمع في حكم دون الكفر ثم هو تبلغ به الرقاعة أن يدعي أنه ليس في كتابه (كلمة) يمكن تأويلها ضد الدين، مع أنه لا يُهدم دين من الأديان بأنكى ولا أخبثَ من الطريقة التي انتهجها في كتابه وأدارها على إسقاط هيبة الدين وأهله في نفس الطالب الناشئ، ثم الشك فيه، ثم التأدي بهذا الشك إلى الإنكار منه، ثم التأدي بالإنكار إلى الهدم؛ وهذه درجات يركب بعضها بعضاً كما ترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وتالله ما رأيت رجلاً أَعجب من هذا الأستاذ، ولكن كلامه إنما هو صورة فكرِه، وفكرُه مظهر أخلاقه؛ وحسبُك من أَخلاقه هذا العناد وهذه المكابرة وهذا الكذب وهذه السخرية كأنه ليس في الأمة كلها إلا هو وحده يعقل ويفهم، وإذا نحن تابعناه على منطقه فكل الشهود الذين رأوا اللص بأعينهم وشهدوا على جناية يده هم اللصوص، واللص وحده هو البريء! فإن قيل له إن في هميانك ألف درهم مسروقة، ووضعوا أصابعهم عليها، قال: وليس فيها واحد يمكن أن يقال إنه مسروق. . . فإن كان فيها فإنما ذلك إبعاد للأموال المقدسة عن قسوة المباحث الشيوعية. ألا ليت شعري لهذه الجامعة، ما الذي يمنعها أن تعلم هذا المنطقَ البديع في دروس الحقوق، فإنها بذلك تخدم حرية الفكر والعمل، وإنها بذلك ترحم كثيراً من اللصوص والمجرمين وأهل الكبائر والصغائر مما تدعوها إليه الإنسانية وتحمده لها بتلك الألسنة؟ وأيم الله لو أمكن لصاً من نوابغ اللصوص أن يكون أستاذاً لقانون العقوبات وأمكن مزوراً أن يدرس القانون المدني وشيوعياً - أحمر. . . - أن يكون أستاذاً للقانون الدولي لما فعل أكل واحد منهم في دروسه إلا شبيهاً بما فعل طه حسين في درس الأدب، فلِمَ تأتي الجامعة بالرجل الملحد يحكم بكفره ألفُ عالم فتعهد إليه بدرس الفن العربي الذي معجزته القرآن، ولا تأتي باللص والمزور والشيوعي يتناولون القوانين ويفتحون فيها باب الرحمة بمفتاح ديكارت؛ وهل هذا إلا جنس واحد بعضه من بعض؟ فإن قالت الجامعة إن أستاذها ليس ملحداً ولا كافراً ولا زنديقاً، قلنا وهذا أشد خزياً ومقتاً، فأيما أقرب إلى الصدق والسداد: قولُ رجل أو رجلين أو ثلاثة لا سابقة لهم في الدين ولا صلة لهم بعلومه، أم قول ألف عالم يحملون ألف شهادة دينية وعلى مقدمتهم شيخ الجامع الأزهر؟ إنهما اثنتان عَقِمَت أم المنطق فلم تلد لهما ثالثة: فإما إباحة الخلط في كل علوم الجامعة وتَركُ الطلبة أحراراً في التفكير والاقتناع وفي الشك واليقين، فلا يؤخذ أحدهم بحفظ شيء لا يراه صحيحاً، ولا يُسأل ما رأيُ فلان في كذا بل ما رأيك أنت. . . ولا يحاسَب على خطأ ولا صواب، لأنه لا خطأ ولا صواب في مذهب الشك، بل هو كله كالدائرة المفرغة ليس فيها أطراف، وإنما لها المحيط لو شئتَ لقطعتَ العمر كله دائراً فيه بلا نهاية ولا غاية معينة، وإن كان في باب المساحة لا تزيد رقعتها على دائرة ثورِ الساقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 هذه واحدة، والثانية مَحقُ البدعة التي جاء بها طه حسين في الأدب والبراءةُ من كتابه السخيف وإعلان فساده من الجامعة ذاتها. فإن التهمة ليست على طه إلا بأنه في الجامعة، فالتهمة على الجامعة نفسها وهي وحدها المتهمة بالإلحاد والجهل والخلط وفساد التأويل والاستهزاء بالأمة وإصغار علمائها وأدبائها، لأنها هي وحدها الراضية بالكفر المُعِينة عليه المشارِكة فيه، والمقرةُ للجهل الداعية إليه المحققة له. كان الفيلسوف أرسطو يرى بعض الرأي فينكر عليه لأن أفلاطون يذهب خلاف مذهبه، فكان يقول: إذا اختلف أفلاطون والحق فأيهما أحق أن يتبع؛ ونحن نقول للجامعة: إذا اختلف أفلاطونك. . . والدينُ ثم التاريخ، ثم العقل ثم الفهم؛ فأي الفريقين أحق بالاتباع؟ وفيم نحن أيتها الجامعة إلا في بيان سقَطِه وغلطه، وناهيكِ بهما سَقطا وغلطا لولا أنكِ في فلسفتك على شبيه مما يقول أناتول فرانس في فلسفة القوانين إذ يقول: إن الاجتماع قائم على أصلين: الأول أن السرقة محرمة، والثاني أن ثمرة السرقة مقدسة لأنها من حرية العمل! فأنتِ كذلك ترين أن الأدب قائم على أصلين: الأول أن الخطأ جهل مردود، والثاني أن ثمرة الخطأ علم مقبول لأنها من حرية الفكر! والآن نظهرك أيها القارئ على سر من أسرار الخطأ في أستاذ الجامعة. وإليه يرجع أكبر السبب في كلال ذهنه وتعقد فهمه وتهافُت آرائه وأنه إذا تعاطى القول في الأدب لم يتمكن من معنى صحيح ولم يصب غرضاً واقعاً، ولا يزال دأباً يلوذ بأطراف الكلام حتى كأنه لا يفكر إلا بنصف عقل، فلا يخرج نصف كلامه إلا من لغو وعبث وخطأ، ولا يزال يعتريه ما يعتري كل من اتخذ الخلاف مذهباً فيُحيل أكثر الكلام عن جهته ويجعل الخطأ صواباً والصوابَ خطأ، ويستلب الرأي من أهله ويفسده عليهم في ظاهره أو باطنه، ثم لا يرضى إذا فرط منه الجهل أن تُبين له العلم، وإذا وقع في الغفلة أن تكشف له عن الحقيقة، فإن فعلتَ طار الغضب في رأسه فزلزله عليك زلزالاً وفجره تفجيراً وجعله بركاناً فملأه نيراناً وبذلك تميز في أمثاله ومَهر، وبان وظهر، وغلبَ وقهر، وكان واللهِ سبة لأدباء هذا العصر، فكل ما في الرجل من قوة وجرأة فإنما هو مما فيهم من جبن وانكماش. . . أما ذلك السر فهو أن طه لما عَرف من نفسه ضعف المخيلة، ورأى أنه لا يدرك ما يتعرض له ولا ينفذ إلى حقيقته، عَدَل في الأدب عن طبيعة الشعر إلى طبيعة المنطق؛ إذ كان الأصل فى هذا المنطق الاتساع في الكلام وهو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 مميزات الأستاذ وخصائصه؛ غير أن المنطق أيضاً لا يستقيم إلا بالقريحة النفاذة، وهذه القريحة من بعض أسبابها الطبيعةُ الشعرية، فلما خذلته هذه الطبيعة في المنطق كما خذلته في الشعر، عدل إلى طبيعة الجدل وهو فن من الكلام قاعدته الأشكال والمقاييس، وبناؤه على التنظيم والترتيب، ومادته الثرثرة والاستطالة؛ وأعظم مقوماته اللجاج والإصرار، ولا يُسأل فيه ما الحقيقة ولكن ماذا تريد أن تكون الحقيقة؟ ولا ما اليقين ولكن ما ظنك باليقين ولا يقال فيه ما البرهان ولكن ما الاعتراض، ولا ما النص ولكن ما التأويل وكل ذلك إن لم تقم به الجرأة والحماقة ولم يكن سبيله من السخرية وعدم المبالاة ومن الشك والوساوس وما جرى هذا المجرى، لم يستوِ منه شيء لصاحبه وخرج منه مخذولاً لا هو في حجة ولا مغالطة. فطه حسين مُكرَهٌ على طريقته في الأدب إكراهاً ما دام يريد أن يكون شيئاً مذكوراً، وإنما كان سبيل مثله أن - يتبع - غيره ويقلد ويحتذي ولا يستنكف أن ينزل على رأي من هو أذكى منه ولا يأنف أن يدخل في قوانين الناس، فلما أبى ذلك وغلبته طبيعته وأراد أن يبتاع وما فيه من الابتداع شيء، كان كل عمله أن يفسد عمل غيره؛ ولا طريقة إلى ذلك إلا أن ينقاد إلى الظن، ولا سبيل لاتباع الظن إلا الشك، ولا برهان على الشك إلا من غاية صاحبه، وهذه الغاية راجعة إلى الطبع والخلق وحالة الفكر، وكما يكون الشك أول اليقين في أهل الطباع السليمة والأفكار القوية والأذهان المرهفة، يكون آخر اليقين في ذوي الطباع المضطربة والأذهان البليدة. فطه رجل عالم فاضل، تراه من أحسن أدبائنا إذا وقف عند الحفظ والمراجعة، يقابل بين تواريخ الأمم ويستخرج ما فيها من أنواع المشابهة والمباينة ويعمل في ترتيبها، وتصنيفها، وإذا وقف عند العقل فأخذ يجمع الحواشي والمتون والتعاليق ويضم مسألة إلى مسألة وكلاماً إلى كلام في أي علم شاء مما يحسن انتحاله، ولكنك تراه من أسخف الأدباء إذا حاول التجديد والإبداع، ثم من أضعفهم إذا تعاطى ما ليس في طبعه ولا قوته مما يحتاج إلى الطبيعة الشعرية والذهن الحاد والرأي والاستنباط؛، ولا أدل على ذلك من كتابه: الشعر الجاهلي، ثم من القصص التي نقلها عن الفرنسية. فقد كنت أقرأ هذه القصص واحدة بعد واحدة، وهي لأعلام البيان الفرنسي، فلا أراها إلا كعظام الموتى ليس فيها غير المادة - الفطرية ونظام - الهيكل وهيئته -، ولو كانت كذلك - في أصل لغتها لم يكن الأدب الفرسسي إلا فضولاً، وكان أدباء فرنسا أضعف الأمم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 خيالاً وأبعدهم من الشعر ومعانيه. ولقد نقل خلاصة من رواية الزنبقة الحمراء لأناتول فرانس - وهي من أبلغ كتب هذا العبقري العظيم - فجاء بها كلاماً جافا لا ماء فيه ولا رونق له، وما ينقصها من أنواع النقص أن تكون من تأليف طه حسين لا من ترجمته! ولست أدري كيف يأتي لمن لا يكون الشعر من طبيعته أن يكون ناقدا أديباً أو أستاذاً للأدب، وفي أي أمة نجد مثل هذا، وهل كل من عرف الحساب عرف منه الهندسة، لا نظن أحداً يزعم ذلك أو يكابر فيه إلا طه، فإنه وحده يعرف من جدول الضرب. . . علوماً كثيرة منها الهندسة والجبر وحساب المثلثات والطبيعة والكيمياء وكل ما دخله العدد، ما دام الحساب هو العدد. وتراه لا يجادل في شيء بما أوتي من قوة إلا في إثبات أن الناقد الأدبي لا يجب أن يكون شاعراً، وأن المعرفة بالشعر ليست ضرورية فيه كضرورة الأداة في الصنعة لمن يتصرف بها، ولو أن الشعر كان جَدَلاً وقياساً وقواعد وحدوداً لما نازع في أمره، لكنه يعلم أنه الذوق والقريحة وهما من أسرار السموات، ويعلم أن الشمعة إن كانت نوراً فنورها غير أشعة رنتجن "فلا هم له من ثمة إلا أن يزعم أن النقد الأدبي منطق وعلم وتأمل وفلسفة" وفي بعض هذا كل وسائل النقد، وكل هذا بعض مواهبه هو فيما يدعي. ولقد رأيت كلمة بليغة للآمدي كأنما كتبها للرد على أستاذ الجامعة منذ أكثر من ألف سنة؛ أو لعله كان لهم في زمنهم طه كما لنا في زمننا، وكل ذلك (الطاها) يظن أن رِجله برقُ الأرض تطوي أقاصيها في بعض خطوات فقال له الآمدي: (ولعلك أكرمك الله اغتررتَ بأن شارفتَ شيئاً من تقسيمات المنطق وجملاً من الكلام والجدال، أو علمت أبواباً من الحلال والحرام (هذه نسيها طه. . .) أو حفظت صدراً من اللغة، أو اطلعت على بعض مقاييس العربية؟ وإنك لما أخذت بطرف نوع من هذه الأنواع بمعاناة ومزاولة ومتصل عناية فتوحدتَ فيه وميزت، وظننت أن كل ما لا تلابسه من العلوم ولم تزاوله يجري ذلك المجرى، وأنك متى تعرضت له وأمررت قريحتَك عليه نفذت فيه وكشفت عن معانيه؛ هيهات! لقد ظننت باطلاً ورمت عسيراً، لأن العلم أي نوع كان لا يدركه طالبه إلا بالانقطاع إليه، والإنكباب عليه، والحرص على معرفة أسراره وغوامضه ثم قد يتأتى جنس من العلوم لطالبه ويسهل؛ ويمتنع عليه جنس آخر ويتعذر لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبوله وما في طاقته فعلُه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فينبغي - أصلحك الله - أن تقف حيث وُقف بك، وتقنع بما قسم لك، ولا تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا صناعتك " انتهى. وقد كان أحد أصدقاء طه يجادلنا ذات يوم؛ فرد علينا ما وصفناه به من أنه لا حظ له في الشعر ولا يدَ له فيه، وقال: إن له فيه يداً ورجلاً. . . وإنه غير منسلخ من الشعر بل هو في جلد شاعرين معاً، وإنه قد انبثت خواطره في كل معنى وافتتح للناس طريقة الأدب الحديث التي جمع فيها بين بلاغة اليونان والفرنسيس والعرب، فذهب في شعره بمحاسن هذه الأمم الثلاث؛ ودلنا على أبيات كان نظمها في استقبال العام الهجري، وقال إنها نُشرت في بعض أعداد "المقطم " من زمن، فكتبنا إلى من جاءنا بها، فما منها إلا المعنى البكر والأسلوب النادر واللفظ الموسيقي، وفيها الحلاوة والطلاوة ولها رفيف وعليها ماء، حتى لو تليت على شجرة جافة لاخضرَّت ثم هي بعد آية في الدلالة على القريحة الصافية والبلاغة المتمكنة والطبع البدوي السلس الرقيق الذي عرفه هو في كتابه بأنه يُعرض عن تكرار الحروف، فقال لا فضَّ فوه، وبتعبير المذهب الجديد لا أحوجه الله إلى تركيب أسنان: ما لي وللبدر أطلب ردّه (1) . . . بل ما لأفلاك السماء وما لي لا در در المال لو لم يُدَّخر. . . لبناء مكرمة وحسن فعال لا در در المال لو لم يدخر. . . إلا لذات الطوق والخلخال لا در در المال لو لم يدخر. . . إلا لنيل مراتب الإجلال والأغنياء على الملاهي عكف. . . صرعى اللواحظ والهوى الختَّال ولا ريب عندنا أن هذه الأبيات من قصيدة طويلة ذهبت بقيتها في إحدى الزلازل، لأنه بعد هذا الشعر لا يكون إلا الرجم وانقضاض الشهب وتمزق الأرض. أفلا ترى الشيخ يقول: "بل ما لأفلاك السماء وما لي، فهذا نذير بأنها توشك أن تنقض عليه وتُتبعه شهاباً رصداً، وتأمل البيت الرابع فإنه من فرط سموه وإبداع معناه والتعميق فيه قد فسد، لأن الشاعر يلعن المال إن لم يدخر إلا لنيل مراتب الإجلال. فهل مراتب الإجلال إلا العلا والمكارم، وهل يدخر المال إلا لهذا؟ أم تكون المراتب هي الرتب والنياشين؟ وإذن فما كلمة "الإجلال " إلا سمو آخر لإفساد المعنى إذ رُتَبُ الإجلال هي رتب العظماء في   (1) كذا رأيناها منشورة، وظاهر أن أصلها ما لي وما للبدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 كل أمة. فيا صاحب هذا السمو إن كان ذلك شعرك فقد سلمنا لك ما تدعي من أن الكثرة المطلقة في الشعر الجاهلي منحولة بل كل الشعر الجاهلي مكذوب موضوع لما فيه من التوليد والسخف والركاكة، وأنه لا يمثل الحياة الجاهلية. وإنما جاءك الدليل على هذا الرأي من أنك لو كنت أنت في ذلك العهد ولجأت إليك القبائل تستكثر بك من وقائعها وأشعارها، وجاءك الرواة يحملون عنك والقُصاص لتخلق لهم ذلك الخلق - لوضعت على فحول الجاهلية من نمط أبياتك هذه جزالة وقوة وإحكاماً وذهاباً في فنون الشعر، فعضَل شعرُك بأهل النقد والتمييز، ولا تُجريه في شعر إلا أشبهته وامتزجت به امتزاج الماء الصافي بالماء الصافي وإن كانا من نبعين مختلفين فلا يعرف بعد امتزاجهما أيهما من هنا وأيهما من ثم! . . . إني والله أستحي لـ طه حسين أن يكون هذا شعره ثم يتكلم في الشعر، فإن هذا الكلام الركيك ما فصل عن نفسه إلا وبينهما شبه في الجفاء والغلظة والاضطراب والتخرق؛ وما يسقط الأستاذ أكثر ما يسقط في كتابه الشعر الجاهلي إلا من هذه العلة الشعرية في ذهنه، ومن تلك العلة الفلسفية في رأيه فما هو شاعر ولا هو فيلسوف، ولكن كتابه قائم على الشعر وإدراكه وتمييزه وتصحيح نسبته من فحول كبار أئمة هذا الفن، وعلى الفلسفة في التاريخ وتناولها الأشياء والحوادث والأشخاص من جهة عللها وأسرارها فلا جرم تهافَت وتعثر وأحال وتناقض بحيث لا يصيب في واحدة إلا أخطأ في عشر. ولم يكن بدعاً أن يجيء كتابه على مقداره فيغلب عليه الضعف ويفسده التعسف - وتنزعه النزعات - الخبيثة لا يكون كتابه في حاجة إليها ولكنها من حاجة نفسه فلا يزيد على أن يفتضح بها؛ ومن أغربها قوله في صفحة 74 إذ نقل من الأغاني عن عبد العزيز بن أبي نهشل قال: إنه قال لي أبو بكر بن عبد العزيز وجئته أطلب مَغرَماً: يا خال، هذه أربعة آلاف درهم وأنشد هذه الأبيات الأربعة وقل: سمعت حساناً ينشدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أعوذ بالله أن أفتري على الله ورسوله، ولكن إن شئت أن أقول سمعت عائشة تنشدها فعلت. قال: لا. إلا أن تقول سمعت حساناً ينشدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى علي وأبيتُ عليه، فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليال. فأرسل إليَّ وقال: قل أبياتاً تمدح بها هشاماً وبني أمية واجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك الخ الخ. قال أستاذ الجامعة المتبع مذهب ديكارت: فانظر إلى ابن عبد الرحمن كيف أراد صاحبه على أن يكذب وينتحل الشعر (كذا) على حسان. ثم لا يكفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 هذا الانتحال حتى يذيع صاحبه أنه سمع حساناً ينشد هذا الشعر بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كل هذا بأربعة آلاف درهم، ولكن صاحبنا كره أن يكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المقدار - واستباح أن يكذب على عائشة - رضي الله عنها - اهـ. فهل تجد أنت في القصة مساومة أو ما يشير إليها حتى يكون الرجل المسلم لم يكره الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لقلة الثمن؛ وهل فرق في الكذب بين أن يكون بأربعة آلاف أو بعشرة أو أقل أو أكثر إن لم يكن الإيمان هو الذي منع الرجلَ منه للحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كذب علي عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" غير أن فقه الرواية أن نفس طه في جشعها وتكالبها على المال حلالاً وحراماً وفى رقة دينها وإيمانها، هي التي أوحت إليه هذا التعليل السخيف البارد، فحسب أنه لو كان هو المسؤول أن يكذب لقال للسائل: يا هذا، إن الكذب على عائشة بكذا وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا، فإذا لم تبذل إلا أربعة آلاف فلا أكذب إلا على عائشة.. والرواية في عبارتها صريحة واضحة لا لبس فيها، ولكن طه كما وصفنا ثمرة لم تنضج إلا مُرة شديدة المرارة، فليست تُذاق أبداً إلا دلت على نفسها وتركت طعماً من مرارتها ينبئ عنها؛ ولو أن الجامعة المصرية ألحقت من أجل ذلك بشركة السكر. . . لأفلست الشركة في إحلاء هذه الثمرة ولا تحلو! ويقول في صفحة 56 "في عصبية قريش على الأنصار" إنه كان من قريش من يتجاوز الاقتصاد في العصبية إلى شيء يشبه العطف على الأنصار والرثاء لهم، ولعل الزبير بن العوام كان من هؤلاء العاطفين على "الأنصار" الراثين لهم الحافظين لعهدهم والراعين لوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فقد يحدثنا - كذا - الرواة أنه مر بنفر من المسلمين فإذا فيهم حسان وهم غير حافلين بما يقول فلامهم على ذلك وذكرهم موقع شعرِ حسان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثر ذلك في نفس حسان فقال يمدحه: وأحب أن تلتفت إلى أول هذا الشعر. فهو حسن الدلالة على ما أريد أن أثبته من دخول الحزن على نفوس "الأنصار" لهذا الموقف الجديد الذي وقفته منهم قريش، وأول الشعر هو: أقام على عهد النبي وهديهِ. . . حوارِيُّه والقولُ بالفعل يُعدَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أقام على منهاجِه وطريقِه. . . يوالي وليَّ الحق والحقُّ أعدل قال طه: "فانظر إلى هذين البيتين في أول المقطوعة كيف يمثلان ذكر حسان لعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحزنه عليه وأسفَه على ما فات "الأنصار" من موالاة النبي لهم وإنصافه إياهم " انتهى. وبعد صفحة واحدة قال: كما كان الزبير من هذه الفئة القرشية التي كانت تعطف على "الأنصار" ذكراً لعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو " احتفاظاً بمودة الأنصار ليوم الحاجة. . . ". والخبر من الأغاني في ترجمة حسان، وعبارته أن الزبير مرَّ بمجلس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسان بن ثابت ينشدهم من شعره وهم غير نشاط لما يسمعونه منه، فجلس معهم الزبير فقال: ما لي أراكم غير آذنين لما تسمعونه من شعر ابن الفُريعة، فلقد كان يعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيحسن استماعه ويجزل عليه ثوابه ولا يشتغل عنه بشيء، فقال حسان وأنشد الأبيات. فانظركم في أسباب الدلالة التاريخية بين قول الأغاني إنه مر بمجلس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول طه مر بنفر من المسلمين وهذا الخبر قد مرَّ على كل علماء الأدب والتاريخ الإسلامي فما فطن أحد إلى دلالته على حزن الأنصار وعطف الزبير عليهم "ليوم الحاجة"، إلا أستاذ الجامعة وحده؛ فأين فيه ذكر الأنصار وحزنهم على ما فاتهم، وإنما يتكلم حسان عن نفسه وإياها أراد بقوله: "وليَّ الحق" إذ كان يتولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو رجل شاعر كل مجده في إقبال الناس عليه ونشاطهم لكلامه إن كانوا من قومه الأنصار أو من غيرهم. وأين النص يا أستاذ الجامعة على أن ذلك المجلس من الصحابة كان من قريش، فإنه إذا جاز أن يكون من الأنصار فقد بطل ما جئت به؛ إذ يكون قومُ حسان هم الذين لم ينشطوا لسماعه، ثم كم من الفرق بين أن يكون سامع الشعر غير ناشط له وبين أن يكون غير "حافل " به؛ ثم أين النص على أن ذلك المجلس كان في تاريخ بعينه مع أنه يجوز أنه كان في زمن عمر بن الخطاب بعد أن استقرت الأمور ولم يبق شيء من الخلاف بين قريش والأنصار، أو بعد ذلك بزمن بعيد، فإن الزبير قتل في سنة ست وثلاثين للهجرة. وإذا علمتَ أن الزبير هو ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحواريُّه وصفيُّه وقد شهد معه المشاهد كلها فلا تسألني أنا عن معنى قول الأستاذ "ليوم الحاجة"، ولكن سل رجلاً ملحداً زنديقاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 لا يظن أن في النفوس نفساً مؤمنة، لأن الإيمان عنده خدعة من خدع السياسة كإسلام نابليون في مصر! وعجيب من طه بعد أن عرفت شعره ومبلغ فهمه للشعر أن تراه يقول في صفحة 99: "وكل هذا الشعر إذا نظرت فيه سخيف سقيم ظاهر التكلُّف بيِّن الصنعة. . . ". وفي صفحة 103: "ويروي لنا ابن سلام شعراً آخر ليس أقل من هذا سخفاً ولا تكلفاً ولا انتحالاً. . . ". وفي صفحة 415 وقال دولة سعد باشا للورد لويد: ويحسن استشارة لندن، فقال اللورد: أنا لندن في المسائل الحاضرة! وأنا أقول كذلك للرافعي ولغير الرافعي: أنا الشعر، أنا الجامعة. . .! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 خنفساء ذات لون أبيض. . . إن من عادتي إذا جلست للكتابة أن أضع ساعتي ناحية إلى اليمين مرتفقة ذراعي أسد مصنوع من الحديد قد ربض ربضةَ الكبرياء مستوفزاً كأنما يجمع الوثبة على فريسة وجد في الهواء ريحَها، كاشراً كأنما يتهيأ لنقضها نفضة الموت، مقشعرا يضم أجزاءه ليرسل منها حملته الفاتكة، وقد برز له صدر ضخم مكتنز عُضلة لا أحسبه إلا جحر ذلك الطاحون الحيواني الذي صنعه الله من شدقيه وأنيابه. وتأملتُ الآن هذا الأسد وهو يحمل ساعتي وأخذت أفكر فيما أكتب اليوم عن الجامعة، فقلت: أسأل هذه الجامعة: ماذا عسى أن يدرك الأسد من معنى هذه الساعة لو هو أبصرها ملقاة بين يديه في الصحراء ورأى عقاربها تدب دبيبَها؛ أتراه يظنها خنفساء ذات لون أبيض، أم يحسبها في أرقامها السوداء قرية صغيرة من النمل، أم يخالها قطعة من العظم تفرَّق الذباب على أطرافها؟ إنه ظان ما شاء أن يظن إلا أن يعرف أنها أداة لتعيين الوقت، فإن ساعة الوقت عنده هي قرص الشمس يطلع أو يغيب، لا ليدل على أن الساعة واحدة أو ثلاثة أو اثنتا عشرة، بل الساعة ظلام أو الساعة نور. هذا في الأسد؛ أما في الإنسان فنسأل الجامعة: أكل امرئ يعرف قيمة الوقت في تحريره وضبطه؟ أم كل إنسان في ذلك بحساب من عمله وطريقته في الحياة؟ وماذا يفهم "المتشرد" في الطرقات من معنى قولك الساعة خمسة والساعة عشرة إلا على نحو مما يفهم الأستاذ طه حسين من المعاني الدينية السامية في التاريخ الإسلامي، إذ تعيَّن له فضائل كريمة لا يألفها ولا يسيغها ولا يعقلها، كما تعيَّن الساعة مواقيت دقيقة لا محل لها في حياة المتشرد والمفلول ولا وزن ولا قيمة. وإذا نحن وضعنا هذه الساعة في ثوب هذا المتشرد وكانت عاملة محرَّرة ثم وضعناها يوماً آخر وهي معطلة خربة. فهل هذا اليوم عنده إلا كذاك اليوم؟ وهل تكون ساعة مثل هذا الرجل إلا الرغيف والقرش ونحوهما مما لا يدله على أن الساعة واحدة أو ثلاثة أو اثنتا عشرة بل الساعة شبع والساعة جوع؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لا تعرف الجامعة ولا تريد أن تعرف أن مثل أستاذها في المبالاة بحقائق المعاني العالية من التاريخ الإسلامي وفقهها مثل ذلك المتشرد في المبالاة بمعاني الوقت، ومثلُ ذلك الأسد في المبالاة بمعاني الصناعة؛ ولكننا أريناها بعينيها وبأعين الناس جميعاً أن كل المعاني الإسلامية في دروسها لم يدرك منها أستاذها إلا شبيهاً بما أدرك الأسد إذ فكر ثم قدَّر ثم تدبر ثم حكم أن الساعة خنفساء ذات لون أبيض. . . كنا والله نرتاب في أن الجامعة المصرية مدرسة إلحاد، وأن طه حسين ما أخذ لها دون سواه ممن كانوا في الجامعة القديمة (1) إلا لهذه العلة فيه، ولأنه أقوَمُ بها وأقدرُ عليها، وكنا لا نظن هذا فضلاً عن أن نحققه، غير أنا قرأنا اليوم فصلاً إضافياً لصديقنا الأستاذ العلامة الكبير السيد رشيد رضا كتبه في " المنار" وأذاعته جريدة "البلاغ " وجعل عنوانه " دعاية الإلحاد في مصر" وهو يقول فيه ليس الإلحاد بجديد في مصر، وإنما الجديد هو الدعوة إليه وتأليف الجمعيات لبثه وهدم الإسلام، وتأليف الكتب في الطعن على أعلام حكمائه المتقدمين الذين يعلي الإفرنج قدرهم كالغزالي وابن خلدون، والتنويه بمن اتهموا بالكفر والإلحاد كالمعرِّي، والإشادة بأدب من اشتهر بالفسق والخلاعة كأبي نواس. "وقد كنا ذكرنا من بضع عشرة سنة خبر تأليف أول جمعية إلحادية من أعضائها معمَّم من خريجي الأزهر؛ ثم إنهم خلعوا العذار وجهروا بدعايتهم في دروس "مدرسهّ الجامعة المصرية" ومحاضراتها. . . وإذ فطنوا في هذه الأيام لما في وطنيتهم ولا دينيتهم من الخسارة الأدبية والسياسية على مصر، وأنشأت (جريدة السياسة) تعدهم وتمنيهم بأن ثقافتها الإلحادية الجديدة طفقت تتبوأ مباءة تلك الزعامة الدينية من أنفس الشعوب الشرقية عامة والسورية خاصة، إذ شعرت هذه الشعوب بأن الدين صار الأدنى والأضعف من جوامع الأقوام وروابط الأمم، وأن "مدرسة الجامعة المصرية الإلحادية" وهي المظهر الأعلى للثقافة الجديدة. . . قد خلفت الأزهر المتوفى غير مأسوف عليه وورثت مكانته المعنوية. . . لقد صدقت جريدة (السياسة) - وقلما كانت صادقة - فيما صورته من التنازع بين الجامعة الأزهرية الدينية، والجامعة المصرية الإلحادية، فهذا أمر يعرفه البصيرون وإن غفل عنه الأكثرون، وأول من صرح به في مجالسنا من غير   (1) كان الأستاذ طه حسين يدرس في الجامعة قبل تسليمها إلى وزارة المعارف (تاريخ اليونان) وكأنهم لم يروه شيئاً في الأدب، ولكن جامعة تنشأ في بضعة أشهر غير عجيب منها أن توجد أديباً في بضعة أيام! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 المسلمين شابٌّ إسرائيلي ذكي سمعنا نتكلم في مسألة كتاب الشيخ علي عبد الرزاق عقب ظهوره، وكونه ينصر فيه دعاية الإلحاد الجديدة؛ فقال: ليست المسألة مسألة كتاب ألفه شيخ مسلم في محاربة الإسلام، فلو كان هذا كل ما تشكو منه لهان خطبه. ولكن المسألة كل المسألة - هي التنازع بين " الجامعة المصرية" وجامعة الأزهر، فإذا غلبت الثانية بقيت هذه البلاد إسلامية، وإذا انتصرت الأولى لحقت مصر بالبلاد التركية وانقضى عصر الإسلام فيها" انتهى كلام السيد بحروفه. وتقع هذه اللطمة وفيها قوة الأربعمائة مليون يد إلا تسعاً. . . على وجه الجامعة، فلا ترى هذه الجامعة الذليلة تغضب لدين أو كرامة أو أمانة. ولا يكون منها إلا أن تدير القفا. . . وكنا والله نحسبها ساكتة في جدالنا إياها عن عجز، لأننا على ما نعلم من وجوه الضعف الكثيرة في نفسنا نعلم يقيناً أنه ليس في هذه الجامعة من يقوم لنا في هذا الباب الذي نجادلها فيه، وهي بعدُ مغرورة بأستاذها تحسب الأدباء يتحامَونه لأن في فمه لجة من السب والشتم يغرق فيها من يتصدى له، فليكن في فمه البحر فإن ذلك لا يعجزنا أن نجيئه في وسط اللجة بتراب اليابسة يُرغم أنفه. والآن علمنا أن إيمان الجامعة أو إيمان طه حسين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر في ذلك الكتاب الذي أذاعته الجامعة إنما كان في بابه تزيُّناً كتجمْل تلك المرأة السوداء التي سخر منها القدر حين وُلدت فسماها أهلها دنانير. . . ثم سخر منها حين كبرت فتزوجها أعشى سُليم الشاعر. ثم سخر منها الثالثة حين تجملت وتكحلت بالإثمد فانطق الأعشى بهذا البيت: كأنها والكحل في مِرودها. . . تكحل عينيها ببعض جلدها كثيراً ما سألت نفسي: هل في مصر كلها رجل واحد يحق له أن يكفر؟ وبمعنى آخر: هل في مصر كلها رجل عبقري شاذ يبلغ من سمو العقل وسعة الإحاطة وحدة الذهن وغؤر النفس أن يكون له رأي خاص في الإيمان ينكسر به ما أجمع الناس عليه؟ وبمعنى ثالث: هل في مصر ممن يقلدون بعض فلاسفة الأوروبيين في الإلحاد من يُعد في طبقة من يقلدهم بحيث لو كان في أوروبا الملحدة لقلده أذكياء الأوروبيين وأساتذة الجامعات هناك. . .؟ إن البلاء كله إنما يجيئنا من ناحية الأخلاق الضعيفة أو الأعراق الدساسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 أو العلم الناقص؛ فأما أثر الخلق الضعيف والعرق الهجين فليس له إلا الحكومة بمدارسها، فإن أهملته في المدارس فلن يهملها هو في الأسواق وما وراءها من الأماكن والجهات حين ينبتُ الملحدون المتعلمون في الأمة ويتعاطون أمورها ويجارونها في أسباب الحياة؛ وأما العلم الناقص فأنت ترى أن صاحبه ما إن يتناول شيئاً من دقائق الفكر إلا انتهى إلى الحكم بأن فيها عجزاً أو ضعفاً أو اضطراباً، كما يفعل طه حسين في دقائق التاريخ والشعر والدين، وذلك طبيعي لا يكون غيره، فما العقل الناقص إلا كالعين المريضة: لا ترى أثر مرضها إلا في الأشياء التي تراها والأشياء مع ذلك صحيحة لا مرض فيها. واعلم أن الخطأ ولو في فكرة واحدة إن لم يكن إتلافاً وإحالة وإفساداً فهو تشويه ونقص، لأن الفكرة جزء من الأجزاء التي يتألف منها الكل المعنوي. ومتى كثرت الفِكَرُ المخطئة بأي الأسباب من نقص العقل أو الذكاء أو الخلق، فذلك أشنع ما أنت واجده في عمل هؤلاء الملحدين إذ يفسدون الإيمان وهم يحسبون أنهم يصححونه، وما الإيمان إلا صورة معنوية كاملة لها أجزاء ولأجزائها ألوان ولألوانها مقادير؛ فقل الآن في رجل أشل اليد أو سقيم النظر أو فاسد الذوق تريده على أن يرسم صورة امرأة جميلة ويكون من بعض آفاته أنه رجلُ منطق وتعليل وإبداع واختراع يزعمه، ثم لا يكون منطقه الذي يلائم ذوقه وفكره وفنه إلا على هذا التمثيل. إن الحاجب أسود، والأسود يضاده الأبيض. والضد يظهر حسنَه الضد، فالعين في الصورة يجب أن تكون بيضاء. . . والخد أحمر! والأحمر لون النار وللنار دخان يزينها من حواشيها، فعارضا المرأة يجب أن يكون لونهما في الصورة أسود ويمر في هذا المنطق ثم يخرج لك الصورة الجميلة فإذا هي صورة امرأة عمياء ملتحية، لم يخرجها من الطبيعة ولا من الفن بل من المنطق والحدس. ثم من منطقه هو خاصة، ثم مما حدث بظنه على أنه إبداع واختراع، وكل أولئك الذين تعرفهم ما منهم على الأمة إلا ذو مصيبة واحدة، خلا الدكتور طه، فإنه ذو المصيبتين، لأنه وحده الذي يتناول الأدب العربي من دون هذه الفئة ويريد أن يأتي الإسلام من دعائمه، أما سائرهم فأهلُ سياسة وفلسفة؛ لا يُقدم أجرؤهم على بحث أدبي فيديره على الإلحاد إلا جعله على جهة النظر الاجتماعي أو السياسي. فبذلك يهاجم الأدب وينهزم عن الأدباء. لأنك إذا جادلته التوى عليك بأنه ينظر إلى غير ما تنظر، ويذهب في غير مذهبك، وأخذ يكيلك الحصى وأنت توازنه الذر؛ فكلهم في الأدب مخادع نفسه؛ ولذلك لم يشتغل بهم أحد من علمائنا وأدبائنا على ما يتسع من عيوبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ويتضاعف من زلاتهم؛ إلا ذا المصيبتين، فهو وإن كان من جملتهم فإنه وحده. . . وبهذا تقدمَ عليهم وبانَ منهم حتى رأينا فيهم من يصفه بأنه زعيم المجددين، ولعله من أجل هذا لم تجد الجامعة غيره ولم تعدل به أحداً إذا صح أن هذه الجامعة أداة من الأدوات كما هي مدرسة من المدارس؛ ونحن لا نزال نتوقف في هذا فلا نبت الحكم عليه إلا بعد التثبت والاستبانة الصحيحة لأن أثقال هذا الميزان من الرأي لا تزال ناقصة ولا يقع الرجحان فيه إلا بعد أن يُلقَى في كفتيه عمل الأستاذ الكبير مدير الجامعة، فإن هو ظل ساكتاً بعد الآن فسكوته عمله وكفى، وسكوتهُ يُنطق غيره، فما هو وحده بذي اللسان ولا هو يملك على أحد لسانه، وهو عندنا رجل للتاريخ فليحذر ألسنةَ التاريخ. قلنا إن طه ذو المصيبتين على الأمة، ولكن الله تعالى يرعى دينه ويكلؤه فيسر طه لما خُلق له، ثم يسره لمن يصدمه، فهو حجر لكنه هش لين المكسر، إذ كان من طبقاته التي يتألف منها طبقات مُتفتتة خُلقت من كُسارة الأحجار ودُقاقها كالطباشير، فهو ينطوي على طريقة كسره رحمة من الله بهذا الدين، وتلك سنة لن تخطئها في أعداء الإسلام إذ أنت استعرضتَهم وميزتهم فلا تتبدل ولا تتغير، ولولا ذلك لما هلكوا وبقى الدين، ولا ذهبت كتبهم وبقي القرآن. وترى ذا المصيبتين هذا يحمل أسلحة كثيرة من العلم والتاريخ والجراءة والشك والحماقة، ولكنها كلها متفللة تكسرها في أصابعك لو شئت؛ فمعه إلى قوة الكلام ضعف الفهم وإلى شدة الصولة خَوَرُ الهزيمة، وهو سبَّاق القلم لكنه أعرج الخيال، سديد الجدل لكنه سيئ التاريخ؛ وقس على ذلك من فضائله وأسباب قوته ما إن تدبرته رأيته لا يأتي أبداً إلا متعارضاً متهاتراً في بعضه إسقاط لبعضه. وضع الأستاذ كتابه ليبحث في أن الشعر الجاهلي مصنوع محمول على أهله، وأجمل هذه الفكرة وأسبابها ثم قال في صفحة ": "ولكني لن أقف عند هذه المباحث، لأني لم أقف عندها فيما بيني وبين نفسي، بل جاوزتها وأريد أن أجاوزها معك إلى نحو آخر من البحث أظنه أقوى دلالة وأنهض حجة من المباحث الماضية كلها، ذلك هو البحث الفني واللغوي، فسينتهي بنا هذا البحث إلا أن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرأ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية أو الفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء" انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 لا جرم كان "البحث الفني واللغوي لا هو الأساس الذي يقوم عليه مثل هذا الكتاب؛ إذ لا معنى للتخرص والحدس وقولِك أشد في هذا وأنكر هذا وأكبر الظن كذا، فكل عافي وسوقي ونبطي وزنجي يستطيع أن يتناول الميزان الدقيق فيُميله ويجعله أكذب الموازين وأخبثها ولا يعجزه أن يسوغ فعله بعذر أو دليل وإن لم يكن من القوة على ذلك والتوسع فيه بحيث يصلح أستاذاً، ولكن العجب أن شيخ الجامعة لما انتهى إلى البحث الفني واللغوي تخبط واختل وذاب واضمحل، ورأينا هذا البحر العظيم الذي يقال له الفني واللغوي، مستنقعاً صغيراً يخوض منه الشيخ في ضحضاح من الماء الراكد، ويخرج مدعياً الغرق وما يغرق أحد في مثله إلا إلى الكعبين. وكان جديراً بمن يقول الفني واللغوي أن يدلنا على نمط كل شاعر وطريقته ومذهبه وعمودِ شعره وأسباب التوليد عليه بخاصته ووجوه الصنعة في كلامه وأن يعيد لنا من علمه الواسع ذلك العهد الأول الذي كان يقول فيه الرواة لم يصح لامرئ القيس إلا كذا، ولم يصح لطرفة وعبيد إلا كذا. وهذه الأبيات وضعها فلان أو زاد فيها فلان، بيد أن الأستاذ بعد أن وصف هو الأوقيانوس الفني واللغوي وأنه سينتهي بنا إلى القارة الجديدة المسماة أمريكا، اختصر الطريق إلى أمريكا هذه فجاء بها ووضعها في العدوة الأخرى من المستنقع. . . إذ يقول في صفحة 131: "وإذن فلنتناول مع الإيجاز الشديد شيئاً من البحث عن الشعر والشعراء في العصر الجاهلي، لنرى إلى أي شيء نستطيع أن نطمئن من هذه الأشعار". وفي صفحة 152 بعد أن روى مطلع قصيدة لعبيدة بن الأبرص: " لولا أننا نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك هذا الشعر ووضعنا يدك على موضع التوليد فيه. . . ". قلنا: ففي أي شيء هذا الكتاب إذن ما دام " الإيجاز الشديد وإيثار الإيجاز والحرص على الإيجاز" هو أساسَ البحث الفني واللغوي فيه، على حين أن الكتاب هو البحث وكل ما عداه حشو واستعانة وأن امرأ القيس لا يمحى من التاريخ "بالإيجاز الشديد"، ومهلهلاً لا يكون من رجال الأساطير "بالحرص على الإيجاز". . . وماذا يغني عنك - ويلك - أن تجمع لحرب أمة مصانع كروب ومدافعها ومخترعاتها - عدةَ ملايين من المقاتِلة إذا لم يكن لديك إلا بضعة مدافع بالإيجاز الشديد. . .؟ ألا تستحي يا طه أن تسقط بالجامعة هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 السقوط كلَّه؛ وأن تتغفل الناس إلى هذا الحد في بحث لم يَخلق الله له أهلاً بعد أن ذهب أهله؟ على أن المسألة اللغوية في كتاب الشيخ هي مسألة اللهجات، وقد أسقطناها في بعض ما مر بك، ثم كانت عقدتها قوله في صفحة 141 "وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم، وهي أن امرأ القيس - إن صحت أحاديث الرواة - يعني إن صح أنه خُلق - يمني وشعره قرشى اللغة. . . ولغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز"؛ إلى أن يقول: "وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقاً في شعر امرئ القيس لفظاً أو أسلوباً أو نحواً من أنحاء القول يدل على أنه يمني، فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته قد مُحيت من نفسه محواً تاماً ولم يظهر لها أثر في شعره؛ نظن أن أنصار القديم سيجدون كثيراً من المشقة والعناء ليحلوا هذه المشكلة ". انتهى. فنحن مع الأستاذ في اثنتين: أن ينكر وجود امرئ القيس إنكاراً صريحاً. وحجتنا عليه ذكر هذا الشاعر في الأحاديث المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيما رُوي من كلام الصحابة كعمر وعلي وكلام الشعراء الأمويين كالفرزدق وجرير. وأخرى: أن يقر بوجوده إقراراً صريحاً ولا يقول "نرجح أنه وجد" وتبقى المشكلة اللغوية التي أوردها واعترض بها وتوهم فيها في أنصار القديم ما توهم وجعلها أقوى ما في كتابه من الأدلة، وقد أنذَرنا غير مرة في جدالنا معه أننا "سنجد مشقة، وعسراً" في التخلص من مشكلاته، فوالله ما وجدنا في واحدة عسراً ولا مشقة، ولكنه يرمي الناس بما فيه وذلك من أمره، ولو تثبت واستعان بغيره لكان خيراً له وأقوم، ولكن فتنه الله بنفسه وبصَّره العيوب إلا عيبه. وقبل أن نحل له المشكلة نقول: إننا رأينا في بعض كتب الجدل أن رجلاً ذكياً قال لجماعة من الناس: إن سقف البيت كان فوق زيد ثم صار تحت زيد، فقال واحد منهم: لا جرم تهدم البيت ووقع السقف فلا حول ولا قوة إلا بالله! وقال آخر: لا عجب مات الرجل شر ميتة فإنا لله! وقال ثالث: وليس يمشي الناس في جنازته إلا متوجعين فرحمه الله! وانطلقوا في ذلك يُفضي به بعضهم إلى بعض ولا رجعة لمن مات فالمشكلة لا حل لها! ألا دعونا أيها الناس من الموت والهدم ومما قام بأنفسكم من المعاني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وانظروا في الكلمة ولا تجاوزوها ودققوا الفهم قبل أن تدققوا التخريج فإن السقف كان فوق زيد حين كان زيد جالساً في الغرفة، ثم صار تحته حين صعد زيد إلى السطح؛ وهذا حل المشكلة التي هدمت بيتاً وقتلت رجلاً! وهي بعينها مشكلة أستاذ الجامعة، فلا تجد في هذه صعوبة إلا إذا جريتَ على طريقته في التاريخ والاعتماد فيه على العقل والرأي دون المادة متجاهلاً أن العقل ينتج في كل العلوم فيصلحها إلا في التاريخ فإته يفسده إذ لا تنتج فيه إلا المادة، وإذ حاجته إلى العقل المفسر منه لا إلى العقل المنتج فيه، والعقول أنواع بطبائعها وخصائصها ودرجاتها، فإذا تحكمتَ في التاريخ نوعتَه وهو شيء واحد لا يختلف ولا يقبل الزيادة، إذ كان وانتهى ووُضع عليه خاتم الفناء. انظر يا سيدنا ومولانا طه حسين في كتاب العمدة في صفحة 59 من الجزء الأول. تجدهم حلُّوا مشكلتك منذ ألف سنة بقولهم إن امرأ القيس يماني النسب نزاري الدار والمنشأ - يعني المولد والمربى. ولا تؤاخذنا، في التفسير لك - فقل أنت الآن يا سيدنا ومولانا، هل تريد أن تولد لغة اليمن في دمه فيكون دمه معجماً لغوياً لا يجري كريات حمراء بل كلمات واشتقاقات وأساليب؛ وهل العربية أية لهجة كانت إلا على الدار والمنشأ بالسماع والمحاكاة؛ كان سبيلك يا سيدنا ومولانا أن تثبت لنا بدياً أن امرأ القيس وُلد ونشأ في اليمن ثم تنقل بعد ذلك في قبائل العرب، ثم يكون لك أن تقول: فكيف نسي لغته؟ وماذا نرى في قول بعض الرواة إن الشعر يماني واحتجاجهم لذلك في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بأبي نواس وأصحابه مسلم بن الوليد وأبي الشيص ودعبل - وكلهم من اليمن - وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين أَبي تمام والبحتري. أكل هؤلاء وهم ينسبون إلى اليمن قد كانوا إلا على لغة الدار والمنشأ؟ ذلك هو كل ما في كتاب طه من المسألة اللغوية، وبقي أنه يجعل من أسباب وضع الشعر سهولةَ ألفاظه، ويطلق ذلك في كل الشعراء الجاهليين قياساً واحداً، مع أن الرواة العلماء نصوا على أن الأعشى يحيل في لفظه كثيراً ويسفسف دائماً ويرق ويضعف، وقد جعلوه بإزاء النابغة، قالوا: وألفاظ النابغة في الغاية من البراعة والحسن. فإذا كان هذا الشعر وضعاً وصنعة فما الذي شدَّ النابغة وأرخى الأعشى؛ وقد أدرك الأعشى الإسلام وكان جاهلياً، وكان أهل الكوفة يقدمونه على الشعراء، فلا شبهة في وجوده؛ وكان من شعراء ربيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 كطرفة بن العبد، وإنهما لمتباينان في ألفاظ الشعر؛ فكيف اشتد واحد ولان الآخر؟ قالوا: وكان الأصمعي يزعم أن العرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد، وعلل هذا بأن ألفاظهما ليست نجدية، أي ليست قوية متينة السبك في الغاية من القوة والجزالة، ولقد كان الأصمعي أحق من طه حسين بما ذهب إليه لو أن رقة الألفاظ تنفي نسبة الشعر إلى جاهلي أو مخضرم أو تُثبته لمولَّد أو محدَث تكون سبباً من أسباب الشك. ومع رقة شعر عدي كان معاوية يفضله على جماعة الشعراء، ومع رقة أبي دؤاد فضله الحطيئة وهو أعلم بالشعر من طه ومن أجداده؛ فما أظن أن في سلسلته شاعراً وإلا فأين أثره؟ إن الرقة والجزالة واللين والجفاء لا ترجع في الشعر إلى لغة الشاعر ولا عصره ولكن لعواطفه ومعانيه وذوقه، وللطريقة التي نشأ عليها، وللشاعر الذي يحتذيه؛ فإن الشاعرية لا تنبت شاعريته كما تنبت الشجرة، بل هو بروي شعر غيره فيعمل عليه، ثم تعرض له أمور من نفسه ودهره وعيشه فتوثر فيه قوة وضعفاً، وقد كانوا لا يعذون الشاعر إلا مَن روى لغيره، لأنه متى روى استفحل. وسئل رؤبة عن الفحل من الشعراء، فقال: هو الرواية. قال يونس بن حبيب: وإنما ذلك لأنه يجمع إلى جيِّد شعره معرفَةَ جيِّد غيرِه، فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة؛ وتأمل ما قالوا في حفظ الشعراء المولدين كأبي نواس الذي لم يقل الشعر حتى رَوى لسبعين امرأة من النساء دون الرجال، وأبي تمام الذي كان يحفظ ما لا يُعد، والمتنبي الذي لم يَفته شيء، والمعرِّي الذي لم تَسقط عن حفظه كلمة الخ الخ. ولو كان طه شاعراً لعرف كيف تختلف أساليب الشعراء وبمَ تختلف ولِم تختلف؟ ولكنه بعيد من هذا وهذا بعيد منه كما تعلم، ومتى ثبت أن الشاعر عندهم هو الراوية - وذلك ثابت لا ريب فيه والنصوص عليه كثيرة وأسماء الشعراء ورواتهم معروفة - فمن ذلك تعلم كيف تأدى الشعر الجاهلي إلى الرواة؛ فأولئك هم كانوا الدواوين التي جمعت الشعر وأدَّتْه صحيحاً محفوظاً ثم زيدَ، عليه بعد، ولكن كذبَ الزيادة لا ينفي صحة الأصل؛ والأمر في هذه الزيادة إلى أهله الذين كانوا أهلَه لا إلى طه ولا أمثال طه، فإذا رأيناهم يقولون مثلاً: كان امرؤ القيس كثير المعاني والتصرف لا يصح له إلا نَيف وعشرون شعراً من طويل وقطعة؛ فما بنا بعد هذا القول حاجة إلى طفيلي في الشعر وروايته وتحقيقه كأستاذ الجامعة ينفي أو يثبت"، علىِ مذهب ديكارت أو علِى مذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الشيطان؛ لأن المذهب هنا من أقوال العلماء والحفاظ وأهل البصر بالشعر والحذق في نقده وتمييزه، وما على الأرض اليوم رجل واحد يقول إنه من هؤلاء. ومما نظن أن ألفا وثلاثمائة سنة تضحك منه ضحكاً يهز قبور الأدباء، قولُ شيخ الجامعة في تعيين تاريخ امرئ القيس صفحة 150 "والذي نرى نحن - تأمل نحن - أنه عاش قبل القرن السادس، وربما عاش قبل القرن الخامس أيضاً. . . " فربما التي يقال فيها إنها للتقليل هي في حساب التاريخ الحسيني بمائة سنة، لأن الذي يقال فيه إنه عاش قبل القرن السادس للميلاد لا يمكن أن يتقدم على سنة 500 فإذا قيل فيه: ربما عاش قبل القرن الخامس أيضاً؛ فأيضاً هذه لا يمكن أن تتقدم سنة 405 وما أنا من علماء الرياضة فأجد من عقلي قوة على تخليص هذا الخلط، وإذا جاءنا فيثاغورس فخلصه فقد بقي أنه يجوز أن يكون امرؤ القيس قد عاش قبل القرن الرابع وربما قبل الثالث أيضاً. . . إن نصف الكذب من الكذاب يشبه أن يكون منه بمنزلة نصف الصدق. فالحمد لله على أن أستاذ الجامعة قد أبقى لنا شيئاً نفهمه من شيء كان اسمه امرأ القيس! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ قرأت في "الأهرام" حديئاً كان مع أحد كتابها للأستاذ الفاضل مدير الجامعة يصف ما تم في جامعته مدة عام ويؤرخها فيه، وقد رأينا الأستاذ ركب فناً غريباً من الكلام لا يعمد إليه في طبيعة القول وأساليبه إلا من كان في نفسه أشياءُ تناقض ما في لسانه، أو كان قوله على أصل مخترع؛ وسنعرض لحديثه بعد قليل. ولما استوفيت القراءة رجعت إلى نسختي القديمة من كتاب (كليلة ودمنة) لعلي أجد فيها بيان الحديث أو تأويل هذه الفلسفة، فأصبت ما أقص عليك من هذا المثل الغريب ، قال دمنة: وأنت يا كليلة بعدُ لا أراك تخرج من نحيزتك ولا تدع زَهوَك وفلسفتك وما تبرح في لسانك دأباً كلمتان: واحدة تنحدر وأخرى تَهمُّ أن تنحدر. وتحسب أن ما معك من هذه الخاصة ليس مع أحد مثله، كأنَّ الله أفردك بها وما يُفرِد إلا نبيا وما يميز إلا رسولاً وما أنت بأحدهما؟ وإن رجاء الأمور لا يكون بزخرف الكلام ولكن بصحته، ولا تجزئ منه كثرة أساليب الباطل وإنما غَناؤه في أسلوب واحد، إذ كانت الحقيقة الواحدة لا تتعدد. ولعمري لو نفعك شيء من ذلك لقد كان نفَع الفيلسوفة الأمريكية، قال كليلة: وكيف كان ذلك؟ قال: زعموا أنه كان في أمريكا امرأة فيلسوفة أحكمت المنطق وجمعت العلوم ونظمت الشعر وألفت الكتب، وكانت صلعاء مُنقشرةَ الرأس، يعرفون ذلك منها ويتواصفونه، فكانت لا ترى امرأة جثلةَ الشعر واردة الفرع إلا قالت في نفسها: أما إني لا أعرف أحداً من العلماء والفلاسفة وأهل الأدب يقطعني جداله وتعجزني مسألته، ولو قد جادلتني امرأة كهذه لأعجزتني بأول كلمة منها، فإنها أول بدأتها لا تتكلم إلا في الصلع. . . ويا ويلك إن لم ينطق في قبحك إلا لسانُ الحسن! قال: ثم إن النساء يومئذ وقع نقص جديد في عقولهن فذهبت كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 حسناء تُجمِّمُ وتقص شعرها تشبهاً بالغلمان والفتيان، وعمهن ذلك، فقالت الصلعاء الفيلسوفة: لقد وإن أكثر الصبر العسير وقارب فن فناً، وما الشعر الذي يسقط إلا أخو الشَّعر الذي لا ينبت. قال دمنة: ثم إن الفيلسوفة أرادت أن تسبح وترى الأرض حتى تنتهي إلى مصر فترى آثار الفرعون تتخمون، فلما جاوزت البحر ووقعت في الأرض المسلمة رأت الناس في حيثما نزلت من مراكش إلى مصر يحلقون رؤوسهم بالمواسي، فقالت: أما والله إن هذه لهي المدنية التي فَتحت العالم ودوَّخت الممالك، وغيرُ مستنكر ممن ينشأون على حلق رؤوسهم بالموسى أن يحلقوا أعناق الأمم بالسيف، وإن هذا لهو الرأي، وإني لموفقة أحسن التوفيق، ولن أبرح الفرصة حتى أفعل وأفعل، إلى أن أحمل هذه المواسي على رؤوس الأمريكيات، فلا يبقى من فرق بيني وبينهن إلا أنهن يحلقن مرة بعد مرة وحُلقت أنا بالموسى الإلهية التي ليس لها مر بعد! قال كليلة: ويحك يا دمنة! فماذا صنعت هذه اللكعاء؟ قال دمنة: سبحان الله! أقول لك فيلسوفة وتقول لكعاء؛ ثم إنها تعجلت الرجوع إلى أرضها فعملت خطبة سمتها "من بلاد الموسى" ولم تدع فيها جهداً من مثلها إلا بلغته، حتى أتت على آخر وسعها، فصنفتها أحسن تصنيف وعدلت أقسامها وأحكمت فصولها وابتدأتها بأن في الشرق مذهباً فلسفياً جديدا أبدعه مدير الجامعة المصرية، وهي مدرسة أفريقيا كلها، فما كان من عمل ولو إنشاء جامعة كبرى في زمننا هذا زمن الجامعات (فسنته الأولى تجربة. . . " يذهب خطأُها في طلب صوابها فهو لا بد لاحق به، فهو من ثمَّ معدود منه. فهو ليس بخطأ، ولو أن الدنيا خرِبت به لم يمنعه ذلك أن يسمى في الفلسفة الشرقية صوابَ تجربة. ثم إنها حشدت الأمريكيات وخطبت فيهن خطبتها تلك وشرحت قضية الموسى، ولم تدع أن تزينها وتقرظها وتدعو إليها، وقالت آخر ما قالت: هب أنكن لا تعرفن عواقبها، فإن المذهب الفلسفي الشرقي يقضي "بسنة تجرِبة ". فلا عليكن أن تكفرن بالمقص وتؤمن بالموسى! واعلمن - أصلحكن الله - أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 "سنة التجربة" ستكون الدين الجديد الذي يطبق الأرض فسارِعنَ إلى تجربة الحلق بالموسى ليأخذه عنا الأوروبيات والسابقةُ لنا قبل أن نأخذه عنهن والسابقة لهن. قال دمنة: فانتدبت لها امرأة من المجلس وضيئة حسناء، فلما وقفت بإزائها أمسكت المشط فمرَّت في شعرها تُفيئه يميناً وشمالاً وقالت لها: يا هَناهُ! لو كان على رأسك من هذا لما كان في لسانك هذا. * * * وقرأنا حديث الأستاذ مدير الجامعة، والأستاذُ أول كاتب مصري جرت في قلمه عبارة "سلطة الأمة" ولكنه في هذا الحديث سكت عن الأمة وشكواها واحتجاجها كأنه لم يوجد من هذا شيء، أو كان الأستاذ يرى دين الأمة في الجامعة كقطن الأمة في البورصة، يبعد السعر ويقرب ويرتفع وينزل ولا عليه من ذلك، فإن كان اليسر فاليسر وإن كان إفلاس فإفلاس، إنما عمله هو نشر السعر كما تجيء به المصادفات خراباً وعماراً! قلنا: فلتكن الجامعة كافرة كفراً صريحاً، ولتكن على هذا أديرت إن لم تكن لهذا أنشئت، فيبقى أمر هذه الغلطات التاريخية والأدبية التي وقع فيها أستاذها وأبان فيها عن حماقة تركت الجامعة سخرية في الألسنة؛ فما سكوت الأستاذ المدير عن هذا وللعلم حق يقضي عليه بإحدى قضيتين: فإما أن يسلم بالخطأ ويلتمس إصلاحه ويعمل في ذلك ويعلنه للأمة، وإما لا؛ فليدفع حجة بحجة وليرد كلاماً بكلام وليربأ بالجامعة أن تكون في موقف المعاند المكابر. فإن المعاند يحسب السكوت مما يغطي ويموه على الناس، ولا يعلم أنه متى قام الدليل من أحد خصمين لم يكن لسكوت الخصم الآخر إلا معنى واحد لا يختلف لا في القانون ولا في العرف ولا في الشرع، وهو الإقرار والإذعان وإن كان لم يقر ولم يذعن. يقول الأسنتاذ المدير: الجامعة تبتدئ، ولا شبهة في أن السنة الأولى لإقامة معهد علمي كبير يراد به ترقية التعليم العالي من ناحية ونشر المعلومات التي تحبب العلم إلى الجماهير - كذا كذا - من ناحية أخرى ينبغي اعتبارها "سَنة تجربة". . . قلنا: ولكن يا سيدي المدير، ما نحن من أخلاط الأمم المبعثرة، ولا نحن في جهل من مجاهل الدنيا، ولا نحن مبتدعين في إنثاء الجامعة فتضيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 أموالنا وأعمار أبنائنا فى سنة تجربة؛ أو لو قام تاجر مقصّر ينشئ مصرفاً ويعامل فيه الناس ثم خسر وانكْسرت عليه أموالهم يكون عذره عندك وعند المحاكم أنها سنة تجربة؟ ويقول الأستاذ: "لا أحد يشك في أن البرلمان المصري بعد أن استقبل في العام الماضي نبأ تأليف الجامعة بالتصفيق لا يتردد هذا العام - بهذا الجزم - في أن يقر قانون الجامعة ويحرص على إثبات شخصيتها المعنوية من غير أن ينقص "من غير أن ينقص! " من مشخصاتها شيئاً "ولو بعض الشيء. . . " بل ربما زاد - الله الله - على قوة هذه الشخصية المعنوية ووسع في دائرة مظاهرها" انتهى. ونحن نظن أن الحديث كله لم يوضع إلا ليستجرَّ هذه العبارة وحدها. فهي والله ثقيلة على كل نفس، بل هي كالإملاء على البرلمان يفرضها عليه المدير فرضاً، فلا أحد يشك حتى ولا يُهمهِمُ في نفسه؛ لا أحد عليه لا أحد، و "لا" لنفي الجنس، ولكن أين مذهب ديكارت يا سعادة المدير؛ أتشكون في الدين والعلم وتعلمون الشك وتحامون عنه وتحملون فيه سخط الأمة كلها، حتى إذا انتهى أمركم إلى نواب الأمة قلتم " لا أحد يشك) .. أفلا تعلم يا سيدي المدير أنك حقرت هذه الأمة، وإنك بعملك أنزلت الجامعة من الأمة منزلة عدو من عدوه. فكيف تريد البرلمان على أَن يكون الخاضع وهو الحاكم، وكيف تريد أن ينسى الأمة ليذكر الجامعة، وكيف تتقدم له "بسنة تجربة" ثم تقول إقرار القانون وإثباتُ الشخصنية وتقويتها وتوسيعُ دائرة مظاهرها؟ ونريد نحن أن نفهم كيف يكون التوسيع في دائرة مظاهر دروس الأدب. أيامر البرلمان بحرق المصاحف توسيعاً لمظهر الدائرة التي تدور على أن القرآن كتاب موضوع دخلته الخرافات العربية كما تعلمون في الجامعة؟ حدثني عنك يا سيدي المدير، ألا تعلم وأنت مدير الجامعة أن طه حسين أعلَم الطلبة بعد أن احتج العلماء وثار الرأي العام وكادت تقع الفتنة، أن دروس الأدب في السنة الآتية ستكون في "مناقشة القرآن من الوجهة الأدبية"؛ أمِثلُ طه يناقش القرآن إلا في مثل هذه الجامعة الممقوتة التي تتقدم إلى البرلمان في سلاسلها وأغلالها من غضب الله والأمة وصالح المؤمنين ثم تفرض عليه إثبات الشخصية وتوسيع دائرة المظاهر؟ وحدثني عئك يا سيدي المدير، ألم تكن تعرف المسيو كازانوفا الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 جئتم به للجامعة وما علمتم أن الله سيبطله (1) لأنه تعالى أرحم من أن يجمع على أبناء هذه الأمة المسكينة كازانوفا وتلميذه طه حسين في مدرسة واحدة - ألم تكن تعلم أنه صاحب كتاب "محمد وانتهاء العالم" الذي يقرر فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف أحداً بعده إذ كان لا يعتقد أنه سيموت. . . بل يرى أن الساعة قائمة في عهده، فلما مات كان موته تكذيباً صريحاً لأصل عقيدته، فاضطر أبو بكر الصديق أن يكذب ويزيد في القرآن آيتين إحداهما (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) والأخرى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) . ويقول بعد ذلك، هذه كذبة حلال نحن مدينون لها بقرآن أبي بكر. . . ْغط يا سيدي على الناحية الحية من الجامعة فقد غطى القبر على الناحية الميتة منها، ولقد أكثرتم الرماد فإذا أثارته الريح فلا تلوموها ولوموا أنفسكم! * * * ولنأخذ الآن في كتاب طه فقد وقعت فيه جَهلة لم نر مثلها لأجد إلا بعض المستشرقين وهي تأويل سيرة امرئ القيس وإثبات الشيخ بالبحث الفني. . . أن هذه القصة مكذوبة؛ ولقد رأينا في تاريخ الأدب قصة أخرى أراد العلامة ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة أن يقول إنها موضوعة وبحث في ذلك بوسائل فنية. فنريد أن نعرض عليك البحثين لتقابل بين هذا وذاك ولتعلم الجامعة في أي منزلة من السخف تنزل دروسها. قالوا: انه لما نشأت فتنة الخلافة أبى على أن يبايع لأبي بكر، فبعث الصديق لأبي عبيدة وأنفذه إلى علي برسالة يؤديها وحمَّلَه عمرُ كلاماً آخر، فأدى ذلك إلى علي، فرد عليه السلام بكلام يعتذر فيه، ثم غدا فبايع؛ وتركه أبو بكر مع عمر فتناقلا كلاماً بليغاً، والقصة طويلة يتراد فيها هؤلاء الثلاثة: أبو بكر وعمر وعلي، كلاماً من النمط العالي، فرواه ابن أبي الحديد ثم قال: "قلت: الذي يغلب على ظني أن هذه المراسلات والمحاورات وهذا الكلام كله مصنوع موضوع، وأنه من كلام أبي حيان التوحيدي، لأنه بكلامه ومذهبه في الخطابة والبلاغة أشبه، وقد حفظنا كلامَ عمر ورسائله وكلامَ أبي بكر وخطبَه. فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب ولا يسلكان هذا السبيل في كلامهما، وهذا كلام عليه أثر التوليد ليس يخفى؛ وأين أبو بكر وعمر من البديع وصناعة المحدَثين؟ "ومن تأمل كلام أبي حيان عرف أن هذا الكلام من ذلك المعدن خرج   (1) هلك هذا المستشرق في مصر وكانت نادبته الأستاذ طه حسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ويدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروروزي، وهذه عادته في كتاب البصائر: يسند إلى أبي حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه إذا كان كارهاً لأن ينسَب اليه. ومما يوضح لك أنه مصنوع، أن المتكلمين على اختلاف مقالاتهم من المعتزلة والشيعة والأشعرية وأصحاب الحديث وكل من صنف في علم الكلام والإمامية، لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية، ولقد كان الرضى رحمه الله يلتقط من كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه اللفظة الشاذة والكلمة المفردة الصادرة عنه في معرض التألم والتظلم فيحتج بها ويعقد عليها، نحو قوله. . . وقوله. . . وقوله. . . وكان الرضي إذا ظفر بكلمة من هذه فكأنما ظفر بملك الدنيا ويودعها كتبه وتصانيفه، فأين كان الرضي عن هذا الحديث، وهلا ذكر في كتاب الشافي في الإمامية كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه هذا؟ وكذلك من جاء من الإمامية، كابن النعمان وبني نوبخت وبني بُوَيه وغيرهم. وكذلك من جاء بعده من متأخري متكلمي الشيعة وأصحاب الأخبار والحديث منهم إلى وقتنا هذا - وسط القرن السابع -؛ وهلا ذكره قاضي القضاة في المغني مع احتوائه على ما جرى بينهم حتى إنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير في أخبار السقيفة؛ وهلا ذكره من كان قبل قاضي القضاة من مشايخنا وأصحابنا ومن جاء بعده من متكلمينا ورجالنا؛ وكذلك القول في متكلمي الأشعرية وأصحاب الحديث، كابن الباقلاني وغيره، وكان ابن الباقلاني شديداً على الشيعة عظيم العصبية على أمير المؤمنين رضي الله عنه، فلو ظفر بكلمة من كلام أبي بكر وعمر في هذا الحديث لملأ الكتب والتصانيف بها وجعلها هجيراهُ ودأبه. "والأمر فيما ذكرناه من وضع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان ومعرفة كلام الرجال، ولمن عنده أدنى معرفة بعلم السير وأقل أنس بالتواريخ" انتهى. فتأمل كيف يكون بحث المطلع المستوعب للمادة التي يتكلم فيها حتى لا يفوته كتاب من الكتب ولا كلام عالم من العلماء، حتى لا يحكم إلا بعلم ولا يحكي إلا عن مقنع، ثم قابل هذا ببحث أستاذ الجامعة وركاكته، قال في صفحة 134: وهنا يحسن أن نلاحظ أن الكثرة من هذه الأساطير والأحاديث لم تشِعْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بين الناس إلا في عصر متأخر، - وفي عصر الرواة - المدونين والقَصاصين فأكبر الظن أنها نشأت في هذا العصر ولم تورَث من العصر الجاهلي؛ وأكبر الظن أن الذي أنشأ هذه القصة ونفاها إنما هو ذلك المكان الذي احتلته قبيلة كندة في الحياة الإسلامية إلى أواخر القرن الأول للهجرة. "فنحن نعلم أن وفداً من كندة وَفَد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسه الأشعث بن قيس. . . وأن الأشعث - بعد الردة - تاب وأناب وأصهر إلى أبي بكر فتزوج أخته أم فروة. . . وشهد مواقع المسلمين في حرب الفرس، وتولىٍ عملاً لعثمان، وظاهرَ علياً على معاوية، وأكره علياً على قبول التحكيم في صِفين. " ونحن نعلم أن ابنه محمد بن الأشعث كان سيداً من سادات الكوفة، عليه وحده اعتمد زياد حين أعياه أخذ حُجر بن عدي الكندي ونحن نعلم أن قصة حجر بن عدي هذا وقتلَ معاوية إياه في نفر من أصحابه قد تركت في نفوس المسلمين عامة واليمنيين خاصة أثراً قوياً عميقاً مَثَّلَ هذا الرجل في صورة الشهيد؛ ثم نحن نعلم أن حفيد الأشعث بن قيس وهو عبد الرحمن بن محمد قد ثار بالحجاج وخلع عبد الملك. . . ثم انهزم فلجأ إلى ملك الترك ثم أعاد الكرة فتنقل في مدن فارس. ثم استيأس فعاد إلى ملك الترك، ثم غدر به هذا الملك فأسلمه إلى عامل الحجاج، ثم قتل نفسه في طريقه إلى العراق. . . أتظن أن أسرة كهذه الأسرة الكندية تنزل هذه المنزلة في الحياة الإسلامية لا تصطنع القصص ولا تؤجر القُصاص لينشروا لها الدعوة ويذيعوا عنها كل ما من شأنه أن يرفع ذكرها ويُبعد صوتها؟ بلى، ويحدثنا الرواة أنفسهم أن عبد الرحمن بن الأشعث اتخذ القُصاص وأجرهَم. . . وكان له قاص يقال له عمرو بن زر. وقصة امرئ القيس بنوع خاص تشبه من وجوه كثيرة حياة عبد الرحمن بن الأشعث، فهي تمثل لنا امرأ القيس مطالباً بثأر أبيه، وهل ثار عبد الرحمن عند الذين يفقهون التاريخ إلا منتقماً لحجر بن عدي، وهي تمثل لنا امرأ القيس طامعاً في الملك، وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث يرى أنه ليس أقل من بني أمية استئهالاً للملك الذي كان يطالب به، وهي تمثل لنا امرأ القيس متنقلاً في قبائل العرب، وكان عبد الرحمن متنقلاً في مدن فارس والعراق، وهي تمثل امرأ القيس لاجئاً إلى قيصر مستعيناً به، وقد كان عبد الرحمن لاجئاً إلى ملك الترك مستعيناً به، وهي تمثل لنا خبر امرئ القيس وقد غدرَ به قيصر بعد أن كاد له أسدي في القصر، وقد غدر ملك الترك بعبد الرحمن بعد أن كاد له رسل الحجاج، وهي تمثل لنا بعد هذا وذاك امرأ القيس وقد مات في طريقه عائداً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 بلاد الروم. وقد مات عبد الرحمن في طريقه عائداً من بلاد الترك. قال الشيخ العلامة الطاهوي الحسيني. . . "أليس من اليسير أن نفرض بل أن نرجح أن حياة امرئ القيس التي تد تحدث بها الرواة ليست إلا لوناً من التمثيل لحياة عبد الرحمن استحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية في العراق، واستعاروا له اسم الملك الضليل (1) اتقاء لعمال بن أمية من ناحية، واستغلالاً لطائفة يسيرة من الأخبار كنت تعرف عن هذا الملك الضليل من جهة أخرى؟ " انتهى كلامه بنصه. وكل ما مر بك من تاريخ فهو من تاريخ الطبري، ليس فيه لـ طه إلا التحريف أو التخريف؛ فأين تقف من مثل ذلك على بحث أو اطلاع، وقد جهل الشيخ أن التاريخ كله حوادث متشابهة؟ إذ تنشأ في الأصل من طباع متقاربة محدودة في آثارها فتتشابه هذه الحوادث كما يتشابه الناس. وسنقفك على ما فى كلام الشيخ من الكذب والخلط، فالأشعث بن قيس لم يُكرِه علياً على قبول التحكيم وإن كان قد تكلم في ذلك، إنما أكرهه القراء الذين كانوا معه حين انخدعوا برفع المصاحف من جيش معاوية. وزياد بن أبي سفيان لم يعتمد على محمد بن الأشعث في أخذ حجر بن عدي، بل قال لمحمد: والله لتأتيَني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلا قطعتها ولا داراً إلا هدمتها.، ثم لا تسلم مني حتى أقطعك إرباً إرباً ثم أمهله ثلاثاً وأرسله إلى السجن، فخرج محمد منتقع اللون يُتَلُّ تلا عنيفاً أفمثل هذا يقال فيه "عليه وحده اعتمد زياد" أم هي سنة العرب في أخذ سيد بسيد والاستفادة من رجل برجل، واستفزاز الحمية والإباء في نفس من يفوتهم هرباً لكيلا يظلَم فيه غيره فإذا عَرف من أخذ به أسلم نفسه؟ والمضحك أن الشيخ يقول إن زياداً اعتمد على محمد بن الأشعث في أخذ حجر بن عدي، ثم يقول بعد ذلك: "هل ثار عبد الرحمن بن محمد عند من يفقهون التاريخ إلا منتقماً لحجر؟ " أفليس الأقرب أن ينتقم لإهانة أبيه؟ ثم يقول إن قتل حُجر مثله في صورة الشهيد؛ فمن هو الشهيد إذن إن لم   (1) لقب لامرئ القيس، أول من لقبه به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعناه الكثير الضلال، لما يعلن به في شعره من الفسق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 يكن مثلَ حجر؛ ولكن الشيخ فهم ذلك من قول الطبري: إن حجراً قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا عني حديداً ولا تغسلوا عني دماً فإني ألاقي معاوية غداً على الجادة! ثم قُدم فضرب عنقه، قال هشام: كان محمد بن سيرين إذا سئل في الشهيد يُغَسل؛ حدثهم حديث حجر؛ فأنت ترى أنهم يسألون ابن سيرين هل يغسل الشهيد كما يغسل الميت فيحدثهم حديث حجر، يعني أنه لا يُغسل بل يُدفن بثيابه؛ ولكن الشيخ فهم أن السؤال وجوابه تصوير لحجر عند المسلمين في صورة الشهيد. . . ثم يقول إن أسرة هذا شأنها تتخذ القصاص لينشروا لها الدعوة،. فإن كان هذا فكيف أمِن الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث فأرسله قائداً على أربعين ألفا لمحاربة الترك؟ وكيف يمكن أن يقع هذا من مثل الحجاج إذا كان قُصاص هذه الأسرة ينشرون لها الدعوة؟ ألا يدل صنيعُ ذلك الطاغية الحجاج على أن أولئك القصاص لم يكونوا قد خُلقوا بعد، إذ لم يخلقوا إلا في سنتنا هذه في رأس شيخنا هذا؟ قال العلامة الطاهوي: "ويحدثنا الرواة أنفسهم أن عبد الرحمن اتخذ القصاص، وكان له قاص اسمه عمرو بن زر". فسلوه من أين جاء بهذا ومن الذي حدثه به من الرواة؛ إنه رأى في الطبري هذه العبارة. قال أبو مخنف: حدثني غمرو بن زر القاص: أن أباه كان معه هنالك (في بلاد الترك) وأن ابن محمد - عبد الرحمن - كان ضَرَبه وحبسه لانقطاعه إلى أخيه القاسم، فلما كان من أمره الذي كان من الخلاف - أي الانتقاض على الحجاج وخلع عبد الملك - دعاه وكساه وأعطاة. فأقبل فيمن أقبل؛ وكان قاصاً خطيباً! اهـ. فالعبارة صريحة في أن عمراً هذا كان قاصاً، وأن أباه كان قاصاً خطيباً وأنهما كانا في بلاد الترك يقاتلان كما يقاتل قراء المصرين البصرة والكوفة لأن هذا هو الجهاد في سبيل الله، حتى إن أقوى كتائب عبد الرحمن كانت كتيبة كل جندها من القراء وأن عبد الرحمن كان ضرب زراً وحبسه لانقطاعه إلى أخيه القاسم، فلما احتاج إلى المقاتلة دعاه فحمله، يعني فأركبه، وجعله من فرسانه لا من قصاصه، فمن أين يؤخذ أن عمرو بن زر أو زراً أبا عمرو كان قاصاً لابن الأشعث اتخذه وأجره ليصنع له ولأسرته الأخبار كقصة امرئ القيس، وبخاصة إذا علمنا أن الأب منهما ضُرب وحبس. . . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وليس ينتهي عجبنا من الخلط في التمثيل والمقابلة. بين سيرة ابن الأشعث وسيرة امرئ القيس، فابن الأشعث ليس بشاعر، ولا ابن ملك، ولا قُتل أبوه فخرج يطلب الثأر كامرئ القيس؛ وابن الأشعث لم يكن في سيرته صُعلوكاً، ولا متعهراً، ولا متفحشاً كصاحبه، فإذا قابله القصاص برجل فلن يكون هذا الرجل امرأ القيس في تبطله وانقطاعه لصعاليك العرب وذؤبانها وفي الخمر والنساء والفحش ونحوها. وابن الأشعث إن كان قد طلب الملك، فما طلب امرؤ القيس إلا ثأر أبيه، ولهذا قال حَمَّلني دمه ولم يقل حَمَّلني مُلكه. وابن الأشعث لم يلجأ إلى ملك الترك مستعيناً، بل منهزماً، لأنه كان صالحه على أن يكف عّنه ثم يفرغ للحجاج، فإن ظهر أعفى ملكَ الترك من الخراج ما بقي، وإن انهزم فأراده وجب على الملك أن يلجئه عنده، وقد وفى الملك بذمته وعهده. وابن الأشعث لم يكد له رسل الحجاج عند ملك الترك، وإنما هددوه ليُسلمه فأسلمه صاغراً، واشترط على الحجاج شروطاً قبلها منه، وفي بعض الروايات أن ابن الأشعث مات بالسل وجاء الملك فاحتز رأسه وأرسله إلى الحجاج. وابن الأشعث لم يتنقل في مدن فارس والعراق مستنصراً مستجيشاً كما فعل امرؤ القيس في قبائل العرب، بل كان محارباً يرحل بالجيش وينزل بالجيش، وامرؤ القيس كان سبب هلاكه أنه فتن بنت قيصر بجماله وغزله أو على الأصح بمنظره العصبي، أما عبد الرحمن فكان سبب هلاكه أحد اثنين: إما السل، وإما رغبة ملك الترك أن يتخذ له يداً عند الحجاج. وإذا صحت رواية الموت بالسل - وبرهانها قوي - فلم يمت الرجل في طريقه إلى بلاده ولم يقتل نفسه، وإذا صح أنه مات في طريقه فقد قالوا إنه وثب من فوق قصر، وأين هذا من ميتة امرئ القيس في حلة مسمومة نثرت لحمه نثراً؟ وإذا أراد قصاص بني الأشعث أن يكذبوا فيزيدوا قصة امرئ القيس في مفاخرة كندة، فليس من الفخر أنهم جعلوه شاعراً طرده أبوه، ثم يوصف بالتصعلك والعهر والفحش، ثم يجعلونه عاجزاً ضائعاً في القبائل لا يأخذ بثأر أبيه، ثم يلجئونه إلى قيصر فيكون هناك فاحشاً ويُقتل بفحشه وليس في السب عندهم أشنع من هذا ونحوه، وهو كما ترى أعجز العجز، لا يوافق أهواء شعب عربي ولا عاداته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وكيف يخاف القصاص عمال بني أمية فيضطرهم هذا الخوف أن يكنُّوا عن ابن الأشعث بامرئ القيس، وأن يلفقوا هذا التلفيق البعيد ويضعوا له هذه القصة المخزية، وهم يرون المؤرخين وأصحاب الأخبار يذكرون خبر ابن الأشعث ويدونون حروبه ويقصونها ويسندونها بالأسانيد، وهل كانت دولة بني أمية من الضعف بالمنزلة التي تخاف فيها ابن الأشعث ميتاً وهي التي كسرته حياً ثائراً في مائة ألف مقاتل؟ ولو قد خاف القصاص عمال بني أمية لخافوهم في الحسين بن علي، أو في عبد الله بن الزبير، وكانا يطلبان الخلافة بحقها، ولو قد خافوهم لخافهم الشعبي وهو قاص محدث، وكان يقاتل مع ابن الأشعث، ثم لقي الحجاج من بعد، ثم دخل على عبد الملك. قال: فذهبت لأصنع معاذير لما كان من خلافي مع ابن الأشعث على الحجاج، فقال الملك: مه! لا نحتاج إلى هذا المنطق ولا تراه منا في قول ولا فعل حتى تفارقنا. . . أينما يذهب طه حسين في تأويله فهو لا يرى إلا ما يهدم عليه رأيه، ولكن أنى لمثله أن ينكر الهدم وفي رأسه مثل هذا الفهم الخراب!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 قال دمنة. . . يكتب إقي بعض الأفاضل من العلماء، والكتاب يسألون عن نسختي من "كليلة ودمنة" ويطلبون إليَّ أن لا أكتمها عنهم ولا أستبد بها من دونهم، وأن أفضي إليهم في كل مقالة بمثل منها؛ ويقولون هذا هو الجديد في الأدب العربي لا ما يعللوننا به من فصول مترجمة ومقالات مسروقة وآراء منتحلة، ولا ما يكتب أشباه السوقة والعامة في اللغة والتعبير والحكاية. وقال أديب فاضل إنه سيدل وزارة المعارف على هذه النسخة لتنتزعها مني ولو بمثاقلتها ذهباً، فإنه - زَعم - لا يجوز أن يبقى هذا الكنز "لتوت عنخ الرافعي". وقد ملكت الأمة كنز توت عنخ آمون. وكتبت إليَّ سيدة معلمة تقول إن مثل الفيلسوفة الأمريكية الصلعاء قرئ في جماعة من السيدات فكان رأيهن أن عشر قصص على هذه الطريقة تفيد في نشر العربية الفصحى وتحبيبها إلى النفوس وإعادتها بعد شتات أمرها ما لا تُفيد عشر مدارس منها الجامعة. وبعد فإني أستغفر الله وأقول إن كان هكذا فإنه لخير كان أصله من شر. ولكن يا سبحان الله! ما لهذه الجامعة كأنها في سلاسلَ وأغلال ربضت بها إلى الأرض وأعجزتها وحزت فيها وأكلت من جلدها؛ ألا تعلم أن باب الخطأ الذي دخلت منه يقابله باب التوبة، وأن الطريق التي انحدرت فيها لم يُخسَف بها فما جاءت فيه رجعت منه وما قطعته إلى الكفر تقطعه إلى الإيمان؟ بلى، ولكنهم يقولون إن الأستاذ الفاضل مدير هذه الجامعة يذهب بنفسه بعيداً، ويجوز بها فوق مبلغها، فكأنه ليس مديراً للجامعة بل هو مالكها المنفق عليها من ذات يده، فلا يسأل عما يفعل ساءت ملكته أم حَسُنت، ويقولون فما إبراهيم وإسماعيل والكعبة والقرآن والتوراة والأدب والتاريخ، وهذه الجامعة لو شاءت أن تزعم أن الهرم الأكبر مبني باللبِن لوسعَها ذلك ولجعلته تاريخاً مع وجود الهرم نفسه قائما من الصخر؛ ثم إنه ليس لأحد أن يُكرهها على أن تتكلم إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 أرادت السكوت، لأنها مستقلة ولأنها تبحث بعقول أهلها وعلى قدر هذه العقول في أهلها، فإن كان ثَم تبعة من التبعات فعلى قوم غشوا الأمة في اختيار هذه العقول وظنوا أن نقش كلمة الجامعة في صفيحة من النحاس ثم وضع الصفيحة على باب دار يجعل الدار جامعة؛ ثم جَرَوْا هذا المجرى في الأساتذة، فرجعت الأشياء بعدُ إلى طبائعها لأنها لا تكذب ولا تغش، فوقعت الفوضى والاختلال وظهر الجهل والخطأ وجاء درس الأدب وهو درس الكفر والتخليط والتزوير والتكير والمنكر، وسموا طه حسين أستاذاً في الجامعة وأظهرته الجامعة محرراً في السياسة على بذاءته ومساخته وفساد باطنه، كما كان في عهده إذ يسب دولة سعد باشا زغلول كل يوم بمقالة؛ وقس على طه من طرفيه إلى أعلى وإلى أسفل. . . (1) قال دمنة: وكانت هذه الجامعة في إنشائها كالحلم: نُقِل من نوم إلى يقظة في طرفة العين، فرأى الحالم الماهر. . . أن بحراً من البحار قد نفض قاعة نفضه قذفت إلى الهواء أثمن لؤلؤة فيه، ثم اجتمع الهواء فرمى فى يده اللؤلؤة فانتبه فإذا يده مقبوضة، فقال لمن حوله: ألا ترون أطبقوا أيديكم؛ فلما فعلوا قال: الآن في يد كل منكم لؤلؤة ثمنها مائة ألف؛ والآن أصبحتم من سرَوات الدنيا ولهاميم العالم، وإن بلاداً أنتم من أهلها لجمجمة الأرض، الآن والآن. . . ومضى يَعِدُهم ويمنيهم ويقول وإن في هذا لكم الغنى والمجدَ والسؤدد. ثم حلم الحالم الماهر. . . أن في جمع مدرسة إلى مدرسة ما يبدع جامعة، فقال وإن في هذا لكم العلمَ الأعلى، والآن هذا مدير الجامعة، وذاك أستاذ كذا، وذلك أستاذ كيت، وهذا وذاك وذلك يجتمع منهم هؤلاء، فاجتمعوا فكان ماذا؟ قال كليلة: فكان ماذا. قال دمنة: كان منهم كالدار التي ظن بانيها أنها تلد. . . قال كليلة: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: زعموا أنه كان بمدينة كذا رجل عقيم، وكانت به لوثة (2) ، فقال   (1) إشارة إلى الأستاذ الجليل علي ماهر باشا وزير المعارف كان، وهو الذي أخرج الجامعة، وكان مخدوعاً في طه حسين، ونعتقد أنه لو بقي وزيراً لأنصف، لأنه عالم ذكي، على أن عمله في إنشاء هذه الجامعة كان كالذي يصنع طائراً من الطين، فبعد أن يفرغ منها ويضعه على الأرض يرمي بعينيه إلى الجو لينظر أين بلغ الطائر في طيرانه. (2) اللوثة بالفتح: الحماقة؛ وبالضم: الاسترخاء والحبسة في اللسان. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 إني لم أرزق ولداً وما أرى من دار إلا وفيها أولاد، فلو قد بنيتُ داراً لرجوت من العَقِب ما يرجو الناس، وقام ذلك بنفسه ورسخ في يقينه، وخُيل إليه من ظاهره باطن، فجاء بالعمال والبنائين وقال أبنوا ههنا ووسعوا وأكثروا الغُرفات، فإنهم عشرة غلمان وخمس بنات،. فذلك خمس عشرة غرفة؛ ثم لي وللعجوز غرفتان، فقال رئيس البنائين: ومن أين الغلمان والبنات وأنت شيخ عقيم، وإنما حاجة مثلك إلى الكن الدافئ والبيت الضيق يلفك وامرأتك ويُمسك عظامكما أن تتبعثر في الدار الواسعة! قال صاحب الدار: يا سبحان الله! ما تصنع الغرارة وقلة المعرفة بأهلها.. أيها الفِسل، أما علمتَ أن كل غرفة تُبنى لولد تُهيأ له وتسمى باسمه وتُحبس عليه - فإن القدرة توحي إليها أن تصير "سنةَ تجربة": فإن لم تلده أمه بعد السنة أوحت إليها القدرَة أن تلده هي فيصبح الشيخ مثلي وإذا ولده خمسةَ عشر مما تلد الدار. . . قال كليلة: فقد زعمت يا دمنة أن هذه الجامعة الخرقاء كانت مستقلة. ففسر لي استقلالها ما هو؟ أكان أساتذتها يأكلون كتباً ويشربون حبراً ويلبسون جدراناً وأبو اباً؟ - قال دمنة: مَثَلها في ذلك مثل الخطيب الزنديق الأحمق الذي زعموا أنه كان يُبطن الكفر ويظهر الإسلام، فتعالم الناسُ ذلك منه فوسِعُوه إشفاقاً عليه ونظراً له، ثم أفشى طرفاً منه في بعض حديثه فقالوا إن الملة سمحة وللتأويل أبواب ولكل قول وجوه ومعانٍ، فإن لم يكن في القول إلا جزء واحد من الإيمان وكان فيه تسعة وتسعون من الكفر وجب حمله على الواحد دون التسعة والتسعين، ثم غرَّه ذلك منهم وحسبه ضعفاً ومَعجَزَة فتقخم في كفره وسوَّلت له نفسه أنه فوق الناس، فهو مستقل وهم التابعون، وهو الحر وهم العبيد، وقال إنه لن يكون الكفر في مثل هؤلاء الجامدين كفراً إلا في المسجد "الجامع". وعلى المنبر وفي يوم الجمعة، فليهمس هامسهُم ولينطق ناطقهُم، وسأرى ما يكون من تِلقائهم، فإني لخطيبُ صَلاتهم ولكني مستقل أفكر برأسي لا برؤُوسهم، وإني لأرتزق منهم ولكني مستقل آكل ببطني لا ببطونهم. . . وإذا قالوا كفر فإنما هذا إيماني، وإذا قلت آمنوا فإنما ذلك كفرُهم، ولهم علي كلام يسمعونه والكلام فنون وأجناس، ففي أن أقول ما هَجَسَ في قلبي، أخطاتُ أو أصبت، وغيرتُ أو بدلت، ورضُوه أو كرهوه؛ وعليهم لي أجر يدفعونه لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 يوماً ولا يكون ولن يكون إلا من جنس واحد: ذهباً خالصاً صحيحاً يرنُّ رنيناً صافياً لا أقبل فيه زائفاً ولا ناقصاً ولا مغيراً ولا مبدلاً، ثم لا أرضى فيه برأيي دون رأي الصيرفى الحاذق البصير، فكثيرُ غشِّي إياهم ليس بغش، وأنا بعدُ في عافية، وأنا مستقل، وأنا مختار، وأنا أفكر، فأنا موجود.،. وإن أهون الغش منهم ولو في درهم وما دون الدرهم لهُو الغش المفضوح والخيانة الأثيمة والخيانة الموبِقة، ولن يُقلتهم القانون ولا الشرع ولا العُرف، وهم مأخوذون به فمعاقبون عليه. قال دمنة: فلما كانت الجمعة والتقى الناس لأداء المكتوبة جاء الخطيب. . . قلت: وبقية هذه الصحيفة مقطوعة من النسخة التي عندي فلعل في قراء الكوكب من عنده نسخة أخرى فليعارض عليها وليأتنا بباقي المثل. قرأت في الأهرام مقالاً لشيخنا وصديقنا نكتة الزمان وعلامة وادي النيل أحمد زكي باشا قال فيه: " من بواعث الأسى في نفسي ودواعي الأسف في قلبي أن بعض أنصاف العلماء في مصر وسوريا، وأن بعض أشباه المتعلمين وأشباه الأشياخ في هذين القطرين الشقيقين قد أصابهم التفرنج بداء الحذلقة والتشكك، فصاروا لا يرون لأجدادهم فضلاً ولا يعرفون لهم مبرة ولا يذكرون عنهم مفخرة، بل صار أولاد الحلال هؤلاء يطأطئون رؤوسهم أمام كل إفرنجي، ويخرون ساجدين لكل وارد عليهم من بلاد الإفرنج أو باسم الإفرنج، حتى لقد أصبحوا وهم يرون العلم كل العلم ما جاءهم ولو بطريق التحريف أو على سبيل التخريف عن المستشرق فلان أو المسيو علان. . .؟ وإلا فالحجة الناطقة هي ما صدر عن شفاه السنيور هََّان بن بيَّان " أو عن "الهر جامان بن ألمان" انتهى. فاولاد الح. . . . . . لال هؤلاء على مواطاة من بعضهم لبعض لا يرضيهم من الرضا إلا أن ينسى الشرقيون آباءهم وأجدادهم ويصبحوا بَدَداً متناثرين؛ وهم لا يعلمون أنه ما من رجل حر يسره أن له باسم أبيه أو جده الشرقي اسم أحد من الإفرنج ولو كان اسم دولة من الدول العظمى، ولئن كانت الجامعة قائمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 منهم على دعائم إنسانية تعمل في إضعاف الجنسية وإشراب الناس في قلوبهم ما تمجه العقيدة والفضيلة - فإنها لمحقوقة بتركها واطراحها وتحذير الناس منها؛ فلينظر نواب الأمة أين يضعون أيديهم من هذا الفساد لإصلاحه، وليبدأوا بهذا العنصر السام المسمى في كيمياء التعليم "بالطاهوية". . . وبعد: فلنتمم كلامنا على ما سماه أستاذ الجامعة "البحث الفني" قال في صفحة 144: ولننظر في المعلقة نفسها "معلقة امرئ القيس". . . ولكنا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون في بعض هذه القصيدة، فهم يشكون في صحة هذين البيتين: "ترى بَعَرَ الأرام في عَرصاتها " وهم يشكون في هذه الأبيات: " وقربةِ أقوام حملتْ عصامها " الأبيات الأربعة. . . ثم يقول: ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون في أن هذين البيتين قلقان في القصيدة، وهما: وليل كموج البحر أرخى سدوله. . . عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بِصلبه. . . وأردفَ أعجازاً وناء بكلْكَل فقد وُضِغ هذان البيتان للدخول على الذي يليهما وهو: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي. . . بصبح وما الأصباح منك بأمثل قلنا: وعلى هذا فالقدماء شكوا في اثنتين واستخرج الشيخ الثالثة بفكره الثاقب ومعرفته بالشعر كنه المعرفة. . . ونحن كنا نرفعه عن مثل هذا التدليس والتمويه، فقد جاءت الرواية بأنه يقال إن هذين البيتين المضروبين مثلاً في الاستعارة مما وضع "خلفُ الأحمر" على امرئء القيس كما وضع من مثل ذلك على غيره، ولم يجزموا أن خلفاً صنعهما بل جاءت الرواية بصيغة التمريض "يقال" ولوْ جاز لنا نحن أن نقول في ذلك لقلنا إن البيتين من شعر امرئ القيس، وإنما نسبوهما إلى "خلف" على الظن، إذ كانوا يذهبون إلى أنه وضع على كل شاعر فحل ما يجوز في شعره ولا يتميز فنه، مبالغة منهم في علمه بالشعر ونفاذه فيه وأنه من ثقافته وصناعته، فإذا أرادوا أن ينسبوا إليه شنيئاً من قول شاعر بعينه عمدوا إلى الاختيار من أحسن ما يقول هذا الشاعر، لأن صنعة (خلف) إنما كذلك تأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ويقول الشيخ في صفحة 149: "ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبه بأن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهلياً، فالرواة يحدثوننا أن الفرزدق "تنبه! فإن النص مترجم. . . " خرج في يوم مطير إلى ضاحية البصرة فاتبع آثاراً حتى انتهى إلى غدير، وإذا فيه نساء يستحممن - يريد يستنقعن - فقال، ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جلجل. ليس كذا قال وإنما هو: الم أر كاليوم قط ولا يومَ دارةِ جلجل " وولى منصرفاً؛ فصاح النساء به: يا صاحب البغلة! فعاد إليهن، فسألنه وعزمن عليه ليحدثهن بحديث "دارة جلجل" فقص عليهن قصة امرئ القيس وأنشدهن قوله: ألا رُبَّ يوم لك منهن صالح. . . ولاسيما يوم بدارةِ جلجل قال الشيخ والذين يقرأون شعر الفرزدق ويلاحظون فحشه وغلظته وأنه قد لِيم على هذا الفحش وهذه الغلظة، لا يجدون مشقة في أن يُضيفوا إليه هذه الأبيات، فهي بشعره أشبه" انتهى. قلنا: ولكن الأستاذ قد كذب وزاد في النص، فإن الرواية في الأغاني في أخبار الفرزدق وليس فيها أن الفرزدق أنشدهن الأبيات، فكيف تكون من شعره؟ وعلى قياس طه فكل شاعر من شعراء الهجاء يمكن أن يلحق بشعره كل قول فيه هجاء وسب وإقذاع ويقال إنه بشعره أشبه، فيكون هذا هو البرلمان. . . وكل متغزل يضاف إليه شعر كل متغزل لأن طباعهما متشابهة وما يقوله هذا يقول هذا مثله؛ على أنه وصف أغلبُ على امرئ القيس من أنه غَوِي عاهر متفحش، وهو يجري في شعره من ذلك على خلق وطبيعة، وله جرأة عليه تشعرك أنه ابن ملك يرى لنفسه كلمة فوق كلام الناس، فكلامه إنما يشاكل نفسه، وفحشهُ إنما يأتيه من قبل الغزل والنسيب، لا كفحش الفرزدق فذاك من قبل الهجو واللؤم. والفرزدق لا يعد من شعراء الغزل، وقد كان أهل الحجاز يقدمون "جميلاً" عليه وعلى جرير معاً لموضع جميل من النسيب وقلة غنائهما فيه. وكانا يعلمان ذلك من نفسيهما ولا يريان الشعر إلا في بابهما في الفخر والهجاء، فروى أبو الزناد عن أبيه قال، قال لي جرير: يا أبا عبد الرحمن، أنا أشعر أم هذا الخبيث؟ يعني الفرزدق، وناشدني لأخبرنه، فقلت: لا والله ما يشارككْ ولا يتعلق بك في النسيب: قال: أوَّه قضيتَ وال له له علي. أنا والله أخبرك. ما دهاني إلا أني هاجيت كذا وكذا شاعراً وأنه تفرد لي وحده. أما حديث الفرزدق الذي استدل به طه فهو عندنا موضوع، لأن الفرزدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فضح فيه نفسه وترك النساء يسخرون منه ويضربن وجهه بالطين والحمأة ويملأن منهما عينيه وثيابه ويتماجن به ويتركنه سَطيحاً على الأرض وبأسوأ حال وأخزاها، وما نحسب مثل الفرزدق يروي ذلك عن نفسه أو يرضاه له وهو مَن هو في الفخر، وإنما تلك أقاصيص توضع للنادرة والتظرف والسخرية، وهب الخبر صحيحاً أو هبه مكذوباً - فعلى أيهما - فإن الفرزدق لم يذكر شعر امرئ القيس، فلا معنى لأن يكون قد وضع الشعر بعد، وكيف يضع الفرزدق على امرئ القيس وهو يذكره في شعره ويقدمه ويعده أحد النوابغ الذين وهبوه الشعر؟ ثم يقول طه: "أما وصفُ امرئ القيس لخليلته وزيارته إياها وتجشمه ما تجشم للوصول إليها وتخوفها الفضيحة حين رأته وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها وما كان بينهما من لهو، فهو أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بأي شيء آخر؛ فهذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فن ابن أبي ربيعة قد احتكره احتكاراً لم ينازعه فيه أحد. " ولقد يكون غريباً حقًّا أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفن ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويُعرف عنه هذا النحو ثم يأتي ابن أبي ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة قد تأثر بامرئ القيس، مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء من الوصف، فكيف يمكن أن يكون امرئ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل الذي عاش عليه ابن أبي ربيعة والذي كون شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية ولا يُعرف له ذلك؟ . . . ونحن نرجح أن هذا النوع من الغزل إنما أضيف إلى امرئ القيس، أضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين - الفرزدق وابن أبي ربيعة - " انتهى. ونريد أن نسأل شيخ الجامعة عن قوله: "إن النقاد قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة في الشعراء فِي أنحاء من الوصف؛ فإن لم يكن هذا كذباً فمن هم هؤلاء النقاد؟ ومن هم أولئك الشعراء؟ وما هي تلك الأنحاء من الوصف؟ وأين وجد ذلك، أفي كتاب كازانوفا أم كتاب كذَبَنوفا. . .؟ هذه كلها من ترهات الشيخ ولا أصل لها وإنما يأتفكها ليصل بعضَ الكلام ببعض في نظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الدليل الذي يريده، وهي طريقة المستشرقين ولا قيمة لها في التاريخ وقد نبهنا إليها مراراً. كل ما قاله النقاد: إن من يقدم امرأ القيس على الشعراء احتج له فقال ليس أنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها فاستحسنها العرب واتبعته فيها الشعراء، منها استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء والبيض وتشبيه الخيل بالعقبان والعصي، وأنه أول من قيد الأوابد وأجاد في التشبيه وفصل بين النسيب وبين المعنى. وبهذا تقدم الشعراء لأنهم اتبعوه فيه ولم يتبع هو أحداً، وفن ابن أبي ربيعة إنما هو داخل في رقة - النسيب، إذالنسيب جنس يشمل صفة النساء وحكاية أقوالهن، والتسبب إلى مودتهن الخ؛ فإذا كان ابن أبي ربيعة قد استحسن أسلوباً من أساليب امرئ القيس في النسيب فأكثر منه واستنفذ فيه جانباً عن شعره فليس معنى ذلك أنه اخترع الطريقة ولا احتكر الفن؛ ومن الثابت أنه لم يوضع شيء على الجاهلية بعد القرن الرابع، فلو عملوا على طريقة ابن أبي َربيعة ونحوله امرأ القيس لما فات هذا مثل صاحب الأغاني ولجعله كل الفخر لابن أبي ربيعة؛ والمعلقة كانت مدونة مروية في أوائل القرن الثاني. أما أنهم لم يدلوا على أن ابن أبي ربيعة أخذ فنه من امرئ القيس فلأنهم لم يكونوا يرون ذلك فناً ولا طريقة، إنما هو شعر كالشعر يُعرف عندهم بمعانيه لا بأسلوبه القصصي، ولم يسمِّه فناً إلا أستاذ الجامعة. " وأنا أحسبني شاعراً أجد الشعر في طبعي وأفهمه وأنفذ في أغراضه وأقوله وأحسن نقده وتمييزه، ولا أظن أحداً يكابر في هذا أو ينازعني عليه؛ وإني مع ذلك لا أرى أثقل ولا أبرد ولا أسمج من شعر ابن أبي ربيعة هذا حين يفضح النساء ويقول في شعره: قلت لها وقالت لي، وكان مني كذا وكان منها كذا. وما هو عندي بفن؛ بل خلق سافل وطبع غوى ونفس عاهرة، بل هو فن هجو النساء إذ كان ابن أبي ربيعة لا يحسن مدح رجل ولا هجوه فسسقط من هذه الناحية ليرتفع من الناحية التي تقابلها في النساء، فكأنه ارتفع بقوتين؛ - ثم أراد الرجل أن يسير شعر في الأفواه ولا أسيَرَ من أخبار النساء وأحاديثهن، فهذا هذا. وطريقته في شعره إنما تحسن حين تتفق في الأبيات القليلة والقصيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 المفردة، وحين تجيء تظرفاً وتماجنا وحين تخرج مخرج النادرة أو تبعث عليها الفتوة وميعة الشباب في بعض الحب الشديد، كما فعل امرؤ القيس، فأما أن يكون فيها أكثر شعره وعليها كل عمله ويتقلب الرجل وكأنه ليس في فمه إلا لسان امرأة فهذا ما لا أراه فناً، إلا أن يقال فن الرجل اللص وفن المرأة العاهرة كما يقال فن الشاعر وفن المصور مثلاً! وقد نصوا على أن امرأ القيس هو الذي افتتح تلك المعاني التي أومأنا إليها وأن الشعراء اتبعوه، فأين النص أن ابن أبي ربيعة افتتح هذه الطريقة - مِن: قلت لها وقالت لي، وكنت وكانت، وفعلت وفعلت؟ ومن الذي اتبعه في هذا الباب وأنفذ فيه أكثر شعره ولو أنهم كانوا يرونه مبتدعاً لنصوا على ذلك كما نصوا على غيره. بل كان جرير يرى تلك الطريقة هذياناً، حتى استحكمت معاني ابن أبي ربيعة فرآه حينئذ قال الشعر. وإن هناك أصلاً مقرراً في الأدب العربي، وذلك أن فحول الشعراء يسبقون إلى ابتداع المعاني والأساليب فيتبعهم فيها من بعدهم، إذ لا يقول أحد شعراً ولا يكون شاعراً إلا عن رواية وحفظ. فقد يتفق المعنى لشاعر متقدم أو تستوي له الطريقة في بعض الأساليب فيأتي بعده من يجد ذلك في طبعه ويكون قد اعتاد منه في أسباب عيشه ودهره ما لا يجري به اعتبارُ شاعر آخر، فيحتذي على حذو الأول ويتخذ كلامه أصلاً يبني عليه فيكثر من ذلك ويقلبه على وجوهه حتى يميته ولا يدع فيه شيئاً لغيره، وليس ابن أبي ربيعة بدعا في ذلك، فإن أبا نواس احتذى على الأعشى في الخمر ولكنه أكثر فيها حتى عُرفت به هذه الطريقة وحتى لم يكن يُرى لغيره فيها معنى وهو حي، وهذا البحتري رأى بعض شعراء المتقدمين يذكر طيف الحبيب وزيارته، وقد قالوا إن أول من سبق إلى هذا المعنى " جران العود" في قوله: سقياً لزوركِ من زَور أتاكِ بِه. . . حديث نفسِك عنه وهو مشغول ثم أخذه العباس بن الأحنف وأخذه أبو تمام، فجاء البحتري فتعلق عليه وأكثر منه وجعل وصف الخيال طريقة من طرائقه فعرف بها. وكيف وضع فن البديع لو لم يكن مسلم بن الوليد قد جرى على هذا الأصل فتتبع ما رآه في شعر الشعراء من استعارة وتشبيه ومجاز ثم قصدها في شعره وعمل على أن يتكلفها حتى نهج الطريقة لأبي تمام من بعده فجاء هذا واستنفذ فيها شعره - حتى غرف بها وغرفت به والأصل - كما رأيت - من أبيات متفرقة وكلمات مأثورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 أفإن رأيناه استعارة أو مجازاً في كلام جاهلي كامرئ القيس قلنا وضعهما شاعر إسلامي متأثر بشعر مسلم بن الوليد وأبي تمام لأن هذا الفن احتكره أبو تمام احتكاراً؟ إن سيدنا ومولانا طه حسين في يده ميزان دقيق اسمه ميزان القمحة، وهو مع ذلك يزن به الجبال والمدن والأقطار، وقد وزن قصر الزعفران "أي الجامعة المصرية" فقال إنه عشرون ألف طن.. ولما قيل له إن وزارة الأشغال لا تقول بهذا ولا يقرك عليه المهندسون وأنت لست مهندساً ولا وزارة أشغال، قال: كل أولئك من أنصار القديم لأنهم يتبعون علوماً قديمة يحتذي فيها بعضهم حذو بعض. . . وقد وزن امرأ القيس في ميزان القمحة هذا فكان أقة واحدة إلا عشرة دراهم. . . فلو اجتمع الإنس والجن على أن يُثقلوا ميزان الشيخ ليزيدوا هذه الدراهم العشرة ويجعلوا امرأ القيس المسكين أقة كاملة لما استطاعوا إلا إذا كان في قدرتهم أن يزيدوا عقل الشيخ لأن التصحيح في عقله تصحيح في ميزانه. وقال في صفحة 145 يكذب رحلة امرئ القيس إلى قيصر وأن شعره في ذلك مصنوع: "وإذا لم يكن بد من التماس الأدلة الفنية على انتحال هذا الشعر نحب أن نعرف كيف زار امرؤ القيس بلاد الروم وخالط قيصر ودخل معه الحمام وفتَن ابنته ورأى مظاهر الحضارة اليونانية في القسطنطينية ولم يظهر لذلك أثر في شعره. لم يصف القصر ولم يذكره ولم يصف كنيسة من كنائس القسطنطينية. لم يصف الفتاة الامبراطورية التي فتنها، لم يصف الروميات، لم يصف شيئاً مما يمكن أن يكون رومياً حقاً. ومهما يكن من شيء فإن السذاجة وحدها هي التي تعيننا على أن نتصور أن شاعراً عربياً قديماً قال هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس في رحلته إلى بلاد الروم" انتهى. فيا شيخ، أما تعلم أن المتنبي في الإسلام "كامرئ القيس في الجاهلية. "وقد اجتمع له،، من أسباب الشعر ووسائله ما لم يجتمع لذاك، وأن المتنبي جاء إلى مصر وعاش فيها وخالط أهلها؛ فقل لنا يا أستاذ الأدب: أين وصفُ الهرم في شعر المتنبي؟ أم تحسب أن الهرم كان يومئذ صغيراً ثم كبر. . . ومهما يكون من شيء فإن السذاجة وحدها هي التي تعيننا على أن نتصور أن شاعراً كالمتنبي يقيم في مصر ولا يصف الهرم؛ ومع ذلك فقد أقام المتنبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 في مصر ولم يصف الهرم. إن أنصار الجديد سيلقون مشقة وعسراً في حل هذه المشكلة ولا بد من حل هذه المشكلة. . . لقد سئمنا من جهل طه وسخافة رأيه وخلطه بين طبائع الناس وخصائص الأزمنة، فما زاد المتنبي على أن ذكر في شعره لفظ - الهرمين - كما ذكر امرؤ القيس لفظ - قيصر - فهذا من ذاك. والعجب أن الشيخ كثيراً ما يضع رأسه في موضع ثم لا تكون إلا وثبة فإذا رجلاه في موضع رأسه. قال في صفحة 148: "ونحن نقبل أن امرأ القيس هو أول من قيد الأوابد وشبَّه الخيل بالعصي والعقبان وما إلى ذلك، ولكنا نشك أعظم الشك أن يكون قد قال هذه الأبيات التي يرويها الرواة". وهنا كما ترى عقل الشيخ، ثم وثب إلى صفحة 155 فإذا هو يقول عن عمرو بن قميئة الشاعر: " لميئعرف من أمره شيء إلا اسمه كما لم يعرف من امرئ القيس ولا من أمر عبيد إلا اسمهما". وهنا كما ترى حذاء الشيخ في مكان رأسه؛ وإلا فهل كان اسم امرئ القيس هو الذي قيد الأوابد واخترع كل تلك المعاني؟ الحق أن طه حسين للأدب العربي كالكسوف والخسوف. . . يحجب حتى نور الشمس وحتى نور القمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 حرية التفكير أم حرية التكفير. . . مقالة مرفوعة إلى البرلمان المصري طلعت جريدة "السياسة، بحديث جديد للأستاذ الفاضل مدير الجامعة ينزع فيه إلى مذهبه في حديثه الأول من الإملاء على البرلمان وإلقاء العصا الفلسفية. . . لا رغبةً في أن تتحول ثعباناً كما تحولت عصا موسى من قبل، بل محامياً يسحر على أبصار النواب وأسماعهم، بل منوِّماً ينقل إليهم الإرادة وينصها لهم نصاً بقوة المغناطيس؛ بل سحابة تتنزل عليهم بالمَلك الموكل بالهداية "كما تقول السياسة"، وإن عهد القراء بحديثه الأول لمنذ قريب. ولنبدأ بكلمات الأستاذ لأن المذهب الجديد يجعلها من الحروف التي لها الصدارة. قال وهو يعني قانون الجامعة المطروح الآن بين أيدي النواب: الست أعني بذلك أن هذا القانون هو المثل الأعلى، ولكنه عمل إنساني كبقية الأعمال، يُلحظ فيه التطور في المستقبل متى وُجد لذلك ضرورة. وعلى كل حال فإن في هذا القانون للقاعدةَ الأساسية الكبرى لنظام التعليم العالي، وهي قاعدة أن الجامعة يجب أن تكون لها شخصية معنوية لتستطيع أن تدير أحوالها بنفسها، واستقلال يكفل لها حرية التفكير التي هي الأساس الأولي للتعليم العالي!. إلى أن يقول: "ربما يرد على الخاطر أن الجامعة في نشأتها محتاجة إلى وصاية الحكومة عن قرب وتدخلها في كل شؤونها إلى أن يشتد ساعدها وتستطيع الوقوف قدمُها اجتناباً لما عساه يقع من التخبط في الجامعة عند بدايتها، ذلك التخبط الذي جرت العادة بأن يقترن دائماً أو غالباً بكل بداية، وعلى ذلك يمكننا أن نختار ضرر التدخل باعتباره أخف من ضرر التخبط في البداية. هذا اعتراض له حظه من الصواب لأول نظرة إذا كنت تسمي تدخل السياسة " كذا، وهو يريد بالسياسة أينما وردت في حديثه الحكومة" في كل شؤون الجامعة ضرراً فحسب، ولكنه ليس ضرراً بل هو هدم للجامعة من أساسها، وبهذا التدخل لا جامعة ولا حرية للتفكير. . . أترى لو أنك تفكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 تحت وصاية الغير هل. أنت تفكر؟ فإذا تعلقتْ منازع التدريس وكيفياته وطرائق البحث بغير جماعة المدرسين، كان ما ترجوه البلاد من احتمال نصيبها من التقدم العلمي في العالم خيالاً في خيال، انتهى. وظاهر من نص العبارة أن أخف الضررين عند الأستاذ، هو (التخبط) أي فساد النظام، وإضاعة الأموال، وإزاغة العقائد، وإفساد العلم، والتدليس على الناس. . . الخ الخ وليت شعري عنه ما الذي يضطر الأمة إلى كل هذا في سبيل كلمة اسمها الجامعة؛ إما مدرسة تتسامى. إلى مقام الجامعات واما لا. . . بيد أن جريدة "السياسة" نقلت تلك العبارة وجعلتها رأساً لجسم مقالة افتتاحية أو رئيسية كما يقولون جاء فيها عن الجامعة: "وهذه ميزانيتها وهذا قانونها - زد أنت: وهذه سُمعتها وهذا عملها.. سيعرض عما قريب على البرلمان، وسينظر البرلمان في الأمر بغية الوصول إلى تحقيق مجد العلم ومجد مصر - زد أنت: ومجد طه حسين - وإنا لسعداء حقًّا أن هذه الفرصة الحسنة لنشر حديث الأستاذ مدير الجامعة قبيل نظر الميزانية وقانون الجامعة - تأملوا - ونشر هذه الحكمة التي صدرنا بها حديث اليوم لتكون نبراساً وهادياً عند النظر في هذا الموضوع الخطير". انتهى نصاً. أما الهادي فقد مر بك تفسيره آنفاً، وهو الملَك الذي سينزل في السحابة الفلسفية. . . وأما النبراس فلا ريب أنه سينزل بملك البرق على النواب " (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) . وهذه الجامعة لا تملي على النواب فقط بل هي تحذرهم أن يهدموها وتُنذرهم بطشةَ التاريخ إذا حدث العالم أن نواب الأمة المصرية صَدوا عن ذكر الله في المسجد الجامع حين لم يُطلقوا حرية الأذان فيه ولم يَدعُوا المؤذن أن يقول: حي على بُوذا؛ حي على بَرهما، حي على العجل أبيس. . . ونحن "فإنا سعداء حقا" أن وجدنا في نسختنا العتيقة من كليلة ودمنة هذا الحديث: قال كليلة: وَيحٌ لهذه النفس إذا لج بها مَنَزعُها وركبها سوءُ طبعها وكان من ورائها قلبٌ دَوِي أفسده داؤه وصرف همَّه وخواطره فيما تميل إليه؛ فقد قالت العلماء: إن الرأي لا يكون رأياً حتى يمكن له في الطبع أشد التمكين. لان المصلح لن يقبل عنه وفي طبعه ما عسى أن يتحول به عهدُه أو ينتكث، وما مثَلَه إلا مثلُ الزلزال الذي أراد أن يتعاطى الهندسة. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال: زعموا أن زلزالاً كان صديقاً لأحد البراكين، فقال له يوماً: قد كثر أذاك وإفسادك أيها البركان، فأنت دأباً غَيظ للناس وهلاك ولعنة، وما تنفك بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 حريق وتدمير، وإني لأرى لك حالاً ما أحسبك فيها إلا قد بُعثت من جهنم إلى هذه المدينة، وما أظنك تفلح أبداً في تغبير طبعك ومذهبك، حئى لو كنت بحرا لانقلبت على الناس طوفانا تهدم بالماء كما أنك تهدم بالنار، فقد سئمتُ صحبتك وأنا ذاهب عنك ألتمس عملاً أنفع به هؤلاء المساكين؛ لعلي أرد عليهم بعض ما تأخذ منهم؛ فقد قالت العلماء إن خير ما يكون الخير إذا هو جاء بعد شر ما كان من الشر. قال البركان: أيها الزلزال، لا تغترَّ بالفلسفة والخيال، فإن الكلام أيسر ما أنت آخذه وأهون ما أنت مُعطيه وإنه لن يكون قولك قولاً ما لم يكن عليه من طبعك دليل وشاهد، وإلا فإنما هو كلام بعضُه كبعضه وحقه كباطله وشريفه كخسيسه؛ ولو شئت أن أسمي هذا الحميم الذي أصهره في جوفي من الصخور والمعادن خمراً سائغة للشاربين لفعلتُ وقلت، ثم لوصفتها وزينتها بالشعر والحكمة وكابرتُ فيها وجادلت عليها، ولكن ذلك كله قول هراء إذا أنا لم أجد من يقول اسقني، وما فلسفتك هذه إلا كفلسفة مدير الجامعة التي في مصر. . . قال الزلزال: وما ذاك؟ قال: إنها كانت مدرسة تولاها هذا الرجل الفاضل المتكلم، وكان من المعلمين فيها صخر إنساني عظيم اسمه طه حسين، أخذت طينته من بعض أجدادنا.. وإذا تدحرج هذا الصخر فليس منه إلا الهدم والتخريب والدمامة على الناس، فأرادت تلك الأمة إقرار هذه الصخرة في حفرتها وشدها إلى موضعها؛ وأبى مدير الجامعة إلا إطلاقها وتركَها حرة مستقلة ثم تحريرها مع ذلك على الطرق العامرة والدور القائمة دون القفز واليباب، وذهب يدفع عنها فكان فيما قاله "إن التخبط قد جرت العادة بأن يقترن دائماً أو غالباً بكل بداية، فدعوا الصخر (يتخبط) على طبيعته وعلى طريقته فلا عليكم منه، وما أنصفتم والله إذ تقولون إنه يهدم عليكم الدور ثم تنسون أنه يوسع لكم الشارع. . . . قال الزلزال: دعني منك فوالله لأكونن غير ما في نفسك، وأنت تعلم حدة طبعي وما قد خُصصت به من تمام القوة والذكاء، فأنا غاد فمتعلم الهندسة. لأنها لمن أوكد الأسباب فيما أريده من الإصلاح! قال كليلة: وضرب الدهر ضربة فإذا هو مهندس قد برع وفاق وأحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وأتقن، ثم جعل يرتصد اليوم الذي يجيش فيه البركان ليعمر ما يخربه ويسد مَعاقِرَ أهل المدينة بعلمه وفضله؛ فلما كان اليوم الموعود لطف الله من لُطفه ليُخرج للناس الموعظة من هذا الحُمق، فهاج البركان غير طويل وشعَّث من ههنا وههنا، ثم كظم على ما في قلبه فلم يدمر إلا ربع المدينة وبقي سائرها قائماً على نعمة وعلى سلامة وفي أمن ورضا؛ فقال "المهندس" لنفسه: إحدى لياليكِ فهِيسي هيسي (1) ! وذهب ليعمر ما خرب صاحبه، فلما جاء تحت قواعد المدينة هز أنقاض البيوت الخربة ليعيدها بزعمه قائمة فما زاد على أن هدم كل البيوت القائمة فأرجعها خربة، وأتلفَ البركان المفسد رُبعَ المدينة وهدم المهندس المصلحُ. . . ثلاثة أرباعها. فانظر يا دمنة، إنه الجوهر والأصل لا الظاهر والحلية، وإنه العمل لا القول، وإانه الطبع لا الرأي، وإن الفاسد إذا كان معلماً فوجد طلاباً يهديهم كان كالزلزال إذا صار مهندساً فوجد بيوتاً يصلحها!. - * * * وننظر الآن إلى كلام مدير الجامعة، فإنا لا تعجبنا هذه السفسطة من هذا الأستاذ الفاضل، وما هو وحده الرجل الذكي ولا البليغ المتكلم، وكان ينبغي لمثله أن يتنزه عن مثل هذا، فإنا لنعلم أن من الكلام كلاماً يأمر الناس وهو في أسلوب النصيحة، ويُكرههم على انتحال أخد الرأيين وهو على طريق التخيير بينهما جميعاً، كبعض ما يسمى في عرف السياسة مذكرة وهو إنذار، أو إنذَاراً وهو حرب. فكلام مدير الجامعة "مذكرة" للبرلمان أو في أسلوبها أو في غايتها، ولكن يا سيدي المدير، قد كان لزلة الجامعة عذر يسعُها؛ حتى أصررت أنت وكابرت وازدريت الأمة وعلماءها وقبلتَ على الجامعة من الأراجيف والأقوال والتهم ما لا يَقبل ذو عمل على عمله، فلم تَسع الجامعة عذراً بعد. ولقد أصفقَت الأمةُ كلها على أن إفساد الأدب والتاريخ والتهكم بالدين وما جرى هذا المجرى - ليس شيئاً منها يسمى علماً، فإذا كان علماً عندك وعند شيعتك فما هو من حاجتها وليس لك أن تُكرهها عليه ولا أن تعدوَ رغبتها فيه. ثم انعقد الإجماع أو ما يسممى الرأي العام على أن هذه الجامعة مفسدة تناولت   (1) مثل عربي من قول القائل يخاطب إبله: إحدى لياليك فهيسي هيسي. . . لا تنعمي الليلة بالتعريس يضرب للرجل يأتي من الأمر ما يحتاج فيه إلى الجد والهمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ما كان موجوداً كالحقوق والطب فزاغت بهما، كما زاغت الزلزلة بآلة الرصد في حلوان (1) . وكانت آلة الرصد هذه معياراً في دقة نظامها وضبطها ولكن ذلك لم يمنع الزلزلة أن تدفعها عن موضعها وتوقع الخلل في أرقامها ودلالتها وتبتليها بفشل ما ابتُليت به الجامعة، أي "سَنة تجربة" على نص حديثكم الأول، أو "سنة تخبط" على نص حديثكم الثاني ثم تناولت الجامعة ما أرادت أن توجده، كتاريخ الأدب العربي، فأُقسمُ بالله قسماً براً: ما عرفنا في كتب الأدباء أحمق ولا أجهل ولا أشد بلادة من كتاب الجامعة، في الشعر الجاهلي، ففيم تريدون استقلال الجامعة بعد هذا وإن أدنى ما في ذلك الاستقلال أن ينتفع قوم منكم "بسلطة وظائفهم" في إفساد عقائد الطلبة، لأن ذلك من مذهبهم في الإصلاح الاجتماعي، ثم - العدول بالأدب العربي إلى ناحية الجهل والفساد والسخرية، لأنه أساس في لغة القرآن؟ ولأن القرآن أساس في الدين، لأن الدين ينافي مذهبهم في الحضارة الغربية التي يعملون لها جهد طاقتهم. وعندكم يا سيدي قوم وصفتهم أعمالُهم وشهد عليهم الأصحاب والأعداء؛ والأبرياء والأظناء؛ أفيجيز القانون استقلال هؤلاء الموظفين ليسخروا سلطة وظيفتهم في مثل ذلك؟ أتريدون الاستقلال في المحاسن أم في المساوئ؛ فإذا كانت الأولى فاين هي محاسن الجامعة وما عند الناس أسواً من - سمعتها ولا أدعى إلى السخط من اسمها، وإن كانت الأخرى فما هو يا مولانا مجرى الماء يأتي هذا بالإناء فيملأُه ويأتي الآخر بالقربة ويأتي الثالث بالفنطاس وتأتي الجامعة بعربة الرش. . . إنه البرلمان يا سيدي الأستاذ وفيه عقول ذكية وقلوب حديدة ونفوس مؤسسة وطباع مؤمنة، وهو الحفيظ على مصلحة الأمة، ولن يمكن بحال من الأحوال أن يجعل أولادنا في هذه الجامعة غيظَ قلوبنا في كفرهم وتمردهم، ولعنةَ تاريخنا في تحقيرهم وزرايتهم وأعداء ديننا في شكهم وإباحتهم. إنه إذا خرج ابن الجاهل عالماً فقد توثق ما بينه وبين أبيه بزيادة عطفه عليه ورحمته له، وإذا خرج ابن المسلم كافراً مستهيناً بنبيه وكتابه وعلماء دينه وتاريخ - قومه، مُرصداً لكل ذلك بكيده وعمله؛ فقد انقطع ما بينه وبين أبيه وصار كلاهما لعنة على الآخر وأوجبَ الدينُ على الأب أن يبرأ من ابنه وينبذه، فما   (1) قلت: كانت مصر في ذلك العام قريبة عهد بزلزال أحدث فيها أثراً ما، ولم يكنْ لمصر عهد بزلزال قبله منذ زمن بعيد، وأحسب ذلك كان في سنة "1924. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 نعطيكم أنسابنا لتقطعوها، ولا أرواحنا لتهلكوها، ولعنة اللهْ على حرية تفكير أولُ ما فيها أن أكون عدو أبي وأن يكون أبي عدوي! إن هذه الجامعة بعد الذي قد بدا منها ومن مديرها لأحقُّ بالمراقبة من الأظناء والمتهمين "والمشبوهي"! حتى تستقيم على منهاجها وتخلُص لها نيةُ الأمة ويثق بها العلماء والأدباء؛ فكما أعطيت الاستقلالَ "سنةَ تجربة" يجب أن تحرمَهُ "سنة تجربة" إلى سنتين إلى ثلاث إلى مائة إلى آخر ما في عمر طه حسين وأمثاله ممن جاؤوا إلى هذه الجامعة من تاريخ دنِس ملوَّث بالإلحاد ليس فيه موضع ثقة ولا أمانة. ألا وإن الأمة الإسلامية لتعلم حق العلم أنها مبتلاة في عداد مصائبها بفئة من أذكيائها يناقضونها الرأيَ في الدين والأخلاق واللغة والأدب، وهم في ذلك قوم مرضى العقول أصيبوا بنحو مما يسمى بجنون الفكرة الثابتة، فلا تردهم قوة من القوى عن آرائهم وأوهامهم في الإصلاح ما داموا آمنين مرزوقين؛ فبعض هؤلاء يريد جعلَ اللغة عامية لتنتهي الأمة يوماً إلى نسيان قرآنها وإهماله والتفصي منه، وبعضهم يتعجل هذه العاقبة فيريد الانسلاخ من هذا الدين ضربة واحدة بقرار من الحكومة أو بجنون حكومي كالذي وقع في تركيا، والعاقل من أولئك من يتماسك ويتصابر ويتسبب إلى غايته في رفق وهينة ومكر وسياسة، فيذهب إلى صوغ الأمة في عقولها في مدرسة كبرى كالجامعة. . .! وشريطته في هذه المدرسة أن تكون للحكومة، لما يعلم من حاجة الناس إلى مدارسها وشهاداتها، ثم أن تكون هي مستقلة عن الحكومة قائمة على حرية التفكير بنص قانونها، وبمعنى أوضح من هذا، يريد هذا الفريق الذكي أن تكون الحكومة في العاملة في تكفير الأمة من حيث تدري أو لا تدري، وبالمعنى المكشوف الصريح: يريدون من نواب الأمة أن يهدموا الأمة التي أنابتهم عنها، فيا شرها من قملة خبيثة تتوهم أنها ستلد أربعة عشر مليون قملة لتقع في رأس كل مصري واحدة. . . ثم لا يكون الفوجُ الأول المقتحم إلا لرؤوس النواب خاصة. . .! هَبُوا الجامعةْ المصرية قائمة بنفسها وبما حبس عليها الواقفون ولا شأن للحكومة بها ولم تستلحِق مدرستي الحقوق والطب، واجعلوها على ذلك مستقلة إلى أبعد ما في الاستقلال؛ قائمة على أوسع المعاني في حرية التفكير والتكفير، فماذا يجدي عليها كل ذلك وأضعاف ذلك؛ إنها يومئذ لا تكاد تنكر إبراهيم وإسماعيل حتى لا ترى مسلماً ولا يهودياً ولا نصرانياً، وحتى تصبح خاوية على جذوعها من طه وأمثال طه، وهذه حقيقة لا شبهة. فيها، فليس الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 إذن إن هؤلاء الأذكياء يريدون تسخير النواب ليُكرِهوا الأمة إكراهاً على صدع أساسها الاجتماعي وتخريب بنائها التاريخي، وهذا عملهم، وليس في الأمر إذن حرية تفكير، بل حريةُ عمل، بل حرية هوس مكري، بل حرية استخدامِ سلطة الوظيفة! لقد صاحت الأمة من حُمق طه حسين وتهوره، فماذا فعل مدير الجامعة بل ماذا فعل طه غير أنه زاد على ذلك إنذارَ الأمة في أبنائها أن دروس السنة الآتية سيكون في مناقشة القرآن من الوجهه الأدبية، ويقول هذا وهو هو الذي كذب القرآن من الوجهة التاريخية، فإن صرح بعدُ أو خادَعَ فما هو بمأمون ألبتة. "استقلال الجامعة لأجل نظام التعليم العالي". هذه عبارة يقولها الأستاذ المدير باللغة العربية القويمة، فإذا أنت أضفت لها معنى الزمن الحادث كانت هكذا زرع الجامعةِ لقلع ما يمكن قلعه. . . ". إن الباطل لا يجد أبداً قوته في طبيعته، بل تأتيه القوة من جهة أخرى فتمسكه أن يزول، فإذا هي تراخت وقع وإذا زالت عنه اضمحل؛ أما الحق فثابت بطبيعته قوي بنفسه، فالجامعة إنما تخشى على باطلها فتريد له قوة القانون وحمايته، ولو كانت ذات حق لقالت للناس: هذا عملي فانقضوه إن استطعتم، وهذا علمي فانقدوه إذا دخلكم منه شك! لكنها لجأت إلى هذا التمحل العجيب في طلب الاستقلال وحرية التفكير؛ وإنما هي بهذا الطلب تسبُّ الأمة وتهينها في علمها كما أهانتها في دينها من قبل، كأنَّ الأمة جاهلة غبية تعادي الفكر الحر إذ لا تستطيع مجادلته ولا نقضه، فالجامعة من أجل ذلك تسأل النواب أن يحموا تفكيرها ويفصلوا ما بين علمها العالي وبين جهل الأمة. لقد جادلنا هذه الجامعة وأفحمناها حتى ما تبدئ ولا تعيد، فكأنها الآن بما تطلب من حرية التفكير تريد أن تفز من كل مجادلة ومناظرة وتجعل ذلك أصلاً في قانونها حتى لا ينتقدها أحد ولا يطمع أحد منها في جواب. وما عرفنا في تواريخ الأمم أن أمة يقرر نوابها حرية الجهل في أكبر مدرسة فيها! ما هي قيمة حرية التفكير وأنت لا تجدها على أعظم شأنها وأكبر أسبابها وأوسع أشواطها إلا في المعتوهين والموسوسين وألفافهم؛ إنما الشأن في سمو التفكير قبل حريته؛ فينبغي أن يكون الفكر قوياً على مصادمة النقد، إذ يكون صحيحاً لا زائفاً، وحقاً لا باطلاً؛ ومتى كان الفكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 كذلك فما هو في حاجة إلى قانون يحميه، لأن قانونه مناظرته، أما إن كان على غير هذا فجاء ضعيفاً متخاذل الحجة واهي الدليل لا يقدر على دفع الاعتراض. ثم كان قائماً على أن يقول المفكر الباحث ما شاء ويقول المنتقدون ما شاؤوا بلا نتيجة هنا ولا هنا، فلعمري إن هذه ليست حرية تفكير بل هي حرية الخطأ، والخطأ دائماً مقيد في أي الأساليب جاء ومن أي الناس وقع. لقد حدت للفكر كل الشرائع قيوداً وحدوداً من بعضها الحجر ومن بعضها العقوبة وهكذا؛ وفيم الشرطة والنيابة والمحاكم والقوامون والمحتسبون والشرائع والقوانين، إلا أن تكون هذه كلها حدوداً للأفكار والأعمال، كما قلنا الخطأ من أن يجب أبداً أن لا يمشي إلا في قيد. يظهر لنا أن الأستاذ مدير الجامعة لا يفهمنا حق الفهم، وإلا فنحن لا نفهمه: إنه يقول حرية التفكير، ونقول قيمة التفكير؛ وهو يريد حرية الرأي، ونريد صحة الرأي؛ وهو يريد إطلاق الألسنة، ونحن لا نرى إلا إطلاق الحقائق المتكلمة؛ فإن صح رأيه وجب أن تطلق الحكومة كل من في مسششفى المجاذيب ممن خَرِف وأهتر ولا ضرر إلا من لسانه؛ إذ يجب أن يكون لهم قسطهم من حرية التفكير كما يكون للجامعة قسطها؛ وإن صح رأينا وجب أن يظلوا في قيود الطب، لأن لهذا الطب الولاية الشرعية على عقولهم وأفكارهم كما أن للبرلمان الولاية الشرعية على عقل الجامعة وتفكيرها. هناك ضرب من التفكير هو شر على الناس من محق التفكير؛ فإن إهمال الفكر وانقياد الإنسان إلى طباعه وغرائزه يبعث على غلطات مختلفة لا بد أن تقع، لكنها تدل على نفسها بأنها غلطات، إذ ليس معها إلا حقائقها وهي ظاهرة مكشوفة قد تعارفها الناس وعلموا علم عقولها أنها خطأ. أما ذاك النوع من سوء التفكير فيورط أهله في غلطات لا بد أن تكون. فإذا كانت فلا بد أن تكابر في أنها غلطات وتذهب تخدع الناس وتُمَوه عليهم وتغر ضعافهم، لأن معهم الجدل والعناد وسوء النية ومكر السيئ، وكل هذا مما يكتم حقائقها ويُظهرها في غير مظاهرها ويُلبس باطلها من حلية الحق. وكتاب الجامعة - الشعر الجاهلي - آخرُ مثلِ أخرجته الدنيا من هذا النوع كما علمتَه مما أوردناه في الكسر عليه. فإن كانت الجامعة إنما هذا تريد فهو تلبيس وغش وخداع وإن كان اسمه الرأي والفكر والاجتهاد والجديد وما شاؤوا، وإذا أباحه البرلمان للجامعة وجب أن يُفرض عليها معه إنشاء درس تسميه درس الغلط. . . ليكسب هذا الدرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 تلاميذها المساكين دربة ومراناً على إدراك خطأ الأستاذ بأنفسهم، فيستطيعوا أن يصححوا لمثل طه حسين غلطاته كلها أو أكثرها أو أفحشها على الأقل. نحن لا ننكر على الجامعة ولا نعترضها إذا هي قدمت السم في زجاجة السم، فلو أنها فعلت ذلك لهلك من هلك عن بينة - وما يُشعِرُ كما أن طلبها من البرلمان ليس إلا طلب الترخيص لها في السموم الأدبية والعلمية - ولكن الذي ننكره عليها أن تُقدم السم في زجاجة الدواء فتغش، وتسقيه الناس فتقتل، وتأخذ - على ذلك أجراً فتسرق، وهذا كله مما نجلها عنه إجلالاً شديداً، ولكن هذا كله قد وقع في درس طه حسين! يقول الأستاذ المدير في حكَمه الذهبية "أترى لو أنك تفكر تحت وصاية الغير هل أنت تفكر؟ فإذا تعلقت مَنازع التدريس بغير جماعة المدرسين كان التقدم العلمي خيالاً من خيال". ونحن - نقره على - هذا لأنه من حجتنا عليه، فلسنا نقول بترك منازع التدريس في الجامعة لمصلحة التنظيم مثلاً، بل نحن ممن يرون ترك كل صناعة إلى أهلها ومن يَثقَفونها، ولنضرب الآن مثلاً، بيننا وبين الجامعة، فهل كل "جماعة المدرسين"، في الأدب هم طه حسين الذي ليس في الجامعة للأدب سواه، أم تجد منهم في وزارة المعارف وفي - الأزهر وفي وظائف الحبهومة. وفي الصحف وغيرها؛ إن كان الأول بَطل كلامُنا ولنكسِر هذا القلم ولنرح أنفسنا من مجادلة العالم الأصغر المسمى طه حسين.. وإن كان الثاني فدرس الأدب في الجامعة يجب أن يكون مقيداً بآراء (جماعة المدرسين) ، فإن أبت الجامعة فعليها مناظرة من يجادلها فيه. لا مناص من إحداهما ولكنها لا تقبل إحداهما! ولو كانت هذه الجامعة ذات قيمة علمية. وكانت: لا تَطوِي تحت العلم نية أخرى، لدعت هي الأدباء والعلماء إلى مناظرتها وأثابتهم على ذلك ولم تسكت من مثلنا ولم تُغلق بابها في وجه صديقنا الأستاذ الخضري بك (1) تعمل في إسكاته وإسكات غيره، إما بكلامها ورجائها وإما بسكوتها وإهمالها.   (1) أعد الأستاذ محاضرة مسهبة في الرد على طه حسين وكتب إلى الجامعة يستأذنها في إلقائها على الطلبة فوسعت له وقالت إنها تقدس حرية الفكر وإنها تخصه بأوسع غرفة المحاضرة الطلبة، بيد أنها سألته أن يبعث إليها بما كتب، فلما اطلعت عليه رأت أن تستر على نفسها وأغلقت الباب وقالت لأقفالها: دافعي أيتها الأقفال المتينة. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بل الذي هو أخزى من هذا أن أستاذها نفسه يقول في أول كتابه صفحة 15: "وأنت ترى أنني غير مسرف حين أطلب منذ الآن. . . إلى الذين لا يستطيعون أن يبرأُوا من القديم. . . أن لا يقرأوا هذه الفصول " هكذا بنصه. وتالله لو أن الجامعة مدرسة كالمدارس تُدرِك معنى العلم وتعرف أنه أمانة وعهد وميثاق، لأوجعت أستاذَها بالعقوبة على هذه الكلمة وحدها، لأنه يفضحها شر فضيحة وينفي الثقة بها وبعلمها؛ إذ لا ثقة برأي إلا بعد تمحيصه ونقده، ولن يكون النقد نقداً إذا كان من أنصارك ومؤازريك، بل هو النقد إذا جاء من المعارضين لك والمنكرين عليك، ثم لا يتم له معناه إلا إذا كان من أقواهم فكراً وأصحههم رأياً وأبلغهم قلماً؛ فإن لم ينتقدك هذا ومثله فادفعهم إليك دفعاً وتحدهم تحديا وارمِهم بالعجز إذا لم يفعلوا؛ فإن الحجة ليست لك ولا هي لهم وإنما تنحاز إلى الغالب منكما؛ وحتى الحجة الصحيحة فإنها أبداً في حاجة ماسة إلى حجة أخرى تؤيدها أو تفسرها أو تحدها أو تمنع اللبس بينها وبين غيرها، فكل شيء فإنما صحته وتمامه في معارضته ونقده، إذ المعارضة نصف الحق وإن هي لم تكن حقًّا لأنها تُبينه وتجلوه وتقطع عنه الألسنة وتنفى عنه الظنة، ومن هنا يظهر لك السر المعجز الغريب البالغ منتهى الدقة في القرآن الكريم، فإن هذا الكتاب من دون الكتب السماوية والأرضية هو وحده الذي انفرد بتحدي الخلق وإثبات هذا التحدي فيه، وبذلك قرر أسمى قواعد الحق الإنساني ووضع الأساس الدستوري الحر لإيجاد المعارضة وحمايتها، وأقام البرهان لمن آمنوا على من كفروا، وكان العجز عنه حجة دامغة معها من القوة كالذي مع الحجة الأخرى في إعجازه، فسما بالحجتين جميعاً، وذلك هو المبدأ الذي لا استقلال ولا حرية بغيره، وما الصوابُ إذا حققتَ إلا انتصار في معركة الآراء؛ ولا الخطأ إلا اندحار فيها لا أقل ولا أكثر، وبهذا وحده يقوم الميزان العقلي في هذه الإنسانية. يقول الأستاذ المدير: "أترى لو أنك تفكر تحت وصاية الغير هل أنت تفكر"؟ فإذا لم أكن تحت وصاية الغير يا سيدي المدير ولكني أفكر تحت وصاية رغبة مجنونة ونية خبيثة شهدت عليها الأمة كلها فهل أنا عندك أفكر؟ ألا تراني حينئذ إذا كنتَ رجلاً عادلاً أني في أشد الحاجة إلى حمايتي من وصاية ضارة بوصاية لا أقل من أن تمنع الضرر؛ وما الفرق بين رغبة تمسني من غيري فتفسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 على تفكيري، وبين رغبة تمسُّ غيري مني فتفسد عليه بتفكيري؟ وهل كان طه يكفر في الجامعة لتكتب عنه الملائكة أم ليكتب عنه الطلبة؟ إني أخشى يا سيدي الأستاذ الجليل من استقلال الجامعة وحرية تفكيرها؟ فإن هذا الكلام إذا فسر بأعمال الجامعة كان معناه ومحصَّله أن البرلمان سيضيف إلى الامتيازات الأجنبية المضروبة على هذه الأمة، امتيازاً لدولة قصر الزعفران. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ذو الأقفال. . . نحن نعرف أن الأستاذ الفاضل مدير الجامعة رجل صُلب مستغلق كالأبواب الحصينة بعضها من وراء بعض، إن أنت عالجت باباً منها فانفتح لك بعد الكد والعناء وطول المزاولة تام من دونه باب آخر فاضطرك إلى مثل ما كنتَ فيه واستأنفتَ ما فرغت منه، فما تظفر من الرجل بطائل، لأنه فيلسوف منطيق أريب مطلع يرجع من طبعه الذكي إلى مثلٍ كتب الفلاسفة، ومن كتب الفلاسفة إلى مثل طبعه الذكي، فهو أبداً متحذر مستعد، ولا تبرح أقفاله الفلسفية على مد يده، فإذا هو وضع الباب من أبواب الكلام بينك وبينه تناول القفلَ والقفلين والثلاثة واستغلق وتَعسَّر، فهو في الرجال كالشاذ في القاعدة. أما القاعدة فتستفيض فى كثير، وأما الشاذ فهو قاعدة نفسِه. ولنا بالأستاذ صحبة قديمة، فما نعرف إلا أنه رجل منصف، ولا نظن فيه إلا خيراً. ولما أصدرنا الجزء الأول من "تاريخ آداب العرب " كتب عنه افتتاحية "الجريدة" وقال لنا بلسانه إنه قضى أسبوعاً يخطب مجالس العاصمة في هذا الكتاب؛ وكان عمله وقوله: (وسبب آخر) مما أغار تلميذه الفاضل الدكتور هيكل فاستقبلنا يومئذ بمحبرته ونَضحَ الكتاب بمقالتين من العطر الأسود. . . لم نرد عليهما إلى اليوم، وهما في كتابه الأخير الذي سماه "أوقات الفراغ " فيحسن بالقراء أن ينظروا فيهما؛ لأنا نُعجب من الأذكياء بذكائهم ولا نبالي ما يصيبنا منهم؛ فإن الصدور تجيش والطباع تغلبنا وفي الناس ما فيهم، ونحن إذا أمِنا الخطأ من نفسنا لم يضرنا أن يخطئ الناس فينا؛ ولقد كلمنا يومئذ صديقُنا الأستاذ حفني بك ناصف في الرد على هاتين المقالتين، فقلنا له: متى تم بناء - الهيكل - ظهر الحائط المنحرف! وكان الهيكل لا يزال يُبنى! نكتب هذا لأن أستاذاً كبيراً من مدرسي الأدب العربي زعم لنا أن فكرة طه حسين التي يعمل لها في الجامعة هي فكرة الأستاذ مدير الجامعة، وأن طه ليس في كبير ولا صغير وإنما هو كالبُوق يُنسب إليه الصوتُ والصوتُ من غيره. قال: وإن طه يُدِل بمنزلته من الأستاذ فهو تلميذه وصاحبُ رأيه وحامل فكرته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وإن الأستاذ لذلك أخذ طه في الجامعة ورد سواه، ولبعض ذلك يدفع عنه كما يدافع ذو العقيدة عما اعتقد؛ فالأمر بين الأمة والجامعة فى هذا الخلاف الذي شجر بينهما أشبهُ بالمصادمة بين دينين لا بد من غلبة أحدهما، ثم إذا غلب عم؛ فالأمة على مرحلة إلى جاهلية أو إسلام؛ وما ثم شيء اسمه حرية التفكير أو استقلال الجامعة، إنما هذه ألفاظ سياسية جدلية توضع على مقاديرَ ظاهرة وعلى مقادير أخرى باطنة، ليكون الظاهر مما يلي القولَ، والباطنُ مما يلي العمل. ولولا أن ذلك كذلك لكان في بعض غلطات طه حسين ما يَقذف به من فوق الحائط عجلة منهم في إخراجه والتبرؤ منه، إذ ينقطع صبرهم قبل أن يُفتح له الباب؛ ولكن أنى لهم وطه في ذلك فكرة لا رجل، وقد عرف من قبلُ سرَّاء هذه العاقبة وضرَّاءها، وما ألقيت القنبلة من هذا المدفع وهي محشوة كفراً إلا لتهدم الإيمان القائم، ومثل طه حسين ليس من مدافع العيد. . . بل هو مدافع ميدان. قال: وعندنا قوانين كثيرة، ولكن قانون الجامعة المصرية المعروض على البرلمان وضع لكسر القوانين والتفلت منها! عندنا قانون يسمونه قانون "المجلات المقلقة للراحة" ونحن الآن في حاجة إلى قانون يسمونه قانون "المحال المقلقة للضمير" انتهى كلام الأستاذ. وأنا لا أعتقد هذا ولا أقول به، وإن كعنت ألممح فيه لمحات، ولكن ترى ما سر هذا الصمت العجيب في مدير الجامعة فلا يجيب الأمة ولا يعتذر إليها ولا يعبأ بها ولا يعرف لها حقًّا، وبينا هي تتلظى عليه وعلى جامعته وعلى أستاذ جامعته نرى في يده مروحة وفي يدي طه مروحتين. . . والعجب من هذا الأستاذ الفاضل كيف أصبحت الحوادث تنقله منزلة إلى منزلة وهو يخف في يدها ولا يثقل به رأي ولا يرجح له عقل، وما يزال يتنقل في هذه الحادثة من سيئ إلى أسوأ، وما زال يضيق على نفسه ولا يفسح له ذكاؤه، فكان في غلطة صوابُها قريب والعذر منها سهل والقول فيها يسير، ولكنه أصر عليها؛ ومن نكد الدنيا أن الغلطات كالذباب: تكون الواحدة منها فإذا هي بعد قليل صارت ألفاً. فما كان من إصرار مدير الجامعة إلا أن جعل للتهمة جذوراً وفروعاً وكانت نبتة لا تتماسك وأنا لا يبلغ من ذكائي أن أنفذ إلى ذلك السر أو أكتنه حقيقته، فإني رجل بليد إذا تطرق بي الفكر إلى صلابة كصلابة الأستاذ لطفي السيد من أجل حُمق كحمق طه حسين. غير أن نسختي "من كليلة ودمنة" ليست بليدة، فقد رجعت إليها الساعة فإذا الماكر دمنةُ يقول: ولا يغرنك أنك على ثقة من غفلة من حولك، فإنك إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 لم تكن على مسافة بعيدة عن عاقبة غفلتهم فأنت على مسافة دانية من عاقبة مكرك، وإن القدر إن خلاك فلا يفلتك من يمينه إلا ليأخذك بيساره، فلا تستنِم إلى مسافة ما بين القبضتين إذا كان ما من الوقوع في إحداهما بُد. وقد كان يقال إنه لا أحمق من الغفلة في اثنين: الضارب في الصحراء تلفحه شمسها ويتنفس النار من هجيرها، فيغتسل بما يحمل من الماء فيبترد ويستزوح ويدفع عنه القيظ، وقد أنسته اللذة العاجلة ما أمامه وعمي عن الصحراء ومعاطشها وظن أن قد غلبها في راحة نفسه والترفيه من أمره، فلن يكون منها بعد أن شربت ماءه في موضع إلا أن تشرب روحه في موضع آخر، وغفلة الماكر الغاش يطمئن إلى دَحْسِه وغشه وهو يعامل فيهما أمة كاملة. فيوشك أن يلقى ما لقي الرجل ذو الأقفال حين زم بأقفاله على فضيحتين فكانت أقفاله الفضيحة الثالثة. قال كليلة: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن رجلاً حازماً فيلسوفاً كان في بلد كذا، وكان مخلصاً للناس ما يبرح لهم حق يقضيه، فكتب وألف زمناً، ثم خطب وتكلم حيناً، ثم حل وعقد في حبال السياسة، ثم إنهم أنشاوا مدرسة لهذه الأمة فلم يجدوا غيره يتولاها (إذ كانت الآمال فيها على قدر الثقة به، وأنه كان رجلاً سليم دواعي الصدر طيب النفس حسن الظن بمن يستخلصه، وكان من جماعته ومريديه رجل مغرور ينتسب في آرائه وعلمه إلى هذا الأستاذ الجليل، كما تكون النواة في الثمرة الناضجة، فهي مرارة تحت حلاوة، وهي من أثر طين الأرض في أثر ماء الجنة. وهي شيء لولا موضعه من الثمرة لم يكن له موضع إلا بحيث ينبذ ويُهمل، ولكن الأقدار، هي وضعته بذلك المكان فكأنه غلطة يغطيها الصواب. ثم إن هذا المغرور سعى سعيه وتحمل على الرجل الطيب بشفاعة غفلته الفلسفية، فإنه يقال إن لكل فيلسوف خصالاً يفوق بها الناس ولكنها لن تجتمع له إلا أحدثت فيه خصلة يفوقه الناس بها، ما من ذلك بد، لأن المعنى الإنساني المحض لم يخلص في أحد غير الأنبياء، فالإنسانية فيهم مُصفاة وفيمن عداهم كالماء: تُصفيه وتتركه في سقائه فإن لم ينشئ الترك فيه كدراً أنشأ فيه معاني الكدر، فأنت واجد بعدُ في قرارته من الهوائم والجراثيم، وهي معاني ما يحمله الماء العكر من الأخلاط والغبار والطين أو هي شر منها، ولولا حكمة الله هذه وأنه لا بد لكل فيلسوف من الغفلة والسقطة، وأن العلم لا يدفع من ذلك نوعاً إلا ليجلب نوعاً آخر - لما رأيت عالماً أسقطَ نفساً من جاهل، ولا فيلسوفاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 يلعب به العامة في بعض أمور دنياه مما يتعامل عليه الناس كالبيع والشراء وتعاطي أسباب العيش. قال دمنة: ثم فاز المغرور وسهل له الفيلسوفُ تسهيلاً عجيباً، فإذا هو أستاذ في تلك المدرسة، فلما استوى له المنصب قال: ما أحرى الناسَ جميعاً أن يكونوا مغفلين إذا كان الفيلسوف صاحبي كما أرى، فلأصنع له من العلم على نحو ما أدخلتُ عليه من الغش، فإنه لا يُحسن مما أقول شيئاً، وهو رقيق الدين كما هو رقيق النفس، وما أراني معلناً عن نفسي بشيء كما يُعلن عني الكفر، فيقتحمني الدين وتردُّ عني الفلسفة، فأجمع خلالاً ما اجتمعن لأحد قبلي، وأكون كالراية يسقط الناس من حولها وهي قائمة. ثم إنه انحط على العلم والأدب وسفَّه كل من لا يجهل جهله ولا ينعب نعيبه، وكان كالغراب الذي زعم أنه شاعر كاتب فيلسوف، فلما سألوه في الشعر قال "غاق" فسألوه في الكتابة قال "غيق" فسألوه في الفلسفة قال "غوق"! فقيل له: فلسنا معك إلا في غاق وغيق وغوق، فأين الشعر والكتابة والفلسفة؟ قال: قطع الله ألسنتكم أيها الناس، فلو أن الله بدَّلكم بها لسانَ غراب فصيح مثلي لوعيتم ما أقول، ولكنكم قوم تجهلون! قال دمنة: فلما غوَّقَ أستاذ المدرسة ذلك التغويق المنكر وأضحك الناس منه ومن مدرسته وعلوم مدرسته، وطارلت السخرية ووقعت، ثم طارت ووقعت، قال ذلك الفيلسَوف: لقد احتجت الآن إلى عقلي وذكائي، فإن هذا الأحمق أنا انخدعت به ثم خدعت به الناس، فأنا من فضيحته الواحدة بين فضيحتين، وهو مني بمنزلة الذيل من الجواد. إن سبقتُ سبق وما جرى ولا تعب ولم يُعانِ شيئاً مما أعانيه وليس إلا أنه لَصِيق بي! ولقد أوقعني حُمقه في هذه المَنزلة، فلن تحملني قدماي إلا إذا جعلت ساقيهما عمودين من حجر واستمسكت في الأرض بجذور تجعل أصابع قدميَّ عشر شجرات. ثم أقوم بعد ذلك قومة جبل راسخ لا قَعدة له إلا بشق الأرض من تحته وأنا بعدُ ذو الأقفال. ما من كلمة تُفتح علي إلا ولها عندي قفل، فجهل هذا الأحمق قُفله "حرية التفكير" إن فتحوا بذاك أقفلنا بهذا، وكفره نقفل عليه "بحرية البحث " وغروره الشنيع ما له قُفل ولكن لعل قولنا إنهم يحسدونه يصلح قفلاً، وسقوط المدرسة نجعل له قفلاً من "سنة تجربة" وسوء النتيجة لا يغلقه عنا إلا قفل "التخبط في البداية"، وتدخل الحكومة لتلافي الأمر قفله "التفكير تحت وصاية الغير" قال وجعل ذو الأقفال يضع لكل مُخزية قفلاً. . . فضج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الناس وفزعوا، وكان لهم دارُ ندوة، وكان فيها زعيم يغمُرُ الناسَ جميعاً بذكائه، وكأنما أنشأ فيه القدر من أسباب القوة على قدر حاجة الأمة كلها، فما تراه في لسانه وبيانه وذكائه وقلبه وهمته وعمله إلا قلتَ مِن ههنا ينبعث التيار الإنساني ليعبَّ به البحر كله في هذه الأمة! قال: وجمع الفيلسوف أقفاله ووضع عليها كلها قفلاً من معدن لا تذيبه النار، اسمه "استقلال المدرسة" وبعث بها إلى دار الندوة ليُقفل بها على أفواه الناس وعقولهم، فما هو إلا أن رماها ذلك الزعيم بنظراته وأدارها في يده حتى جعلت تتهاوى وتتفلَّق، وإذا هي تنماث كما ينماث الملح ألقي في الماء، وكان كل قفل لا يسقط إلا فتحَ عن سوءة أو غلطة أو مخزية من المخزيات، فقال الفيلسوف: إنا لله ما يصنع العناد إلا صنعة واحدة أولها الحيلة وآخرها الخيبة، ولقد كنت عن هذا في غِنى لولا أن هيجني ذلك الأحمق وغلبني على الرأي بمثل ما يغلب به الطفلُ أباه المخدوع، فقد والله فضحني بنفسه، ثم عا ففضحني بنفسي، وأسقطني بجهله مرة وبعلمي مرة! ولقد سخرت مني الحوادث فهيات لي أن أكون ذا الأقفال حتى إذا صرت ذا الأقفال رمتني بذي المفاتيح! * * * لا جَرَم أن الأستاذ الجليل لطفي السيد قد تحول كل منطقه خيالاً كالذي يظن أن أصابع قدميه عشر شجرات، فلسنا نعرف له في حادثة الجامعة رأياً صحيحاً ولا حجة قوية، وقد أصبح إذا تكلم أخطاً منطقه، وإذا سكت أخطأ سكوته، وما ذلك من ضعف لسان ولا فَيالة رأي ولا تهافُتِ منطق، ولكنه يدافع ما لا يُدفع، ويتولى رجلاً وَقدت عليه الجحيم ولعنه الله والملائكة والناس. وماذا يُثلجُ لوحُ الثلج إذا لم يقع إلا بين ألوح الفحم المضطرمة. كان للأستاذ لطفي السيد من عمله ورأيه وبُعدِ نظره ما يعصمه أن ينزل نفسَه هذه المنزلة، وما هو بشاعر ولا أديب ولا صاحب لغة ولا مؤرخ أدب فيعيبه أن يكون قد انخدع في طه حسين ويُزري به سقوط هذا الشيخ أو الخواجة ويَلزَمه من كل غلطة يقع فيها غلطتان إحداهما من أنه أديب والثانية من أنه مدير للجامعة. إن الأستاذ رجل قانوني وكاتب فاضل ومصلح اجتماعي، فما له ولـ طه وعلم طه؛ لكنه أبى أن يكون مديراً للجامعة في عمل ليس فيه إلا أن يكون مديراً؛ ومن هنا رأينا العالم الكبير يحتج بأوهى الحجج، ويتوكأ على كلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 من القش، كحرية التفكير، والتفكير تحت الوصاية وهدم الجامعة الخ الخ. . . ويقول هذا وهو يعلم أن أحداً لا ينازعه في هذه المعاني، وإنما النزاع في جهل الجامعة وسقوط الجامعة وكفر الجامعة وفوضى الجامعة، فيدع ما نحن فيه ليجرنا إلى ما لسنا فيه، كأنه لا يعلم أن مثل هذا يعد في أساليب الكلام من شر ما يقع فيه من توجهت عليه الحجة ولزمه الدليل، فيظن أنه يتخلص به وهو لا يزيده إلا تورطاً ولا يزيد الناس فيه إلا بياناً. أنا أخطات في رأي من العلم فتنكر أنت علي وتردني، فتأخذني الحمية. وأكبِر ذلك منك ويشق على نفسي أنا أيها الأديب الكبير أن يقال عني أخطأ وجَهِل، وأن يشيع ذلك في الناس فيكون سبة الأدبي غمِيزة في؛ فأدع رأيي ورأيك وصوابك وخطئي وأقول: إنما أنت حسود وإنما تتحامل علي، وإنما هذا من لؤمك وضغنك، وأذهب أتكلم في الحسد وما يتصل به، وأتناول المعاني من أصولها البعيدة، ولا أزال أبتعد عما كنا فيه فما أصنع شيئاً إلا أن أضيف إلى عجزي عن الحجة عيب المكابرة فيها، وإلى جهلي بالرأي جهلاً آخر بأساليب البرهان، وأمد في النزاع مداً كلما طال بيني وبينك أخرج من سخرية الناس بي ما كنتُ منه في أسبغ ستر وأوسع عافية. . . ولا أزال ألج وأتهافت، ولا يزال الناس يضحكون ويسخرون، فإذا أنا من الغلطة الواحدة فيما لا أحصي، وإذا هي ألوان كثيرة بعد أن كانت ولا لون لها، وأتكلم ألف كلمة فلا أجيء إلا بألف خطأ، وتتكلم أنت واحدة فتجيء بألف صواب، لأن كل غلطة في حمقي وعنادي وجهلي تنحاز إليك فتعد في صوابك، وإذا الناس بيننا على الأصل الذي كنا فيه من الرأي العلمي لا على الأصل الذي نزعتُ أنا إليه من الكلام في الحسد والضغن وما يخرج منهما. نقول للجامعة: الأدب والدين والتاريخ، وهي تعرف أننا من ذلك في موطن محاماة، وأنه لا منفعة لنا ولا غاية إلا الإصلاح، وأن الأمة بيننا وبينها، وأن هذه الأمة معنا وعليها، فتلوذ بالصمت عن كل هذا ولا تتكلم إلا في حرية التفكير وتوقي الهدم وكذا وكذا، ولو علمت لعلمت أنها ما تهدم نفسها إلا بمثل هذا، الجامعة ليست مديرَها ولا أستاذها وما إن لها في مصلحة الصحة شهادة ميلاد ولا شهادة وفاة، وهي باقية وهما زائلان، وما لم يوفق إليه مدير الجامعة اليوم فعسى أن يوفق إليه مدير آخر والأمور بحوادثها مرهونة، والأشياء بأوقاتها، والطبيعة بعدُ على مَساقها الذي تندفع فيه، فإن أكرهناها على غيره لم نفسدها وأفسدنا أعمالنا وأخطأتنا الفائدة منها. وكل هذا يعرفه الأستاذ مدير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الجامعة، بيد أن عمله يُشعر بأنه يعتقد أن الجامعة هي هو، وأنه إن فاتها صنيعُه لم ينفعها صنيع أحد من بعده، فكأنها فكرة بعينها ليس لها غيره وغير طه، فإذا لم يكونا لم تكن؛ لأن غيرهما لا يعمل فيها ثم، كأنَّ الفكرة مع ذلك لا تُؤمَن عليها الأمةُ ولا الحكومة. . . ولا تستقيم مع إشرافهما، إذ يرى الأستاذ المدير أن تدخل الحكومة هَدمٌ هدم هدم. . . ولن يكون هذا الرأي صحيحاً، بل لا مخرج له في التأويل إلا إذا كان تدخل الحكومة هدماً للفكرة الشخصية، وإلا فجامعةُ مَن هي؟ وكيف تنشئها الحكومة لتهدمها؟ وماذا كانت قيمتها قبل أن تستلحقها وزارة المعارف؟ إن الذي يعلن أن تدخل الحكومة "هدم" لأمره لن يمكنه إدانة الحكومة بأفصح ولا أبلغ من هذا الكلام هذا إذا كانت هذه الحكومة قائمة في رأيه على عداوة الأمة والكيد لها وإفساد أعمالها النافعة، وما هكذا يَحسُن أن يعلن مدير الجامعة المصرية عن الحكومة المصرية، ولكن العجيب أن الأمة هي التي تطلب تدخل الحكومة، ومديرُ الجامعة وحده هو الذي يأبى ذلك وينتحل فيه المعاذير الواهية ويضع له الأقفال الفلسفية. . . فلقد صارت الأمة والحكومة جميعاً عدوتين للجامعة في رأيه، وهذا على أن الجامعة ليست له ولا هو خالد فيها، فلم يبق إذن إلا شيء واحد من شيئين: إما أن الأستاذ المدير هو وحده المخلص، وهو وحده ذو الرأي الصحيح، وهو وحده رجلُ الأمة كلها. وإما أن له وحده فكرة لا تقوم إلا به وحده ويريد تسخير الجامعة لها! أروني كيف يكون المنطق الذي يُخرج من هذين الرأيين رأياً ثالثاً وأنا ألقي هذا القلم تحت "وابور الزلط. . . " ولا أعود أكتب حرفاً عن الجامعة! إن النواميس لا تعرف استثناء ولا تخضع له، وإنما يتغير وصف الشيء فيتغير قانونه، هذا عاقل يُتهم بعظيمة ويجنيها فيعاقب: وهذا معتوه يقترف إثماً فيترك، ولكل منهما حالة، ولكل حالة قانونها، ففي أي شيء يريد الأستاذ مدير الجامعة أن يكون للحكومة إشراف عليها وتدخل فيها؛ أهو أنشاها وهو يملكها وهو يرعاها؛ أم حين لا يكون هو في الأمة لا تكون للأمة جامعة؛ ألا يجوز في "التجربة " إلا وجه واحد من الجهل والفوضى والكفر، فإن قيل جَربوا الإيمان والتدقيق والنظام لم بكن ذلك شيئاً إلا عبثاً من العبث! ما هو وجه الاستثناء بعد الفضيحة والخزي وتبين المكتوم، وبعد سنة كاملة في "التخبط "، ولا بد من وجه للاستثناء إذا كان لا بد من قانون غير قانون الحالة التي أنت فيها، وإلا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 هذا فساداً في أصل النظام وعكساً للنواميس، وكنا فيه كالذي ينقض من ركن في بيته ليرمَّ صَدعاً في ركن آخر منه، كأنَّ كل ركن مستقل بنفسه مع أنها أربعة في خراب أحدها خراب جميعها، لأنها لا تراد لنفسها بل لما يَحمِلُ عليها؛ ومرض الخراب لا يُعدي بيتاً من بيت ولكنه يُعدي ركناً من ركن. ومتى اختلفت الجامعةَ المصرية والأمة المصرية واستحرَّ النزاع بينهما فما بقي في حكم العقل أنها جامعة كالجامعات، بل هي وحدة قانونية، كالأقلية في الأكثرية فإن لم تكن فوحدة سياسية في الأمة كالجيش المحتل، فإن لم تكن فوحدة علمية كالطبيب في المرضى، فإن لم تكن فوحدة عقلية كالعاقل في المجانين؛ وكل هذا سب للأمة في ظاهره وهو في الحقيقة سب للجامعة ومَهانة. ولكن الأمة بخير. وفيها أهل الحزم وأهل الرأي وأهل العقل؛ فما قيمة رجل أو رجلين أو بضعة رجال توظفهم الحكومة في الجامعة حتى يستبدوا بالأمة هذا الاستبداد ويتخذوا الجامعة مرتعاً، ويبلغ من غرورهم أن يَسْخَروا من ألف عالم من علماء الدين ويزدروا كل أدباء البلاد ويُصروا على ما فعلوا ويستكبروا استكبار إبليس ويهزأُوا بالأمة ويُلبِّسوا عليها ويزعموا لها المزاعم العريضة كذباً وزوراً! لقد نشرت جريدة "السياسة" أن هذه الجامعة التقية الصالحة اشترت كتاب طه حسين وانتزعته من السوق فلا يباع ولا يُقرأ، وبهذا أسقطته إسقاطا ذهبياً. . . قالت "السياسة": وقد رضي صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر بهذا الحل وسكت، فلم يبق من معنى لشكوى العلماء وذهابهم هنا وهنا (1) و"السياسة" ترمي شيخ الأزهر بالضعف في رأيه وعلمه، لأن ذلك إن صح فالشيخ يعلم أن طه لم يُستتَب ويُجدد إسلامه، وأن كتاب إيمانه. . . الذي نشرته الجامعة إنما كان هزءاً بالأزهر ومن فيه، ورمياً لأهل هذا المعهد الجليل بأنهم مستعبَدُون للحروف والكلمات لا ينفذون إلى أغراضها ودواعيها؛ وقد كتب في ذلك علامة الأزهر الشيخ يوسف الدجوي وسمَّى كتابَ طه حيلة بلهاء لا تجوز إلا على أبله! وهل يجوز في رأي شيخ الأزهر أن تنفق الجامعة على تعليم الكفر من أوقاف المسلمين، ثم تعود فتنفق من هذه الأموال على شراء الكفر من صاحبه.   (1) كذبها العلماء في ذلك وأعلنوا أن شيخ الأزهر لم يرض ولم يسكت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وما هذا الشراء وما جدواه؟ ألم تعلم الأمة كلها بما في الكتاب بعد أن نشرناه ونشره العلماء أنفسهم في قرارهم الذي حكموا فيه؛ إنما خسرت الأمة مرتين ليربح طه مرتين، وأخذ الكتاب من السوق وبقي المؤلف في الجامعة؛ وما أهون السرقة مرتين على من يسرق مرة ما دام لصاً بطباعه وأخلاقه! ولكن أليس في شراء الجامعةِ الكتابَ ودفعِ ثمنه ما يومئ إلى اتجاه الإبرة المغناطيسية في هذه الجامعة، وأنها إلى الجهة الشخصية المحضة، ألا فنبئوني ما فائدة العدل فيما يسمى القانون إذا نحن لم نأمن الميل الشخصي فيمن يسمى القاضي. وإذا جعلنا شراء الكتاب قياساً فقل لي أنت إن الدجاجة قد باضت ورقةَ بنك أقُل لك أنا لا ريب أن في جوفها مطبعة. . . قل لي استقلال الجامعة أقل لك إنه حماية بعض الأساتذة فيها. . . قل لي حرية التفكير أقل لك إنها حماية فكرة أثيمة. هي كما ترى أرجوحة منطقية لها صندوقان، فلن تقول إن أحدهما قد علا إلا لقنتني الجواب بأن الآخر قد سفل. . . لسنا من أمر هذه الجامعة في صندوقين، ولا شخصين؛ إنما نحن في عمل له ما بعده؛ وقد قلنا للجامعة غير مرة إن علم الأدب الذي تخرجه سيكون علم الأدب في الشرق العربي كله؛ فلم تفهم، فلما أفسدته أفسدناه علمها، ولو لم نفعل لكنا مجرمين آثمين؛ وتالله لهدمُ الجامعة أخف ضررا من هدم التاريخ، لأنها إن تُغلق اليوم تفتح غدا، ولكن التاريخ لو هُدم فمن الذي يبني "هرم كيوبس" غير كيوبس؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فيلسوفة النمل. . . لقد أضجرني بعضُ الناس وآذَوني بإحسانهم، إذ جعلوا نسختي من "كليلة ودمنة " أكبر همهم من الأدب وأكثرَ قولهم في الكتابة، فأنا كل يوم أتلقى من كتبهم ما لا أقضي منه عجباً، ولا يدرون أنهم بذلك يسبون الجامعة المصرية إذ كيف يبلغ مثلي جسيماً من الأمر في البيان والكتابة وعندنا هذه الجامعة الكبرى وفيها شيء اسمه أستاذ الآداب العربية؛ فلم لا يسألون أستاذ الآداب هذا أن يُبدِع لهم فناً من فنون الكتابة ليدل به على قيمة نفسه ويعلمهم موضعه، ثم يدل بقيمة نفسه وموضعه على مكانة الجامعة؛ والعهد بكل جامعة في الدنيا أن لا يَدرس فيها الأدبَ إلا بليغ مخترع يحمل قلماً كهربائياً في جمعه بين سلكَي الشعر والكتابة، وفي سطوع النور البياني منهما معاً آخِذاً من هذا مادة ومن هذا مادة، فيقذف بالعبارة المضيئة المشرقة تخطف خطف البرق وإنَّ فيها بعدُ لقوةَ السماء وروحاً من روح الكون كله. فإن قالوا إن إستاذ الأدب في الجامعة المصرية رجل سوقى الطبع غليظ الروح مطموس على قلبه، تفْضلُهُ العامة في النكتة البيانية وفي استعداد الطبع الشعري. وفي رقة الروح، وإنه لذلك يعادي البلاغة العربية بجهده لما يعرف من الوهن في كلامه، ومن ذلك ما يزعم أنه "جديد" أي لا يقاس إلا بقياسه هو لا بقياس من فلان وفلان - إن زعموا ذلك قلنا: فالجديد في كل هذا أن الجامعة المصرية تحمل الشهادة على نفسها من هذا الرجل بأنها في إحدى اثنتين: إما غاشة مخادعة، وإما مغفلة مخدوعة؛ فسلوها أيهما هي؟ أما إن طه حسين جديد على الدنيا غريب فيها بنبوغه منفي من ملكوت السماوات محروم لذات الجنة مرسل إلى مصر خاصة ليجدد هذه الأمة ثم يعود إلى سمائه بعد هذا "الانتداب" الإلهي. . . فقد قال كليلة: وإن الجنون قد يكون من بعض العقل، وذلك حين يقطع العقل بالظن الضعيف ويحكم بالرأي القائل وليس مع هذا الظن برهان ولا مع ذلك الرأي دليل، كالذي كان من عقل فيلسوفة النمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال: زعموا أن نملة خرجت تسعى فيما يسعى له النمل، فأبطات على قَبيلها أياماً وافتقدها جماعتها، وكان يقال لها "طاحين" (1) فلما طال غيابها قالت نملة: يا أيها النمل إن طاحين لبلاء علينا، وهي لصيقة فينا تعَدُّ منا وليست هنا، فإنا نعمل فيما يسرنا الله له من الكدح والدأب على مذهب أسلافنا وعلى العِرْق الذي فينا وهو ميزان فضائلنا وعيار مصالحنا، وطاحين هذه أبداً تعمل على مذهب الزنابير فيما ليس تحته طائل ولا معه فائدة إلا الطنين يذهب في الهواء فلا ينفعنا، واللسعُ يذهب في أجسامنا فيضرنا، وهي تزعم أنها تريد الفائدة لنا ولا تنفك تعمل بزعمها ثم لا تعمل إلا ضراً، فما أحراها أن تذهب بنا جميعا في بعض حماقاتها، وإني أحذركن ما تتورط فيه بجهلها، فإن المصيبة الواقعة بالناس من الرجل الأحمق يقع معها عذره فيكون مصيبة أخرى، وإنا نجد في كتب الحكمة أنه متى اغتر العاقل بالأحمق فتابعه وسكن إليه واتخذه دليلاً لمراشد أموره، كان في الأحمق المأفون حماقة واحدة وفي ذلك العاقل حماقتان! قال: فانتدبت لهاكبيرة من النمل كانت من قبلُ أستاذةَ طاحين، وقالت: ويلك أيتها الجاهلة المغرورة بقديمك وأهل قديمك! ألا تعلمين أن طاحين عالمة هذه القرية ومعلمتها منذ كذا وكذا. وأنها لم تبرح في ألم ومضض وعناء مما تفكر في تجديدنا وإلحاقنا بأمة الزنابير والعصافير، لتكون لنا مملكة في الأرض ومملكة في الهواء؛ أما إنه ليس من الهلاك أن نهلك معها في سبيل التجديد، بل الهلاك والله أن نحيا معك ومع أمثالك في هذه المعيشة المملولة التي لا نن فيها ولا جمال ولا متاع من متاع الطباع الجديدة العابثة الساخرة الكافرة المستهترة بالفنون ولذاتها ومناعمها، فما نبرح ندأب الساعات الطويلة في جر الحبة والذرة والهنة من الهنات، وبعد أن نكون أضعنا ساعات أطول منها في التماسك والتفتيش عنها؛ ولو قد تشبهنا بغيرنا، ولو قد طرنا، لكانت الحياة أضعاف ما نحيا، والأسباب مطلقة مباحة مَن غَلَبَ سَلَب، والأمور متروكة مخلاة من أقدم لها سُخرت له، وإن أعجز العجز أن لا نكون كلما نريد ولا نريد أن نكون، ولو صدقت هِمة النملة منا ثم أرادتا أن تكون جواداً سابقاً أو فيلاً عظيماً لكانت!   (1) كلمة من لغة النمل يقال إنها منحوتة من طه حسين. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 (قالت) : وما أرى طاحين إلا معدِّلة من طباعنا ومجددة في حياتنا، ثم بالغة بنا أسمى منزلة في مصالح الدنيا، وهي لا تجشمنا إلا أن نتبعها، وما في اتباعها كبير تعب ولا صغيرُهُ، وهي فيلسوفة وأنتن جاهلات، فسبيلها ما شاءت لنفسها وسبيلكن ما شاءت لكن! قالت النملة العاقلة: إن هذا فرع ليس من أصله، وإنما نحن أمة من النمل ومعنا من فضيلة الكد والصبر عليه، والدأب والمطاولة فيه، ومن صحة التقدير وحسن التاني للعواتِب البعيدة، ما لو وُزن بمنافع الأجنحة كلها لرجح بعضه على جميعها، وإذا كنا بطيئات وكنا نعمل أبداً فما ضرر ذلك إن كنا لا نسأم أبداً، وإن البطء والقوة إلى زيادة، خير من السرعة والقوةُ إلى نقص، وإنما مثلنا مثل الذي قال: هيهات إن عظمة لا تشترى بذهب الدنيا! قالت النملة: وكيف كان ذلك؟ قالت: زعموا أن رجلاً فقيراً أيسر بعد الخلة الشديدة، وأقبلت عليه الدنيا بعد إدبار طويل، فكانت كالنهر مقبلاً على مصبه: إنما همته أن يندفع لا يثنيه عن ذلك شيء، وكانت لا تطلع شمس يوم إلا جاءته مع أشعتها أكياس الدنانير، كان له شمسين إحداهما ذهب، وذلك من غنى الرجل وتيسيره. وجعلت الأقدار الجليلة تطرق عليه بابه لا تهدأ ولا تنقطع، فما يستقبل نعمة إلا طرقت عليه أخرى، واتخذ الدوابَّ والحاشية والموكب، فركب ذات يوم فنفرت به الدابة واعتراها ما يعتري أمثالها من الهيج والتقحم والمخاطرة، فأذرته عن ظهرها ورمت به كما ترمي بخشبة أو حديدة، فأصابت قدمه حجراً فكسرت كسراً لا انجبار له، فكان لا ينهض بعدها إلا مُتحاملاً ولا يخرج إلا محمولاً، وتضاعفت النعمة وجعلت تفشو وتمد كأنَّ فيها روحَ تيار شديد ينبعث من السماء. قالت: ولما كان يوم العيد خرج على قومه في زينته، فرآه طالبُ عالم فقير كان يمشي مع أستاذه - وكان أستاذه حكيماً - فبهره ما عاين من حال الرجل وقال: يا سيدي، ما أجمل النعمةَ وما أحسن أثرها على صاحبها، وإن الله ليدير حركة الأرض ولكنه ترك للمال أن يدير حركة أهل الأرض فَنَحلُه بذلك شيئاً من الإلهية، وما أشقى المحرومَ وأكثر عناءَ الفقير، فهو المسخر ولا ريب، وليس من البلاء أن مثلي لم يزل يحيا. ولكن البلاء كيف يحيا! فقال الأستاذ: هون عليك يا بني، فإن كل ما تراه فنعلُك خير لك منه، لأنك تنتعل على قدم صحيحة وهذا الرجل ما جاءه الغنى يجري إلا ليقعد هو فلا يمشي! وأنت تظن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 أنه يبتاع بذهبه كل ما أحب، على أنه لا يحب إلا عَظمة لقدمه المكسورة. وهيهات أن تبيعه الحياة عظمة بكل ذهب الأرض؟ قال كليلة: وطال الخلاف بين النمل، فإذا "طاحين" مقبلة تسعى. فقالت: ما كنتن فيه بعدي؟ فذكرن لها ما تراجعن فيه القول وما كان الجدال عليه، قالت: ألا دَعْن مثل هذا النمل الدين وإنما نحن نمل الدنيا. وقد كشفتُ لكن عن عالم جديد كان مجهولاً، وسآخذكن إليه فنغمره ونملكه، فاتركن هذا القديم وما كنا نتعايش عليه، وهلممْنَ إلى العالم الجديد وافعلن ما آمركن به. فقالت العاقلة: ما أنا بذاهبة، وما يكون الجديد جديداً باسمه ولكن بمنفعته، ولا منفعة إلا عن يقين، ولا يقين إلا بعد تجربة، ولا تجربة إلا في ملاءمة ومصلحة، فإذا أنكر طبعي أنكرت، وقد قالت العلماء: إن ثلاثاً لا تصلح مع ثلاث: الحياةُ مع المرض، واليقين مع الشك، والطبع مع التقليد. فأنا آخذة بظاهر العمل والحيطة، وتاركة لكن باطنَ العلم والفلسفة وسترين وأرى. قالت الكبيرة من النمل: إنما أنت من أنصار القديم ولن تفلحي أبداً. ونحن ذاهبات على حبك وكرهك، وإنما الدنيا ما يأتي لا ما يمضي، وما يولد لا ما يدفن، وستريننا في عالمنا الجديد أولات أجنحة مَثنى وثُلاثَ ورباع! ثم إنها نظرت لطاحين وقالت: أما قلتِ آنفاً إن هواء ذلك الإقليم ينبت الأجنحهَ! قالت: بلى، وإن هي لم تنبت فقد نظرت في هذا، وسنصنع كما صنع الإنسان حين لم يطر فاتخذ الطيارات، وامتنعت عليه قدرة سُخرت له قدرة تكافئها، فكان من هذا تعديل لهذه، وسنحتال لبعوضة فنأسرها ونذللها تذليلة الآلة في العمل، فتطير بنا مرة وتقع مرة، حتى إذا رُضناها وانقادت لنا وسوينا بين طباعها وطباعنا وأصبحت تطير وتنزل عن أمرنا وتطبعت على الطيران، ولدَت لنا من بعدُ طيارات كثيرة. . .! قال: ثم إنهن تزاحمن صفوفاً مرصوصة ومضين يتبعن "طاحين" وهن يتهامسن أنه ما من منزلة في العلم بعيدة أو قريبة إلا ولهذه الفيلسوفة خطوة هي بالغتُها. . . قال: وينتهين إلى العالم الجديد فإذا. . . وسكت كليلة. قال دمنة: ويحك فإذا ماذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قال: فإذا كُرة صبي ملقاة في ركن من الدار، فقالت طاحين: ههنا ههنا. فهذه هي أرضنا الجديدة! فلم يكن غير بعيد حتى غشينها من جميع جوانبها فإذا هي في رأي العين كأنها مكتوبة بالخير. واستوت طاحين على حَدَبة الكرة تفكر فيما تجدد لهن من واضح وخفي وظاهر ومُخيل، وما لبث الصبي أن عاد من المدرسة وفي جلده لذعات الضرب لأنه لم يحسن كتابة درسه، فأهوى إلى الكرة بيده ثم نظر فإذا هي سطور فوق سطور، فقال: لعن الله الكتابة أدعها في المدرسة فتمشي حروفها إلى الدار ثم رَكضَ الكرة بقدمه ركضة شديدة أتت على نصف النمل وطحنت أسفله بأعلاه، فتهارب الباقيات يسعين إلى نجائهن في كل وجه ومَهرب، وهو يقتفيهن بحذائه ويدوسهن حيث عرضن، فلم ينج منهن إلا قليل ذهبن متضعضعات إلى القرية، فتلقتهن النملة العاقلة وقالت: ما أمر جاء بكن من العالم الجديد؟ فتكلمت نملة وقالت: لعن الله الجديد ومجدده وآخذه ومعطيه، إن كان والله إلا حذاء صبي خبيث ودوساً دوساً وحطماً حطماً، فمن لم تهلك فلن تنسى أبداً أنها من الهلاك رجعت! ولقد مَحصنا الامتحانُ والابتلاء فما كان لنا من جديد مع طاحين المشؤومة إلا أن اشترينا حياة بعضنا بهلاك البقية، ولا جديد في عقل المجنون إلا جنون العاقل. * * * وبعد فسنفرغ لما كنا فيه من نقد كتاب طه حسين، فقد أبلغنا الحجة على الجامعة حتى انقطعت ولبسها الخزي بإطراقه وذلته، وما كانت أمثال "كليلة ودمنة" إلا من أجلها وعلى تفصيلها؛ فسندع تلك الأمثال لنتم القول في ذلك الكتاب. وما ندعي أننا نتعقب جميع مسائله وفصوله وإنما نختار منه اختياراً، إذ الغرض أن نومئ إلى أصول الخطأ وندل على سقوط الكتاب وبلادة مؤلفه. وأنه لا جديد عند هذه الفئة إلا الوقاحة في العلم. ولو أن طه يقبل منا أو تقبل الجامعة أو تقبل وزارة المعارف لجعلنا لمن يقبل أن يختار أَربع صفحات من هذا الكتاب تكون متتابعة متصلة وليخترها كيف شاء، فإن عجزنا عن إخراج غلط الصفحات الأربع فالكتاب كله صواب، وإن فعلنا فالكتاب ساقط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 دفعة واحدة؛ وهذه مخاطرة كما ترى، بل هي قمار في النقد، ولكنها تُنهي المعركة بضربة، وما نظن كتاباً في الأدب لمتقدم أو متأخر مهما بلغ من السخف يمكن أن يقامر عليه في النقد بمثل هذه الطريقة، على حين ذلك ممكن في كتاب الجامعة المصرية، حتى ما من رأي فيه للمؤلف إلا هو خطأ من المؤلف، ولا تميز الجامعة السها من القمر! قال في صفحة 145 وقد ذكر اختلاف الرواة في معلقة امرئ القيس في بعض ألفاظها وبعض أبياتها: "وليس هذا الاختلاف مقصوراً على هذه القصيدة، وإنما يتناول الشعر الجاهلي "كأنه رواه كله. . . " وهو اختلاف شنيع يكفي وحده لحملنا على الشك في قيمة هذا الشعر، وهو اختلاف قد أعطى للمستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي، فخيل إليهم أنه غير منسق ولا مؤتلف، وأن الوحدة لا وجود لها في القصيدة، وأن الشخصية الشعرية لا وجود لها في القصيدة أيضاً، وأنك تستطيع أن تقدم وتؤخر، وأن تضيف إلى الشاعر شعر غيره؛ دون أن تجد في ذلك حرجاً أو جناحاً ما دمت لم تخل بالوزن والقافية، وقد يكون هذا صحيحاً في الشعر الجاهلي، لأن كثرة هذا الشعر منتحلة مصطنعة، فأما الشعر الإسلامي الذي صحت نسبته لقائليه فأنا أتحدى أي ناقد. . . أن يعبث به أقل عبث دون أن يفسده، وأنا أزعم أن وحدة القصيدة فيه بينة، وأن شخصية الشاعر ليست أقل ظهوراً منها في أي شعر أجنبي، وإنما جاء هذا الخطأ من اتخاذ هذا الشعر الجاهلي نموذجاً للشعر العربي، مع أن هذا الشعر الجاهلي - كما قدمنا - لا يمثل شيئاً ولا يصلح إلا نموذجاً لعبث القصاص وتكلف الرواة" انتهى. وقد كنا نصحنا لـ طه في حديثنا معه أن يتثبت إذا كتب في جملة جملة ومعنى معنى، فإذا فرغ من الإملاء رجع إلى كلامه فعارض بعضه على بعض ليتقي المناقضة، فإنه قد يبني ويهدم على نفسه في بضعة أسطر. وأنت تراه هنا يزعم أن المستشرقين أنكروا الوحدة والشخصية في الشعر العربي، ثم يزعم أن ذلك إنما جاءهم من اتخاذ الجاهلي نموذجاً، فكان المستشرقين هؤلاء لم يقعوا على الشعر الإسلامي، ولو اطلعوا عليه لوجدوا فيه الوحدة والشخصية كما وجدهما طه. فإذا كان المستشرقون من الجهل بهذه المنزلة فما قيمة حكمهم، وإذا كانوا قرأوا الدواوين الإسلامية وطبعوا بعضها فما قيمة كلام طه؛ فإن قال إنهم اطلعوا على الشعر الإسلامي وجهلوا الوحدة والشخصية فيه، قلنا: فكيف يكون الخطأ "إنما جاءهم من اتخاذ الشعر الجاهلي نمودْجاً" وهم يعمون الشعر العربي كله جاهلياً وإسلامياً بالحكم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ولو لم يكن من العجيب إلا أن أستاذ الأدب في الجامعة يجهل سبب اختلاف الرواة في ألفاظ الشعر ومواضع أبياته، لقد كان في ذلك وحده ما يخزي الجامعة أشد الخزي، فإن العرب إنما كانوا يحفظون ويتناقلون، وهم قوم - كما قيل - أناجيلهم في صدورهم، فلم يكتبوا ولم يدونوا؛ ومع الحفظ النسيان قليلهُ وكثيره، فإذا نسي أحدهم الكلمة في بيت من الشعر وضع غيرها في مكأنها ليقيمه؛ إذ لا بد أن يرويه أو يتمثل به، ثم يكون غيره لم ينس فيروي الشعر على أصله، فتجتمع روايتان، فإذا كانوا ثلاثة فتلك ثلاث روايات كل منها بلفظ غير الآخر، وهلم جرا. وقد يحفظ أحدهم القصيدة فإذا ردها يوماً على غيره قدم وأخر في بعض أبياتها كما تتفق له حالة الذاكرة في ساعته تلك لا كما حفظها من قبل، إذ ليس عنده أصل مكتوب يعارض عليه، ويصنع غيره مثل هذا الصنيع بضرب آخر من التقديم والتأخير كما يتهيأ لذاكرته، ثم يكون غيرهما قد رواها وثبتت في حفظه فلم تختلط، فيأتي من ذلك في القصيدة الواحدة ثلاث روايات متعارضة، وإذا كثرت أبياتها كثرت رواياتها على حساب ذلك. وقد فصلنا أسباب هذا الاختلاف على أكثر وجوهه في الجزء الأول من "تاريخ آداب العرب" فلا محل لإعادته هنا. وإذا كانت الوحدة والشخصية الشعرية لا توجدان في الشعر الجاهلي لأنه من عمل القصاص وتكلف الرواة، وكانتا موجودتين في الشعر الإسلامي الذي صحت نسبته لقائليه - فقد وجب إذن أن توجد في الشعر المصنوع على الجاهلية شخصية صانعيه على الأقل، لأنه موضوع بعد الإسلام، ولأن نسبته إلى قائليه "صحيحة" إذا لم تُقله الحجارة دوإنما قاله شعراء علماء يضعون الجيد ويحسنون حَوكه وصنعته، ومن ذا يستطيع أن يضع على امرئ القيس والنابغة والأعشى وغيرهم ثم ينخدع له علماء الشعر فيحملون كلامه ويروونه إلا إذا كان فحلاً مجوداً مبدعاً يعرف كيف يصنع وكيف يحتذي! فإذا كان كذلك فكيف يغفل هذا الفحل عن الوحدة والشخصية فيما يقلده. وإن غفل فأين تذهب شخصيته هو؟ وما هي هذه الشخصية الشعرية عند طه؟ يقول في صفحة 160 في ترجمة مهلهل الذي قيل إنه سُمْي بذلك لأنه - " هلهل الشعر أي أرَقه: (وليس من شك في أن شعر مهلهل مضطرب فيه - هلهلة واختلاط، ولكنا نستطيع أن نجد هذه الهلهلة نفسها في شعر امرىء القيس وعبيد وابن قميئة وكثير وغيرهم من شعراء العصر الجاهلي، فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 كانوا جميعاً مهلهلين إذن؛ غير أننا لا نستطيع أن نطمئن إلى أن يهلهل شعراء الجاهلية جميعاً الشعر بحيث يصبح لكل واحد منهم شخصيات شعرية مختلفة تتفاوت في القوة والضعف وفي الشدة واللين وفي الإغراب والسهولة، وإذن فمن الذي هلهل الشعر؛ هلهله الذين وضعوه من القصاص والمنتحلين " انتهى. فالشخصية عنده هي الجزالة والفخامة أو الرقة والسهولة، كان كل شاعر لا يكون شاعراً إلا إذا لزم نمطاً واحداً بعينه، وهذا خطأ مبين وضلال بعيد. فليس من شاعر قديم أو حديث، بل ليس شاعر يُعد شاعراً إلا إذا أعطى المعاني خير ألفاظها؛ جزلة في مقام الجزالة ورقيقة في مقام الرقة؛ ولا تجد من يلزم طريقة واحدة في اختيار اللفظ إلا إذا لزم فناً واحداً في المعنى، كالشاعر الغَزِل المتهالك في نسيبه، فإن هذا الغزل لا تحسن فيه إلا ألفاظ في رقة الدموع والتنهدات، وأنت تعرف أن بشار بن برد هو القائل: إذا ما غضبنا غضبة مُضَرِّية. . . هتكنا حجاب الشمس أوقطرت دَما إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة. . . ذرَا منبر صلى علينا وسَلما! وهو القائل في جاريته "ربابة": ربابة ربةُ البيت. . . تصب الخل في الزيت لها عشر دجاجات. . . وديك حسن الصوت قد قيل له في ذلك فقال: إن هذا في ربابة خير من قول امرئ القيس في معلقته، وذلك قول صحيح، لأنه يعبث بربابة ويداعبها، ويكاد شعره يكون قرصة رقيقة في جلدها. . . ْوثم تعريف آخر للشخصية عند طه، فإن المضطرب لا يستقر على شيء. قال في صفحة 177 وقد أورد شعر طرفة بن العبد: ألا أيهذا الزاجري اخضُرَ الوَغى. . . وأن أشهدَ اللذات هل أنت مُخلِدي فإن كنتَ لا تسطيعُ دفع منيتي. . . فدعني أبادِرها بما ملكت يدي ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى. . . وجَدك لم أحفِل متى قام عُودي فمنهن سَبقي العاذلات بشربة. . . كمَيْتٍ متى ما تغلَ بالماء تزبد. وكرِّي إذا نادى المضاف محنباً. . . كسيد الغضا نبهته المتورد. وتقصير يوم الدجن والدجن معجب. . . ببهكنَة تحت الخباء المُعَمد! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 قال: "في هذا الشعر شخصية بارزة قوية لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة منتحلة أو مستعارة. وهي شخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد.. بينة الحزن واليأس والميل إلى الإباحة.. في قصد واعتدال، هذه الشخصية تمثل رجلاً فكر والتمس الخير والهدى فلم بصل إلى شيء "سبحان الله" ثم قال: ولست أدري أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل آخر، وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذا الشعر، بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر. إنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح.. لا تكلف فيه ولا انتحال! انتهى. . . فانظر كيف تفهم هذا الخبط، وهل كل شعر يقوله شاعر إلا هو صحيح لا تكلف فيه ولا انتحال بالإضافة إلى قائله، ثم هو بعد ذلك إذا نسب إلى غير قائله كان موضوعاً على هذا الذي نسب إليه؛ وإذا نحن ذهبنا هذا المذهب في كل ما يروى عن الجاهلية فقلنا لا يعنينا أن يكون قائل هذا الشعر فلاناً أو غيره ولم ننظر إلا في الشعر نفسه، فماذا يبقى من كتاب طه حسين وما فائدة بحثه في الشعر الجاهلي، وإنما يقوم هذا البحث على إثبات الشعر لمن عُزي إليهم أو نفيه عنهم بعد الإدلال بالحجة على هذا وعلى ذاك، "ولا يعنيني" تطلق البحث من هذين القيدين معاً؟ على أن معنى الشخصية هنا هو العاطفة والنزعة والفكرة الفلسفية، فإذا قال طرفة هذه الأبيات كانت فيها شخصيثه الشعرية وإذا قال أبياتاً مثلها قوة ورصانة في وصف الناقة لم يكن من سبيل إلى أن تكون فيها شخصيته عند طه، إلا إذا كان الشاعر جملاً من الجمال! . . . كل هذا وذاك خلط يقلد الرجل فيه الإفرنج؛ لأنه لا يعرف ما هو الشعر العربي ولا كيف يصنع؟ فإن الشخصية في هذا الشعر ليست شخصية أفراد ولكن شخصحية أحزاب وجماعات، فجماعة يلزمون طريقة الجزالة والقوة فيقلد بعضهم بعضاً في ذلك فيستوي شعرهم في الطريقة على اختلافهم وتعدد أشخاصهم، وآخرون يؤثرون الرقة والسهولة ويأخذ أحدهم مأخذ الآخر فيتشابه شعرهم كذلك. وقل مثل هذا في الصناعة البيانية، ومثله في عمود الشعر، كشعراء الشيعة وشعراء الفلسفة والحكم والأمثال.. الخ الخ، وكل نوع من هذه الأنواع يجمع شخصية طائفة، فلست بمستطيع أبداً أن تقول: هذا غزل فلان وهذا غزل فلان، تعرف ذلك من شخصية في كل منهما، أو هذه أمثال فلان وهذه أمثال فلان. إنما تختلف الطريقة والصنعة؛ كبديع مسلم وأبي تمام وطبقتهما، وكطبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 البحتري وأشجع السلمي وجماعتهما، وأمثال ابن عبد القدوس والمتنبي ومن يذهب مذهبهما، وفسق أبي نواس والخليع وأمثالهما، وزندقة المعرِّي ومن أعماه الله بعماه؛ وقس على ذلك، فإن الصناعة الواحدة تُقارب بين أهلها إن كانت بديعاً أو لغة أو غيرهما. ومن المضحك قول طه إنه يتحدى أي ناقد أن يعبث بالشعر الإسلامي "أقل عبث" دون أن يفسده، فليأت هو بقصيدة واحدة لا يمكن فيها تغيير لفظ بلفظ وتقديم بيت على موضعه أو تأخيره عن موضعه؟ وإن كان هذا مما يفسد الشعر فأول من يعبث بالشعر قائله الذي وضعه، لأنك ترى الشاعر يعمل القصيدة وفيها البيت من الأبيات وموقعه الثالث أو الرابع مثلاً، ثم يخرجها فإذا هذا البيت بعينه هو الثلاثون أو الأربعون، ولا يختل نظم القصيدة ولا عمود الشعر إن كان هنا أو هنالك. وما هي وحدة القصيدة إذا كانت تبدأ بالنسيب ثم تخرج إلى الوصف ثم تميل إلى الحكمة ثم تنتهي إلى المدح، وأنت في كل ذلك تفصل الكلام بالمثل بعد المثل. ولو حذفتَ النسيب والأمثال من قصائد المدح لاستقام المدح ولم يفسد الشعر. إن الشعر العربي خاضع لقوافيه ما من ذلك بعد، فالقافية واختلاف معانيها قبل الشاعر وعمله وفكره وشخصيته، وانظر كيف يصنع هذا الشعر: قال ابن رشيق: كان أبو تمام ينصب القافية للبيت ليعلق الأعجاز بالصدور؛ وذلك هو التصدير في الشعر، ولا يأتي به كثيراً إلا شاعر متصنع كحبيب ونظرائه، والصواب أن لا يصنع الشاعر بيتاً لا يعرف قافيته. قال: ومن الشعراء من يسبق إليه بيت واثنان وخاطره في غيرهما يجب أن يكونا بعد ذلك بأبيات أو قبله بأبيات. وذلك لقوة طبعه وانبعاث مادته؛ ومنهم من ينصب قافية بعينها لبيت بعينه من الشعر، مثل أن تكون ثالثة أو رابعة أو نحو ذلك، لا يعدو بها ذلك الموضع إلا انحل عنه نظم أبياته. "وذلك عيب في الصنعة شديد ونقص بيق ". . . ومنهم من إذا أخذ في صنعة الشعر كتب من القوافي ما يصلح لذلك الوزن الذي هو فيه، ثم أخذ مستعملها وشريفها وما ساعد معانيه وما وافقها واطرح ما سوى ذلك، إلا أنه لا بد أن يجمعها ليكرر فيها نظره ويعيد عليها تخيره في حين العمل وهذا الذي عليه حُذاق القوم. قلنا: ولو كان شيخ الجامعة "من حُذاق القوم" لعرف أنه لا يعيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الشعر العربي ولا ينقصه إلا القافية، كما أنه لا يحسنه ويزينه إلا هذه القافية نفسها؛ فإذا قلنا الوحدة والشخصية، عابته القافية من جهة ما، وإذا قلنا التأثير والتمكين والموسيقى والنغم وقوة السبك والاتساع في المعاني ودلالة بعض الكلام على بعض، كانت القافية هي تمام الحسن. وهذه القافية الواحدة في القصيدة هي أعسر الأشياء في - الشعر الإفرنجي، فلما انطلق شعراؤه منها جاؤوا بالشعر كما يجيء أحدنا بالمقالة من النثر: جُملاً معلقة على جمل وسطوراً مرتبطة بسطور؛ فمن ثم معنى الوحدة في الشعر الإفرنجي وما هي بشيء عندنا لأن لغتهم قليلة الزخرف ضئيلة المادة، على أننا إذا نوعنا القوافي والبحور جاريناهم وسبقناهم لو أن عندنا أمة تطلب الشعر؛ فإن الشعر العربي بعد الأمويين لم يزل شعر فئة لا شعر أمة، وقد بيَّنا هذا المعنى في مقالة نشرها "المقتطف " الأغر. إن للشعر العربي على طريقته المعروفة حيزاً من النفوس يجب أن يقر فيه ولا يعدوه، - فإن مداره على التأثير، فإذا أردته - على غير ذلك كنت كالذي يتناول العود أو الكمنجة ليتخذ من أحدهما هراوة يضرب بها! ونمسك الآن عن إتمام هذا البحث لأن له موضعاً في الجزء الثالث من كتابنا "تاريخ آداب العرب" ونحن ندخره لموضعه. غير أنا نختم القول بطرفة بديعة في الشخصية قالوا: كان ابن أبي المولى من شعراء المدينة، وكان موصوفاً بالعفة وطيب الإزار؛ فأنشد عبد الملك بن مروان شعراً رقيقاً يقول فيه: أبكي فلا ليلى بكت من صبابة. . . لباك ولا ليلى لذي البذل تبذل واخنَعُ بالعتبى إذا كنت مذنباً. . . وإن أذنَبَت كنتُ الذي أتنصل فرق له عبد الملك وأخذته هذه الشخصية العاشقة المحترقة، فقال من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ليلى هذه؟ إن كانت حرة زوجتكها! وإن كانت أمة لأشترينَّها لك بالغة ما بلغت. قال الشاعر: كلا يا أمير المؤمنين، ما ليلى التي أنسب بها إلا قوسي هذه سميتها ليلى. . .؟ لأن الشاعر لا بد له من النسيب. فيا ليلَى يا ليلَى. كل يغني على ليلاهُ متخذاً. . . ليلى من الناس أو ليلى من الخشب! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 مسلم لفظاً لا معنى. . . كنت أوردت في المقال الذي عنوانه "قال دمنة. . . " مثل الخطيب الزنديق الذي غره الضعف من نفسه طيشاً ولؤماً، وغرته القوة من الناس حلماً وتكرماً، فطاش ولؤم بمقدار ما تغافلوا وكرموا وزعم له شيطانه أن الكفر لن يكون في مثل هؤلاء الجامدين كفراً إلا في المسجد الجامع، وعلى المنبر، وفي يوم الجمعة. ولما أوفى دمنة على مهوَى المثل وأنشأ ينحدر إليه، كانت بقية الصحيفة مقطوعة من نسختي، فقلت لعل في القراء من تكون عنده نسخة غيرها فيعارض عليها ويأتينا بما يكمل هذا، فلم يتمه أحد إلى اليوم وقد كاد ينسلخ الشهر! ثم إن جريدة "السياسة" اليومية نشرت مقالاً لـ طه حسين يرمي فيه علماءنا بالجمود والجهل، ويغري بهم نواب الأمة وشيوخها، ويخرجهم مخرج المتطفلين على هذه الأمة وعلى التاريخ والعصر، وكأنه حسب - أصلحه الله - أن البرلمانيين نُسَخ من نفسه أخرجتها مطبجة الجامعة. . . أو كأنه لا يعلم أن نفسه هذه كتاب مهماً تجهد الأبالسة في نشره لا تنشر منه في أمة يكون فيها الأزهر وعلماؤه والعربية وأدباؤها أكثر من عشر نسخ نصفُها في الجامعة المصرية وحدها. . . ثم خرجت "السياسة" الأسبوعية وفيها مقال آخر للشيخ (أبي مرغريت) في فلسفة العلم والدين والجمع بينهما؛ فلم يعد يسعُني في الدين وهو ميثاق، ولا يجمل بي في الأدب وهو أمانة، إلا أن أجد بقية مَثلِ الخطيب. فنفضت بيت كتبي نفضاً حتى أصبت القسيمة الضائعة من تلك الصحيفة. فإذا فيها ما نسخته: قال دمنة: فلما كانت الجمعة والتقى الناس لأداء المكتوبة، جاء الخطيب - وكان رجلاً ضريراً - فشق المسجد حتى صعد المنبر، فتنحنح وسعل، وقال: أيها الناس، لقد وقع في قلبي الرثاء لكم، وداخلتني الشفقة عليكم؛ فما أغشكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 بعد اليوم ولقد غششتُ من قبلُ إذ كنت لا أقول ما أعلم، فلن أجمع على نفسي بين ما ترونه كفراً وما أراه غشاً؛ لقد كنت أقول لكم: "عباد الله" وإنما أنتم عباد أنفسكم، فإن رجلاً عربياً وضع لكم شرعاً وكتاباً لفق فيه من خرافات الأعراب الذين يبولون على أعقابهم، ثم مضى لسبيله فتوهمتم ديناً وإلهاً، وتعبدتم لهذا وتعلقتم بذلك، فَوَهمكم تعبدون، وأنفسكم تؤلهون، وزعمتم أن الوحي كان ينزل كلاماً، ولو نزل كلاماً للمهتدين لنزل حجارة على الكافرين. . . ولما انتهى إلى هذه الكلمة من قوله، أصابته حصاة في وجهه، حَصَبَه بها رجل من عُرض الناس، فقال: ها! كأنكم توهمونني أن السماء ترد علي بهذه الحصاة، ولكن من أين جاءت؟ جاءت من ناحية الباب لا من ناحية السقف، وليس أحد على الباب، وليس أحد إلا في المسجد، فمن المسجد أصِبت. وهذا هو المنطق. فرماه أحدهم بنعل صكت وجه، فقال: وهذا دليل آخر، فما كانت السماء لترسل نعالاً؛ وهذه النعل كما أتحسسها نعل (مطينة) وليس في السماء طين فمن أين جاء الطين؟ جاء من الأرض، وكانت النعل في قدم أحدكم فالتاث بها فمنكم أصِبتُ، وهذا هو المنطق. فتصايح الناس وقالوا: أيها الشيخ إن أول الغيث قطر وينسكب، وهذا هو المنطق. . . " ثم انهمرت عليه نعالهم حتى ملأت جوف المنبر ودفنوه فيها دفناً، ثم تركوه وتركوها له ومشوا حفاة يرون أنهم يُغبرون أقدامهم في سبيل الله. قال دمنة: ثم إن شيخاً كان معهم فخالفهم إلى المسجد وتسوَّر المنبر حتى علاه، فكشف عن وجه الخطيب المسكين وكان في برزخ بين الدنيا والآخرة، فتنفس حتى ثابت إليه روحه، ثم قال له: أيها الغبي، لقد كنت عالماً تكفر في نفسك وفي رأيك، فتركوا لك رأيك ونفسك ولم يضطروك إلى ما تكره وخَلاك ذَمٌّ؛ ولكنك كنت رجلاً حمِقاً مخذولاً، لا تعرف موضع رأسك من مواضع رؤوس الناس، فلما أبيت إلا أن يكون على كل عنق مثلُ وجهك الدميم، وأبيت إلا حملهم على كفرك، وجعلت باطلك أمير حقوقهم؛ وأبيت إلا أن تسمى فيهم رأساً وما يعرفونك إلا ذيلاً كان منهم ما رأيت، فعرَّفوك أيها العالم العظيم قيمةَ علمك، إذ أهدوا إليك مكتبة عظيمة كل "مجلداتها" نعال. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فقال الخطيب: ولكنهم أهانوا المسجد وانتهكوا حرمته وأبطلوا الصلاة. . . فقال الشيخ: يا رقيع! ما أراك الساعة تتكلم إلا بلسان من نعل. . . قم أخزاك الله! فلو أنهم عرفوك بهذا الثقل لأهدوا إليك مكتبة أخرى من الحجارة! قرأنا ما كتب طه في العلم والدين فإذا منزلة الأستاذ في العلم كمنزلته في الأدب، وهو مقلد فيهما جميعاً لا يصحح شيئاً على وجهه، لأن ملكة التمييز فيه ضعيفة، ومن ضعفها استطال علىَ الحقائق غروراً ومكابرة وجرأة، يحسب في ذلك تغطية لجهله وخطئه، إذ كان في منصب علمي كبير وليس معه من وسائل العلماء في حدة الذكاء وصحة الاستنباط، ولا من أخلاقهم في الأناة والتثبت، ولا من أوصافهم في الإقرار والتسليم إذا توجهت الحجة وقام الدليل، بل هو ما ترى من خبط إلى هوج إلى حمق إلى سورة كسورة السكارى في الهذيان والعربدة. . . ولقد يقتلع المرء جبلاً من الأرض يمتلخه من عروقه فيفرغ منه، ولا يقتلع غلطة من نفس طه وإن شهد الملأ من الناس على أنها غلطة وعلى أنه لا يقوم فيها عذر؛ حدثني فلان قال: ناظرت هذا الشيخ طه يوماً فلما ضيَّقت عليه وانقطع وصار بين التسليم أو البَهتِ، قال: لا أريد أن أقتنع! ، وانظر أنت أي رأي يستقيم في هذه الدنيا مع "لا أريد أن أقتنع" وهي كلمة تأكل الأدلة والبراهين كما تأكل الناس الحطب: كلما ازدادت من الأكل ازدادت من الجوع. مهد طه لرأيه بأن أعلن لشيخ الأزهر ولعلماء الدين أنه مثلهم مسلم، ثم قال: "والفرق بيني وبين الشيوخ أني مسلم حقًّا أفهمُ الإسلام على وجهه ": فيا أرض ابلعي، فهذا مستنقع لا رجل؛ أهو مسلم حقاً وشيخ الأزهر والعلماء مسلمون "لاحقا" وهم لا يفهمون الإسلام على وجهه مثل طه لأنهم لم يكذبوا القرآن ولم ينكروا النبوة مثل طه! . . . لا يستقيم الكلام على ما تفهم من أوضاع اللغة العربية إلا إذا كان لـ طه شيء خاص يسميه إسلاماً؛ فمن ثم تنشأ الفروق الكثيرة بينه وبين شيخ الأزهر والعلماء؛ وهذا الشيء الخاص على ما يظهر هو حرية الفكر والرأي، يفهم على قدر ضعفه ويعمل على قدر ميله، ويخطئ والخطأ عنده إسلام، ويضل والضلال إسلام، ويفجر والفجور إسلام، ويكفر والكفر إسلام ويسب الإسلام وذلك إسلام أيضاً! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ليت شعري إلى كم يتنطع. هؤلاء المساكين في معنى حرية الفكر والرأي. فاسمع يا طه: قال دمنة: ثم إن هذه الدباجة كانت تزعم لنفسها حرية الفكر، وتنسى أن للفكر شروطاً كثيرة لم تجتمع لها، وأن حرية الفكر في مثلها هي حرية الجناية عليها وحرية الجناية منها، فرأت جملاً بازلاً كالقصر العظيم يقوده طفل صغير، فهالها ما رأت من عظمه وقوته، ووقع من نفسها ما علمت من لينه ومطاوعته. فقالت للدحاج: إني قد فكرت في الترفيه عنا، فسنتخذ لنا خادماً قوياً نمتهنه فأخذت في منقارها زمام الجمل وجاءت به تقوده، فلم يكد يضع خفه في تلك التماريد " الأقفاص" حتى هشمها وتفلق البيض وهلكت الفراريج وطاح الدجاج في كل ناحية، وفهمن من مصيبتهن ما لم يفهمن من عقولهن، وهذا كله على أن الجمل لم يضع إلا رجله في بيت الدجاج، فكيف لو ذهب وجاء فيه كما يفعل الخادم في الخدمة. . .؟ ثم قال طه، "إن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس، من حيث أن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة وتقع الجماعة في تطورها، وإذن فالدين في نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحي، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها وإن رأي "دوركيم" أن الجماعة تعيد نفسها، أو بعبارة أدق "أنها تؤله نفسها" "يريد أنها تخترع الإله بفكرها ثم تعبده، فهي تعبد فكرها وتؤله نفسها" وأن النصيحة أن يقال الحق للناس، وهو أن الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى وليس إلى لقائهما سبيل. . . وأن العلم لا يقبل تأويلاً، فهو إذا زعم لك أن الأرض كرة وأنها تدور حول الشمس لن يقبل منك أن تؤوله أو تحوله عن وجهه، كما أنه لن يقبل منك أن تؤول أو تحول قواعد الحساب وأصول الرياضة. وإذن فالتأويل يتناول نصوص الدين وحدها، وهؤلاء المؤولون يفسدون نصوص التوراة والقرآن ويحملونهما غير معناهما، ليوفقوا بينهما وبين العلم؛ هم يأتون بتوراة جديدة وقرآن جديد، وهم يفهمون التوراة والقرآن (لا يذكر إلا التوراة والقرآن) ، أما الإنجيل فيظهر لنا أنه في شفاعة زوجه المسيحية. . .) فهماً لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 سُئل عنه السلف من المسلمين واليهود أما النصارى ففي شفاعة. . . " لأنكروه أشد الإنكار. ثم يرى طه أن من الممكن أن يكون الإنسان ذا دين يؤمن بما لم يثبته العلم، ويكون عالماً لا يقر ما لم يثبته العلم قال: فكل امرئ هنا يستطيع إذا فكر قليلاً أن يجد في نفسه شخصيتين ممتازتين. إحداهما عاقلة تبحث وتنتقد وتحلل "يعني وتكفر" وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا، لا نستطيع أن نخلص من إحداهما. فما الذي يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة نافذة، وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة ديانة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؛ وأنا أؤكد أن هذا اللون من الحياة النفسية وحده هو الذي يكفل السلم بين العلم والدين، وهو أيسر على المسلم منه على اليهودي والنصراني. فأما أن تقف موقف المؤولين فتغير النص وتحمله ما لا يطيق، فإنك لا تنصر الدين ولا تؤيده، وإنما تفسده وتنزله عند إرادة العلم، وتعترف بأن السلف كله كان خاطئاً حين فهم الكتاب على غير ما تفهم وعلى غير ما يفهم العلم.. ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيرَه، وللدين ثباته واستقراره؛ إنك إنما تجعل الدين هزءاً وسخرية بإخضاعه لهذا النوع من العبث الذي يسمى تأويلاً، وخير من هذا النحو من العبث وإفساد النصوص الإلحادُ الصريح ". انتهى، كلام طه بحروفه، وتلك خلاصة مقالة لم ندع منها إلا الحشو وإلا ما هو زيادة في الكفر أو ما لا طائل تحته، وأنت تراه يدير الكلام على نفسه ويقيم لنفسه المعاذير مما فعل في دروس الجامعة ومما سيفعل، فإن مقاله هذا مصارحة للأمة كلها بالعداء، وإصرار على ما أنكرته منه، وإعلان إليها أنه لن يتغير، وأنه سيجحد ملء نفسه وعقله، وأنه مُرصِد لها ولدينها؛ ثم يزعم للناس أنه مع ذلك مسلم مؤمن، والمقال بجملته تفسير وتوجيه وتعليل لكفر الرجل بحجة العلم يريد أن يثبت فيه أنه من الممكن أن يكون مثله كافراً أشد الكفر على اعتبار أنه عالم يبحث بعقله، ثم لا يمنع ذلك أن يكون مؤمناً أقوى الإيمان على اعتبار أنه شاعر يحتوي الإيمان في شعوره! وليس يخفى أن الشعور محل الغفلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 كما أن العقل محل الخطأ، فلمَ يكون الشيخ كافراً ومؤمناً في عقله وشعوره، ولا يكون في فلسفته هذه مغفلاً من ناحية ومخطئاً من ناحية أخرى؟ وهل يجتمع هذا التناقض إلا في عقل واهن ضعيف كعقل الأستاذ؛ وإلا فمن هذا الذي يعقل أن نفي النبوة والوحي وتكذيب الكتب السماوية هو على وصف من الأوصاف علمٌ وعقل، وعلى وصف آخر دين وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويكون اجتماع الوصفين في رجل واحد شخصيتين لهذا الرجل الواحد؟ وفي أي عقل أن في النفي إثباتاً لما تنفيه، وهما نقيضان ولا يجتمع نقيضان معاً في هذا الكون كله، فإن هذا الكون نواميس لا تعرف حرية البحث ولا حرية الرأي، وليس فيها ناموس مختل اسمه طه حسين، وحكم الشرع أنك متى كفرت فقد كفرت، لا يُقبل منك عدل ولا صرف حتى ترجع عن رأيك وتتوب منه وتجدد إسلامك. ثم من الذي يسمي الشعور شخصية والعقلَ شخصية، وفي أي تفسيم هذا؛ وعلى هذا القياس فالنسيان شخصية والذكر شخصية، والإنسان كله شخصيات، أي كله أناس؛ إنما الشخصيتان في عرف العلماء أن يكون لامرئ من الناس حالة معينة من عيشه وعمله فيؤخذ عن نفسه بضرب من الذهول يغيره ويحيله إلى شخص آخر، فتراه ينكر اسمه ونفسه وأهله وعمله ويذهب في نحو غير ذلك من الحياة كأنه رجل غير الذي كان بل كان روحاً أخرى تقمصته؛ ثم يزول ما اعتراه فيرجع إلى شخصه الأول ويعود إلى سيرته الأولى؛ وذلك عندنا محض هذيان، فإنا لا نقول بالتقمص ولا بالتسربل، ولا نرى مثل هذا إلا قد اعتراه شيء في مركز من مراكز المخ فجعل يقظته كأنها حلم، حتىْ إذا زال العارض رجع إلى وعيه وثاب إلى نفسه (1) . يخلط طه في معنى العلم ومعنى الدين فيذكر أنهما لا يلتقيان إلا إذا نزل أحدهما للآخر عن شخصيته، ويزعم أن العلم لا يرى الدين إلا قد خرج من الأرض كما تخرج الجماعة، فمتى قطع العلم على أن الجماعة الإنسانية خرجت من الأرض وقد أخذ مذهب دارون يتصدع ويتخرب على زلازل القلم وانحياز ناموس النشوء عن هذه الجهة الحيوانية؟   (1) علم النفس في أحدث ما انتهى إليه ينقض كلام طه في مسألة الذات العاقلة والذات الشاعرة ولا يقبل هذا النقسيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 ومتى كان العلم يبحث في الأديان على أنه علم؛ وكيف له أن يبحث فيها وهو مقصور بطبيعته وتحديد هذه الطبيعة على ما يدخل في "باب الأدلة الحسية، ولا وسائل له إلا وسائل الحس المعروفة من البحث والاستقراء والمقابلة والاستنباط، دون ما يتصل بالمعاني العقلية المحضة مما هو نظري فلسفي كالمعاني التي يرجع إليها الدين؛ إنه ليس بعلم ما يجاوز تلك الحدود المسورة بأسوار البحث والامتحان بحيث لا تخرج منه النتيجة الصريحة التي برهانها الحس واليقين دون الظن والجدل. وما العلم في حقيقته إلا سؤال هذا الكون الغامض بالوسائل التي يستطيع الإنسان أن يسأله بها، ثم تَلقي الجوابِ منه بالطريقة التي تجيب بها الطبيعة من إظهار منافعها ومضارها وعللها ونواميسها، وهذا الإنسان لا وسيلة له فيما وراء عقله، فلن يستطيع أن يسأل الكون من ذلك عن شيء، وإن هو سأل كما ترى من بعض الملحدين الذين ينتحلون العلم انتحالاً فإن الطبيعة لن تجيبه بشيء، إذ كان السؤال لا ينتهي إليها بالطريقة التي تستخرج منها جواباً أو تقتضيها عملاً. ومن أجل ذلك لم تكن أمثال هذه الأسئلة الإلحادية إلا اضطراباً في عقول أصحابها أو تعنتاً منهم على الأديان وأهلها، وما هي من العلم ولا هو منها في سبب ولا غاية، فقول طه مثلاً إن قصة بناء الكعبة خرافة، وإن إبراهيم وإسماعيل شخصان وهميان - لا يُعد علماً، بل حمق محض؛ فإذا اعتذر منه بالعلم أضاف إلى حمقه جهلاً، فإذا أصر على قوله واعتذاره زاد على الجهل والحمق الغفلة! إن فرقاً بعيداً بين النظرين العلمي والعقلي، فللمذهب العلمي طرق ممهدة إلى غايات بعينها قد انتهت إليها هذه الطرق، أو طرق أخرى لا تزال تُمهد ولكنها لا تتأدى إلا لمثل تلك الغايات، فهو حركة تدفعها الإرادة وتحددها وتصرفها، أما المذهب العقلي فبينما هو يمشي إذا هو يطير إذا هو ينساح كما ينساح الضوء، فلا ضابط له إلا من جهة كونه كلاماً معقولاً أو غير معقول، وقد يكون هذا المذهب في بعض الناس هو انتظار المذهب، لأنهم مذبذبون لا يستقرون على شيء، وقد يكون هو الشك في كل مذهب، وقد يكون في نقض مذهب معروف، وكل هذا من تفاوت قوى العقل لا من تفاوت قوى العلم، كما ترى من التباين بين غير المحدود وبين المحدود وقد كان عند أسلافنا من علماء الكلام تعبير لغوي بديع يمثل لك المذهب العقلي كله، فيقولون: إن فلاناً يتكلم في هذه المسألة على البور والنظر، وهو يبورها وينظر فيها: إذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 يمتحنها امتحاناً عقلياً جدلياً محضاً بين استغلاق بدليل وفتح بدليل آخر ولا غاية له من ذلك إلا التضريب بين الأدلة وتغليب بعضها على بعض والانتهاء بالأقيسة المنطقية إلى منقطع الغاية؛ فالكفر بالشبهة عمل عقلي، والإيمان بالدليل عمل عقلي آخر، والعلم عمل غير هذين؛ لكن إذا قوي العقل وتمكن وأصاب وأمدته البصيرة النافذة والخيال اللامح الذي يلحق بالإلهام تبعه العلم فمال إليه لا محالة، لأن هذا العلم لا يكشف عن شيء إلا هتك عن سر من أسرار الطبيعة. ولا يبين عن سر إلا أوضح منه ضرباً من ضروب الكمال في الخليقة، والكمال في نفسه دليل على المبدع، والأبداع الإلهي في كل معانيه إعجاز للعقل الإنساني وإعجاز العقل هو وسيلة الإيمان الصحيح. فالعلم على هذا من وسائل الإيمان التي تؤدي إليه في الغاية لا في الطريقة، بشرط أن يكون العقل سليماً صحيحاً، فزعم طه أنه لا يلتقي مع الدين وأنه ليس لالتقائهما من سبيل، إنما هو مبني على ما في عقله من التناقض أو على ما في نفسه من المرض. إن هناك حقيقتين تعلوان بالدين علواً كبيراً حتى يفوت العلم أو العقلَ معاً ويخضعهما جميعاً، فالأولى: أن العقل لا يدري كيف يعقل ولا كيف يفهم. وما العلم في هذا بأعلم منه، فعمل هذه الخارقة المجهولة هو الدليل على وجودها، وهي بعد معرفة غير معروفة، والثانية: أننا نخضع لنواميس كثيرة متضاربة لا يعرف العقل ولا العلم ما هي في كنهها وذاتها، ولكن ما يقع من آثارها توازناً واختلالاً هو الدليل على إثباتها وهي كذلك معرفة غير معروفة. فليس مع هاتين الحقيقتين ما يمنع العقل والعلم أن يخضعا للدين، وما الدين إلا إقرار الإلهية والاستدلال عليها بآثارها، وهي معرفة غير معروفة بالذات. ومتى تناول الدين شؤون الناس والحياة وسنَّ طرقَ الاجتماع والمعاملة كما عندنا في ديننا الحنيف، فقد توثقت الصلة بينه وبين العلم ووجب التوفيق بينهما فيما يختلفان عليه، وإلا كان أحدهما لغواً وعبثاً. وهذا يكشف لك خبث أستاذ الجامعة. فإنه يقول بترك الدين على استقراره، ليكون العلم رداً عليه فيهدم الدينُ نفسه بهذا الجمود ويهدمه العلم بالتغيير والتحول، فلا يبقى في الناس من يرى في هذا الدين الجامد شيئاً معقولا ولا شيئاً صحيحاً، ريصبح كأنه ضريبة على النفوس إن لم تكن وراءها قوة الحكومة لا تجد من يحملها ولا من يؤديها، وما هي إلا أعوام بعد ذلك حتى بصبح علماء هذا الدين في الأزهر كِعلماء الآثار في دارِ الآثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 والعلم وإن كان لا يعمل للدين ولكنه في أشد الحاجة إليه إذا اعتبرنا هذا العلم ذريعة من ذرائع الإنسانية في نظامها ومصالحها، فهو يسخر لها الطبيعة ويؤتيها المنافع والمضار، غير أنه لن يستطيع أن يحمي المنفعة من تعادي الناس وتناحرهم عليها، ولن يستطيع أن يمسك المضرة حتى لا يقع بها التعادي والتناحر؛ وهنا موضع الدين. فهو وحده القائم على النفس الإنسانية لحماية المنفعة وإمساك المضرة، ولولا أن الإنسان حيوان تقي، وأن نظام اجتماعه نظام دينه، وفي قانون جسمه قانون قلبه، لأكل الناس بعضهم بعضاً. وقد يقال إن الحكومات والقوانين تغني عن الدين في ذلك أو تغني غناءه، وهذا وهم جربته الإنسانية لعصرنا في حكومة البلشفيك فأسقطت الدين وأقامت القانون؛ فلم يكن من ذلك إلا سقوط الإنسانية نفسها، وصارت القوانين لحماية الرذائل بعد أن كانت للحماية منها. وما فشا الإلحاد في أمة من الأمم إلا مسخ من نفوس أهلها - فنزل بها حالة بعد حالة حتى لتعرفها في عاقبة - الأمر نفوس حمير وبغال وسباع وقردة ونحوها لا نفوساً إنسانية. فعلماء الأديان مادة ضرورية في تركيب الاجتماع الإنساني، إن خلا مكانها فيه لم يسدَّه شيء، والدين الإسلامي خاصة بما فيه من الأعمال والآداب التي لا تقوم الإنسانية على أفضل ولا أثبتَ ولا أقوى منها - كما بيناه في كتابنا "إعجاز القرآن" - يجعل لعلمائه من الشأن ما لا يستطيع إنكاره إلا أحمقُ مدخول العقل، أو مفسد مدخول النية. قد يأتي لهذه الدنيا رجل ذكي فيلسوف يرى ما رأى الفيلسوف "روسو" مثلاً من أن رجال الدين قوم يعيشون في غير عصرهم، أو في عصر غيرهم. ولكن مثل هذا الذكي الذي تقبله أوروبا ينقلب ذكاؤه بلادة أشد بلادة إذا هو ظهر في العالم الإسلامي، فلن يستطيع أن يثبت أن علماء هذا الدين متطفلون على الحياة، إذ الإسلام يقوم على أصول خمسة منها أربعة عملية اجتماعية، ونحن متى أسقطنا علم الحلال والحرام ووسائله الكثيرة من علوم الأثر التفسير والأصول والعربية وما يداخلها، لم يبق من الإسلام إلا ما يريد طه وأمثاله، ولم يعد الإسلام إلا كلمة يسعها اللسان كما يسع نقيضها. فإذا ذهب أربعة أخماس الدين لم يبق لعلماء الدين موضع؛ ولعل هذا هو الذي شعر به طه فنطق به ففضح فيه نفسه، إذ هو لا يقيم من أعمال الإسلام شيئاً، فظهرت له فروق كثيرة بينه وبين شيخ الأزهر وعلماء الدين ورأى علومهم لغواً وعبثاً وغفلة من غفلات الأمة، وكل ذلك مما تتكلم به نفس الرجل عن الرجل وهو لا يدري، كأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 يقول إن المسلم لفظة، فما حاجة اللفظة إلى أحكام وإلى علماء بهذه الأحكام، وكأنه يرى أن هذا الدين العظيم كان في تاريخه جسماً، ثم صار الذراع من الجسم، ثم الكف من الذراع، ثم الإصبعَ من الكف، ثم الأنملة من الإصبع. ثم الظفرَ من الأنملة، ثم القلامةَ من الظفر تُقصُّ اليوم وتُرمى ولا حول ولا قوة إلا بالله! أما ما خبط الرجل من أن التأويل يفسد نصوص الدين، ويكون اعترافاً منا بأن السلف كله كان مخطئاً في فهم الكتاب على غير ما تفهم وعلى غير ما يفهم العلم، فهذا كله من جهله العجيب ومن أنه لا يدري معاني ما يقول، إذ يساهم نفسه في كل ما يسنح له من فكر أو رأي بلا تمحيص، أو التمحيص ليس من قوته، أفيريد هذا الأستاذ أن تتغير الدنيا والعقول والعلوم ثم نكون نحن الجامدين على بعض معان لغوية قارة في ألفاظها؟ ألا يعلم أستاذ الأدب في الجامعة أن من أوضح أسرار الإعجاز في القرآن الكريم أن ألفاظه تكشف لكل عصر من المعاني بمقدار ما يتقدم العقل الإنساني في أسرار الأشياء، فكان فيها حياة أبدية، وكأنها مقدرة على طبقات العقل والعصور. وهي مع ذلك لا تتغير، وأنه لولا هذا السر لماتت هذه الألفاظ من زمن بعيد، فلم يكن السلف مخطئاً في الفهم وإنما كانت الطبيعة مخطئة في إفهامه، ولو كشفت له كما كشفت لنا وبقي على ذلك الفهم كما يريدنا الأستاذ أن نبقى عليه لكان هذا باباً من الجهل ليس في الجهل أوسع منه. على أن مثل هذه المسائل العلمية معدودة، والشأن كله فيما عداها من مسائل الإنسانية؛ وقد أفضنا الكلام عليها في كتابنا (إعجاز القرآن) فلا حاجة بنا لأكثر من الإشارة إليها. وهنا سر من الأسرار العجيبة، وذلك أنه قد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قُبض ولم يفسر من القرآن إلا قليلاً جداً، وتركه للعصور وعلومها وآلاتها، فلو هو فسر لثبتت ألفاظ القرآن على معنى واحد فناقضت العلم ولكان ذلك وجهاً يُتطرق منه إلى الطعن في الإعجاز وفي الدين نفسه؛ إذ لا يسع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يفسر للعرب على قدر أفهامهم وذرائعهم القليلة، فإذا تقدم العقل وانكشفت الحقائق أصبح ذلك لغواً. أفلا يكفي هذا المعنى سبباً لوجوب التأويل، كما هو معنى من أظهر معاني الإعجاز! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 رأيي في الحضارة الغربية عَلِم الله ما فتن المغرورين من شبابنا إلا ما أخذهم من هذه الحضارة، فإن لها في زينتها ورونقها أخذة كالسحر، فلا يميزون بين خيرها وشرها، ولا يفرقون بين مبادئها وعواقبها، ثم لا يفتنون منها إلا بما يدعوهم إلى ما يميت ويصدهم عما يحيي وما يحول بينهم وبين قلوبهم، فليس إلا المتابعة والتقليد. وسأوجز هذا الرأي ما استطعت، وسأجعل كلامي فيه أشبه بلغة النظر: تأتي اللمحة القصيرة على ما تطول العبارة فيه وتمتد. إن هذه الحضارة لا تظهر أبداً على حقيقتها، إذ كانت حقيقتها لم تجتمع بعد، وقد أنشأها جيل قريب منا وورَّثها من بعده وترك معها أخلاقه وطباعه، فما برح الناس يشبهون الناس، وإنما صبغت الحياة ولونت ودخلها التمويه والزخرف والخطب في هذا يسير، إذ كان الأصل الإنساني لا يزال باقياً، وأكثره لا يزال سليماً، وبعض الرؤوس التي اخترعت ما غير الدنيا لا تزال بعدُ في الدنيا. ولكن الشأن حين تتناسخ الأجيال خَلقاً بعد خَلق ويظفر على هذه الأرض الإنسان الميكانيكي الوارثُ أخلاقه وطباعه من الآلات أكثر مما يرثها من النفوس، فيومئذ لا يكون القول في الحضارة موضعَ حسبان وظن كما هو الآن. وعلى أن الدنيا لا تزال بخير، وعلى أن الحضارة الغربية لم تَعد من الإنسانية موقع الألوان والتحاسين؛ فقد غمر شرها وكثر أذاها وأخذ أهلها يتدافعونها ويتذممون منها وألزموها الإثم وألحقوا بها الفساد وأبكى عقلاءهم وحكماءهم ما جلبت عليهم من الأخانيث والمضاحيك والمهازل والمفاسد وكبائر الإثم والفواحش، ولم يقم خيرها بشرها ولا غطت مصالحها على مفاسدها. يحمل الإنسان في نفسه نقيضين، هما عقله وهواه، أو دافعه ووازعه. فإذا أطلقهما معاً أفسداه، وإذا قيدهما معاً أفسداه كذلك، ولكن تمام الإنسان ونظامه أن يطلق العقل. - ويحد الهوى؛ فيصفي بعضه في بعض فإذا هو قد خلص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وتحرر؛ وما دامت الأهواء مقيدة في حدودها فليس في العقل إلا محض الخير. فإذا تركا جميعاً لغاياتهما طمَّ شيء على شيء ورجعت الحياة صراعاً حيوانياً. واحتالت العقول لتغيير الوضع الإنساني، وتواضع الناس على الأخلاق البهيمية الفاسدة يدخلونها في آدابهم فلا ينكرونها ولا يردونها ولا يرون الأدب يكون بغيرها أدباً. فالحضارة الغربية أطلقت العقول تجدُّ وتبتاع، أطلقت من ورائها الأهواء تلذ وتستمتع وتشتهي، فضرب الخير بالشر ضربة لم تَقتل ولكنها تركت الآثار التي هي سبب القتل، إذ لا تزال تمد مدها حتى تنتهي إلى غايتها، وذلك هو السر في أنه كلما تقادمت الأزمنة على هذه الحضارة ضج أهلها وأحسوا عللاً اجتماعية لم تكن فيهم من قبل. ولو قد عمت الحضارة وتغشت أوروبا كلها فلم يبق في تلك الأرض سواد ريفي أقربُ إلى الطبيعة وأشكلُ بها ولا يزال في الحياة على إرثه القديم كالسواد الأعظم الذي يعمر قراها ويملأ صميمها في كل مملكة منها - لرأيت أفظع ما ترى العينُ من بلاد متعادية متنابذة، لما يتنازع أهلَها من طلب المنافع الشخصية والتكالب عليها والاستهتار بالشهوات والتناحرِ على تكاليف حياتهم الثقيلة المملولة المستوخمة. بيد أن ريف أوروبا وقراها وما فيها من نزعة الدين ومن معاني الطبيعة البيعدة عن الحضارة ومن الأخلاق السوية الصحيحة التي لم تُزِغها المدنية - كل ذلك هو الذي يمسك هذه القارة أن تنهار ويحفظها أن تتحلل، وهو كالبداوة المحضة بإزاء الحضارة في معانيها المستهلكة، فهو بذلك مادة التجديد الإنساني في أوروبا، على حين أن هذه المدنية هي مادة التجديد الحيواني بما تصرف إليه الحواس من المتاع واللذة. والحواس رُوْاد القلب فما أدت إليه أصلحه أو أفسده؛ ولقد قرأت في هذه الأيام رواية يقال إن كاتبها نادرة أوروبا، فما فرغت منها إلا وأنا أعتقد أن كاتب أوروبا هذا هو حيوان أوروبا. . . إن العقول الناضجة المميزة لا تَهَبُ منها الحكمة الإلهية بقدر ما تَهَبُ من الأهواء ولا بعض ذلك، بل هي من قسط من الأفراد الذين لا يبلغون فصلاً في الكتاب الإنساني الكبير. أما الشهوات فهي للجنس كله؛ إذ هي غايات طبيعية في تركيب الأجسام؛ ولذا قامت الأديان على سنة حكيمة كافلة للمصلحة، وهي إبعاد الشهوات عن المجتمع وإباحة القليل منها بشروط وقيود، واعتبار درء المفسدة مقدماً على جلب المصلحة، وذلك وإن لم يُؤتِ الناس عقلاً فإن العقل لا يؤتيهم غيره في آداب الحياة، ولكن الحضارة قامت على إطلاق العقل والهوى، فاستباحت الدينَ فى طوائف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الناس وتركته بلا أثر في طوائف أخرى، فكانت تحكيماً للشهوات في الخلق وتمكيناً لأسبابها في الاجتماع، ومن ثم أخذت تقتلع الأخلاق الإنسانية من أصولها. وما أعرف أكثر مظاهر المدنية إلا أمراضا مسماة بغير أسمائها. وكلها جميلة سائغة مشرقة، لأنها كلها تؤلف حلماً مريضاً كأحلام الخمر والأفيون. . . يحسب هذا الغربي المتحضر أنه قهر الطبيعة وسخرها فانتصر عليها، ولا يعلم أن الطبيعة تهزأ به، لأن هذا النصر بعينه هو الذي يسلطها عليه فتهزم أخلاقه وتوهن قوته الروحية وتطحن لبه في قشرته وتمكن فيه لأعراض الانحلال والسقوط، فهو لا يغير الطبيعة وإن انتصر عليها، وهي تغيره ثم تتركه يسمي نفسه المنتصر، فتضيف إلى حماقاته حماقة الغرور! أصبح الغربي المتحضر عصبياً ثائراً حساساً يدلف إلى الجنون بخطى بطيئة لكنها سائرة متحركة، وابتلته المدنية بأمراضها التي لم تكن في أسلافه. كالسرطان وغيره، وضربته الشهوات بخدَر الحاسة الروحية وخمولها فأصبح يعمل للغرض الأسمى بوسائل معكوسة لا تؤدي إلا إلى الغرض الأسفل. ورجع كأنه غريب عن الطبيعة الخشنة التي لا بد له من خشونتها ليبقى قوياً بها وقويا فيها وقوياً عليها، وتغير من كل ذلك تاريخ عقله وأعصابه. فضعف النبوغ الفني وأصبح النمط العالي منه خاصاً بالتاريخ القديم وحده، مع أنه ليس بين القديم وبين الجديد إلا طبيعة هذه الحضارة وأثرها على العقول، أما الإنسان فهو هو. بيد أنه في الحضارة الأولى المتخشنة كان كالدينار الجديد رزيناً خشناً، فأصبح في هذه الحضارة الناعمة كالدينار الأملس مسحته الأيدي وأزالت حرشته فهو إلى ضعف وإلى نقص! اتخذت الحضارة المرأة الغربية من وسائلها في ترقيق الطباع وإرهاف الملكات، ومع المرأة ما معها من فنون الدعابة والمغازلة والمفاكهة والإغراء وما تحت هذه من الطباع والأخلاق، فإذا العالم المتحضر في صبغة من الأنوثة متى أخذ الدهر مأخذه فيها استحالت من بعدُ صبغة من الفجور يشمل هذا العالم. ويقولون: الجمال والفن! ولا يعلمون أنهما إذا استفاضا وعمَّا جاء منهما الخبال والهوس، وخرج من اجتماع كل ذلك الانحلال والسقوط، كما وقع في التمدن الروماني والحضارة الغربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 إني لا أرى أكثر مظاهر هذه الحضارة إلا أسلحة قاتلة تقتل الخير والرحمة في قلوب الناس. فهي ترفع تكاليف الحياة وتزيد فيها وتُعسر آمالها، فتنشىء بذلك الفقر المدقع، وتخرج معه الفوضى والاختلال، وتحدث به الأخلاق السافلة كالتلصص والدماء والخبث والحسد ونحوها ويزيد العالمُ كل يوم بأسباب كثيرة تبدعها الحضارة؛ فلا تكون الزيادة إلا عبثاً وشراً ومضايقة، لأن ما كان يكفي الجماعة ذات العدد أصبح لا يكفي إلا فرداً واحداً، ويومئذ لا تستقيم الإنسانية إلا بأن يغتذي بعضها من بعض، فيكثر القتل والاستراق والإباحة، ولكن في ألفاظ وتعابير مدنية. . . والآفة يومئذ أن الإنسانية تكبر والأرض لا تكبر، فتضيق الحياة بأهلها وتزيدها مطامعهم ضيقاً، فيتقرر عندهم نطام التفتيل ويصبح قانوناً إنسانياً عاماً، وما أرى هذا القانون سينفذ إلا في الأجنة في بطون أمهاتهن، بحيث يكون في كل أسرة ميزان للموت لا يعطي الدنيا من إحدى كفتيه طفلاً حياً إلا بعد أن يجتمع في الكفة الأخرى أربعة موتى أو أقل أو أكثر. ولن يجدوا علاجاً من داء الحضارة إلا بالحمية منها، فيوشك إذا هم تنبهوا إلى ذلك أن يمنعوا الناس من بعض فنون هذه الحضارة بقوة القانون، وأن يفرضوا عليهم بعض الجهل فرضاً يؤخذون به ليبقى تاريخ العالم متصلاً وليجد النوع الإنساني على هذه الأرض من يوجده بصفاته وخصائصه، فإن الأخلاق في تلك الحضارة قائمة على خير قواعدها، إذ لم يكن من سبيل لتغيير البناء الإنساني إلا بتغيير هذه القواعد. وأنا أرى أنه لو انتزع من هذه المدنية أكثر حسناتها لذهب في ذلك أكثر سيئاتها، إذ كانت الحسنة هي التي تخرج السيئة؛ فالغِنى الواسع بإزاء الفقر الأوسع، والرفاهية السرية بإزاء الشيوعية والفوضى وهكذا، ونعيم هذه الحضارة نعيم في أقله وشقاء في أكثره، وهو يفسد من يناله بإضعاف أخلاقه القوية الصالحة، ويفسد من لم ينله بتقوية أخلاقه الضعيفة الفاسدة؛ ذاك تسقط به مؤاتاة الشهوات إياه، وهذا يسفل به امتناعُها عليه وهي لغيره معرضة؛ ذاك يفسده ما في نفسه، وهذا يفسده ما في نفسه وما في غيره. ولا يذهبن عنك أن الحضارة تقرر في جميع الناس هذين الأصلين العظيمين: الحرية والمساواة، فينشأ الناشئ عليهما ويترشح