الكتاب: كتاب الله عز وجل ومكانته العظيمة المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- كتاب الله عز وجل ومكانته العظيمة عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ الكتاب: كتاب الله عز وجل ومكانته العظيمة المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا، والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث بالهدى والرحمة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وآله وصحبه، ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه قد من على خلقه وخاصة المؤمن منهم بأن بعث فيهم رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأنزل معه أفضل كتبه وخاتمها، والمهيمن عليها، يقول الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) وفي [صحيح مسلم] من حديث عياض بن حمار   (1) سورة آل عمران الآية 164 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 المجاشعي -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان (1) » . . . الحديث. هذا الكتاب هو المهيمن على الكتب السابقة كلها، يقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (2) والمعنى: أنه عال ومرتفع على ما تقدمه من الكتب، وهو أمين عليها وحاكم وشاهد وقيم عليها.   (1) [صحيح مسلم] للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، برقم (2865) ط / المكتبة الإسلامية – استنبول، تركيا. (2) سورة المائدة الآية 48 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 يقول ابن جرير -رحمه الله-: (القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل) . اهـ. وكتاب الله له المكانة العظيمة في قلب كل مسلم، وهو أيضا عظيم في نفسه، كريم مجيد عزيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ونحن في هذه الرسالة نحب أن نعرض لهذا الموضوع بإشارات وتنبيهات؛ لعل الله أن ينفعنا بها وينفع بها إخواننا وأخواتنا من القراء، أو من بلغه هذا الكلام، إنه سميع مجيب. فأقول مستعينا بالله: القرآن: مصدر قرأ قرآن، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (1) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (2) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (3) والكلام المقروء نفسه يسمى قرآنا، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (4) والقرآن كلام الله حقيقة، لفظه ومعناه من الله، أنزله على عبده محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وحيا، فهو منزل غير مخلوق، يقول الله:   (1) سورة القيامة الآية 17 (2) سورة القيامة الآية 18 (3) سورة القيامة الآية 19 (4) سورة النحل الآية 98 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1) ويقول سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} (2) ويقول: {حم} (3) {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (4) ويقول: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (5) ويقول: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وعلى هذا أجمع سلف الأمة، رحمهم الله جميعا. وقد سمى الله هذا الكتاب بأسماء كثيرة في كتابه، ووصفه كذلك بصفات كثيرة، وإنما يدل هذا على شرف هذا الكتاب وعظمته، فهو القرآن، والفرقان، والكتاب، والهدى، والنور، والشفاء، والبيان، والموعظة، والرحمة، والبصائر، والبلاغ، وهو العربي، والمبين، والكريم، والعظيم، والمجيد، والمبارك، والتنزيل، والصراط المستقيم، والذكر الحكيم، وهو حبل الله، وهو الذكرى، والتذكرة، والبشرى،   (1) سورة الزمر الآية 1 (2) سورة النحل الآية 102 (3) سورة غافر الآية 1 (4) سورة غافر الآية 2 (5) سورة فصلت الآية 2 (6) سورة الإسراء الآية 106 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وهو المصدق لما بين يديه من الكتاب، وهو المهيمن عليها، وهو المثاني، وفيه تفصيل كل شيء وتبيان كل شيء، وهو الذي لا ريب فيه ولا عوج فيه، يقول الله: {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (1) ويقول سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (2) ويقول سبحانه: {الم} (3) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (4) ويقول سبحانه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (5) ويقول سبحانه: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (6) ويقول -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (7) ويقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (8)   (1) سورة الزمر الآية 28 (2) سورة الفرقان الآية 1 (3) سورة البقرة الآية 1 (4) سورة البقرة الآية 2 (5) سورة البقرة الآية 97 (6) سورة آل عمران الآية 58 (7) سورة النساء الآية 174 (8) سورة يونس الآية 57 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ويقول -سبحانه-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1) ويقول جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (2) {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} (3) ويقول عز من قائل سبحانه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (4) {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (5) ويقول -عز