الكتاب: جامع خطب عرفة المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- جامع خطب عرفة لعبد العزيز آل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ الكتاب: جامع خطب عرفة المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] كلمة سماحة المفتي الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإن ليوم عرفة شرفا عظيما وفضلا كبيرا، ذلكم اليوم العظيم الذي نالت فيه الأمة المحمدية وسام الرفعة والشرف على سائر الأمم؛ إذ في ذلك اليوم أنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، أنزلها على نبيه وهو واقف يوم عرفة في يوم الجمعة. ولقد انتبه لهذا الفضل العظيم بعض أتباع الملل الأخرى كاليهود، «قال يهودي لعمر -رضي الله عنه-: آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال:. قال عمر: إني أعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه: نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف بعرفة يوم الجمعة (3) » ،   (1) سورة المائدة الآية 3 (2) صحيح البخاري الإيمان (45) ، صحيح مسلم التفسير (3017) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3043) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5012) ، مسند أحمد (1/28) . (3) سورة المائدة الآية 3 (2) {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وكلاهما لنا عيد. أخي المسلم، خطبة يوم عرفة خطبة تميزت بأنها خطبة تلقى على مسامع الحجيج على اختلاف بلادهم ولغاتهم، وزادت أهمية في هذا العصر الذي أصبحت تبث فيه بواسطة الأقمار الصناعية إلى أرجاء المعمورة، يسمعها العالم كله في آن واحد. إذا فلهذه الخطبة شانها وفضلها، وينبغي العناية بها قدر الإمكان. ومن منة الله علينا وتوفيقه لنا أن هيأ لنا إلقاء الخطبة بمسجد نمرة يوم عرفة منذ عام (1402 هـ) ، فلقد تلقيت في خامس ذي القعدة عام (1402 هـ) خطابا موجها لي من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته- تضمن هذا الكتاب العهد إلي بإلقاء خطبة يوم عرفة بنمرة، نيابة عن فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ -الذي طالما صعد هذا المنبر لعقود عديدة-، وباشرت الخطبة في ذلك العام، وفي العام التالي كذلك، ثم جاء التوجيه من خادم الحرمين الشريفين -رحمه الله- في عام (1404 هـ) بالخطابة في هذا المكان بصفة مستمرة، أرجو من الله أن نوفق فيها لكل خير. أخي المسلم، إن هذه الخطبة بحق تهم من يلقيها ويتحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 فيها، حيث إن الواقع يقتضي ذلك، فأنت تخاطب العالم لتوضح فيها شريعة الإسلام: محاسن هذه الشريعة، ومزاياها، وخصائصها، لتدعو العالم إلى التدبر والتعقل والتأمل، لتقول لهم: هذه شريعة الله، هذا دين الله، هذه أخلاق الإسلام، هذه مبادئ الإسلام تمسكوا بها أيها المسلمون، واقبلوا الإسلام يا من لم يعتنقه؛ فهو الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- سيد خطباء يوم عرفة على الإطلاق، إنه خطب الناس في ذلك المجمع الكريم خطبة كانت وجيزة في لفظها، كثيرة في معانيها، ولا غرو فهو سيد أهل البيان -صلى الله عليه وسلم-، وهو أفصح الخلق بيانا، وأحسنهم أداء، وأقدرهم على جمع المعاني في الكلمة الواحدة؛ حيث أعطاه الله جوامع الكلم، واختصر له اختصارا، ألقى تلك الخطبة العظيمة التي بين فيها حرمة أموالهم، وأن تحريم الدماء والأموال حرام كتحريم هذا اليوم العظيم في بيت الله الحرام، وفي الشهر الحرام، بين فيها ما للمرأة من حقوق وما عليها من واجبات، بين للأمة أن الله ألغى به مآثر الجاهلية التي قبل الإسلام، سواء في الأموال أو الدماء أو الأعراض. قال لهم: «إن كل أمر من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع (1) » . وحقا إنه قضى على ظلم الجاهلية   (1) صحيح مسلم الحج (1218) ، سنن أبي داود المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي المناسك (1850) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وضلالتها، وأقام المجتمع المسلم الوسطي القائم على العدل والخير والهدى، ألغى فيها ما كان بينهم من معاملات ربوية، وخص عمه العباس لأنه كان ممن يتعامل بالربا، وليكون أمر العباس أمرا شاملا للجميع. ألغى فيها دعوات الجاهلية وآثارها السيئة في الدماء. كل ذلك يبين أن الإسلام جاء لينقل العالم من حياة إلى حياة، من صورة قاتمة مظلمة إلى صورة مشرقة، ليستقبلوا عملا جديدا، ولينسوا الماضي اللئيم، وليستقبلوا عمرا جديدا وأياما سعيدة، حقا إنها أيام الخير والبركة، لقد ذكر الله الأمة بهذه النعمة فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (1) إن الرعيل الأول من هذه الأمة يتذكرون تلك الضلالات التي كانوا يعيشونها، وتلك المصائب التي مرت بهم، ويتذكرون نعمة الله عليهم بهذا الدين الذي جمع بين قلوبهم، ووحد به صفوفهم، وأخرجهم به من ظلمات الجهل إلى نور العلم والهدى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2) .   (1) سورة البقرة الآية 198 (2) سورة آل عمران الآية 164 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 موقف يوم عرفة موقف إسلامي غيرته الجاهلية وحرفته عن سبيله، فكان سكان الحرم لا يقفون بعرفة ويقولون: نحن أهل الحرم نقف بالحرم. ويجعلون موقف عرفة للآفاقيين، فجاء محمد -صلى الله عليه وسلم- وأعاد الحج على قواعد إبراهيم، فوقف بعرفة وقال: «الحج عرفة (1) » . وقال: «وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف (2) » . أخي المسلم، دونك خطبا جمعتها لمدة عشر سنوات، وهي من عام (1402 هـ) إلى عام (1411 هـ) ألقيتها بمسجد نمرة. هذه الخطب المتواضعة التي حرصت فيها بتوفيق من الله أن تكون خطبا شاملة جامعة لأصول الدين، فتحدثت عن العبادة، وعن الأخلاق، وعن مناسك الحج، وماذا يجب على المسلمين نحو دينهم ونحو أنفسهم، هي خطب تعالج تلك القضايا، أسال الله أن أكون موفقا فيها للصواب. وما وجدته يا أخي فيها من أسلوب قد لا يعجبك أحيانا، أو بعض الأخطاء التي ليست مقصودة، فإني أرجو أن تصحح هذا الخطأ، وأن تدعو لمن ألقاها بالمغفرة والرضوان، وأرجو من الله أن يعم نفعها وأن يكون في إخراجها خير للإسلام والمسلمين.   (1) سنن الترمذي الحج (889) ، سنن النسائي مناسك الحج (3016) ، سنن أبي داود المناسك (1949) ، سنن ابن ماجه المناسك (3015) ، مسند أحمد (4/335) ، سنن الدارمي المناسك (1887) . (2) صحيح مسلم الحج (1218) ، سنن أبي داود المناسك (1907) ، مسند أحمد (3/321) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وفي ختام كلمتي هذه أحب أن أنوه بأمر عظيم مهم، ألا وهو ما من الله به على العالم الإسلامي في هذه المائة عام المتأخرة، حيث هيأ الله لهم زيارة البيت الحرام لأداء العمرة والحج للوقوف بتلك المشاعر العظيمة، وزيارة مسجد محمد -صلى الله عليه وسلم-، لقد كان الحج لبيت الله الحرام أمنية تختلج في نفس كل مؤمن يتمنى أن يزور البيت الحرام، ولو في عمره مرة، ولقد مضى على العالم الإسلامي بعد القرون الثلاثة المفضلة سنون عديدة تمر بهم، ما يأتي البيت الحرام من أرجاء العالم الإسلامي أحد إلا النزر من الناس، فيتعذر من المشرق الإسلامي أو من مغربها الوصول إلى الحج، لماذا؟ يتعذر أولا لصعوبة الوصول إلى البيت الحرام، ولاختلال الأمن في العالم الإسلامي، بعد ضعف الدولة الإسلامية ضعف الأمن وكثر الخوف وقطاع الطرق الذين ينهبون الناس ويسلبون أموالهم، وربما قتلوهم، وربما استرقوهم. إن الحج أصبح مشكلة من أكبر المشاكل، ولقد مضى على بعض علماء الأمة ذوي المكانة والفضل عمرهم، ما تمكن واحد منهم من زيارة البيت الحرام، فسبحان الحكيم العليم! ولكن في هذه العصور المتأخرة منذ أيام الملك عبد العزيز –غفر الله له– فإن الله جعل على يديه تسهيل أمر الحجيج، فأمن الوصول إلى البيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الحرام. ثم البيت الحرام – ولله الحمد – آمن في هذه الأزمنة شرعا وقدرا، آمن شرعا بما ألزم الله المسلم من احترام أمنه والتأدب فيه، وآمن قدرا بما هيأ الله له من أولئك القيادة الذين بذلوا كل غال ونفيس في سبيل تأمين راحة الحجيج. إن تأمين راحة الحجيج أمر مهم، اعتنت به هذه الحكومة – وفقها الله -، اعتنت بالطرق الموصلة إلى البيت الحرام، ثم اعتنت بأمنه، واعتنت بعمارته، واعتنت برخائه، فأصبح البلد الأمين رخاء سخاء، يأتي الحاج من أقصى الدنيا لا سلاح يحمله، لا زاد يصحبه، ولهذا ترى العدد الكثير يأتون البيت الحرام من طريق الجو، وهؤلاء الذين يأتون من طريق الجو لا يحملون زادا ولا سلاحا؛ لأنهم يجدون أمنا ورخاء واستقرارا وطمأنينة. إن من يشاهد الحرمين الشريفين، وهذه التوسعة العظيمة والمتوالية والخدمات المستمرة، ليسأل الله لأولئك القادة أن يوفقهم ويسدد خطاهم، ويجزيهم عما فعلوا خيرا. لقد بذل الملك عبد العزيز – رحمه الله – جهده العظيم في تأمين الحجيج، فيسر الله عليه هذه النعمة، ثم تعاقب أبناؤه الكرام: سعود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وفيصل، والملك فهد بن عبد العزيز – رحم الله الجميع -، ثم دور خادم الحرمين الملك عبد الله – وفقه الله وأيده ونصره –، وما من أولئك إلا وله لمسات في تيسير أمر الحجيج وتذليل الصعاب: كالتوسعة في بيت الله الحرام، وفي مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما حصل أيضا في المشاعر من تسهيل وتيسير: أنفاق أقيمت، طرق هيئت، مياه كثيرة يسر الوصول إليها، وهذه الخيام المتعددة، كل ذلك من توفيق الله، فوفق الله خادم الحرمين، وشد أزره بصاحب السمو ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز ولي عهده الأمين، الذي ساعد وساهم في هذا الأمر العظيم، فجزى الله الجميع خيرا، ووفقهم لما يحبه ويرضاه. وإنما قلت ذلك حقيقة، يشهدها كل من أتى إلى هذه البلاد المقدسة فرأى الأمن والاستقرار والطمأنينة والخدمة والرعاية، وبذل كل الوسائل في سبيل راحة الحجيج. فالدولة تستنفر كل قواها وتبذل كل جهودها، وما من إدارة حكومية إلا ولها تعلق في هذا المسجد الحرام، تؤدي الواجب الذي عليها، وذلك بتوفيق الله، ثم بتوجيه قادة هذا البلد، وفقهم الله وسدد خطاهم، ورزقهم الاستقامة والسير على الخير والهدى، ووفق المسلمين جميعا لشكر نعمة الله وحسن عبادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وإني أشكر الله قبل كل شيء، ثم أشكر أخانا الشيخ بدر بن محمد الوهيبي، الذي انبرى لجمع هذه الخطب والإشراف عليها، فجزاه الله خيرا، ووفقنا وإياه لما يحب ويرضى. وصلى الله وسلم وبارك عبده ورسوله محمد. المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 مقدمة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والحمد لله مستحق الحمد وموليه، الحمد لله الذي أعلى معالم العلم وأعلامه، وأظهر شعائر الشرع وأحكامه، وبعث رسله – صلوات الله عليهم – إلى سبيل الحق والهدى داعين، وأخلفهم علماء على سننهم ماضين، وجعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون على الأذى، ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، وجعلهم أهل خشية الله، واستشهدهم على توحيده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أعلم الخلق بالله، وأخشاهم لله، وأتقاهم له، بعث بالدين الحنيف الخاتم، ورفع شأن العلم، وقدم على العابد العالم، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وخلفائه وسائر أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعد: فإن نعم الله -عز وجل- علي لا تحصى – ولا أحصي ثناء عليه سبحانه –، ومن النعم العظيمة، والهبات الجليلة، والمنح الكريمة، أن هيأ لي الاتصال بسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، والقرب منه، أعب من معين علمه وكريم خلقه وأنهل، وهو على كثرة الوارد مبارك لا ينضب، فسبحان الملك الوهاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وكان من ثمرات هذا الاتصال والملازمة أن كلفني شيخي، بل وشرفني بجمع المواد العلمية لسماحته، من خطب ودروس وفتاوى ومحاضرات ولقاءات، تمهيدا لنشرها، فاستعنت بالله -عز وجل-، وسألته –سبحانه- المدد والعون، فوجدت من لطيف صنعه وعظيم إنعامه ما لا أحصي له شكرا، فاللهم غفرا غفرا، وكان اختيار سماحة شيخنا – غفر الله له ولوالديه – أن يكون البدء بإخراج خطب عرفة، بدءا بعشر خطب منها تطبع في الجزء الأول، ثم يتبعها ما يتممها بإذن الله عز وجل. بدأنا العمل على إخراج هذه الخطب، بعد أن تم جمعها وتفريغها مع جملة كبيرة من المواد العلمية لسماحة والدنا – حفظه الله – بلغت ما يربو على ثمانية آلاف صفحة، استللت منها (الجامع لخطب عرفة) الذي بين يديك، بإشارة من سماحته – وفقه الله -، واستعنت بالله -عز وجل- في إعدادها للطباعة، وذلك بمراجعتها وتدقيقها، وتخريج أحاديثها وآثارها، وقرأتها على سماحة شيخنا – حفظه الله -، وإعادة الصياغة لبعض عباراتها، وإقرارها من قبل سماحته – حفظه الله –، إلى أن خرجت بهذه الحلة القشيبة – بحمد الله -عز وجل- بعد جهد استمر عاما كاملا. وكان طريقنا في التخريج هي عزو الأحاديث إلى مصادرها، فإن وجد الحديث في (الصحيحين) أو أحدهما اكتفينا به، وإلا خرجناه من كتب السنن الأربعة و (مسند الإمام أحمد) ، وإن لم نجده خرجناه من مصدره في باقي كتب السنن أو المعاجم وغيرها، وربما خرجنا بعض الآثار من كتب التفسير المسندة، كـ (تفسير ابن جرير) ؛ لأنه مظنتها القريبة، وكان عزونا لأحاديث البخاري بالإشارة إلى (فتح الباري) ؛ لانضباطه بترقيم الأحاديث، فيكون أيسر للقارئ، وإذا تكرر الحديث اكتفينا بالإشارة إلى مصادره، والإحالة إلى تخريجه كاملا عند أول ورود له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 في الكتاب. ومما استحسناه في هذا الكتاب أن تكون خطبة كل عام مفردة عن خطبة العام الذي يليه، وتكون الخطبة الواحدة مسرودة بفقراتها المتنوعة، مع ترقيم ما يحتاج إلى عزو، أو تعليق، بأرقام مسلسلة، وتكون الهوامش في آخر كل خطبة، ولا يخفى على فطنة القارئ الكريم أن هذه الطريقة أدعى لاستيعاب الخطبة بكامل فقراتها وتسلسل أفكارها ومحتوياتها، إضافة إلى أن الفاصل بين الخطبة والهوامش يسير، يسهل الرجوع إليه لمن أراده. هذا، وإن مما يذكر فيشكر ما قام به الأخوان الفاضلان الشيخ عبد النافع زلال بن عبد الحي بن عبد الوهاب، وهو من طلاب سماحة شيخنا - حفظه الله - المميزين بالخلق الجم، والعقلية الناضجة، الذي كان خير معين لي في مراحل كثيرة من هذا العمل، فجزاه الله خير الجزاء، وفضيلة الشيخ محمد بن ناصر القحطاني، الباحث الشرعي بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، الذي لم يأل جهدا ولا نصحا، وقد عمل معنا في مراجعة هذا الكتاب، فجزاه الله عنا خير الجزاء، ولما كان الحديث عن عرفة، فإني أرى لزاما علي أن أشيد بالجهود العظمية والجبارة من قبل حكومة هذه البلاد المباركة، المملكة العربية السعودية، التي بذلت الغالي والنفيس، جهدا، ومالا، ووقتا، وخبرة، وكل ما يمكن للتسهيل على ضيوف الرحمن، من تهيئة للمشاعر على اختلافها، وعناية بالشعائر على تنوعها، وما أن ينقضي الموسم إلا وتجد العمل على قدم وساق لاستقبال الموسم المقبل بتدارك ما سبق وإنجازات جديدة لا تكاد تخطئها عين المنصف، مما كان له أثر كبير بفضل الله -عز وجل- على تيسير أداء هذه الفريضة العظيمة، التي كانت وعلى مر التاريخ من أعظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فرائض الإسلام مشقة وعناء، بل وكان كثير من المسلمين من علماء كبار وغيرهم لا يستطيع أداءها للمشقة، وبعد الشقة، وخوف الطريق، وما يحدث أيضا في الحج بمنى أو غيرها من قتال ونحوه، مما تجده مسطورا في كتب التواريخ، بل وتجد فيها أعواما لم يحج فيها أحد من إقليم، وربما أقاليم من بلاد المسلمين والآن بحمد الله ومزيد فضله وإنعامه، قد تيسرت السبل، وأمن الحاج على نفسه وأهله وماله، وهيأت له جميع الوسائل المعينة على أداء هذه الفريضة في راحة وأمن وطمأنينة، فلله الحمد ظاهرا وباطنا، ثم الشكر واجب علينا لهذه الدولة المباركة، أدام الله عزها بعز الإسلام، وأيد الله حكامها، وجعلهم مباركين أينما كانوا، ممتعين بالصحة والسلامة، مسددين بالتوفيق والإعانة. ولما كان من المروءة والوفاء نسبة الفضل لأهله، فإني أشكر شيخي سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ - حفظه الله ورعاه ووفقه وأعانه - على ما وجدت منه، من كريم الأخلاق، وسعة الصدر، وندى في كفه وعلمه، لم يألني نصحا وتعليما وتوجيها، وما كان من جهد لي فإن كان صوابا فمن الله -عز وجل- التوفيق له، وسماحته - حفظه الله - هو السبب الموصل إليه، فكان هذا الكتاب كله من صنعه - حفظه الله - والفضل بعد الله تعالى له، فشكر الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 له، وبارك في عمره، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ولا أخلاه من حمد يجدده على نعم يستجدها، وتابع عليه أفضاله، ورادف إليه آلاءه، ووصل له الطارف منها بالتليد، وأصلح له العقب والعاقبة، وختم لنا وله ولوالدينا وسائر قراباتنا بخاتمة السعادة، ورزقنا الحسنى وزيادة، إنه سبحانه سميع مجيب. ولا يفوتني - وأنا في مقام الشكر - أن أشكر الإدارة العامة لمراجعة المطبوعات الدينية بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، ثم الشكر سلفا لكل من واصلنا بتنبه أو استدراك أو ملاحظة. أسال الله العظيم أن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين، اللهم احشرنا معهم وانظمنا في سلكهم يا كريم. وكتبه راجيا عفو مولاه بدر بن محمد بن إبراهيم الوهيبي الباحث الشرعي بمكتب سماحة المفتي العام غفر الله له ولوالديه   (1) سورة الأحقاف الآية 15 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 خطبة عام 1402 الهجري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد: يا أيها الناس، أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا ربكم فهو أهل أن يتقى، وأهل أن يغفر، اتقوه تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بامتثال ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه، اتقوه يا عباد الله تقوى عبد يعلم أن الله مطلع على سره وعلانيته، عالم بكل أحواله، اتقوه سبحانه، فبتقواه تنالون عز الدنيا وسعادة الآخرة، اتقوا ربكم يا عباد الله في كل أحوالكم تقوى من يعلم أنه موقوف بين يدي الله وأن الله محص عليه جميع أعماله، اتقوه تعالى وراقبوا أمره واجتنبوا نهيه. إن التقوى يا عباد الله وصية أوصى بها الأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (1) ، التقوى يا عباد الله بها تنال ولاية الله، فإن ولاية الله لا ينالها إلا المتقون {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (3) {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (4)   (1) سورة النساء الآية 131 (2) سورة يونس الآية 62 (3) سورة يونس الآية 63 (4) سورة يونس الآية 64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وبالتقوى يا عباد الله تتحقق المودة الثابتة التي لا تنفصم عراها {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (1) [الحكمة من خلق الجن والإنس هي عبادة الله وحده لا شريك له] عباد الله، خلق الله الخلق لحكمة عظيمة ليعبدوه وحده لا شريك له {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) ، أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين ليردوا العباد إلى فطرة الله التي فطرهم عليها، بعد ما انحرف العباد عن فطرة الله، فالله -عز وجل- قد فطر الخلق على عبادته {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (3) ، فلما انحرف العباد عن هذه الفطرة أرسل الله الرسل ليردوا العباد إلى فطرة الله السليمة. ذلكم يا عباد الله أن الخلق كانوا من لدن آدم -عليه السلام- إلى نوح يعبدون الله لا يشركون به شيئا، باقون على الفطرة التي فطرهم الله عليها، فلما انحرفوا عن فطرة الله وعبدوا غير الله وأشركوا مع الله غيره، بعث الله نوحا -عليه السلام- يدعو قومه إلى أن يعبدوا الله ولا يعبدوا معه غيره، قائلا لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) ، فكذبه قومه ولم يستجب له إلا القليل، فأغرق الله من كذبه ونجى نوحا وأتباعه. ثم تتابعت الرسل رسولا بعد رسول، ليقيموا الحجة على العباد، ولتنقطع معذرة العباد {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (5) .   (1) سورة الزخرف الآية 67 (2) سورة الذاريات الآية 56 (3) سورة الروم الآية 30 (4) سورة الأعراف الآية 59 (5) سورة النساء الآية 165 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 [جميع الرسل دعوا إلى إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه] وإن دعوة جميع الرسل دعوة واحدة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه، هذه طريقة أنبياء الله ورسله من لدن نوح إلى سيدهم وأعظمهم وأكملهم وأفضلهم محمد -صلى الله عليه وسلم- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) وهكذا دعوة الرسل جميعا إلى هذا الأصل العظيم، إلى إفراد الله بالعبادة، وأن لا يكون مع الله في عبادته غيره. وانتهت الرسالة إلى سيد الأولين والآخرين محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن الله تعالى بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالهدي ودين الحق، بعثه بما بعث به إخوانه الأنبياء والمرسلين، بعثه ليدعو الخلق إلى عبادة الله ويحذرهم من الإشراك بالله، بعثه الله وجعل رسالته شاملة عامة لكل الخلق عربهم وعجمهم، إنسهم وجنهم، افترض على العباد جميعا طاعته واتباع شريعته والانقياد لها، بعثه الله على حين فترة من الرسل واندراس من العلم والهدى، بعثه وقد طبق الأرض جهل عظيم، وفساد كبير، اختفت أعلام الملة الحنيفية، وانحرف الناس عن فطرة الله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب (2) » ... بعثه رب العالمين رحمة للعالمين، ليستنقذهم به مما أصابهم من الضلال والفساد، فكان الناس أحوج ما يكونون إليه صلوات الله وسلامه عليه. بعثه الله برسالة شاملة إلى كل الخلق، واختار لمبعثه أم القرى مكة،   (1) سورة الأنبياء الآية 25 (2) جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه 4 \ 2197، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، ح (2865) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 شرفها الله وزادها تشريفا وتعظيما؛ استجابة لدعاء الخليل -عليه السلام-: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) فمكة – شرفها الله – خير أرض الله، ومختار الله من أرضه، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- خير خلق الله على الإطلاق، صلوات الله وسلامه عليه أبدا دائما إلى يوم الدين. [أرسل الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد الخالص بعدما أطبق الأرض الجهل والضلال وعبادة الأوثان] بدأ -صلى الله عليه وسلم- قومه العرب بدعوته، وكان العرب آنذاك قد انحرفوا عن فطرة الله، كانوا متباهين في ضلالاتهم، متفرقين في عباداتهم، يعبدون آلهة متعددة، لكل فئة منهم إله يعبدونه من دون الله، ويعظمونه من دون الله، منهم من يعبد المسيح، ومنهم من يعبد عزيرا، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، فدعا القوم جميعا إلى توحيد الله، دعاهم إلى إخلاص الدين لله، دعاهم إلى أن يتوجهوا بقلوبهم إلى ربهم وفاطرهم ليعبدوه وحده لا يشركون به شيئا. وكان العرب كغيرهم من مشركي الأمم يزعمون أن تلك المعبودات التي يعبدونها من دون الله تقربهم إلى الله زلفى، وأنها تشفع لهم عند الله، وأنها ترفع إلى الله حاجاتهم وطلباتهم، ما كانوا يعتقدون فيها أنها تخلق وترزق وتدبر أمر الكون، فذاك متفق عليه بين أهل الأرض كلهم أنه من خصائص الله، لكن شركهم أنهم اتخذوا بينهم وبين الله وسائط يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها تشفع لهم عند الله، فصرفوا لها العبادة من دون الله، عظموها بقلوبهم، تألهتها قلوبهم خوفا وحبا ورجاء، صرفوا لها أنواع العبادة التي هي حق لله ولا حق لأحد   (1) سورة البقرة الآية 129 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فيها سوى الله، فجرد -صلى الله عليه وسلم- نفسه، وقام بكل مستطاعه ليخلص العرب من الجهالات، ويرتقي بهم إلى الحرية، حرية العبودية لله، ويستأصل منهم تلك الخرافات والضلالات، فدعاهم إلى كلمة واحدة، إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، إلى أن يقولوا هذه الكلمة، تنطق بها ألسنتهم، وتعمل بمقتضاها جوارحهم، وتعتقد معناها قلوبهم، وهو أن الله وحده هو المعبود لا أحدا سواه، وأن العبادة حق لله لا حق لأحد فيها أبدا، لا نبيا ولا غيره، فلما عرف القوم مدلول هذه الكلمة وأن مدلولها إفراد الله بالعبادة، وأن لا يكون مع الله شريك في أي نوع من أنواع العبادة – أبوا أن ينطقوا بها قائلين {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1) عرف القوم مدلول هذه الكلمة ومقتضاها وما دلت عليه، وأنها تدعو إلى إفراد الله بالعبادة، وأن يكون الله وحده هو المعبود الذي يخاف ويرجى ويتقرب إليه، ولا يكون لغيره شركة في ذلك، فاستكبروا عن قولها كما حكى الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (2) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (3) . [دعا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى تحقيق التوحيد قبل كل شيء] إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لم يدع ابتداء إلى الصلاة ولا إلى الزكاة ولا إلى الحج ولا إلى غيره، وإنما جعل أول أمره اهتمامه بتحقيق التوحيد، بتحقيق لا إله إلا الله، بإرسالها في النفوس، باستئصال الشرك وعبادة غير الله، فاهتم بهذا الأمر العظيم غاية الاهتمام؛ لأن هذا الأصل بتحقيقه وتصفيته وتنقيحه تستنير القلوب، وتستضيء بوحي الله، وتنقاد الجوارح لأوامر الله، أما إذا كان القلب   (1) سورة ص الآية 5 (2) سورة الصافات الآية 35 (3) سورة الصافات الآية 36 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 منصرفا لغير الله، آلها غير الله، راجيا غير الله، فإنه لن ينقاد للخير أبدا. أقام الله -عز وجل- الأدلة الواضحة والبراهين الصادقة على فساد الشرك وضلال المشركين وفساد معبوداتهم من دون الله، فبين لهم تعالى وتقدس أن كل عابد لغير الله فإنه في ضلال مبين {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (1) ، وأن هؤلاء المدعوين غافلون عن دعاء من دعاهم، وأنهم يوم القيامة سيتبرءون من كل من عبدهم من دون الله ويكفرون بعبادتهم، وأخبر تعالى أن هذه المعبودات لا تملك شيئا في الكون، وليسوا أعوانا لله ولا شركاء لله، وأن الشفاعة التي يظنها المشركون أنها في يد من عبدوه وعظموه من دون الله أن ذلك ضلال مبين، فإن الشفاعة ملك لله، الله الذي يأذن للشافع بعدما يرضى -تعالى وتقدس- عن المشفوع له وهو لا يرضى إلا عمن وحده وعبده ولم يجعل مع الله شريكا في عبادته. إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- مكث عشر سنين بعد البعثة مكرسا وباذلا قصارى جهده في تحقيق التوحيد وحماية هذا الأصل العظيم، وتثبيته في النفوس وإزالة الشرك والوثنية، ولم تفرض عليه الصلوات الخمس إلا قبل هجرته بسنتين، وهاجر إلى المدينة بعد ذلك ففرضت بقية الفرائض، وشرعت الحدود، وما زال -صلى الله عليه وسلم- يحمي هذا التوحيد ويهتم بشأنه، ويدحض الشرك، ويزيل كل شبه المشبهين، ويحقق التوحيد حتى طهر الله به جزيرة العرب من كل الأوثان، وعاد إلى مكة فاتحا منتصرا، وأزال كل ما بها من شرك ووثنية، وأعادها   (1) سورة الأحقاف الآية 5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 إلى حظيرة الإسلام، صلوات الله وسلامه عليه. [على الدعاة الاهتمام بأمر التوحيد وجعله هو الغاية من دعوتهم، وأن يكرسوا جهودهم في سبيل تحقيقه] دعاة الإسلام، إن الواجب عليكم أن تجعلوا أمر التوحيد غاية همكم وأعظم مرادكم، كرسوا جهودكم لذلك، اهتموا بهذا الأصل العظيم، ادعوا عباد الله إلى عبادة الله، خلصوا المسلمين من آثار الوثنية، خلصوهم من الجهالات والضلالات، عرفوهم بأعظم حق أوجبه الله عليهم، ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له، اجعلوا ذلك غاية أمركم، فإن أمة الإسلام دخل عليهم من الضلال والفساد ما هو معروف، فبعض من الناس – ردنا الله وإياهم إلى صراطه المستقيم – التبس عليهم الحق بالباطل، والهدى بالضلال، فعبدوا غير الله، بنوا القباب والمساجد على القبور، طافوا بها من دون الله، طلبوا منها كشف الكربات، استغاثوا بأربابها من دون الله، جعلوها إلها مع الله، صرفوا لها حقوق الله، عظموها في قلوبهم أعظم من تعظيم الله، تألهت قلوبهم غير الله، وعظموا غير الله، ولا شك أن هذا مناف لما بعث الله تعالى به سيد الأولين والآخرين محمدا صلى الله عليه وسلم. [وجوب الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بجعل توحيد العبادة هو الغاية من الدعوة] اقتدوا يا دعاة الإسلام بنبي الهدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، فاجعلوا أمر توحيد العبادة غاية أمركم، خلصوه وصفوه من كل شوائب الشرك، وطهروه من البدع والخرافات، لتستقيم لكم العقيدة الصحيحة الصافية. إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- اهتم بأمر التوحيد في أول دعوته وفي آخرها، فنراه -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته، بل وهو يلفظ آخر نفس من حياته يقول: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » . لولا ذلك أبرز   (1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قبره غير أنه خشي أو خشي أن يتخذ مسجدا علم -صلى الله عليه وسلم- أن من أعظم أسباب الشرك الغلو في الصالحين، الغلو في الأولياء، الغلو في الأنبياء، حتى ينزلوهم منزلة الله، ويصرفوا لهم حقوق الله، ويعظموهم من دون الله، فخاف على أمته أن يقعوا فيما وقع فيه من قبلهم، فحذرهم من وسائل الشرك وذرائعه وحمى حمى التوحيد، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله (1) » [حذر -صلى الله عليه وسلم- أمته من الغلو فيه وتعظيمه من دون الله] حذر -صلى الله عليه وسلم- أمته من أن يغلوا فيه ويعظموه من دون الله، إنما بعث ليدعو الخلق إلى عبادة الله، ما بعث ليعبد من دون الله، ولا ليعظم من دون الله، ولا يؤله من دون الله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (2) {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) ، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- بعث ليعرف العباد كيف يعبدون الله، لم يبعث ليعظم ويعبد من دون الله، ولهذا يقول -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: «اللهم لا تجعل قبري وثنا، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (4) » أمة الإسلام، إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- جاهد في الله حق جهاده، ودعا إلى الله ليلا ونهارا سرا وجهرا بمكة والمدينة، حتى إذا أكمل الله به   (1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء باب: قول الله: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) ، (فتح الباري 6 \591، ح 3445) (2) سورة آل عمران الآية 79 (3) سورة آل عمران الآية 80 (4) أخرجه مالك مرسلا في الموطأ 1 \72، كتاب: النداء للصلاة، باب جامع الصلاة، ح (414) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الدين، وأتم به النعمة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وانقادت كل الجزيرة إلى شرع الله ودينه، وطهرت من كل الوثنية، اختاره الله إلى جواره بعدما أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وجاهد في الله حق جهاده، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين. [قام أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بعده بحمل أمانة الدعوة إلى التوحيد، وإنقاذ الناس من ظلمات الجهل والضلال] قام أصحابه -صلى الله عليه وسلم- بعده فحملوا تلكم الأمانة العظمى، خرجوا من جزيرة العرب بهذا الدين القيم ليهدوا البشرية، ويخلصوها من ظلمات الجهل والضلال، وينيروا القلوب، ويفتحوا البصائر، خرجوا بهذا الدين، لم يخرجوا ليستعبدوا الخلق، ولا لينهبوا خيراتهم، وإنما خرجوا لينيروا القلوب والبلاد، ليخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ليخلصوهم من الظلم والجور، إلى العدل والهدى والإحسان، خرجوا بدين الله كما تلقوه عن الله بواسطة محمد -صلى الله عليه وسلم-، خرجوا بهذا الدين الناصع بغير غلو ولا جفاء، من غير إفراط ولا تفريط، عرضوا محاسن هذا الدين وعرضوا فضائله، وكانوا أسبق الناس للعمل بمقتضاه وما دل عليه، خرجوا بهذا الدين وقالوا لكل من واجههم: نحن كنا أمة نعبد الأصنام، وكنا في غاية الذل والضعف، وفي غاية الهوان حتى أنقذنا الله بهذا الإسلام، فنريد أن نحرركم، ونريد أن نهديكم كما هدانا الله، ونريد أن نرفع شأنكم كما رفعنا الله بهذا الدين، خرجوا بهذا الدين بتعاليمه السامية، ومبادئه القيمة، فعند ذلك قبلته البشرية، ومن عارض هذا الدين طلبوا منهم تسليم الجزية، ومن قاومهم قاوموه، حتى أوصلوا هذا الدين لعباد الله، وحتى أناروا قلوب العباد، وحتى هدوا البشرية، فلما رأت الخليقة هذا الدين ومبادئه وفضائله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وتعاليمه السامية، انقادوا طوعا واختيارا، لم يفرض عليهم هذا الدين بقوة الحديد والنار، ولا بمغريات الأموال، ولكن تعاليم هذا الدين ومبادئه السامية وأخلاقه القيمة تدعو إليه وتنادي إليه. [بيان أهمية عرض هذا الدين للناس عرضا سليما خالصا بعيدا عن التشويه] إن دعاة الإسلام إذا عرضوا هذا الدين عرضا سليما خالصا، فلا بد من أن تستجيب له البشرية، وإنما وقع النقص والبلاء من قبل أن هذا الدين لم يعرض عرضا صحيحا، بل عرض مشوها، وعرض وقد لفقت به الشبه والضلالات، إن دين الله دين صالح يخاطب الفطر السليمة والعقول المستقيمة، لقد قبلته البشرية حين عرض بصورته الصحيحة، واستضاءوا بنوره، وأشرقت به الأرض بعد ظلماتها، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وتحقق وعد الله حيث يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (1) . عاشت البشرية في ظل عدالة الإسلام ومبادئه القيمة، وقادوا شعوبهم، ونظموا دولتهم على تعاليم الإسلام، فرأى الخلق فيه كل خير وصلاح، وكل هدى وفلاح، ذلك دين الله وتشريعه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2) . [إن الدخول في الإسلام وقبوله سبب للعز والكرامة] أمة الإسلام، إن هذا الدين لما دخل الناس فيه، حقق الله لهم كل عز وكرامة، وكل أمن واستقرار {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (3) ،   (1) سورة التوبة الآية 33 (2) سورة الملك الآية 14 (3) سورة النور الآية 55 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فلما انحرف المسلمون عن دين الله، وزهدوا في هذا الدين، وابتغوا العزة والكرامة في غيره- عند ذلك تسلط عليهم الأعداء، وأصابهم من النقص ما أصابهم على حسب بعدهم عن دين الله، وما زال المسلمون ينأون عن دين الله، ويتخلون عن تعاليمه، وتفقد أحكامه بينهم، حتى سلط الله عليهم عدوهم جزاء وفاقا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (1) ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) . [الحث على الرجوع إلى تعاليم هذا الدين ومبادئه السامية، ليعود للأمة مجدها وكرامتها] أمة الإسلام، هل من رجوع إلى دين الله؟ هل من عودة إلى هذا الدين؟ هل من رجوع صحيح إلى تعاليمه القيمة ومبادئه السامية؛ ليعود للأمة مجدها وعزها وكرامتها؟! هل فكر المسلمون أن يغيروا مناهج تعليمهم فيجعلوها مناهج صالحة، حتى يتربى هذا الجيل تربية إسلامية صالحة، مؤمنا بالله ورسوله ودينه، محكما لشرع الله، مقتنعا أن هذا الدين هو الدين الصالح للبشرية لا سواه؟! هل حاول المسلمون يوما أن يخلصوا اقتصادهم من أن يكون مرتبطا بأعداء الله، فيجعلوه اقتصادا إسلاميا مبنيا على قواعد الشرع، حتى تكون نظمهم   (1) سورة فصلت الآية 46 (2) سورة الأنفال الآية 53 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الاقتصادية نظما إسلامية صحيحة؟! هل فكر المسلمون يوما أن يسخروا أجهزة إعلامهم لتكون في خدمة قضايا الإسلام، حتى يزيلوا كل شبهة وكل ضلالة لفقت بهذا الدين، ويعرضوا قضايا الأمة الإسلامية عرضا صحيحا، ليكون عند المسلمين إلمام بمشاكل الشعوب الإسلامية وغيرة لله وتكاتف في دين الله؟! أمة الإسلام، هل فكر المسلمون أن يكون لهم صوت يهز الأسماع، حتى يحسب لهذه الأمة حسابها، وحتى تكون أمة تنافس قوى الكفر والضلال؟! فإن الله تعالى جعل في هذه الأمة مقومات الوحدة والاتفاق، لأن هذا الدين هو الذي يجمع القلوب {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) ، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (2) . [بيان أن أعداء الإسلام يسعون دائما في تفكيك الأمة، والقضاء على وحدتها] أمة الإسلام، إن أعداء الإسلام يسعون دائما في أن يجعلوا هذه الأمة أمة متفككة، أمة مختلفة، أمة متناحرة، أمة متعادية؛ لأنهم يرون أن اتحاد الأمة واجتماع كلمتها واتفاقها قوة لا تغلب وقوة لا تهزم، فإن خلافات الأمة أمر مقصود لأعداء الإسلام، فالاجتماع يوحي بالقوة والعزة والكرامة. فيا أمة الإسلام، اجتمعوا على دين الله، ويا قادة المسلمين، شعوبكم أمانة في أعناقكم، احفظوهم بالإسلام، احفظوا لهم هذا الدين، وحكموا فيهم شرع الله؛ حتى ترتاحوا، وحتى تعيشوا أمنا وطمأنينة واستقرارا، وحتى تكون حياتكم حياة   (1) سورة الحجرات الآية 10 (2) سورة الأنفال الآية 63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 سعيدة؛ فإن الحياة السعيدة إنما هي في الإيمان بالله ورسوله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (1) . [ما أنعم الله به على هذه البلاد المباركة من نعمة الأمن والاستقرار، إنما ذلك بفضل تحكيم الشريعة] أمة الإسلام، حجاج بيت الله الحرام، أنتم في هذه البلاد المقدسة تشاهدون ما أنعم الله به على هذه البلاد العزيزة من نعمة الأمن والاستقرار، وإن هذه البلاد – ولله الفضل والمنة – تعيش في أمن واستقرار عديم النظير، فأهلها آمنون مستقرون يعيشون نعمة الأمن العظيم التي منحهم الله إياه، وذلك بفضل تحييكم شرع الله، وتنفيذ حدوده، وإقامة شريعة الله، وتحكيم هذا الشرع في أرجاء البلاد، فصارت هذه البلاد مضرب المثل في الأمن والاستقرار، فإن نعمة الأمن نعمة عظيمة، ليس بعد نعمة الإسلام نعمة أفضل منها. [بلاد الحرمين تفتخر بخدمة الحجاج وتسعى في توفير كل ما فيه راحتهم] لقد حبا الله هذه البلاد بهذه النعمة العظيمة نعمة الأمن والاستقرار، وغدا الحجاج إلى هذه البلاد من أقطار الدنيا وهم يعيشون أياما سعيدة في أمن وراحة واستقرار {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (2) ، وإنما حصل هذا الأمن بتحكيم شرع الله وتنفيذ حدوده والتزام الشرع المستقيم، فهذا الأمن تحقق لنا بهذه النعمة العظيمة، فليقتد المسلمون بهذه البلاد؛ فإن هذه البلاد جربوا هذا الشرع وحكموه مقتنعين به، فصارت آثاره عليهم واضحة جليلة، فالحمد لله رب العالمين. أمة الإسلام، إن هذه البلاد العزيزة وهي تستقبل كل عام وفود الحجيج من أقطار الدنيا لتفتخر بذلك أن جعلها الله خادمة لهذا البلد الأمين وحامية لهذا البلد الأمين، فحكومة هذه البلاد تفضل الله عليهم، فجعلهم خداما لهذا   (1) سورة النحل الآية 97 (2) سورة الحديد الآية 21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 البلد الأمين يبذلون كل غال ونفيس في سبيل راحة الحجاج وأمنهم واستقرارهم، يضحون بكل أوقاتهم، يبتغون بذلك وجه الله، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، وإنه لفعل عظيم وخلق كريم، فينبغي لأمة الإسلام أن يعرفوا لهذه البلاد قدرها ومكانتها، ويسأل الجميع رب العالمين أن يديم على قادتها نعمة الإسلام والاستقرار، وأن يجعلهم دعاة مصلحين، وهداة مهتدين، وأن يوفقهم للتمسك بشرع الله ويرزقهم الاستقامة والثبات. إن هذه البلاد وهي تهتم دائما بقضايا المسلمين وتحرص كل الحرص على جمع كلمة المسلمين، وتأليف قلوبهم، ورأب الصدع فيما بينهم، وتتطلع دائما إلى أن يكون المسلمون أمة واحدة متمسكين بهذا الدين، يسعون جهدهم ليجمعوا كلمة الأمة، ويوحدوا شملها، ويزيلوا كل شقاق وخلاف حصل بينها، ذلك أنهم مقتنعون بأن هذا واجب عليهم، وهم يرونها نعمة عظيمة أن يسعوا دائما في لم شمل الأمة وتوحيد كلمتها، انطلاقا من قول الله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) . [حفظ الله هذا الدين، وهيأ لذلك رجالا مخلصين على مر التاريخ] أمة الإسلام، إن أعداء الإسلام كادوا لهذا الدين المكائد، وسعوا في إفساد هذا الدين، وسعوا في إطفاء نور الله، وسعوا في القضاء على هذا الدين بكل مستطاع، ولكن الله تعالى تكفل بحفظ هذا الدين {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) . انظروا عباد الله بعد موت محمد -صلى الله عليه وسلم- كاد الإسلام أن يذهب، وكادت العرب أن تنحرف عن الإسلام، وارتد كثير منهم عن دين الله،   (1) سورة المائدة الآية 2 (2) سورة الحجر الآية 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وانحرفوا عن شرع الله، فقام الصديق -رضي الله عنه- لما ثبت الله قلبه وقوى إيمانه حتى أرجع الناس إلى ما خرجوا منه، وأعادهم إلى ملة الإسلام، وهكذا كل بدعة وضلالة تنشأ فإن الله يهيئ لها من هذه الأمة من علمائها من يزيلها ويدحضها ويبين فسادها وضلالها، فما خلا قوم ولا إقليم من أقاليم الأمة الإسلامية إلا وفيها دعاة مخلصون يناضلون عن هذا الدين، ويزيلون كل الشبه التي علقت بهذا الدين، ويدحضون كل باطل. [من الدعاة من يوفق لقبول دعوته ويهيأ له من يحمي دعوته، ومنهم من لا يتهيأ له ذلك] ولكن الدعاة إلى الله منهم من يوفق ويطرح القبول بدعوته، ويهيأ له من الأنصار والأعوان من يحمون دعوته ويزودون عن كيانها، ومنهم من لا يتهيأ له ذلك، ولهم في أنبياء الله -عليهم السلام- خير أسوة؛ فإن من أنبياء الله من يلقى الله وحده لم يستجيب له من قومه أحد، وهكذا علماء هذه الأمة والدعاة إلى الله، منهم من يهيأ له أنصار يحمون دعوته ويزودون عنها، ويثبتون أقدامها، ومنهم من ليس كذلك. لكن الله تعالى ضمن لهذه الأمة ألا تجتمع على ضلالة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (1) » [من الدعاة الذين دعوا إلى الكتاب والسنة الشيخ محمد بن عبد الوهاب] ومن أولئك الدعاة الذين دعوا إلى الله دعوا إلى كتاب الله، ودعوا إلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، دعوا إلى تحكيم الكتاب والسنة لا غير. شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -غفر الله له- فإن في منتصف القرن الثاني عشر خرج هذا الرجل بعدما بصره الله وهداه وأراه الحق من الباطل وهداه إلى طريق الله المستقيم – خرج في هذه الجزيرة؛ غيرة على أبنائها، ورحمة بهم، بعدما   (1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب (فتح الباري 6\784، ح 3641) ، ومسلم في صحيحه 3 \1523، كتاب الإمارة باب قوله -صلى الله عليه وسلم- '' لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ''، ح (1920) ، واللفظ لمسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وقع فيها من الشرك والجهل مثل ما عم كثيرا من دول الإسلام، فدعا إلى الله إلى توحيد الله وعبادته، وكادت دعوته ألا تتم، وكاد أن ييأس، ولكن الله هيأ من نصر هذه الدعوة وحمى حماها وذاد عنها بكل جهده، ذلك لما اتفق هو والإمام محمد بن سعود -رحمهم الله- على الدعوة إلى الله، وتخليص الأمة الإسلامية من أدران الشرك العظيم، والعودة بهم إلى الدين المستقيم، فكان سلطان العلم وسلطان القوة متواكبين جميعا، هذا بعلمه وبيانه، وذا بقوته وسلطانه، فحمى هذه الدعوة حتى مكن الله لها في الأرض، إن هذه الدعوة المباركة لم تكن بدعا من القول، لكنها ولله الحمد على منهج كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. [الافتراءات الباطلة على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب] لقد شوهت هذه الدعوة ولفق بها من التهم ما الله أعلم ببراءتها منه، قيل عنها: إنها مذهب خامس، وقيل عنها: إنها مذهب الخوارج، قيل عنها: إنهم يكفرون الناس، قيل عنهم: إنهم يعادون الأولياء، قيل عنهم: إنهم يبغضون الرسول، قيل وقيل، ولكن من تأملها ونظر فيها ببصيرة، رآها حقا لا شك فيه، وهدى لا ضلال فيه، ورآها -ولله الحمد- امتدادا لدعوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، هيأ الله لها من نصرها وحماها، فلم يستطع أي مغرض أن يتعرض لها بسوء؛ لأن الله جعل لها أنصارا اقتنعوا بها، وعلموا أنها الحق الذي لا شك فيه، فقامت هذه الدولة -ولله الحمد- على أساس ثابت وقاعدة ثابتة، على هذا الدين، ولم يزل قادتها الواحد تلو الآخر يحافظون على هذه الشريعة، ويحمون هذه الدعوة الصالحة، ويذودون عنها، ويحاولون بكل جهد أن يبصروا الأمة في دين الله، ويخلصوها من الشبه والضلالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 [فرضية الحج في الإسلام وأنه الركن الخامس من أركانه] حجاج بيت الله الحرام، إن الله تعالى افترض الحج، وجعله خامس أركان الإسلام، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) ، جعل الله الحج فريضة العمر، من أداه في عمره مرة، فقد خرج من التبعة؛ ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لو قلت: نعم، لو جبت، ولما استطعتم "، ثم قال: " ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه (2) » فلم يجعل الله الحج في العمر إلا مرة، من أداه فقد أدى الواجب، وما زاد على ذلك فهو تطوع، أما الواجب فهو مرة واحدة في العمر، رحمة من الله وفضل وإحسان. [العبر والعظات في شعيرة الحج ووجوب الإخلاص فيه] أمة الإسلام، في مناسك الحج عبر وعظات، ينبغي أن نأخذ من هذه المناسك العظات والعبر، فإن التقاء المسلمين واجتماعهم في صعيد واحد، غاية واحدة، لرب واحد يعبدون، وبكتابه يأتمون، ولرسول واحد يتبعون، شعارهم واحد، هدفهم واحد، هيئتهم واحدة، حقا إنها تمثل أخوة الإسلام في أسمى وأرفع معانيها. أمة الإسلام، إن الحج يجب أن يكون خالصا لله، يجب على الحاج أن يكون هدفه عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يجرد هذا الحج من كل أمر   (1) سورة آل عمران الآية 97 (2) أخرجه مسلم في صحيحه 2 \ 975، كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، ح (1337) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 يخالف شرع الله، لقد كان أهل الجاهلية قبل الإسلام يتخذون من مواقف الحج منابر للفخر بالأحساب والأنساب وطعن بعضهم في بعض، ويتخذونها مفخرة لأحسابهم وأنسابهم، وتقديس شخصياتهم، فأنزل الله {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (1) ، أي: لا تجعلوا الحج إلا لله، لا تجعلوا فيه ذكرا للأسلاف والآباء، وإنما أخلصوا الحج لله، فهو عبادة لله، لا يليق أن يشوه هذا الحج، وأن يجعل فيه ما ليس منه. أمة الإسلام، فرض الله الحج على أمة الإسلام، فحج نبيكم -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة في العام العاشر من هجرته، هذه الحجة هي حجة الوداع التي ودع فيها الناس، وأمرهم أن يتلقوا عنه مناسكهم قائلا لهم: «لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا (2) » فاقتدى به الصحابة بأقواله وأعماله، فإنه ما قال قولا ولا عمل عملا إلا قال: «خذوا عني مناسككم (3) » [بيان صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم] حج حجة واحدة، خرج إلى عرفة في مثل هذا اليوم، فنزل بنمرة، فلما زالت الشمس خطب بعرفة خطبة عظيمة جامعة حرم فيها الدماء والأموال، حرم دماء المسلمين وأموالهم، وأخبرهم أن كل مآثر الجاهلية ودماءها قد ألغاها، فلا يطالب بها بعد الإسلام، وأن ربا الجاهلية أبطله الإسلام وحرم الربا، وأوصاهم بالنساء خيرا، وبين ما لهن من الحقوق وما عليهن من الواجبات، ثم قال لهم: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله (4) » فأخبر أن اعتصام الأمة بكتاب الله سبب لهدايتها، وسبب لعزها، وسبب   (1) سورة البقرة الآية 200 (2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى 2\425، كتاب: الحج، باب: الأمر بالسكينة في الإفاضة من عرفة، ح (4016) ، والبيهقي في السنن الكبرى 5 \151، كتاب: الحج، باب: خطبة الإمام بمنى أوسط أيام التشريق، ح (9463) ، واللفظ للنسائي. وأصله عند مسلم في صحيحه 2 \ 943، كتاب: الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا وبيان قوله -صلى الله عليه وسلم-: '' لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه '' (3) انظر تخريج الحديث السابق (4) أخرجه مسلم في صحيحه 2 \ 890، كتاب: الحج، باب: حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ح (2137) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 لكرامتها، ثم قال لهم: «وأنتم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ " فقالوا: نشهد أنك بلغت ونصحت وأديت، فقال بأصبعه إلى السماء وينكتها إلى الناس: " اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد (1) » وإن كل مسلم ليشهد حقا لهذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- بأنه بلغ الأمانة، وأدى الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، يشهد له بكمال البلاغ، وكمال البيان، لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من سبيل يقربنا إلى الله إلا دلنا عليه وأمرنا به، وما من سبيل يبعد عن الله إلا حذرنا منه. صلى الظهر والعصر في هذا اليوم جمعا وقصرا، ثم وقف بعرفة حتى غربت الشمس عليه، ثم انصرف إلى مزدلفة وصلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير مع القصر، وبات بها، ثم صلى بها الفجر، ثم وقف عند المشعر الحرام، ثم دفع إلى منى. [تحذير المفتين في المناسك من الإفتاء بما يخالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم] معشر المفتين، أيها المفتون في المناسك، إن الكثير من المفتين يغلطون في أمر المناسك، وربما أفتى بعضهم بفتيا مخالفة لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاتقوا الله أيها المفتون فيما تفتون به، وتحروا الصواب، تحروا سنة رسول الله، وأفتوا الناس بمقتضاها، ولا تضلوا الناس عن سواء السبيل. إن الوقوف بعرفة حتى تغرب الشمس واجب، هذا هدي نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، لم يزل واقفا حتى غربت الشمس، فلما غربت وغاب القرص   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، (فتح الباري 3 \ 731، ح4403) ، ومسلم في صحيحه 2 \ 890، كتاب: الحج، باب: حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ح (2137) ، وتكرار لفظ '' اللهم اشهد'' عند مسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وذهبت الصفرة، انصرف من عرفات إلى مزدلفة، وبقي بمزدلفة حتى صلى بها الفجر، وأذن للضعفة بالدفع بعد نصف الليل، وأما هو فبقي بها حتى صلى الفجر، وذكر الله عند المشعر الحرام [فضل يوم عرفة] أمة الإسلام، يوم عرفة من أفضل أيام الله، هذا اليوم من أفضل أيام الله، يوم عظيم مبارك، وموسم كريم، يوم يستجاب فيه الدعوات، وتقال فيه العثرات، يوم يباهي الله بأهل الأرض أهل السماء، قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان يوم عرفة إن الله ينزل إلى السماء فيباهي بهم الملائكة فيقول: " انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم (1) » يا معشر المسلمين تعرضوا لنفحات ربكم، أخلصوا لله أعمالكم، وحدوا الله وأطيعوه، تضرعوا بين يدي ربكم، واسألوه من فضله وكرمه، فهو الكريم الجواد «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام (2) » [بيان غلط بعض المسلمين في زعمهم أن الحج يسقط جميع الواجبات عن المسلم] أيها المسلمون، يغلط البعض من المسلمين فيظن أنه إذا أدى الحج فقد سقطت عنه كل الواجبات، وأنه بأداء الحج لا يصوم ولا يصلي ولا يزكي ويرتكب ما شاء من معاصي الله، وهذا كله من سوء التصور وسوء الفهم، فإن الحج يهدم ما قبله بالتوبة النصوح، والحج ليس مسقطا للواجبات، فمن أراد أن يكون حجه مقبولا فليستقم على طاعة الله، وليحافظ على فرائض الإسلام، فإن الله جعل للدين خمسة أركان: أولها التوحيد، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، من جحد شيئا منها فقد كفر، ومن ترك الصلاة كفر، ومن ترك   (1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 4 \263، كتاب الحج باب: تباهي الله أهل السماء بأهل عرفات، ح (2840) ، وابن حبان في صحيحه 9 \164، كتاب: الحج باب: ذكر رجاء العتق من النار لمن شهد عرفات يوم عرفة ح (3853) وأخرج بنحوه مسلم في صحيحه 2 \982 كتاب الحج باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ح (1348) ولفظه: '' ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء '' (2) أخرجه مالك في الموطأ 1 \422، كتاب الحج باب جامع الحج ح (944) ، وعبد الرزاق في مصنفه 4 \378، قال ابن عبد البر في التمهيد 1 \116: (ومعنى هذا الحديث محفوظ من وجوه كثيرة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الزكاة أو الصوم أو الحج وهو قادر، فهو على أعظم خطر. [بيان أعمال الحج في يوم النحر وما بعده] يا معشر المسلمين، في يوم النحر لكم عبادات: أولها: رمي جمرة العقبة بعد انصرافكم من مزدلفة، فابدءوا بجمرة العقبة، فهي تحية منى، ثم انحروا هديكم إن كنتم قارنين أو متمتعين، أو احلقوا أو قصروا، ثم قد حل لكم بالرمي والحلق أو التقصير كل شيء ما عدا النساء، فيحل الطيب ولبس المخيط، وإذا رميتم وحلقتم وطفتم وسعيتم بالبيت فقد حل لكم كل شيء حرم عليكم بالإحرام. وأعمال يوم النحر كما يلي: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، ومن قدم بعضا على بعض فلا حرج عليه. ارموا الجمار في أيام التشريق في اليوم الحادي عشر: الأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، وكذلك في اليوم الثاني عشر إن تعجلتم، وإن تأخرتم فارموا اليوم الثالث عشر كسابقه، ومن شق عليه الرمي اليوم الحادي عشر، وأراد أن يجمع رمي الحادي عشر والثاني عشر في يوم واحد فإنه لا حرج عليه، لكن يقدم رمي اليوم الأول ثم يرمي جمار اليوم الثاني. [نصائح وإرشادات وتوجيهات للحجاج] أيها الحجاج، التزموا بآداب الإسلام وكونوا إخوانا متحابين، وليرحم بعضكم بعضا وليشفق بعضكم على بعض، واحذروا أن تكونوا فيما بينكم متعادين أو متنافرين، لتكن الرحمة والمحبة والمودة سائدة بينكم، فأنتم إخوان في ذات الله، التقيتم على محبة الله في أرض الله المباركة لتعرفوا لآداب الإسلام حقها، ليكن بعضكم محسنا لبعض، وراحما بعضكم بعضا، فأخلاق الإسلام تحرم على المسلم أن يؤذي المسلمين بلسانه ويده، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم من سلم (1)   (1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب: من سلم المسلمون من لسانه ويده (فتح الباري 1 \ 73، ح 10) ، ومسلم في صحيحه 1 \ 65، كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل، ح (14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 المسلمون من لسانه ويده» أمة الإسلام، تذكروا بموقفكم هذا ثم انصرافكم ووقوفكم بين يدي الله يوم القيامة، تقفون بين يدي الله، حافية أقدامكم، عارية أجسادكم، شاخصة أبصاركم، تذكروا بمنصرفكم منصرفكم من ذلك الموقف في مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (1) {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} (2) {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} (3) . [الإكثار من الذكر والدعاء يوم عرفة] أكثروا من قول لا إله إلا الله في هذا اليوم المبارك، فإنها عامة دعاء نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير (4) » احفظوا جوارحكم عن محارم الله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له (5) » غضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وصححوا إيمانكم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن (6) » وأكثروا من قول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؛ فإن الله تعالى أثنى على أولئك فقال: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (7) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (8) {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (9) .   (1) سورة الروم الآية 14 (2) سورة الروم الآية 15 (3) سورة الروم الآية 16 (4) أخرجه الترمذي في سننه 5 \ 572، كتاب الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة ح (3585) ، ومالك في الموطأ 1 \214، كتاب: القرآن، باب: ما جاء في الدعاء ح (500) ، والبيهقي في السنن الكبرى 4 \284، كتاب الحج، باب: الاختيار للحجاج في ترك صوم يوم عرفة، ح (8184) (5) أخرجه أحمد في مسنده 1 \329، 356، وابن خزيمة في صحيحه 4 \260، كتاب الحج، باب: فضل حفظ البصر والسمع واللسان يوم عرفة، ح (2832) ، والطبراني في المعجم الكبير 12 \ 232، ح (12974) (6) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأشربة، باب: قول الله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) ، '' فتح الباري 10 \ 36، ح 5578 '' ومسلم في صحيحه 1 \76، كتاب الإيمان باب: نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كاملة، ح (57) (7) سورة البقرة الآية 200 (8) سورة البقرة الآية 201 (9) سورة البقرة الآية 202 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أدوا الفرائض في يوم النحر وأيام التشريق قصرا بدون جمع، أدوا الظهر في وقتها قصرا ركعتين، والعصر في وقتها ركعتين، والمغرب في وقتها، والعشاء في وقتها ركعتين، وهكذا بقية أيام التشريق، إنما الجمع في الحج في موضعين: هذا اليوم في عرفة، والليلة في مزدلفة. نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم أعمالنا وأعمالكم. اللهم وفق المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم اجعلهم أمة متحدة متمسكة بدين الله، عاملة بشرعه، اللهم وفق قادة المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم وفق إمام المسلمين وولي عهده لما تحبه وترضاه، وأمده بعفوك وتوفيقك، واجزهم عما سعوا وقدموا للحجيج كل خير. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولعموم المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 خطبة عام 1403 الهجري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (1) أما بعد: [الوصية بتقوى الله عز وجل] أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا ربكم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فهو تعالى أهل أن يتقى، اتقوه لتنالوا بتقواه سعادة الدنيا والآخرة. [بيان خلق الله لآدم، وامتناع إبليس من السجود له، وما لاقاه من الجزاء] معشر المسلمين، إن الله تعالى خلق آدم أبا البشر، وفضله وذريته على كثير ممن خلق تفضيلا، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فامتثلوا أمر ربهم، وخروا لآدم سجدا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين، فأبى عن السجود لآدم {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (2) ، فعند ذلك أهبط الله إبليس إلى الأرض، وأخرجه من ملكوت السماء، وجعله مخلدا في النار إلى يوم القيامة. فلما أيس عدو الله من رحمة الله، وأيقن أن النار مقره وذريته، فعند ذلك سعى في إضلال بني آدم وإغوائهم وصدهم عن طريق الله المستقيم، سأل ربه أن   (1) سبق تخريج خطبة الحاجة في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (1) (2) سورة الأعراف الآية 12 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ينظره إلى يوم يبعثون، فقال الله له: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} (1) {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (2) ، أقسم بعزة الله ليغوين بني آدم، وليضلنهم عن الطريق المستقيم {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (4) ولكن الله حمى منه عباده المخلصين الذين أخلصوا لله قولهم وعملهم {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (5) . [الاستعاذة بالله من شره، وذكره تعالى والالتجاء إليه بالتوبة النصوح يحفظ العبد من كيد الشيطان وإضلاله] ولما علم تعالى ضعف ابن آدم أمام هذا العدو المتسلط عليه الذي يجري منه مجرى الدم والذي يتربص به الدوائر، ويغتنم كل غفلة ليوسوس عليه ويصده عن دين الله – جعل الله للعباد أسبابا تقيهم مكائده ووساوسه، فأخبرهم الله بعداوته لهم، وأن عداوته قديمة من القدم، هو عدو لهم وعدو لأبيهم {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) ، وأمرهم أن يستعيذوا بالله من شره، وأن يدفعوا وساوسه بذكر الله والالتجاء إليه، ففي ذكر الله تخليص للعبد من وساوس عدو الله وإبعاد للشيطان من الضلالة والوساوس، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (7) ، وأرشد تعالى عباده أيضا أن يتوبوا إليه وينيبوا إليه، كلما تسلط عليهم عدو الله وزين لهم الشر والباطل أن يلجئوا إلى التوبة والإنابة إلى ربهم، فهو تعالى فتح لعباده باب التوبة والإنابة، وأمرهم أن يتوبوا إليه من كل ذنوب اقترفوها، ومن كل سيئات عملوها،   (1) سورة الحجر الآية 37 (2) سورة الحجر الآية 38 (3) سورة الأعراف الآية 16 (4) سورة الأعراف الآية 17 (5) سورة الحجر الآية 40 (6) سورة فاطر الآية 6 (7) سورة فصلت الآية 36 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 مهما عظمت الذنوب وتضاعفت الخطايا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (1) . [بيان معنى التوبة النصوح] التوبة النصوح يا عباد الله هي التوبة الخالصة التي مقتضاها الإقلاع عن الذنب والندم على ما مضى، والعزيمة الصادقة على أن لا تعود إلى ما عملت من خطايا وسيئات، فربك تعالى لكمال كرمه وكمال جوده وكمال إحسانه وفضله -فتح باب التوبة لعباده، ليتوبوا إليه من ذنوبهم وخطاياهم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله -عز وجل- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل (2) » ذلكم لكمال كرم ربكم وكمال إحسانه، فهو يحب من عباده أن يتوبوا إليه، وسبقت رحمته غضبه فيا عبد الله، تب إلى الله في هذه الدنيا من سيئاتك وخطاياك، ولا سيما في هذا اليوم المبارك، والموقف العظيم، فحاسب نفسك، وتب إلى الله من كل ما عملت من سوء. [تذكير العبد بانتقاله من الدنيا، وما يلقاه من جزاء أعماله في القبر] [أعمال العبد محصاة عليه قليلها وكثيرها، وسيحاسب عليها يوم القيامة] واعلم أن أعمالك محصاة عليك قليلها وكثيرها، وسوف تعطى كتابا يوم القيامة مسجلا به كل ما عملت من خير أو شر {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (3) ، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (4) ، لن تستطيع أن تجحد سيئات أعمالك، سينطق الله جوارحك فتشهد عليك بما عملت {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (5)   (1) سورة التحريم الآية 8 (2) أخرجه مسلم في صحيحه 4 \2113، كتاب التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت التوبة والذنوب، ح (2759) (3) سورة الإسراء الآية 14 (4) سورة الكهف الآية 49 (5) سورة يس الآية 65 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فتب إلى الله في هذه الدنيا قبل أن يحال بينك وبين التوبة، حاسب نفسك، وانظر لسيئات أقوالك وأعمالك. فإن كنت يا عبد الله ممن استحوذ عليك الشيطان وزين لك عبادة غير الله، ورجاء غير الله، والتقرب والتزلف لغير الله من الأموات والغائبين، فتب إلى الله من هذا الذنب العظيم، واحذر أن تلقى الله مشركا به، فإن الله لا يغفر لمن لقيه عابدا غيره، ملتجئا إلى غيره، معظما غيره، فذلك الشرك الأكبر الذي حكم الله على فاعله بالخلود في النار {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (1) . أيها المسلم، انظر لنفسك فإن كنت ممن فرطت في أركان دينك، فرطت في الصلوات الخمس، أو في صيام رمضان، أو في بقية واجبات دينك، فتب إلى الله منها، واندم على ما مضى، واعزم على ألا تعود إلى أي مخالفة. تذكر أيها العبد أن انتقالك من هذه الدنيا ومفارقتك إياها، وبقاءك في لحدك، مرتهن بأعمالك، إن خيرا ازددت به أنسا وسرورا، وإن شرا ازددت به حزنا وبؤسا؛ فتب إلى الله في هذه الدنيا قبل لقاء ربك، وجدد توبة نصوحا، وتب إلى الله وتضرع إليه، عسى أن يقبل توبتك ويمحو خطيئتك، فهو تعالى يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (2) ، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (3) . أمة الإسلام، إن الله تعالى فضل هذه الأمة المحمدية وجعلها خير أمة   (1) سورة المائدة الآية 72 (2) سورة البقرة الآية 222 (3) سورة آل عمران الآية 135 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أخرجت للناس، وأثنى عليها في كتابه العزيز: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) . [فضل وخيرية هذه الأمة على غيرها من الأمم] أجل أيها المسلمون، بهذه الصفات الحميدة: بالإيمان بالله، بالأمر بالمعروف، بالدعوة إلى كل خير وهدى، بالتحذير من كل شر وفساد، صارت هذه الأمة المحمدية خير الأمم وأكرمها على الله، اختار الله لها سيد ولد آدم أفضل الأنبياء والمرسلين على الإطلاق، واختار لها أكمل الدين وأفضل الشرائع وأزكى الأخلاق وأتمها. هذه الأمة المحمدية ظهر أثر فضلها وكرامتها حينما قام أوائلها بهذا الدين الحنيف، فدعوا الخلق إلى الله، فهدى الله بهم من الضلال، وبصر بهم من العمى، أقاموا دولة الإسلام على منهج الله الحق، على دين الله ورسوله، فدخل الناس في دين الله أفواجا، فانقادوا لهذا الدين لما رأوا أهله القائمين به وأعمالهم الصادقة وأخلاقهم الكريمة وعدلهم وإنصافهم، فإنهم آمنوا بهذا الدين وطبقوه على أنفسهم، ثم دعوا الخلق إلى ذلك، فاستجاب الخلق لله ورسوله، وعم الإسلام أرجاء المعمورة، وعاش الناس في ظل عدالة الإسلام، وحقق الله على أيديهم ما وعد به نبيه -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (2) . ظهر دين الله وعلت كلمة الله، وعم الأرض الخير والصلاح والهدى بهذا الدين وحده، بهذه الشريعة الخالدة، بهذه الأحكام العادلة، حتى كانت الأمم خاضعة لهم، تلتمس ودهم ورضاهم، ولقد كانت لغة قرآنهم اللغة المهيمنة؛ لأن أهل   (1) سورة آل عمران الآية 110 (2) سورة التوبة الآية 33 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 هذا الدين قاموا به حق القيام، فوجد الناس أنفسهم بحاجة إليهم، وإلى مصافاتهم، وإلى جلب مودتهم ومحبتهم. أمة الإسلام، بهذا الدين تبوأت الأمة المحمدية المكان الأسمى والشرف الرفيع. [تمسك المسلمين بإسلامهم كان سببا لسيادتهم وحكمهم في البلاد] أمة الإسلام، لقد عرف أعداؤكم قوتكم وشرفكم، وعرفوا مكانتكم، وتذكروا مجدكم الماضي وتاريخكم العظيم. وأن أوائلكم لما تمسكوا بهذا الدين واجتمعوا عليه، وتآلفوا عليه، وتوحدت صفوفهم على هذا المنهج القويم، سادوا الناس وحكموا البلاد، وصارت لهم المكانة، وصار الناس تابعين لهم منقادين لأحكامهم. [أعداء الإسلام يسعون في إبعاد المسلمين عن منهج الله وشريعته] عرف أعداؤنا تلك الفضائل، وتلك المكانة، وعرفوا ذلك السبب، فجد أعداء الإسلام واجتهدوا حتى يبعدوا الأمة الإسلامية عن منهج الله، ويقصوها عن دين الله، ويفصلوا بينها وبين دينها {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (1) {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (2) ، يريدون أن يفصلوكم عن دينكم ويبعدوكم عن إسلامكم؛ لتكونوا أمة تابعة لغيركم، وأمة محكومة بعدما كنتم أمة حاكمة، وأمة ينفذ عليكم أعداؤكم ما يريدون وما يهوون وما يختارون، ولكن الله سيحفظ دينه ويعلي كلمته، فواجب الأمة أن تعود إلى إسلامها، وأن تعود إلى دينها، وأن تتبصر في واقعها. أمة الإسلام، إن كل بلاء أصاب الأمة، وكل مصاب حل بالأمة الإسلامية، فإنما سببه البعد عن تعاليم الإسلام ومبادئه السامية. فيا معشر المسلمين، عودا إلى الإسلام الصحيح؛ ليعود لكم عزكم ومجدكم   (1) سورة البقرة الآية 109 (2) سورة النساء الآية 89 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وكرامتكم. [كل ما أصاب الأمة من بلاء ومصيبة فإنما سببها الذنوب والإعراض عن دين الله] أيها الأمة الإسلامية، إن كل نقص في الأمة، اهتزاز في اقتصادها، أو اضطراب في أمرها، أو اختلاف في كلمتها، فإنما سببه الذنوب والإعراض عن دين الله، خرج -صلى الله عليه وسلم- على جملة من المهاجرين فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن -وأعوذ بالله أن تدركوهن -: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم (1) » فيا أمة الإسلام، إن التمسك بهذا الدين والعمل به يجمع القلوب ويوحد الشمل ويعيد للأمة عزها ومكانتها. [على الأمة الإسلامية أن يحلوا مشاكلها في ضوء تعاليم دينها، وفي محيط كيانها] نسأل الله أن يجمع الأمة الإسلامية على الخير والهدى وأن يعيذها من الفرقة والاختلاف، وأن يبصرها في واقعها، لتتدارك أخطاءها، فتسعى في حل مشاكلها في محيط إسلامها، فإن الأمة الإسلامية مطلوب منها أن يكون حل كل مشكلة من مشاكلها في إطار الإسلام، في محيط الأمة الإسلامية، حتى لا يكون للعدو نفوذ على الأمة، فالعدو لا يكن لنا حبا ولا ودا، وإنما أمة الإسلام إذا حلت مشاكلها في إطارها، وصارت مشاكلها تحل بتعاليم دينها، عند ذلك ترى دينها كفيلا لحل أي مشكلة، وإنهاء أي فتنة مهما عظمت ومهما كبرت.   (1) أخرجه ابن ماجه في سننه 2 \1332، كتاب الفتن باب العقوبات ح (4019) والطبراني في المعجم الأوسط 5 \61، ح (4671) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله الذي بلغكم الوصول إلى بيت الله الحرام، ومكنكم من الوقوف بتلكم المشاعر المقدسة المشرفة. [ذكر جهود حماة البلد الأمين في تيسير الوصول إلى الحرمين، وتهيئة الوسائل المناسبة لذلك] إن هذا البلد الأمين كان طريق الوصول إليه شاقا ومتعبا، ولكن الله بفضله وكرمه هيأ الوصول إليه، وجعله سهلا ميسرا على يد من اختارهم لحماية هذا البلد الأمين والقيام بحقه؛ امتثالا لأمر الله وطلبا لمرضاته وتقربا إليه، فكل أعمالهم التي عملوها إنما هي أعمال يريدون بها وجه الله، نرجو الله أن يثيبهم وأن يجزيهم عما فعلوا خيرا. [الوصول إلى بيت الله أصبح سهلا ميسرا بعد ما كان شاقا ومتعسرا في كثير من الأحيان] روى البخاري عن عدي بن حاتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: «هل رأيت الحيرة؟ " قال: قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: " فإن طالت بك حياة لترين الظعينة (2) » ، لقد تحقق ذلك في العهود الأولى، ثم طرأ على الأمة الإسلامية ما طرأ عليها من اختلاف واضطراب حتى صار الوصول إلى البيت متعسرا في كثير من الأحيان، وشاقا على النفوس، ولكنه -ولله الفضل والمنة- في هذه الأيام أصبح ميسرا سهلا، يؤم المسلمون بيت الله من أقطار الدنيا، فلا طعام يحملونه، ولا سلاح يصحبونه، يرون البلد الأمين آمنا مطمئنا، قد وفر الله فيه أسباب الرغد، وهيأ للحجاج من يقوم بخدمتهم، ويهيئ لهم الراحة والأمان، فالحمد لله على نعمة الإسلام. ولا شك أن هذه أعمال مباركة لا ينبغي للمسلمين أن ينسوها، بل الواجب شكر قادة هذه البلاد، وأن ندعو الله لهم أن يوفقهم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلهم   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، (فتح الباري 6 \ 757، ح 3595) (2) (1) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أئمة هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يزيدهم من التوفيق والسداد، إنه على كل شيء قدير. [أهمية هذا الاجتماع العظيم في الحج، وأن ذلك يدعوهم إلى التآلف والتآخي والمحبة والاجتماع في ذات الله] حجاج بيت الله الحرام، إن مجتمعكم هذا مجتمع عظيم، مجتمع يدعو إلى التآلف والتآخي والمحبة والاجتماع في ذات الله، فاستفيدوا من هذه اللقاءات المباركة الخير الكثير، ليكن ذلك اللقاء سببا تقوى به أواصر المودة والمحبة والإخاء بينكم، تذكروا أنكم من بلاد متباعدة، تقفون في موقف واحد رغم اختلاف اللغات والألوان والأجناس، ولكن عقيدة الإيمان وأخوة الإسلام جمعتكم على الخير والتقوى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) . وإن على المسلم واجب نحو إخوته المسلمين أن يعاملهم بالصفح والحلم والإعراض، وتحمل كل الأذى، ويتذكر قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (2) » وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (3) » المسلم يكن لأخيه الحب والوئام، يحب له كل خير، ويعامله بالإحسان، هكذا أخلاق المسلمين، ولا سيما الحجاج منهم، فواجبكم أن تتخلقوا بالحلم والصفح والأناة وتحمل الأذى، وأن يعامل كل منكم أخاه بما يليق به من المحبة والإكرام، وأن تجتنبوا كل أذى، فمن ضار ضار الله به، ولا سيما في هذه المشاعر المقدسة والأماكن الفاضلة. [على الحجاج شكر الله -عز وجل- وتذكر الموقف العظيم بين يديه يوم القيامة] حجاج بيت الله الحرام، أيها الحجاج الكرام، اشكروا الله وتذكروا في هذا الموقف العظيم موقفكم بين يدي الله، يوم القيامة تقفون بين يدي الله حافية أقدامكم، عارية أجسامكم، شاخصة أبصاركم، تذكروا هذا الموقف العظيم،   (1) سورة الحجرات الآية 10 (2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: المظالم والغصب، باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، (فتح الباري 5 \ 122، ح 2442) ، ومسلم في صحيحه 4 \ 1986، كتاب: البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، ح (2564) ، واللفظ للبخاري (3) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (17) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 تزدادوا خوفا من الله ورجاء فيما عند الله. أيها المفتون في الحج، اتقوا الله فيما تفتون، ولا تفتوا الناس إلا بعلم وبصيرة، واحذروا أن تفتوهم بخلاف الشرع فتكونوا من الآثمين. [افترض الله الحج على المسلمين مرة في العمر] معشر المسلمين، إن الله افترض الحج على أمة الإسلام وجعله فريضة العمر، من أداه في عمره مرة فقد برئت ذمته وأدى الواجب ولا حرج عليه، فيا ليت المسلمين يفقهون ذلك ويعلمون أن من أدى فريضته فقد أدى الواجب الذي عليه، ولم يكلف العبد نفسه فيما سوى ذلك، فيسعى في إفساح الطريق، وتهيئة الجو لغيره من إخوانه المسلمين، ذلك من باب التعاون على البر والتقوى. [بيان صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم] أمة الإسلام، حج نبيكم -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة هي حجة الوداع، أعلمهم فيها مناسك حجهم بأقواله وأفعاله، فما قال قولا إلا قال لهم: «خذوا عني مناسككم (1) » «وقف بعرفة وقال: " الحج عرفة (2) » وأخبر الناس بفضل ذلك اليوم، وأنه يوم عظيم يباهي الله فيه ملائكته بأهل الأرض يقول: «انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم (3) » وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة (4) » وقال: «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر (5) »   (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (10) (2) أخرجه الترمذي في سننه 3 \ 237، كتاب: الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، ح (889) ، والنسائي في سننه 5 \ 256، كتاب: مناسك الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة، ح (3016) ، وابن ماجة في سننه 2 \1003، كتاب: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، ح (3015) ، وأحمد في مسنده 4 \309 (3) أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (15) (4) أخرجه مسلم في صحيحه 2 \ 982، كتاب: الحج، باب: فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، ح (1348) (5) أخرجه مالك في الموطأ، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 [فضل يوم عرفة] هذا يوم عظيم من أيام الله، وهو يوم عرفة، ويوم الجمعة، وكلاهما يومان فاضلان وعيدان من أعياد أهل الإسلام، وفي هذا اليوم ساعة محققة الإجابة ولا سيما في آخر هذا اليوم، فالجئوا إلى الله وتوبوا إليه، واسألوه التوفيق والهداية وقبول حجكم، وأن ترجعوا سالمين آمنين مطمئنين، إنه على كل شيء قدير. [أعمال الحج في عرفة ومزدلفة ومنى] قفوا بعرفة إلى غروب الشمس، وانصرفوا منها بعد الغروب، وبيتوا بمزدلفة، وصلوا بمزدلفة المغرب والعشاء جمعا وقصرا، ثم بيتوا بها وانصرفوا إلى منى، وارموا جمرة العقبة يوم النحر، وانحروا هديكم، واحلقوا رؤوسكم، ثم قد حل لكم كل شيء حرم عليكم بالإحرام إلا النساء، ثم طوفوا بالبيت طواف الإفاضة، واسعوا بين الصفا والمروة، وفي أيام التشريق ارموا الجمار في اليوم الحادي عشر بعد الزوال: الأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، وهكذا في اليوم الثاني عشر، ثم ودعوا بيت الله. أسأل الله لي ولكم حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أعاده الله علينا وعليكم وعلى جماعة المسلمين باليمن والبركة، ونسأله تعالى أن يوفق إمام المسلمين وولي عهده والنائب الثاني لما يحبه ويرضاه، وأن يجزي مساعيهم خيرا، وأن يكلل مساعيهم بالتوفيق، وأن يمدهم بالعون والتوفيق على ما بذلوا في خدمة الحجيج والقيام بواجبهم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 خطبة عام 1404 الهجري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (1) أما بعد: [الوصية بتقوى الله -عز وجل- وبيان آثارها وفوائدها] أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى. اتقوا معشر المسلمين ربكم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، اتقوه تعالى فهو أهل أن يتقى وأهل أن يغفر، بتقوى الله تنالون عز الدنيا والآخرة، بالتقوى يا عباد الله يجعل لكم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (3) بالتقوى يا عباد الله تكفر السيئات وتضاعف الأجور، يقول الله -عز وجل-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (4) . بالتقوى يا عباد الله ييسر الله لكم كل أمر عسير، يقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) .   (1) سبق تخريج خطبة الحاجة في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (1) (2) سورة الطلاق الآية 2 (3) سورة الطلاق الآية 3 (4) سورة الطلاق الآية 5 (5) سورة الطلاق الآية 4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 بالتقوى يا عباد الله ينال العبد ولاية الله؛ فإن ولاية الله لا تنال إلا بطاعته، لا ينالها إلا المتقون الذين اتقوه في السر والعلانية، يقول الله -عز وجل-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (1) {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2) . بالتقوى يا عباد الله تحصل المحبة الدائمة الصادقة التي لا انفصام لعراها، يقول الله -عز وجل-: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (3) . [تنوع مفهوم السعادة لدى الناس] أمة الإسلام، ما من فرد من الناس إلا وهو يتمنى أن يكون سعيدا في حياته، فغاية أمنيته أن يحقق لنفسه السعادة في هذه الدنيا، هذه غاية كل فرد من الناس، ولكن كيف ينال الإنسان هذه السعادة؟ إن ذلك مما تنوعت مفاهيم الناس فيه، فمن عباد الله من يعد سعادته في الدنيا أن يكون ذا مال كثير، وأن ينال من حطام هذه الدنيا ما يريد، فإذا توفر له ذلك عد نفسه سعيدا، فهو متعب قلبه وبدنه في البحث عن هذه الدنيا، وهو وراءها في كل آن وحين، بأي طريق كان من حلال أو من حرام، المهم الحصول على هذه المادة؛ لأنه يراها غاية سعادته. ومن عباد الله من يرى سعادته في الدنيا أن يعطي نفسه مناها، وأن يحقق لها مرادها ويوفر لها متع الحياة، ولو كان في ذلك فساد دينه، فإذا حقق ذلك عد نفسه سعيدا.   (1) سورة يونس الآية 63 (2) سورة يونس الآية 64 (3) سورة الزخرف الآية 67 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ومن عباد الله من يتصور السعادة في الحياة أن يكون ذا قول مسموع وأمر مطاع، وأن يكون ذا شأن في الدنيا، فيرى بذلك نفسه سعيدا. ومن عباد الله من يراها في طول العمر وكثرة الولد، ولعمر الله وإن كان لأولئك قسط من السعادة فإنها سعادة وقتية، وسعادة منقضية تعقبها الندامة والحسرة إن لم يقارنها الإيمان. [السعادة الحقيقية إنما هي في الإيمان والعمل الصالح] والله -تعالى وتقدس- بين السبب الذي ينال به العبد سعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) . أجل أيها المسلمون، هذا هو السبب الذي ينال به العبد السعادة الحقيقية، السعادة في الدنيا مرتبطة بسعادة الآخرة، ليست سعادة في الدنيا وحدها ولكنها سعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (2) . أيها المسلمون، إن الحياة الطيبة التي تنال بالإيمان والعمل الصالح هي الحياة التي يطمئن فيها القلب وينشرح فيها الصدر وتقر بها العين، وليس ذلك إلا للمؤمن، لماذا؟ لأن المؤمن سعيد بإيمانه، فهو سعيد في الدنيا بإيمانه وعمله الصالح مهما كانت الظروف والأحوال، إن المؤمن سعيد بإيمان وعمله الصالح سواء كان في غناه أو في فقره، في شدته أو في رخائه، في سرائه أو في ضرائه، فهو   (1) سورة النحل الآية 97 (2) سورة هود الآية 108 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 على حالة واحدة، إن نزلت به الضراء تلقاها بالصبر والاحتساب، يرجو بذلك ثواب الله، وإذا أقبلت عليه الدنيا تلقاها بالشكر وصرفها فيما يرضي الله، فلم تكن الضراء لتسخطه ولم يكن الرخاء ليطغيه. إن نال في الدنيا ما نال تذكر قول النبي الصالح سليمان -عليه السلام-: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} (1) ، ولم يكن ممن قال الله ذاما له: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (2) . فهو صابر في ضرائه، شاكر في رخائه، ثابت على إيمانه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له (3) » إن غير المؤمن لا يرجو ثواب الله ولا يخاف عقاب الله، إن أصابته ضراء سخط واعترض على الله في قضائه وقدره، وإن حصل له رخاء ازداد طغيانا وشرا، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (4) . إن المؤمن سعيد بإيمانه فهو طيب القلب لأنه يؤدي للناس ما يحب أن يؤدوه إليه، فليس في قلبه غل ولا غش ولا حقد على أحد، بل مؤمن مثالي بأخلاقه الكريمة وسيرته النبيلة وأعماله الفاضلة، فمكارم أخلاقه وفضائل أعماله اطمأن بها قلبه وانشرح بها صدره، قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (5)   (1) سورة النمل الآية 40 (2) سورة القصص الآية 78 (3) أخرجه مسلم في صحيحه 4 \ 2295، كتاب: الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير، ح (2999) (4) سورة العلق الآية 6 (5) سورة الزمر الآية 22 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) . المسلم ذو خير ومنفعة وإصلاح وهداية، فهو بتوفيق الله له دائم الخير والبركة على نفسه وعلى بيته وعلى مجتمعه. [سعادة المجتمع في تطبيق شرع الله وتنفيذ أحكامه] أمة الإسلام، وكما يسعد الفرد بهذا الدين فإن المجتمع أيضا الذي طبق شرع الله، وحكم فيه شرع الله يسعد بذلك، المجتمع المسلم الذي حكم فيه شرع الله وأمر فيه بالمعروف ونهي فيه عن المنكر، وربي جيله التربية الصالحة النافعة، هو المجتمع السعيد المترابط المتماسك الذي هو كالبنيان يشد بعضه بعضا مجتمع يرحم غنيه فقيره، ويحسن قويه إلى ضعيفه، فهو مجتمع متماسك تسوده المحبة والوئام، مجتمع مسلم فيه التراحم والمحبة والمودة، مجتمع تحترم فيه الدماء، وتصان الأعراض، وتحفظ الأموال، مجتمع بين أهله التعاون على الخير والتقوى، فهذا المجتمع السعيد الذي يدعو الإسلام أبناء المسلمين ليكونوا كذلك، فيسعدوا بهذا الدين وتطمئن به نفوسهم قال {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (2) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (3) . أيها المسلمون، إن أعداء الإسلام على اختلاف ضلالاتهم وتباين كفرهم وإلحادهم حاولوا عبثا أن يوجدوا مجتمعا سعيدا بمبادئهم الهدامة وأفكارهم المنحرفة، فعجزوا عن ذلك، ولم يستطيعوا أن يحققوا لمجتمعاتهم السعادة   (1) سورة الرعد الآية 28 (2) سورة طه الآية 123 (3) سورة طه الآية 124 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 التي حققها الإسلام لأبنائه. [عجز غير المسلمين من تحقيق السعادة في مجتمعاتهم، وذلك لفساد مبادئهم وأفكارهم] الرأسماليون غلوا في حرية المال وأعطوا الإنسان الحرية المطلقة في المال يتصرف فيه كيف يشاء، أرادوا أن يحققوا بذلك سعادة لمجتمعهم فعجزوا؛ لأن هذا المجتمع الرأسمالي مجتمع تسود فيه الفوضى، مجتمع متفكك، مجتمع لا تلاحم بين أبنائه، لا يعرف الرجل أباه، ولا يعرف الأب ابنه، يرى الفقير المال الذي بيد الغني فيزداد حقدا على الغني؛ لأنه لا زكاة بينهم، ولا إحسان بينهم، ولا يعطف بعضهم على بعض، إن هي إلا المادة، يركضون وراءها، فنشأت فيهم البطالة، ونشأت بينهم عصابات الإجرام والنهب والسلب؛ لأن هذا المجتمع مجتمع شقي مهما بلغ أهله من رقي الدنيا ما بلغوا. وبضد ذلك المجتمعات الشيوعية التي أرهقت الإنسان وجعلته كالآلة تسخره كيف تشاء، لا رأي ولا حرية عنده، مجتمعهم شقي وإن زعموا أنهم يحققون السعادة، فذلك المجتمع مجتمع متفكك ومجتمع يتمنى في كل آن وحين أن يتخلص من تلك الأغلال والقيود التي أثقلته، فلم يبق سوى الإسلام، دين العدل، ودين الرحمة، ودين المحبة، ودين المواساة، والدين الذي يرعى للإنسانية حقها. [على المسلمين شعوبا وحكاما التمسك بالإسلام وتطبيق أحكامه] أيها المسلمون، تمسكوا بدينكم واعملوا به وطبقوه على مجتمعكم، لتعمكم السعادة ويحصل لكم الخير والهناء. قادة المسلمين، هذا دين الإسلام وتعاليمه السامية فطبقوها بين شعوبكم؛ لتعيشوا أنتم وإياهم في غاية من الأمن والرخاء والاطمئنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 [ما من الله على أهل هذه البلاد من رغد العيش وأمن السبل إنما كان بسبب تمسكهم بالإسلام وتطبيق حدوده] حجاج بيت الله الحرام، اليوم التقى جمعكم في هذا المكان المبارك، وحللتم في هذه البلاد العزيزة، وشاهدتم ما من الله على أهلها من الخير والبركة، من رغد العيش وأمن السبيل، وما يعيشه أهلها في نعمة الله العظيمة التي منحهم الله إياها فضلا منه ورحمة وكرما وجودا، تنظرون إلى هذه النعم العظيمة التي يعيش فيها أبناء هذه البلاد، إنما نالوها بتوفيق الله لهم، ثم بتحكيم شرع الله وتطبيق حدوده، وكون هذا المجتمع المسلم مجتمعا مترابطا، بين قادته ومواطنيه من المحبة والمودة ما الله به أعلم، ارتباطا قائما على تحكيم هذه الشريعة والعمل بها وتطبيقها، فالعدالة سائدة، فهذه البلاد في نعمة عظيمة وبحبوحة من العيش، نعمة الإسلام قبل كل شيء، ثم هذا الأمن والاستقرار الذي عم أرجاءها، ذلك بفضل الله وكرمه. [حرص بلاد الحرمين على تطبيق الشريعة، ووحدة الصف بين أبنائها، والبعد عن الحزبية والطائفية] ذلكم يا عباد الله، أن هذه البلاد عقيدتها عقيدة التوحيد الخالص، ومنهجها تحكيم شرع الله، فليس بينهم حزبية ولا طائفية، ولكن أمة متحدة، تعمل بشرع الله. إن هذه البلاد لم يقتصر خيرها على أبنائها ومن هم داخل بلادها، بل تعدى خيرها لأبناء المسلمين عامة، فهي دائما ترعى مصالح المسلمين، وتسد خلتهم وتعينهم على ما أصابهم من النوائب؛ لأنها ترى ذلك واجبا عليها يفرضه عليها دينها الذي تؤمن به، وتحكمه وتدين الله به، وهذه البلاد الكريمة تحمي مقدسات الإسلام فترى واجبا عليها إسعاف المسلمين ومساعدتهم ومد يد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 العون لهم في كل أرجاء المعمورة، فهذه البلاد -ولله الحمد- تسعى دائما في رأب الصدع بين المجتمعات المسلمة، والتوفيق بينهم وحل كل مشاكلهم على ما تقتضيه الحكمة، فالحمد لله على فضله وكرمه. [على الحجاج أن يشكروا الله على نعمة الهداية للإسلام، وتوفيقهم للوصول إلى هذه البلاد المقدسة] حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله على نعمته عليكم أن هداكم للإسلام، ومكنكم للوصول إلى هذه البلاد المقدسة، لتؤدوا حجكم في أمن واستقرار وطمأنينة، اشكروا الله على هذه النعمة، وادعوا لولاة المسلمين بالتوفيق أن يوفقهم الله ويعينهم ويجزيهم على ما قدموا للإسلام والمسلمين من هذه الخدمات العظيمة، حيث سهلوا للحجاج الوصول إلى بيت الله، وذللوا أمامهم الصعاب، وهونوا عليهم المشاق ليؤدوا مناسك حجهم آمنين مطمئنين. [خطأ كثير من المسلمين في فهمهم الإسلام، وزعمهم أنه يكفي فيه مجرد الانتساب إليه] أيها المسلمون الكرام، إن الكثير من المسلمين -وللأسف الشديد- قد ساء فهمهم لإسلامهم، وتصوروا الإسلام تصورا خاطئا، فمن المسلمين من يظن أن الإسلام يكفي فيه مجرد الانتساب إليه، وأنه متى انتسب إلى الإسلام كان مسلما، حتى وإن أتى بما يناقض أصل الإسلام ويتنافى معه، وهذا من الجهل والخطأ العظيم، أي إسلام لمن عبد غير الله وأشرك مع الله في عبادته؟ أي إسلام لمن طاف بضرائح الأموات يرجوهم تفريج الكربات، يرجوهم جلب النفع ودفع الضر، أي إسلام لذلك؟! والإسلام جاء بمحاربة الشرك والتحذير منه؛ لأن الله إنما بعث نبيه ليدعو الناس إلى عبادة الله ويحذرهم عن الإشراك به سبحانه، ويأمرهم بأن يتوجهوا بقلوبهم إلى الله حبا وخوفا ورجاء، فعبادة غير الله تنافي أصل الإسلام، فلا يقبل الله ممن عبد غيره صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا حجا، بل أعماله كلها مردودة عليه {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) .   (1) سورة الزمر الآية 65 (2) سورة الزمر الآية 66 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أيها المسلمون، احذروا أن تأتوا بما يتنافى مع إسلامكم، البعض من الناس يتصور أن مجرد حجه يسقط عنه الواجبات ويبيح له المحرمات، فتراه إذا حج بيت الله لا يحافظ على هذه الصلوات ولا يؤديها مطلقا، مع أنها الركن الثاني من أركان الإسلام، فأي حج لمن لا يصلي؟ وأي عمل لمن لا يصلي؟! فحافظوا على صلاتكم يا عباد الله، حافظوا على إسلامكم، حافظوا على دينكم، الزموا دين الإسلام، حافظوا على أركانه وواجباته ليكون إسلامكم إسلاما صحيحا. حجاج بيت الله الحرام، ليكن حجكم لبيت الله مفتاح خير لكم وسببا لسعادتكم فيما بقي من أعماركم، ليكن حجكم لبيت الله سببا لصلاح قلوبكم، واستقامة حالكم ومحافظتكم على دين الله، حتى يكون حجكم حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا. [بيان صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم] أمة الإسلام، حجاج بيت الله الحرام، فرض الله الحج على محمد -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته، فحج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة هي حجة الوداع التي ودع فيها الناس، وأخبرهم أنه لا يلقاهم بعد عامه هذا حج بالناس في العام العاشر من الهجرة، وحج المسلمون معه، وكانوا جميعا يتتبعون أقواله -صلى الله عليه وسلم- وأعماله، يقتدون بكل ما يقول ويعمل، وهو -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم عقب كل عمل يعمله: «خذوا عني مناسككم (1) » ؛ ليعلمهم الاقتداء به والتأسي به، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قدوة لكل مسلم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2) .   (1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى وأصله عند مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (10) (2) سورة الأحزاب الآية 21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 [ذكر بعض فوائد خطبة حجة الوداع] وقف -صلى الله عليه وسلم- بعرفة، وصلى بعرفة الظهر والعصر جمعا وقصرا في وقت الظهر، وقبل الصلاة خطب خطبة عظيمة أعلمهم فيها واجبات الإسلام، وقرر فيها قواعد الدين، فقال في خطبته: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا (1) » وأخبرهم أن الله قد ألغى به أمور الجاهلية فقال: «ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دماؤنا، دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف (2) » وألغى دماء الجاهلية، وأوصاهم بالنساء خيرا، وبين ما للنساء من الحقوق، وما عليهن من الواجبات، واستشهد الله عليهم أنه بلغهم رسالة الله، فقالوا له جميعا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع إصبعه إلى السماء ثم نكتها إلى الناس وقال: «اللهم اشهد (3) » أيها المسلمون، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألغى أمور الجاهلية، ألغى مآثر الجاهلية: من فخرها بالأحساب، وطعنها في الأنساب، وتعصبها التعصب المخالف للشرع، أهل الجاهلية قبل الإسلام كانوا يتخذون الحج منبرا للتفاخر   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: العلم، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: '' رب مبلغ أوعى من سامع '' (فتح الباري 1 \209، ح 67) ، ومسلم في صحيحه 2 \889، كتاب: الحج، باب: حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ح (1218) (2) أخرجه مسلم في صحيحه 2 \889، كتاب: الحج، باب: حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ح (1218) (3) انظر التخريج السابق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 بأحسابهم، والتفاخر بأنسابهم، فألغى الإسلام ذلك فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (1) ، ليس في الحج فخر، وليس فيه تنقص لشخص ما من الأشخاص، وإنما الحج إخلاص لله، وعبادة لله، والحجاج إنما قدموا ليتوجهوا إلى الله -عز وجل- ويسألوه من فضله وكرمه، لم يقدموا ليفاخروا، ولا ليهتفوا دعاية لغيرهم، وإنما قدموا إخلاصا لله -عز وجل- وطاعة لله -عز وجل-، هكذا ينبغي أن يكون الحاج المسلم {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2) . [نصائح وتوجيهات للحجاج] حجاج بيت الله الحرام.. قدمتم من بلادكم طاعة لربكم سبحانه وإخلاصا له وابتغاء فضله وكرمه، فتخلقوا بكل خلق كريم، تخلقوا بالحلم والأناة والصبر، كونوا قدوة صالحة؛ فإن الإسلام يدعوكم بأن تكونوا قدوة صالحة يقتدي بكم غيركم، واحذروا من الدعاية المضللة والأفكار المغرضة، الذين لا يبالون بالمسلمين، ولا يحترمون حرمات المسلمين، ولا يحترمون مقدسات المسلمين، يعدون الوصول إلى هذا البيت فخرا وخيلاء، ورفعا لشعارات، وتمجيدا لأشخاص، كل ذلك رفضه الإسلام، فنحن هنا جئنا لندعو الله ونتقرب إليه، ونخلص الدين له سبحانه، لم نأت لغرض ما من الأغراض المشبوهة، فمن حول الحج عن وجهته وصرفه عن مراد الله له، فذلك من الضالين الذين يقول الله فيهم وفي أمثالهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (3) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (4) .   (1) سورة البقرة الآية 198 (2) سورة البقرة الآية 197 (3) سورة البقرة الآية 204 (4) سورة البقرة الآية 205 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 [وجوب احترام قدسية هذه البلاد، وتعظيم مكانتها] إن هذه البلاد المقدسة أشرف بقعة على وجه الأرض، يجب على كل مسلم أن يحترم قدسيتها ومكانتها وفضلها، لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتحا مكة -عليه الصلاة والسلام- خاف أن يظن بعض العرب أن هذه البلاد قد فقدت كرامتها وقدسيتها، فخطبهم في ذلك اليوم قائلا لهم: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، ولم يحرمه الناس، وإنه حرام بتحريم الله إلى يوم القيامة، لا يسفك به دم، ولا ينفر صيده، ولا يختلى خلاه، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف لها (1) » كل ذلك يقرر في نفوس المسلمين حرمة هذا البيت العظيم وشأنه ومكانته، فمن لم يكن في قلبه احتراما لهذا البيت وتقديرا له، فلينظر في إيمانه، فإن في إيمانه شكا. أيها المسلمون، احذروا من دعاة السوء ودعاة الضلال الذين تسموا بالإسلام، والله يعلم أنهم برآء منه، وأنهم بعيدون عن الإسلام كل البعد، فإسلامنا -ولله الحمد- دين واضح، مبني على كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا نرضى به بديلا، ولا نقيم غيره مقامه، إلى أن نلقى الله عليه بتوفيق الله ورحمته، لقد أكمل الله لنا الدين وأتم لنا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) . أيها المسلمون، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألغى ربا الجاهلية، وحرمها، إن الربا من كبائر الذنوب، أنزل الله في تحريمه آيات محكمات هن من   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الجزية، باب: اسم الغادر للبر والفاجر، (فتح الباري 6 \348، ح 3189) ، ومسلم في صحيحه 2 \986، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمن لمنشدها على الدوام، ح (1353) ، ولفظهما: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها) (2) سورة آل عمران الآية 85 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 آخر القرآن نزولا، لم يأت ما ينسخها ولا ما يخصصها، فمن استحل هذا الربا بعد قيام الدليل عليه ومعرفته بحكم الله فيه، فإنه مرتد خارج عن الإسلام، فواجب المسلمين جميعا أن يتقوا الله في معاملاتهم، وأن يحرروا اقتصادهم من الربا، فإن فيما أباح الله غنية عما حرم الله. [فضل يوم عرفة] أيها المسلمون، إنكم اليوم في يوم عظيم من أيام الله، يوم مبارك، خير أيام الله وأفضلها على الإطلاق، يوم عرفة ذلكم اليوم العظيم الذي عظم الله شأنه وأقسم به في كتابه العزيز، ذلكم اليوم الذي نالت به الأمة المحمدية غاية عزها ومجدها عندما أكمل الله لها الدين وأتم عليها النعمة ورضي لها الإسلام دينا. أيها الحجاج الكرام، توجهوا بقلوبكم إلى ربكم، اسألوه من فضله وكرمه، فإنه قريب مجيب، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) ، في هذا اليوم المبارك يتجلى الله لعباده، ينزل إلى سمائه الدنيا نزولا يليق بجلاله، يباهي بكم ملائكته، يقول: «انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا ضاحين، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم (2) » أفيضوا مغفورا لكم ولمن شفعتم فيه، لقوله -صلى الله عليه وسلم- «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (3) » فأروا الله من أنفسكم خيرا. [على الحجاج أن يكثروا من ذكر الله ودعائه والالتجاء إليه في هذا اليوم] أكثروا في هذا اليوم من ذكر الله وتعظيمه والثناء عليه، أكثروا من لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير احفظوا جوارحكم مما حرم الله، يقول –صلى الله عليه وسلم-: «هذا يوم من ملك (4)   (1) سورة البقرة الآية 186 (2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 4\ 263، كتاب: الحج، باب: تباهي الله أهل السماء بأهل عرفات، ح (2840) ، وابن حبان في صحيحه 9 \164، كتاب: الحج، باب: ذكر رجاء العتق من النار لمن شهد عرفات يوم عرفة، ح (3853) (3) أخرجه مسلم في صحيحه 2 \982، كتاب: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويم عرفة، ح (1348) (4) أخرجه أحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له» إن عدو الله إبليس لم ير في يوم هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام (1) فعدو الله إبليس يغيظه اجتماعكم، يغيظه دعاؤكم، أروا الله من أنفسكم خيرا وأغيظوا عدو الله، وأخلصوا لله نياتكم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يقبل الدعاء من قلب ساه لاه. مدوا أكف الضراعة إلى ذي الجلال والإكرام اسألوه لأنفسكم الهداية والثبات على دين الإسلام، ولوالديكم المغفرة والتجاوز، ولذرياتكم الصلاح والهداية، وللمسلمين جميعا التوفيق والاستقامة على الطريق المستقيم، اغتنموا بقاءكم في هذا المكان واسألوا الله من فضله وكرمه؛ فإن الله قريب مجيب لمن دعاه بيقين وإخلاص، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين (2) » [بيان أعمال يوم عرفة وبقية أعمال الحج] أيها المسلمون، قفوا بعرفة حتى تغرب الشمس، اقتدوا بنبيكم، فإن نبيكم لم يزل واقفا حتى غربت الشمس وغابت الصفرة قليلا وغاب القرص، قفوا بعرفة وتأكدوا من حدودها، واسألوا إن أشكل عليكم، ولا تنصرفوا إلا بعد أن تغرب الشمس، وصلوا الظهر والعصر جمعا وقصرا كما سنفعله إن شاء الله بعد قليل. أيها الحجاج الكرام، لا تنصرفوا إلا بعد غروب الشمس، ثم انصرفوا إلى   (1) أخرجه مالك في الموطأ وعبد الرزاق في مصنفه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (16) (2) أخرجه الترمذي في سننه 5 \556، كتاب الدعوات، باب: (بدون) ، ح: (3556) ، وأبو داود في سننه 2 \78، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء ح (1488) ، واللفظ للترمذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 مزدلفة، والزموا السكينة والوقار في كل حركاتكم وليكن بينكم التعاون والتسامح في كل أحوالكم. وصلوا المغرب والعشاء جمعا وقصرا بمزدلفة، وبيتوا بها إلى بعد نصف الليل، أو إلى أن تصلوا بها الفجر، وذلك أكمل، ثم انصرفوا إلى منى وارموا جمرة العقبة، ثم احلقوا أو قصروا رؤوسكم، وإن كنتم متمتعين أو قارنين، فارموا ثم انحروا ثم احلقوا أو قصروا، وقد حل لكم كل شيء حرم عليكم بالإحرام إلا النساء، ثم طوفوا طواف الإفاضة، واسعوا بين الصفا والمروة إن كنتم متمتعين، وإن كنتم قارنين أو مفردين ولم تسعوا مع طواف القدوم، فاسعوا بعد طواف الإفاضة، ثم حل لكم كل شيء حرم عليكم بالإحرام، وارموا الجمار في اليوم الحادي عشر والثاني عشر، تبتدئون بالأولى ثم الوسطى ثم العقبة، ترمون سبع حصيات لكل واحدة، وهكذا في اليوم الثاني عشر إن تعجلتم، وإلا في اليوم الثالث عشر إن تأخرتم. ويوم النحر يبدأ من منتصف ليلته إلى غروب شمس يومه، كل هذا وقت للرمي، وأيام التشريق بعد الزوال، ومن عجز عن الرمي في يوم النحر أو في يوم الحادي عشر وأخره إلى الثاني عشر فلا مانع من ذلك، على أن يرتب رمي الجمار كل يوم مستقل وحده. [نصائح للقائمين على أمور الحجاج] أيها المطوفون، أيها القائمون على الحجاج، اتقوا الله في أمانتكم فإنكم مسئولون عما خولتم من أمور الحجاج، لا تخلوا بمناسكهم، قفوا بهم المواقف المشروعة، والتزموا الشرع في كل أحوالكم لعلكم تفلحون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أسأل الله أن يجعل حجنا مبرورا، وسعينا مشكورا، وذنبنا مغفورا، اللهم وفق المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم ألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم وفق إمام المسلمين وولي عهده والنائب الثاني لما تحبه وترضاه، اللهم أمدهم بعونك وتوفيقك، واجزهم عما قدموا الحجاج والمسلمين جمعيا خير الجزاء والثواب، ومتع المسلمين بحياتهم، فإن على المسلمين لهم حقا أن يدعوا لهم بما قدموا لهم من التسهيلات العظيمة. أعاده الله علي وعليكم وعلى جميع المسلمين باليمن والبركة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، صلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 خطبة عام 1405 الهجري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (1) أما بعد: [الوصية بتقوى الله -عز وجل-، وأن أعظم نعمة من الله بها على المؤمنين أن هداهم للإسلام] أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى. عباد الله، إن أعظم نعمة من الله بها على المؤمنين أن هداهم للإسلام، ومن عليكم بمعرفة الإسلام وقبوله والعمل به، فتلكم يا عباد الله نعمة عظمى لا تساويها أي نعمة، سائر النعم بعدها مزيد فضل وإحسان من رب العالمين، ولقد ذكر الله عبادة المؤمنين هذه النعمة وعرفهم قدرها وبين لهم فضلها: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2) كان الناس قبل الإسلام في ضلال مبين، لا يعرفون حقا من باطل، ولا يميزون هدى من ضلال، يعيشون في جهالة عمياء، لا يفرقون بين معروف ومنكر، حتى جاء الله بالإسلام فهداهم به بعد العماية، واستنقذهم به من   (1) سبق تخريج خطبة الحاجة في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (1) (2) سورة آل عمران الآية 164 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الضلالة {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} (1) . أيها المسلم، اعرف قدر الإسلام، اعرف قدر هذه النعمة واحمد الله عليها، وأد واجب شكر هذه النعمة بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، اشكر الله على أن هداك لهذا الدين وقد أضل عنه الأكثرين {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (2) {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (3) ، وقال منوها بشأن هذه النعمة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (4) فاعرف قدر هذه النعمة وازدد لله شكرا وثناء، لقد ذكر الله عن المؤمنين الراسخين في العلم الذين عرفوا قدر هذه النعمة أنهم في كل آن وحين يسألون الله الثبات على الإسلام، قال -جل جلاله- مخبرا عنهم في دعائهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (5) ، فاسألوا الله إذ هداكم للإسلام أن يثبتكم عليه وأن لا يزيغ قلوبكم عنه. [أصل هذا الدين وقاعدته التي بني عليها هو تحقيق الشهادتين] أيها المسلمون، إن أصل هذا الدين وأساسه وقاعدته التي بني عليها تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فهذان ركنا التوحيد الذي لا يستقيم إسلام عبد إلا بتحقيق هاتين الكلمتين، فشهادة أن لا إله إلا الله تحقيقها إخلاص الدين لله، أن تكون عبادتك كلها خالصة لله، لا شريك لله في ذلك، هذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، أن تصرف جميع أنواع العبادة لمستحقها وهو الله جل جلاله: فدعاؤك لله وحده لا تدعو معه غيره، لا تذبح إلا لله، لا تنذر إلا لله، لا تستغيث إلا بالله، لا ترجو إلا الله،   (1) سورة آل عمران الآية 103 (2) سورة الأنفال الآية 22 (3) سورة الأنفال الآية 23 (4) سورة الزمر الآية 22 (5) سورة آل عمران الآية 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 لا تخاف الخوف الحقيقي إلا من الله، فالله معبودك تألهه قلبك حبا وخوفا ورجاء. إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله تحتم على العبد إخلاص الدين لله، والبراءة من كل معبود سوى الله، بأن يعتقد اعتقادا جازما أن العبادة حق لله لا حق لمخلوق كائنا من كان في شيء منها {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (1) ، شهادة أن لا إله إلا الله تقتضي نفي العبادة عن كل ما سوى الله، وإثبات العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له. [خلق الله الجن والإنس لتحقيق شهادة: أن لا إله إلا الله] أمة الإسلام، شهادة أن لا إله إلا الله هي الكلمة التي لأجل تحقيقها والقيام بها خلق الله الثقلين الجن والإنس: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) ، فما خلق الثقلان إلا ليعمروا الأرض بطاعة الله، ويقيموا عليها دين الله. [كلمة التوحيد هي مرتكز دعوة جميع الرسل عليهم السلام] أمة الإسلام، كلمة التوحيد: لا إله إلا الله مفتاح دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، فما بعث الله رسولا من رسله إلا ابتدأ قومه بدعوتهم إلى تحقيق لا إله إلا الله، إلى العمل بمقتضى كلمة التوحيد لا إله إلا الله، هكذا ابتدأ الرسل دعوتهم إلى قومهم من نوح -عليه السلام- إلى آخرهم وسيدهم وأكملهم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (3) ، وهكذا قال هود لقومه، وصالح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وسائر أنبياء الله، ابتدءوا دعوتهم بالدعوة إلى التوحيد الخالص، إلى إخلاص الدين لله   (1) سورة لقمان الآية 30 (2) سورة الذاريات الآية 56 (3) سورة الأعراف الآية 59 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وترك عبادة غير الله -عز وجل- كائنا من كان، بين الله ذلك في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) ، وأخبر تعالى أن الحكمة من إرسال الرسل دعوة الخلق إلى عبادة الله وتحذيرهم من عبادة ما سواه {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) . أمة الإسلام، إن هذه الكلمة العظيمة لا يكفي أن ننطق بها باللسان، بل لا بد أن نعمل بمقتضاها وما دلت عليه علما وعملا، صدقا وإخلاصا ويقينا، فإنها كلمة عظيمة، من لقي الله بها مخلصا من قلبه دخل الجنة، ومن كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة، ولكن لا بد من اعتقاد ما دلت عليه من نفي كل معبود سوى الله، وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له. [بعض الأعمال المناقضة لمقتضى (لا إله إلا الله) ] أمة الإسلام، كم من أناس يقولون: لا إله إلا الله. ولكن يأتون بما يضادها ويهدم أساسها، ويقضي على ما دلت عليه، يقولون: لا إله إلا الله. وترى منهم تعظيما لغير الله، عبادة لغير الله، صلاة لضرائح الأموات، تقريب القربان لهم، وفي الشدائد يهتفون بأسمائهم ويدعونهم من دون الله، يستغيثون بهم من دون الله، يسألون الأموات والغائبين تفريج الكربات وإزالة الهموم ورفع البلاء، وكل ذلك مناقض لمقتضى لا إله إلا الله، فإن هذه الكلمة قائلها إخلاص الدين الله. [أول ما بدأ به النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الله (لا إله إلا الله) ] ولما بعث الله عبده ورسوله محمدا خاتم الأنبياء والمرسلين، ابتدأ بالدعوة إلى لا إله إلا الله، فطالب قومه العرب أن ينطقوا بها ويعملوا بمقتضاها وما دلت عليه، فلما علم القوم أن هذه الكلمة تفرض عليهم خلع كل معبود سوى الله،   (1) سورة الأنبياء الآية 25 (2) سورة النحل الآية 36 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وتلزمهم إخلاص الدين لله والبراءة من كل معبود سوى الله، أبوا أن يتكلموا بها، أبوا أن ينطقوا بها وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1) ، وقال الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (2) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (3) ، فما زال -صلى الله عليه وسلم- يدعو قومه للا إله إلا الله، ويقيم الحجج والبراهين على صحة التوحيد ووجوب إفراد الله بالعبادة، ويدحض شبه المشركين القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) . مكث بمكة بضع عشرة سنة مهمته الأساسية الدعوة إلى توحيد العبادة، إلى إخلاص الدين لله، إلى إزالة الشرك، إلى تثبيت العقيدة في قلوب العباد؛ لأن التوحيد هو الأساس، والأعمال كلها تابعة ومتممة له، إنما الأساس تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، إيمانا بالله، وإفرادا لله بكل أنواع العبادة، وبراءة تامة من كل معبود سوى الله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (5) ، لا بد من التوحيد، من البراءة من كل معبود سوى الله، واعتقاد أن من عبد غير الله فإنه ضال ضلالا مبينا، مهما كان قصده، ومهما كانت نيته. [معنى شهادة أن محمدا رسول الله] أمة الإسلام، وثاني الشهادتين اللتين هما أصل الدين وقاعدته: شهادة أن محمدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومعناها: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع. ومن تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله الإيمان برسالته صلى الله عليه   (1) سورة ص الآية 5 (2) سورة الصافات الآية 35 (3) سورة الصافات الآية 36 (4) سورة الزمر الآية 3 (5) سورة البقرة الآية 256 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وسلم، والإيمان بأنه عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، أرسله إلى الناس جميعا برسالة شاملة تامة، افترض على العباد طاعته، نسخ بشريعته كل الشرائع، وألزم الخلق كلهم طاعته ومحبته والإيمان به، فإن أصل محبته أصل الإيمان وكمالها كمال الإيمان. [الخصال التي تتحقق بها شهادة أن محمدا رسول الله] تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله: أن تؤمن بأن هذا الرسول الكريم هو واسطة بين الله وبين عباده في تبليغ شرعه ودينه، وأنه لا طريق لنا إلى معرفة دين الله والوصول إلى رضا الله إلا من طريق هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- تسليما كثيرا، يحبه المؤمن محبة فوق محبة المال والأهل والولد والنفس والناس أجمعين، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين (1) » «قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم- مرة وهو آخذ بيده: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- " لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر (2) » طاعته -صلى الله عليه وسلم- من طاعة الله -عز وجل-: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) ، فتطيع أمره وتجتنب نهيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) ، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (6)   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، (فتح الباري 1 / 80، ح 15) ، ومسلم في صحيحه 1 / 67، كتاب: الإيمان، باب: وجوب محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، ح (44) ، واللفظ لمسلم، وعند البخاري (والده) (2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب: كيف كان يمين النبي -صلى الله عليه وسلم- (فتح الباري 11 / 641، ح 6632) (3) سورة النساء الآية 80 (4) سورة الحشر الآية 7 (5) سورة النور الآية 51 (6) سورة النور الآية 52 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وعليك مع ذلك تصديق خبره -صلى الله عليه وسلم- {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) . [من مقتضيات الإيمان تعظيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وموالاته والسير على نهجه] أمة الإسلام، إن المؤمن حقا هو من كان في قلبه تعظيم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي قلبه حب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي قلبه موالاة لرسول الله {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) ، يجد نفسه حريصا على اتباع هذا النبي الكريم واقتفاء أثره والسير على نهجه، يصلي كما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يحج كما حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يسير في منهج حياته على وفق الهدي النبوي الكريم، هكذا حال المحبين له الذين سيردون حوضه إن شاء الله، وسيحشرون في زمرته، وسيدخلون الجنة معه بفضل الله وكرمه، فعظموا سنة رسول الله وأحبوا رسول الله محبة من أعماق القلوب، قدموا سنته على قول كل أحد كائنا من كان، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (3) » [جعل بعض الجهال محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيلة للغلو فيه] أمة الإسلام، إن البعض من الجهال حرفوا وغيروا هذه المحبة الشرعية وعدلوا بها عن حقيقتها، واتخذوا من محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيلة للغلو فيه وإطرائه وتعظيمه فوق تعظيم الله -عز وجل-، فأولئك قد حرفوا الكلم عن   (1) سورة الزمر الآية 33 (2) سورة الأعراف الآية 157 (3) أورده ابن حجر في فتح الباري 13 \ 358 في شرح حديث (7308) وعزاه إلى الحسن بن سفيان، ووثق رجاله، وقال: صححه النووي في آخر الأربعين، وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح 1 \ 59 عن ابن عمر -رضي الله عنه- ومن هذا الباب: قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران: 31] قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: '' لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ''. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاواه 22 \ 240 بعدما ساق آيات عديدة في هذا المعنى: فتبين أن على العبد أن يتبع الحق الذي بعث الله به رسوله ولا يجعل دينه تبعا لهواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 مواضعه، وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم، فحبنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يقتضي أن نصرف له شيئا من أنواع العبادة، فالعبادة بكل أنواعها حق لله -عز وجل-، وقد أمره الله أن يقول: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (1) {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (2) {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} (3) ، فهو إنما بعث ليدعو العباد إلى عبادة الله، ما بعث ليعظم من دون الله، ولا ليستغاث به من دون الله، ولا ليستنصر به من دون الله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (4) {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (5) ، وهو -صلى الله عليه وسلم- من أعظم الناس بعدا عن الشرك، حذرنا أن نغلو فيه فقال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (6) » وقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله (7) » [حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته قبل أن يموت عن الغلو فيه] ولما علم -صلى الله عليه وسلم- أن سبب ضلال الضالين قبلهم من الأمم غلوهم في أنبيائهم حذر أمته من ذلك، فقال -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بثلاث: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك (8) » بل في سياق الموت وهو يعاني سكرات الموت وأهواله وكربه لم يمنعه من ذلك من أن ينصح أمته   (1) سورة الجن الآية 21 (2) سورة الجن الآية 22 (3) سورة الجن الآية 20 (4) سورة آل عمران الآية 79 (5) سورة آل عمران الآية 80 (6) أخرجه النسائي في سننه 5 \ 268، كتاب: مناسك الحج، باب: التقاط الحصى ح (3057) واللفظ له، وابن ماجة في سننه 1 \1008، كتاب الحج، باب: قدر حصى الرمي، ح (3029) ، وأحمد في مسنده 1 \215، واللفظ للنسائي (7) أخرجه البخاري في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (5) (8) أخرجه مسلم في صحيحه 1 \377، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، ح (532) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ويحذرهم من أسباب الشرك، قالت عائشة -رضي الله عنها-: «لما نزل برسول الله – أي نزل به الموت – جعل يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها وقال: " لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا (1) » ولولا ذلك لأبرز الصحابة قبره، غير أنهم خشوا أن يتخذ مسجدا، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » فإذا كان هذا في حقه -صلى الله عليه وسلم- فكيف هو حال من دونه ممن يغلى فيه ويعظم من دون الله، ويستغاث به من دون الله، ويطاف بضريحه من دون الله، وتقرب القرابين له من دون الله؟! تعالى الله عما يقوله الكافرون والظالمون علوا كبيرا. [على العلماء أن يدعوا إلى الله على علم وبصيرة، والدعوة إلى العقيدة الصحيحة ومحاربة كل ما ينافيها ويناقضها ويكدر صفوها] علماء الإسلام، إن الله ائتمنكم على ما حملكم من العلم، فأدوا أمانة العلم، ادعوا إلى الله على علم وبصيرة، بصروا المسلمين في دين الله، حذروهم مما شاب عقيدتهم الصحيحة من البدع والجهالات، أروهم الحق حقا والباطل باطلا، ادعوا إلى الله على علم وبصيرة بحكمة وموعظة حسنة، أوضحوا دين الله لتكونوا من القائمين بالعلم حق القيام، أوضحوا وأرشدوا وبينوا، والله -جل جلاله- يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (3) ، أدوا أمانة العلم التي حملكم الله إياها، وإن لم تفعلوا فاحذروا سخط الله، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (4) ،   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في البيعة، (فتح الباري 1 \700، ح 435، 436) ، ومسلم في صحيحه 1 \377، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، ح (531) ، واللفظ للبخاري (2) أخرجه مالك في الموطأ، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (6) (3) سورة الكهف الآية 29 (4) سورة البقرة الآية 159 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فكونوا علماء حق ودعاة خير وهدى. دعاة الإسلام، دعاة الإصلاح، إن كل داع إلى الله لا بد أن يسير في دعوته على الطريق الذي سار عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنه-، ومن سلك طريقهم واتبع أثرهم، فهو الطريق الصحيح والمنهج القويم الذي يحقق للداعي إلى الله قبولا وثباتا بتوفيق الله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) ، هكذا يكون الداعي المخلص، هكذا يكون الداعي الصادق، وكم من دعوات تدعو إلى الإسلام وينادي أهلها بأنهم دعاة الإسلام وهم بعيدون عن منهج محمد -صلى الله عليه وسلم-، لا يهتمون بشأن التوحيد ولا يهتمون بالعقيدة، بل لهم نظم وأمور أخرى الله أعلم بحالها، تسموا بالإسلام وتستروا به، والله يعلم ما وراء ذلك، إن هم إلا كما قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} (2) ، فالداعي المخلص هو الذي دعا إلى التوحيد الذي دعا إليه محمد -صلى الله عليه وسلم-، تلكم هي الدعوة الباقية والدعوة الصالحة المعتمدة على المنهج السليم. [خيرية هذه الأمة، وإنها لا تجتمع على خطأ] أمة الإسلام، أمة القرآن، أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أنتم الأمة المرحومة، أنتم الأمة المعصومة، أنتم خير الأمم وأحبها إلى الله، أنتم خير أمة أخرجت للناس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (3) ، جمع الله لكم الخير من أطرافه، فبعث الله فيكم سيد ولد آدم، أفضل أنبيائه وأشرفهم على الإطلاق، وأنزل عليه خير كتبه مهيمنا على ما سبق، واختار الله لكم أكمل الدين وأتمه   (1) سورة يوسف الآية 108 (2) سورة الأنعام الآية 159 (3) سورة آل عمران الآية 110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ورضي لكم الإسلام دينا، ضمن لكم العصمة على أن لا تجتمعوا على خطأ، جعل دينكم باقيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. أيها المسلمون، إن أعداءكم يحسدونكم على هذا الشرف العظيم، ويريدون أن يجعلوكم تابعين لهم بعدما كانوا تابعين لكم {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (1) ، يريدون أن يشككوكم في إسلامكم، يشككوكم في دينكم، يضعفوا ثقتكم بهذا الدين، حتى يسوء ظنكم بإسلامكم فتفتقدوا قيمتكم ومكانتكم {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (2) ، فإن تمسكتم بهذا الدين كانت لكم الكلمة العليا، وكنتم خير أمة أخرجت للناس. [الإشارة إلى محاسن الدين الإسلامي وإن فيه سعادة الدنيا والآخرة] أمة الإسلام، إن أعداءكم يزعمون أن تخلفكم إنما هو نتيجة تمسككم بهذا الدين ويأبى الله، فهذا الدين دين القوة والعزة، دين الرقي والتقدم، دين يوازن بين الحياة الدنيا والآخرة، دين يدعو أتباعه إلى الجد والنشاط، وإلى العمل الدائم، يدعوهم إلى استغلال الخيرات، إلى عمارة الأرض بطاعة الله، إلى أن يستعملوا نعم الله فيما يقربهم إلى الله {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (3) ، دين فيه سعادة الدنيا والآخرة، فإن أي تخلف، وإن أي بلاء في الأمة الإسلامية إنما سببه البعد عن هذا الدين، إنما سببه التخلف عن تعاليم الشريعة، يقول الله -عز وجل-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (4) ،   (1) سورة البقرة الآية 109 (2) سورة النساء الآية 89 (3) سورة سبأ الآية 13 (4) سورة الأعراف الآية 96 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فتمسكوا بهذا الدين واعملوا به تفلحوا. أمة الإسلام، احذروا مكائد أعدائكم الذين يحاولون تفريق صفوفكم وتشتيت شملكم، يحاولون أن يجعلوا بعضكم عدوا لبعض، يصنعون أسلحة الدمار والخراب ليقتل به بعضكم بعضا. فيا أمة الإسلام، عودوا إلى الإسلام، عودوا إلى تعاليمه وقيمه، عودوا إلى مبادئه السامية، لنكون خير أمة أخرجت للناس كما أراد الله لنا ذلك، ولنكون أخوة متحابين متراحمين مترابطين كما وصفنا الله بذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) . [على الأمة المسلمة أن تحذر من مكائد أعدائها الذين يحاولون تفريق صفوفها] أمة الإسلام، إن أمن الأمة الإسلامية مسئولية ملقاة على عاتق المسلمين جميعا، إذ المسلمون كالجسد الواحد يتألم الكل بتألم البعض منهم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (2) » فالأمة الإسلامية جزء لا يتجزأ، أفيرضى منتسب للإسلام ومتسم به أن يكون نصير إجرام أو إرهاب؟ أفيسمح لنفسه أن يكون منطلق الإجرام والإضرار بالمسلمين؟! كلا لا يرضى بذلك مسلم، بل المسلم يهمه استقامة إخوانه المسلمين، يهمه استقرارهم وأمنهم وطمأنينتهم، ولا يرضى أن يكون جسرا يعبر عليه أعداء الإسلام، ليفرقوا شمل الأمة ويضربوا بعضها ببعض، فالمسلم عين ساهرة على مصالح المسلمين في شرق الأرض أو غربها، هكذا يريد الإسلام منا، فلنكن كذلك.   (1) سورة الحجرات الآية 10 (2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، (فتح الباري 10 \ 537، ح 6011) ، ومسلم في صحيحه 4 \1999، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، ح (2586) ، واللفظ لمسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 [الحج مظهر وحدة المسلمين وقوة دين الإسلام وعظمته] حجاج بيت الله الحرام، اليوم وقد انتظم شملكم في هذا المكان المبارك أتيتم من أماكن شتى، من أقطار الدنيا استجابة لأمر الله وتلبية لنداء الخليل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (1) {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (2) ، تلكم المنافع التي تعود على القلوب بالصلاح والاستقامة، خرج المسلم من بلده، فارق أهله ووطنه وماله طاعة لربه، ارتدى لباس الإحرام طاعة لربه، وقد طاف بالبيت وبالصفا والمروة ووقف في تلكم المشاعر كلها طاعة لله وتنفيذا لأمر الله، فيعود ذلك على إيمانه بالقوة والثبات، إنه يرى عظمة الإسلام، فهذه الأمة المجتمعة متباينة أقطارهم، مختلفة ألوانهم وأجناسهم، جمعتهم قوة الإيمان ووحدتهم رابطة الإسلام، إن المسلم وهو يرى هذا الإسلام ويرى تمسك المسلمين به، ليتذكر أيضا قضية أخرى، وهو أن هذا الدين قد تكفل الله بنصره، لم يكل نصره للرجال، فكل جيل يخلف من قبله، فلو كان أمره للرجال لا نقضي بانقضائهم، ولكن الله تكفل به {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) . [على الحجاج أن يشكروا الله على أن وفقهم للوصول إلى هذا البلد الأمين] حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله على نعمته أن وفقكم للوصول إلى هذا البلد الأمين، وجدتم هذا البلد آمنا مطمئنا يعيش في رغد من العيش، في أمن واستقرار وطمأنينة، يعيش متكاتفا متحابا متعاونا بين الشعب، والقيادة أعظم تعاون وترابط، كل ذلك بفضل الإسلام وبفضل تحكيم هذه الشريعة وإقامة حدود الله وتنفيذ شرع الله، فتلك آثار هذه العقيدة الصحيحة، نسأل الله لنا ولهم الثبات على الحق، والاستقامة على الهدى.   (1) سورة الحج الآية 27 (2) سورة الحج الآية 28 (3) سورة الحجر الآية 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أمة الإسلام، إن من يعيد النظر في تاريخ الأمة الإسلامية يرى أن المسلمين بعد القرون الأولى يعانون أشد المتاعب والمشاق للوصول إلى بيت الله الحرام، يعانون المشاق والمتاعب ما بين قطاع طرق، وما بين قلة في الماء والطعام وغير ذلك، ولكن الله بفضله وكرمه من في هذه العصور الأخيرة بهذه الحكومة الرشيدة التي نذر رجالها أنفسهم خدمة للإسلام والمسلمين، ورأوا أن خدمة الحجيج عملا صالحا يتقربون به إلى الله، بذلوا كل جهدهم في سبيل راحة الحاج، يأتي الحاج من بلده لا سلاح يصطحبه ولا طعام يحمله، إنما يرى الأمن والرغد، كل ذلك بفضل الله ورحمته، فنسأل الله لهم التوفيق والإعانة، وأن يجازيهم عما فعلوا بالمسلمين خيرا. إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعدي بن حاتم: «هل رأيت الحيرة "؟ قال: قلت: لم أرها، وقد أنبأت عنها. قال: " فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحد إلا الله (1) » لقد تحقق ذلك في القرون الأولى وفي هذا الزمن – ولله الفضل والمنة –، فهذا البلد الحرام فيه أمن واستقرار وطمأنينة، نسأل الله أن يوفق قادة هذه البلاد لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلهم أئمة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن ينصر بهم دينه ويعلي بهم كلمته ويخذل بهم أعداءه. [الحج فريضة العمر، من أداها فقد أدى الواجب] حجاج بيت الله الحرام، إن الله افترض الحج على أمة الإسلام، وجعلها فريضة العمر، من أداها في عمره مرة فقد أدى الواجب {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (2) .   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1403 هـ) ، الهامش (8) (2) سورة آل عمران الآية 97 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 [بيان صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم] حج نبيكم -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة في عمره هي حجة الوداع، حجها في العام العاشر من الهجرة، وصار المسلمين معه ينظرون إلى أقواله وأعماله، يقتفون أثره ويسرون على منهاجه، وهو يقول لهم عقب كل قول يقوله أو عمل يفعله: «خذوا عني مناسككم، لعلي لا أراكم بعد عامي هذا (1) » وقف بعرفة وقال: «كل عرفات موقف، وارفعوا عن بطن عرنة (2) » وأخبر أن «الحج عرفة (3) » وصلى في هذا المكان الظهر والعصر جمعا وقصرا، كما سنفعله إن شاء الله، وذلك ليتفرغ الحاج للذكر والابتهال والاستغفار، خطبهم قبل ذلك خطبة بين لهم فيها حرمة الدماء والأموال وحرمة الربا، وألغى مسائل الجاهلية، واستشهدهم على أنه قد بلغهم فقال لهم: «ألا هل بلغت؟ " (5) » والمسلم يشهد حقا أنه قد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده. «وقف نبيكم بعرفة إلى أن غربت الشمس، وحذرهم من الانصراف من عرفة حتى تغرب الشمس قائلا لهم: " هدينا مخالف لهديهم (6) » انصرف بعد ذلك لمزدلفة بسكينة ووقار، وصلى بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا، وبات بها وأذن للضعفة في الانصراف عن مزدلفة بعد نصف الليل، صلى بمزدلفة الفجر ثم أفاض إلى منى فرمى الجمرة ونحر هديه وحلق رأسه، ثم طاف بالبيت صلوات الله وسلامه عليه. فكن أيها الحاج مقتفيا أثر نبيك، قف بعرفة إلى الغروب ولا تنخدع بمن   (1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والبيهقي في السنن الكبرى، وأصله عند مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (9) (2) أخرجه أحمد في مسنده 4\82، وابن خزيمة في صحيحه 4\254، كتاب: المناسك، باب: الزجر عن الوقوف بعرفة، ح (2816) ، والبيهقي في السنن الكبرى 9 \ 295، كتاب: الحج، باب: الأضحية في السفر، ح (19021) (3) أخرجه الترمذي في سننه، والنسائي في سننه، وابن ماجه في سننه، وأحمد في مسنده، وسبق تخريجه في خطبة عام (1403 هـ) ، الهامش (12) (4) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (13) (5) (4) قالوا: نشهد أنك أديت ونصحت وبلغت، فرفع إصبعه إلى السماء ونكتها إلى الناس وقال: " اللهم اشهد (6) يعني أهل الشرك والأوثان، والحديث أخرجه الشافعي في مسنده ص 369، والبيهقي في السنن الكبرى 5 \ 125، كتاب: الحج، باب: الإيضاع في وادي محسر، ح (9304) عن المسور بن مخرمة -رضي الله عنهما- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرفة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: '' أما بعد: فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هاهنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم، وكانوا يدفعون من المعشر الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم '' الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 يقول: ادفع قبل الغروب، بت بمزدلفة إلى أن يمضي معظم الليل، وإن شئت أكمل فصلي بها الفجر، ارمي الجمرة بعد نصف الليل، وإن أردت الكمال فبعد طلوع الشمس، انحر هديك إن كنت متمتعا أو قارنا، واحلق رأسك ثم طف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة، وإن قدمت شيئا على شيء فلا حرج عليك، لو قدمت الحلق قبل الرمي، أو النحر قبل الرمي، أو الطواف قبل الرمي، فلا حرج عليك؛ تيسير وتسهيل من الله، بت أيها الحاج بمنى ليالي التشريق، وارمي الجمار في اليوم الحادي عشر الأولى والوسطى والعقبة بعد زوال الشمس، وكذلك في اليوم الثاني عشر، ثم ودع البيت وانصرف مقبولا منك أعمالك بتوفيق الله. [فضل يوم عرفة] أيها المسلمون، هذا يوم عظيم من أيام الله، هذا يوم عرفة من أفضل أيام الله وأشرفها وأجلها، يوم المباهاة، «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (1) » إن الله يباهي عشية عرفة بأهل عرفة ملائكة السماء يقول: «انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم (2) » "، «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام (3) » فارفعوا إلى ربكم أكف الضراعة، ادعوه مخلصين له الدين الجئوا إلى الله في محو ذنوبكم وخطاياكم سلوه الثبات على الإسلام سلوه أن يتقبل حجكم.   (1) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404 هـ) ، الهامش (11) (2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404 هـ) ، الهامش (10) (3) أخرجه مالك في الموطأ، وعبد الرزاق في مصنفه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 [على المسلمين المحافظة على إسلامهم بأداء أركانه وسائر أحكامه] أمة الإسلام، حافظوا على إسلامكم إن البعض من المسلمين يتصور أنه إذا حج فقد سقط عنه واجبات الإسلام، وكل ذلك من الجهل والغلط، فيا أيها المسلم حافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها، إياك والتهاون بها؛ فإن تركها كفر ناقل عن ملة الإسلام، أد زكاة مالك، حافظ على شرائع دينك، كن أمينا في معاملاتك. [توصية شباب الإسلام بتقوى الله والمحافظة على تعاليم دينهم] يا شباب الإسلام، اتقوا الله في أنفسكم وحافظوا على دينكم، وكونا شبابا صالحا، مثلوا الإسلام في أقوالكم وأعمالكم، أظهروا آداب الإسلام وفضائله، بينوا محاسنه ليقتدي بكم غيركم، واحذروا أن تكونوا فتنة لأعداء الإسلام إذا رأوا منكم انحرافا عن الصراط المستقيم، أساءوا الظن بهذا الدين وأهله، فكونوا دعاة خير ودعاة صلاح، تمسكوا بهذا الدين واعملوا به، واسألوا الله الثبات عليه. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن توفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم اغفر لأموات المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم إنا نسألك في هذا اليوم المبارك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، اللهم اجعلنا من العتقاء من عذابك، اللهم اجعلنا من العتقاء من عذابك، اللهم اجعلنا من العتقاء من عذابك، يا سميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الدعاء، يا حي يا قيوم، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، يا رب العالمين، اللهم أمنا في أوطاننا، اللهم أمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمام المسلمين وولي عهده لما تحبه وترضاه، اللهم خذ بناصيته لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 خطبة عام 1406 الهجري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (1) أما بعد: [الوصية بتقوى الله عز وجل] أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي خير وصية أوصى الله بها الأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (2) . أمة الإسلام، إن سبب التقوى ما يكون بقلب العبد من تعظيم الله محبة وخوفا ورجاء، فكلما عظم تعظيم الرب في قلب العبد دعاه ذلك إلى تقواه، إلى امتثال أمره واجتناب نهيه، كلما أيقن العبد بكمال علم الله واطلاعه عليه وأن الله يعلم سره ونجواه لا يخفى عليه من أمره شيئا، كان ذلك سببا لتقواه ومراقبته في السر والعلن. [الآثار الحسنة لتقوى الله عز وجل] أيها المسلمون، إن لتقوى الله آثارا حسنة على العبد في حياته وأخراه، فمن أعظم آثار التقوى أن يجعل الله في قلب المتقي نورا يهتدي به في ظلمات الجهل والضلال، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ،   (1) سبق تخريج خطبة الحاجة في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (1) (2) سورة النساء الآية 131 (3) سورة الحديد الآية 28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فالمتقي لله يجعل الله في قلبه نورا يفرق به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، فلا يلتبس عليه الأمر. ومن آثار التقوى أن الله يجعل للمتقي من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (1) {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (2) . وبالتقوى تكفر السيئات وتعظم الأجور، يقول الله -عز وجل-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (3) . بالتقوى ينال المتقي ولاية الله، فولاية الله لا تنال بالأماني، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل (4) » فلا ينال ولاية الله إلا من اتقاه وخافه {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (5) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (6) {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (7) . إن التقوى صلة قوية تربط بين المتقين، صلة لا انفصام لعراها ولا تصدع لبناها، وكل علاقة أو صلة أقيمت على غير تقوى الله فلا بد لها من الزوال، أما علاقة التقوى فهي علاقة باقية دائمة أبد الآباد {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (8) بالتقوى يا عباد الله ينجو العبد من النار بعد الورود {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (9) {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (10) ، فاتقوا   (1) سورة الطلاق الآية 2 (2) سورة الطلاق الآية 3 (3) سورة الطلاق الآية 5 (4) هذا قول الحسن البصري، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 6 \163، 7\189، وبنحوه أخرج البيهقي في شعب الإيمان 1 \ 80، باب القول في زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضل أهل الإيمان في إيمانهم ح (30351) (5) سورة يونس الآية 62 (6) سورة يونس الآية 63 (7) سورة يونس الآية 64 (8) سورة الزخرف الآية 67 (9) سورة مريم الآية 71 (10) سورة مريم الآية 72 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ربكم يا عباد الله وراقبوا ربكم في سركم وعلانيتكم، وفي كل أحوالكم لعلكم تفلحون. [من كمال حكمة الله تعالى أن جعل صراعا بين الحق والباطل والنصر في هذا الصراع يكون للحق وأهله] أمة الإسلام، إن الله من كمال حكمته وعدله أقام في هذه الدنيا الصراع بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين أوليائه وأعدائه، حكمته عظيمة ليبتلي العباد، فيظهر إيمان المؤمن من كذب الكاذب {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (1) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (2) ، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (3) ، وما بعث الله من نبي إلا جعل له أعداء يصدون الناس عن طريقه ويبسطون الناس عن الانقياد للحق الذي جاء به، قال -جل جلاله-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (4) {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} (5) ، فأنبياء الله منذ بعث الله أول نبي في الأرض قد جعل الله لهم أعداء، لا لهوانهم عليه، ولكن ليزيد في رفعتهم ومكانتهم، وابتلاء لأتباعهم وامتحانا لإيمانهم، فأعداء الرسل قابلوا دعوتهم بالتكذيب والإنكار، ولكن الرسل مضوا في دعوتهم وبلغوا رسالات الله، والحق لا بد أن يعلو، والباطل لا بد أن يضمحل أمام الحق {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} (6) ، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (7) .   (1) سورة العنكبوت الآية 2 (2) سورة العنكبوت الآية 3 (3) سورة آل عمران الآية 179 (4) سورة الأنعام الآية 112 (5) سورة الأنعام الآية 113 (6) سورة الأنبياء الآية 18 (7) سورة الإسراء الآية 81 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 [نال محمد -صلى الله عليه وسلم- كثيرا من أنواع الأذى في سبيل تبليغ رسالته، ولكنه صبر وصدع بدعوته وبلغ رسالة ربه] . ومحمد -صلى الله عليه وسلم- سيد الأولين والآخرين، خاتم أنبياء الله ورسله، ناله من العداوة والأذى ما ناله، فصدع بدعوته وبلغ رسالة ربه، وأعلن دعوته صريحة آناء الليل وأطراف النهار، دعا إلى الله سرا وجهارا، بدأ بقومه العرب فدعاهم إلى إخلاص الدين وترك ما كانوا عليه من عبادة غير الله، دعاهم إلى أن يخلصوا لله عبادتهم كلها، إلى أن يخلصوا دعاءهم ونذرهم وذبحهم وخوفهم ورجاءهم ورغبتهم، وكمال محبتهم لربهم، فقابله أعداؤه وقاموا في وجه دعوته وآذوه، وألحقوا الأذى به وبمن تبعه من أصحابه، والله يأمره بالصبر والتحمل، ويقص عليه خبر الأنبياء قبله {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} (1) {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} (2) فمضى في دعوته صابرا متحسبا متحملا كل الأذى في ذات الله، حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة لما أسلم الأوس والخزرج هاجر إليها، وأقام هناك دولة الإسلام الأولى، وفي مقامه في المدينة كملت شرائع الإسلام وفرائضه، حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، فاختاره الله إلى جواره، صلوات الله وسلامه عليه. [العداء لدين الإسلام قديم وجد منذ أن بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم] أمة الإسلام، إن العداء لهذا الدين القويم ليس وليد اليوم، ولكنه قديم منذ بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم-، فلقد قام أعداؤه ضد دعوته، ولكن الله أظهره عليهم وأيده عليهم {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) . [اليهود أشد الناس عداوة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ورسالته] أعظم أعدائه -صلى الله عليه وسلم- اليهود، فهم أشد الناس عداوة له   (1) سورة فصلت الآية 43 (2) سورة هود الآية 120 (3) سورة التوبة الآية 32 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ولرسالته ودعوته، لما اختاره الله من ولد إسماعيل غاظهم ذلك وحسدوه وجحدوا حقيقة ما جاء به، أنكروا رسالته مع علمهم بصدقه وأمانته، لكنهم جحدوا ذلك حسدا وعدوانا {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1) ، أيدوا أعداءه، وحزبوا الأحزاب ضد دعوته، وما زال الله يؤيده ويظهره عليهم حتى اقتلع جذورهم من جزيرة العرب بفضل الله وكرمه، ولم تزل عداوة اليهود لهذا الدين وأتباعه إلى قيام الساعة. [بيان خطر اليهود على الإسلام والمسلمين، وأنهم وراء كل فتنة وإجرام وفساد] إن كل بلاء بالأمة من فتنة في الدين والدنيا فاليهود من ورائه، فهم أنصار الفساد وأعوان الإجرام {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (2) ، أنهم أعداء وحدتكم، وأعداء أخوتكم، وأعداء اجتماعكم، أنهم يحاولون تفريق شملكم، وتشتيت كلمتكم، وتفريق صفكم، وجعلكم أحزابا وشيعة، حتى تكون لهم الهيمنة عليكم، فاحذروا كيدهم يا عباد الله، واحذروا مكرهم وخداعهم وخيانتهم، خذوا حذركم من أعدائكم {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (3) الآية. أمة الإسلام، إن حبرا من أحبار اليهود مر بالأوس والخزرج في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأى ما بينهم من ألفة وأخوة ومحبة، فأمر رجلا من قومهم أن يحضر مجالسهم ويذكرهم ما كانوا عليه قبل الإسلام من تلكم الحروب الطاحنة التي مزقت هذا الحي، فما زال ذلك اليهودي يلقي إليهم ما قيل في حرب بعاث، ويحاول تفريق كلمتهم، حتى كادوا أن يقتتلوا، فجاء رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-   (1) سورة البقرة الآية 101 (2) سورة المائدة الآية 64 (3) سورة المائدة الآية 13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وذكرهم الله والإسلام حتى عادوا إلى رشدهم، وعلموا أن تلك مكيدة من أعداء الله اليهود، فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (1) {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) . [من أعداء الإسلام دعاة التنصير وعباد الصليب] وإن من أعداء دينكم يا عباد الله دعاة التنصير الذين حاولوا جهدهم أن يسلخوا المسلمين من دينهم ويحولوهم إلى عباد صلبان، فلما عجزوا عن ذلك قادوا الحملات العسكرية ليحققوا هدفهم، فما زاد المسلمين إلا قوة وثباتا على إسلامهم، فحاولوا بوسائل المكر والخداع أن يبعدوا المسلمين عن عقيدتهم ويلقوا إليهم الشبه والشكوك، ليبعدوهم عن دينهم ويقطعوا صلتهم بإسلامهم، حاولوا أن يربوا بعض المسلمين على الأخلاق الرذيلة والأعمال السيئة؛ حتى يبعدوهم عن إسلامهم باسم المدنية، وباسم الرقي والتقدم، لعلمهم أن الأمة ما دامت متمسكة بقيمها وفضائلها وأخلاقها فلن تستطيع أي قوة أن تعلو عليها {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (3) ، فخذوا حذركم من عدوكم. [بيان خطر المنافقين على الإسلام وأنهم أخطر من اليهود والنصارى] أمة الإسلام، إن المسلم يعرف عدوه من يهودي ونصراني قد استبان شره وضرره، ولكن هناك عدو أعظم من ذلك، هناك من تسمى بالإسلام وهو منافق يريد هدم الإسلام والقضاء عليه، ينتسب إلى الإسلام لأجل أن يقضي على الإسلام ومبادئه السامية، إنهم المنافقون الذين حذرنا الله منهم، وأخبر أنهم   (1) سورة آل عمران الآية 100 (2) سورة آل عمران الآية 101 (3) سورة النساء الآية 89 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 يصورون فسادهم وضلالهم في قالب الإصلاح {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (1) {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (2) ، إنهم قوم من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، يهتدون بغير هدينا، دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم وأصغى لقولهم ألقوه فيها، فكونوا على حذر من هذا الصنف يا عباد الله. إن من أولئك المنافقين فئة حاربوا الإسلام بأقلامهم وأعمالهم، تعرف نفاقهم في تفوههم بما يتفوهون به من كفر وضلال {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (3) . [بيان ما في أحكام الشريعة الإسلامية من العدل والإنصاف، وأنها وحدها كفيلة بتحقيق الأمن في المجتمع] إن من أولئك المنافقين قوما يدعون إلى عزل الشرع عن نظم الحياة، إلى تعطيل أحكام الله ورسوله، إلى الاستعاضة عن أحكام الله العادلة المنصفة بقوانين ظالمة فاجرة كافرة، يزعمون جهلا وزورا عجز الإسلام وقصوره، وأن الإسلام لا يستطيع أن يواكب الحياة، وأن القرن العشرين قرن الرقي والتقدم يجب أن يحكم بقوانين غير إسلامية، وأن الإسلام قد انتهى دوره في الحياة، ذلك من أعداء الإسلام، كل تلك الأباطيل من المنافقين الضالين. إن أحكام الإسلام هي الأحكام العادلة، الأحكام المنصفة، الأحكام التي تحقق لمن طبقها الأمن والاستقرار والطمأنينة، الأحكام التي تجعل المجتمع مجتمعا متماسكا متراحما، أما القوانين الوضعية فلن تستطيع حل مشاكل العصر، هي عاجزة قاصرة، واضعوها لا تستقل عقولهم بإدراك الحقائق على ما هي عليه، أما قوانين الشرع فهي صادرة من حكيم خبير {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (4) .   (1) سورة البقرة الآية 11 (2) سورة البقرة الآية 12 (3) سورة محمد الآية 30 (4) سورة الملك الآية 14 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 والقوانين الوضعية مهما نمقها أهلها وحسنوها ودعوا إليها فإنها قوانين متناقضة، قوانين ضالة تحمي الإجرام والمجرمين، وتنشر البلاء والفوضى بين المجتمع، قوانين تبيح الفساد كله، قوانين تعطي الإنسان الحرية يفعل ما يشاء بدون حدود ولا قيود، أما نظم الله وأحكامه العادلة ففيها الإنصاف والعدل والخير، ولقد كفر الله من حكم بغير شرعه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (1) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (2) . “ من أعداء الإسلام من يريد إعادة المسلمين إلى ما كانت عليه الجاهلية قبل الإسلام من أعمال شركية وعبادة غير الله “ أمة الإسلام، ومن أعداء الإسلام أناس يدعون إلى إعادة الأمة إلى الجاهلية الجهلاء، إلى الضلال والعمى الذي كان قبل الإسلام، يريدون أن يعيدوا الأمة إلى الوثنية التي حطمها الله بمبعث محمد -صلى الله عليه وسلم-، يحيون البدع التي تناقض شرع الله، يحاولون أن يعظموا الأموات والضرائح ويذبحون من دون الله، يشجعون من يناديها ويهتف باسمها من دون الله ويصرف لها خالص حق الله، إذا ذكرت لأولئك توحيد الله وإخلاص الدين لله، اشمأزت قلوبهم وقالوا: تنقصت الصالحين والأولياء وحططت من قدر الأنبياء والمرسلين، يريدون بذلك أن يعيدوا الأمة إلى أن تعبد ضرائح الأموات، وتبني على القبور، وتشجع الطائفين بها واللاجئين لها من دون الله، والذابحين والناذرين لها، والمستغيثين بها من دون الله، وكل تلك عداوة للإسلام، فإن العقيدة   (1) سورة النساء الآية 60 (2) سورة النساء الآية 61 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الصحيحة ما بعث الله به محمدا -صلى الله عليه وسلم-، فكل من أراد أن يطمسها أو يعاديها فليعلم أن له نصيبا من قوله -جل جلاله-: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (1) ، فهم يستبشرون بدعاء الأموات، يستبشرون بالبدع والخرافات، وتشمئز قلوبهم من تحقيق التوحيد الخالص لله -عز وجل- الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم. [على المسلم أن يكيف منهج حياته على وفق ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-] أمة الإسلام، إن منهج المسلم حقا في حياته ما دل عليه كتاب الله ودلت عليه سنة رسوله، فهو يحاول أن يكيف منهج حياته على وفق ما جاء به رسول الهدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن الصراط المستقيم هو كتاب الله وسنة رسوله، قال -جل جلاله-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (2) ، «خط المصطفى -صلى الله عليه وسلم- خطا مستقيما فقال: " هذا سبيل الله "، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: " هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه (3) » صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم. شياطين يدعون إلى ضلالاتهم، إلى كفرهم، إلى نفاقهم، إلى فجورهم، إلى بدعهم، إلى خرافاتهم، إلى تحكيم العقول والأذواق وجعلها الحكم العدل، كل هذا من البدع والضلالات، فدين الإسلام هو كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، هو الطريق المستقيم والمنهج الواضح الذي لا شك فيه ولا ارتياب. أمة الإسلام، تمسكوا بهذا الدين واعملوا به، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا   (1) سورة الزمر الآية 45 (2) سورة الأنعام الآية 153 (3) أخرجه أحمد في مسنده 1 \435، والنسائي في السنن الكبرى 6 \ 343 قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما، ح (11174) ، والدارمي في سننه 1 \78 في المقدمة باب: في كراهية أخذ الرأي، ح (202) ، والحاكم في المستدرك 2 \261، كتاب: التفسير، ح (2938) ، وابن حبان في صحيحه 1 \180، باب: ما جاء في الابتداء بحمد الله تعالى ح (6) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 تفرقوا. أمة الإسلام، إنكم خير أمة أخرجت للناس، كونوا كما أراد الله لكم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ، فحققوا هذه الخيرية، يحقق الله لكم كل خير ورخاء واستقرار {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2) ، فحققوا هذه الخيرية يا عباد الله، تمسكوا بالإسلام فإنه دين العزة والسيادة والكرامة والرفعة. أيها الأمة المسلمة، نحن أمة الإسلام يجب أن نهتم بشأننا، يجب أن نقيم أنفسنا، وأن نصحح أوضاعنا، ونصلح من أخطائنا، يجب أن يكون التفاهم رائدنا، والتعاون بيننا قائما. أمة الإسلام، نحن أمة مسلمة، المسلم يهتم بأخيه المسلم في شرق الأرض وغربها تربطه به أخوة الإسلام والإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (3) . “ على المسلمين التعاون في حل مشاكلهم في حدود المجتمع المسلم “ أمة الإسلام، أما آن لنا أن نستيقظ من غفلتنا ونعود إلى رشدنا ونتعاون في حل كل مشكلة تقع بين أفراد الأمة المسلمة، يجب على أمة الإسلام أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم، ويصلحوا أوضاعهم وأخطاءهم في حدود مجتمعهم المسلم، هذا هو الواجب علينا لتكون لنا الكلمة العليا {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) .   (1) سورة آل عمران الآية 110 (2) سورة النور الآية 55 (3) سورة الحجرات الآية 10 (4) سورة آل عمران الآية 139 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أعداؤكم يا عباد الله يقيمون أحلافا عسكرية، ليحموا بها بلادهم، وأحلافا اقتصادية ليحموا بها اقتصادهم، ونحن أمة الإسلام عندنا مقومات الوحدة الكاملة: الإيمان النابع من العقيدة، فهل آن لنا أن نتفاهم في حل مشاكلنا؟ وأن نفهم قضايانا؟ وأن نعرض كل مشكلة تقع بين أمة الإسلام على كتاب ربنا وسنة رسولنا -صلى الله عليه وسلم-؟ عند ذلك تكون لنا الكلمة، ولن يستطيع العدو أن يفسد ما بيننا. إن قوة الأمة الإسلامية وعظمتها إنما هو في تمسكها بدينها واجتماعها على هذا الدين {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) . “ توصية قادة المسلمين بتقوى الله في شعوبهم والحفاظ على هذا الدين وتحكيم الشريعة في شئون مجتمعاتهم “ يا قادة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اتقوا الله في شعوبكم، وحافظوا على البقية الباقية من هذا الدين، حكموا في شعوبكم شرع الله؛ لتعيشوا أنتم وإياهم آمنين مطمئنين مستقرين، حكموا فيهم كتاب الله وسنة رسوله، لتعيشوا في خير وأمان، إن كل بلاء حل بالأمة فأسبابه الذنوب والمعاصي {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2) ، حكموا فيهم شرع الله، وطهروا مجتمعات المسلمين من كل ما يخالف شرع الله؛ لتعيشوا في أمان واستقرار، واعلموا أن الله سائل كلا عما استرعاه يوم قدومه عليه {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} (3) {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (4) ، فاتقوا الله في أمة الإسلام، وقوموا فيهم لله قيام صدق بإخلاص ونية صادقة.   (1) سورة آل عمران الآية 103 (2) سورة الأعراف الآية 96 (3) سورة الشعراء الآية 88 (4) سورة الشعراء الآية 89 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 “ الحج فريضة العمر على المسلم، وفيها منافع عظيمة لهم تعود عليهم بالخير والصلاح “ حجاج بيت الله الحرام، إن الله افترض الحج على أمة الإسلام، وجعلها ركنا أساسيا من أركان الدين، من أداها في عمره مرة فقد أدى الواجب الذي عليه وبرأت بذلك ذمته، شرعه الله للعباد، ليشهدوا منافع لهم تعود عليهم بالصلاح والخير {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1) ، وينظروا في عظمة الإسلام كيف التقت تلكم الوفود المختلفة في اللون والبلد واللغة، لكن جمعتهم أخوة الإسلام ووحدتهم رابطة الإيمان، فيعلم المسلم عظمة هذا الدين وقوته. حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله الذي وفقكم للوصول إلى هذه الديار المقدسة. “ على الحجاج أداء شكر الله بتوفيقه إياهم للوصول إلى هذه البلاد المقدسة التي أنعم الله عليها بنعمة الأمن والاستقرار والرغد والطمأنينة “ تفكروا فيما أنعم الله على أهل هذه البلاد من أمن واستقرار ورغد وطمأنينة، إن هذه البلاد – ولله الفضل والمنة – قد منحها الله النعم العظيمة، من أجلها نعمتين: أولاهما: تحكيم شرع الله، فمحاكمها تحكم بشرع الله وتقيم حدود الله وتنفيذ أوامر الله، وثاني ذلك: ما من الله عليهم من أمن واستقرار وارتباط وثيق بين القادة والأفراد، كل ذلك بفضل تحكيم هذه الشريعة، فهذه البلاد – ولله الفضل والمنة – منحها الله الخير الكثير، ورأى قادتها من واجبهم أن يخدموا حجاج بيت الله، وأن يقدموا لهم كل التسهيلات ويذللوا أمامهم الصعاب، ويبذلوا كل غال ونفيس في سبيل راحة الحجاج وأمنهم، وهم مع هذا دائما يتحسسون مشاكل أمة الإسلام، ويحاولون بكل مستطاع أن يوجدوا الرخاء لغيرهم، ويمدوا غيرهم مما أعطاهم الله، ذلك أنهم مقتنعون من ذلك نتيجة لإيمانهم بشرع الله وتحكيمهم لدين الله، فهذه البلاد – ولله الحمد – تعيش نعمة عظيمة   (1) سورة الحج الآية 28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وفضلا عظيما، أمر يشهد به كل أحد، فمن زار هذه البلاد من الحجاج والمعتمرين ورأى هذا الأمن والاستقرار، علم مقدار نعمة الله على هذه البلاد وكيف كانت عاقبة تحكيم شرع الله والتمسك به، فنسأل الله المزيد من فضله وكرمه، وأن يوفق قادة هذه البلاد لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير. “ على الحجاج إقامة ذكر الله ودعاؤه والثناء عليه في هذا الموسم العظيم، وأن يغتنموا هذه الفرصة لعبادة الله وحده “ حجاج بيت الله الحرام، الحج مناسبة عظيمة لإقامة ذكر الله ودعائه واستغفاره والثناء عليه، هو عبادة يتقرب بها العبد إلى الله، احذروا أن تحرفوا الحج عن وجهته الشرعية، احذروا أن تعدلوا به عن منهج الله الذي أراده، فالله أراد لكم بهذا المكان أن تذكروه وتستغفروه {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (1) ، فمن حاول أن يغير الحج عن وجهته الشرعية في شعارات جاهلية ودعوات مضللة وأمور لا علاقة لها بالإسلام، فأولئك ممن حاولوا صرف الحج عن وجهته الشرعية، وهذا يرفضه الإسلام ويأباه. حجاج بيت الله الحرام، إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- حج حجة واحدة، هي حجة الوداع التي ودع الناس فيها، وما فعل -صلى الله عليه وسلم- فعلا إلا قال لهم: « (خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) (2) » “ بيان صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم “ جاء -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة وخطب بهذا الوادي في هذا المكان خطبة عظيمة، أعلم الناس فيها حرمة الدماء وحرمة الأموال، وألغى فيها مآثر الجاهلية، وبين تحريم الربا، وما للمرأة من الحقوق وما عليها من الواجبات، وأخبرهم أنه تارك فيهم ما لن يضلوا إن تمسكوا به وهو كتاب الله ثم   (1) سورة البقرة الآية 198 (2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والبيهقي في السنن الكبرى وأصله عند مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) الهامش (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 استشهدهم على إبلاغ رسالة الله وشرعه قائلا لهم: «ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ " فقال الصحابة بأجمعهم: نشهد أنك بلغت ونصحت وأديت، فرفع أصبعه إلى السماء ونكتها إلى الناس وقال: " اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد (2) » يستشهد الناس أنه بلغهم رسالة الله، وهو الذي قضى فيهم ثلاثة وعشرين عاما يدعوهم إلى الله، ويبين دين الله، ويبلغ رسالته، ويجاهد في سبيله، فما أعظمها من شهادة! وما أشرفها من مشهود بها! وما أعظمه من مشهود له! إن كل مسلم حقا يشهد له بكمال البلاغ، وأنه أدى الأمانة، ويبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصل يا رب وسلم عليه تسليما كثيرا إلى يوم الدين. صلى الظهر والعصر بعرفة جمعا جمع تقديم وقصرا، ثم وقف بعرفة حتى غربت الشمس وقال: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف (3) » وقال: «وارفعوا عن بطن عرنة (4) » بقي فيها حتى غربت الشمس وتأكد من غروبها، ثم انصرف إلى مزدلفة وهو يأمر أصحابه بلزوم السكينة والوقار في سيرهم، صلى بمزدلفة المغرب والعشاء جمع تقديم، وبات بها، وأذن للضعفة أن ينصرفوا قبل الفجر، وبقي هو -صلى الله عليه وسلم- إلى أن صلى بمزدلفة الفجر، ثم ذكر الله عند المشعر الحرام، ثم أتى منى فرمى جمرة العقبة، ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه، ثم طاف طواف الإفاضة ولم يسع؛ لأنه سعى مع طواف القدوم، فهذا هديه صلى الله عليه وسلم. “ أعمال الحج يوم عرفة وما بعدها من الأيام “ فيا حجاج بيت الله الحرام، ابقوا بعرفة حتى تغرب الشمس، ولا يحل لكم الانصراف إلا بعد غروب الشمس، باتوا بمزدلفة، صلوا بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا، ثم لكم أن تدفعوا منها بعد نصف الليل، لا سيما العجزة من النساء، ومن   (1) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) الهامش (13) (2) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وسبق تخريجه في خطبة عام (1405 هـ) الهامش (14) (1) (3) أخرجه مسلم في صحيحه 2\893، كتاب: الحج، باب: ما جاء أن عرفة كلها موقف، ح (1218) (4) أخرجه أحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي في السنن الكبرى، وسبق تخريجه في خطبة عام (1405 هـ) الهامش (12) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أراد الكمال فليبق حتى يصلي بها الفجر، ثم ادفعوا إلى منى وارموا جمرة العقبة، وانحروا هديكم إن كنتم قارنين أو متمتعين، أما المفرد فلا هدي عليه، احلقوا رؤوسكم ثم طوفوا طواف الحج، ومن قدم شيئا من الأنساك أو أخر فلا حرج عليه؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- «ما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: " افعل ولا حرج (1) » بيتوا بمنى ليالي التشريق، وارموا الجمار يوم الحادي عشر مرتبة: الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة، واليوم الثاني عشر كذلك، فإن كنتم متعجلين فانصرفوا من منى قبل غروب شمس ذلك اليوم، وإن تأخرتم فارموا الجمار يوم الثالث عشر. “ فضل يوم عرفة، وما فيه من تذكير واعتبار وتذكر الآخرة والعرض والحساب “ حجاج بيت الله الحرام، يوم عرفة يوم من أفضل أيام الله وخير أيام الله، يوم يكفر الله فيه الذنوب ويضاعف فيه الأجور، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله -عز وجل- فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو -عز وجل- ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (2) » «إن الله -عز وجل- يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا (3) » حجاج بيت الله الحرام، اجعلوا من موقفكم بعرفة عظة وتذكرا للموقف الأكبر بين يدي الله، يوم تقفون بين يدي ربكم حافية أقدامكم، عارية أبدانكم، شاخصة أبصاركم، تذكروا يوم تدنو الشمس من العباد، حتى تكون منهم على قدر ميل أو ميلين، ويزاد في حرها، ويأخذ الناس العرق على قدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «تحشرون حفاة عراة غرلا "، قالت عائشة: فقلت: يا (4)   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: العلم، باب: الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، (فتح الباري 1 \ 124، ح 38) ، ومسلم في صحيحه 2 \948، كتاب الحج، باب: من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي ح (1306) (2) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404 هـ) الهامش (10) (3) أخرجه أحمد في مسنده 2 \224، والحاكم في مستدركه 1 \636، أول كتاب المناسك ح (1708) ، وابن حبان في صحيحه 9 \163، باب ذكر مباهاة الله -جل وعلا- ملائكته بالحاج عند وقوفهم بعرفات ح (3852) ، وابن خزيمة في صحيحه 4 \263، كتاب الحج، باب تباهي الله أهل السماء بأهل عرفات ح (2839) ، والبيهقي في السنن الكبرى 5 \58، كتاب الحج، باب: الحج أشعث أغبر فلا يدهن رأسه ولحيته بعد الإحرام ح (8891) واللفظ لأحمد (4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الرقائق، باب: كيف الحشر، (فتح الباري 11 \ 459، ح 6527) ، ومسلم في صحيحه، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب: فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ح (2859) واللفظ المذكور للبخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: " يا عائشة، الأمر أشد من أن يهمهم ذاك» تذكروا أيها المسلمون، يوم العرض بين يدي الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (1) . تذكروا يوم توزن أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (3) . تذكروا يوم تطير الصحف فآخذ كتابه بيمينه كتاب سعادة لا شقاء بعدها أبدا. تذكروا عباد الله يوم تمرون على الصراط وهو على متن جهنم، فمنكم من يمشي كالريح، ومنكم من يمشي كالبصر، ومنكم من يمشي كالفرس، ومنكم من يمشي مشيا، ومنكم من يزحف زحفا، ومنكم من يحبوا حبوا (4) تذكروا يوم تفتح أبواب الجنان فيدخلها محمد -صلى الله عليه وسلم-، هو أول داخل لها من الأنبياء، وأول الأمم دخولا أمته. تذكروا يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت خذوا من هذه المواقف عبرة وعظة وازديادا ليوم الميعاد. اللهم اجعل حجنا مبرورا، وسعينا مشكورا، وذنبنا مغفورا، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم،   (1) سورة الحاقة الآية 18 (2) سورة المؤمنون الآية 102 (3) سورة المؤمنون الآية 103 (4) أصل ذلك في صحيح مسلم 1 \187، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها ح (195) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعا مباركا مرحوما، واجعل تفرقنا بعده تفرقا معصوما، ولا تجعل فينا ولا معنا شقيا ولا محروما، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم وفق إمام المسلمين وولي عهده والنائب الثاني، اللهم أيدهم بنصرك، واهدهم لما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيد ولد آدم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 خطبة عام 1407 الهجري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (1) أما بعد: “ الوصية بتقوى الله عز وجل “ أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى. اتقوه تعالى بفعل ما أمركم بفعله، والابتعاد عما نهاكم عنه، لتكونوا متقين لله حقا. “ الإيمان نعمة عظيمة من الله امتن بها على العبد المؤمن “ أيها المسلمون، إن المؤمن الذي استنار بالإيمان قلبه، وانشرح بالإسلام صدره، ورزقه الله نورا يميز به بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، يرى تلك نعمة عظيمة من الله عليه، وتلكم النعمة تحتاج إلى شكر الله، فالشكر لله سبب لدوام النعمة واستقرارها {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (2) . وهو أيضا يرى عليه واجبا أن يبصر إخوانه المسلمين، ويهديهم طريق الله المستقيم ليستنقذ إخوانه من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى. أمة الإسلام، إن الدعوة إلى الله سبيل أنبياء الله ورسله والتابعين لهم بإحسان {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) .   (1) سبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (1) (2) سورة إبراهيم الآية 7 (3) سورة يوسف الآية 108 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 “ الدعاة إلى الله ورثة الأنبياء والمرسلين “ فالدعاة إلى الإسلام ورثة الأنبياء والمرسلين، أهلهم الله لذلك الفضل العظيم والشرف الكبير، إن الداعي إلى الله أحسن الناس قولا {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) ، إن الداعي إلى الله سائر على الطريق المستقيم، مساهم في حماية أمة الإسلام، وإنقاذها من مسالك الهلاك، يحميها بتبصيرها الحق وتحذيرها من سبل الباطل. أيها الداعي إلى الله، سر على طريقك في الخير والهدى، واعلم أن لك أجرا مثل أجر من انتفع بدعوتك واقتدى بهديك إلى يوم القيامة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (2) » “ صفات الداعي إلى الله تعالى “ دعاة الإسلام، إن الداعي إلى الله لا بد أن تتوفر فيه أمور مهمة، فإن توفرت فيه تلكم الأمور، صار ذلك سببا بتوفيق الله في انتفاع الناس بدعوته وقبولهم لها وإصغائهم إليها. “ من صفات الداعي إلى الله الإخلاص في دعوته “ فلا بد أولا من الإخلاص لله، وأن يكون الداعي إلى الله صادقا في دعوته، مخلصا لله في دعوته، فلا تكون دعوته إلى هوى نفسه وحظوظها وشهواتها، ولكنها دعوة مباركة صادرة من قلب خالص، يرحم عباد الله ويشفق عليهم، ويحب الخير والصلاح لهم، كم من مظهر أنه داع إلى الله، وهو يدعو إلى هوى نفسه وحظوظها، كم دعاة انتسبوا للدعوة إلى الإسلام، وهم يدعون لأنفسهم   (1) سورة فصلت الآية 33 (2) أخرجه مسلم في صحيحه 4 \ 2060، كتاب: العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، ح (2674) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وأغراضهم وأهوائهم، ودعواتهم مشبوهة، إنما هي دعوات لأغراض دنيوية لأحزاب، أو معارضات، أو مزاحمات في سلطة، وغير ذلك، فتكون تلك الدعوات فاشلة؛ لأنها تفقد الإخلاص لله والصدق مع الله، إنما هي عصبية حزبية أو دعوات سياسية، ليس مقصودها الدعوة إلى الله ونصرة دين الله. “ من صفات الداعي إلى الله العلم بحقيقة ما يدعو إليه “ أمة الإسلام، ولا بد في الداعي إلى الله من أن يكون على علم بحقيقة ما يدعو إليه، فإن من دعا إلى الله على غير هدى، على جهل وضلال، فما يفسد أكثر مما يصلح، لا بد من علم بحقيقة الدعوة، حتى تكون الدعوة منطلقة على بصيرة من الله، فإن كان الداعي جاهلا بحقيقة ما يدعو إليه، ففساده أكثر من صلاحه. “ من صفات الداعي إلى الله موافقة القول والعمل “ ولا بد في الداعي إلى الله من أن يكون عمله موافقا لقوله، فتكون أعماله مصدقة لأقواله، فإن لم تطابق الأعمال الأقوال لم يثق الناس بدعوته، ولم يطمئنوا إليه، بل رأوه متناقضا فيما يعمل ويقول، ولذا قال الله مخبرا عن نبيه شعيب -عليه السلام- أنه قال لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (1) وذم الله اليهود لما خالفت أعمالهم أقوالهم {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2) . وعاتب الله أهل الإيمان بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (4) “ من صفات الداعي إلى الله العلم بأحوال الناس “ ولا بد في الداعي إلى الله من أن يكون على بصيرة في دعوته، وأن يعرف   (1) سورة هود الآية 88 (2) سورة البقرة الآية 44 (3) سورة الصف الآية 2 (4) سورة الصف الآية 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 اختلاف الناس واختلاف عقولهم وأفكارهم وتصوراتهم، فيخاطب كل فئة بما يتناسب مع وضعها وحالها؛ حتى تكون لدعوته آثار حسنة، ولذا النبي -صلى الله عليه وسلم- «قال لمعاذ لما وجهه داعيا: " إنك ستأتي قوما أهل كتاب (1) » يبين له حال من يدعوهم ليستعد لمناظرتهم ومجادلتهم. “ يجب الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- واتخاذ سيرته منهجا في الدعوة إلى الله “ دعاة الإسلام، إن سيد الدعاة وإمامهم وأفضلهم محمد بن عبد الله سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، خير أنبياء الله وخاتم رسله، صلوات الله وسلامه عليه أبدا دائما إلى يوم الدين، فخذوا من سيرته منهجا لدعوتكم، اسلكوا طريقه وسيروا على منهجه في دعوتكم، لتفوزوا بالسعادة في الدنيا والآخرة، فإن خير المنهج منهجه، وأفضل السبل سبيله الذي سار عليه. بعثه الله على حين فترة من الرسل، واندراس من العلم والهدى، بعثه برسالة شاملة عامة لجميع الخلائق، واختار لمبعثه أم القرى شرفها الله، فابتدأ بدعوته قومه الأميين من العرب. “ دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى إخلاص الدين لله وترك عبادة غير الله “ دعاهم إلى إخلاص الدين لله، وترك ما كانوا عليه من عبادة غير الله، ومن الإشراك بالله، وترك ما كانوا عليه من اتخاذ الوسائط والشفعاء الذين يزعمون بجهلهم أنها تقربهم إلى الله زلفى. عرض دعوته وأعلنها صريحة واضحة من يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ دعوة صريحة واضحة في منهجها، ليست دعوات مضللة لها وجه ظاهر ووجه باطن خفي وخفاء، بل هي واضحة في منهجها وأسلوبها، يعرفها كل   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الزكاة، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد على الفقراء حيث كانوا، (فتح الباري 3 \455، ح 1496) ، ومسلم بنحوه في صحيحه 1 \50، كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، ح (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 من سمعها، دعا إلى الله فناله الأذى من قومه، وآذوه وآذوا أتباعه، وهو صابر محتسب متحمل الأذى في ذات الله، وحين اشتد به الألم وضاقت به الدنيا يوم أحد قال: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون (1) » يستأذنه ملك الجبال أن يطبق عليهم أخشبي مكة ويقول: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا (2) » يأمره الله بالصبر والثبات ويقص عليه أنباء المرسلين {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} (3) بدأ قومه بالدعوة إلى التوحيد بتصحيح العقيدة، وتثبيتها في النفوس وتطهيرها من أدران الشرك والوثنية. “ على الدعاة أن ينهجوا منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى عقيدة التوحيد، وتصحيح العقيدة أولا “ فيا دعاة الإسلام، خذوا من منهجه منهجا لكم في دعوتكم، اجعلوا الدعوة إلى عقيدة التوحيد أهم أموركم وغاية مرادكم، صححوا العقيدة وخلصوها من جميع الشوائب، حذروا الأمة مما وقع فيها من بدع وضلالات وجهالات، انشروا العقيدة الصحيحة فهي الأصل في مبدأ كل دعوة نافعة، اجعلوا الاهتمام بهذا المبدأ السليم، فبثوا العقيدة واغرسوها في النفوس وحببوهم إليها، تحملوا كل الأذى في ذات الله، وليكن غايتكم نصح عباد الله وإرشادهم واستنقاذهم من الجهالات والضلالات. “ على الدعاة أن يحذروا الدعوات المضللة والأفكار الهدامة “ دعاة الإسلام , احذروا الدعوات المضللة والأفكار الهدامة، التي تستر بها أعداء الإسلام خداعا وتضليلا، والله يعلم أن الإسلام منهم بريء، تظاهروا بالإسلام في دعواتهم، وإذا تأمل المسلم البسيط تلك الدعوات رآها جهالات   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الأنبياء، حديث الغار، (فتح الباري 6 \637، ح 3477) ، ومسلم في صحيحه، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، ح (1792) ولفظه عن عبد الله قال: '' كأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول. '' الحديث، قال النووي في شرح صحيح مسلم (12\361) : (وهذا النبي المشار إليه من المتقدمين، وقد جرى لنبينا -صلى الله عليه وسلم- مثل هذا يوم أحد) (2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: بدء الخلق، ذكر الملائكة، (فتح الباري 6 \384، ح 3231) ، ومسلم في صحيحه 3 \ 1420، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين، ح (1795) (3) سورة هود الآية 120 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وضلالات وخداعا للأمة وتضليلا لها، ذلك أن أرباب هذه الدعوات لهم علاقة قوية بأعداء الإسلام، أعداء الإسلام يرسمون لهم الطريق ويخططون لهم المخططات، ليضربوا أهل الإسلام بعضهم ببعض، اتخذوا دعاة الضلالة جسرا يعبرون عليه لنيل أغراضهم وأهوائهم {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} (1) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (2) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (3) . “ مسجد الضرار كان مثالا لأرباب الدعوات المضللة الذين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون العداء له “ احذروا أرباب هذه الدعوات المضللة، فهم خطر على الإسلام وأهله، وهم بلاء في جسم الأمة الإسلامية، إن تظاهروا بالإسلام فإنما هو الخداع والتضليل، ولكم في قصة أهل مسجد الضرار عبرة وعظة، قوم من المنافقين تظاهروا بالإسلام، وبنوا معقلا للكفر والضلال، وسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي فيه ليكتسب الفضل والكرامة، ورسول الله لا يعلم ما في الغيب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن رجعنا من تبوك صلينا فيه إن شاء الله (4) » . فلما قرب من المدينة راجعا أخبره الله تعالى أن هذا مسجد ضرار، وأنه معقل الكفر والضلال وإن تظاهر أهله بالإسلام {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} (5) إلى إن قال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (6) اتخذوه في صورة مسجد وهو معقل للكفر والضلال، وهكذا أرباب الدعوات   (1) سورة المنافقون الآية 4 (2) سورة البقرة الآية 204 (3) سورة البقرة الآية 205 (4) قصة مسجد الضرار أخرجها الطبري في تفسيره 11 \23 من طرق في تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا) (5) سورة التوبة الآية 108 (6) سورة التوبة الآية 109 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 المضللة، وإن تظاهروا بالإسلام خداعا فهم أعداؤه وخصومه الألداء، فكونوا على حذر من هؤلاء وهؤلاء؛ لتسلم عقيدتكم ويسلم اتجاهكم. “ على الحجاج أن يشكروا الله على أن بلغهم إلى بيته الحرام آمنين مطمئنين “ حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله على نعمته؛ إذ بلغكم الوصول إلى بيته الحرام، ومكنكم من الوقوف في تلك المشاعر المقدسة، وهيأ لكم الوصول إليها، فوصلتم آمنين مطمئنين، فاعلموا أن تلك نعم من نعم الله عليكم، وفضل من الله عليكم، فاشكروه على نعمته، واتخذوا من الحج نقطة تحول في سلوككم وأعمالكم، ليكن حجكم إلى بيت الله نقطة تحول في سلوككم وأعمالكم، لتصححوا أوضاعكم وتقيموا ما اعوج من أخلاقكم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (1) » “ على الحجاج أن يعظموا هذه المشاعر والأماكن المقدسة “ فيا أيها المسلمون، أنتم في بلد الله الأمين، أنتم في هذه الأماكن المقدسة، عظموها كما عظمها الله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2) ، عظموا هذه المشاعر؛ فإنها أماكن لعبادة الله وإخلاص الدين لله، يلتقي فيها المسلمون على طاعة الله، يلتقون فيها على بساط المحبة والمودة، أمة جمعتهم رابطة الإيمان ووحدتهم أخوة الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (3) . “ فضل الله سبحانه البلد الأمين على سائر بقاع الأرض “ حجاج بيت الله الحرام، أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، إن الله اختار البلد الأمين وفضله على سائر بقاع الأرض، عهد ببنائه لنبيه إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، أقام قواعده على توحيد الله وإخلاص الدين لله، دعا الخليل ربه بعد بنائه قائلا: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} (4)   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الحج، باب: فضل الحج المبرور، (فتح الباري 3 \487، ح 1521) ، ومسلم في صحيحه 2 \ 983، كتاب: الحج، باب: فضل الحج المبرور، ح (1350) ، واللفظ للبخاري (2) سورة الحج الآية 32 (3) سورة الحجرات الآية 10 (4) سورة البقرة الآية 126 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فاستجاب الله لدعوته وجعل هذا البلد بلدا آمنا، قال الله -جل جلاله-: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (1) . “ احترام بيت الله الحرام أمر مستقر في نفوس أهل الإيمان، بل أهل الجاهلية على ضلالهم كانوا يعظمون هذا البيت “ إن احترام البيت الحرام مستقر في نفوس أهل الإيمان، بل أهل الجاهلية في جاهليتهم وعلى كفرهم وضلالهم يعظمون بيت الله ويحترمون أمنه وطمأنينته، ويرون من أخل فيه بأمنه فإنه عاص ومرتكب خطأ كبيرا، فجاء الإسلام فزاد ذلك تعظيما وتأكيدا، قال الله -جل جلاله- ممتنا على سكان بيته الحرام: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (2) ، فكان العرب يحترمون سكان بيت الله، يحترمونهم ويعظمونهم، ويرون لهذا البيت حرمته وأمنه ومكانته. “ حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على حفظ حرمة هذا البيت عام الفتح، ووصى أمته على ذلك “ جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- عام ست من الهجرة معتمرا، فصده كفار قريش عن مراده، وبايعه المسلمون على الموت ومنازلة الكفار، ولكن حكمة الله أبت إلا أن يعود محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى يرجع من العام القادم، كل ذلك تعظيما للبيت، حتى لا تسفك فيه الدماء، وحتى تبقى حرمته كما كانت. جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- عام ثمان من الهجرة فاتحا بيت الله الحرام، ثم قبل الفتح أعلن إعلانه الواضح: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن (3) » ثم بعد ذلك في صبيحة اليوم الثاني من الفتح قام في المسلمين خطيبا منوها بفضل هذا البيت وأمنه وحرمته، فقال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله -صلى الله عليه (4)   (1) سورة آل عمران الآية 97 (2) سورة العنكبوت الآية 67 (3) أخرجه أبو داود في سننه 3\162، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في خبر مكة، ح (3022) ، وأحمد في مسنده 2 \292، وأصله في صحيح مسلم 3\1406 من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة، ح (1780) (4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، (فتح الباري 1 \263، ح 104) ، ومسلم في صحيحه 2 \ 987، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، ح (1354) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وسلم- فيها، فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» هذا البيان النبوي أمام قبائل العرب المختلفة ليبين لهم أن فتحه لبيت الله الحرام لن يحط من قدر هذا البيت، ولن ينقص من شرف هذا البيت، بل شرفه قديم منذ خلق الله السماوات والأرض، حرمته قديمة، وستظل باقية إلى قيام الساعة، وأهل البيت محترمون له. “ الإسلام بريء ممن يبث الفوضى في صفوف الحجيج، ويسعى لسفك دماء المسلمين “ أمة الإسلام، أين الإسلام ممن يحاول بث الفوضى بين صفوف الحجيج، أين الإسلام ممن يسعى في سفك دماء المسلمين، أين الإسلام ممن لا يرعى لأهل الإسلام حرمة ولا كرامة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم (1) » إن من يريد في هذا البلد الأمين الشر والفساد فسيحيق مكره بنفسه، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (2) . إن الله جل جلاله يعاقب من هم بالمعصية في بيته الحرام وإن لم يفعلها، كل المعاصي لا يعاقب عليها إلا بالفعل، إلا الإلحاد في الحرم، فمن هم فيه بسوء عاقبه الله، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) ، إن الله جعله حرما آمنا، ليفد الناس إليه حجاجا ومعتمرين فيجدوه حرما آمنا، واحة سلام، ودار أمان كما أراده الله. “ قيادة هذا البلد حريصة كل الحرص على حفظ حرمة هذا البيت وأمنه، وتهيئة السبل لراحة الحجيج وتيسير أمرهم “ والله -جل جلاله- بفضله وكرمه وجوده وإحسانه من في هذه العصور   (1) أخرجه الترمذي في سننه 5 \17، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ح (2627) ، والنسائي في سننه 8 \104، كتاب: الإيمان وشرائعه، باب: صفة المؤمن، ح (4995) ، وأحمد في مسنده 2 \379، وأصله في البخاري (فتح الباري 1 \ 73، ح 10) ، ومسلم 1\65، ح (41) بدون ذكر: '' والمؤمن من أمنه الناس '' (2) سورة فاطر الآية 43 (3) سورة الحج الآية 25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الأخيرة على هذا البلد الأمين بنعمة سابغة، بنعمة عظيمة، ما عرف التاريخ لها بعد القرون المفضلة مثيلا، ولا عرف لها نظيرا، منحه الله قيادة حكيمة، ورجالا مخلصين، استرخصوا كل غال ونفيس في سبيل المحافظة على حرمة هذا البيت وأمنه، وفي سبيل راحة الحجاج وتهيئة السبل لهم، وتذليل الصعاب لهم، بذلوا كل ما يستطيعون عليه، وهم سائرون على هذا الطريق إن شاء الله في كل عام، وبلد الله الأمين يشهد تقدما وعمرانا ونهضة وخدمات متواصلة، ما يمضي عام إلا والذي بعده خير منه، كل ذلك من فضل الله وكرمه؛ لأن هذه القيادة تؤمن بأن هذا واجب إسلامي عليها، وأن الله شرفها بخدمة هذا البلد الأمين ومن عليها بذلك، فهي ترعى حرمة المسلمين وأمنهم واطمئنانهم، وتسعى جاهدة في تأمين سبيل الحجاج، والواقع شاهد على ذلك. إن كل مسلم زار بيت الله وأدى شعائر الحج يرى هذا البلد الأمين آمنا مطمئنا، موفرا به كل خير، مهيأة فيه السبل، مفتوحة أبوابه للحجاج والمعتمرين على مدار العام، هذه نعمة من الله لا يجحدها أو يخفيها إلا حاقد مريض، لكن الحقائق لا بد أن تنطق، كل من زار البلد الأمين وجده آمنا مطمئنا، ووجد كل ما يحتاج الحجاج إليه موفرا لهم أحسن ما يكون، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، ووفقهم لصالح الأعمال، وجعلهم قادة مخلصين، أنصارا لدين الله، وأعوانا للحق والهدى. حجاج بيت الله الحرام، أقبلوا على طاعة الله، وأخلصوا لله حجكم وأعمالكم، واحذروا السماع والإصغاء للمضللين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 “ نهى الله عن اتخاذ الحج منبرا للفخر بالأنساب والأحساب “ إن الله -جل جلاله- عاتب العرب ونهاهم أن يتخذوا الحج منبرا للفخر بأحسابهم وأنسابهم، وحذرهم من ذلك وأمرهم بلزوم ذكره: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (1) . “ بيان صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم “ حجاج بيت الله الحرام، محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- حج حجة واحدة هي حجة الوداع، وهي الحجة الوحيدة له بعد مهاجره -صلى الله عليه وسلم-، أذن -صلى الله عليه وسلم- في الناس قائلا: إني حاج، فأم المدينة بشر كثير كلهم يريد الاقتداء به والتأسي به، فسار في طريقه من المدينة إلى مكة شرفها الله، والناس عن يمينه وشماله وخلفه وأمامه مد البصر، كل يلتمس الاقتداء به والتأسي به، والوحي ينزل عليه، وما عمل به النبي -صلى الله عليه وسلم- عمل الناس بمثل ما عمل. سلك الطريق الذي سلكه الأنبياء قبله، فمر بفج الروحاء فقال: «والذي نفسي بيده، ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما (2) » «مر بعسفان فقال: كأني بهود وصالح على بكرين أحمرين متزري العباء، مرتدي النمار، يحجان هذا البيت العتيق (3) » وصل -صلى الله عليه وسلم- مكة المكرمة منشأه ومبدأ دعوته فوجد الحرم البلد الأمين طاهرا من الشرك، طاهرا من أخلاق الجاهلية، فطاف به -صلى الله عليه وسلم-، وخرجت العواتق وذوات الخدور كل يرتقب لينظر إليه وينظر   (1) سورة البقرة الآية 198 (2) أخرجه مسلم في صحيحه 2 \ 915، كتاب: الحج، باب: إهلال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهديه، ح (1252) (3) أخرجه أحمد في مسنده 1 \ 232، ولفظه: عن ابن عباس قال: لما مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوادي عسفان حين حج قال: '' يا أبا بكر، أي واد هذا؟ '' قال: وادي عسفان، قال: '' لقد مر به هود وصالح على بكرات حمر خطمها الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النمار، يلبون يحجون البيت العتيق '' الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 كيف يعمل، فكمل حجه راكبا ليراه الناس، صلوات الله وسلامه عليه سعى بين الصفا والمروة، أتى إلى منى، ثم أتى إلى عرفة، فخطب في بطن هذا المكان العظيم خطبة عظيمة، أعلم الناس فيها قواعد الإسلام، وأعلمهم كيف يتعاملون، وأعلمهم حقوق الإنسان الصحيحة التي جاء بها الإسلام، وأعلمهم نظام الأسرة الصحيحة الذي جاء به الإسلام، وأبطل مآثر الجاهلية، وحرم الظلم في الأموال والدماء والأعراض (1) ثم «وقف بعرفة -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: " وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف (2) » وقف موقف الذليل الفقير إلى ربه، الراجي عفوه، الخائف من عقابه، «انصرف بعد غروب الشمس إلى مزدلفة مع الناس وهو يقول لهم: " السكينة السكينة (3) » «أتى منى فلقط الجمار وقال لهم: " إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (4) » خطبهم يوم النحر وأعلمهم مناسك حجهم، وأمرهم باحترام الدماء والأموال والأعراض، ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- كمل مناسك حجه، ثم عاد إلى المدينة ليوفي إلى أهل المدينة حقهم فقال: «المحيا محياكم والممات مماتكم (5) » فصلوات الله وسلامه عليه. “ على الحاج أن يتأسى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حجه “ إن المسلم وهو يؤدي مناسك الحج يتذكر سنة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ويتأسى به ويترسم خطاه -صلى الله عليه وسلم- قدوة المسلمين وأسوتهم في جميع أقوالهم وأفعالهم.   (1) أخرج هذه الخطبة البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) الهامش (11) (2) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) الهامش (8) (3) جزء من حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404 هـ) الهامش (16) (4) أخرجه النسائي في سننه، ح (3029) ، وأحمد في مسنده، وسبق تخريجه في خطبة عام (1405 هـ) الهامش (5) (5) أخرجه النسائي في السنن الكبرى 6 \ 382، سورة الإسراء، ح (11298) ، وابن حبان في صحيحه 11 \ 57، ح (4760) ، والبيهقي في السنن الكبرى 9 \117، باب: فتح مكة حرسها الله، ح (18052) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 “ فضل يوم عرفة “ حجاج بيت الله الحرام، هذا يوم عرفة من أفضل أيام الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (1) » وقال: «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام (2) » إذا كان يوم عرفة إن الله ينزل إلى السماء فيباهي بكم الملائكة فأروا الله من أنفسكم خيرا. أخلصوا إلى الله أعمالك، احفظوا جوارحكم من كل سوء، تضرعوا بين يدي ربكم واسألوه مغفرة ذنوبكم وحط خطاياكم وأوزاركم. “ بيان أعمال يوم عرفة وبقية أعمال الحج “ قفوا بعرفة إلى غروب الشمس، ولا تنصرفوا منها إلا بعد غروب الشمس، وتأكدوا من حدود عرفة، تأكدوا منها فلها أعلام واضحة، انصرفوا إلى مزدلفة بعد غروب الشمس، وصلوا بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا، وللعاجز أن يدفع منها بعد نصف الليل، ومن كان قادرا يبقى فيها إلى بعد صلاة الفجر، ثم أفيضوا إلى منى وارموا جمرة العقبة، وانحروا هديكم إن كنتم متمتعين أو قارنين، واحلقوا رؤوسكم أو قصروها، والحلق أفضل، ثم أفيضوا إلى البيت، وطوفوا طواف الحج، واسعوا بين الصفا والمروة إن كنتم متمتعين، فإن كنتم قارنين أو مفردين ولم تسعوا مع طواف القدوم، فاسعوا مع طواف الإفاضة، ارموا الجمار في اليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر، ثم ودعوا بيت الله الحرام، وقد أكمل الله لكم نسككم، وأتم عليكم نعمته.   (1) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404 هـ) الهامش (11) (2) أخرجه مالك في الموطأ، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404 هـ) الهامش (16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 حجاج بيت الله الحرام، إن هذه البلاد المقدسة تعيش في أمن وطمأنينة وسلامة ونعمة، في ارتباط وثيق بين قادتها ومواطنيها، جمعهم الله على الإسلام، فهم متعاونون على الحق والهدى، بلد أمنها الله من كل مكروه بفضله وكرمه، ووفر لها النعم، وهيأ لها أسباب الخير نتيجة لإقامة حدود الله وتنفيذ شرع الله، وآثار الإسلام لا شك حميدة على النفوس والبلدان. إن ما حصل على المسلمين من نقص وضرر وبلاء فإنما سببه التخلف عن الإسلام والبعد عن أحكامه. “ على قادة المسلمين أن يسعوا في تطبيق شرع الله في مجتمعاتهم “ فيا قادة المسلمين، اتقوا الله في أنفسكم وشعوبكم، اعملوا بشرع الله، واجعلوا نظمكم وقوانينكم على طبق ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لتعيشوا أنتم وشعوبكم في أمن وطمأنينة، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1) . “ الموت نهاية كل حي، فعلى المسلم أن يستعد للقاء الله بالتزود من العمل الصالح “ أمة الإسلام، إن الله جعل الموت نهاية كل حي، وأخبر أن كل حي فمآله ولا بد إلى الموت، قال الله لآدم -عليه السلام-: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (2) ، وأخبر أن الموت مصير كل حي، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (3) {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (4) ، فإذا علمت أيها المسلم ذلك، فكن مستعدا للقاء الله، متذكرا هذا المصرع العظيم في كل آن وحين، عسى أن يكون معينا لك على التزود من صالح الأعمال.   (1) سورة الأعراف الآية 96 (2) سورة البقرة الآية 36 (3) سورة الأنبياء الآية 34 (4) سورة الأنبياء الآية 35 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 تذكر أيها المسلم ساعة مفارقتك لهذه الدنيا، ساعة نزول ملك الموت بك واقتراب أجلك، حولك أهلك وذووك لا يستطيعون أن يدفعوا عنك سوءا ولا يؤخروك يوما، تعاني ما لا يعلمون ولا يدور في أفكارهم، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} (1) . “ يمثل للمسلم عند احتضاره مقعده في الجنة، وللكافر مقعده من النار “ تذكر أيها المسلم مفارقتك لهذه الدنيا، وتذكر أن المؤمنين في تلك اللحظة يعيشون سعادة وراحة تبشرهم ملائكة الرحمن، {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (2) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (3) ، يمثل له مقعده في الجنة فيراه قبل أن يفارق فراشه، فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه، وأما الكافر فإنه يمثل له مقعده من النار فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه ولا بد له من الموت، فتذكروا هذه الأمور عسى أن تكون سببا لصلاح قلوبكم واستقامة أحوالكم، تذكروا ما بعد الموت، تذكروا العظيمتين الجنة والنار، مآل المتقين ومآل الفجار، وليكن تذكركم لها دائما؛ عسى أن تكون هادية لكم إلى الخير، وسببا في استقامة القلوب والأعمال. اللهم وفق المسلمين لما يرضيك، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4) ، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، ووفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، اللهم   (1) سورة الواقعة الآية 85 (2) سورة فصلت الآية 30 (3) سورة فصلت الآية 31 (4) سورة الحشر الآية 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أصلح ولاة المسلمين عامة ودلهم على كل خير وهدى، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1) . عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.   (1) سورة البقرة الآية 201 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 خطبة عام 1408 الهجري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (1) “ فضل كلمة التوحيد “ كلمة قامت عليها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، عليها أسست الملة ونصبت القبلة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي أعظم واجب، افترضها الله على جميع العباد، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسنة رسله إليها، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي أساس الفرض والسنة، ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة. “ معنى شهادة أن محمدا عبده ورسوله، وبيان فضائل النبي صلى الله عليه وسلم “ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وحجته على عباده، وأمينه على وحيه، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعالمين، وحجة على المعاندين، وحسرة على الكافرين، أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورا، أمده بملائكته المقربين وأيده بنصره وبعباده المؤمنين، أنزل عليه كتابه المبين الفارق بين الحق والضلال، والغي والرشاد، والشك واليقين، شرح له صدره، ووضع عنه   (1) سبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وزره، ورفع له ذكره، وألزم الذل والصغار كل من خالف أمره، وسد كل الطرق الموصولة إليه وإلى جنته، فلم يفتح لها طريقا إلا من طريقه، افترض على العباد طاعته ومحبته والقيام بحقوقه، فهو الميزان الراجح الذي على أقواله وأخلاقه وأعماله توزن الأخلاق والأقوال والأعمال، فهو الفرقان الذي باتباعه يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، أشرقت به الأرض بعد ظلمتها، واجتمعت به القلوب بعد شتاتها، فامتلأت به الأرض نورا وابتهاجا، ودخل الناس في دين الله أفواجا، حتى إذا أكمل الله به الدين، وأتم به نعمته على عباده المؤمنين، استأثر به فنقله إلى الرفيق الأعلى، بعد ما ترك أمته على المحجة البيضاء، والطريقة الواضحة الغراء، فصلى الله وملائكته وأنبياؤه وعباده الصالحون على هذا النبي الكريم، كما عبد الله وعرف بالله ودعا إلى الله، اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: “ الوصية بتقوى الله -عز وجل-، وأنها سبب لنيل السعادة في الدنيا والآخرة “ أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا ربكم عباد الله بامتثال أمره واجتناب نهيه كما أمركم بذلك؛ لتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة، فقد أمركم الله بتقواه وأن تلزموا التقوى إلى أن توافوا ربكم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) ، اتقوه حق تقاته، والزموا جانب التقوى حتى يوفيكم الأجل وأنتم على هذه الحال. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) أمركم الله بأن   (1) سورة آل عمران الآية 102 (2) سورة آل عمران الآية 103 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 تعتصموا بحبله بالتمسك بكتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فهما حبل الله المتين ونوره المبين، وأمركم الله أن تجتمعوا وتتآلفوا عليه، فإن القلوب لا يمكن أن تتآلف بغير هذا الدين {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ، فالاجتماع إنما يكون على هذا الدين الذي يخاطب العقول والفطرة السليمة. “ أمر الله المؤمنين بالاعتصام بحبله المتين وحذر من التفرق والاختلاف “ وحذركم الله من التفرق والاختلاف فقال: {وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) ، إن التفرق نتيجة البعد عن الكتاب والسنة، فكلما قوي تمسك الأمة بدين الله قوي اجتماعها وعظم تآلفها، والتحمت كلمتها وعزت وعظمت، وكلما تفرقت الأمة ضعف تمسك الأمة بهذا الدين، ودب إليها من الفرقة والاختلاف على قدر بعدها عن هذا الدين، وذكر الله الأمة نعمته عليهم وحالهم قبل الإسلام فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (3) ، بهذا الدين {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} (4) ، أجل إنهم قبل الإسلام أعداء، أنهم قبل الإسلام متفرقون، إنهم قبل الإسلام متنازعون تسودهم الفوضى، الحكم للقوة لا للدين والعقل، يأكل القوي الضعيف، ويطغى الظلم والعدوان والفوضى. “ جمع الله بالإسلام القلوب وألف به الكلمة “ فجاء الله بالإسلام فجمع به القلوب وألف به الكلمة {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (5) ، بالإسلام أصبحتم إخوانا متحابين متآلفين، تجمعكم أخوة الإيمان، وتوحدكم رابطة الإسلام، وقد ذكر المصطفى -صلى الله عليه وسلم-   (1) سورة الأنفال الآية 63 (2) سورة آل عمران الآية 103 (3) سورة آل عمران الآية 103 (4) سورة آل عمران الآية 103 (5) سورة آل عمران الآية 103 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وسلم الأوس والخزرج هذه النعمة فقال «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي (1) » إن الرعيل الأول من هذه الأمة الذين عاشوا الجاهلية يعلمون حقيقة ما فيها من ظلم وفساد، وما فيها من فرقة واختلاف، وما من الله عليهم به من هذا الذين الذي جمع قلوبهم ووحد صفهم، وجعلهم كالبيان المرصوص يشد بعضه بعضا. “ انقسم الناس في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحتى في زماننا هذا إلى مؤمن وكافر ومنافق “ أمة الإسلام، لما هاجر المصطفي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بأمر الله –بعدما فشا الإسلام بين الأوس والخزرج – وصارت المدينة دار الإسلام، واستقرار المصطفي -صلى الله عليه وسلم- بها، وجرت وقعة بدر الكبرى التي أيد الله فيها نبيه وأصحابه وأرغم أنوف أهل الشرك والضلال، دخل في الإسلام فئة من الناس لا رغبة لهم في الإسلام، ولا حب في الإسلام، ولكن دخلوا فيه، ليحقنوا دماءهم ويحموا أموالهم، ويعشوا بين المسلمين، فمن هنا برزت معضلة النفاق الكبرى، فصار الناس أمام هذا الدين ما بين مؤمن ظاهرا وباطنا، وهم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- الكرام، الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا بألسنتهم، وظهر أثر ذلك الإيمان على جوارحهم، في تصرفاتهم، في أقوالهم وأعمالهم، وبين كافر قد استبان كفره وضلاله، فهو كافر ظاهرا وباطنا، وفئة أخرى كانوا مع المؤمنين في ظاهرهم ومع الكافرين في باطنهم وهم المنافقون، فتلك البلية العظمى والمصيبة الكبرى، إن الإسلام إنما أصيب على أيدي المنافقين المتربصين بالإسلام وأهله   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: المغازي، باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، (فتح الباري 8 \ 59، ح، 4330) ومسلم في صحيحه 2\ 738، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على صحيحه، ح (1061) واللفظ للبخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الدوائر المتظاهرين بالإسلام خداعا ونفاقا، المفارقين له حقيقة وباطنا، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (1) . “ ذكر الله صفات المنافقين وكشف أحوالهم في القرآن ليكون المسلم على حذر منهم “ ولأجل ذا جاءت نصوص القرآن الكريم توضح أخلاق المنافقين وتبين صفاتهم وتكشف حالهم، ليكون المسلم على حذر منهم، فلا يغتر ولا ينخدع بهم، فيأخذ حذره فلا يغتر بهم وبأباطيلهم، جاءت نصوص القرآن لتبين حالهم، وأخبر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنه قادر أن يوقفه على أعيانهم كلهم، ولكن حكمته اقتضت أن تجري الأحكام على الظاهر، إلا أنه -جل وعلا- بين أمورا يستدل بها ذوي البصائر على نفاق المنافقين {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (2) ، إن كل من أسر بلاء وفسادا فلا بد أن يتلفظ بلسانه عما أكنه قلبه، ومن أسر سريرة ألبسه الله رداءها علانية، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ولقد كان سلفكم الصالح يخافون هذا البلاء على أنفسهم، ويخشون أن يشوب إيمانهم شيء من النفاق لعلمهم بمصير المنافقين المحتوم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (3) . هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ناشد حذيفة بن اليمان قائلا: أسألك بالله هل عدني لك رسول الله من المنافقين؟ فيقول: لا، ولا أزكي أحدا بعدك (4) فإذا كان هذا خوف عمر على نفسه مع الإيمان واليقين الصادق، فليحذر كل مسلم أن يكون في إيمانه شيء من النفاق وليحاسب نفسه.   (1) سورة البقرة الآية 220 (2) سورة محمد الآية 30 (3) سورة النساء الآية 145 (4) أورد ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء 2\ 364 في ترجمة حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 “ من صفات المنافقين: الإيمان ظاهرا لا باطنا “ وقد أوضح الله -عز وجل- صفاتهم، فبين –تعالى- أن من صفاتهم: أن إيمانهم ظاهر لا باطن، يقول –سبحانه-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (1) {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (2) ، فهم آمنوا في الظاهر وكفروا في الباطن، فقلوبهم على خلاف ما أظهروه. “ من صفاتهم: الاستهزاء بأهل الإسلام “ ومن صفاتهم، أنهم يصفون أهل الإسلام بأنهم سفهاء العقول، ضعفاء الرأي، قليلو التفكير، وهم في نفس الوقت يرون أنفسهم أهل الرأي الصائب والعقب الراجح {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} (3) ، مقالة قالها قبلهم قوم نوح لنوح: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} (4) . “ من صفاتهم: جعل الصلاح فسادا “ ومن صفات القوم: أنهم يعدون الصلاح والخير فسادا، والإفساد والشر صلاحا، فإذا دعوا إلى التمسك بالحق ولزومه جعلوا ذلك فسادا، والكفر والضلال والباطل صلاحا، انتكاس في الفطر، وانعكاس في العقول، وانقلاب في الحقائق، يقول الله -عز وجل-: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} (5) ، ويقول -سبحانه-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (6) {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (7) “ تشابه قلوب المنافقين قديما وحديثا “ وهذه مقالة قالها فرعون في حق موسى وأتباعه، يقول –سبحانه- قاصا خبره: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (8)   (1) سورة البقرة الآية 8 (2) سورة البقرة الآية 9 (3) سورة البقرة الآية 13 (4) سورة هود الآية 27 (5) سورة فاطر الآية 8 (6) سورة البقرة الآية 11 (7) سورة البقرة الآية 12 (8) سورة غافر الآية 26 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ومنافقو العصر إذا دعوا إلى الخير والهدى، وحذروا من إضرار المسلمين ونشر الفتن بين صفوفهم وإعانتهم العدو على الإسلام وأهله -قالوا: نحن مصلحون، ونحن ونحن ... تشابهت القلوب في الكفر والباطل. “ من صفاتهم: الإعراض عن حكم الله وشرعه “ ومن صفات القوم: أنهم إذا دعوا إلى تحكيم شرع الله وتنفيذ أحكام الله العادلة، صدوا وانصرفوا وأعرضوا، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (1) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (2) ، فنفوسهم تميل إلى أحكام الكفرة، إلى القوانين الجائرة الظالمة التي تبيح لهم المحرمات والفجور، وتسمح لهم بالسوء والفساد، أما أحكام الله العادلة المنصفة التي تأخذ حق المظلوم من ظالمه، فتلك أحكام لا يقبلونها، لما في قلوبهم من عداوة للإسلام وأهله، فإن يك في أحكامه موافقة لأهوائهم قبلوها، {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (3) {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (4) ما قبلوها إلا لموافقتها لأهوائهم لا غير. “ من صفاتهم: السخرية بأهل الصلاح “ ومن صفات القوم: أنهم يستهزئون بالإسلام وأهله، ويعيبون أهل الإسلام ويسخرون بالمسلمين وأعمالهم، يسخرون بأهل الخير والصلاح: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (5) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (6) .   (1) سورة النساء الآية 60 (2) سورة النساء الآية 61 (3) سورة النور الآية 48 (4) سورة النور الآية 49 (5) سورة التوبة الآية 65 (6) سورة التوبة الآية 66 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 “ من صفاتهم: السعي في إبعاد المجتمع المسلم عن دينه “ ومن صفات القوم: أنهم يحاولون صبغ المجتمعات الإسلامية بصبغة غير إسلامية، شرقية كانت أو غربية، يحاولون أن يحولوا المجتمع المسلم حتى يكون مجتمعا إباحيا إلحاديا، هكذا يسعى المنافقون وأتباعهم، قال الله -جل جلاله-: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (1) . “ من صفاتهم: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف “ ومن أخلاق القوم: أنهم أمرة بالمنكر نهاة عن المعروف، أمرة بكل شر وفساد، نهاة عن كل خير وصلاح، يقول الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} (2) ، فهم عكس أهل الإيمان الذين هم أمرة بالمعروف، ونهاة عن المنكر، يقول الله –سبحانه-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) . “ من صفاتهم: عدم الثقة بموعد الله “ ومن أخلاق القوم: أنهم يرون أن وعد الله بنصر دينه ومن اتبعه ووعده المتقين بالثواب، وتوعده الكافرين بالعقاب – إن ذلك غرور وخداع؛ لأنهم لا يصدقون بلقاء الله ولا يؤمنون بوعيده {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (4) . أيها المسلمون، احذروا النفاق وأعمال المنافقين، وكونوا على حذر منهم ومن شرهم وفسادهم. “ وصايا لرجال الصحافة والإعلام “ رجال الصحافة والإعلام: اتقوا الله في أنفسكم، وسخروا أقلامكم لخدمة هذا الدين، وعرض مشاكل الأمة، وطرح الحلول المناسبة لها في حدود كتاب ربنا وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وجهوا وسائل إعلامكم لخدمة قضايا   (1) سورة النساء الآية 89 (2) سورة التوبة الآية 67 (3) سورة التوبة الآية 71 (4) سورة الأحزاب الآية 12 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الأمة، واحذروا أن يندس فيها منافق ضال يغير اتجاهها إلى اتجاه غير سليم. “ وصايا للقائمين على المراكز الإسلامية “ القائمون على المراكز الإسلامية والجمعيات الخيرية في أنحاء العالم، عليهم تقوى الله في أنفسهم، وأن يجعلوا تلك المراكز والجمعيات منابر خير وهدى، ينطلق منها صوت الإسلام وينشر فيها محاسن الدين، ويوضح فيها الحق من الباطل، احذروا أن يندس من بين صفوفكم الضالون والمفسدون، الذين يأتون بأفكار غربية ومبادئ ضالة بعيدة عن الإسلام وأهله، وإن تظاهروا بالإسلام فهم أعداؤه الألداء وهم خصومه، فاحذروا هذا الأمر واجعلوا هذه المراكز والجمعيات مراكز خير ومنابر هدى، وجنبوها المندسين من المنافقين والضالين والمفسدين، لا تسمحوا لهم بشيء؛ فإنهم يسعون في الأرض فسادا، فاجعلوا هذه المراكز والجمعيات تخدم قضايا الأمة وتخدم الإسلام وأهله، وجنبوها أن يندس من بين صفوفها من لا خير فيه من الذين يحاولون أن يبثوا فيها أفكارهم ومبادءهم وآراءهم البعيدة التي تشوه الإسلام وأهله. “ واجب علماء المسلمين في تحذير المجتمع المسلم من النفاق “ علماء المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي، عليكم واجب عظيم: تقوى الله في أنفسكم، وتحذير المجتمع المسلم من هذه الأفكار والمبادئ السامة الضالة، حذروا المجتمعات الإسلامية أن ينخدعوا ويغتروا بهذه الأفكار والآراء الزائفة. يا أمة الإسلام، يا أمة القرآن، يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، يا من جعلكم الله خير أمة أخرجت للناس، إن هذا الفضل لن تناله الأمة المحمدية بالدعاوى والأماني، ولكن بالعمل بمقتضى هذا الفضل، فالله فضلكم وشرفكم على غيركم، فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (1) ، أنتم   (1) سورة آل عمران الآية 110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 خير الناس للناس، أنتم شهداء الله على الأمم، جعلكم الله شهداء على الأمم، اختصكم بهذا النبي الكريم، وهذا القرآن العظيم، وهذه الشريعة الكاملة التامة في نظمها ومبادئها، فاتقوا الله وقابلوا هذه النعمة بشكر الله بالإيمان الصحيح الصادق، وإقامة شرع الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ، تأمرون بكل خير وصلاح، وتنهون عن كل شر وفساد، وترسون دعائم الأمن والاستقرار، وتصلحون فساد الأمة وتجمعون شملها. “ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمان الأمة من التخريب والدمار “ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمان الأمة، وسياج منيع يقيها من التخريب والدمار، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس لفئة معينة، ليس لجيل معين، ولكنه خير تتربى عليه الأجيال جيلا بعد جيل، فيكون المجتمع المسلم متوارثا لتلك القيم والأخلاق، ذلكم أن المجتمع المسلم ينبغي أن يكون مغايرا لغيره من المجتمعات بمحافظته على قيمه وفضائله وأخلاق دينه وتمسكه بهذا الدين. “ لا منافاة بين التمسك بالدين وبين الأخذ بأسباب الرقي والمدنية الصحيحة “ إن الأمة الإسلامية يجب أن تكون مدنيتها ورقيها وتقدمها مواكبا لدينها نابعا من دينها؛ إذ ليس دينها حجر عثرة أمام أي تقدم وأي رقي صحيح، بل الأمة يكون رقيها ومدنيتها على بنيان قوي من قيمها وأخلاقها، إن الدين الإسلامي دين ودنيا، حياة وآخرة، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (2) ، {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (3) ، فليس بين التمسك بالدين ولا بين الرقي والمدنية الصحيحة أي تناف، فديننا دين خير وعز وكرامة ورقي. “ رفعة الأمة المحمدية في تمسكها بدينها، وضعفها وهوانها في بعدها عن دينها “ أمة الإسلام، إن هذه الأمة المحمدية إذا تمسكت بدينها عزت ونالت   (1) سورة آل عمران الآية 110 (2) سورة القصص الآية 77 (3) سورة سبأ الآية 13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الكرامة والرفعة في الدنيا والآخرة، إن ما أصاب الأمة من ضعف ووهن وتفرق واختلاف وتسلط العدو إنما هو ببعدها عن دينها، ببعدها عن إسلامها، هذا الدين الذي قام به أوائلكم، فنالوا به من الله العزة والتمكين، مكن الله لهم في البلاد، وحكمهم على معظم العباد، وكانت لهم الكلمة النافذة والمقالة الماضية، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (1) ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2) “ على ولاة الأمر والقادة تحكيم شرع الله في شعوبهم “ فيا قادة المسلمين، اتقوا الله في شعوبكم، وحكموا فيهم شرع الله؛ لتعيشوا وإياهم في أمان واستقرار، إن ما أصاب الأمة الإسلامية من تقلب في اقتصادها، ونقص في مواردها، وجدب وبلاء، إنما أسبابه بعدها عن هذا الدين، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3) . فاتقوا الله أمة الإسلام في أنفسكم، وعودوا إلى إسلامكم عودا صحيحا، اجمعوا قلوبكم على هذا الخير، تكاتفوا على هذا الدين، حلوا مشاكلكم وقضاياكم في إطار الأمة الإسلامية، فعدوكم يحب أن يراكم متفرقين، يحب أن يراكم متنازعين، يحب أن يرى بعضكم ضد بعض، يحب أن يرى بعضكم يقتل بعضا، ويهدد بعضكم بعضا، لتكونوا فريسة سهلة له، فلنتق الله في أنفسنا، ولنصحح أوضاعنا، ولنعد إلى ديننا، فثم العزة والكرامة.   (1) سورة الحج الآية 41 (2) سورة النور الآية 55 (3) سورة الأعراف الآية 96 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 “ بيان فضل الحج وفوائده ومنافعه “ حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله على نعمته إذ هيأ لكم الوصول إلى هذه الديار المقدسة، ومكنكم من أداء نسككم، التقيتم في هذا المكان المبارك على صعيد عرفات في هذا الموسم الكريم، هذا اللقاء الذي هو لقاء عبادة الله، لقاء تجمع وتعارف وتنسيق وتعاون وتفاهم بين الأمة؛ لنشهد في هذا اللقاء منافع لنا، من أعظمها طاعة الله والسعي في مرضاة الله، يجب على الأمة أن تستفيد من هذا التجمع الكريم فوائد عظيمة، تعود عليها وعلى شعوبها بالخير والصلاح. إن المسلم وهو يرى إخوانا له أتوا من أقطار الدنيا إجابة لنداء الله -عز وجل-، وتلبية لنداء الخليل -عليه السلام-، يرى أناسا جاءوا من كل حدب وصوب، تغيرت البلاد والألوان واللغات ولكن اتحدت القلوب على الخير، فالهدف واحد والغاية واحدة، طاعة لله واستجابة لندائه وطلب الفضل والمغفرة منه. “ النعم العظيمة التي تعيش فيها هذه البلاد، ومن أهمها نعمة الأمن “ حجاج بيت الله الحرام، وطأتم أرض هذه البلاد الطاهرة المباركة، وشاهدتم ما أنعم الله به على أهلها من أمن واستقرار ورغد العيش ونعم متوافرة، أعلاها وأعزها نعمة الإسلام واجتماع الكلمة على هذا الدين، إن هذه البلاد -ولله الحمد تعيش- في نعمة عظيمة من نعم الله، ألا وهو تحكيم شرع الله وإقامة حدود الله، فتحاكمنا إلى القرآن والسنة، ومحاكمنا تطبق أحكامه وتعمل بمقتضاه، فأمن الله هذه البلاد من كل المخاوف، وجمع قلوبهم على الخير، وهيأ لهم من رغد العيش والنعمة ما هو معروف لدى كل عاقل، وجعل الله بين قادتها وبين مواطنيها محبة ومودة واتفاقا ولقاء على الخير والهدى، إن هذا الأمن والاستقرار الذي تنعم به هذه البلاد، كله من فضل الله، ثم جهود قادة هذه البلاد، وما قاموا به من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 جهود عظيمة في سبيل راحة المسلمين واستقبال الحجيج كل عام، وتهيئة السبل المناسبة لهم حتى يؤدوا نسكهم على الوجه المرضي، ما فعلوا ذلك إلا طاعة لله وطلبا لثواب الله، فجزاهم الله عما فعلوا خيرا. “ حماية الله تعالى لبيته الحرام، وعقابه لكل من يحاول الإخلال بأمنه “ حجاج بيت الله الحرام، إن الله من عزته وحكمته حمى بيته الحرام وجعله آمنا مطمئنا كما أخبر الله أنه حرما آمنا، وأن من أراده بشر فإن الله يعاقبه بمجرد همه، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) ، وحكمة الله اقتضت أن كل من هم بسوء فإنه يعاجل له العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم. لقد حاول أبرهة أن يؤذي البيت الحرام ويهدمه، فأنزل الله عليه طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، وحاول فئة أخرى ليذيقوا أهله الذل والهوان، فسلط الله عليهم عقوبة سلبت عنهم كل خير، وهذه سنة الله فيمن هم في هذا البيت الحرام بسوء وفساد، أن يعجل له العقوبة وينزل به الذل والهوان، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. “ وجوب الحج وأنه ركن من أركان الإسلام “ حجاج بيت الله الحرام، إن الله افترض الحج على أمة الإسلام وجعله خامس أركان الإسلام، افترضه على المسلم في عمره مرة، من أداه في عمره فقد أدى الواجب الذي عليه، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (2) ، خطب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا". فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال: (3)   (1) سورة الحج الآية 25 (2) سورة آل عمران الآية 97 (3) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم"، ثم قال: " ذروني ما تركتكم» فصلوات الله وسلامه عليه. “ بيان صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم “ أمة الإسلام، إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- حج في عمره حجة واحدة، حج بعد الهجرة حجة واحدة سماها المسلمون "حجة الوداع"، أعلمهم مناسك الحج بقوله وعمله، ما قال قولا ولا عمل عملا إلا قال: «خذوا عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا (1) » «وقف -صلى الله عليه وسلم- بعرفة وقال: " وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف (2) » «وارفعوا عن بطن عرنة (3) » وصلى بعرفة الظهر والعصر جمع تقديم، ثم انصرف من عرفة بعد غروب الشمس، ثم أتى المزدلفة وصلى بها المغرب والعشاء، وبات بها وصلى بها الفجر، ثم أتى المشعر الحرام وذكر الله وعظمه، ثم انصرف فرمى جمرة العقبة، ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه، وحل من إحرامه التحلل الأول فتطيب، ثم طاف بالبيت، صلوات الله وسلامه عليه، وتحلل التحلل الثاني بعد الطواف. “ فضل يوم عرفة والتحريض على إخلاص العبادة فيه “ حجاج بيت الله الحرام، إن هذا اليوم المبارك من أعظم أيام الله، يوم عرفة يوم الحج الأكبر، أيها المؤمنون، عظموا في هذا اليوم ربكم، وأكثروا من الثناء عليه وذكره وتعظيمه بما أنعم الله عليكم به من النعم العظيمة، حيث أكمل الله لكم دينكم وأتمم عليكم نعمته، هذا يوم عظيم يباهي الله بكم ملائكته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (4) »   (1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والبيهقي في السنن الكبرى، وأصله عند مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (9) (2) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) ، الهامش (8) (3) أخرجه أحمد في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1405 هـ) ، الهامش (12) (4) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404 هـ) ، الهامش (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ويقول: «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام (1) » فأروا الله من أنفسكم خيرا. ارفعوا أكف الضراعة إلى ذي الجلال والإكرام، اسألوه من فضله مغفرة ذنوبكم وحط أوزاركم والتجاوز عن زلاتكم، ارفعوا أيدي الضراعة إليه، أكثروا من: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فإن نبيكم يقول: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير (2) » أخلصوا لله دعاءكم وتضرعوا بين يدي ربكم واسألوه التوفيق والسداد والهداية، إنه على كل شيء قدير. “ إرشاد الحجاج إلى ما تبقى من أعمال الحج “ قفوا بعرفة ولا تنصرفوا منها إلا بعد غروب الشمس، ومن انصرف منها قبل الغروب فقد خالف هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، صلوا بها الظهر والعصر جمعا وقصرا، ثم انصرفوا إلى مزدلفة، وصلوا بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا، ولكم أن تدفعوا بعد نصف الليل، والأفضل البقاء حتى تصلوا بها الفجر، ثم ائتوا إلى منى وارموا بها جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، ثم انحروا الهدي إن كنتم متمتعين أو قارنين، ثم احلقوا رؤوسكم، والحلق أفضل من التقصير، ثم طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة، «ومن قدم يوم النحر شيئا على شيء، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: " لا حرج (3) » السنة: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق   (1) أخرجه مالك في الموطأ، وعبد الرزاق في مصنفه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (16) (2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، ومالك في الموطأ، والبيهقي في السنن الكبرى، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (18) (3) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) ، الهامش (10) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ثم الطواف، ومن قدم شيئا على شيء فنبيكم -صلى الله عليه وسلم- «ما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: " افعل ولا حرج (1) » بيتوا بمنى ليلتين من ليالي التشريق إن تعجلتم، فارموا في اليوم الحادي عشر الجمار الثلاث مرتبة بعد الزوال: الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة، وفي اليوم الثاني عشر كذلك، فإن أحببتم أن تنصرفوا فلا شيء عليكم، وإن أحببتم أن تقيموا في اليوم الثالث فلا شيء عليكم {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (2) . “ نصيحة للقائمين على الهدي والمطوفين والمتعهدين بالحجاج “ أيها المسئولون، أيها القائمون بعهد الهدي والأضاحي، اتقوا الله في أنفسكم، واعلموا أن الحجاج ائتمنوكم على هديهم، ائتمنوكم على أضاحيهم، فاتقوا الله في أنفسكم ولا تذبحوا إلا ما وافق السن الشرعي، وكلوا الذبح إلى من يحسنه ويؤدي الذكاة الشرعية كما يحب الله ويرضاه. أيها المسئولون المتعهدون بالحجاج، أيها المطوفون، اتقوا الله في الحجاج، اتقوا الله فيهم وقفوا بهم المواقف الشرعية، واحذروا أن تسعوا فيما يفسد حجهم ويضعف ثوابه، فإنها أمانة والله سائلكم عنها، فاتقوا الله يا عباد الله في أنفسكم، وائتمروا بينكم بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وتذكروا في هذا المجتمع وقوفكم بين يدي الله حفاة عراة، تذكروا في هذا المجتمع وقوفكم بين يدي الله، واسعوا في تخليص أنفسكم من عذاب الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا بأننا نشهد أنك أنت   (1) انظر التخريج السابق (2) سورة البقرة الآية 203 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، أن تجعل حجنا مبرورا، وذنبنا مغفورا، إنك على كل شيء قدير، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، اللهم ألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واجمعهم على كلمة التقوى، إنك على كل شيء قدير، وأعذهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمام المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم انصر به دينك وأعل به كلمتك، وأخذل به أعداءك، اللهم اجزه ومن معه عما قدموا للحجيج خيرا، إنك على كل شيء قدير. عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 خطبة عام 1409 الهجري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (1) أما بعد: “ الوصية بتقوى الله، وبيان الحكمة من إرسال الرسل إلى العباد “ أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى. عباد الله، إن الله بعث أنبياءه ورسله دعاة إليه، دعاة إلى دينه، ليقيم بهم الحجة على العباد، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2) . أيدهم الله بمعجزات تدل على صدقهم، وصدق ما جاءوا به، وأنهم رسل الله حقا، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة (3) » “ ذكر معجزة النبي الخالدة القرآن الكريم وبيان فضلها “ أمة الإسلام، إن معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- هي القرآن العظيم والذكر الحكيم، الذي جعله الله معجزة باقية ما بقيت الدنيا، فالقرآن الحكيم معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم-، إن معجزات الأنبياء انقضت بانقضائهم، ولما   (1) سبق تخريج خطبة الحاجة في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (1) (2) سورة النساء الآية 165 (3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: فضائل القرآن، باب: كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، (فتح الباري 9 \ 3، ح 4981) ، ومسلم في صحيحه 1 \134، كتاب: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ح (152) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 كان محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم أنبياء الله وخاتم رسله، كانت معجزته باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. “ للقرآن خصائص عظيمة منها: حفظ الله له من الزيادة والنقصان “ أمة الإسلام، لقد خص الله هذا القرآن العظيم بخصائص عظيمة لم تكن لكتاب من كتب الله السابقة. فمن خصائصه: أن الله حفظه فلا تتطرق إليه أيدي العابثين زيادة فيه أو نقصانا منه، يقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ، فهذا القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله، لا يستطيع أحد أن يزيد فيه أو ينقص منه مهما بذل جهده، وكم نسب إلى الله في الكتب السابقة ما لم يقله الله، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (2) ، أما القرآن الكريم فمحفوظ بحفظ الله، تحدى الله العرب أن يأتوا بعشر سور منه، أو بسورة، بل بآية، إلى أن قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (3) . “ ومن خصائصه: أن الله جعله مهيمنا على ما سواه من الكتب “ ومن خصائص القرآن الكريم أن الله جعله مهيمنا على ما سواه من الكتب، جامعا لمعاني ما سلفه من الكتب، يحق الحق ويبطل الباطل، يقول الله -عز وجل-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (4) .   (1) سورة الحجر الآية 9 (2) سورة البقرة الآية 79 (3) سورة الإسراء الآية 88 (4) سورة المائدة الآية 48 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 “ ومن خصائصه: أنه مصدر سعادة الدنيا والآخرة “ ومن خصائص هذا القرآن أن الله ضمنه سعادة الدنيا والآخرة، فكل سعادة في الدنيا والآخرة فقد انتظمها القرآن واشتملها، فلا خير إلا دعا إليه، ولا شر إلا حذر منه، يقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) ، فما من مشكلة حاضرة أو مستقبلة إلا وقد تكفل القرآن بحلها، يقول الله -عز وجل-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) ، لا تناقض في أحكامه ولا اضطراب في أخباره، بل أحكامه العادلة وأخباره الصادقة، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) . أمة الإسلام، إن هذا القرآن الكريم شرف لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وهو شرف لنا، شرف لأمته -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (5) ، شرف لك وشرف لأمتك، وسوف تسأل هذه الأمة عن هذا القرآن الكريم هل قاموا بحقه، هل حكموه وعملوا به، هل أدوا حقه الواجب عليهم؟ “ شرف هذه الأمة وفخرها في تحكيم كتاب الله والتحاكم إليه “ أمة الإسلام أمة القرآن، إن شرف الأمة وعزها وفخرها هو في تحكيم كتاب الله، والتحاكم إليه هو أن نحل حلاله ونحرم حرامه، ونعمل بمحكمه ونقف عند حدوده، وننفذ أوامره، ونتأدب بآدابه، إنه يهدينا لكل خير، ويسوقنا إلى كل هدى، يقول الله –سبحانه-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (6) .   (1) سورة النحل الآية 89 (2) سورة الأنعام الآية 38 (3) سورة الأنعام الآية 115 (4) سورة الزخرف الآية 43 (5) سورة الزخرف الآية 44 (6) سورة الإسراء الآية 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 “ عزة المسلمين وتمكينهم من تحكيم لكتاب الله “ أمة الإسلام، إن السعادة كل السعادة في العمل بهذا القرآن، وفي التمسك بهذا القرآن، وفي تحكيمه والتحاكم إليه، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (1) {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (2) {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (3) . فمن اتبع القرآن وحكم القرآن وجعل القرآن نظامه ودستور حياته، فإنه لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، فهو على هدى وبصيرة، سعيد في دنياه وسعيد في آخرته، ومن أعرض عن القرآن فإن حياته حياة شقاء وبلاء، كيف لا يكون كذلك وقد نبذ كتاب الله وأعرض عن كتاب الله، فنتائج الإعراض عن الكتاب حصول الفوضى والبلبلة والاضطراب، والتمسك بهذا القرآن سبب للأمن والاستقرار والقوة والعزة والتمكين. فيا أمة الإسلام، تأدبوا بكتاب الله وحكموا كتاب الله، واعملوا بكتاب الله، فهو نور يهديكم سبل السلام، يقول الله -عز وجل-: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (4) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) .   (1) سورة طه الآية 124 (2) سورة طه الآية 125 (3) سورة طه الآية 126 (4) سورة المائدة الآية 15 (5) سورة المائدة الآية 16 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 أمة الإسلام، إن هذا القرآن الحكيم عملت به أمة الإسلام قرونا عديدة، راضية به محكمة له، فنالت العزة والتمكين، وكانت مهيبة الجناب، محوطة بحفظ الله ورعايته وحمايته. وفي هذه الأزمان -للأسف الشديد- هناك فئة من الناس تدعو إلى محاربة القرآن، إلى معاداة القرآن، إلى فصل القرآن عن نظم الحياة، إلى الاعتياض عن هذا القرآن بنظم وقوانين ضالة مضلة جائرة لا خير فيها، إن كل حكم سوى حكم القرآن والسنة، فهو الحكم الجاهلي الباطل، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) . [الرد على أعداء الإسلام الذين يتنقصون من شأن القرآن الكريم] إن الله أمرنا أن نتدبر القرآن ونعمل بمقتضاه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2) ، إن المنادين بعزل القرآن عن نظم الحياة ونبذ أحكامه والإعراض عن تنفيذها، إنما هم قوم أصيبوا بمرض في قلوبهم، وتلك وراثة ورثوها من إخوانهم أهل الكفر والضلال والنفاق، فلقد ذكر الله عن الكفار أنهم إذا سمعوا القرآن استهزءوا به وسخروا بآياته، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} (3) ، وهكذا أعداء الإسلام إذا دعوتهم إلى القرآن وإلى تحكيمه وإلى العمل بمقتضاه قالوا: تلك أمور انتهت، وقرون مضت، وأجيال سلفت، وإن العالم بحاجة إلى نظم عصرية وقوانين حديثة تنظم شئون حياتهم، لعمر الله إنه الكذب والافتراء، وإنها مقالة الكفر، تشابهت في الكفر مقالتهم، فاعملوا بكتاب الله وحكموه وتحاكموا إليه، واعملوا به واجعلوه نظام حياتكم، لتعيشوا سعداء أمناء، إن القرآن الكريم يدعو   (1) سورة المائدة الآية 50 (2) سورة محمد الآية 24 (3) سورة لقمان الآية 7 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أتباعه إلى كل خير، ويهديهم إلى السعادة، ويدلهم على أسباب القوة والعزة والتمكين. “ قصة نزول آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1) في يوم عرفة، وبيان عظمتها “ أمة الإسلام، أمة القرآن، في هذا اليوم المبارك وأمة الإسلام يتذكرون عظيم نعم الله عليهم، وعظيم فضل الله عليهم، وعظيم كرم الله عليهم، حيث أنزل على نبينا -صلى الله عليه وسلم- آية في كتاب الله ازداد بها المؤمنون عزا وفخرا، وازداد بها الحاقدون على الإسلام غيظا وحنقا؛ أنزل الله في هذا اليوم المبارك قوله -عز وجل-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) ، هذه الآية نالت بها الأمة المحمدية المجد والسؤدد والفخر، نالت بها العزة والظهور على العالمين، إنها آية عظيمة لم يستطع أعداء الإسلام أن يخفوا حقدهم وغيظهم على المسلمين بإنزالها؛ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن «رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال:، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم بعرفة يوم جمعة (4) » أجل إنها نعمة لم تنلها أمة قبلكم، ولن يحوزها أحد غيركم من الأمم، كل شريعة لنبي من أنبياء الله خاصة ببيئته وخاصة بقومه، أما شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- فإلى الثقلين الإنس والجن إلى قيام الساعة، فقد أكمل الله الدين، وأتم   (1) سورة المائدة الآية 3 (2) سورة المائدة الآية 3 (3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب: الإيمان، باب: زيادة الإيمان ونقصانه، (فتح الباري 1\141، ح 45) ، ومسلم في صحيحه 4 \2313، كتاب: التفسير، باب: (بدون) ، ح (3017) ، واللفظ لمسلم (4) سورة المائدة الآية 3 (3) {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 النعمة، ورضي الإسلام دينا، فلنرض بما رضي الله لنا، ولنحمد الله على هذه النعمة والفضل، ونسأله الثبات على الإسلام إلى أن نلقاه غير مبدلين ولا مغيرين. أمة الإسلام، يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، يا خير الأمم وأكرمها وأفضلها على الله، يا من فضلكم الله بأفضل نبي، وأكرم كتاب، وأكمل شريعة، اعلموا أن هذا الفضل العظيم لن تنالوه إلا إذا حكمتم شرع الله، وعملتم بهذا الدين، وتآلفت عليه قلوبكم واجتمعت عليه كلمتكم. “ سعي أعداء الأمة لتشتيت شملها وتفريق صفوفها، وحقدهم على الإسلام وأهله “ إن أعداءكم يا أمة الإسلام يحاولون تفريق شملكم وتشتيت صفوفكم، وإيقاع العداوة والبغضاء بينكم، يحاولون أن يضربوا بعضكم ببعض، يحاولون أن يسلطوا بعضكم على بعض، فاحذروا مكايدهم، واحذروا ضلالاتهم، إنهم يعلمون أن اجتماعكم واعتصامكم بدين الله وتآلف قلوبكم قوة لا تغلبها قوة، لا يستطيع أي عدو أن يحطمها، فتمسكوا بهذا الدين واعملوا به واجتمعوا عليه لعلكم تفلحون. أمة الإسلام، إن أعداءكم يتمنون من قلوبهم أن تتركوا دينكم، أن تفارقوا إسلامكم، يقول الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (1) ، لأن تمسككم بإسلامكم حصن حصين يقيكم مكايد الأعداء وشرورهم، وإن كل فرقة واختلاف فإنما ذلك قوة لعدوكم عليكم، أنتم خير الأمم وأكرمها على الله، أنتم مؤهلون لقيادة البشرية كما قال الله -جل وعلا-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (2) ، وقال -سبحانه-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (3) . فحذار حذار أمة الإسلام من مكايد أعداء الإسلام، إنهم ينسبون كل   (1) سورة النساء الآية 89 (2) سورة آل عمران الآية 110 (3) سورة البقرة الآية 143 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ضعف وتخلف للأمة، ينسبونه إلى تمسكنا بديننا واعتصامنا به، وهذا من الكذب والافتراء، فالدين يدعونا للقوة والعزة والعمل بالأسباب النافعة، والأخذ بكل نافع مفيد في مصالح دنيانا مما لا يتنافى مع ديننا، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (1) ، وقال –سبحانه-: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (2) . أمة الإسلام، إن أعداءكم يحاولون أن يوجدوا بينكم البغضاء والعداوة، ويشتتوا شملكم ويحدثوا بينكم فرقة واختلافا، فحذار من مكايد أعدائكم، حذار من ضلالاتهم، حذار من إيحاءاتهم الباطلة، إنهم ينسبون الأمة الإسلامية إلى التخلف والرجعية، ليفتوا من عضدها، ويقللوا من شأنها، والأمة متى عادت إلى رشدها وتمسكت بدينها واعتصمت بوحي الله، فإنها بتوفيق الله ستقف أمام مكائد الأعداء ولا يضرها شيء بتوفيق الله وعزته وقوته. النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا (3) » فإذا فعلوا ذلك فإن العدو سيسلط عليهم ويفكك شملهم، ويجعلهم أمة تابعة له، فاحذروا يا عباد الله ذلك، وتمسكوا بدين الله واجتمعوا عليه لعلكم تفلحون.   (1) سورة التوبة الآية 105 (2) سورة سبأ الآية 13 (3) أخرجه مسلم في صحيحه 4\2215، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، ح (2889) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 “ فضل البلد الحرام وذكر بعض مما خصه الله تعالى به “ أمة الإسلام، أمة القرآن، إن الله -جل جلاله- لما خلق الأرض اختار منها البلد الحرام، فجعله خير بقاع الأرض وأشرفها وأفضلها، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (1) ، اختار البلد الأمين فخصه بخصائص لم تكن لغيره من بقاع الأرض. ومن ذلك أن الله -جل جلاله- جعله مثابة للناس، أودع في قلوب المؤمنين حب بيت الله الحرام والشوق إلى بيت الله الحرام، فما زاره مسلم إلا وفي قلبه حب وتطلع بأن يعود إلى البيت الحرام ثانية. جعله الله حرما آمنا لا يسفك فيه دم، ولا ينفر فيه صيد، ولا يختلى خلاه، ولا تلتقط لقطته إلا لمن كان معرفا لها. أوجب الله على المسلمين استقباله في مشارق الأرض ومغاربها، يقول الله -عز وجل-: {الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (2) . وألزم المسلم أن يزوره في عمره مرة، ليطوف به لله ويصلي إليه لله، عهد الله ببناء هذا البيت إلى نبيين من أنبيائه: إبراهيم، وإسماعيل -عليهما السلام-، قام على إخلاص الدين لله، {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (3) ، فليس في الدنيا بيت يشرع الطواف به إلا بيت الله الحرام، ليس في الدنيا موضع يشرع تقبيله واستلامه إلا الحجر الأسود أو استلام الركن اليماني. “ لا يشرع للمسلم الطواف بقبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك أشد النهي “ أمة الإسلام، هذا شيء من فضل الله وما خص به هذا البيت العتيق، إن كل مسلم يعلم أن أشرف قبر يحوي أشرف جسد هو قبر محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويا ترى هل شرع للمسلمين أن يطوفوا بقبره ويتخذوه كالبلد الأمين   (1) سورة القصص الآية 68 (2) سورة البقرة الآية 144 (3) سورة الحج الآية 26 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 يطوفون بقبره؟ لا والله لم يشرع ذلك، لا انتقاصا من حق المصطفى، فإن محبته في قلب المؤمنين فوق محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، لكنه نهانا فانتهينا وقال لنا: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وحيثما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني (1) » وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » وقال وهو في كرب السياق: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك (4) » فسمع المسلمون وأطاعوه وزاروا مسجده، ولم يتخذوا قبره مزارا ولا مطافا؛ لعلمهم بكراهيته لذلك، فإن الله بعثه ليدعو العباد إلى عبادة الله، {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (5) {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (6) ، فطوافنا بالبيت عبادة لله {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (7) . “ من دعا إلى عبادة القبور والتوجه لها فقد بدل دين الله تعالى “ أما من أراد أن يحول وجوه الناس ويجعل لهم عوضا فيما يزعم عن هذا البيت الحرام، ويصرف حجهم كما يظن إلى أي بقعة من الأرض كائنة من كانت، فقد ضل وأضل، وضل عن سواء السبيل، وبدل دين الله، فإن الله أوجب الحج إلى بيته الحرام، وأوجب الطواف ببيته الحرام، فليس في الدنيا مكان شبيه لهذا البلد الأمين ولا مماثلا له، ومن ادعى غير ذلك فقد ضل سواء السبيل، وأتى بزور من القول وبهتان.   (1) أخرجه أبو داود في سننه 2 \218، كتاب: المناسك، باب: زيارة القبور، ح (2042) ، وابن ماجه في سننه 1\433، كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في التطوع في البيت، ح (1377) ، وأحمد في مسنده 2 \367، واللفظ لأحمد (2) أخرجه مالك في الموطأ أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (6) (3) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (4) (4) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1405 هـ) ، الهامش (6) (5) سورة آل عمران الآية 79 (6) سورة آل عمران الآية 80 (7) سورة قريش الآية 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 “ كل ما تقوم به الجهات المختصة من جهود عظيمة إنما هي لتيسير مناسك الحج “ حجاج بيت الله الحرام، وطأت أقدامكم بلد الله الأمين فوجدتموه -ولله الفضل- حرما آمنا مطمئنا، رخاء سخاء آمنا من كل بلاء، موسعا رزقه دائما خيره، فاحمدوا الله على هذه النعمة أن بلغكم الوصول إليه فوجدتموه في غاية مما يسر كل مسلم، حرما آمنا رخاء قد وفر الله فيه رغد العيش، وهيأ له قيادة حكيمة، نذروا أنفسهم لله ثم لمصالح إخوانهم المسلمين، ضحوا بكل غال ونفيس في سبيل المحافظة على أمن هذا البلد الأمين، وفي سبيل راحة الحجيج حتى يخرجوا منه وهم في نعمة وسرور، وهذا – ولله الفضل والمنة – يحس به كل زائر لهذا البلد الأمين، ويرى من التيسيرات والتسهيلات ما لا يخفى وما لا يجحده إلا حاقد. “ التحذير من تهديد أمن البلد الأمين وتخويف الحجيج فيه “ أمة الإسلام، إن كل من يريد تهديد أمن هذا البلد الأمين وتخويف الحجيج فيها، فشره ليس موجها لفئة من الناس، ولكن هذا الشر موجه ضد الإسلام، وهو محاربة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين، وهو النفاق المستكن في قلوبهم، غاظهم ما رأوا من نعم الله على هذا البلد الأمين وما يتمتع به من استقرار ورغد، فأرادوا به كيدا فرد الله كيدهم في نحورهم، وجعل الله تدبيرهم تدميرا عليهم، وله الفضل والمنة، وهذه سنته -سبحانه وتعالى- في كل من أراد هذا البلد الأمين بسوء، يقول الله -عز وجل-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (1) {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} (2) {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} (3) {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} (4) {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (5) ، ولكل مريد سوءا بهذا البلد الأمين نصيب من الشر والبلاء بتوفيق الله ورحمته، فإن الله جعلها حرما آمنا، وواجب على كل مسلم أن يعظم هذا البيت ويحفظ له حرمته   (1) سورة الفيل الآية 1 (2) سورة الفيل الآية 2 (3) سورة الفيل الآية 3 (4) سورة الفيل الآية 4 (5) سورة الفيل الآية 5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وكرامته، فله الفضل والمنة، والبلد الأمين يعيش أمنا واستقرارا ومواصلة للجهود ومضاعفة لكل جهد في سبيل راحة الحجيج، فاشكروا الله على هذه النعمة، واسألوا الله لولاة المسلمين التوفيق والسداد والهداية. “ وجوب الحج مرة في العمر وذكر منافعه “ حجاج بيت الله الحرام، إن الله افترض الحج على أمة الإسلام وجعلها خامس أركان الإسلام، أوجبها على المسلم القادر ببدنه وماله في عمره مرة، متى أداه فقد برئت ذمته. خطب نبيكم -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم "، ثم قال: " ذروني ما تركتكم (1) » فصلوات الله وسلامه عليه أبدا دائما إلى يوم الدين. بين الله الحكمة من الحج فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (2) ، إن هذه المنافع عظيمة، فمن أجل وأعظم تلك المنافع ما حدا بالمؤمن إلى أن يفارق أهله وبلده وماله استجابة لله وتلبية لنداء الخليل -عليه السلام-، إنه الإيمان الراسخ في القلب. ومن تلكم المنافع ما يراه المسلم من التحام صفوف المسلمين في هذه المشاعر المقدسة رغم اختلاف اللون واللغة والجنس، ولكن وحدتهم رابطة الإيمان وجمعتهم أخوة الإسلام، إن المسلم يرى هذا الدين قويا عزيزا، ولا يزال ولله الحمد قويا عزيزا – رغم ما بذل الأعداء من محاربة لهذا الدين – فلا يزال ولله   (1) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (7) (2) سورة الحج الآية 28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الحمد قويا عزيزا، «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (1) » وما دام هذا البيت يطاف به، فإن العالم في أمان من الكوارث {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} (2) . “ ذكر صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم “ أمة الإسلام، حج نبيكم -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة بعد الهجرة، سماها "حجة الوداع"، ودع فيها الناس، وأخبرهم أنه لا يلقاهم بعد عامه هذا، وقال لهم: «خذوا عني مناسككم (3) » قالها بعد كل قول قاله أو عمل عمله، خرج -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى بطن هذا الوادي، فخطب فيه خطبة قليلة الألفاظ كبيرة المعاني؛ لأن الله أعطاه جوامع الكلم، جاء فيها: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى (4)   (1) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (7) (2) سورة المائدة الآية 97 (3) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والبيهقي في السنن الكبرى وأصله عند مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (10) (4) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (13) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد" ثلاث مرات» “ ذكر أوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونواهيه في خطبة حجة الوداع “ ففي هذه الخطبة العظيمة بين -صلى الله عليه وسلم- حرمة دماء المسلمين وأموالهم، وأن الأصل في دمائهم الحرمة إلا بسبب شرعي، كذلك أموالهم، وبين أن مآثر الجاهلية وفخرها وعصبيتها قد ألغاها بالإسلام، والإسلام جب ما كان قبله وهدم ما كان قبله، وألغى الربا وبين أنه موضوع، فإن الربا محاربة لله ولرسوله، وهو من أعظم الظلم، فإن الربا ظلم للعباد وأكل للمال بغير الحق، وكانت الجاهلية يتعاملون بالربا، ويعدونه وسيلة لثروتهم ونمو أموالهم، فجاء الله بالإسلام وحرم الربا؛ لما يشتمل عليه من المفاسد والأضرار، فمن لم يعتقد تحريمه بعدما بلغه نصوص القرآن، فإنه ضال مضل والعياذ بالله، وأخبرهم أن للنساء حقوقا وعليهن واجبات، ليبين