لهما في الحياة. حتى إذا شب وانتهى إلى الواقع وجد تلك الحضارة بعينها هي التي تقتلع الأصلين وترمي بهِما في وجهه، فليس في الواقع إلا أشراف ووضعاء، وإلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 علية وسفلة، وإلا أفراد معدودون من كل طبقة يراغمون سائر الناس من العمال والمهَّان والمساكين ونحوهم، كأنَّ أساطين المال والسياسة هم وحدهم أصابع الدنيا تأخذ بهم ما هي آخذة، وبذلك ترجع عقيدة المساواة وإنها لعقيدةُ الظلم، وتعود فكرة الحرية وهي فكرة الاستعباد، فإذا سواد العالم المتحضر هو الناقم على الحضارة المستريب بها، وهو على سخطه ونقمته مسخر لمعيشته الضيقة المقسومة بالجرام من أيدي أصحاب القناطير، يعطيهم دمه بخبزه، ويشتري موته بعيشه، وذلك كله مما يجعله متربصاً بالفتن، سريعاً فيها إذا وقعت، تابعاً لكل من يدعوه إليها أو يستجيشه عندها، متوثباً على ما يدري وما لا يدري، كما يقع الآن في أوروبا! فالكبير في هذه الحضارة ظالم هو أشبه بمظلوم، والصغير مظلوم وهو أشبه بظالم، وكان الحقيقة نفسها خرجت من موضعها فكل شيء حقيقة وكل شيء زور! والروح الإنسانية متى أصبحت موتورة ساخطة متبرمة بأسباب مختلفة كأسباب هذه المدنية من سياسية واجتماعية ووطنية - لم تكن روحَ الحياة ولكن روحَ القتل وما في حكمه، ومن ثم فلا بد في هذه الحضارة من انفجارات حربية مستمرة، ولا بد لها أن تجد من تقتله ومن تظلمه ومن تستعبده؛ وإذا تحاجزت الدول وتتاركت زمناً فإنما يُسمِن بعضها بعضاً في مراعي السلم والعيش وكل أمة عينها على شحم الأخرى! . . . ولقد كانت الحرب العظمى تنقيحاً إلهياً عنيفاً لهذه الحضارة الزائفة. فوضع الله يده عليها فمحت أكثر حسناتها ورقائقها وطُرفها البديعة، وأميتت طباع الترف لتنبعث طباع القوة، وقرَّ في الرجل معنى الرجل وفي المرأة معنى المرأة وكانا قبل ذلك وإن الرجل نصف امرأة وإن المرأة ضِعف نفسها. . . فكان الحرب كانت مِصْفاة للحضارة ثُقوبها الخرائب والخنادق والقبور، ومتى جَمعت الأوساخ بعد زمن فالمصفاة باقية. . . لست أنكر أن الحضارة زينة الحياة الدنيا وبهجتها، ولكن آفتها أن غايتها التي تجري إليها إنما هي المتعة واللذة وانتهاب العمر؛ فهي بذلك تؤتي جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 لذات الحياة، لمن أطاق واتسع؛ كما تؤتي جميعَ مكارهها لمن حُرم وقُتر عليه؛ وبهذين تُوجد ألفاً من السفلة والحشوة وسقاط الناس إذا هي أوجدت واحداً من أهل الفضل والرحمة في الإنسانية، ولا قصد فيها بل هي إسراف من طرفيها لا يألو أن يدفع الناس من حد إلى حد إلى غير حد علواً وسفلاً؛ فالنزاع في المادة والنزاع في العاطفة ذاهبان إلى ملتقى واحد، هو سخط الإنسان على الإنسان سخطاً شقياً مدنفاً؛ إذ لا أشقى في الاجتماع من ساخط على من لا يترضاه، هي حضارة على المجاز إذا توسعنا في العبارة لتعم الناس، فإذا حققنا في صريح هذا المجاز رأينا فيها الذلة والمسكنة والتهلكة بوسائل هي العز والغنى والحياة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 المجدد الجريء. . . قال كليلة: واحذر يا دمنة مصارع الجرأة في الرأي وما يكون مثله من الرجل الحَمق إذا تكلمت حماقتُه في لسانه؛ فإن الرأي ميزان لغته على الوفاء والنقص مما يوزن فيه لا من اليد التي تزن به، فإن هو ترك لما يلقى عليه أبان فصدق وحدد، وإذا عَبثت به اليد إمالة أو تعويجاً أبان فكذب وغش، وإن الجراءة هي علم الجاهل حين يكون له علم، وجهل العالم حين يكون للعالم جهل، وقد قالت الحكماء إن هذه الجراءة كانت امرأة فتزوجها العلم وتحفى بها وبالغ في إكرامها ورعايتها وفلسف لها الحياة ما شاء، فلما ولدت ولدت له الحمق، فقال: وا سوءتاه! نزع الولد إلى أمه الخبيثة، وسبقت حكمة الله أن لا يخلق حياً إلا من اثنين، كي تلد الأمهات النعمة مضاعفة والمصيبة مضاعفة أو لينقص شيء من شيء غيره، أو ليزيد أمر في أمر سواه، أو ليبطل عمل من عمل آخر؛ وما يخرج النقيضان ولا المتجاذبان إلا من اثنين. ثم إنه بتَّ عقدة الجراءة وطلقها، فخلف عليها الجهل، وكان بعلاً سيئاً عنيفاً جعل يمكر في أذاها كل حيلة ويغلظ عليها بكل سوء ويعسفها عسف الأجير دابته، فلما ولدت ولدت له السخرية، فقال: وا مصيبتاه! جاءت نعل طِباقَ نَعل. ثم شب الحمق والسخرية معاً، فتشاتما يوماً وتغالظا وأبت عليهما الطباع إلا أن يكون لكل منهما القهر والغلبة، ففزع كلاهما إلى أبيه وجاء به، فذهب العلم يحتج ومضى الجهل يخاصم، فأقبلت الجراءة على صوتهما وقالت: ويحكما! فيم هذا النزاع؛ ثم أرادتهما على الصلح، فالتفت الجهل إلى العلم وقال: يا أخي يا أبا الحمق، قال العلم: لا غرو يا أبا السخرية. . . فإنما هي الجراءة اللئيمة ولدت لي وولدت لك فجمعتنا بولديها وجعلتني أخا سوء وأبا سوء وعم سوء! قال كليلة: وما أشبهك يا دمنة بالرجل الجريء الذي طَوعت له الجرأة وسولت له أنه أعلم الناس، فذهب يؤتيهم علمه وزعم لهم أن البناء ثمر. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 قال: زعموا أنه وقعت بمدينة كذا زلزلة فتصدع أكثر دورها، فجاء أصحابها بالمهندسين فشدوها بعمد غليظة من الخشب ليصلحوا البناء من فوتها وهو ثابت لا ينهار، فهبط المدينة شيخ جريء أحمق، فرأى الدور من كثرة أعمدتها كأنها قائمة على شجر، ورأى البنائين يعملون أعمالهم، فقال لبعض وجوه المدينة: إن بلدكم هذا إلى يوم الناس هذا لم ينزل به عالم غيري فيما أرى، وإن لكم عندي رأياً إن تأخذوا به جاءتكم هذه الدور جديدة كيوم نشأت، فإنكم تفسدونها بهذا الإصلاح وتغرَمون فيها الغرامة الكثيرة ولا تزيدون على هدمها، فاجمع لي الناس لأعرفكم ما تصنعون. قال: فشاع ذلك عنه وتعالمه أهل المدينة، فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: هذا رجل عالم وما يكون ذلك له رأياً إلا من خبرة وتجربة وعلى بصيرة ونظر، فلا يوحشن أنفسكم منه سوء ظن به حتى تأتوه وتسمعوه وتعرفوا ما عنده. ثم إنهم اجتمعوا للرجل وقالوا له: أيها الحكيم، قد رأيت ما صنعت الزلزلة ونحن في سنة شديدة جمعت علينا بين قحط الأرض وارتفاع السعر وخراب البناء، فلعل الله قد بعثك إلينا رحمة من هذه الثلاثة الآكلة. قال: فإني إن شاء الله ما رجوتم، وإني فيئة لكم مما أصبتم به، تلوذون بعلمي ورأيي، ولكن اتقوا الجهل من بعدي وتعلموا واعتبروا، فإن ذا العلم حقيق أن لا يَعدَمَ في كل خطب حيلة، وإن ذا الجهل خليق أن لا يجد في أي خطب حيلة. ولم يزل يعظهم بهذا وشبهه حتى ضجوا، فقال قائلهم: أصلحك الله! متى أقمنا الدور فرغنا لك فتعظنا وتعلمنا، أما الآن فهلم رأيك الذي وعدتنا. قال: فاسمعوا ويحكم! أما رأيتم شجرة ألقت ثمرها ثم جاءت به من قابل؟ قالوا: كل الشجر يفعل ذلك. قال: فما رأيتم الشجر جذوعاً متى قطعت نبتت وبسقت فروعها وأثمرت؟ قالوا: ثم ماذا؛ قال: أخزاكم الله! فكيف عميتم عن الرأي وذهبتم عن الحيلة! أفما تنظرون هذه الجذوع التي تحمل بيوتكم؛ فلو قد نشرتموها بالمناشير لتلقي ما فوقها من هذه الدور الخربة لنبتت والله من قابل تحمل بيوتاً جديدة صفراء وحمراء وألواناً شتى. . . * * * نحن لا نرى في علم الأستاذ طه حسين وأمثاله إلا الجراءة، وهي خلة من خلال المجانين، فإنها أقرب إلى التهور والحمق ما دام صاحبها لا يضبط على رأيه ولا يأخذ على نفسه ولا يتوقى ولا يفهم شيئاً على الأصل الذي كان عليه بل على الأصل الذي يريد هو أن يكون عليه، وفصل ما بين المجنون الجريء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 والمجدد الجريء. . . أن جراءة المجنون من عمل أعصابه المريضة، وجراءة المجدد من عمل نفسه المريضة، وأمراض النفس كثيرة، منها التقليد، ومنها حب الصيت والشهرة والمحمدة، ومنها الغرور والاستطالة والتعنت، ومنها الكفر والإلحاد، فإذا رأيت مجدداً من أصحابنا فثق أنك منه بإزاء رجل مريض النفس، ولا يقذفن في روعك أنه فيلسوف أو علامة أو أديب، فهذه الصفات أو أشباهها لا قيمة لها ألبتة إذا عريت من الخلق الذي يقوم به أمر الأمة وتصلح الأمة عليه من دين وأدب وفضيلة. والقوة المدمرة التي تعمل في نقض النظام تفتك في كل معنى بسلاحه الذي هو أقطع فيه، فهي كما تظهر في أهل الفسق والدعارة واللصوصية وأهل الظلم والتعسف، تظهر بمقادير أخرى في بعض الفلاسفة والعلماء والأدباء، لأن هذه القوة تلون الرذائل كما تلون الأثمار. وانظر ما الفرق بين ثمرة كالحة مرة وأخرى ناضرة مرة، أو بين حمراء وصفراء تستويان في كراهة المذاقة ولؤم الطعم، أو بين عالم مفسد برأيه ولص مفسد بعمله، أو بين فاجر ساقط النفس وبين أستاذ لئيم النفس؛ أما إنها كلها أسلحة تعمل عملاً متشابهاً وإن اختلفت في أنواع التمزيق ومقاديره، وليس يشفع في إرادة الشر أنه جاء من رجل عالم أو أديب أو مدرس في الجامعة المصرية، كما لا يزيد فيه مجيئه من فاجر أو عيَّار أو متشطر أو سفاح؛ إذ هو هو في جميعهم! وإنما هؤلاء وأولئك أساليب إنسانية ليس غير. وقد أصبح طه حسين في زعمه حرية الرأي كالحيلة على القانون: تقع معها الجريمة ثم تكون بها البراءة، وكم من لص ومزور وفاتك وأشباههم قد برَّأتهم المحاكم كما برأت الجامعة المصرية طه حسين في أسلوب واحد. لمكان الحيلة لا لموضع البراءة، وكم من غفلة جازت على القانون ما دام قائماً على إيجاد المجرم أولا ثم يجيء القاضي في المحل الثاني، وكان الوجه أن يقوم على رد الناس عن الجريمة قبل وقوعها، وهذا فرق ما بين القانون والدين: فالدين قانون الأمة كلها وقانون الفضيلة الإنسانية عامة، وهو العقل العام للخلق، أما القانون فهو للمجرمين وللرذيلة خاصة، وهو العقل الخاص لبعض الخلق؛ وإذا أهملوا الأول وغنوا عنه بالثاني دفعوا بالأمة كلها في سبيل الإجرام والرذيلة، ومن ثم تعرف مكان علماء الدين الأمة وهم هم الذيى يعمل طه وأمثاله في تحقيرهم وتهوين أمرهم حماقة وجهلاً وسوءَ نظر وسوء دِخلة. يعتذرون لـ طه بحرية الرأي، وكأنهم لا يعلمون أن بعض الحرية في التقييد وبعضها في السلب، وأنه إذا تعارضت منفعة الفرد في إطلاق الحرية له ومنفعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الأمة في حدها أو سلبها وجب " نزع ملكية، هذه الحرية ولو على الوجه الذي تؤخذ به دور الناس لتطريق شارع. . . وهذا كله يوضح لك غفلة الجامعة المصرية غفلة تحتاج إلى غسل عينيها بمحلول مطهر. . . فالأمامة تنظر إلى الجامعة على أنها منها، والجامعة تنظر إلى جمالها في مرآة من وجه طه حسين، فكل ما رأته الأمة شمالاً رأته هي في وجه طه يميناً، وما من هذا العكس بُد ما دام النظران مختلفين، والعكس ينشىء الغلط؛ فمن الطبيعي في أحد النظرين أن تكون الجامعة بوضع غلط الأمة وفي النظر الآخر أن تكون الأمة موضع غلط الجامعة. قلنا إن علم طه حسين جرأة، فهو لا يأتي بكلام فصل بل بكلام جريء. وذلك إن كان غلطاً لكنه غلط الجهل لا غلط العلم، فلا عذر منه ولا يجوز الاحتجاج له، إذ كان العالم الحقيقي لا يعرف الجراءة ولا يتعاطاها، فإن وجدتَ، من أمره ما تحمله عليها فاعلم أنها جراءة أدلته وقوةِ منطقه وشدة يقينه. فإن خلا من هذه وأصبته جريئاً فهو الجاهل المغرور المتوقح الذي لا يعتمد على قوته وعلمه بل على حماقته وشره وعلى ضعف الناس وغفلتهم، وما رأينا قوة طه إلا من هذه الناحية، فهم كالثعابين تخيف بالوهم وإن لم تلدغ. وإن كان السم قد فرغ من أنيابها؛ ولولا أن هذا من أمرها وأمر الناس للعب الصبيان بها واتخذوها جبالاً! انظر كيف يجهل أستاذ الأدب في الجامعة المصرية هذا الجهل الغريب. قال في صفحة 17 وهو يريد القرآن: "كان كتاباً عربياً لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها - كذا - الناس في عصره" أي في العصر الجاهلي. وفي صفحة 35: "ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإسلام، ولست أنكر أن الشعر قد استقام للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف، ولكني أظن أنك تنسى ما يحسن أن لا تنساه، وهو أن القبائل بعد الإسلام قد اتخذت للأدب لغة غير لغتها وتقيدت في الأدب بقيود لم تكن لتتقيد بها لو كتبت أو شعَرتْ في لغتها الخاصة، فلم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام يقوله بلغة تميم أو قيس ولهجتهما، إنما كان يقوله بلغة قريش ولهجتها!. ثِم جاء الشيخ بمثل من أدب اليونان، ثم قال: "وكذلك فعل العرب بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الإسلام: عدلوا في لغتهم الأدبية عن كل ما كانت تمتاز بهم لغتهم ولهجتهم الخاصة، إلى لغة القرآن ولهجتها". ثم ضرب مثلاً من موطنه الجديد. . . فرنسا، ثم قال: "وأنا أشعر بالحاجة إلى أن أضرب مثلاً آخر قد يَدْهش له الذين يدرسون الأدب العربي لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب، ذلك أن في لغتنا المصرية المصرية لهجات مختلفة وأنحاءَ متباينة من أنحاء القول، فلأهل مصر العليا لهجاتهم، ولأهل مصر الوسطى لهجاتهم، ولأهل القاهرة لهجتهم، ولأهل مصر السفلى لهجاتهم، وهناك اتفاق مطرد بين هذه اللهجات وبين ما للمصريين من شعر في لغتهم العامة، فأهل مصر العليا يصطنعون أوزاناً لا يصطنعها أهل القاهرة ولا أهل الدلتا، وهؤلاء يصطنعون أوزاناً لا يصطنعها أهل مصر العليا. وهذا ملائم لطبيعة الأشياء؛ فما كان للشعر أن يخرج عما ألف أصحابه من لغة ولهجة في الكلام، ومع هذا كله فنحن حين ننظم الشعر الأدبي أو نكتب النثر الأدبي والعلمي نعدل عن لغتنا ولهجتنا الإقليمية إلى هذه اللغة واللهجة التي عدل إليها العرب بعد الإسلام، وهي لغة قريش ولهجة قريش " انتهى خلط الشيخ. وقد أثبت في كلامه أن لغة القرآن الكريم هي "اللغة الأدبية" التي كان ينتحلها العرب في العصر الجاهلي، فإذا كان ذلك وكان في العصر الجاهلي لغة أدبية للعرب فكيف ينكر طه على الشعر الجاهلي أن يكون متفق اللهجة، وكيف يجزم أن عدم اختلاف اللهجات فيه دليل على أنه موضوع مكذوب كما مر بك في موضعه، وكيف يتناقض هذه المناقضة المكشوفة. على أن هذه "اللغة الأدبية " وهم سخيف من أوهام المستشرقين تبعهم فيه طه لأنه رجل مقلد سروق؛ فإن اللغة الأدبية لا تنشأ ولن تستقيم إلا إذا كانت مكتوبة مدونة متدارسة، إذ الكتابة قيد من التغيير والتبديل وهي نص في عموم الاحتذاء والمحاكاة، لأنها في مكان ما هي في كل مكانٍ غيره. ولو لم تكن في مصر لغة واحدة مكتوبة متدارسة هي العربية الفصحى لما كان لها شعر أدبي ولا نثر أدبي، ومن ههنا يريد الذين في قلوبهم أمل من المستعمرين، والذين في قلوبهم مرض من المجددين، أن يجعلوا العامية لغة الكتابة والدرس، لأنها متى دُونت وتدارسها النشء محت الفصحى محواً وأتت على كتبها وآدابها ودينها؛ وقد كتبنا في هذا فلا نطيل به.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فهل يستطيع شيخ الجامعة أن يأتينا بدليل أو شبهِ دليل على أن القبائل في العصر الجاهلي أو بعد الإسلام كانت تكتب وتدرس في باديتها باللغة الأدبية التي يزعمها، حتى نصدق أنه كانت لكل قبيلة لغتان كما لنا في مصر. والعجيب أن يخلط الشيخ هذا الخلط وهو قد قرأ الجزء الأول من "تاريخ آداب العرب" وذكره في كتابه؛ فكيف ذهب عنه أن الرواة لم يكونوا يعبأُون بالعربي الذي ينطق بلحن غير لحن قومه ولا يعدونه حجة في اللغة، وأن العربي القح السليم الفطرة لم يكن يستطيع أن يقيم لسانه إلا بلحن واحد ولهجة واحدة، حتى أن سيبويه لما اختلف مع الكسائي في مسألة "ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها! وجاؤوا بالأعراب الذين كانوا بباب يحيى البرمكي ورشوهم على أن يوافقوا الكسائي في جواز اللغتين - لم يزيدوا على أن قالوا في الموافقة: إن القول ما قال الكسائي. فلما رأى سيبويه ذلك منهم قال يحيى: مُرْهُم أن ينطقوا فإن ألسنتهم لا تطوعُ به! . . . ولا بأس هنا أن ننقل هذه العبارة من الجزء الأول من "تاريخ آداب العرب" في صفحة 348: "ومهما جهدت بالأعرابي أن ينطق بغير لحن قومه وإن كان أفصح منه فإنه لا يستطيع من ضعف، لأن تقليده في الصواب كتقليده في الخطأ، واللغة إنما تؤخذ عن السليقة وهي سنة واحدة؛ قال الأصمعي: جاء عيسى بن عمر الثقفي ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو ما شيء بلغني عنك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال: بلغني أنك تجيز: ليس الطيبُ الا المسكُ. قال أبو عمرو: نمتَ وأدلج الناس! ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب. ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع؛ ثم قال: قم يا يحيى - يعني اليزيدي - وأنت يا خلف - يعني خلف الأحمر - فاذهبا إلى أبي المهدي "أعرابي الحجاز" فلقناه الرفع فإنه لا يرفع، واذهبا إلى أبي المنتجع "أعرابي تميم" فلقناه النصب فإنه لا ينسب. قال: فذهبنا فأتينا أبا المهدي فإذا هو يصلي، فلما قضى صلاته التفت إلينا وقال: ما خطبكما؟ قلنا: جئنا نسألك عن شيء من كلام العرب قال: هاتيا. فقلنا: كيف تقول: ليس الطيب إلا المسكُ - بالرفع - فقال: تأمرني بالكذب على كبر سني! فقال له خلف: ليس الشراب إلا العسلُ - بالرفع - قال اليزيدي: فلما رأيت ذلك منه قلت: ليس ملاك الأمر إلا طاعةُ الله والعمل بها - بالرفع - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فقال: هذا كلام لا دَخَلَ فيه. ثم أعادها بالنصب، فرفعا ثانية، فقال: ليس هذا لحني ولا لحن قومي. قالا: فكتبنا ما سمعنا منه، ثم أتينا أبا المنتجع فلقناه النصب وجهدنا به فلم ينصب وأبى إلا الرفع ". انتهى. وقد كان هذا منهم في أواخر القرن الثاني واللغة إلى ضعف واضطراب. فأين تجد هذه اللغة الأدبية التي يهذي بها الشيخ، وانظر ما يبلغ الفرقُ بين قول إمام العربية أبي عمرو "ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب وليس في الأرض تميمي إلا وهو يرفع" وبين قول أبي مرغريت. . . "ولم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام يقوله بلغة قيس أو تميم ولهجتهما" فأيما أقرب إلى العلم والصدق: من كان في زمن العرب وحكى عنهم أم من يكون بينه وبين العرب جهله وحماقته وأربعة عشر قرناً في الموتى؟ ومما هو في هذا السبيل من كتاب طه، وهو أعجب مما تقدم، قوله في صفحة 103: "والرواة أشد انخداعاً حين يتصل الأمر بالبادية اتصالاً شديداً، وذلك في هذه الأخبار. التي يسمونها أيام العرب أو أيام الناس فهم سمعوا بعض هذه الأخبار التي "بعضها فقط. . . " من الأعراب، ثم رأوها تُقَص مفصلة مطولة فقبلوا ما كان يروى منها على أنه جد من الأمر ورووه وفسروه وفسروا به الشعر واستخلصوا منه تاريخ العرب، مع أن الأمر فيه لا يتجاوز ما قدمناه، فليست هذه الأخبار إلا المظهر القصصي لهذه الحياة العربية - القديمة، ذكره العرب بعد أن استقروا في الأمصار فزادوا فيه ونَمَّوه وزينوه بالشعر كما ذكر اليونان قديمهم. . . فحربُ البسوس وحرب داحس والغبراء وحرب الفجار وهذه الأيام الكثيرة التي وضعت فيها الكتب ونُظم فيها الشعر ليست في حقيقة الأمر - إن استقامت نظريتنا - إلا توسيعاً وتنمية لأساطير وذكريات كان العرب يتحدثون بها بعد الإسلام" انتهى. ولعلنا لم نر في كتاب طه كلمة تدل على العقل إلا قوله في هذه العبارة: "إن استقامت نظريتنا" وتعليقه الرأي على هذا الشرط، وهو شرط بليغ، ثم هو بعيد عما يأخذ فيه الشيخ من مَعَاسف الرأي ومَعَاميه، وهو كذلك من أدب العلم: إذا لا حُكم إلا بيقين، فإن كان الشك ترك الحكم معلقاً، غير أن طه لم يتجاوز هذا العقل بعشرة أسطر حتى هاج به داؤه واعترته النوبة فإذا هو يقول: "وكل ما يروَى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من الشعر خليق أن يكون موضوعاً، والكثرة المطلقة منه موضوعة من غير شك" فهذا رجل"معتوه يسخر - من نفسه كما ترى - وكلامه إلى السماجة أقرب منه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 العلم، وكأن في هذا الشيخ طبعاً غير طبع الإنسان، ففضله بكثرة عيوبه لا بكثرة محاسنه. كم يوماً من أيام العرب تعرف أيها الشيخ؟ وفي كم كتاب هي؟ وكم ديواناً وضع فيها من الشعر؟ وما هي؟ وأين هي؟ وما الذي وقفت عليه منها حتى تقطع على كل ذلك بأنه من عمل القصاص وأنه زيادة وتوسعة في الأساطير؟ إن أيام العرب هي حروبهم ومغازيهم، ولو لم يصح لهم شيء من كل ما رُوي عنهم لصحت أخبار هذه الأيام وحدها، ففيها نعيمهم ومصائبهم، ومنها حياتهم وموتهم، ولها محامدهم ومثالبهم، وهي عندهم مادة التاريخ السياسي، ولذا كان ذكرها في ألسنة شعرائهم، إذ كان شاعر القبيلة كأنه وزير الخارجية فيها، على أنه لم توضع قصيدة واحدة - لا صدقاً ولا كذباً - في وصف يوم من هذه الأيام وقصة ما جرى فيه، وإنما كانوا يذكرون أيامهم في الفخر والمهاجاة فيومئون إليها ويشيرون إلى مواضع الذم أو المدح لا يَعدُون ذلك، وبهذا استطاع الرواة والعلماء أن يستخرجوا أسماء هذه الأيام ويستشهدوا على بعض ما كان فيها من شعر النقائض، وهو ما يكون بين شعراء القبائل في الهجاء والفخر، يقول أحدهم فينقض عليه الآخر، وأنت تراها في شعر جرير والفرزدق والأخطل والطرمَّاح وغيرهم من الإسلاميين كما تراها في شعر الجاهلية، مما يثبت أنها تاريخ يتوارثونه بينهم، وماذا تُورث القبيلةُ أبناءها إلا أنسابها وأخبارَ سيوفها ومكارم أجوادها وأقوال شعرائها؛ وقد قال الأول: ولو أن قومي أنطقتني رماحُهم. . . نطقتُ ولكنَّ الرماح أجرَّتَ فهذه الرماح هي الألسنة التاريخية التي تكتب بالدم ذلك الشعر الأحمر. وإذا لم يكن للقبيلة حروب ووقائع لم يكن لها بأس ولا فيها نجدة ولا عندها منعة وسقطت بذلك أنسابها وذهبت مكارمها وقل شعرُها إذ كانت هذه الثلاث هي مادةَ الشعر المأثور فيهم الدائر على أفواههم، وكانوا قوماً كان حياتهم ثمر من زرع القتل. قال ابن سلام: "وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء. نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، ولذلك قلل شعرَ قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان والطائف". مع كل هذا فقد سقط أكثر الشعر وأكثر الخبر، ولم تكن الأيام من علم القصاص، بل مَحصها العلماء وتناقلوها وكانت تقرأ عليهم وكانوا يميزون بينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وبين الأقاصيص المولدة. قال الجاحظ يذكر ما صنع الناس من أخبار عمرو بن ود فارس قريش الذي قتله علي بن أبي طالب: "قرأت على العلماء كتاب الفجار الأول والثاني والثالث وأمر المطيبين والأحلاف ومقتل أبي أزيهر ومجيء الفيل وكل يوم جَمع كان لقريش، فما سمعت لعمرو هذا في شيء من ذلك ذكر". وكانت قصة عمرو كقصة عنترة مما يضعه العامة ولا يذهب عن العلماء أنه موضوع لا خطر له. وكل ما يعرف من أيام العرب أنواع ثلاثة: فمنها أيام قديمة وهي قليلة جداً، كيوم خزاز؛ وأخبارها موجزة ومنها أيام وقعت بعد الإسلام، كيوم الوقيظ، كان في فتنة عثمان بن عفان، ويوم الهراميت، كان في أيام عبد الملك، ويوم الصريف، كان في أيام الرشيد، وكل ذلك يروون أخباره ويذكرونه في شعرهم، ومنها أيام جاهلية، وهي المادة العظمى بين هذين الطرفين الدقيقين، وترجع إلى ما قبل الإسلام بستين أو سبعين سنة أو حواليها، وأبعدها لا يتجاوز في تاريخه مائة سنة، وهي رواية جيلين يلقيها الأب إلى ابنه أو الجد إلى حفيده، على أن كل ما يُعرف منها على إيجاز أخباره لا يوفي سبعين يوماً، وقد نصوا على أن كبارها ثلاثة: يوم شعب جبلة، وكان قبل الإسلام بسبع وخمسين سنة، ويوم ذي قار، وقد شهده النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ويوم كلام ربيعة، ولم نقف على تاريخه؛ فلو كانت هذه الأيام أساطير وأقاصيص وكانت "كثرتها المطلقة موضوعة من غير شك" كما يتوهم أستاذ الجامعة، لجعلوا هذه الثلاثة في حد الثلاثين ما داموا يريدون أن يتكثروا ويكذبوا في تعظيم العرب. * * * وأما بعد، فإنا نتجاوز عما بقي لنا على أستاذ الجامعة في كتابه وحسابه - وهو كثير - فقد أعسر أشد العسر، بل أنفض، بل أفلس؛ والذي نرجوه أن يكون قد علم كيف يعلم وعقل كيف يعقل، وأن يكون قد استيقن أنه إذا كان معنا لم يزدنا، وإذا كان علينا لم ينقصنا، وإنما نفسَهُ ينقص ونفسَهُ يزيد! كفى بالمرء جهلاً إذا أعجب برأيه، فكيف به معجَباً ورأيه الجهل بعينه؟!! سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ونستغفر الله مما جمح فيه القلم أو طغى به الفكر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.   (1) وذكره عليه الصلاة والسلام فقال: "هذا أول يوم انتصر فيه العرب على العجم وبي نصروا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الجامعة في مجلس النواب من كان يوم الأحد الثاني عشر منذ شهر سبتمبر سنة 1926، فعرضت ميزانية الجامعة في مجلس النواب، فإذا غضب الله وإذا مَقتُ الأمة كما ترى فيما ننقله عن جريدة "الأهرام" الغراء بحروفه محصلاً من مضبطة المجلس: قال الأستاذ "صبري أبو علم" بعد أن أتى على تاريخ الجامعة وبدئها وإلحاقها بوزارة المعارف وأنها بعد ذلك لم تكن إلا قانوناً ومكاناً وإعلاناً من إعلانات السياسة: . . . إن كل الظواهر تدل على أنها أخرجت المشروع بدون أن تستكمل بحث الوسائل الفنية والإدارية التي يتم بها المشروع، ودليلي على ذلك أنه عند البدء في إنشاء القسم العلمي كانت محاضرات الكيمياء لم يبدأ في تدريسها إلا في أوائل نوفمبر بسبب اشتغال أستاذ الكيمياء في وظيفة سكرتير عام الجامعة. أما دروس الكيمياء العملية فلم تبدأ إلا في 3 يناير لعدم إعداد المعامل اللازمة لها، وكذلك تدريس علم الجيولوجيا لم يبدأ إلا في أوائل فبراير، وسبب ذلك أن أستاذ ذلك العلم كان عميد الكلية، وقد استغرقت ظروف تنظيم كلية العلوم وتكوينها كل أوقاته وجهوده ولم يكن هناك بناء خاص للمعامل كما أن الأدوات العلمية اللازمة لم ترد إلا قبل الامتحان ببضعة أسابيع، من ذلك سيتضح أنه كان سر خفي يدفع القائمين بالأمر إلى إعلان افتتاح الجامعة من غير تهيئة الوسائل اللازمة لها من حيث استعداد الطلبة وأهليتهم لتلقي الدروس؛ ومن حيث اختيار الأساتذة وفهمهم لأحوال الطلبة الذين سيتابعونهم في تلقي الدروس منهم؛ مع أن القانون الصادر بتكوين الجامعة تكويناً جديداً صدر بتاريخ 11 مارس سنة 1925 على أن يُعمل به من يوم نشره. أذكر أننا عند بحثنا في تصرفات وزير المعارف السابق سمعنا من سعادته أن معظم الإصلاحات التي أشار بإدخالها على مناهج التعليم كان الغرض منها تغذية الجامعة المصرية بطلبة يمكنهم أن يتابعوا دروسها. ومعنى هذا أنه إذا كانت الفكرة من هذه الإصلاحات إعداد طبقة من الطلاب تكون قادرة على تلقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 علوم الجامعة، فكان من الواجب أن يتأخر إنشاء هذه الأقسام حتى يتسنى للطلاب الالتحاق بالجامعة، ولذا لا أفهم السر في إنشائها بمثل هذه السرعة، وفي محاولة الهروب من رقابة البرلمان، في الوقت الذي تعيش فيه الجامعة على الأموال العامة. ظهرت الجامعة وعليها طابع الاستعجال. فمن سرعة في تقرير إنشائها، إلى اندفاع في تكوينها وفي تعيين المدرسين اللازمين لها. أنشئت بقرار من مجلس الوزراء، وهذا غير كاف من الوجهة العلمية، فلا أظن أن جامعة تُنشأ بين يوم وليلة، إذ إن الجامعات نتيجة تطور مستمر للعلوم والمعارف؛ إنها تنمو وتتطور أو تتكون وتتشرب بالنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. . . ثم أفاض الخطيب فيما وقع من الخلط والخبط في الجامعة وتوظيف رجالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 جلسة يوم الاثنين 13 سبتمبر سنة 1926 خطبة الأستاذ عبد الخالقِ عطية حضرات النواب نصف مليون جنيه! نصف مليون جنيه! أجل نصف مليون جنيه احتملته خزانة البلاد ثمناً لقصر الزعفران ومصروفات الجامعة المصرية التي لم تُنشأ على صورتها الحاضرة إلا منذ سنة 1925 دون أن تقول البلاد كلمتها في هذا الشأن، والآن يُطلب منكم أن تصادقوا على ثلاثمائة ألف جنيه أخرى لتكون مصروفات لهذه الجامعة في السنة الحالية. مبالغ ضخمة وأرقام جسيمة يضج ويا طول ما يضج من ثقلها صغار الممولين ودافعو الضرائب من هذه البلاد. أقول ذلك ولا أراني مبالغاً، ولكني أود أيضاً ألا تستروحوا من كلامي رائحة الكراهية للعلم أو للصد عن ورود مناهله ومعاهده، فإني أعتقد أن كل مال وإن عز يهون في جانب الغاية العظمى والغرض الأسمى الذي من أجله أنشئ وينشأ مثل هذا المعهد، ولكني أعود وأقول إن الشرط كل الشرط لذلك أن نبتدئ في أعمالنا من حيث يجب الابتداء، والقيد كل القيد أن تكون الأنظمة التي وضعت والأساليب التي روعيت من شأنها أن تؤدي إلى هذه الغاية وتحقق ذلك الغرض. عند ذلك يستحب الإنفاق، بل يجب السخاء. يا حضرات النواب، بالأمس تكلم حضرة الزميل الأستاذ صبري أبو علم عن الغرض من إنشاء الجامعة والغاية منها، ولكنه كان في بيانه مجمِلاً، فقد مر على ذلك مر النسيم، وإني أرجو وأستمحكم عذراً في أن أراني مضطراً اليوم لإبداء شيء من التفصيل في هذا الموضوع، حتى تكون المقدمات مرتبطة مع النتائج التي اقترحنا ارتباطاً واضحاً منسجماً، وهذه النتائج هي ذات العلاقة والرابطة فيما يتعلق بالمال المطلوب منا التصديقُ عليه اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 إن الجامعة، في أي بلد من بلاد العالم، خاضعة دائماً ككل كائن لنواميس العمران، تبتدئ جنيناً "أي فكرة" ثم تخرج طفلاً، ومن هنا يبتدئ دور الإنشاء ثم تترعرع فتصير صبياً بعناية أصحابها، ثم تنمو فتصبح شاباً، ثم كهلاً؛ ثم شيخاً يجمع اختبارات القرون وتجاريبها؛ وحينئذ تكون جديرة بالبذل حرية بالإسعاد. أيها السادة: كلنا نعرف أن ما ينفق على الطفل أقل مما ينفق على الصبي، وما يقتضيه حال الصبي أقل مما يقتضيه حال الشاب، وهكذا الحال بالنسبة للكهل والشيخ، خصوصاً في مثل المسألة التي نحن في صددها. إذا فهمنا ذلك ووعينا فماذا ينبغي أن أقول وما ينتظر أن أرمي إليه؛ دخلت الجامعة في دور جديد فأصبحت أميرية منذ مارس سنة 1925 وأصبحت تعتمد في حياتها الجديدة على الأموال المشتركة، أي على المال العام، وهو مال الأمة، فيحق لحضراتكم بما لكم من الولاية على هذا المال ويقضي عليكم واجب التحري والذمة - أن تعرفوا إذا طُلب منكم أن تصرفوا، لماذا تصرفون وكم تصرفون؟ الواجب أن نشجع عندما يجب التشجيع، وننتقد عندما يجب الانتقاد، بحيث لا نترك مسألة تمر علينا دون تشجيعها أو انتقادها على حسب ما تقضي به المصلحة. لقد كنت أريد أيها السادة أن الذين أدخلوا الجامعة في الدور الجديد يفطنون إلى أن الطبيعة تأبى الطفرة. كنت أرجو ذلك، ولكن بكل أسف أقرر أن السياسة التي تملكتها شهوة التغيير والتبديل، والتي ركب أكنافها شيطان العجلة فكانت تسعى إلى المظاهر لا إلى الحقائق، وإلى الأشكال لا إلى الموضوعات، وهكذا أبرزت لنا وللبلاد جامعة في ثياب العمالقة، بينما هي لا تزال قزماً من الأقزام، وأرادت أن تقوم تلك الجامعة على أرجلها كأنها خَلق قوي بينما هي طفلة في المهد؛ ولو كان الأمر وقف عند هذا الحد لهان، ولكن الذي لا يهون أننا احتملنا مبالغ ضخمة في سبيل الأشكال لا في سبيل الموضوعات، وأننا مستهدفون - إذا لم نبادر إلى علاج حاسم - لمصروفات لا بد أن تتضخم تضخماً كبيراً. . . ثم أفاض الأستاذ في الكلام على إدارة الجامعة ومدرسيها وإسرافها وتخبطها ببيان مستفيض، ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 مسألة طه حسين هذا فيما يختص بأمر التعليم. بقيت هناك نقطة أخرى لا بد من التنبيه إليها. حدث يا حضرات الأعضاء حادث بالجامعة المصرية، وقام من ناحيتها صوت أفقدها عطف الكثيرين، قد أدى إلى فتنة أو كاد، والأشد والأنكى أن البلاد لم ينلها حظ ولم تنلها مصلحة ظاهرة أو خفية من إثارة ذلك الموضوع الذي تعرض له صاحب ذلك الصوت حتى كان يقال ولو من طريق التساهل: إن الحسنات تكافأت مع السيئات. وأظن أن حضراتكم بعد هذا البيان قد فطنتم إلى ما أريد وتبينتم أن الصوت المعنى بقولي هذا هو كتاب "الشعر الجاهلي" ذلك الذي تضمن طعناً ذريعاً على الموسوية الكريمة والعيسوية الرحيمة، وعلى الإسلام دين الدولة المصرية بنص الدستور. أيها السادة، إن العقائد كانت وما زالت في الشرق وفي الغرب أيضاً عواطف حساسة متوثبة متيقظة متأججة ولو ظهرت خامدة؛ فالرجل العاقل يجب عليه أن يبتعد عن كل ما يهيجها، والرجل العالم حقًّا الذي يفهم البيئة التي يعيش فيها والوسط الذي يكتنفه، يجد من علمه متسعاً لا نهاية له لمعالجة الإصلاح والعيوب الكثيرة دون أن يجد نفسه مضطراً في وقت ما إلى أن يلج هذا الباب الذي قد يترتب على ولوجه الكثير من الحوادث الجسام والأمور العظام. يا حضرات النواب، أرجو أن لا يتأول علينا متأؤل أو يتقول علينا متقول أو يمتنَّ علينا ممتن بأنه أشد منا غيرة على حرية العلم والتعليم وأعظم منا رغبة في تأييد حرية الرأي والتفكير. إنه لا توجد في العالم حريات مطلقة، ولو كان الأمر كذلك لنهشت أعراض بحكم حرية الرأي، ولو كان الأمر كذلك لقام في البلاد من يهاجم نظام الحكم اعتماداً على حرية الرأي، ولو كان الأمر كذلك لقام في البلاد من يبث مبادئ الفوضوية أو البلشفية استناداً إلى حرية الرأي، ولكن الحرية - يا حضرات الأعضاء - محددة وتنتهي عندما تبتدئ بالتصادم مع مقتضيات النظام والقانون. أنت حر في كل ما تريد، ولكن حاذر أن تقع تحت سلطة القانون. إن التعليم حر بنص الدستور، وليس منا من يعارض في ذلك؛ ولكن الدستور قال أيضاً: إن التعليم حر إلا إذا أخل بالنظام العام، إذا كان منافياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 للأدب. والإخلال هنا معناه أن يترتب على تقرير الرأي حدوث فتنة أو احتمال حدوثها، وعند ذلك يقف القانون حداً حائلاً، لأن المصالح العامة مقدمة عن الشهوة؛ فعلى الذين يفهمون حرية الرأي كما حددها القانون، وعلى الذين يعقلون حرية التعليم كما يعنيها القانون، أن يفهموا أننا إذا تعرضنا لهذه المسألة فإنما نريد"أن نكون دائماً في دائرة القانون. أيها السادة، إن تصرف هذا الشخص كان أيضاً مخالفاً للذوق، فإنه مدرس بالجامعة المصرية، وهي معهد أميري يعيش من أموال الحكومة الممثلة للأمة، فهو يتقاضى مرتبه من هذه الهيئة التي دينها الإسلام، فلم يكن من المفهوم ولا من المعقول ولا من حسن الذوق أن يقوم هذا الشخص فيبصق في وجه الحكومة التي يتقاضى مرتبه من أموالها بالطعن على دين رعيتها من أقلية أو أكثرية. إننا إذ نسلم أولادنا للحكومة ليتعلموا في دورها نفعل ذلك معتمدين على أن بيننا وبينها تعاقداً ضمنياً على أن الديانات محترمة؛ لا أقول تعاقداً ضمنياً فقط، بل صريحاً، لأن الحكومة تعنى بتعليم الدين في مدارسها وتضعه في مناهجها؛ وإذا كان الأمر كذلك فعلى الذين يريدون أن يحرقوا بخور الإلحاد أن يحرقوه في قلوبهم، لأنهم أحرار في عقائدهم، أو أن يحرقوه في منازلهم، لأنهم أحرار في بيئاتهم الخاصة، أما أن يطلقوه في أجواء دور العلم ومنابر الجامعة فهذا لا يمكن أن نفهمه بأي حال من الأحوال "تصفيق حاد". وأغرب ما في هذا التصرف إن صح ما بلغني من أن إدارة الجامعة اشترت من مؤلف هذا الكتاب كتابه! اشترته يا حضرات النواب من أموال الأمة الموتورة؛ بهذا العمل! فإن كان هذا الكتاب سيدرس في الجامعة فتلك ثالثة الأثافي، وليس لنا على هذا الأمر تعليق؛ أما إذا كان الغرض من شراء الكتاب اتقاء ضرر انتشاره فهذا أيضاً تصرف غير معقول، لأن مال الأمة لا يجوز أن يدفع أجراً ومكافأة على إساءة للأمة، ولأن هذا التصرف في حد ذاته من المكافأة، وهذه المكافأة قد حلت حيث كانت تجب الإساءة وحيث كانت تجب المجازاة؛ هذا كله إن صح ما سمعته من أن إدارة الجامعة قد اشترت هذا الكتاب. وزير المعارف: أما فيما يختص بمسألة كتاباً في الشعر الجاهلي " فقد قلت لحضراتكم في الجلسة الماضية إننا نطمع في أن تكون الجامعة معهداً طلقاً للبحث العلمي الصحيح، وليس معنى هذا أننا نرضى أن تكون كراسي الأساتذة منابر تلقى فيها المطاعن في أي دين من الأديان قصدَ النيل من كرامته أو التهجم على حرمته وإنما واجب الأساتذة أن يتحاشوا ذلك في كتاباتهم ومحاضراتهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وحادثة كتاب (في الشعر الجاهلي) حصلت كما تعلمون فى عهد الوزارة السابقة، فلما توليت الوزارة أردت أن أقف - على حقيقة الأمر، فسألت سعادة مدير الجامعة عن الإجراءات التي اتخذها إزاء هذه الحادثة، فأجاب بأن الجامعة منعت انتشار الكتاب بشراء جميع النسخ من المكاتب وحصرتها في مخازنها، كما اتخذت الإجراءات اللازمة لمنع طبع نسخ أخرى منه، وقد أكد لي سعادته أن ما يؤاخذ عليه المؤلف لم يُلقِه على طلبته في الجامعة كما ظن، وأن المؤلف صرح على صفحات الجرائد بأنه مسلم ولم يقصد الطعن في دين من الأديان أو المس بكرامته (ضجة) . هذا ما أكده لي مدير الجامعة، أما فيما يختص بالمبلغ الذي دُفع ثمناً للكتاب فإني أصرح بأني لو كنت مسؤولاً لما رضيتُ بهذا التصرف، وإني موافق على استرداده إذا كان لا يوجد مانع قانوني يحول دون ذلك. أما فيما يختص بالإجراءات الأخرى فلا يخفى على حضراتكم أن المؤلف مسافر إلى أوروبا منذ شهر يونيو عقب تأليف الوزارة مباشرة ولم يعد بعد؛ فلا يمكن أن أتخذ من الآن إجراءات في غيابه، وعلى كل حال فإني أعد ببحث المسألة. . . الرئيش (1) : ترفع الجلسة للاستراحة. فرفعت الجلسة. ثم أعيدت. خطبة الأستاذ القاياتي الشيخ القاياتي: سادتي النواب، كان بودي أن تمر بنا ميزانية الجامعة فنتقبلها هاتفين مصفقين؛ لأنها ميزانية أمنية طالما تمنيناها، وغاية كثيراً ما رجوناها، لأننا نعتقد أن وجود جامعة مصرية إنما هو طريق إلى الفلاح المرجو، وإلى الحرية المطلوبة، وإلى الاستقلال الحقيقي المنشود. ولكن الله تعالى أراد - أو أن غير الله ممن يجرؤون على ما لا يجوز لهم أن يجرؤوا عليه أرادوا - أن تمر علينا هذه الميزانية ونحن نئن من الألم، ونتضجر، من الحزن، ونبكي من المصيبة التي كنا نرجو أن تكون نعمة كبرى. أنا لا أريد أن أتكلم عن الجامعة باعتبار إدارتها، ولا باعتبار ما يدرس   (1) هو رجل الأمة العظيم ونابغة الشرق كله ونادرة الفلك صاحب الدولة سعد باشا زغلول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فيها. ولا باعتبار كفاية - مدرسيها وموظفيها بعد أن أدلى به حضرات الأعضاء المحترمين من البيانات في هذا الشأن، ولكن الذي أريد الكلام فيه من غير إطالة هو موضوع كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي ألفه الدكتور طه حسين وهو ابن الجامعة البكر الذي كانت تنفق عليه من مال الأمة وما كان يظن أبداً أن يقابل هذا الإحسان بالعقوق إلى درجة أن يضربها بضرب دين الإسلام دين الأغلبية. ذكر حضرة النائب الأستاذ عبد الخالق عطية ملاحظات كثيرة عن هذا الكتاب، وعن وقعه على الأمة، وتأثيره في قارئيه وسامعيه، حتى لقد قال بحق: "إنه أثار فتنة أو كاد". والحق أن يقال إنه ما كان من المظنون أن يوجد بين المسلمين في مصر من يجرؤ على الدين إلى هذا الحد الذي بلغه الشيخ طه حسين. قبائح متعددة، ما بين تكذيب لصحيح التاريخ وتكذيب لنصوص القرآن. ونسبة التحايل إلى الله وإلى النبي محمد وإلى موسى عليهما السلام. وقبل أن أتعرض لسرد ما جاء في هذا الكتاب أو سرد شيء منه، أريد أن أظهر لكم شدة اندهاشي مما نقله معالي وزير المعارف عن حضرة مدير الجامعة، من أن هذا الكتاب لم يلق على الطلبة، يعني أن الدكتور طه حسين لم يلق على طلبته ما جاء في هذا الكتاب. اندهشنا من هذا القول، لأن المؤلف نفسه صرح في مقدمة كتابه أنه ألقاه على الطلبة؛ ولست أدري كيف يمكن أن يكون حقاً ما قيل من أنه لم يلقه على طلبته بعد أن يقرر هو بنفسه بأنه ألقاه عليهم. أصوات: ماذا قال؟ الشيخ القاياتي: قال في مقدمة الكتاب: "هذا نحو من البحث في تاريخ الشعر العربي - لم يألفه الناس عندنا من قبل، وأكاد أثق بأن فريقاً منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقاً آخر سيزورون عنه ازوراراً، ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء، أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح، أريد أن أقيده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة، وليس سرًّا ما تحدثت به إلى أكثر من مائتي شخص". هذا قول المؤلف في مقدمة الكتاب، ولست أفهم كيف يقال بعد ذلك إنه لم يلق هذا الكتاب على طلبة الجامعة، وأن يترتب على ذلك ما رتبته الجامعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 من منع أستاذ أن يرد عليه في الجامعة بعد أن سمحت له بذلك، بعلة أن الكتاب لم يلق على الطلبة حتى يرد عليه في نفس الجامعة. لقد جاء في هذا الكتاب تكذيب صريح للقرآن، ونسبة صريحة للنبي عليه الصلاة والسلام بأنه متحايل، وكذب صريح على التاريخ؛ لا يجوز أبداً أن نهمل ولا أن نترك صاحبه دون تدقيق معه في البحث ويكون حسابنا معه عسيراً. إنني أعرف أنه من الكرم والمروءة أن يعفو الإنسان عمن أساء إليه، ولكن من الظلم والتهجم على المصلحة أن يعفو الإنسان عمن أساء إلى غيره، أو عمن طعن في وطنه أو دينه "تصفيق". إن الدولة أعلنت في دستورها أنها دولة إسلامية، وإن دولة إسلامية لا تحافظ على دينها من أن يمس ولا على كرامتها أن تجرح لهي دولة أعوذ بالله أن تكون مصر من أمثالها! لقد بلغت الدرجة بالدكتور طه حسين أن يذكر في كتابه أن حادثة إبراهيم وإسماعيل - التي نص الكتاب عليها - حادثة لا يعول عليها التاريخ ولا يمكن التسليم بها، وإنما هي حادثة أرجعها المسلمون لسبب مخصوص هو سبب سياسي أكثر منه دينياً. وقد جاء في كتابه بالصفحة 26 ما يأتي: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل؛ وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي". معنى هذا أن دعوى الله أن شيئاً حصل لا ينهض دليلاً على أن هذا الشيء حصل؛ والله يعلم أن هذا يساوي في قوله إن الله كذاب فيما قال! ثم جاء في الصفحة المذكورة: ". . . فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، والقرآن والتوراة من جهة أخرى؛ وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبثون فيه المستعمرات، فنحن نعلم أن حروباً عنيفة شبَّت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد وانتهت بشيء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 المسألمة والملاينة ونوع من المحالفة والمهادنة؛ فليس ببعيد أن يكون هذا الصلح الذي استقر عليه الرأي بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام، لا سيما وقد رأى أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئاً من التشابه غير قليل، فأولئك وهؤلاء ساميون". وقد جاء بالصفحة 27 ما يأتي: "وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح ". كلمة "الأسطورة" يا حضرات الزملاء لا تقال إلا للخرافات أوالترَّهات. فالقول بأن هذه القصة التي وردت في كتاب الله العزيز خرافة، يعني أن الله يخرف ونحن نؤمن بتخريفه "مقاطعة". أنا والله لا أريد التشنيع، ولكني أريد أن أذكر حقيقة، أريد أن أقول لأقوام لا يرون رأينا ويدعون أن البحث أمر واجب حر وأنه لا يجوز لنا أن نقيد حرية الناس في آرائهم - أقول لهم إننا لا نقيد حريتهم في عقائدهم، ولكننا نقيد آراء تلقن أولادنا وتشاع على أفراد الأمة ما بين متعلم وغير متعلم، ولا بد أن يكون ذلك داعية الضلال والفسوق، فإذا لم أطِل بينكم الليلة في سرد النصوص الواردة في هذا الكتاب وذكر العبارات الشنيعة التي لا تدل إلا على زندقة، فلأنني لا أريد إدخال الحزن على قلوبكم، ولأني لا أود أن أرى دموعكم تسيل جزعاً على دينكم وشرف دولتكم. إننا لا نتكلم في هذا إلا بباعث المحافظة على الدين، وليس ذلك بالأمر الذي يهم المسلم دون غيره، فإن كرامة الأديان على السواء يجب أن تكون محفوظة. إنني لا أسمح ولا أقبل أن يطعن أحد في دين المسيح عليه السلام ولا أقبل أن يطعن في دين موسى عليه السلام، بالنسبة التي لا يرضى بها أحد أن يطعن على دين محمد عليه السلام، فإن حرمات الأديان يجب أن تكون موفورة. إنني لا أخشى أن يقال إننا نتكلم متعصبين تعصباً دينياً، لأنه إذا كان التعصب الديني هو المحافظة على كرامة الأديان جميعاً فإنني أول المتعصبين. كنت أودّ بعد أن قرأت لكم كلمات المؤلف أن أقرأ لكم كلمات الله فيما كذبه المؤلف، ولكني لا أظن أنكم في حاجة إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 نريد أن نثبت في تاريخ عملنا أننا لا نقبل أبداً أن يتهور متهور على الدين تهوراً يحط كرامته وكرامة الدولة، فإن الطعن في دين الدولة طعن في الدولة. هو طعن في كل فرد من أفرادها. لا نرض أن يسجل علينا التاريخ أنه قد فُتح بيننا هذا الباب، ونُشر بيننا هذا الكتاب، وقامت عليه الضجة التي قامت، ثم يمر علينا كما يمر السحاب دون أن ينال المسيءُ جزاء إساءته؛ لا أريد أن يقال: طُعن في الدين وشُهِّر به ومر الأمر علي مجلس النواب وخرج الطاعن نظيفاً بدون جزاء! إن الرحمة واجبة، ولكن ليس في الدين؛ وقد أوجب الدين أن يرجم بعض من يرتكب الجرم. فما بالكم فيمن يدعي أن الله كاذب، وأن النبي كاذب وأن المؤمنين جاهلون لا يفرقون بين الحق والباطل؟ ولا يجوز أن يكتفَى مطلقاً بأن المؤلف صرح في الصحف أنه مسلم. وإنني ألفت نظركم إلى أن الدكتور المؤلف لم تسمح له نفسه - مع أن الموقف كان شديداً والإلحاح عليه كثيراً - أن يكتب كلمة يشرح بها ما قال وأن يؤوله بمعنى يُفهم منه خلاف ما فهمناه. إذا كان قد ارتد بكتابه ثم رجع إلى الإسلام بعد ذلك فهو مسلم، ولكن التوبة لا تغفر الذنب ولا تعفي من العقوبة؛ وقد كنت أريد أن أقترح اقتراحاً خاصاً ولكني اطلعت على اقتراح لحضرة عبد الحميد البنان بك ووافقته عليه. الرئيس: تلا اقتراح حضرة عبد الحميد البنان بك ونصه: " أقترح على المجلس الموقر تكليف الحكومة: أولاً - مصادرة وإعدام كئاب طه حسين المسمى "في الشعر الجاهلي" بمناسبة ما جاء فيه من تكذيب القرآن الكريم، واتخاذ ما يلزم لاسترداد المبلغ المدفوع إليه من الجامعة ثمناً لهذا الكتاب. ثانياً - تكليف النيابة العمومية رفع الدعوى العمومية على طه حسين مؤلف هذا الكتاب لطعنه على الدين الإسلامي دين الدولة. ثالثاً - إلغاء وظيفته من الجامعة وذلك بتقرير عدم الموافقة على الاعتماد المخصص لها". ثم تُلي اقتراح حضرة محمود لطيف بك وهذا نصه: "أقترح بعد البيانات التي سمعها المجلس الموقر عن كتاب " في الشعر الجاهلي" أن يقرر المجلس رغبته إلى الوزارة في معاقبِة؛ مؤلف هذا الكتاب الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أهان في مؤلَّفه الشرائع السماوية والأنبياء، وأهان فيه دين الدولة الرسمي، وأن تتخذ الوزارة ما يحفظ المعاهد العلمية من أن تكون مقاماً لمثل هذا التهجم، مع اتخاذ اللازم لإعدام النسخ الموجودة من هذا الكتاب ". الرئيس: هل يريد مقدم الاقتراح الأول أن يؤخذ الرأي على اقتراحه فقرة فقرة. عبد الحميد البنان أفندي: نعم. محمود وهبة القاضي بك: أذكر أن الشيخ طه حسين كتب في الجرائد أنه مؤمن بالله ونبيه وكتبه ورسله واليوم الآخر "ضجة". معنى هذا أني ممتنع عن الكلام ما دمتم غير راغبين فيه. بيان رئيس الحكومة (1) رئيس مجلس الوزراء: أريد أن أقول كلمة في هذا الموضوع، فقد ذكر معالي وزير المعارف العمومية أن هذا الكتاب طبع ونشر في عهد الوزارة السابقة؛ وحين تشكلت هذه الوزارة وجدت برئاسة مجلس الوزراء خطاباً من حضرة صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر يطلب فيه من الحكومة أن تتخذ إجراءات خاصة في موضوع هذا الكتاب، وأذكر منها رفع الدعوى الجنائية على المؤلف؛ فطلبت من وزير المعارف بحث هذا الموضوع، فبحثه وكتب لي خطاباً بين فيه نتيجة بحثه باشتراك مدير الجامعة وما رأى اتخاذه من التدابير اللازمة لمنع تكرار وتوع مثل هذا العمل في المستقبل. وقد وافقته على ما ارتآه وكتبت لفضيلة شيخ الأزهر بما قرره وزير المعارف ووافقته عليه، من حبس الكتاب، أي منع انتشاره، وبأن المؤلف قد اعتذر بما بينه معالي وزير المعارف، وأخبرت فضيلته أيضاً بما اعتزمته الحكومة من اتخاذ التدابير لمنع تكرار وقوع مثل هذا العمل من أي أستاذ بالجامعة؛ فموافقتي على ما قرره وزير المعارف يعتبر عملاً حكومياً صدر من رئيس وزارة مسؤول عنه. وإني أفهم أن يُظهر المجلس استياءه من الكتاب، أو أن يترك لوزير المعارف الحرية في اتخاذ إجراءات علاوة على ما اتخذ من قبل، أما أن يقرر المجلس قراراً يخالف ما اتخذته الوزارة من الإجراءات، أو أن يُلزمها بالقيام بعمل معين زيادة على ما عملته وبما وعد به وزير المعارف.   (1) قلت: هو المرحرم عدلي يكن باثا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فيكون هذا انتقاداً لإجراءاتها في هذا الموضوع ويعرضها للمسؤولية الوزارية. الرئيس: لم أفهم القصد من هذا القول، فهل تريد ألا يتخذ المجلس قراراً؟ رئيس مجلس الوزراء: الاقتراح المعروض الآن يُعتبر في نظري انتقاداً للوزارة ويعرضها لمسألة الثقة. الرئيس: تريد إذن طرح مسألة الثقة بالوزارة. رئيس مجلس الوزراء: نعم. الرئيس: حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء يرى أنه إذا قرر المجلس قراراً يخالف ما اتخذه من الإجراءات فإن ذلك يدعو إلى طرح الثقة بالوزارة. رئيس مجلس الوزراء: قلت إنه إذا قرر المجلس قراراً ما يخالف الإجراءات التي اتخذت وما وعد به وزير المعارف العمومية، فإن ذلك يدل على عدم ثقة المجلس بالوزارة. وزير المعارف: قلت إن مؤلف هذا الكتاب غير موجود بمصر، ووعدت أنه عند حضوره أبحث المسألة وأسأله فيها. وبعد ذلك يتخذ ما يتراءى من الإجراءات ونعرض كل ذلك على المجلس. الرئيس: ولكن المجلس ينظر الآن في إلغاء وظيفة. رئيس مجلس الوزراء: لا شك أن من حق المجلس إلغاء أية وظيفة شاء وهذا لا أعارض فيه مطلقاً. الرئيس: أنت إذن تعارض في إحالة المؤلف على النيابة؟ رئيس مجلس الوزراء: أعتبر أن في تكليفنا بذلك عدم ارتياح لما قمنا به من الإجراءات، وهذا يدعوني. . . الرئيس: يعني أن الوزارة لا تود تكليف النيابة بالتحقيق؟ وزير المعارف العمومية: لا تعارض الوزارة في ذلك بعد سؤاله، وإذا تبين لها أن هناك جريمة؟ الرئيس: يعني أن الوزارة تعد بتكليف النيابة بالتحقيق إذا اتضح لها بعد سؤال المؤلف أن هناك جريمة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 رئيس مجلس الوزراء: قلت إننا اتخذنا ما يجب اتخاذه من الإجراءات. الرئيس: ولكن للمجلس الحق في إبداء رغبات. رئيس مجلس الوزراء: إذا كان الغرض إبداء رغبة فهذا شيء آخر. أما تكليف الحكومة أمراً فلا يعد إبداء رغبة من المجلس. الرئيس: يجوز للمجلس أن يكلف الحكومة بأشياء بما له عليها من حق الرقابة الداخلة في اختصاصه؛ فهل تأبى الحكومة ذلك؛ فإذا كنتم تعدوننا بقبول ذلك فهذا حسن، والا فإن ذلك يكون أساساً لمبدإ جديد يلزم بحثه. رئيس مجلس الوزراء: هذه المسألة من اختصاص السلطة التنفيذية. وللمجلس الحق في إبداء رغبات بخصوصها، فتبحث الحكومة هذه الرغبات لترى إذا كان من الممكن تنفيذها أم لاً، فإذا تأكد للحكومة أن هناك جريمة أمكن معاقبته. الرئيس: هل حضراتكم موافقون على الركبات التي تُليت عليكم؛ أعني المصادرة وتكليف النيابة العمومية برفع الدعوى وإلغاء الوظيفة. محمود لطيف بك: إن الاقتراح الذي قدمتُه برغبة يوفق بين رأي المجلس والوزارة. الرئيس: "هناك اقتراح برغبة، فإما أن ترفضوه أو تقبلوه. فكري أباظة بك: إن في نصوص هذه الرغبة متناقضات، مثلاً: إنه غير ممكن مصادرة الكتاب إلا بحكم. الرئيس: قيل إن إدارة الجامعة اشترت هذا الكتاب وحبسته لتمنع بذلك تداوله؛ فهل يكتفي حضرة مقدم الاقتراح بذلك أم يريد إعدامه؟ عبد الحميد البنان أفندي: أريد إعدامه.. الرئيس: هل تمانع وزارة المعارف في إعدام هذا الكتاب؟ وزير المعارف: إن وزارة المعارف لا تمانع في ذلك. الرئيس: بقيت النقطة الثانية، وهي تكليف النيابة العمومية بإقامة الدعوى ضد المؤلف؛ فهل ترى الحكومة - إذا وافق المجلس على إبداء هذه الرغبة - في ذلك اعتداء على اختصاصها؟ عبد الخالق عطية أفندي: أرى أن المسألة تتعلق بالصيغة أكثر منها بالموضوع، لأنه ربما يتبادر إلى الذهن أن المقصود بلفظة "تكليف" إلزامُ النيابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 برفع الدعوى العمومية، فلذلك أقترح أن تستبدل بكلمة "تبليغاً كلمة "تكليف". الرئيس: إذا استبدلت كلمة "تكليفاً المذكورة بالاقتراح بكلمة "تبليغ " فهل لدى الحكومة ما يمنعها من تنفيذ هذه الرغبة إذا وافق المجلس على إبدائها؟ رئيس مجلس الوزراء: لقد تصرفت الحكومة في هذا الموضوع بما رأته مناسباً؛ فتكليف المجلس إياها بأن تقوم باكثر مما فعلت يفيد أن ما اتخذته من الإجراءات لم يكن كافياً؛ وأرى لهذا أنه يجب عليَّ أن أعارض في ذلك! الرئيس: لا يمكننا أن نقبل هذا مطلقاً، لأن للمجلس اختصاصات وحقوقاً؛ فله أن يبدي رغبات، ويطلب طلبات، فإذا لم تستطع الحكومة تنفيذها وجب عليها أن تبين له أسباب ذلك، أما إذا رأت الحكومة أنه ليس للمجلس مبدئياً أن يكلفها أو يدعوها إلى العمل، فإننا لا نقبل ذلك ولا يمكنني أن أرأس هذا المجلس إذا لم يكن ذلك من اختصاصه " تصفيق حاد". لقد أبدى المجلس فيما مضى رغبات أهم من هذه بكثير، فلم تعترض على تنفيذها؛ وبصفتي رئيس مجلس النواب لا يمكنني أن أقبل ما تقوله الحكومة، من أنه ليس من اختصاص المجلس أن يبدي رغبة كهذه، خصوصاً وأنها ترمي إلى إعطاء القضاء ما هو من حقوق القضاء! رئيس مجلس الوزراء: لا تقول الحكومة إنه ليس من اختصاص المجلس إبداء رغبات، ولكنها تقول إنها تصرفت في الموضوع، فإذا وافق المجلس على هذه الرغبة فكأنه يقول إن ما قامت به الحكومة لم يكن كافياً. الرئيس: إذا كانت موافقة المجلس على إبداء هذه الرغبة تفيد أن تصرف الحكومة في هذه المسألة لم يكن كافياً فإن له هذا الحق. رئيس مجلس الوزراء: للمجلس الحق إلا أن هذا يعتبر اعتراضاً على تصرف الحكومة. الرئيس: إنه اعتراض بلا شك، ولكن إذا رأى المجلس أن هذا الاعتراض في محله فما رأي الحكومة في ذلك؟ فكري أباظة بك: حضرات الزملاء المحترمين! أشار حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء إلى تصرفات الحكومة في هذا الموضوع إجمالاً. ولكننا لم نطلع على تفاصيل هذه الإجراءات، ومع تمسكنا بما لنا من حق إبداء رغبات، يهمنا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 نطلع على تفاصيل ما قامت به من التصرفات حتى يمكننا أن نحكم عليها. ولكن بما أن الفرصة لا تسمح لنا ولا تمكننا من أن نحكم فيما إذا كانت هذه التصرفات كافية أم لا، فلذلك أقترح تأجيل النظر في هذا الموضوع حتى نطلع على التفاصيل التي أشرت إليها. الرئيس: إن الحكومة لم تُبين لنا هذه التفاصيل، ولكنها تقول إن مطالبة المجلس إياها بالقيام بغير ما قامت به يعتبر اعتراضاً على تصرفاتها، حقيقة إن طلب المجلس يعتبر اعتراضاً ولكنه في محله! فكري أباظة بك: يمكنك استيفاء الموضوع في فترة التأجيل. الرئيس: إن الموضوع مستوفى. وزير الحقانية: يظهر لي أن المسألة تكاد تكون من اختصاص وزير الحقانية. يريد المجلس الموقر أن يبدي رغبة بتقديم مؤلف كتاب (الشعر الجاهلي) إلى المحاكمة. وتقول الحكومة إنها تصرفت في هذه المسألة بطريقة مخصوصة قبل أن تثار في المجلس، ويقول معالي وزير المعارف إن هذه المسألة محل نظر الوزارة وإنها ستتخذ فيها ما تراه من الإجراءات؛ فهل هناك فارق بين رغبة المجلس وما وعد به معالي وزير المعارف؟ لا أظن أن هناك فارقاً للمجلس أن يبدي رغبة بتبليغ النيابة العمومية لإقامة الدعوى ضد الكتاب، ولمعالي وزير المعارف أن ينظر في هذه الرغبة ويتصرف فيها بما رآه، وأظن أن هذا أليق بكرامة المجلس، لأنه وهو الهيئة التشريعية إذا أمر برفع الدعوى العمومية وجاء الحكم فيها مخالفاً لرأيه فيكون معنى هذا أن رأي المجلس لم يكن في محله، أما إذا تركت المسألة للحكومة ورأت أن تقيم الدعوى العمومية ثم صدر الحكم ببراءة المؤلف فلا يؤأخذ المجلس بشيء وتتحمل الوزارة وحدها مسؤولية تصرفها. الرئيس: يجوز أن يكون تبليغ النيابة من ضمن الإجراءات التي تتخذها الوزارة في هذه المسألة، وتبليغ النيابة هذا لا علاقة له بالحكم في الدعوى. وزير الحقانية: الذي فهمته أن الاقتراح يومئ إلى تكليف النيابة برفع الدعوى العمومية. الرئيس: سنستبدل كلمة " تبليغ" بكلمة "تكليف"، وأظن أن تبليغ النيابة عن جريمة ارتكبت حق واجب على كل فرد. وزير الحقانية: لا نزاع في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 عبد الحميد البنان أفندي: أوافق على أن تستبدل بكلمة "تبليغ " كلمة "تكليفاً. وزير الحقانية: يمكنني أن أقول إن سبب عدم تبليغ النيابة ربما كان مبنياً على أن كتاب " الشعر الجاهلي " مكروه من الأصل، وكان من الواجب احتقاره وعدم إذاعته بين الجمهور؛ ولما كان التبليغ يقتضي نشر الكتاب في الجرائد وإذاعته بين أفراد الأمة، رأت الوزارة أن لا تبلغ النيابة؛ استهانة بما احتواه الكتاب وتحقيراً لشأنه! فإذا رأى المجلس مع ذلك ضرورة لتبليغ النيابة فلا مانع من أن يبدي هذه الرغبة، على أن تكون من ضمن الإجراءات التي تتخذها الحكومة. الرئيس: تقدم اقتراح برغبة؟ عبد الحميد البنان أفندي: لا مانع عندي من أن تكون هذه الرغبة ضمن ما تتخذه الوزارة من الإجراءات. الرئيس: هل يعد معالي وزير المعارف بذلك؛ لأن هناك جريمة ارتكبت ويريد المجلس التبليغ عنها؟ وزير الحقانية: إننا نقدر رغبات المجلس حق قدرها، ولم يبد المجلس أي رغبة إلا نفذتها الحكومة؛ فلماذا يطلب من معالي وزير المعارف أن يعد من الآن؟ الرئيس: ما الداعي لهذه المعارضة الشديدة؛ المسألة في غاية البساطة. وهي: هل توافق الحكومة على تنفيذ هذه الرغبة أم لا؟ عبد الحميد البنان أفندي: أعدِّل اقتراحي بأن يضع معالي وزير المعارف هذه المسألة موضع البحث حتى إذا رأى.. وزير المعارف: أوافق على هذا التعديل. الرئيس: لقد تقدم الاقتراح ومن حق المجلس أن يصدر قراراً بخصوصه. فهل يوافق معالي وزير المعارف على تبليغه النيابة. وزير المعارف: إني موافق على تعديل حضرة عبد الحميد البنان أفندي. الرئيس: التعديل هو أن يقوم معالي وزير المعارف بتبليغ النيابة؛ فهل تعد بذلك؟ الدكتور أحمد ماهر: أرجو أن ترفع الجلسة للاستراحة. الرئيس: ترفع الجلسة للاستراحة عشر دقائق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 كلمة جريدة "الأهرام" الغراء الوزارة تعرض مسألة الثقة رشدي باشا وعدلي باشا في بيت الأمة ليلاً تفاصيل المسألة - تسويتها عرضت أمس وأول من أمس على مجلس النواب ميزانية الجامعة، ومن أسبوعين مضيا انتشرت في الجو إشاعات مختلفة عن الجامعة، فإن روح التذمر والاستياء التي بدت بين النواب من تصرفات وزير المعارف السابق في شؤون وزارة المعارف تناولت تصرفاته في أمر الجامعة أيضاً، وهي تصرفات اجتمعت الكلمة على أنها خرقت القانون في كثير من المسائل الهامة بل قامت على أساس من الفوضى التي لم تُراعَ فيه للقانون حرمة. . . ومنذ ذلك الحين راجت إشاعات شتى، فقيل إن هناك فكرة ترمي إلى إلغاء قانون الجامعة وترك كل مدرسة عالية أو كلية قائمة مستقلة، مع إبقاء كليتي الآداب والعلوم كل كلية منهما على حدة إلى أن يتيسر إنشاء جامعة بالمعنى الصحيح على أساس متين منظم؛ وراجت غير ذلك من الإشاعات، ورأينا مدير الجامعة الأستاذ أحمد لطفي السيد بك يتردد على بيت الأمة عدة مرات قابل فيها دولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول للدفاع عن الجامعة أو عن مصير الجامعة. ومن المسائل التي ثارت حولها الإشاعات أيضاً مسألة كتاب "الشعر الجاهلي" الذي أخرجه الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة، واستنكر العلماء وغير العلماء بعض ما احتواه من العبارات الماسة بالدين، فإن كثيرين من النواب يستنكرون بقاء الدكتور طه أستاذاً بالجامعة بعد أن اجتمعت كلمة العلماء على خروجه على الدين. وكان صاحب الفضيلة النائب المحترم الشيخ مصطفى القاياني قد أعلن عزمه على استجواب رئيس الوزارة في هذا الشأن، ثم بذلت مساع حثيثة لحمله على العدول عن الاستجواب، ثم أبدل الاستجواب بسؤال نشرناه منذ أيام على أن يكون الرد عليه كتابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ولم يرد رئيس الوزراء على السؤال، وأشيع أن كثيرين من النواب سيعرضون مسألة الدكتور طه حسين على المجلس أثناء بحث الميزانية، وقيل إن بعضهم سيطلب إلغاء وظيفته. فبذل أصدقاء الدكتور طه حسين مساعي حثيثة للوصول إلى إقناع الذين ينوون المطالبة بإلغاء الوظيفة بالعدول عن ذلك؛ على أن يُكتفى في المجلس باستنكار عمل الأستاذ طه. وحدث أمس أن ثارت المناقشة في مجلس النواب في شأن كتاب "الشعر الجاهلي" ومؤلفه، وألقيت الخطب مما يراه القراء بنصه في محضر جلسة المجلس المنشورة في غير هذا المكان. وقد قدَّم النائب المحترم عبد الحميد البنان أفندي نائب الجمالية اقتراحاً من ثلاثة أقسام: 1 - إبادة كتاب الشعر الجاهلي. 2 - إحالة الدكتور طه حسين إلى النيابة. 3 - إلغاء وظيفته. وقد سلم معالي وزير المعارف بالقسم الأول من الاقتراح، وتكلم دولة عدلي باشا رئيس الوزراء عن القسم الثاني، وجرت بينه وبين دولة الرئيس الجليل مناقشة اشترك فيها وزير المعارف والحقانية، انتهت بأن ذكر عدلي باشا أن قرار المجلس بإحالة المؤلف إلى النيابة يكون بمثابة اعتراض على تصرفات الحكومة وذكر مسألة الثقة بالوزارة! وكان الأمر قد أبلغ إلى دولة رشدي باشا (1) فترك مجلس الشيوخ مسرعاً إلى مجلس النواب " وكان جو المجلس مملوءاً كهرباء، فاقترح النائب المحترم الدكتور أحمد ماهر رفع الجلسة عشر دقائق للاستراحة، ولما رفعت ذهب الرئيس الجليل إلى مكتبه بمجلس النواب وتبعه إليه عدلي باشا ورشدي باشا وبقيا معه عشر دقائق. وكان دولة الرئيس الجليل سعد باشا متعباً فاستقل سيارته إلى داره. واتفق بعض النواب على تأجيل الجلسة إلى غد، لأن الساعة كانت قد أوشكت على العاشرة تقريباً، وليكون هناك متسع من الوقت لتسوية المسألة. وأعيدت الجلسة في الساعة العاشرة وثلث برئاسة حضرة صاحب السعادة   (1) قلت: كان رحمه الله وقتئذ رئيساً لمجلس الشيوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 مصطفى النحاس باشا، فطلب أعضاء كثيرون التأجيل لتأخر الوقت، فأجِّلت. وعلى أثر انصراف دولة سعد باشا، قصد دولة عدلي باشا ومعه دولة رشدي باشا إلى بيت الأمة، كما قصد إليه صاحبا المعالي فتح الله بركات باشا ومحمد محمود باشا، وتكلم عدلي باشا في ظروف الحادث، وذكر أنه قام على سوء تفاهم، فإنه لم يقصد تحدي المجلس في سلطته، وظل عدلي باشا ورشدي باشا في بيت الأمة إلى ما قبل منتصف الليل بثلثي ساعة. وبعد انصرافهما سألنا بعض الوزراء عن النتيجة فقالوا لنا "إن الحادث سُوي وانتهى وأصبح كأنه لم يكن ". وعلى أثر ذلك ذهب حضرة صاحب المعالي فتح الله بركات باشا إلى النادي السعدي، حيث كان بعض أصحاب المعالي الوزراء وبقي هناك نحو نصف ساعة مع كثيرين من أعضاء مجلس النواب والشيوخ يتسامرون. ولا شك أنه كان مما يؤسف له كثيراً أن ينتهي الدور البرلماني الحاضر بخلاف يقوم حول مسألة كمسألة أمس بعد أن سار مجلس النواب والوزارة في مختلف شؤون الدولة الخطيرة بتمام الاتفاق والوئام، وأن تثير الحكومة مسألة الثقة بسبب كتاب سَلّمت - إذ أقرت مصادرته وقبلت إبادته - بضرر ما فيه، كتاب نعرف أن الأغلبية العظمى من الأمة - وفي مقدمتهم العلماء والمتعلمون - لا ترضى عنه ولا عن مؤلفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 جلسة يوم الثلاثاء الرئيس: ننتقل إلى استئناف النظر في ميزانية الجامعة. عبد الحميد البنان أفندي: قدمت اليوم بلاغاً إلى النيابة العمومية للتحقيق مع الدكتور طه حسين فيما كتبه طعنا على الدين الإسلامي؛ وبناء على ذلك لم يبق محل للقسم الثاني من اقتراحي الذي قدمته أمس في هذه المسألة، وبما أن مصادرة الكتاب لا يمكن أن تكون إلا بحكم، وهذا تابع بطبيعة الحال للقضية المطلوب تحقيقها، فإنه لم يبق محل للقسم الأول أيضاً في اقتراحي؛ وأما فبما يختص بالقسم الثالث فإني أكتفي بتصريح دولة رئيس الوزراء ومعالي وزير المعارف بالنظر في هذه المسألة وبحثها بما تستحقه من العناية.. وبناء على كل هذا سحبت اقتراحي. الرئيس: وهو كذلك. نقول: وتسلمت النيابة الدكتور طه حسين، وتم طبع هذا الكتاب وهو معلق بعد في ميزانها إما إلى وإما إلى. . . . . . . . . (1) .   (1) قلت: وأتمت النيابة التحقيق وحفظت القضية، وكان كتاب الحفظ، وما تضمنه من أسباب، باباً من أبواب الأدب في معارضة كتاب الدكتور طه حسين بك لم يزل يذكره قراءه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309