وجل-: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (6) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (7) {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (8) {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (9) وغير ذلك من الآيات كثير، فيها أسماء هذا الكتاب العظيم وصفاته، مما ينبيك عن عظيم قدره، وجليل شرفه، كيف والمتكلم به هو رب الأرباب - سبحانه - عالم الغيب والشهادة، القائل:   (1) سورة الإسراء الآية 9 (2) سورة الكهف الآية 1 (3) سورة الكهف الآية 2 (4) سورة البروج الآية 21 (5) سورة البروج الآية 22 (6) سورة الواقعة الآية 77 (7) سورة الواقعة الآية 78 (8) سورة الواقعة الآية 79 (9) سورة الواقعة الآية 80 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ومما ينبغي أن يعلم: أن كل اسم أو صفة لهذا الكتاب العزيز فهو دال على معنى اختص به، ولولا خشية الإطالة لنبهنا على جملة تكون معينة على فهم ما بقي. هذا وإن مما اختص به هذا الكتاب الكريم أن الله سبحانه تكفل بحفظه، ولم يكل حفظه إلى أحد من خلقه، يقول -سبحانه-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) ويقول -سبحانه-: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (3) {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (4) ويقول ابن القيم -رحمه الله-: (فوصفه -سبحانه- بأنه محفوظ في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5) ووصف محله بالحفظ في هذه السورة – أي: البروج – فالله –سبحانه- حفظ محله وحفظه من الزيادة والنقصان والتبديل، وحفظ معانيه من التحريف، كما حفظ ألفاظه من التبديل، وأقام له من يحفظ حروفه من الزيادة   (1) سورة لقمان الآية 27 (2) سورة الحجر الآية 9 (3) سورة البروج الآية 21 (4) سورة البروج الآية 22 (5) سورة الحجر الآية 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والنقصان، ومعانيه من التحريف والتغير) اهـ كتاب الله الكريم هو المنجي من الفتن، وهو أنيس المؤمن، ونور قلبه، وربيع صدره، وجلاء همه وغمه، كتاب الله نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، لا تنقضي عجائبه، ولا تفنى عبره، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (1) من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، هو الآية الكبرى والمعجزة العظمى التي أوتيها نبينا -صلى الله عليه وسلم-، حيث   (1) سورة الجن الآية 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 يقول: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة (1) » أخرجاه في [الصحيحين]   (1) [صحيح البخاري] (6 / 97) و (8 / 138، 139) ط / المكتبة الإسلامية – استانبول، تركيا، و [صحيح مسلم] برقم (152) واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 معجز في لفظه وبيانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) معجز في تيسير تلاوته وقرآنه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2) معجز فيما حواه من قصص الماضين لنعتبر: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3) ويقول -سبحانه-:   (1) سورة البقرة الآية 23 (2) سورة القمر الآية 17 (3) سورة يوسف الآية 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) معجز فيما حواه من عقائد وشرائع الدين؛ لنمثل: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (2) {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (4) {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (5) معجز بما حواه من أخبار الغيب؛ لنؤمن ونسلم: {الم} (6) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (7)   (1) سورة يوسف الآية 111 (2) سورة إبراهيم الآية 1 (3) سورة النحل الآية 89 (4) سورة الزمر الآية 2 (5) سورة الأنعام الآية 155 (6) سورة البقرة الآية 1 (7) سورة البقرة الآية 2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 آية ظاهرة، وحجة باهرة من بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يأذن الله برفعه، تحدى الله به أفصح الناس فلم يستطيعوا، بل تحدى به الجن والإنس مجتمعين فأعياهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1) امتن الله به على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (2) يهدي إلى الطريق القويم والمنهج المستقيم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (3)   (1) سورة الإسراء الآية 88 (2) سورة الحجر الآية 87 (3) سورة الإسراء الآية 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 هذا وإن لتلاوة هذا الكتاب أجرا عظيما، وفضلا كبيرا، يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (1) {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (2) وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء (3)   (1) سورة فاطر الآية 29 (2) سورة فاطر الآية 30 (3) [صحيح البخاري] (8 / 209) و [صحيح مسلم] برقم (815) (266) واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» رواه البخاري ومسلم. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف (1) »   (1) [سنن الترمذي] للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، برقم (2910) ط دار الكتب العلمية – بيروت -، وقال الترمذي: ويروى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود، ورواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، رفعه بعضهم، ووقفه بعهم عن ابن مسعود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، سمعت قتيبة يقول: بلغني أن محمد بن كعب القرظي ولد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحمد بن كعب يكنى: أبا حمزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وصاحب القرآن هو المقدم في الدنيا والآخرة، وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أهل الإكرام والإجلال، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين (1) » أخرجه مسلم. وعن أبي مسعود الأنصاري البدري -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله (2) » . . . الحديث، أخرجه مسلم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان القراء أصحاب مجلس عمر -رضي الله عنه- ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا) (3) وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط (4) » أخرجه أبو داود، وحسنه النووي.   (1) [صحيح مسلم] برقم (817) . (2) [صحيح مسلم] برقم (673) . (3) [صحيح البخاري] (8 \ 141) . (4) [سنن أبي داود] للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، برقم (4843) ط / دار الحديث – حمص – سوريا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر (1) » متفق عليه. هذا في الدنيا، أما في الآخرة فثوابه أعظم إن عمل به وأجره أكبر، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق، له أجران (2) » أخرجه مسلم، وأخرجه البخاري بنحوه. وعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة (3)   (1) [صحيح البخاري] (6 / 207) واللفظ له، و [صحيح مسلم] برقم (797) . (2) [صحيح البخاري] (6 / 80) و [صحيح مسلم] برقم (798) واللفظ له. (3) [صحيح مسلم] برقم (804) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 شفيعا لأصحابه» أخرجه مسلم. وصاحب القرآن هو المقدم في أول منازل الآخرة، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: " أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ " فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد (1) » أخرجه البخاري. ولا يزال صاحب القرآن يترقى في منازل الجنة على قدر ما معه من القرآن، فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها (2) » أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.   (1) [صحيح البخاري] (2 / 93) . (2) [سنن أبي داود] برقم (1464) واللفظ له، و [سنن الترمذي] برقم (2914) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ولا شك أن العناية بحفظ القرآن من أجل ما تنصرف إليه الهمم؛ لما في ذلك من الأجر العظيم، وقد كان وصف هذه الأمة في الكتب السابقة بأن أناجيلهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 صدورهم وهكذا فإن الله سبحانه قد أخبر في كتابه: أن هذا الكتاب محفوظ في صدور الرجال، يقول الله -سبحانه-: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1) {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (2) فأخبر سبحانه أنه في صدور العلماء محفوظ، وهذا يصدق الحديث القدسي الذي فيه: «.. إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء (3) » . . . أخرجه مسلم، والمعنى: أن الماء لا يمحوه، إذ هو محفوظ في الصدور. وقد شبه النبي -صلى الله عليه وسلم- من لم يحفظ شيئا من القرآن بالبيت الخرب، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول   (1) سورة العنكبوت الآية 48 (2) سورة العنكبوت الآية 49 (3) تقدم تخريجه ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب (1) » أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وقد تقدمت معنا الأحاديث الدالة على إكرام حامل القرآن وعظيم منزلته.   (1) [سنن الترمذي] برقم (2913) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وحفظ القرآن مشروع للمسلم، والقدر الواجب عليه منه هو ما يحتاج إليه في تصحيح عبادته. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وأما حفظ جميع القرآن وفهم جميع معانيه ومعرفة جميع السنة – فلا يجب على كل أحد، لكن يجب على العبد أن يحفظ من القرآن ويعلم معانيه ويعرف من السنة ما يحتاج إليه) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وإن مما ينبغي العناية به لمن أراد تلاوة القرآن وحفظه أمور: أولها: وجوب الإخلاص لله في العمل الذي يقدم عليه، وألا يكون مراده به حظا من الدنيا قريب حقير، فإن الله تعالى يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (1) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ويقول -سبحانه-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (3) ويقول -جل وعلا-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} (4) وفي [صحيح مسلم] من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، (5)   (1) سورة هود الآية 15 (2) سورة هود الآية 16 (3) سورة الشورى الآية 20 (4) سورة الإسراء الآية 18 (5) [صحيح مسلم] برقم (1905) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» . . . الحديث. عياذا بالله من حالة السوء. قال ابن القيم -رحمه الله- بعدما أورد هذا الحديث: (وسمعت شيخ الإسلام يقول: كما أن خير الناس الأنبياء، فشر الناس من تشبه بهم من الكذابين، وادعى أنه منهم وليس منهم، فخير الناس بعدهم العلماء والشهداء والصديقون والمخلصون، وشر الناس من تشبه بهم، يوهم أنه منهم وليس منهم) اهـ ثانيا: ينبغي لمن أراد حفظ القرآن أن يكرره ويتعاهده حتى يتمكن من حفظه، والله تعالى إن علم من عبده الصدق يسر له طريق الحفظ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1) ثالثا: من كان معه شيء من القرآن قد حفظه فليتعاهده   (1) سورة القمر الآية 17 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بالتكرار والمراجعة حتى لا يضيع منه، وليستعن على ذلك بالصلاة، فإن من قام بحزبه من القرآن لم ينسه. فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعلقة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت (1) » متفق عليه. وزاد مسلم في رواية: «وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه (2) » رابعا: مما يعين على حفظ القرآن مدارسته، وقد كان جبريل عليه السلام يدارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن في كل سنة مرة، إلا عام قبض فقد عارضه القرآن مرتين، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في فضل مدارسة القرآن: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده (3) » . . . . الحديث   (1) [صحيح البخاري] (6 / 109) و [صحيح مسلم] برقم (789) (226) واللفظ له. (2) [صحيح مسلم] برقم (789) (227) . (3) [المسند] للإمام أحمد بن حنبل (2 / 252) ط الميمنية، و [صحيح مسلم] برقم (2699) و [سنن أبي داود] برقم (1455) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 خامسا: ينبغي للمسلم ألا يغفل عن كتاب الله، وليجعل له فيه ختمة، وقد كان السلف لهم عادات في ختم كتاب الله، فمنهم من كان يختمه كل شهرين مرة، ومنهم من كان يختم كل شهر مرة، ومنهم من كان يختم كل عشر ليال، ومنهم من كان يختم في ثمان ليال، وعن الأكثرين في كل سبع ليال، ومنهم من يختم في أقل من ذلك. والأفضل: أن يختم المسلم كل سبع؛ لفعل جمع من الصحابة حيث كانوا يحزبون القرآن إلى سبعة أحزاب، فعن أوس بن حذيفة قال: (سألت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف يحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده) (1) رواه أبو داود. وحزب المفصل من سورة (ق) إلى آخر القرآن العظيم، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: «اقرأ القرآن في شهر " قلت: إني أجد قوة، قال: " فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك (2) »   (1) [سنن أبي داود] برقم (1393) . (2) [صحيح البخاري] (6 / 114) و [صحيح مسلم] برقم (1159) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري. وأما من قرأه في أقل من ذلك فالغالب أنه يهذه هذا، ولا يفهم معاني ما يقرأ، وهذا لا ينبغي من المسلم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال – كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما-: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث (1) » أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حسن صحيح. فالسنة ألا يختم في أقل من ثلاث. والناس يختلفون في هذا، فمنهم من هو كثير العلم دقيق الفهم سريع القراءة قليل الشغل، فهذا يقرأ من القرآن أكثر ممن هو دونه في ذلك. وقد استحب جمع من السلف: أن تكون الختمة إما أول الليل أو أول النهار؛ لأجل أن الملائكة تصلي على من ختم بالليل حتى يصبح ومن ختم بالنهار حتى يمسي، روي ذلك موقوفا على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه،   (1) [سنن أبي داود] برقم (1394) و [سنن الترمذي] برقم (2946. 2949) و [السنن الكبرى] للنسائي برقم (8067) و [السنن ابن ماجه] برقم (1347) و [سنن الدارمي] برقم (1501) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وحسنه الدارمي عنه (1) سادسا: يجب على المسلم أن يسعى في تعلم ما يقرأ؛ حتى يكون على بينة وفهم لما يتلوه، فيحصل له التدبر والخشوع، إذ ليس المقصود من القراءة مجرد التلاوة، كلا، فإن من هذه حاله كان شبيها بحال أهل الكتاب الذين قال الله عنهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (2) يعني: ويقرءون الكتاب ولا يعلمون ما فيه (3) وقد أمر الله بتدبر كتابه وفهمه في غير موضع من كتابه، يقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (4) ويقول -سبحانه-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) وقد أنكر الله على من لم يتدبر كتابه، فقال -سبحانه-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (6) وقال أيضا:   (1) [سنن الدارمي] برقم (3486) . (2) سورة البقرة الآية 78 (3) انظر [تفسير ابن كثير] على هذه الآية (1 / 147) . . (4) سورة يوسف الآية 2 (5) سورة ص الآية 29 (6) سورة محمد الآية 24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (1) والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، يقول الله -عز وجل-: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وهكذا