أن الإسلام راعى المرأة وأنزلها المنزلة اللائقة بها، وذلك ضد ما يتصوره أعداء الإسلام الزاعمين أن الإسلام أهدر حقوق المرأة وأهانها، ولعمر الله إن الإسلام أنزلها المنزلة اللائقة بها، ثم أخبرهم، أنه ترك فيهم كتاب الله، فما داموا معتصمون به فلن يضلوا، بل سيكونون سعداء ما داموا متمسكين بكتاب الله وعاملين به، واستشهدهم على أنه بلغهم رسالة الله، فقالوا بأجمعهم: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، وكل مسلم يشهد لك بذلك، نشهد له بالله أنه بلغ وأدى ونصح وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يضل عنها بعده إلا هالك. وبعد هذه الخطبة أمر المؤذن فأذن فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمعا وقصرا جمع تقديم – وهذا ما سنفعله إن شاء الله بعد قليل -، فإن جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الحجاج هاتين الصلاتين بعرفة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وبعد ذلك «وقف بعرفة وقال لهم: " وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف (1) » وقال: «وارفعوا عن بطن عرنة (2) » عليك أيها الحاج أن تبحث عن حدود عرفة، وقد وضعت ولله الحمد أعلاما تدل على عرفة وتميزها عما سواها، وأخبرهم أن «الحج عرفة (3) » وأن وقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر ليلة النحر. “ فضل يوم عرفة “ وفي هذا الموقف العظيم وقف المصطفى راكبا على راحلته متضرعا بين يدي ربه، راجيا راغبا، مستقبل القبلة حتى غربت الشمس، وبين فضل ذلك اليوم وأنه «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (4) » وإنه يباهي بهم عشية هذا اليوم، يباهي بهم ملائكته، يقول: «انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا ضاحين، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم (5) » فتعرضوا لنفحات ربكم وارجوه من فضله، وتوبوا إليه مما سلف وكان من الإساءة والتقصير، فإن الله لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (6) . وقف مستقبلا القبلة يدعو الله حتى غربت الشمس وتأكد من غروبها، وقال: «هدينا مخالف لهديهم (7) » فإن المشركين يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، أما المسلمون فيبقون فيها إلى أن تغرب الشمس، فمن دفع من عرفة قبل غروب الشمس فقد أخطأ وعليه دم، فعلى المسلم أن يبقى بها إلى أن تغرب   (1) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) ، الهامش (8) (2) أخرجه أحمد في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي في سننه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1405 هـ) ، الهامش (12) (3) أخرجه الترمذي في سننه، وابن ماجه في سننه، وأحمد في مسنده، وسبق تخريجه في خطبة عام (1403 هـ) ، الهامش (12) (4) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404 هـ) ، الهامش (11) (5) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404 هـ) ، الهامش (10) (6) سورة الزمر الآية 53 (7) يعني: أهل الشرك والأوثان، والحديث أخرجه الشافعي في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى، وسبق تخريجه في خطبة عام (1405 هـ) ، الهامش (16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الشمس ويتأكد من غروبها. ثم انصرف إلى مزدلفة، وكانت عليه السكينة في سيره، ويدعو أمته لذلك إن رأى فرجة أسرع، وإن رأى ضيقا تمهل، ليعلم أمته أن لا يضر بعضهم بعضا، ولا يحطم بعضهم بعضا. أتى مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا، المغرب ثلاثة، والعشاء ركعتان عند وصوله إلى مزدلفة، والمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج بنص القرآن والسنة، قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (1) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد أتم حجه وقضى تفثه (2) » ويجوز الانصراف منها بعد غيبوبة القمر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص للنساء والضعفاء أن يدفعوا من مزدلفة بعد مضي نصف الليل بعد غيوب القمر، والمستحب أن يصلي بها الفجر اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فاحذروا أيها الحجاج أن تخلوا بالمبيت بمزدلفة، فإن من أخل بها فقد ترك واجبا من واجبات الحج. “ التحذير من الغلو في دين الله والزيادة فيما لم يشرع “ ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- صلى الفجر بمزدلفة وذكر الله عند المشعر الحرام، ثم انصرف إلى منى قبل أن تطلع الشمس، والتقط حصى الجمار سبعا في طريقه من مزدلفة إلى منى، وهن مثل حصى الخذف، وقال: «أمثال هؤلاء ترمون "، ثم قال: " يا أيها الناس، إياكم والغلو في الدين (3) » يحذر أمته من   (1) سورة البقرة الآية 198 (2) أخرجه الترمذي في سننه 3 \238، كتاب: الحج عن رسول الله، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، ح (891) ، والنسائي في سننه 5 \ 263، كتاب: مناسك الحج، باب: فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة، ح (3039) ، وأبو داود في سننه 1 \ 634، وابن ماجه في سننه 2 \1004، كتاب: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، وأحمد في مسنده 5 \15، واللفظ للترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (3) أخرجه النسائي في سننه 5 \ 268، كتاب: الحج، باب: التلبية في السري، ح (3057) ، وابن ماجه في سننه 2 \1008، كتاب: المناسك، باب: قدر حصى الرمي، ح (3029) ، وأحمد في مسنده 1\215، واللفظ لابن ماجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الغلو في دين الله والزيادة فيما لم يشرعه الله، فإن الغالي في دين الله على خطر عظيم؛ لأن الغالي يرى نفسه على حق وهو على غير هدى، فليس بواجب أن تلتقط الجمار كلها من مزدلفة، بل تلتقطها من مزدلفة أو منى. أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- منى فبدأ بجمرة العقبة فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه، وهذه سنن يوم النحر: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، فالسنة ترتيبها هكذا: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي، ثم الحلق أو التقصير، والحلق أفضل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة، ثم الطواف بالبيت، ومن قدم شيئا على شيء فلا حرج عليه، فقد «سئل -صلى الله عليه وسلم- فقال له رجل: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: " ارم ولا حرج ". فما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر إلا قال: " افعل ولا حرج (1) » وبعد أن طاف بالبيت طواف الإفاضة -صلوات الله وسلامه عليه- رجع إلى منى فبات بها ليالي التشريق، والمبيت بمنى من واجبات الحج؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص للعباس لأجل سقايته، فدل على أن الرخصة مستثناة من أمر واجب. وكان يرمي الجمار في أيام التشريق بعد الزوال، يبدأ بالأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، فرماها أيام التشريق الثلاث، والمبيت بمنى واجب ليلتين لمن أراد التعجل، وثلاثا لمن أراد التأخر، ثم ينفر النفر الأول، ومن أراد التأخير فليرم يوم   (1) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) ، الهامش (10) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 العاشر ويوم الحادي عشر ويوم الثاني عشر، فقال الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) . أيها المسلم، إن كنت قادرا بنفسك على رمي الجمار فذاك أفضل مع احترام إخوانك وعدم إلحاق الضرر والأذى بهم، وإن كنت عاجزا عن الرمي لمرض أو كبر، أو كانت امرأة ربما يشق الرمي عليها، فجائز أن توكل غيرها ليرمي عنها، والنائب في الرمي يرمي الأولى عن نفسه ثم عن موكله، ثم يرمي الوسطى عن نفسه ثم عن موكله، ثم يرمي العقبة عن نفسه ثم عن موكله، ومن شق عليه الرمي في اليوم الحادي عشر وأخره إلى الثاني عشر أو الثالث عشر فالكل جائز؛ لأن الله يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (2) ، وقبل انصرافك من مكة أخي الحاج طف طواف الوداع مودعا بيت الله، سائلا الله القبول والتوفيق والهداية. “ أداء فريضة الحج لا يسقط بقية واجبات الإسلام “ حجاج بيت الله الحرام، إن حج بيت الله الحرام ركن من أركان الإسلام، قد يتصور البعض من الناس أن حج بيت الله يسقط عنه واجبات الإسلام وتكاليف الشريعة، فيظن أنه إذا حج وترك فرائض الإسلام فلا شيء عليه، وذاك من وساوس الشيطان. “ ينبغي للحاج أن يجعل حجه نقلة من الشر إلى الخير ومن الفساد إلى الصلاح “ فيا أيها الحاج المسلم، اتق الله في حجك، واجعل حجك نقلة لك من شر إلى خير، ومن فساد إلى صلاح، ومن انحراف إلى استقامة، واسأل الله المزيد من فضله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه (3) » وقال: «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (4) »   (1) سورة البقرة الآية 203 (2) سورة البقرة الآية 203 (3) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1407 هـ) ، الهامش (8) (4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الحج، باب: وجوب العمرة وفضلها، (فتح الباري 3 \761، ح1733) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 تضرعوا بين يدي ربكم واسألوه من فضله وكرمه، اسألوه الثبات على دينه والاستقامة على الهدى، اسألوه الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، يقول الله -عز وجل- في حق العباد: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (1) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (3) ، فأتبعوا العمل الصالح بأعمال صالحة؛ ليبقى الثواب والأجر إن شاء الله. اللهم وفق المسلمين، اللهم اغفر للمسلمين، اللهم اجمع كلمتهم ووحد صفوفهم، اللهم اغفر لجميع أموات المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم من أرادنا وسائر المسلمين بشر فاجعل شره في نحره، اللهم تقبل منا حجنا، اللهم اجعل حجنا مبرورا، وسعينا مشكورا، وذنبنا مغفورا، اللهم انصر دينك وكتابك ونبيك وعبادك الصالحين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمام المسلمين وولي عهده وحكومته لما تحبه وترضاه، اللهم أيده بنصرك وكن له عونا ونصيرا، اللهم وفقه لكل عمل صالح، وجازه عن الإسلام والمسلمين خيرا، إنك على كل شيء قدير، ربنا اغفر لنا وإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تعجل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا   (1) سورة البقرة الآية 200 (2) سورة البقرة الآية 201 (3) سورة البقرة الآية 202 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، أعاده الله على عموم المسلمين وعلينا جميعا باليمن والبركة والخير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 خطبة عام 1410 الهجري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (1) أما بعد: “ الوصية بتقوى الله -عز وجل-، وبيان الحكمة من إرسال الرسل، وذكر أولي العزم منهم “ أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوه تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، لتكونوا من السعداء في الدنيا والآخرة. أمة الإسلام، إن من كمال حكمة الرب وكمال عدله أن بعث رسله مبشرين ومنذرين، ليقيم بهم حجته على العباد {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2) ، جعل الله الرسل متفاوتين في الفضل {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (3) . “ فضل الرسول -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء “ اختار أولي العزم الخمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وسيد ولد آدم محمد -صلى الله عليه وسلم-، واختار الخليلين: إبراهيم، ومحمد، ثم اصطفى محمدا -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء والمرسلين، وجعله سيدهم، بل وأفضل الخلق، فهو أفضل خلق الله على الإطلاق.   (1) سبق تخريج خطبة الحاجة في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (1) (2) سورة النساء الآية 165 (3) سورة البقرة الآية 253 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بعثه -صلى الله عليه وسلم- برسالة عامة إلى جميع الثقلين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) ، بعثه على حين فترة من الرسل واندراس من العلم والهدى. وقد طبق الأرض جهل عظيم وضلال مبين، واندرست الملة الحنيفية، فلم يبق عليها إلا نذر من الناس، « (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقية من أهل الكتاب) (2) » افترض الله على الجميع طاعته ومحبته والانضواء تحت لوائه كما قال -جل وعلا-: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (3) . “ حقوق الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أمته، ومنها: الإيمان به وتصديق رسالته “ أمة الإسلام، إن لهذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- حقوقا يجب علينا رعايتها والقيام بها: فأعظم حق له -صلى الله عليه وسلم- علينا أن نؤمن به ونصدق برسالته، ونعتقد أنه عبد الله ورسوله، الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ شرعه ودينه، فإن الإيمان به إحدى ركني التوحيد، إذ التوحيد قائم على ركنين: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن اسم الإسلام بعد مبعثه -صلى الله عليه وسلم- خاص بما جاء به، وكان اسم الإسلام عاما لجميع ديانات الرسل، وبعد مبعث محمد -صلى الله عليه وسلم- صار مسمى الإسلام خاصا بشريعته التي بعث بها -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) ، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفس محمد بيده، لا (5)   (1) سورة سبأ الآية 28 (2) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (2) (3) سورة الأعراف الآية 158 (4) سورة آل عمران الآية 85 (5) أخرجه مسلم في صحيحه 1\134، كتاب: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، ح (153) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» “ ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: طاعته فيما أمر ونهى “ ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: طاعته فيما أمرنا به، فإن طاعته طاعة لله، وإن معصيته معصية لله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) ، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: " من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (3) » “ ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: تحكيم سنته والتحاكم إليها “ ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: أن نحكم سنته، وأن نتحاكم إليها، وأن نستجيب لمن دعانا إلى التحاكم إليها، وأن نرضى بحكمه ونسلم، وأن لا يكون في صدورنا حرج من أي حكم حكم به -صلى الله عليه وسلم-، يقول الله -عز وجل-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) ، وقال –سبحانه-: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) ، والذين لا يرضون بحكمه في قلوبهم مرض النفاق، وارتياب من رسالته -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (6) .   (1) سورة النساء الآية 80 (2) سورة الحشر الآية 7 (3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: التمني، باب: الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، (فتح الباري 13 \ 310، ح 7280) (4) سورة النساء الآية 65 (5) سورة النور الآية 51 (6) سورة النور الآية 50 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 [ومن حقه –صلى الله عليه وسلم- علينا: ألا تكون لنا خيرة من أمرنا إذا قضى أمرا، وأن يكون هوانا تبعا لما جاء به] ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: أن لا تكون لنا خيرة في أي أمر أمرنا به أو نهي نهانا عنه، أو حكم حكم به، لأننا نعتقد اعتقادا جازما أنه أولى بنا من أنفسنا {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (1) ، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2) . ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: أن يكون هوانا ومرادنا تبعا لما جاء به -صلى الله عليه وسلم-، فإذا تعارض في نظر العبد أمران: أمر هوى النفس، وأمر جاء به المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فلنقدم ما جاء به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على هوى النفوس ومشتهياتها، فهو -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (3) » [ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: أن نحبه محبة صادقة] ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: أن نحبه المحبة الصادقة، فأصل محبته من أصول الإيمان، وكمالها من كمال الإيمان، وهي أن نحبه محبة فوق محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين (4) » وكلما قويت محبة العبد لمحمد -صلى الله عليه وسلم- قوي الاتباع والاقتداء. [ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: اتباع منهجه] ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: أن نتبع منهجه ونقتفي أثره، ونسير على ما سار عليه قدر الاستطاعة والإمكان، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (5) ،   (1) سورة الأحزاب الآية 6 (2) سورة الأحزاب الآية 36 (3) أورده ابن حجر في فتح الباري، وعزاه إلى الحسن بن سفيان، ووثق رجاله، وقال: صححه النووي في آخر الأربعين، وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح، وسبق تخريجه وذكر نصوصا أخرى في هذا المعنى، ونقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في خطبة عام (1405 هـ) ، الهامش (4) (4) البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1405 هـ) ، الهامش (2) (5) سورة آل عمران الآية 31 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقال -عز وجل-: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (1) ، وقال -عز وجل-: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) ، وإن المؤمن ليجد نفسه منشرحا بالاقتداء بالمصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فهو على يقين جازم أن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق أخلاقا وأحسنهم سيرة، وأعلاهم فضيلة، قال الله تعالى في حقه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (3) ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (4) . “ حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على نقل كل شأن من شئون حياته صلى الله عليه وسلم “ أمة الإسلام، إن أصحابه الكرام نقلوا لنا حياته -صلى الله عليه وسلم-، كأن المسلم يشاهد ذلك عيانا، نقلوا ذلك لنا كله لنقتفي أثره ونسير على نهجه، فهاهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- ينقلون لنا حياته -صلى الله عليه وسلم-، هذا يصف لنا وضوءه، وهذا يصف صلاته، وهذا يصف حجه، وهذا يصف كل أحواله العبادات والعادات، ما افترض علينا العمل به، وما استحب لنا ذلك، فنقلوا لنا كيف كان يأكل، وكيف كان يشرب، وكيف كان ينام، وأحواله في سفره وإقامته، وأحواله في جميع تعامله، حتى سيرته مع أهله، كل ذلك سجلوه ليحثوا الأمة على اقتفاء أثره والسير على نهجه؛ لأن ذلك عنوان الإيمان الصادق. “ ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: أن ننصر سنته وندافع عنها “ ومن حقه -صلى الله عليه وسلم- علينا: أن ننصر سنته، وأن ندافع عنها، وأن نزيل كل شبهة لفقت بسنته -صلى الله عليه وسلم-، فإن الواجب على المؤمن أن   (1) سورة النور الآية 54 (2) سورة البقرة الآية 150 (3) سورة القلم الآية 4 (4) سورة الأحزاب الآية 21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ينصر هذا النبي الكريم بقلبه ولسانه وجوارحه، وإن نصرته من واجبات الإيمان، يقول الله -عز وجل-: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) . فلقد نصره أصحابه الكرام، ودافعوا عنه -صلى الله عليه وسلم-، بكل غال ونفيس، وإن المسلم في كل زمان ينصر هذا النبي الكريم بنصرة سنته، بدعوة الخلق إلى العمل بها، بالدفاع عنها، بإزالة كل شبهة لفقها المضلون والجاهلون. أمة الإسلام، أمة القرآن، إن سنة محمد -صلى الله عليه وسلم- هي الوحي الثاني، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه (2) » وهو معصوم فيما يبلغ عن الله، يقول -عز وجل-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) . “ كشف خطر من يحاول زعزعة ثقة المسلم بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتحذير المسلمين منه “ أمة الإسلام، إن هناك فئة من الناس تحاول زعزعة ثقة الأمة بسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم-، وإن هم إلا أعوان الشياطين، تصديقا لقوله –سبحانه-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} (5) ، وقوله -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (6) . فتراهم يرون العقل مقدما عليه، وأنه يجب أن يحكم العقل على ما قاله المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فما وافق عقولهم وأهواءهم قبلوه، وما لم تقبله   (1) سورة الأعراف الآية 157 (2) أخرجه أحمد في مسنده 4 \130، وأبو القاسم الطبراني في مسند الشاميين 2 \137 (3) سورة النجم الآية 3 (4) سورة النجم الآية 4 (5) سورة الفرقان الآية 31 (6) سورة الأنعام الآية 112 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 عقولهم رفضوه، وهذا عين الجهل والضلال، فأي عقل من عقول البشر يكون حكمه على سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ليقبل بعضه ويرد بعضه؟! وتارة يطعنون في حملتها من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان. “ قد تكفل الله بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم “ والله -جل وعلا- قد تكفل بحفظ سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، يقول -عز وجل-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ، هيأ الله له رجالا حملوها ومحصوها وصانوها عن كل ما لفق بها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين " حفظوها ودونوها في دواوين لا تزال خالدة باقية بين المسلمين، يتلونها ويعملون بها ويدعون لحملتها بالرحمة والرضوان. أمة الإسلام، انصروا سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- ودافعوا عنها ولا تصغوا إلى شبه المشبهين وضلالة المضلين. يا علماء الإسلام، إن الواجب علينا أن نقبل سنة المصطفى وأن نرضى بها وأن نعمل بها وأن ننقاد إليها وألا نحكم عقولنا فيها فعقولنا قاصرة من أن تكون حكما على ما قاله المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. أمة الإسلام، إن الله تعالى بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- برسالة شاملة عامة إلى جميع الثقلين إنسهم وجنهم واختار لمبعثه أم القرى مكة – شرفها الله وزادها تعظيما وتشريفا – استجابة لدعوة الخليل -عليه السلام- حيث قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (2) .   (1) سورة الحجر الآية 9 (2) سورة البقرة الآية 129 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فبعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- في الأميين من العرب، وانطلقت دعوته من مكة المكرمة شرفها الله حتى عمت جميع الجزيرة، فلما انقادت الجزيرة لها ودخلوا في دين الله -عز وجل- وقبضها الله إليه، قام أصحابه بهذا الدين، ففتحوا البلاد وأناروا قلوب العباد، حتى أعلى الله دينه تصديقا لقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) . “ بيان حال العرب قبل الإسلام وبعده “ إن المتدبر لحال العرب قبل الإسلام يعلم أنهم في غاية من الضلال، في غاية من الجهل والإعراض، في جهالة جهلاء وضلالة عمياء، لا يعرفون منكرا من معروف، ولا حقا من باطل، متفرقين تسودهم الحروب الطاحنة، يقضي القوي على الضعيف، فهم في غاية من الجهل والضلال كما قال الله لهم: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (2) . “ عزة المسلم في التمسك بإسلامه ولا عزة له بسواه “ فلما انقادوا للإسلام واستجابوا لله ورسوله، جمع الله بالإسلام شتاتهم ووحد بهم صفوفهم، وأعزهم به بعد الذلة، وأغناهم بها بعد العيلة، وجعلهم بالإسلام ملوكا على رقاب العباد. قال قتادة -رحمه الله- في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (3) ، قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه جهلا، قوم يؤكلون ولا   (1) سورة التوبة الآية 33 (2) سورة البقرة الآية 198 (3) سورة الأنفال الآية 26 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 يأكلون، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات تردى إلى النار، حتى جاء الله بالإسلام فأعز به من الذلة، وأغنى به من العيلة، ووسع به في البلاد، وجعلكم حكاما على رقاب العباد، فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله فإن الله شكور، وأهل الشكر منه في مزيد فيا معشر العرب، اتقوا الله في إسلامكم، اتقوا الله في دينكم، اعلموا أنه لا عز لكم ولا قدر لكم إلا إذا تمسكتم بهذا الدين وطبقتموه قولا وعملا، فهو الذي سيجمع قلوبكم، وهو الذي سيخلصكم من الكوارث، وهو الذي سيعزكم من الذل، ولا قدر لكم إلا بالإسلام، وأي ميثاق غير الإسلام فلن يحقق لكم ما تريدونه، تمسكوا بهذا الدين واجتمعوا عليه، وكونوا يدا واحدة على من ناوأكم فأي خلاف بينكم مهما كان نوعه فهو باب يلج عليكم من خلاله أعداؤكم، فاجتمعوا على دين الله وتمسكوا بهذا الدين واعملوا به لعلكم تفلحون. [خيرية أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأمم، وأنها بفضل تمسكهم بإسلامهم] يا أمة الإسلام، يا خير أمة أخرجت للناس، أنتم أفضل الأمم وخير الأمم وأكرمها على الله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (1) ، هذه الخيرية لن تنالونها إلا إذا عملتم بمقتضاها، فاستمسكتم بدين الله، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وحكمتم دين الله في كل قليل وكثير. إن أعداءكم يا معشر المسلمين علموا فضلكم وعرفوا مكانتكم، ودرسوا تاريخكم الماضي الحافل بالأمجاد والمكارم، وعلموا أن تلك القوة إنما نلتموها بالإسلام، فسعوا جهدهم في القضاء على دينكم، جردوا لكم الحملات العسكرية ليقضوا عليكم فعجزوا {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (2) .   (1) سورة آل عمران الآية 110 (2) سورة البقرة الآية 217 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وبعد ذلك سعوا في إضلالكم عن دينكم، نشروا عقائد الإلحاد والضلال، حاربوكم بما يسمى بالحرب الفكرية، حتى إن أعداء الإسلام لما استعمروا ديار الإسلام غيروا مناهج تعليمها، وجعلوها مناهج تخدم مبادئ أعداء الإسلام، ليتربى الأجيال على غير الإسلام، وتنقطع صلاتهم بدينهم وتاريخهم المجيد، فهل وعى المسلمون ذلك؟ وهل أحسوا بهذا الخطر؟ وهل فكروا أن يعيدوا مناهج تعليم أبنائهم على ضوء الإسلام، لكي يرتبط الحاضر بالماضي، ويكون بين هذه الأجيال الحاضرة وبين أسلافهم الأخيار صلة قوية بهذا الدين وآدابه وفضائله. “ تنوع أساليب أعداء الله في محاربتهم لدين الإسلام “ حاربوا الأمة اقتصاديا، فضيقوا الخناق عليها، وتدخلوا في شئونها الداخلية، حتى أضروا بها وأوحوا إليها أنه لا استطاعة لها أن تقف بنفسها، بل لا بد من عون أعدائها لها، وهم بذلك مخطئون ضالون، فهل فكر المسلمون في تحرير اقتصادهم من مبادئ أعدائهم؛ ليكون اقتصادا متفقا مع دينهم، ألم يأن للمسلمين أن يعلموا أن هذا يكفل لهم العيش في رخاء ورغد. أمة الإسلام، حاربنا أعداؤنا داخلا وخارجا، أحدثوا في الأمة الإسلامية أحزابا وطوائف وشيعا، سلطوا بعضها على بعض، دعموها بأسلحة الدمار والخراب، ليقضي المسلمون بعضهم على بعض، وليقتل بعضهم بعضا، وليهلك بعضهم بعضا، حتى يكون الميدان فسيحا لهم، خاليا من مقاومة المسلمين، فهل وعى المسلمون وعرفوا أن أعداءهم لا يريدون لهم نصحا، وإنما هم الأعداء الألداء. أمة الإسلام، إن إعلام الأمة الإسلامية واجبه في هذا العصر عظيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فعليه أن ينهض بمسئوليته ويقوم بواجبه، فالإعلام اليوم أصبح وسيلة بث ودعاية لكل ما يراد منه، فإن وجه التوجيه الطيب، أصلح بإذن الله، وإن وجه غير ذلك، صار وسيلة هدم وتخريب. “ دور الإعلام في نصرة الإسلام “ إعلامنا الإسلامي يجب عليه أن يقوم بمسئوليته، ويعلم أن أعداءنا عن قريب سوف يبثون البث المباشر إلى سائر بلاد الإسلام، ليصل هذا البث إلى منازل المسلمين ويخاطب أفرادهم على تنوع طبقاتهم ومعلوماتهم وتدينهم. الأعداء سوف ينشرون من البرامج ما هو سيئ وخبيث، فواجب إعلام الأمة أن يهتم بهذا، وأن يجند وسائله ليكون إعلاما صالحا يقاوم الشر بالخير، ويحصن الأمة عقيدة وديانة، ويزيدها وعيا وتفكيرا سليما، ويحذرها من الأضرار والأخطار، وهذا واجب جميع وسائل الإعلام أولا، ثم رجال التربية والتعليم، ثم المسئولين عن رعاية شباب الأمة الإسلامية ليحصنوها عقديا وفكريا وأخلاقيا ضد هذا الداء الخطير، حتى يكون إعلامنا إعلاما صالحا يخدم الخير ويدعو إليه، ويحذر من الشر ووسائله، وإن لنا بتوفيق الله لأمل كبير في إعلام بلادنا أن يخطوا الخطوة الأولى نحو الخير والصلاح، لتتبعه بقية وسائل إعلام الأمة الإسلامية، فتتضافر الجهود في سبيل تحصين العقيدة والأخلاق من أن يطرأ عليها ما يؤثر عليها، لا سمح الله. “ حقيقة الإسلام “ أمة الإسلام، إن هذا الدين الإسلامي قول وعمل واعتقاد، فلا بد من اعتقاد القلب، ولا بد من نطق اللسان وعمل الجوارح، هذا هو الإسلام النافع، هذا هو الإسلام المؤثر، وكما نسمع من منتسبين إلى الإسلام وهم بعيدون عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 تعاليمه وعن قيمه وأخلاقه، يدعون الإسلام وليس لهم بالإسلام صلة، فاحذروا ذلك يا عباد الله، وليكن إسلامكم إسلاما صحيحا قولا وعملا، واعتقادا وتمسكا بهذا الدين وتحكيما له. “ نداء إلى حكام المسلمين وقادتهم للعودة إلى الإسلام والتمسك به “ يا قادة الإسلام، يا حكام المسلمين، اتقوا الله في أنفسكم واتقوا الله في شعوبكم، أصلحوا أوضاعهما، عودوا إلى الإسلام عودة صحيحة، تمسكوا بهذا الدين، حولوا النظم والقوانين إلى نظم الإسلام وتعاليمه؛ لتعيشوا أنتم وشعوبكم في رغد وأمان واستقرار {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1) ، فلا عز لنا ولا استقرار لنا ولا أمان لنا إلا إذا كان هذا الدين دستور حياتنا ونظام حياتنا في كل قليل وكثير، وفق الله قادة المسلمين جميعا للتمسك بهذا الدين والعمل به وتحكيمه والدعوة إليه. “ نصيحة لدعاة الإسلام والمصلحين “ يا دعاة الإسلام، اتقوا الله في أنفسكم، تمسكوا بهذا الدين واعملوا به واحذروا مكائد أعدائكم، فإن لأعدائكم مكائد عظيمة، احذروا مكائدهم، تمسكوا بهذا الدين علما وعملا، واعرضوه كما جاء عرضا صافيا خاليا من الأغراض والأهواء، خاليا من البدع والشبهات، إن هذا الدين إذا عرض على الملأ بصورته الصادقة، فالنفوس تقبله وتطمئن إليه، فاحذروا مكائد أعدائكم الذين ربما صوروا الإسلام أنه المخرب والمدمر والمفرق بين الشعوب، والمحدث البلبلة والاضطراب، احذروا مكائد أعدائكم فلا تصغوا إليهم، وتمسكوا بدينكم كما جاء عن ربكم ونبيكم صلى الله عليه وسلم.   (1) سورة الأعراف الآية 96 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 “ نداء إلى حجاج بيت الله الحرام ونصيحة لهم “ حجاج بيت الله الحرام، اليوم وقد انتظم عقدكم بهذا المكان المبارك، وحللتم تلك الديار المباركة، فاشكروا الله أولا وقبل كل شيء على نعمته عليكم بالإسلام، ثم على نعمته بتبليغكم الوصول إلى هذه الديار المقدسة، فتلك نعمة عظيمة من الله، حللتم بهذه الديار فوجدتموها – ولله الحمد – آمنة مطمئنة موفر فيها كل خير، فالحمد لله على فضله وكرمه، وهذا بتوفيق الله ثم بتحكيم شرع الله وإقامة حدود الله وردع كل من تسول له نفسه الإجرام والفساد، فهذه البلاد – ولله الحمد – تحكم شرع الله، وتقيم حدود الله، فمحاكم الشرع واضحة، والأحكام كلها خاضعة لشرع الله، مطبقة لأحكام الله على وفق كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا عاشت هذه البلاد – ولله الحمد – في أمان واستقرار وتعاون بين الأفراد والقادة، وارتباط وثيق قائم على مبدأ الإسلام، فالحمد لله على فضله وكرمه. حجاج بيت الله الحرام، إن الله افترض الحج على المسلمين، على كل مسلم في عمره مرة، فجعله فريضة العمر من أداه مرة فقد أدى الواجب، وما زاد فهو تطوع إن تيسر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا". فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ ، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم"، ثم قال: " ذروني ما تركتكم (1) » وهذا من فضل الله، فمن أدى الحج في عمره، فقد أدى الواجب وبرئت ذمته. “ وجوب الحج والحكمة من مشروعيته وتحقيق مبدأ المساواة فيه “ هذا المؤتمر العظيم الذي تلتقي فيه الأمة الإسلامية رغم اختلاف اللون واللغة والبلاد على هدف واحد: أخوة الإسلام، ووحدة الإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2) .   (1) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (8) (2) سورة الحجرات الآية 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 هذا المؤتمر العظيم الذي دعا إليه رب العالمين {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1) ، هذه المنافع العظيمة أصلها وأساسها انطلاق القلب إلى الله، وانجذابه إلى طاعته، حيث يفارق المسلم وطنه وأهله وبلده استجابة لنداء الله الذي فرض عليه ذلك، والتقاء المسلمين بعضهم ببعض، وتعارفهم وتآلفهم وسيلة قوية إلى قوتهم واستقامة حالهم، وفق الله المسلمين لما يحبه ويرضاه. حجاج بيت الله الحرام، إن الله من فضله وكرمه جعل هذا البلد الأمين تحت قيادة أمينة، بذلت كل غال ونفيس في سبيل توفير الراحة لحجاج بيت الله الحرام، وجهودها لا تزال متواصلة، فكل عام أفضل من ماضيه، وعلى مدار العام والخدمات متواصلة، والجهود والأفكار تتابع في سبيل إيجاد ما فيه راحة لحجاج بيت الله الحرام؛ ليؤدوا نسكهم في يسر وسهولة، وعلى رأس الجميع خادم الحرمين وإمام المسلمين – وفقه الله وولي عهده لما يحبه ويرضاه ووفقهم لكل خير وجزاهم عما فعلوا خيرا – كل هذه الجهود المتواصلة، إنما يبعث عليها طاعة الله والحرص على منفعة المسلمين؛ ليؤدوا نسكهم على الوجه المطلوب، فالحمد لله رب العالمين. “ ذكر لمحات من حجة الوداع “ حجاج بيت الله الحرام، حج نبيكم -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة، تعرف عند المسلمين بأنها "حجة الوداع"، هذه الحجة العظيمة أعلمهم فيها مناسك حجهم، فما عمل عملا إلا قال: «خذوا عني مناسككم (2) » وقال: «لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا (3) »   (1) سورة الحج الآية 28 (2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والبيهقي في السنن الكبرى، وأصله عند مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (10) (3) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، وأصله عند مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 جاء لموقف عرفة، فخطب الناس بوادي عرنة، خطبهم خطبة هدم فيها قواعد الشرك، وأعلن فيها قواعد الإسلام، وبين حرمة الدماء والأموال، وألغى مآثر الجاهلية وأعمالها السيئة، وبين ما للمرأة من حقوق وما عليها من واجبات، وأوصى الناس بالتمسك بكتاب الله وأخبرهم أنهم لن يضلوا إن تمسكوا به واعتصموا به، ثم استشهدهم على أنه بلغهم، فأقروا جميعا بأنه بلغهم، وأنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة، فاستشهد الله عليهم بذلك ثم صلى الظهر والعصر جمعا وقصرا بأذان وإقامتين، أذن ثم أقام فصلى الظهر ركعتين، ثم أقام فصلى العصر ركعتين، وما صلى قبلهما ولا بعدهما شيئا. ثم «وقف بعرفة وقال لهم: " وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف (1) » ليبين أن ليس للوقوف في عرفة مكان معين، بل جميع حدود عرفة أي موضع وقف فيه المسلم أدى الواجب، وفي هذا الموقف العظيم وقف يدعو راكبا على راحلته مفطرا، شك الصحابة هل كان مفطرا، فبعثوا إليه بقدح لبن فشربه والناس ينظرون إليه لأن المستحب للحاج بعرفة أن يكون مفطرا؛ ليتفرغ للدعاء والذكر. وهذا اليوم العظيم – أعني: يوم عرفة – يقول فيه -صلى الله عليه وسلم-: «الحج عرفة (2) » فهو ركن أساسي من أركان الحج، يبدأ هذا الوقوف من يوم عرفة، وينتهي بطلوع فجر يوم النحر، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج (3) » فمن لم يقف بعرفة إلا ساعة من نهار، ووقف بها إلى الغروب، أو أتاها بعد المغرب ووقف بها ولو قليلا، فإنه قد أدى الركن العظيم من أركان الحج.   (1) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) ، الهامش (8) (2) أخرجه الترمذي في سننه، والنسائي في سننه، وابن ماجه في سننه، وأحمد في مسنده، وسبق تخريجه في خطبة عام (1403 هـ) ، الهامش (12) (3) أخرجه الترمذي في سننه 3 \237، كتاب: الحج عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، ح (889) ، والنسائي في سننه 5 \256، كتاب: مناسك الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة، ح (3016) ، وأبو داود في سننه 2\196، كتاب: المناسك، باب: من لم يدرك عرفة، ح (1949) ، وابن ماجه في سننه 2 \1003، كتاب: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، ح (3015) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 “ مشروعية الدعاء والإلحاح في يوم عرفة “ أيها المسلمون، وهذا اليوم العظيم كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- مشغولا فيه بدعاء الله والتضرع بين يديه، وكان يقول: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير (1) » وأخبرهم أن خير الدعاء دعاء يوم عرفة (2) فأكثروا فيه من الدعاء، وتضرعوا بين يدي ربكم، وتوبوا إلى الله مما سلف من سيئات أقوالكم وأعمالكم، فإن الله تعالى يقبل التوبة ويعفوا عن السيئات ويغفر لمن استغفره: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) . وجاء في الحديث يقول الله تعالى: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي (4) » فتضرعوا بين يدي ربكم فهذا يوم عظيم، يوم يعتق الله فيه عبيده من النار، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (5) » وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة (6) » «وأنه ينزل -جل جلاله- إلى سمائه الدنيا عشية عرفة نزولا يليق بجلاله، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء ويقول: " انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم (7) » قفوا بهذا الموقف إلى أن تغرب الشمس اقتداء بنبيكم صلى الله عليه وسلم،   (1) أخرجه الترمذي في سننه، ومالك في الموطأ، والبيهقي في السنن الكبرى، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (18) (2) انظر: التخريج السابق (3) سورة الزمر الآية 53 (4) أخرجه الترمذي في سننه 5\548، كتاب: الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، ح (3540) ، وأحمد في مسنده 5\154، والدارمي في سننه 2\414، كتاب: الرقاق، باب: إذا تقرب العبد إلى الله، ح (2788) ، واللفظ للترمذي (5) أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404 هـ) ، الهامش (11) (6) أخرجه مالك في الموطأ، وعبد الرزاق في مصنفه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (16) (7) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) ، الهامش (14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فإنه وقف حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة وغاب القرص، ثم انصرف بعد ذلك، وقال: «هدينا مخالف لهديهم (1) » وبعد غروب الشمس انصرفوا إلى مزدلفة اقتداء بنبيكم -صلى الله عليه وسلم-، فإنه -صلى الله عليه وسلم- انصرف لما غربت الشمس من عرفة إلى مزدلفة وصلى بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا، أذن للأولى وأقام للأولى والثانية، فصلى المغرب ثلاثا، والعشاء ركعتين بأذان وإقامتين، ولم يصل قبلها ولا بعدها. “ التعريج على صفة الحج وذكر سننها ومستحباتها “ وبعد مضي معظم الليل لا بأس بالانصراف من مزدلفة للضعفة والنساء، ومن سواهم عليه البقاء فيها إلى أن يصلي بها الصبح، ثم يدفع الحاج بعد ذلك إلى منى، ويبدأ أعمال يوم النحر برمي جمرة العقبة اقتداء بنبيكم -صلى الله عليه وسلم-، فإنه صلى الفجر بمزدلفة في أول وقت الفجر، ثم التقط حصى الجمار في طريقه من مزدلفة إلى منى سبع حصيات، فلما وضعهن في يده قال: «أمثال هؤلاء فارموا"، ثم قال: " يا أيها الناس، إياكم والغلو في الدين (2) » فرمى جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه. وهذه أفعال يوم النحر: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف والسعي، فمن استطاع ترتيبها كذلك، فذلك خير، ومن قدم بعضها على بعض، فلا حرج عليه، فنبيكم -صلى الله عليه وسلم- «سئل يوم النحر قال له قائل: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: " ارم ولا حرج "، وقيل له: حلقت قبل أن أنحر، قال: " لا حرج "، فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا (3)   (1) يعني: أهل الشرك والأوثان، الحديث أخرجه الشافعي في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى، وسبق تخريجه في خطبة عام (1405 هـ) ، الهامش (16) (2) أخرجه النسائي في سننه، وأحمد في مسنده، وسبق تخريجه في خطبة عام (1409 هـ) ، الهامش (21) (3) أخرجه البخاري في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) ، الهامش (21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أخر من هذه الأنساك الأربعة إلا قال: افعل ولا حرج» . فإذا رمى المسلم جمرة العقبة، وقصر أو حلق رأسه – والحلق أفضل – حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، فحل له الطيب ولبس المخيط؛ لأن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- تطيب لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. ورمي الجمار واجب يفعله المسلم بنفسه، فإن عجز لمرض أو كبر أو زحم دونها ونحو ذلك من الأعذار، أناب عنه غيره، ولا بأس بذلك، قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: «حججنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم (1) » وهذا أصل في جواز النيابة في رمي الجمار لمن لم يكن مستطيعا. ثم طف بالبيت طواف الحج، فإن كنت أخي الحاج قارنا أو مفردا وسعيت مع طواف القدوم فلا تسع مع طواف الحج، وإن كنت متمتعا فاسع مع طواف الحج، فإن سعيك الأول إنما هو سعي العمرة. ثم بت بمنى ليالي التشريق اقتداء بنبيك -صلى الله عليه وسلم-، فارم الجمار يوم الحادي عشر: الصغرى بسبع حصيات، ثم الوسطى بسبع حصيات، ثم جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم اليوم الثاني عشر كذلك الصغرى ثم الوسطى ثم العقبة، ثم إن أحببت أن تتعجل فاخرج من منى قبل غروب الشمس يوم الثاني عشر، وإن أحببت أن تتأخر فتبيت في منى، وترمي الجمار الثلاث بعد الزوال يوم   (1) أخرجه ابن ماجه في سننه 2\1010، كتاب: المناسك، باب: الرمي عن الصبيان، ح (3038) ، والبيهقي في السنن الكبرى 5 \156، كتاب: الحج، باب: حج الصبي، ح (9495) ، وأحمد في مسنده 3\314 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الثالث عشر، فذلك خير، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) ، وقبل مغادرة هذا البلد الطاهر - مكة شرفها الله – طف بالبيت طواف الوداع، واسأل الله القبول والسداد. “ ذكر الموت وما بعده من النعيم والجحيم “ إخوة الإسلام، إن هناك حقيقة لا بد أن نتذكرها دائما، إنها حقيقة الموت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (2) ، فتذكر أخي المسلم، حالتك عند الاحتضار، وكيف تعاني في تلك الساعة، وتذكر أن الناس على قسمين: فمنهم من تزف له البشارة {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (3) ، وهؤلاء أهل الإيمان، وغيرهم قال الله فيهم: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (4) . تذكر أخي دخولك القبر وحلولك أول لحظة في أول منازل الآخرة، فإما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، تذكر ذلك القبر الذي تودع فيه وحيدا فريدا خاليا بعملك، فإما عمل صالح تزداد به أنسا وسرورا، وإما عمل سيئ تزداد به وحشة إلى وحشتك، تذكر حال من يوسع له في قبره مد بصره، ويفتح له باب من الجنة فيأتيه من نعيمها ومن روحها ما يتمنى أن تقام الساعة لينتقل إلى ما هو خير من ذلك، وتذكر حال من يضيق عليه في قبره ويتحسر بسوء عمله، فيقول: رب لا تقم الساعة تذكر حالنا يوم وقوفنا بين يدي الله حفاة عراة في يوم كان مقداره   (1) سورة البقرة الآية 203 (2) سورة آل عمران الآية 185 (3) سورة فصلت الآية 30 (4) سورة الأنعام الآية 93 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 خمسين ألف سنة (1) “ ذكر بعض أهوال يوم القيامة “ تذكر دنو الشمس من الخلائق وتفاوتهم في العرق، فمنهم من يبلغ به العرق إلى عقبيه، ومنهم من يبلغ به إلى حقويه، ومنهم من يبلغ به إلى ثدييه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما (2) تذكر وقوفنا بين يدي الله يوم عرضنا على الله، يوم يكلم الله كلا منا، فما منا من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان تذكر يوم تعطى صحائف الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه فيزداد فرحا وسرورا، وآخذ كتابه بيساره فيزداد حزنا وكآبة. تذكر أخي يوم مرورنا على الصراط، فناج مسلم، ومخدوش ناج، ومكدوس في النار تذكر إذا دخل أهل الجنة الجنة، ونادى مناد: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ودخل أهل النار النار، ونادى مناد: يا أهل النار خلود فلا موت (3) تذكروا تلك الأهوال والمواقف العظيمة عسى أن تكون هادية لنا إلى التمسك بديننا والقيام بحق الله علينا، نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق، والاستقامة على الهدى، إنه على كل شيء قدير. “ وجوب التحلي بأخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتزام تقوى الله في الحج “ أيها الحجاج، اتقوا الله في حجكم، والزموا الأدب الإسلامي، تخلقوا بالحلم والأناة والصفح والإعراض، ولتكن المحبة والتواصي بالحق سائدة بينكم، اتقوا الله في حجكم، فهذه مشاعر الحج لا رفث ولا فسوق ولا جدال فيها، فالمشاعر يذكر الله فيها، ويتقرب إليه بما يحب من الأعمال الصالحة، فاحذروا كل ما يفسد   (1) جاء ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه 2\ 680 كتاب: الزكاة باب: إثم مانع الزكاة ح (987) (2) جاء ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) ، الهامش (13) (3) جاء ذلك فيما رواه البخاري في صحيحه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) ، الهامش (17) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الأعمال ويضعفها، زادكم الله توفيقا وسدادا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمرنا، وولاة أمور المسلمين جميعا، إنك على كل شيء قدير، اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، فأنت على كل شيء قدير {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) ، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) . سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. أعاده الله علي وعليكم وعلى إمام المسلمين وسائر المسلمين باليمن والبركة والخير، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.   (1) سورة الحشر الآية 10 (2) سورة البقرة الآية 201 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 خطبة عام 1411 الهجري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (1) أما بعد: “ الوصية بتقوى الله عز وجل “ أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى اتقوا ربكم فإن تقوى الله خير وصية أوصى الله بها الأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (2) ، فاتقوا الله عباد الله فبتقوى الله تنالون السعادة في الدنيا والآخرة. “ ذكر صفات أهل الإيمان ونقيضها من صفات أهل الكفر والنفاق “ أمة الإسلام، أمة القرآن، إن الله -جل جلاله- ضمن كتابه العزيز صفات أهل الإيمان وأخلاقهم وصفات غيرهم من الكفار والمنافقين. ذكر صفات أهل الإيمان في المدح لهم والمدح لأعمالهم، والحث عليه وبيان مآلهم، وذكر صفات غيرهم في معرض الذم لها والذم لمن تخلق به، وبيان ما ينتهي إليه حالهم {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (4) {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (5) ،   (1) سبق تخريج خطبة الحاجة في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (1) (2) سورة النساء الآية 131 (3) سورة ص الآية 29 (4) سورة ق الآية 37 (5) سورة الإسراء الآية 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فمن تدبر كتاب الله رأى فيه الهدى والنور، وقاده إلى كل خير وسعادة، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (1) . أمة الإسلام، يقول الله -جل جلاله- وهو أصدق القائلين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) . “ ذكر قاعدة أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض وآثار هذه الولاية بينهم “ أمة الإسلام، هذه أوصاف المؤمنين حقا، فالمؤمنون هم أولئك الذين آمنوا بقلوبهم ونطقوا بألسنتهم، وعملوا بجوارحهم بمقتضى هذا الإيمان الصادق الذي استقر في القلب، فظهر أثره على الجوارح، فاستقام العبد في أقواله وسلوكه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (3) . هذا الإيمان ليس إيمان دعوى، ولكنه الإيمان الصادق، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل (4) » المؤمنون والمؤمنات أولياء بعض، هذه الولاية بين المؤمنين هي التي حققها الإيمان الذي وحد القلوب وجمع الشمل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (5) ، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (6) . “ من آثار ولاية المؤمنين بعضهم لبعض المحبة فيما بينهم في ذات الله “ إن لهذه الولاية آثارها العظيمة، فمن آثار تلكم الولاية ما بين المؤمنين من محبة في ذات الله، فالمؤمن يحب أخاه المؤمن في ذات الله، يحبه لكونه مطيعا لله،   (1) سورة طه الآية 123 (2) سورة التوبة الآية 71 (3) سورة التوبة الآية 71 (4) هذا قول الحسن البصري، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، وبنحوه أخرج البيهقي في شعب الإيمان، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406) ، الهامش (2) (5) سورة الحجرات الآية 10 (6) سورة الأنفال الآية 63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 لكونه قائما بشرع الله، لكونه مستجيبا لله ولرسوله، يحبه محبة عميقة في قلبه، وهذه المحبة أثر من آثار الإيمان، يقول -صلى الله عليه وسلم- في ذكر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: «ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه (1) » ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله (2) » فهذه المحبة الصادقة التي دعا إليها الإيمان، محبة المؤمن لأخيه – وإن نأت الديار واختلفت اللغات والألوان لكن جمعتهم أخوة الإيمان ووحدة الإسلام – هذه محبة لم تقم على أهداف مادية، ولكنها قامت على أساس العقيدة، فهي محبة باقية لا تصدع لبناها ولا انفصام لعراها، بل محبة باقية إلى أن يلتقوا في دار كرامة الله {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (3) . “ ومن آثارها المناصرة بين المؤمنين “ ومن آثار تلكم الولاية نصر المؤمن لأخيه المؤمن، فالمؤمن ينصر أخاه ويدفع عنه ظلم الظالمين، وعدوان المعتدين، وبغي الباغين، فلا يسمح لأخيه أن تناله مظلمة من أي إنسان يقف معه حتى يدفع الظلم عنه، ويحول بين الظالم وبين أن يعتدي عليه؛ لأنه وإياه كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (4) وهو مع هذا كله ينصره إذا حصل منه ظلم على أحد، فلا يرضى أن يظلم، ولا أن يظلم، يحجزه عن الظلم ويمنعه عن الإجرام، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما "، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟! قال: " تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره (5) »   (1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب: الأذان، من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، (فتح الباري 2\ 182، ح 660) ، ومسلم في صحيحه 2\ 715، كتاب: الزكاة، باب: فضل إخفاء الصدقة، ح (1031) ، (2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: حلاوة الإيمان (فتح الباري 1\ 82، ح 16) ، ومسلم في صحيحه 1\ 66، كتاب الإيمان، باب: بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان ح (43) ، وطرفه: '' ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وإن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار '' (3) سورة الزخرف الآية 67 (4) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وسبق تخريجه في خطبة عام (1405) ، الهامش (9) (5) أخرجه البخاري في صحيحه (12\ 400) ، كتاب: الإكراه، باب: يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، ح (6952) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 “ ومن آثارها حب المؤمن الخير لأخيه المؤمن “ ومن آثار ولاية المؤمنين بعضهم لبعض أن المؤمن يفرح بكل خير ناله أخوه المسلم، وبكل خير حصل عليه أخوه المسلم، ويغتم بكل سوء مس أخاه المسلم، فهو يفرح لفرحه ويحزن لحزنه؛ لأنه كالجزء منه، فيرى كل خير ناله أخوه المسلم كأنه واصل إليه، وكل أذى أو بلاء ناله أخوه المسلم كأنما ناله ذلك البلاء. من آثار تلكم الولاية محبة المؤمن الخير لأخيه وكراهة الشر لأخيه فهو يحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكرهه لنفسه يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1) » “ ومن آثارها التواصي بينهم بالحق والتعاون على البر والتقوى ومحبة الخير لأخيه المؤمن “ ومن آثار ولاية المؤمنين بعضهم لبعض أن أهل الإيمان أهل تواص بالحق، وتواص بالخير، وتعاون على البر والتقوى، وبعد عن التعاون على الإثم والعدوان، فالمؤمن مرآة أخيه المؤمن، ينصحه ويوجهه ويهديه الطريق المستقيم، كلما رأى من أخيه خلالا أصلح ذلك الخطأ، وأقام ما اعوج، وستر كل عيب، وأمد أخاه بالنصيحة الصادقة والعاطفة والتوجيه السليم، نصيحة انطلقت من قلب يحب الخير لأخيه، ويكره الشر لأخيه، ينصحه نصيحة المحب المشفق عليه، الذي يتمنى له كل خير وسعادة، ويكره له كل شر وبلاء، إن أهل الإيمان كملوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح، ثم سعوا في تكميل إخوانهم بذلك {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (2) . “ ومن آثارها التراحم فيما بينهم “ ومن آثار تلكم الولاية تراحم المؤمنين فيما بينهم، فالمؤمن يرحم أخاه ويشفق عليه {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (3) .   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، (فتح الباري 1\ 78، ح 13) ، ومسلم في صحيحه 1\ 67، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، ح (45) واللفظ للبخاري (2) سورة العصر الآية 3 (3) سورة الفتح الآية 29 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 “ ومن آثارها: بعد المؤمن عن إيذاء أخيه “ أيها المؤمنون، ومن آثار تلكم الولاية أن المؤمن بعيد أن يصيب أخاه بأذى، فالمؤمنون يأمنون أخاهم على دمائهم وأموالهم، لا يخشون غدره، ولا يخشون خيانته، ولا يخشون ضرره ولا شره، بل هم في أمن على دمائهم وأموالهم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم (1) » فلا ترى المؤمن حقا خائنا لأمانته، ولا مخلفا لوعده، ولا تراه يكيد المكائد لإخوانه المؤمنين، ولا يسعى في إلحاق الضرر والأذى بهم، بل هو يتجنب ذلك ويبتعد عنه، ليس عونا على إخوانه، ولكنه عونا لهم ومساعدا لهم على الخير، فلا يعين غيرهم عليهم، ولا يسعى بإلحاق الضرر بهم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (2) » إن المؤمن يرى أن كل ضرر وأذى لحق بأي فرد أو بأي مجتمع مسلم، فإنما ذلك الأذى حاصل عليه ولاحق به، فهو يبتعد عن الأذى والضرر ويتجنب ذلك كله. “ ومن آثارها: السعي في إصلاح ذات بينهم “ ومن آثار تلكم الولاية أن المؤمنين يسعون في إصلاح ما بينهم، وحل مشاكلهم في إطار دينهم وإسلامهم؛ امتثالا لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (3) ، فأهل الإيمان يصلحون بين الناس ويقربون بينهم إذا تباعدوا، ويبتغون بذلك وجه الله، فهم يسعون في الإصلاح وتأليف القلوب، وجمع الكلمة ولم الشعث؛ لأن ذلك من مقتضى إيمانهم، فإيمانهم يدعوهم إلى أن يكونوا جسدا واحدا، وأن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ويقوي   (1) أخرجه الترمذي في سننه 5\ 17، كتاب الإيمان عن رسول الله، باب ما جاء في أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ح (2627) والنسائي في سننه 8\ 104 كتاب الإيمان وشرائعه، باب: صفة المؤمن، ح (4995) وابن ماجه في سننه 2\ 1298، كتاب الفتن باب: حرمة دم المؤمن وماله، ح (3934) وأحمد في مسنده 2\ 206 (2) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402 هـ) ، الهامش (17) (3) سورة الأنفال الآية 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بعضه بعضا هذه بعض آثار الإيمان الصحيح، فلنكن كما أراد الله لنا {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) . “ الدعوة إلى الله خلق الأنبياء والرسل والتابعين لهم بإحسان “ أمة الإسلام، إن الدعوة إلى الله خلق أنبيائه ورسله والتابعين لهم بإحسان {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) ، إن الدعوة إلى الله أمانة في أعناق الأمة الإسلامية التي فضلها الله وشرفها وجعلها خير أمة أخرجت للناس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (3) فالله الذي شرف هذه الأمة وفضلها على الأمم وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وأوجبها أن تكون قائمة بالدعوة إلى الله، وأن تدعو العباد إلى الله وتهديهم منهج الله وصراطه المستقيم. أمة الإسلام، إن كثيرا من العالم ليتخبط في جهله وضلاله حائرا في أمره، يلتمس داعيا يدعو إلى الهدى، مرشدا يرشده، قائدا يقوده إلى الخير. “ حاجة الناس إلى الدعاة المخلصين “ لقد جرب العالم شعارات، وجربوا أفكارا ومبادئ، ولكنها انحسرت وزالت، فالعالم متطلع إلى دين قويم، ودعاة مخلصين، يصلحون القلوب والأعمال، ويعرضون هذا الدين كما جاء عن الله، وكما جاء به المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.   (1) سورة التوبة الآية 71 (2) سورة يوسف الآية 108 (3) سورة آل عمران الآية 110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فإن هذا الدين إذا عرض على القلوب السليمة كما جاء عن الله وكما دعا إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبلته {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (1) . “ وصايا للدعاة “ دعاة الإسلام، إن الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء والمرسلين، فلتكن دعوتكم خالصة لله، تبتغون بها وجه الله والدار الآخرة، وتريدون إنقاذ البشرية من حيرتها، تريدون هدايتها إلى منهج الله، تريدون أن تستضيء بوحي الله ونوره كما استضأتم، فادعوا إلى الله على علم وبصيرة، أخلصوا لله دعوتكم وابتغوا بها وجه الله والدار الآخرة، واسلكوا بدعوتكم منهج نبينا محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، فهو أكمل الخلق دعوة وأحسنهم توجيها وإرشادا. “ التدريج في الدعوة من أهم أسس الدعوة الناجحة “ فمن أراد لدعوته القبول فلينهج منهج النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في وضوح دعوته ووضوح مبادئه، وفي سلامتها، في منهجها ومبدئها، فإن محمدا -صلى الله عليه وسلم- بدأ بعقيدة التوحيد قبل كل شيء، فأرسى عقيدة التوحيد في النفوس، مكث بمكة بضعة عشر سنة يدعو الخلق إلى تحقيق لا إله إلا الله، إلى العلم بها والعمل بمقتضاها، ويزيل كل مظاهر الشرك، حتى إذا ثبتت العقيدة في النفوس جاءت الأوامر والنواهي، فقبلت النفوس أوامر الله وابتعدت عن مناهي الله، فتربى الرعيل الأول هذه التربية الصادقة، على هذا المنهج العظيم، فانطلقوا بعد ذلك دعاة إلى الله، فأصلح الله بهم البلاد والعباد، وأقاموا شرع الله   (1) سورة الروم الآية 30 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 على معظم أرجاء المعمورة، وذاك لصدقهم مع الله، وإخلاصهم، وحسن دعوتهم، وسلوكهم منهج محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يدعون إليه وفيما ينهون عنه. “ على الدعاة أن يحذروا عن أن تكون دعوتهم وسيلة لأغراض مشبوهة وليسلكوا في دعوتهم مسلك النبي صلى الله عليه وسلم “ إذن فالدعاة إلى الإسلام لا بد أن يسيروا على هذا المنهج القويم، وليحذروا أن تكون دعوتهم مشبوهة أو مغرضة، أو تخدم أهدافا وأفكارا وأمورا بعيدة عن حقيقة الدعوة إلى الإسلام، إن كثيرا من العالم أحيانا قد يتصور أن الإسلام مصدر قلق للشعوب، ومصدر فتنة وبلاء، وما ذاك من الإسلام، ولكنه من سوء تصرف بعض الدعاة إليه، الذين أخرجوا الدعوة إلى الإسلام عن منهجها، وصاروا بها على غير طريقها. أما الدعاة الصادقون المخلصون، الذين سلكوا مسلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، صاروا على كتاب الله وعلى منهج النبي محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن دعوتهم بتوفيق الله تكون لها الآثار الحميدة؛ لأنها دعوة صادقة صالحة، ليس لها غاية ولا هدف سوى إصلاح الخلق وهدايتهم والأخذ بأيديهم إلى ما يحب الله ويرضاه. أمة الإسلام، إن العالم الإسلامي في أواخر القرن الثالث الهجري دبت إليه أفكار وآراء بعيدة ودخيلة على هذا الدين، حتى عم كثيرا من دول الإسلام جهل وبعد عن هذا الدين، ولكن الله من فضله وكرمه أقام علماء هذه الأمة مقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الأنبياء فيمن مضى، فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، والعلماء ورثوا الأنبياء “ قيام العلماء والدعاة بدورهم يعيد للمسلمين عزتهم ومكانتهم “ فقام دعاة إلى الله من هذه الأمة بواجبهم العظيم، وسجل لهم التاريخ كل خير وعمل صالح، فما قامت بدعة ولا ضلالة بأي قطر من أقطار الإسلام إلا هيأ الله لها من علماء الأمة من بينوا الحق من الباطل، فدحضوا الباطل وأقاموا حجة الله على العباد، فما خلا قطر ولا قرن من الزمن من داع يدعو إلى الله، ويبصر عباد الله ويهديهم منهج الله، ويعيدهم إلى المنهج الصحيح السليم. “ قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدعوة إلى الدين الخالص، وأيدها الإمام محمد بن سعود حتى مكن الله له في الأرض “ ولكن هؤلاء الدعاة منهم من قيد له من يحمي دعوته ويشد أزره ويدفع عنه، ومنهم من لم يتهيأ له ذلك، وربك حكيم عليم، فلقد جرى على هذه الجزيرة ما جرى على غيرها من جهل وبعد عن منهج الله، وتنكب للطريق المستقيم، حتى هدى الله رجلا من أبنائها فبصره الله في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ورأى ما بين واقع مجتمعه وما دل عليه الكتاب والسنة بعدا عظيما، فقام داعيا إلى الله، إلى كتاب الله، وإلى سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإلى ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى عبادة الله والتزام هذه الشريعة، والعمل بمقتضاها، عرض دعوته على كثير من قومه وأهل زمانه، إلى أن هيأ الله له الإمام محمد بن سعود -رحمه الله-، فقام الإمامان العظيمان: محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود، قيام صدق وإخلاص لله، وتواكب العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 والقوة، حتى مكن الله لهذه الدعوة، فنمت والتحمت الجزيرة العربية وتوحدت بعد فرقتها، وعادت إلى الحق والهدى، واستضاءت بدين الله، وهذه الدعوة الصالحة – ولله الفضل والمنة – لم تقم لتخدم أهدافا معينة، ولا لأغراض سياسية، ولكنها دعوة صالحة على أساس من كتاب الله وسنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وانتفع بها الفئام الكثيرة من الناس، فالحمد لله رب العالمين. فإن هذه الدولة السعودية -ولله الفضل والمنة- انطلقت من هذا المنطلق، دعوة إلى الله، وقيام دولة على أساس من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتحكيم شرع الله والعمل بذلك، نرجو الله للجميع التوفيق والسداد، وأن يوفق الله قادة الأمة الإسلامية للعمل بشرع الله وتحكيم دينه. “ نصيحة لقادة المسلمين والحكام في الدول الإسلامية “ قادة المسلمين، اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في شعوبكم، واتقوا الله فيمن ولاكم الله عليهم، واعلموا أن الله سائل كل راع عما استرعاه يوم القيامة، فاحذروا أن تلقوا الله وقد خنتم شعوبكم وأمتكم، وغششتم وكذبتم عليهم، اتقوا الله في أنفسكم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » ويقول: «فما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة (2) » فاتقوا الله في شعوبكم، وحكموا فيهم شرع الله، وأقيموا فيهم دين الله، وطبقوا   (1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن، (فتح الباري 2\ 482، ح 893) ومسلم في صحيحه 3\ 1459، كتاب: الإمارة: فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية.. (1829) (2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الأحكام، باب: من استرعى رعية فلم ينصح، (فتح الباري 13\ 158، ح 7151) ، ومسلم في صحيحه 1\ 125، كتاب: الإيمان، باب: استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، ح (142) ، واللفظ لمسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 عليهم شريعة الإسلام؛ لتعيشوا أنتم وإياهم في سعادة وفي أمن واستقرار، يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1) ، فما أصاب الأمة الإسلامية من ضعف وتفرق وتشتت، فإنما ذاك بسبب البعد عن الإسلام، فلنعد إلى الإسلام عودا صحيحا، ولنحكم شرع الله، ولنقم دين الله، ولنحول جميع أنظمتنا لتوافق شرع الله؛ لنعيش الحياة السعيدة الطيبة، يقول -عز وجل-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) . “ التعريج على أركان الإسلام الخمسة وتوضيحها “ أمة الإسلام، إن الله تعالى بنى هذا الدين على أركان خمسة، أساسها تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أن نعبد الله وحده مخلصين له الدين، وأن نصرف كل عبادتنا لربنا، نصرف دعاءنا وذبحنا ونذرنا ورجاءنا وخوفنا واستغاثتنا واستعاذتنا واستعانتنا لله وحده، فلا نعبد غيره، ولا نرجو سواه، ولا نستغيث إلا به، ولا نؤمل في تفريج الكربات إلا هو سبحانه وتعالى وتقدس، ونؤمن بمحمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- خاتم أنبياء الله ورسله -عليهم السلام-، وأن الله ختم بشريعته جميع الشرائع، وبرسالته جميع الرسالات، نؤدي الصلوات في أوقاتها، نحافظ عليها، ونؤدي زكاة أموالنا، ونصوم رمضان، ونحج بيت الله الحرام، فهذه أركان الإسلام، من حفظها وحافظ عليها سهل عليه المحافظة على ما سواها.   (1) سورة الأعراف الآية 96 (2) سورة النحل الآية 97 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 “ التذكير بالحج وفضله “ حجاج بيت الله الحرام، إن الله افترض الحج على أمة الإسلام، وجعله فريضة العمر، من أداه في عمره مرة فقد أدى الواجب وبرئت الذمة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) ، هذه الفريضة العظيمة التي افترضها على أمة الإسلام وجعلها ركنا من أركان هذا الدين، هذا الحج إلى بيت الله الذي عظمه الله واختاره من بين بقاع الأرض حرما آمنا، وجعله أفضل البقاع وخيرها، زاده الله تشريفا وتعظيما. “ فضل يوم عرفة وأنه من أعظم الأيام “ حجاج بيت الله الحرام، أنتم اليوم تقفون على صعيد عرفات، اجتمع عقدكم في هذا المكان المبارك، فاشكروا الله على نعمته أن هيأ لكم الوصول إلى هذه البلاد العظيمة، وأثنوا عليه بما هو أهله، اشكروا ربكم، ثم تأملوا نعمة الله عليكم بهذا الدين الذي جمع به بين قلوبكم، ووحد به بين صفوفكم، وجئتم من أقطار الدنيا تؤمون بيت الله، استجابة لأمر الله، وتلبية لنداء الخليل، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (2) {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (3) . أجل أنها منافع نشهدها، اجتماع الأمة الإسلامية من أقطار الدنيا، من شرقها وغربها، من أقاصي الدنيا، جاءوا لغاية واحدة، جاءوا لطاعة الله، جاءوا ابتغاء مرضات الله، جاءوا استجابة لأمر الله، جاءوا ليتقربوا إلى الله، هذه القلوب ما الذي جمعها وما الذي وحدها؟ إنها تلتقي على هدف واحد أخوة الإسلام   (1) سورة آل عمران الآية 97 (2) سورة الحج الآية 27 (3) سورة الحج الآية 28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ووحدة الإيمان. فاشكروا الله الذي جمعكم في هذا المكان، وليكن هذا الاجتماع سببا لتآلف القلوب وتحسس المشاكل وتعاون المسلمين بعضهم مع بعض فيما يحل مشاكلهم، ويساعد في جمع كلمتهم وتوحيد شملهم، فإنكم في يوم عظيم وفي مكان مبارك، فاحمدوا الله على هذه النعمة، واستغلوا هذا الموقف العظيم وهذا المجتمع الكبير في التفاهم والتعاون فيما يعود عليكم وعلى مجتمعكم بالخير والسعادة والفلاح. أمة الإسلام، إن هذا اليوم يوم عظيم من أيام الله، ألا وهو يوم عرفة، الذي يقول -صلى الله عليه وسلم- عنه: «"الحج عرفة (1) » “ اجتمع عيدان في يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة “ هذا اليوم العظيم اجتمع فيه يومان فضيلان: يوم الجمعة، ويوم عرفة، عيد الأسبوع يوم الجمعة، وعيد أهل الموقف يوم عرفة، فاجتمع فيه يومان عظيمان من أفضل أيام الله، وفيه الساعة المحققة للإجابة – أعني في يوم الجمعة – وكذلك في يوم عرفة، يقول -صلى الله عليه وسلم- في يوم الجمعة: «فيه ساعة لا يوفقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه (2) » وإن هذا اليوم ليوافق يوم وقف النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنبيكم -صلى الله عليه وسلم- وقف بهذا المكان منذ ألف وأربعمائة سنة، وقف في هذا المكان، وقف الناس وصلى بهم صلوات الله وسلامه عليه، وهذا اليوم يوافق يوم إكمال الدين وإتمام الله النعمة على هذه الأمة الإسلامية، فإن نبيكم -صلى الله عليه وسلم-   (1) أخرجه الترمذي في سننه، والنسائي في سننه وأبو داود في سننه وابن ماجه في سننه، وأحمد في مسنده وسبق تخريجه في خطبة عام (1403) ، الهامش (12) (2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الجمعة، باب: الساعة التي في يوم الجمعة، (فتح الباري 2\ 527، ح 935) ومسلم في صحيحه 2\ 583، كتاب: الجمعة، باب: في الساعة التي في بوم الجمعة ح (852) ، واللفظ للبخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 بعدما صلى الظهر والعصر ووقف بعرفة أنزل عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) . “ كمال هذا الدين في نظمه ومبادئه وتشريعاته “ أكمل الله هذا الدين، فليس فيه نقص يحتاج إلى إكمال، ولا قصور يحتاج إلى زيادة، دين كامل في نظمه ومبادئه، أخلاقا وعقيدة ومنهجا، أكمل الله الدين فنالت هذه الأمة شرفا وفضلا عظيما. إن هذا اليوم يا عباد الله يوم يفرح به أهل الجنة، وهو يدعى في الجنة يوم المزيد، يجمع أهل الجنة في واد أفيح ينصب لهم منابر من لؤلؤ، ومنابر من ذهب، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ياقوت، على كثبان من مسك، فيطلع الله عليهم، فينظرون إلى وجه ربهم عيانا، فما أعطي أهل الجنة نعيما أفضل من ذلك النعيم إن هذا اليوم في عشيته ينزل ربكم إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، يقول: «انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم (2) » وقال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (3) » “ نصيحة بالدعاء والإلحاح في هذا اليوم العظيم “ فيا أمة الإسلام، ويا حجاج بيت الله الحرام، الجئوا إلى الله في يومكم هذا، ومدوا أكف الضراعة إلى ذي الجلال والإكرام، وتوبوا إليه مما سلف من أقوالكم وأعمالكم، فإن ربكم يفتح باب التوبة للتائبين {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (4)   (1) سورة المائدة الآية 3 (2) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1402) ، الهامش (15) '' (3) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404، الهامش (11) (4) سورة الزمر الآية 53 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 “ ذكر صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم “ أمة الإسلام، إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أتى إلى هذا الوادي فخطب الناس خطبة عظيمة هدم فيها قواعد الشرك، وأقام فيها قواعد الإسلام، وألغى مسائل الجاهلية ومعاملاتها الربوية، وبين ما للمرأة من حقوق وما عليها من واجبات، وأوصى الناس بكتاب الله، وأخبرهم أنهم إن تمسكوا به لن يضلوا بعده أبدا، واستشهدهم على أنه بلغهم رسالات ربهم، فصدقوا قوله وأقروا له، فاستشهد الله عليهم -صلوات الله وسلامه عليه-، ثم نزل فأمر المؤذن فأذن فصلى الظهر ركعتين، ثم أقام فصلى العصر ركعتين جمعا وقصرا، جمع تقديم، فالسنة في هذا اليوم أن يصلي الحجاج الظهر والعصر جمعا وقصرا، الظهر ركعتين والعصر ركعتين. ثم أنه -صلى الله عليه وسلم- انتقل إلى عرفة فوقف بعرفة وقال للصحابة: «وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف (1) » وقال «وارفعوا عن بطن عرنة (2) » يعني أن الواقف في أي جزء من أجزاء عرفة فإنه يكون مؤديا للواجب إذا كان وقوفه داخل حدود عرفة، وفي وقوفه هذا جاءه ناس من أهل نجد يسألونه عن الحج، قال: «الحج عرفة (3) » وقال: «من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد أتم حجه وقضى تفثه (4) » وفي هذا المقام شك الصحابة هل كان صائما أو مفطرا؟ فبعثت أم الفضل بقدح من لبن فشربه والناس ينظرون إليه (5) مما يدل على أن الحج يستحب له الفطر، أما غير الحاج فالصيام في حقهم هو الأفضل.   (1) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيه، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406) ، الهامش (8) (2) أخرجه أحمد في مسنده، وابن خزيمة في صحيحة والبيهقي في السنن الكبرى، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406 هـ) ، الهامش (9) (3) أخرجه الترمذي في سننه، والنسائي في سننه وابن ماجه في سننه، وأحمد في مسنده وقد وسبق تخريجه في خطبة عام (1403) ، الهامش (12) (4) أخرجه الترمذي في سننه، والنسائي في سننه وأبو داود في سننه وابن ماجه في سننه، وقد وسبق تخريجه في خطبة عام (1409) ، الهامش (20) (5) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1410) ، الهامش (15) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ثم أن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- استمر واقفا يدعو الله ويتضرع بين يديه حتى غربت الشمس واستحكم غروبها، وبعد ذلك انصرف إلى مزدلفة وقال: «هدينا مخالف لهديهم (1) » فلم ينصرف من عرفة إلا بعد غروب الشمس، فالواجب على الحجاج أن يبقوا في عرفة إلى أن يتأكدوا من غروب الشمس، ولا يحل لمسلم أن ينصرف منها قبل غروب الشمس. ثم إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- انصرف من عرفة إلى مزدلفة وهو يحث الصحابة على السكينة والوقار في مشيهم وفي سيرهم فإن رأى فرجة أسرع، وإن رأى زحاما تلبث قليلا وهكذا السنة للمسلمين: ألا يضايق بعضهم بعضا، ولا يؤذي بعضهم بعضا في السير. وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مزدلفة، وصلى بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا، المغرب ثلاثة، والعشاء ركعتان بآذان وإقامتين، فهذه السنة للحاج أن يصلي المغرب والعشاء جمعا وقصرا متى وصل إلى مزدلفة، وسواء وصل إليها في وقت المغرب أو وقت العشاء جمع تقديم أو جمع تأخير. بات بها -صلى الله عليه وسلم- ورخص للضعفاء من النساء في الانصراف منها بعد غياب القمر، أما هو -صلى الله عليه وسلم- فبات بها حتى صلى بها الفجر في أول الوقت، وذكر الله عند المشعر الحرام ثم انصرف إلى منى، وهذه هي السنة، والتقط حصى الجمار ما بين طريقه من مزدلفة إلى منى. وصل -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، فابتدأ جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه، ثم طاف طواف الإفاضة بالبيت.   (1) يعني: أهل الشرك والأوثان، والحديث أخرجه الشافعي في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى، وقد سبق تخريجه في خطبة عام (1405 هـ) الهامش (16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وهذه الأعمال يرتبها الحاج يوم النحر إن قدر على ذلك: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي، ثم الحلق أو التقصير، والحلق أفضل، ثم الطواف بالبيت والسعي بعدها إن لم يكن سعى مع طواف القدوم، أو كان متمتعا فعليه سعي الحج غير سعي عمرته، وإن قدم بعضها على بعض فنبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول لمن سأله أنه قدم الحلق على الرمي أو النحر على الرمي، يقول: " افعل ولا حرج "، «فما سئل عن شيء يوم النحر قدم ولا أخر من أفعال يوم النحر إلا قال: " افعل ولا حرج (1) » ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- رجع بعدما طاف طواف الإفاضة، وبات بمنى ليلة الحادي عشر، ثم رمى الجمار يوم الحادي عشر بعد الزوال: الأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، وكذلك في اليوم الثاني عشر، ومكث بمنى ثلاثة أيام، فلم ينصرف إلا في اليوم الثالث عشر بعدما أكمل رمي الجمار. فمن تعجل في يومين فانصرف من منى يوم الاثنين بعدما يرمي الأولى والوسطى والعقبة، أو تأخر إلى اليوم الثلاثاء الثالث عشر، فإن الكل جائز، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (2) ، أي: من تعجل في الدفع من منى في اليوم الثاني عشر فلا إثم عليه، ومن تأخر فلم يدفع إلا في اليوم الثالث عشر فلا إثم عليه، فلا حرج عليه، ثم بعدما يكمل الحج رمى الجمار يودع بيت الله الحرام وقد تم حجه بتوفيق الله. أيها المسلمون، اشكروا الله على نعمة الإسلام، اشكروه على هذا الفضل العظيم، اشكروه إذ بلغكم الوصول إلى بيت الله الحرام.   (1) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1406) ، الهامش (10) (2) سورة البقرة الآية 203 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 “ دور الحكومة بعد الله -سبحانه وتعالى- في تيسير الحج وتسهيله “ حجاج بيت الله الحرام، هذا وقد اجتمعتم في هذا المكان المبارك، وشاهدتم -ولله الفضل والمنة- ما نعمت به بلاد الحرمين من خدمات عظيمة وتسهيلات كبيرة، كما ذلل من الصعاب وسهل من الأمور بتوفيق الله ورحمته، فإن المسئولين في هذه البلاد – من أول مسئول فيهم إلى آخره – بذلوا جهودا مضنية وجهودا جبارة، قاموا بواجب عظيم، سهلوا لحجاج بيت الله الحرام كل المهمات، ذللوا أمامهم الصعاب، يشهد المسلم تلك العناية العظيمة بالحرمين والطرق الموصلة إليه، وما تقوم به أجهزة هذه البلاد على اختلافها: أمنية، وصحية، وغير ذلك من أجهزة الدولة التي تقوم بكل جهد، وبكل عمل في سبيل راحة الحجيج. إن هذه الأعمال إنما تقدمها هذه البلاد شكرا لله على نعمته أن جعلهم خدام بيت الله الحرام، ورعاة هذا البلد الأمين، فهم يؤدون هذه الأعمال انطلاقا من مبدأ عظيم: طاعة الله، وطاعة رسوله، ومحبة الخير لهذه الأمة. إن هذه البلاد -ولله الفضل- بما من الله عليها بتحكيم شرع الله، وإقامة حدود الله، ورعاية الحرمين العظيمين -هي أيضا تنطلق في سبيل راحة المسلمين وتضميد جروحهم، وحل مشاكلهم، وإنهاء خصومتهم، وبذل كل جهد في سبيل ما يسعد الأمة ويعينها من قريب أو بعيد؛ لأنها ترى ذلك واجبا إسلاميا عليها، محبة الخير للأمة والسعي في مصالحهم وجمع كلمتهم وتوحيد شملهم، ومساعدتهم في كل كارثة تنزل بهم؛ لأن هذا من منطلق الإيمان، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (1) » فوفق الله حكومتنا لكل   (1) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1404) ، الهامش (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 خير، وهداهم سواء السبيل، ووفق إمام المسلمين وولي عهده لما يحبه ويرضاه، وأخذ بأيديهم إلى كل خير. “ توصية الحجاج باحترام بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة “ حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله على نعمة الإسلام، واحترموا بيت الله، واعلموا أن لهذه الأماكن حرمات عظيمة، فعظموا حرمات الله كما أمركم بذلك ربكم، اشكروا الله على نعمته، وحافظوا على فرائض الإسلام وواجبات الإيمان، وليكن الحج سببا في صلاحكم واستقامة أحوالكم، وليرجع الحج بعد حجه وقد فتح صفحة جديدة في إصلاح القلب والعمل؛ لأن الحج يهدم ما قبله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (1) » فاتقوا الله في أنفسكم، واعملوا بشرع الله، وليكن التعاون والتفاهم والمحبة سائدة فيما بينكم؛ لأن هذا خلق الإسلام، واجب أن يمتثله المسلمون. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مستقرا وسائر بلاد المسلمين، يا رب العالمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمرنا، وأصلح ولاة أمر المسلمين عامة، إنك على كل شيء قدير، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.   (1) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وسبق تخريجه في خطبة عام (1407) ، الهامش (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229