التابعون أخذوا عن الصحابة، فهذا مجاهد -رحمه الله- يقول: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأساله عنها؛ ولهذا قال الثوري -رحمه الله-: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. والمقصود: أن معاني كلام الله موجودة معلومة، وكثير منها مدون متداول ولله الحمد، وأعظم ما فسر به القرآن هو أن يفسر بالقرآن، فإنه من المعلوم أن هذا القرآن مثاني ومتشابه، يقول الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (3) ، والمعنى: أن بعضه يشبه بعضا ويفسر بعضه بعضا، وأن القصص تثنى فيه فيكون في هذا الموضع ما يفسر الموضع الآخر، وهكذا. وهذا – ولله الحمد – واضح، فإنه ما فسر كلام الله   (1) سورة المؤمنون الآية 68 (2) سورة النحل الآية 44 (3) سورة الزمر الآية 23 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 بأوضح وأدل على المراد من كلام الله، إذ هو سبحانه المتكلم به، وهو الأعلم بمراده. وهذا النوع من التفسير اعتنى به السلف كثيرا، وهناك أمثلة كثيرة؛ لذلك يطول عدها. ثم بعد كلام الله يأتي تفسير القرآن بالسنة؛ إذ لا أعلم بمراد الله بعد الله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي نزل عليه القرآن وأمر ببيانه للناس. ثم يأتي أقوال الصحابة؛ إذ هم من عاصر التنزيل وأخذ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم أئمة التابعين. ومن ثم يؤخذ من أقوال المفسرين أقربها إلى ما في الكتاب والسنة أو أقوال الصحابة، فإن كان وإلا فأقربها إلى مقتضى اللغة العربية؛ إذ هي لغة القرآن. ومن المفسرين من يسلك مسلك الاجتهاد والاستنباط؛ فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر اجتهاده إذا كان عن علم. وينبغي التنبيه هنا: أن المسلم يحذر من أن يقول في كلام الله بغير علم، فلا يقل: هذه الآية تفسيرها كذا، وهو لا يعلم تفسيرها، فإن هذا إثم عظيم، وقول على الله بلا علم، وقد حرمه الله في كتابه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) ثم إن تعلم هذا القرآن وتعليمه فرض كفاية على الأمة، إبقاء لعلم الكتاب فيها، ومن انتصب لهذا الأمر فهو خير هذه الأمة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «خيركم من علم القرآن وعلمه (2) » أخرجه البخاري عن عثمان -رضي الله عنه-، وفي رواية: «خيركم أو أفضلكم (3) » . . . الحديث. سابعا: يجب على من علم القرآن أن يعمل به؛ إذا هذا هو ثمرة العلم وهو المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل، وإلا فعلم بلا عمل لا ينفع صاحبه، بل يضره. وقد روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل) . وقد قص الله علينا خبر الذي علم شيئا من آيات الله ولم يعمل بها، ومثل له بأقبح مثال وأشنعه؛ تنفيرا من فعله وبيانا لقبحه، يقول -سبحانه-:   (1) سورة الأعراف الآية 33 (2) [صحيح البخاري] (6 / 108) . (3) [سنن البخاري] (2908) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1) {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) وقال –سبحانه- عن اليهود: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3) وأثنى على طائفة من أهل الكتاب؛ لأنها عملت بكتابها، يقول الله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (4) أي: يحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (ومن لم يعمل بالقرآن من هذه الأمة فإن القرآن قد يكون حجة عليه) . وقد أخبرنا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عن عبادة أقوام وكثرة   (1) سورة الأعراف الآية 175 (2) سورة الأعراف الآية 176 (3) سورة الجمعة الآية 5 (4) سورة البقرة الآية 121 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 صلاتهم وصيامهم وتلاوتهم، ومع ذلك آلوا إلى أسوأ حال؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق (1) » أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم بنحوه. وكان دأب السلف الصالح من الصحابة -رضي الله عنهم- فمن بعدهم الحرص على العمل بما علموا من القرآن أكثر من الحرص على حفظه بغير عمل به، يقول أبو عبد الرحمن السلمي -رحمه الله-: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن – كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- وغيرهما – أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا) .   (1) [صحيح البخاري] (6 / 115) و [صحيح مسلم] (1064) (147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ولفظه: (عن أبي عبد الرحمن قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يقترئون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل) . ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة الواحدة، يقول أنس -رضي الله عنه-: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا، وجاء عند مالك في [الموطأ] : (أنه بلغه أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها) . وهكذا فإنا نرى أولئك القوم الأفاضل همتهم منصرفة لتدبر معاني الكتاب والعمل به دون مجرد حفظ ألفاظه. ثامنا: أن يحذر المسلم من هجران القرآن، يقول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (1) وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أنواعا لهجر القرآن منها: الأول: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (2) ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.   (1) سورة الفرقان الآية 30 (2) سورة الفرقان الآية 30 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 هذا ويشرع لقارئ القرآن آداب وأمور يمتثلها وهي: أولا: أن يكون حال قراءته كتاب الله على أكمل حال: متطهرا، متنظفا؛ احتراما لهذا الكتاب العزيز، والتطهر حال القراءة مستحب، ولا بأس بقراءة القرآن للمحدث؛ لأن «النبي -صلى الله عليه وسلم- قام مرة من نومه فغسل وجهه وتلا عشر آيات من آخر آل عمران ولم يتوضأ (1) » ، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان في قوم وهم يقرءون القرآن فذهب لحاجته، ثم رجع وهو يقرأ القرآن، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، أتقرأ ولست على وضوء؟! فقال له عمر: من أفتاك بهذا؟ أمسيلمة؟! أخرجه مالك (2) في [موطئه] . قال ابن عبد البر: (وفي هذا الحديث جواز قراءة القرآن طاهرا في غير المصحف لمن ليس على وضوء إن لم يكن جنبا، وعلى هذا جماعة أهل العلم لا يختلفون فيه إلا من شذ عن جماعتهم ممن هو محجوج بهم، وحسبك بعمر في جماعة الصحابة وهم السلف الصالح) 1هـ   (1) صحيح مسلم الطهارة (256) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1705) ، سنن أبي داود الصلاة (1353) ، مسند أحمد (1/275) . (2) [الموطأ] برقم (470) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وقد نقل الإجماع على جواز قراءة المحدث للقرآن: النووي وابن تيمية رحمهما الله. أما الجنب فإنه لا يقرأ القرآن حتى يغتسل؛ لحديث علي -رضي الله عنه- قال «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبا (1) » وأحاديث هذا الباب يشد بعضها بعضا، وبهذا قال أكثر الفقهاء، حتى إن ابن عبد البر -رحمه الله- قال: (وقد شذ   (1) انظر [التبيان في آداب حملة القرآن] للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف الدين النووي -رحمه الله-، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط -رحمه الله- ص58، ط مكتبة دار البيان – دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 داود عن الجماعة بإجازة قراءة القرآن للجنب) 1هـ (1) أما الحائض فالصحيح أنه يجوز لها من قراءته حال حيضها؛ لأنه لم يثبت في منعها من قراءته حال حيضها حديث، وأما قياسها على الجنب فلا يصح؛ لأن حدث الحائض يطول في الغالب ويخشى من نسيانها القرآن، أما حدث الجنب فلا يطول ومتى شاء رفعه بالاغتسال. أما مس المصحف فالصحيح أنه لا يمسه إلا طاهر من الحدثين الأكبر والأصغر؛ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (2) ولأن في كتاب عمرو بن حزم: «وأن لا يمس القرآن إلا طاهر (3) » قال ابن عبد البر -رحمه الله-: (وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل) ثم قال: (وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يسمه إلا طاهر) (4) 1هـ.   (1) [الاستذكار] (8 / 15) . (2) سورة الواقعة الآية 79 (3) موطأ مالك النداء للصلاة (419) . (4) [الاستذكار] (8 / 10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الثاني: إذا أراد الشروع في القراءة استحب له أن يستعيذ؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (1) وصفتها أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكان بعض السلف يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. وكلاهما صحيح. الثالث: ينبغي للقارئ أن يبسمل في بداية كل سورة ما عدا براءة؛ لأن الصحيح أن البسملة آية من القرآن جيء بها للفصل بين السور، وقد أثبتها الصحابة -رضي الله عنهم- في المصاحف في أوائل السور ما عدا براءة. الرابع: ينبغي لقارئ القرآن أن يترسل في قراءته، ويرتله، ويتدبره، وألا يهذه هذا، يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (2) وفي [صحيح البخاري] عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (3)   (1) سورة النحل الآية 98 (2) سورة الإسراء الآية 106 (3) سورة القيامة الآية 16 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 قال: « (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه جبريل بالوحي، وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنزل الله الآية التي في: فإن علينا أن نجمعه في صدرك، فإذا أنزلناه فاستمع، قال: إن علينا أن نبينه بلسانك، قال: وكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله (6) » وفي [صحيح البخاري] أيضا: (أن رجلا قال لابن مسعود: قرأت المفصل البارحة، فقال: هذا كهذ الشعر؟ إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حاميم) (7) وجاء في بعض الروايات: (أن الرجل قرأ المفصل في ركعة) (8)   (1) [صحيح البخاري] (6 / 112) . (2) سورة القيامة الآية 1 (1) {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (3) سورة القيامة الآية 16 (2) {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (4) سورة القيامة الآية 17 (3) {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (5) سورة القيامة الآية 18 (4) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (6) سورة القيامة الآية 19 (5) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (7) [صحيح البخاري] (6 / 111، 112) . (8) [صحيح مسلم] برقم (822) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وفي رواية لأبي داود سرد فيها السور النظائر فقال: « (لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة (النجم، والرحمن) في ركعة، و (اقتربت، والحاقة) في ركعة، و (الطور، والذاريات) في ركعة، و (إذا وقعت، ونون) في ركعة، و (سأل سائل، والنازعات) في ركعة، و (ويل للمطففين، وعبس) في ركعة، و (المدثر، والمزمل) في ركعة، و (هل أتي، ولا أقسم بيوم القيامة) في ركعة، و (عم يتساءلون، والمرسلات) في ركعة، و (الدخان، وإذا الشمس كورت) في ركعة (1) » والسنة في قراءة القرآن أن يمدها مدا، ففي [الصحيح] «أن أنسا -رضي الله عنه- سئل عن قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان يمد مدا وفي لفظ ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم (3) » الخامس: يستحب لقارئ القرآن أن يحسن صوته بكتاب الله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:   (1) [سنن أبي داود] برقم (1396) . (2) [صحيح البخاري] (6 / 112) . (3) [صحيح البخاري] (6 \ 112) . (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتغنى بالقرآن (1) » أخرجه البخاري، وفي حديث أبي هريرة في [الصحيح] أيضا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن (2) » وفي [الصحيحين] من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: «يا أبا موسى، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود (3) » ؛ وذلك لما سمع حسن صوته بالقراءة. السادس: يستحب البكاء عند قراءة القرآن، يقول الله مثنيا على من هذه صفته: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (4) وقال في صفة أنبيائه -عليهم السلام-: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (5) وفي [الصحيح] : «أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لابن مسعود -رضي الله عنه-: " اقرأ علي " قال: قلت: آقرأ عليك وعليك (6)   (1) [صحيح البخاري] (8 / 107، 108) . (2) [صحيح البخاري] (6 / 209) . (3) [صحيح الباري] (6 / 112) واللفظ له، و [صحيح مسلم] برقم (793) . (4) سورة الإسراء الآية 109 (5) سورة مريم الآية 58 (6) [صحيح البخاري] (6 / 114) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أنزل؟! قال: " إني أشتهي أن أسمعه من غيري " قال: فقرأت النساء حتى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (1) قال لي: " كف، أو أمسك " فرأيت عينيه تذرفان» أخرجه البخاري. وأخرج الإمام أحمد وغيره عن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء (2) »   (1) سورة النساء الآية 41 (2) [مسند الإمام أحمد] (4 / 25، 26) و [سنن أبي داود] برقم (904) و [المجتبى] للإمام أحمد بن شعيب النسائي، بتحقيق د / عبد الفتاح أبو غدة، ط / مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب برقم (1214) و [الكبرى] للإمام أحمد بن شعيب النسائي – تحقيق د / عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، برقم (544، 1135) ط / دار الكتب العلمية – بيروت، و [صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان] للإمام محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي – تحقيق / شعيب الأرناؤوط، برقم (665، 753) الناشر مؤسسة الرسالة – بيروت و [المستدرك على الصحيحين] للإمام محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري – تحقيق / محمد عبد القادر عطا، برقم (971) ط / دار الكتب العلمية – بيروت، و [السنن الكبرى] للإمام أحمد بن الحسين البيهقي – تحقيق / محمد عبد القادر عطا، برقم (3173) مكتبة الباز مكة المكرمة، و [صحيح ابن خزيمة] للإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري برقم (900) ط / المكتب الإسلامي – بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وفي [صحيح البخاري] : «أن عائشة قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- حين كان في مرضه وأمر أن يخلفه أبو بكر في الصلاة بالناس) : إنه رجل رقيق، إذا قام مقامك لم يستطيع أن يصلي بالناس) (1) » وفي لفظ: (لم يسمع الناس من البكاء) (2) وكان عمر -رضي الله عنه- إذا صلى بكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف، وعن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع. ولهذا قال النووي -رحمه الله- في البكاء حال القراءة: (وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين) اهـ (3) وينبغي أن يعلم أن البكاء والتباكي المحمود ما كان ناشئا عن تدبر لكتاب الله أورث في القلب الخشية والحزن، وهذا يدل على كمال في إيمان العبد، يقول الله:   (1) [صحيح البخاري] (1 / 165) . (2) [صحيح البخاري] (1 / 165) . (3) [التبيان في آداب حملة القرآن] للإمام النووي ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1) وليحذر المسلم أن يتصنع البكاء رياء وسمعة أو لحاجة في نفسه، فإن هذا من أعظم الخطر ومداخل الشيطان على العبد. السابع: يستحب لقارئ القرآن في غير الفريضة: إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله من فضله، وإن مر بآية عذاب استعاذ بالله من عذابه، فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: « (صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا؛ إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ..) (2) » أخرجه مسلم. الثامن: ينبغي للمسلم أن يتعاهد حفظه، فإن نسي شيئا منه فلا يقل: إني نسيت؛ ولكن ليقل: إني أنسيت أو   (1) سورة الزمر الآية 23 (2) [صحيح مسلم] برقم (772) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 نسيت، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل نسي (1) » أخرجه البخاري. وإنما نهي عن قوله: " نسيت "؛ لأنه مشعر بالتساهل والتهاون في أمر القرآن، والأصل أن المسلم حريص كل الحرص على كتاب ربه. التاسع: لا بأس بقراءة القرآن في أحوال الإنسان ماشيا أو راكبا أو مضطجعا، فعن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: « (رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة، يقرأ وهو يرجع) (2) » أخرجه البخاري. وفي [الصحيحين] عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكئ في حجري وأنا حائض، فيقرأ القرآن (3) » وجاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنها تقرأ حزبها وهي مضطجعة على السرير.   (1) [صحيح البخاري] (6 \ 109) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (2) [صحيح البخاري] (6 \ 112) . (3) [صحيح البخاري] (1 \ 77) و [صحيح مسلم] برقم (301) واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: (إني أقرأ القرآن في صلاتي، وأقرأ على فراشي) . العاشر: الواجب على المسلمين الائتلاف على القرآن حال قراءته والحذر من المنازعة والافتراق، ففي [صحيح البخاري] أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اقرءوا القرآن ما ائتلف عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه (1) » وهذا لئلا يقع النزاع والخلاف، ومن ثم الافتراق. الحادي عشر: مما يتأكد العناية به سجود التلاوة، والجمهور على استحبابه؛ لورود الأمر به، وقالوا: مستحب؛ لأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه. ولم يسجد عمر. أخرجه البخاري. ويشرع هذا السجود للقارئ والمستمع.   (1) [صحيح البخاري] (6 \ 115) من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ثم إن المشروع أن يكون حامل القرآن على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه؛ إجلالا لكتاب الله، وأن يكون مصونا عن دنيء المكاسب، مترفعا عن سفاسف الأمور، متواضعا لعباد الله، وبالجملة: يكون خلقه القرآن، كما كان هذا هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها. ومن الكلام الجامع الذي ينبغي أن يمثله حامل كتاب الله ما قاله عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون) . ينبغي لحامل القرآن أن يتعاهد قلبه ولسانه وجوارحه؛ فلا يعتقد إلا الحق بدليله، ولا ينطق لا بصدق وخير، ولا يعمل إلا خيرا، وليحرص كل الحرص على دفع الباطل عن نفسه من اعتقاد أو قول أو عمل، وأن يكف شره وأذاه عن الناس. ثم ليعلم كل مسلم: أن قراءة القرآن تارة تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 واجبة، كالقراءة في الصلاة، فإنها واجبة بالإجماع، وإنما اختلف العلماء في: هل الواجب الفاتحة بعينها أو يكفي غيرها من القرآن ويجزئ؟ والصحيح: الأول. وتارة تكون مستحبة، وهي ما زاد على القدر الواجب في الصلاة، وكذلك تلاوة القرآن في سائر الأوقات. وتارة تكون مكروهة، فإذا كانت جهرية تشوش على التالين أو المصلين أو تزعج النائمين. وتارة تكون محرمة كمن يقصد بها الرياء والسمعة، أو يفعلها في مواطن البدع؛ لأن في ذلك إعانة على الباطل، ومن العلماء من حرم تمطيط القراءة بحيث يخل باللفظ، وكذلك الألحان المطربة كألحان الغناء؛ صيانة لكتاب الله وتنزيها له. هذا وإن من البدع ما يحصل في المآتم التي يقرأ فيها القرآن عند العزاء واجتماع الناس، وكذلك الاستئجار على قراءة القرآن وإهدائه للأموات، ونحو ذلك مما فشا في الناس؛ لقلة العلم وغلبة الجهل، وقلة من ينكر ويبين للناس دينهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومما يجب التنبيه عليه أن يعلم جميع المسلمين أفرادا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وحكاما أن كتاب الله إنما أنزل ليعمل به ويحكم ويتحاكم إليه، فهو مصدرنا في التشريع وإليه مرجعنا في الحكم والعمل. هذا ما يسر الله رقمه، وما هذه إلا كلمات يسيرة، وإلا فحق كتاب الله أعظم، وقدره أجل من أن تحيط به الكلمات، أو تؤدي حقه العبادات، وإنما هي تنبيهات أردت بها النفع لي ولإخواني المسلمين. وأسأل الله العلي القدير بمنه وكرمه أن يفقهنا في دينه، وأن يعلمنا التأويل، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا وغمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، اجعلنا ممن عمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، اللهم اجعله حجة لنا لا علينا، واجعله شاهدا لنا ودليلنا وسائقنا إلى جناتك جنات النعيم، اللهم ارفع لنا به الدرجات، وحط عنا به الخطايا والسيئات، وشفعه فينا يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار دربه إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49